ﰡ
لم يبين هنا ما هذا الذي يتلى عليهم المستثنى من حلية بهيمة الأنعام. ولكنه بينه بقوله :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ﴾، إلى قوله :﴿ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ﴾ [ المائدة : ٣ ]، فالمذكورات في هذه الآية الكريمة كالموقوذة والمتردّية، وإن كانت من الأنعام. فإنها تحرم بهذه العوارض.
والتحقيق أن الأنعام هي الأزواج الثمانية، كما قدمنا في سورة آل عمران، وقد استدل ابن عمر، وابن عباس، وغير واحد من العلماء بهذه الآية على إباحة أكل الجنين إذا ذكيتْ أمه ووجد في بطنها ميتاً.
وجاء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم «أن ذكاة أمه ذكاة له » كما أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث أبي سعيد.
وقال الترمذي : إنه حسن، ورواه أبو داود عن جابر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
يعني إن شئتم، فلا يدل هذا الأمر على إيجاب الاصطياد عند الإحلال، ويدل له الاستقراء في القرآن، فإن كل شيء كان جائزاً، ثمَّ حرِّم لموجب، ثم أمر به بعد زوال ذلك الموجب، فإن ذلك الأمر كله في القرآن للجواز نحو قوله هنا :﴿ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ ﴾ وقوله :﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فَانتَشِرُواْ في الأرض ﴾ [ الجمعة : ١٠ ]، وقوله :﴿ فَالآن بَاشِرُوهُنَّ ﴾ [ البقرة : ١٨٧ ] الآية، وقوله :﴿ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ ﴾ [ البقرة : ٢٢٢ ] الآية.
ولا ينقض هذا بقوله تعالى :﴿ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ التوبة : ٥ ] لأن قتلهم كان واجباً قبل تحريمه العارض بسبب الأشهر الأربعة سواء قلنا : إنها أشهر الإمهال المذكورة في قوله :﴿ فَسِيحُواْ في الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾ [ التوبة : ٢ ]، أو قلنا : إنها الأشهر الحرم المذكورة في قوله تعالى :﴿ منها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ﴾ [ التوبة : ٣٦ ].
وبهذا تعلم أن التحقيق الذي دل عليه الاستقراء التام في القرآن أن الأمر بالشيء بعد تحريمه يدل على رجوعه إلى ما كان عليه قبل التحريم من إباحة أو وجوب، فالصيد قبل الإحرام كان جائزاً فمُنع للإحرام، ثم أُمر به بعد الإحلال بقوله :﴿ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ ﴾ فيرجع لما كان عليه قبل التحريم، وهو الجواز، وقتل المشركين كان واجباً قبل دخول الأشهر الحرم، فمنع من أجلها، ثم أمر به بعد انسلاخها في قوله :﴿ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ ﴾ الآية، فيرجع لما كان عليه قبل التحريم، وهو الوجوب.
وهذا هو الحق في هذه المسألة الأصولية.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية : وهذا أمر بعد الحظر، والصحيح الذي يثبت على السبر أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي، فإن كان واجباً رده، فواجب، وإن كان مستحباً فمستحب، أو مباحاً فمباح.
ومن قال : إنه للوجوب ينتقض عليه بآيات كثيرة ؛ ومن قال : إنه للإباحة يرد عليه بآيات أخرى، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه كما اختاره بعض علماء الأصول، والله أعلم، انتهى منه بلفظه.
وفي هذه المسألة أقوال أخر عقدها في [ مراقي السعود ] بقوله :
والأمر للوجوب بعد الحظل *** وبعد سؤال قد أتى للأصل
أو يقتضي إباحة للأغلب *** إذا تعلق بمثل السبب
إلا فذي المذهب والكثير *** له إلى إيجابه مصير
وقد تقرر في الأصول أن الاستقراء التام حجة بلا خلاف، وغير التام المعروف. ب «إلحاق الفرد بالأغلب » حجة ظنية، كما عقده في مراقي السعود في كتاب [ الاستدلال ] بقوله :
ومنه الاستقراء بالجزئي *** على ثبوت الحكم للكلى
فإن يعم غير ذي الشقاق *** فهو حجة بالاتفاق
وهو في البعض إلى الظن انتسب *** يسمى لحقوق الفرد بالذي غلب
فإذا عرفت ذلك، وعرفت أن الاستقراء التام في القرآن دل على ما اخترنا، واختاره ابن كثير، وهو قول الزركشيّ من أن الأمر بعد الحظر يدل على رجوع الحكم إلى ما كان عليه قبل التحريم، عرفت أن ذلك هو الحق، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ ﴾.
نهى الله المسلمين في هذه الآية الكريمة أن يحملهم بغض الكفار لأجل أن صَدّوهم عن المسجد الحرام في عمرة الحديبية أن يعتدُوا على المشركين بما لا يحل لهم شرعاً.
كما روى ابن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية عن زيد بن أسلم، قال :«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية حين صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم، فمرَّ بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة، فقال أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم : نصد هؤلاء كما صدَّنا أصحابُهم، فأنزل الله هذه الآية »، بلفظه من ابن كثير.
ويدل لهذا قوله قبل هذا :﴿ وَلا آمِينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ﴾، وصرح بمثل هذه الآية في قوله :﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ ﴾ [ المائدة : ٢ ]، وقد ذكر تعالى في هذه الآية أنهم صدوهم عن المسجد الحرام بالفعل على قراءة الجمهور ﴿ أَن صَدُّوكُمْ ﴾ بفتح الهمزة، لأن معناها : لأجل أن صدوكم، ولم يبين هنا حكمة هذا الصد، ولم يذكر أنهم صدوا معهم الهدي معكوفاً أن يبلغ محله، وذكر في سورة الفتح أنهم صدوا معهم الهدى، وأن الحكمة في ذلك المحافظة على المؤمنين والمؤمنات، الذين لم يتميزوا عن الكفار في ذلك الوقت، بقوله :﴿ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ في رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ [ الفتح : ٢٥ ] ؛ وفي هذه الآية دليل صريح على أن الإنسان عليه أن يعامل من عصى الله فيه، بأن يطيع الله فيه.
وفي الحديث :«أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك ».
وهذا دليل واضح على كمال دين الإسلام، وحسن ما يدعو إليه من مكارم الأخلاق، مبين أنه دين سماوي لا شك فيه.
وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ ﴾ معناه : لا يحملنكم شنآن قوم على أن تعتدوا، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر :
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة *** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
أي حملتهم على أن يغضبوا.
وقال بعض العلماء :﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ ﴾ أي لا يكسبنكم، وعليه فلا تقدير لحرف الجر في قوله :﴿ أَن تَعْتَدُواْ ﴾ أي لا يكسبنكم بغضهم الاعتداء عليهم.
وقرأ بعض السبعة ﴿ شَنَانُ ﴾ بسكون النون، ومعنى الشنآن على القراءتين، أي بفتح النون، وبسكونها : البغض. مصدر «شنأه » إذا أبغضه.
وقيل على قراءة سكون النون يكون وصفاً كالغضبان، وعلى قراءة ﴿ أَن صَدُّوكُمْ ﴾ بكسر الهمزة. فالمعنى إن وقع منهم صدهم لكم عن المسجد الحرام، فلا يحملنكم ذلك على أن تعتدوا عليهم بما لا يحل لكم.
وإبطال هذه القراءة بأن الآية نزلت بعد صد المشركين النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية، وأنه لا وجه لاشتراط الصد بعد وقوعه مردود من وجهين :
الأول منهما : أن قراءة ﴿ أَن صَدُّوكُمْ ﴾ بصيغة الشرط قراءة سبعية متواترة لا يمكن ردها، وبها قرأ ابن كثير، وأبو عمرو من السبعة.
الثاني : أنه لا مانع مِن أن يكون معنَى هذه القراءة : إن صدوكم مرة أخرى على سبيل الفرض والتقدير، كما تدلُّ عليه صيغة ﴿ إن ﴾، لأنها تدل على الشك في حصول الشرط، فلا يحملنكم تكرر الفعل السيئ على الاعتداء عليهم بما لا يحل لكم، والعلم عند الله تعالى.
ظاهر هذه الآية الكريمة أن المُرتد يحبط جميع عمله بردته من غير شرط زائد، ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن ذلك فيما إذا مات على الكفر، وهو قوله :﴿ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ ﴾ [ البقرة : ٢١٧ ].
ومقتضى الأصول حمل هذا المطلق على هذا المقيد، فيقيد إحباط العمل بالموت على الكفر، وهو قول الشافعي ومن وافقه، خلافاً لمالك القائل بإحباط الردة العمل مطلقاً، والعلم عند الله تعالى.
أما الشاذة : فقراءة الرفع، وهي قراءة الحسن ؛ وأما المتواترتان : فقراءة النصب، وقراءة الخفض.
أما النصب : فهو قراءة نافع. وابن عامر، والكسائي، وعاصم في رواية حفص من السبعة، ويعقوب من الثلاثة.
وأما الجر : فهو قراءة ابن كثير، وحمزة، وأبي عمرو، وعاصم، في رواية أبي بكر.
أما قراءة النصب : فلا إشكال فيها لأن الأرجل فيها معطوفة على الوجوه، وتقرير المعنى عليها :﴿ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ ﴾ [ المائدة : ٦ ].
وإنما أدخل مسح الرأس بين المغسولات محافظة على الترتيب، لأن الرأس يمسح بين المغسولات، ومن هنا أخذ جماعة من العلماء وجوب الترتيب في أعضاء الوضوء حسبما في الآية الكريمة.
وأما على قراءة الجر : ففي الآية الكريمة إجمال، وهو أنها يفهم منها الاكتفاء بمسح الرجلين في الوضوء عن الغسل كالرأس، وهو خلاف الواقع للأحاديث الصحيحة الصريحة في وجوب غسل الرجلين في الوضوء والتوعد بالنار لمن ترك ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم :«ويل للأعقاب من النار ».
اعلم أولاً أن القراءتين إذا ظهر تعارضهما في آية واحدة لهما حكم الآيتين، كما هو معروف عند العلماء، وإذا علمت ذلك فاعلم أن قراءة ﴿ وَأَرْجُلَكُمْ ﴾ بالنصب صريح في وجوب غسل الرجلين في الوضوء، فهي تفهم أن قراءة الخفض إنما هي لمجاورة المخفوض مع أنها في الأصل منصوبة بدليل قراءة النصب، والعرب تخفض الكلمة لمجاورتها للمخفوض، مع أن إعرابها النصب، أو الرفع.
وما ذكره بعضهم من أن الخفض بالمجاورة معدود من اللحن الذي يتحمل لضرورة الشعر خاصة، وأنه غير مسموع في العطف، وأنه لم يجز إلا عند أمن اللبس، فهو مردود بأن أئمة اللغة العربية صرحوا بجوازه.
وممن صرح به الأخفش، وأبو البقاء، وغير واحد.
ولم ينكره إلا الزجاج، وإنكاره له مع ثبوته في كلام العرب، وفي القرآن العظيم يدل على أنه لم يتتبع المسألة تتبعاً كافياً.
والتحقيق : أن الخفض بالمجاورة أسلوب من أساليب اللغة العربية، وأنه جاء في القرآن لأنه بلسان عربي مبين.
فمنه في النعت قول امرئ القيس :
كأن ثبيرا في عرانين ودقه | كبير أناس في بجاد مزمل |
تريك سنة وجه غير مقرفة | ملساء ليس بها خال ولا ندب |
ومنه في العطف قول النابغة :
لم يبق إلا أسير غير منفلت | وموثق في حبال القد مجنوب |
وظل طهاة اللحم ما بين منضج | صفيف شواءٍ أو قدير معجل |
وهذا الإعراب الذي ذكرناه هو الحق، لأن الإنضاج واقع على كل من الصفيف والقدير، فما زعمه «الصبان » في حاشيته على «الأشموني » من أن قوله «أو قدير » معطوف على «منضج » بتقدير المضاف أي وطابخ قدير الخ ظاهر السقوط، لأن المنضج شامل لشاوي الصفيف، وطابخ القدير.
فلا حاجة إلى عطف الطابخ على المنضج لشموله له، ولا داعي لتقدير «طابخ » محذوف.
وما ذكره العيني من أنه معطوف على «شواء »، فهو ظاهر السقوط أيضاً. وقد رده عليه «الصبان »، لأن المعنى يصير بذلك : وصفيف قدير، والقدير لا يكون صفيفاً.
والتحقيق : هو ما ذكرنا من الخفض بالمجاورة، وبه جزم ابن قدامة في المغني.
ومن الخفض بالمجاورة في العطف قول زهير :
لعب الزمان بها وغيرها | بعدي سوافي المور والقطر |
ومنه في التوكيد قول الشاعر :
يا صاح بلغ ذوي الزوجات كلهم | أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب |
ومن أمثلته في القرآن العظيم في العطف كالآية التي نحن بصددها قوله تعالى :﴿ وَحُورٌ عِين كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ﴾ [ الواقعة : ٢٢-٢٣ ]، على قراءة حمزة، والكسائي.
ورواية المفضل عن عاصم بالجر لمجاورته لأكواب وأباريق، إلى قوله :﴿ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ﴾ [ الواقعة : ٢١ ] مع أن قوله :﴿ وَحُورٌ عِينٌ ﴾ [ الواقعة : ٢٢ ] حكمه الرفع : فقيل، إنه معطوف على فاعل «يطوف » الذي هو ﴿ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ ﴾ [ الواقعة : ١٧ ].
وقيل : هو مرفوع على أنه مبتدأ خبره محذوف دل المقام عليه.
أي : وفيها حور عين، أو لهم حور عين.
وإذن فهو من العطف بحسب المعنى.
وقد أنشد سيبويه للعطف على المعنى قول الشماخ، أو ذي الرمة :
بادت وغير آيهن مع البلا | إلا رواكد جمرهن هباء |
ومشجج أما سواء قذاله | فبدا وغيب ساره المعزاء |
ولا يخفى ما في هذين الوجهين، لأن الأول يرد، بأن الحور العين لا يطاف بهن مع الشراب، لقوله تعالى :﴿ حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ في الْخِيَامِ ﴾ [ الرحمان ٧٢ ].
والثاني فيه أن كونهم في جنات النعيم، وفي حور ظاهر السقوط كما ترى، وتقدير ما لا دليل عليه لا وجه له.
وأجيب عن الأول بجوابين، الأول : أن العطف فيه بحسب المعنى، لأن المعنى : يتنعمون بأكواب وفاكهة ولحم وحور. قاله الزجاج وغيره.
الجواب الثاني : أن الحور قسمان : ١ : حور مقصورات في الخيام، ٢ : وحور يطاف بهن عليهم، قاله الفخر الرازي وغيره، وهو تقسيم لا دليل عليه، ولا يعرف من صفات الحور العين كونهن يطاف بهن كالشراب، فأظهرها الخفض بالمجاورة، كما ذكرنا.
وكلام الفراء وقطرب، يدل عليه، وما رد به القول بالعطف على أكواب من كون الحور لا يطاف بهن يرد به القول بالعطف على ﴿ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ ﴾ [ الواقعة : ١٧ ]، في قراءة الرفع، لأنه يقتضي أن الحور يطفن عليهم كالولدان، والقصر في الخيام ينافي ذلك.
وممن جزم بأن خفض ﴿ وَأَرْجُلَكُمْ ﴾ لمجاورة المخفوض البيهقي في [ السنن الكبرى ]، فإنه قال ما نصه : باب قراءة من قرأ ﴿ وَأَرْجُلَكُمْ ﴾ نصباً، وأن الأمر رجع إلى الغسل وأن من قرأها خفضاً، فإنما هو للمجاورة، ثم ساق أسانيده إلى ابن عباس، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وعروة بن الزبير، ومجاهد وعطاء والأعرج وعبد الله بن عمرو بن غيلان، ونافع بن عبد الرحمان بن أبي نعيم القارئ، وأبي محمد يعقوب بن إسحاق بن يزيد الحضرمي أنهم قرأوها كلهم :﴿ وَأَرْجُلَكُمْ ﴾ بالنصب.
قال : وبلغني عن إبراهيم بن يزيد التيمي أنه كان يقرؤها نصباً، وعن عبد الله بن عامر اليحصبي، وعن عاصم برواية حفص، وعن أبي بكر بن عياش من رواية الأعشى، وعن الكسائي، كل هؤلاء نصبوها.
ومن خفضها فإنما هو للمجاورة، قال الأعمش : كانوا يقرأونها بالخفض، وكانوا يغسلون، اه كلام البيهقي.
ومن أمثلة الخفض بالمجاورة في القرآن في النعت قوله تعالى ﴿ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ ﴾ [ هود : ٨٤ ] بخفض ﴿ مُحِيطٌ ﴾ مع أنه نعت للعذاب. وقوله تعالى :﴿ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴾ [ هود : ٢٦ ]، ومما يدل أن النعت للعذاب، وقد خفض للمجاورة، كثرة ورود الألم في القرآن نعتاً للعذاب. وقوله تعالى :﴿ بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ﴾ [ البروج : ٢١- ٢٢ ] على قراءة من قرأ بخفض ﴿ مَّحْفُوظٍ ﴾ كما قاله القرطبي ومن كلام العرب «هذا جحر ضب خرب » بخفض خرب لمجاورة المخفوض مع أنه نعت خبر المبتدأ. وبهذا تعلم أن دعوى كون الخفض بالمجاورة لحناً لا يتحمل إلا لضرورة الشعر باطلة، والجواب عما ذكروه من أنه لا يجوز إلا عند أمن اللبس هو أن اللبس هنا يزيله التحديد بالكعبين، إذ لم يرد تحديد الممسوح، وتزيله قراءة النصب، كما ذكرنا : فإن قيل قراءة الجر الدالة على مسح الرجلين في الوضوء هي المبينة لقراءة النصب بأن تجعل قراءة النصب عطفاً على المحل ؛ لأن الرؤوس مجرورة بالباء في محل نصب على حد قول ابن مالك في الخلاصة :
وجر ما يتبع ما جر ومن | راعى في الاتباع المحل فحسن |
واجرر أو انصب تابعِ الذي انخَفَض | كمبتغي جاه وما لا من نهض |
فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما، عن عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما.
قال : تخلَّف عنَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرةٍ سافرناها فأدركنا، وقد أرهقتنا الصلاة صلاة العصر ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوتِه :«أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار » وكذلك هو في الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النَّار »، وروى البيهقي والحاكم بإسناد صحيح عن عبد الله بن حارث بن جزء، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«ويل للأعقاب، وبطون الأقدام من النار » : وروى الإمام أحمد، وابن ماجه، وابن جرير، عن جابر رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«ويل للأعقاب من النار ».
وروى الإمام أحمد عن معيقيب، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«ويل للأعقاب من النار » وروى ابن جرير عن أبي أمامة، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ويل للأعقاب من النار »، قال : فما بقي في المسجد شريف ولا وضيع إلا نظرت إليه يقلب عرقوبيه ينظر إليهما.
وثبت في أحاديث الوضوء عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وعلي وابن عباس ومعاوية وعبد الله بن زيد بن عاصم، والمقداد بن معد يكرب «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين في وضوئه، إما مرة أو مرتين أو ثلاثاً » على اختلاف رواياتهم.
وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه ». ثم قال :«هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ».
والأحاديث في الباب كثيرة
لم يبين هنا شيئاً من ذلك الكثير الذي يبينه لهم الرسول الله صلى الله عليه وسلم مما كانوا يخفون من الكتاب، يعني التوراة والإنجيل، وبين كثيراً منه في مواضع أخر.
فمما كانوا يخفون من أحكام التوراة رجم الزاني المحصن، وبينه القرآن في قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ﴾ [ آل عمران : ٢٣ ].
يعني يدعون إلى التوراة ليحكم بينهم في حد الزاني المحصن بالرجم، وهم معرضون عن ذلك منكرون له، ومن ذلك، ما أخفوه من صفات الرسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم، وإنكارهم أنهم يعرفون أنه هو الرسول، كما بينه تعالى بقوله :﴿ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [ البقرة : ٨٩ ].
ومن ذلك إنكارهم أن الله حرم عليهم بعض الطيبات بسبب ظلمهم ومعاصيهم، كما قال تعالى :﴿ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ﴾ [ النساء : ١٦٠ ]، وقوله :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَآ أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾[ الأنعام : ١٤٦ ].
فإنهم أنكروا هذا، وقالوا لم يحرم علينا إلا ما كان محرماً على إسرائيل، فكذبهم القرآن في ذلك في قوله تعالى :﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِى إسرائيل إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسرائيل عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ آل عمران : ٩٣ ].
ومن ذلك كتم النصارى بشارة عيسى ابن مريم لهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد بينها تعالى بقوله :﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِى إسرائيل إني رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يديّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يأتي مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [ الصف : ٦ ] إلى غير ذلك من الآيات المبينة لما أخفوه من كتبهم.
قال جمهور العلماء : إنهما ابنا آدم لصلبه، وهما هابيل، وقابيل.
وقال الحسن البصري رحمه الله : هما رجلان من بني إسرائيل، ولكن القرآن يشهد لقول الجماعة، ويدل على عدم صحة قول الحسن، وذلك في قوله تعالى :﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ في الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ﴾ [ المائدة : ٣١ ]، ولا يخفى على أحد أنه ليس في بني إسرائيل رجل يجهل الدفن حتى يدله عليه الغراب، فقصة الاقتداء بالغراب في الدفن، ومعرفته منه تدل على أن الواقعة وقعت في أول الأمر قبل أن يتمرن الناس على دفن الموتى، كما هو واضح، ونبه عليه غير واحد من العلماء، والله تعالى أعلم.
صرح في هذه الآية الكريمة أنه كتَب على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ولم يتعرض هنا لحكم من قتل نفساً بنفس، أو بفساد في الأرض، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر، فبين أن قتل النفس بالنفس جائز، في قوله :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾، وفي قوله :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾، وقوله :﴿ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً ﴾.
واعلم أن آيات القصاص في النفس فيها إجمال بيَّنته السنة، وحاصل تحرير المقام فيها أن الذكر الحر المسلم يقتل بالذكر الحر المسلم إجماعاً، وأن المرأة كذلك تقتل بالمرأة كذلك إجماعاً، وأن العبد يقتل كذلك بالعبد إجماعاً، وإنما لم نعتبر قول عطاء باشتراط تساوي قيمة العبدين، وهو رواية عن أحمد، ولا قول ابن عباس : ليس بين العبيد قصاص، لأنهم أموال.
لأن ذلك كله يرده صريح قوله تعالى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ﴾، وأن المرأة تقتل بالرجل، لأنها إذا قتلت بالمرأة، فقتلها بالرجل أولى، وأن الرجل يقتل بالمرأة عند جمهور العلماء فيهما.
وروي عن جماعة منهم علي، والحسن، وعثمان البتي، وأحمد في رواية عنه أنه لا يقتل بها حتى يلتزم أولياؤها قدر ما تزيد به ديته على ديتها. فإن لم يلتزموه أخذوا ديتها.
وروي عن علي والحسن أنها إن قَتلت رجلاً قتلت به، وأخذ أولياؤه أيضاً زيادة ديته على ديتها، أو أخذوا دية المقتول واستحيوها.
قال القرطبي بعد أن ذكر هذا الكلام عن علي رضي الله عنه، والحسن البصري، وقد أنكر ذلك عنهم أيضاً : روى هذا الشعبي عن علي، ولا يصح لأن الشعبي لم يلق علياً. وقد روى الحكم عن علي، وعبد الله أنهما قالا : إذا قتل الرجل المرأة متعمداً فهو بها قود، وهذا يعارض رواية الشعبي عن علي ؛ وقال ابن حجر في [ فتح الباري ] في باب سؤال القاتل حتى يقر، والإقرار في الحدود بعد أن ذكر القول المذكور عن علي والحسن : ولا يثبت عن علي، ولكن هو قول عثمان البتي أحد فقهاء البصرة ويدل على بطلان هذا القول أنه ذكر فيه أن أولياء الرجل إذا قتلته امرأة يجمع لهم بين القصاص نصف الدية، وهذا قول يدل الكتاب والسنة على بطلانه، وأنه إما القصاص فقط، وإما الدية فقط، لأنه تعالى قال :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ [ البقرة : ١٧٨ ]ثم قال :﴿ فَمَنْ عُفِي لَهُ مِنْ أَخِيهِ شيء فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [ البقرة : ١٧٨ ] الآية، فرتب الاتباع بالدية على العفو دون القصاص.
وقال صلى الله عليه وسلم :«مَن قُتِل لَه قَتِيل فهُو بِخَيْر النظرين » الحديث، وهو صريح في عدم الجمع بينهما، كما هو واضح عند عامة العلماء ؛ وحكي عن أحمد في رواية عنه، وعثمان البتي، وعطاء أن الرجل لا يقتل بالمرأة، بل تجب الدية، قاله ابن كثير، وروي عن الليث والزهري أنها إن كانت زوجته لم يقتل بها، وإن كانت غير زوجته قتل بها.
والتحقيق قتله بها مطلقاً ؛ كما سترى أدلته، فمن الأدلة على قتل الرجل بالمرأة إجماع العلماء على أن الصحيح السليم الأعضاء إذا قتل أعور أو أشل، أو نحو ذلك عمداً وجب عليه القصاص، ولا يجب لأوليائه شيء في مقابلة ما زاد به من الأعضاء السليمة على المقتول.
ومن الأدلة على قتل الرجل بالمرأة ما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أنس «أنه صلى الله عليه وسلم رض رأس يهودي بالحجارة قصاصاً بجارية فعل بها كذلك »، وهذا الحديث استدل به العلماء على قتل الذكر بالأنثى، وعلى وجوب القصاص في القتل بغير المحدد، والسلاح.
وقال البيهقي في [ السنن الكبرى ]، في باب [ قتل الرجل بالمرأة ] : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري، ثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم العبدي، ثنا الحكم بن موسى القنطري، ثنا يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض، والسنن، والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم، وكان فيه، وإن الرجل يقتل بالمرأة ».
وروى هذا الحديث موصولاً أيضاً النسائي، وابن حبان، والحاكم، وفي تفسير ابن كثير ما نصه : وفي الحديث الذي رواه النسائي، وغيره «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه عمرو بن حزم أن الرجل يقتل بالمرأة، وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا لعمرو بن حزم الذي فيه أن الرجل يقتل بالمرأة، رواه مالك، والشافعي، ورواه أيضاً الدارقطني، وأبو داود، وابن حبان، والحاكم، والدارمي وكلام علماء الحديث في كتاب عمرو بن حزم هذا مشهور بين مصحح له، ومضعف وممن صححه ابن حبان، والحاكم والبيهقي، وعن أحمد أنه قال : أرجو أن يكون صحيحاً. وصححه أيضاً من حيث الشهرة لا من حيث الإسناد، جماعة منهم الشافعي فإنه قال : لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عبد البر : هو كتاب مشهور عند أهل السير، معروف ما فيه عند أهل العلم يستغني بشهرته عن الإسناد. لأنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول، قال : ويدل على شهرته ما روى ابن وهب عن مالك عن الليث بن سعيد، عن يحيى بن سعد عن سعيد بن المسيب قال : وجد كتاب عند آل حزم يذكرون أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال العقيلي : هذا حديث ثابت محفوظ، وقال يعقوب بن سفيان : لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتاباً أصح من كتاب عمرو بن حزم هذا، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين يرجعون إليه، ويدعون رأيهم.
وقال الحاكم : قد شهد عمر بن عبد العزيز وإمام عصره الزهري بالصحة لهذا الكتاب، ثم ساق ذلك بسنده إليهما وضعف كتاب ابن حزم هذا جماعة، وانتصر لتضعيفه أبو محمد بن حزم في مُحلاّه.
والتحقيق صحة الاحتجاج به، لأنه ثبت أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتبه ليبين به أحكام الديات، والزكوات وغيرها، ونسخته معروفة في كتب الفقه. والحديث، ولاسيما عند من يحتج بالمرسل كمالك، وأبي حنيفة، وأحمد في أشهر الروايات.
ومن أدلة قتله بها عموم حديث «المسلمون تتكافؤ دماؤهم » الحديث، وسيأتي البحث فيه إن شاء الله، ومن أوضح الأدلة في قتل الرجل بالمرأة قوله تعالى :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ [ المائدة : ٣٥ ] الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم :«لا يحلُّ دم امرىءٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيّب الزاني، والنفس بالنفس » الحديث، أخرجه الشيخان، وباقي الجماعة من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
فعموم هذه الآية الكريمة، وهذا الحديث الصحيح يقتضي قتل الرجل بالمرأة، لأنه نفس بنفس، ولا يخرج عن هذا العموم، إلا ما أخرجه دليل صالح لتخصيص النَّصر به ؛ نعم يتوجه على هذا الاستدلال سؤالان :
الأول : ما وجه الاستدلال بقوله تعالى :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ الآية، مع أنه حكاية عن قوم موسى، والله تعالى يقول :﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾ [ المائدة : ٤٨ ].
السؤال الثاني : لم لا يخصص عموم قتل النفس بالنفس في الآية والحديث المذكورين بقوله تعالى :﴿ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ والأنثى بالأنثى ﴾ [ البقرة : ١٧٨ ]، لأن هذه الآية أخص من تلك، لأنها فصَّلت ما أجمل في الأُولى، ولأن هذه الأمة مخاطبة بها صريحاً في قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ ﴾ [ البقرة : ١٧٨ ] الآية.
الجواب عن السؤال الأول : أن التحقيق الذي عليه الجمهور، ودلّت عليه نصوص الشرع، أن كل ما ذكر لنا في كتابنا، وسنة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، مما كان شرعاً لمن قبلنا أنه يكون شرعاً لنا، من حيث إنه وارد في كتابنا، أو سُنُة نبِّينا صلى الله عليه وسلم، لا من حيث إنه كان شرعاً لمن قبلنا، لأنه ما قص علينا في شرعنا إلا لنعتبر بِه، ونعمل بما تضمن.
والنصوص الدالة على هذا كثيرة جداً، ولأجل هذا أمر الله في القرآن العظيمِ في غير ما آية بالاعتبار بأحوالهم، ووبَّخ من لم يعقل ذلك، كما في قوله تعالى في قوم لوط :﴿ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [ الصافات : ١٣٧- ١٣٨ ].
ففي قوله :﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ توبيخ لمن مرَّ بديارِهم، ولم يعتبر بما وقع لهم، ويعقل ذلك ليجتنب الوقوع في مثله، وكقوله تعالى :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ [ محمد : ١٠ ]، ثم هدد الكفار بمثل ذلك، فقال :﴿ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ﴾ [ محمد : ١٠ ].
وقال في حجارة قوم لوط التي أهلكوا بها، أو ديارهم التي أهلكوا فيها :﴿ وَمَا هي مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾ [ هود : ٨٣ ]، وهو تهديد عظيم منه تعالى لمن لم يعتبر بحالهم، فيجتنب ارتكاب ما هلكوا بسببه، وأمثال ذلك كثير في القرآن.
وقال تعالى :﴿ لَقَدْ كَانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولى الأَلْبَابِ ﴾ [ يوسف : ١١١ ] فصرح بأنه يقص قصصهم في القرآن للعبرة، وهو دليل واضح لما ذكرنا، ولما ذكر الله تعالى من ذكر من الأنبياء في سورة الأنعام، قال لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم :﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [ الأنعام : ٩٥ ]، وأمره صلى الله عليه وسلم أمر لنا، لأنه قدوتنا، ولأن الله تعالى يقول :﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [ الأحزاب : ٢١ ]، ويقول :﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتبعوني ﴾ [ آل عمران : ٣١ ] الآية، ويقول :﴿ وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ﴾ [ الحشر : ٧ ] الآية.
ويقول :﴿ مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [ النساء : ٨٠ ]، ومن طاعته اتباعه فيما أمر به كله، إلا ما قام فيه دليل على الخصوص به صلى الله عليه وسلم، وكون شرع من قبلنا الثابت بشرعنا شرعاً لنا، إلا بدليل على النسخ هو مذهب الجمهور، منهم مالك، وأبو حنيفة، وأحمد في أشهر الروايتين، وخالف الإمام الشافعي رحمه الله في أصح الروايات عنه، فقال : إن شرع من قبلنا الثابت بشرعنا ليس شرعاً لنا إلا بنص من شرعنا على أنه مشروع لنا، وخالف أيضاً في الصحيح عنه في أن الخطاب الخاص بالرسول صلى الله عليه وسلم يشمل حكمه الأمة ؛ واستدل للأول بقوله تعالى :﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾ [ المائدة : ٤٨ ] وللثاني : بأن الصيغة الخاصة بالرسول لا تشمل الأمة وضعاً، فإدخالها فيها صرف لل
فاعلم أن مفهوم قوله :﴿ أَوْ فَسَادٍ في الأرض ﴾، هو المذكور في قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا جزاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الأرض فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض ﴾.
قال ابن كثير في تفسيره : المحاربة هي المخالفة والمضادة، وهي صادقة على الكفر، وعلى قطع الطريق، وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض، يطلق على أنواع من الشر، وقد قال الله تعالى :﴿ وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ﴾ [ البقرة : ٢٠٥ ].
فإذا علمت ذلك، فاعلم أن المحارب الذي يقطع الطريق، ويخيف السبيل، ذكر الله أن جزاءه واحدة من أربع خلالٍ هي : أن يقتَّلوا، أو يصلَّبوا، أو تقطع أيديهم، وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض، وظاهر هذه الآية الكريمة : أن الإمام مخير فيها، يفعل ما شاء منها بالمحارب، كما هو مدلول، أو لأنها تدل على التخيير.
ونظيره في القرآن قوله تعالى :﴿ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ [ البقرة : ١٩٦ ]، وقوله تعالى :﴿ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾ [ المائدة : ٨٩ ]، وقوله تعالى :﴿ فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً ﴾ [ المائدة : ٩٥ ].
وكون الإمام مخيراً بينهما مطلقاً من غير تفصيل، هو مذهب مالك، وبه قال سعيد بن المسيب، ومجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، والضحاك، كما نقله عنهم ابن جرير، وغيره، وهو رواية ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، ونقله القرطبي، عن أبي ثور، وسعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، والضحاك، والنخعي، ومالك، وقال : وهو مروي عن ابن عباس.
ورجّح المالكية هذا القول بأن اللَّفظ فيه مستقل غير محتاج إلى تقدير محذوف، لأن اللفظ إذا دار بين الاستقلال، والافتقار إلى تقدير محذوف، فالاستقلال مقدم، لأنه هو الأصل، إلا بدليل منفصل على لزوم تقدير المحذوف، وإلى هذا أشار في [ مراقي السعود ] بقوله :
كذاك ما قابل ذا اعتلال | من التأصل والاستقلال |
كذاك ترتيب لإيجاب العمل | بما لهُ الرجحان مما يحتمل |
قاله ابن كثير، ونقله القرطبي، وابن جرير، عن ابن عباس، وأبي مجلز، وعطاء الخراساني، وغيرهم.
ونقل القرطبي، عن أبي حنيفة، إذا قتل قتل، وإذا أخذ المال ولم يقتل، قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخذ المال وقتل، فالسلطان مخير فيه إن شاء قطع يده ورجله، وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه، ولا يخفى أن الظاهر المتبادر من الآية، هو القول الأول. لأن الزيادة على ظاهر القرآن بقيود تحتاج إلى نص من كتاب، أو سنة، وتفسير الصحابي لهذا بذلك، ليس له حكم الرفع، لإمكان أن يكون عن اجتهاد منه، ولا نعلم أحداً روى في تفسير هذه الآية بالقيود المذكورة، خبراً مرفوعاً، إلا ما رواه ابن جرير في تفسيره عن أنس، حدثنا علي بن سهل قال : حدثنا الوليد بن مسلم، عن ابن لهيعة، عن يزيد ابن أبي حبيب : أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين إلى أن قال. قال أنس :«فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عن القضاء فيمن حارب، فقال : من سرق، وأخاف السبيل، فاقطع يده بِسرقته، ورجله بإخافته، ومن قتل فاقتله، ومن قتل وأخاف السبيل، واستحل الفرج الحرام، فاصلبه »، وهذا الحديث لو كان ثابتاً لكان قاطعاً للنزاع، ولكن فيه ابن لهيعة، ومعلوم أنه خلط بعد احتراق كتبه، ولا يحتج به، وهذا الحديث ليس راويه عنه ابن المبارك، ولا ابن وهب ؛ لأن روايتهما عنه أعدل من رواية غيرهما، وابن جرير نفسه يرى عدم صحة هذا الحديث الذي ساقه، لأنه قال في سوقه للحديث المذكور : وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بتصحيح ما قلنا في ذلك بما في إسناده نظر، وذلك ما حدثنا به علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم، إلى آخر الإسناد الذي قدمنا آنفاً، وذكرنا معه محل الغرض من المتن، ولكن هذا الحديث، وإن كان ضعيفاً، فإنه يقوي هذا القول الذي عليه أكثر أهل العلم، ونسبه ابن كثير للجمهور.
واعلم أن الصَّلب المذكور في قوله ﴿ أَوْ يُصَلَّبُواْ ﴾، اختلف فيه العلماء. فقيل : يصلب حياً، ويمنع من الشراب، والطعام، حتى يموت، وقيل : يصلب حياً، ثم يقتل برمح، ونحوه، مصلوباً، وقيل : يقتل أولاً، ثم يصلب بعد القتل، وقيل : ينزل بعد ثلاثة أيام، وقيل : يترك حتى يسيل صديده، والظاهر أنه يصلب بعد القتل زمناً يحصل فيه اشتهار ذلك. لأن صلبه ردع لغيره.
وكذلك قوله :﴿ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض ﴾، اختلف العلماء في المراد بالنفي فيه أيضاً، فقال بعضهم : معناه أن يطلبوا حتى يقدر عليهم، فيقام عليهم الحد، أو يهربوا من دار الإسلام، وهذا القول رواه ابن جرير، عن ابن عباس، وأنس بن مالك، وسعيد بن جبير، والضحاك، والربيع بن أنس، والزهري، والليث بن سعد، ومالك بن أنس.
وقال آخرون : هو أن ينفوا من بلدهم إلى بلد آخر، أو يخرجهم السلطان، أو نائبه، من عمالته بالكلية، وقال عطاء الخراساني، وسعيد بن جبير، وأبو الشعثاء، والحسن، والزُّهري، والضحاك، ومقاتل بن حيان، إنهم ينفون، ولا يخرجون من أرض الإسلام.
وذهب جماعة إلى أن المراد بالنفي في الآية السجن، لأنه نفي من سعة الدنيا إلى ضيق السجن، فصار المسجون كأنه منفي من الأرض، إلا من موضع استقراره، واحتجوا بقول بعض المسجونين في ذلك :
خرجنا من الدُّنيا ونحن من أهْلها | فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا |
إذا جاءنا السجان يوماً لحاجة | عجبنا وقلنا جاء هذا من الدُّنيا |
واختار ابن جرير، أن المراد بالنفي في هذه الآية، أن يخرج من بلده إلى بلد آخر، فيسجن فيه، وروي نحوه عن مالك أيضاً، وله اتجاه. لأن التغريب عن الأوطان نوع من العقوبة، كما يفعل بالزاني البكر، وهذا أقرب الأقوال، لظاهر الآية ؛ لأنه من المعلوم إنه لا يراد نفيهم من جميع الأرض إلى السماء، فعلم أن المراد بالأرضِ أوطانهم التي تشقّ عليهم مفارقتها، والله تعالى أعلم.
مسائل من أحكام المحاربين
المسألة الأولى : اعلم أن جمهور العلماء يثبتون حكم المحاربة في الأمصار والطرق على السواء، لعموم قوله تعالى :﴿ وَيَسْعَوْنَ في الأرض فَسَاداً ﴾، وممن قال بهذا الأوزاعيّ، والليث بن سعد، وهو مذهب الشافعي، ومالك، حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه، حتى يدخله بيتاً، فيقتله ويأخذ ما معه، إن هذه محاربة، ودمه إلى السلطان، لا إلى ولي المقتول، فلا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط القتل.
وقال القاضي ابن العربي المالكي : كنت أيام حكمي بين الناس، إذا جاءني أحد بسارق، وقد دخل الدار بسكين يحبسه على قلب صاحب الدار، وهو نائم، وأصحابه يأخذون مال الرجل، حكمت فيهم بحكم المحاربين، وتوقف الإمام أحمد في ذلك، وظاهر كلام الخرقي أنه لا محاربة إلا في الطرق، فلا يكون محارباً في المصر. لأنه يلحقه الغوث.
وذهب كثير من الحنابلة إلى أنه يكون محارباً في المصر أيضاً، لعموم الدَّليل.
وقال أبو حنيفة : وأصحابه : لا تكون المحاربة إلا في الطرق، وأما في الأمصار فلا، لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث، بخلاف الطريق لبعده ممن يغيثه، ويعينه، قاله ابن كثير ولا يثبت لهم حكم المحاربة، إلا إذا كان عندهم سلاح. ومن جملة السلاح : العصي، والحجارة عند الأكثر ؛ لأنها تتلف بها الأنفس والأطراف كالسلاح، خلافاً لأبي حنيفة.
* * *
المسألة الثانية : إذا كان المال الذي أتلفه المحارب، أقل من نصاب السرقة الذي يجب فيه القطع، أو كانت النفس التي قتلها غير مكافئة له، كأن يقْتل عبداً، أو كافراً، وهو حر مسلم، فهل يقطع في أقل من النِّصاب ؟ ويقتل بغير الكفؤ أو لا ؟
اختلف العلماء في ذلك، فقال بعضهم : لا يقطع إلا إذا أخذ ربع دينار، وبهذا قال الشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وقال مالك : يقطع ولو لم يأخذ نصاباً : لأنه يحكم عليه بحكم المحارب.
قال ابن العربي : وهو الصحيح ؛ لأن الله تعالى، حدد على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، ربع دينار لوجوب القطع في السرقة، ولم يحدد في قطع الحرابة شيئاً، ذكر جزاء المحارب، فاقتضى ذلك توفية جزائهم على المحاربة عن حبة، ثم إن هذا قياس أصل على أصل، وهو مختلف فيه، وقياس الأعلى بالأدنى، وذلك عكس القياس، وكيف يصح أن يقاس المحارب على السارق، وهو يطلب خطف المال ؟ فإن شعر به فر، حتى إن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال، فإن منع منه، أو صِيح عليه حارب عليه، فهو محارب يحكم عليه بحكم المحاربين، اه كلام ابن العربي.
ويشهد لهذا القول، عدم اشتراط الإخراج من حرز فيما يأخذه المحارب في قطعه، وأما قتل المحارب بغير الكفؤ، فهو قول أكثر العلماء، وعن الشافعي، وأحمد فيه روايتان، والتحقيق عدم اشتراط المكافأة في قتل الحرابة ؛ لأن القتل فيها ليس على مجرد القتل، وإنما هو على الفساد العام من إخافة السبيل، وسلب المال.
قال الله تعالى :﴿ إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الأرض فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ ﴾ [ ٣٣ ].
فأمر بإقامة الحدود على المحارب إذا جمع بين شيئين، وهما المحاربة، والسعي في الأرض بالفساد، ولم يخص شريفاً من وضيع، ولا رفيعاً من دنيء، اه من القرطبي.
قال مقيّده، عفا الله عنه : ومما يدل على عدم اعتبار المكافأة في قتل الحرابة، إجماع العلماء على أن عفو ولي المقتول في الحرابة لغو لا أثر له، وعلى الحاكم قتل المحارب القاتل، فهو دليل على أنها ليست مسألة قصاص خالص، بل هناك تغليظ زائد من جهة المحاربة.
* * *
المسألة الثالثة : إذا حمل المحاربون على قافلة مثلاً، فقتل بعضهم بعض القافلة، وبعض المحاربين لم يباشر قتل أحد، فهل يقتل الجميع، أو لا يقتل إلا من باشر القتل، فيه خ
اعلم أن جمهور العلماء على أن المراد بالوسيلة هنا هو القربة إلى الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه على وفق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بإخلاص في ذلك لله تعالى، لأن هذا وحده هو الطريق الموصلة إلى رِضى الله تعالى، ونيل ما عنده من خير الدنيا والآخرة.
وأصل الوسيلة : الطريق التي تقرب إلى الشيء، وتوصل إليه وهي العمل الصالح بإجماع العلماء، لأنه لا وسيلة إلى الله تعالى إلا باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالآيات المبينة للمراد من الوسيلة كثيرة جداً كقوله تعالى :﴿ وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ ﴾ [ الحشر : ٧ ]، وكقوله :﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتبعوني ﴾ [ آل عمران : ٣١ ]، وقوله :﴿ قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ﴾ [ النور : ٥٤ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالوسيلة الحاجة، ولما سأله نافع الأزرق هل تعرف العرب ذلك ؟ أنشد له بيت عنترة :
إن الرجال لهم إليك وسيلة | إن يأخذوك تكحّلي وتخضَّبي |
قال مقيّده عفا الله عنه : التحقيق في معنى الوسيلة هو ما ذهب إليه عامة العلماء من أنها التقرب إلى الله تعالى بالإخلاص له في العبادة، على وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وتفسير ابن عباس داخل في هذا، لأن دعاء الله والابتهال إليه في طلب الحوائج من أعظم أنواع عبادته التي هي الوسيلة إلى نيل رضاه ورحمته.
وبهذا التحقيق تعلم أن ما يزعمه كثير من ملاحدة أتباع الجهَّال المدعين للتصوُّف من أن المراد بالوسيلة في الآية الشيخ الذي يكون له واسطة بينه وبين ربه، أنه تخبط في الجهل والعمى وضلال مبين وتلاعب بكتاب الله تعالى، واتخاذ الوسائط من دون الله من أصول كفر الكفار، كما صرح به تعالى في قوله عنهم :﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ ليقربونا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [ الزمر : ٣ ] وقوله :﴿ وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ في السَّمَاوَاتِ وَلاَ في الأرض سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [ يونس : ١٨ ]، فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الطريق الموصلة إلى رِِضى الله وجنته ورحمته هي اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن حاد عن ذلك فقد ضل سواء السبيل، ﴿ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِي أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾، الآية.
والظاهر أن الوسيلة في بيت عنترة معناها التقرب أيضاً إلى المحبوب، لأنه وسيلة لنيل المقصود منه، ولذا أنشد بيت عنترة المذكور ابن جرير، والقرطبي وغيرهما لهذا المعنى الذي ذكرنا وجمع الوسيلة : الوسائل، ومنه قول الشاعر :
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا | وعاد التصافي بيننا والوسائل |
في هذا الآية الكريمة إجمال، لأن المشار إليه بقوله ﴿ هذا ﴾، ومفسر الضمير في قوله :﴿ فَخُذُوهُ ﴾، وقوله :﴿ لَّمْ تُؤْتَوْهُ ﴾ لم يصرح به في الآية ولكن الله أشار له هنا، وذكره في موضع آخر.
واعلم أولاً أن هذه الآية نزلت في اليهودي واليهودية الذين زنيا بعد الإحصان، وكان اليهود قد بدلوا حكم الرجم في التوراة، فتعمدوا تحريف كتاب الله، واصطلحوا فيما بينهم على أن الزاني المحصَن الذي يعلمون أن حده في كتاب الله «التوراة » الرجم أنهم يجلدونه ويفضحونه بتسويد الوجه والإركاب على حمار، فلما زنى المذكوران قالوا فيما بينهم تعالوا نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم في شأن حدهما، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه ذلك واجعلوه حجة بينكم وبين الله تعالى ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم فيهما بذلك، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه، فإذا عرفت ذلك فاعلم أن المراد بقوله ﴿ هذا ﴾ وقوله :﴿ فَخُذُوهُ ﴾، وقوله :﴿ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ ﴾ هو الحكم المحرف الذي هو الجلد والتحميم كما بينا، وأشار إلى ذلك هنا بقوله :﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ ﴾ يعني المحرف والمبدل الذي هو الجلد والتحميم ﴿ فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ ﴾ بأن حكم بالحق الذي هو الرجم ﴿ فَاحْذَرُواْ ﴾ أن تقبلوه.
وذكر تعالى هذا أيضاً في قوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ ﴾ [ آل عمران : ٢٣ ]، يعني التوراة ليحكم بينهم يعني في شأن الزانيين المذكورين ﴿ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ﴾ [ آل عمران : ٢٣ ] أي عما في التوراة من حكم رجم الزاني المحصن، وقوله هنا :﴿ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ ﴾ [ ٤١ ]، والعلم عند الله تعالى.
أخبر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الأحبار والرهبان استحفظوا كتاب الله يعني استودعوه، وطلب منهم حِفظه، ولم يبين هنا هل امتثلوا الأمر في ذلك وحفظوه، أو لم يمتثلوا الأمر في ذلك وضيعوه ؟ ولكنه بين في مواضع أخر أنهم لم يمتثلوا الأمر، ولم يحفظوا ما استحفظوه، بل حرفوه وبدلوه عمداً كقوله :﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ﴾ [ النساء : ٤٦ ] الآية.
وقوله :﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ﴾ [ المائدة : ٤١ ] الآية، وقوله :﴿ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً ﴾ [ الأنعام : ٩١ ]، وقوله :﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِندِ اللَّهِ ﴾ [ البقرة : ٧٩ ] الآية، وقوله جل وعلا :﴿ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ [ آل عمران : ٧٨ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
إن قيل ما الفرق بين التوراة والقرآن، فإن كلا منهما كلام الله أنزله على رسول من رسله صلوات الله وسلامه عليهم، والتوراة حرفت، وبدلت كما بيناه آنفاً، والقرآن محفوظ من التحريف والتبديل، لو حرف منه أحد حرفاً واحداً فأبدله بغيره، أو زاد فيه حرفاً أو نقص فيه آخر لرد عليه آلاف الأطفال من صغار المسلمين فضلاً عن كبارهم.
فالجواب أن الله استحفظهم التوراة، واستودعهم إياها، فخانوا الأمانة ولم يحفظوها، بل ضيعوها عمداً والقرآن العظيم لم يكل الله حفظه إلى أحد حتى يمكنه تضييعه، بل تولى حفظه جل وعلا بنفسه الكريمة المقدسة، كما أوضحه بقوله :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [ الحجر : ٩ ]، وقوله :﴿ لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ﴾ [ فصلت : ٤٢ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات و «الباء » في قوله :﴿ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ ﴾ متعلقة بالرهبان والأحبار، لأنهم إنما صاروا في تلك المرتبة بسبب ما استحفظوا من كتاب الله.
وقيل : متعلقة ي ﴿ يحكم ﴾ والمعنى متقارب.
قوله تعالى :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾.
اختلف العلماء في هذه الآية الكريمة : هل هي في المسلمين، أو في الكفّار، فروي عن الشعبي أنها في المسلمين، وروي عنه أنها في اليهود، وروي عن طاوس أيضاً أنها في المسلمين، وأن المراد بالكفر فيها كفر دون كفر، وأنه ليس الكفر المخرج من الملة، وروِي عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال : ليس الكفر الذي تذهبون إليه، رواه عنه ابن أبي حاتم، والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، قاله ابن كثير.
قال بعض العلماء : والقرآن العظيم يدل على أنها في اليهود، لأنه تعالى ذكر فيما قبلها أنهم ﴿ يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَواضِعِهِ ﴾، وأنهم يقولون ﴿ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا ﴾ يعني الحكم المحرف الذي هو غير حكم الله ﴿ فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ ﴾ أي المحرف، بل أوتيتم حكم الله الحق ﴿ فَاحْذَرُواْ ﴾ فهم يأمرون بالحذر من حكم الله الذي يعلمون أنه حق.
فدل على أن الكلام فيهم، وممن قال بأن الآية في أهل الكتاب، كما دل عليه ما ذكر البراء بن عازب، وحذيفة بن اليمان، وابن عباس، وأبو مجلز، وأبو رجاء العطاردي، وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله، والحسن البصري وغيرهم، وزاد الحسن، وهي علينا واجبة نقله عنهم ابن كثير، ونقل نحو قول الحسن عن إبراهيم النخعي.
وقال القرطبي في تفسيره :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ و ﴿ الظَّالِمُونَ ﴾ و ﴿ الْفَاسِقُونَ ﴾ [ المائدة : ٤٤ – ٤٧ ] نزلت كلها في الكفّار، ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء، وقد تقدم وعلى هذا المعظم، فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة، وقيل فيه إضمار، أي ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ﴾ رداً للقرآن وجحداً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر، قاله ابن عباس ومجاهد.
فالآية عامةً على هذا قال ابن مسعود، والحسن : هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفّار، أي معتقداً ذلك ومستحلاً له.
فأما من فعل ذلك، وهو معتقد أنه مرتكب محرمٍ فهو من فساق المسلمين وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له.
وقال ابن عباس في رواية :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ﴾ فقد فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفّار، وقيل : أي ومن لم يحكم بجميع ما أنزل فهو كافر فأما من حكم بالتوحيد، ولم يحكم ببعض الشرائع فلا يدخل في هذه الآية، والصحيح الأول إلا أن الشعبي قال : هي في اليهود خاصة، واختاره النحاس قال : ويدل على ذلك ثلاثة أشياء. منهما أن اليهود ذكروا قبل هذا في قوله تعالى ﴿ لِلَّذِينَ هَادُواْ ﴾ [ المائدة : ٤٤ ] فعاد الضمير عليهم.
ومنها أن سياق الكلام يدل على ذلك. ألا ترى أن بعده ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ ﴾ [ المائدة : ٤٥ ]، فهذا الضمير لليهود بإجماع ؛ وأيضاً فإن اليهود هم الذين أنكروا الرجم والقصاص، فإن قال قائل «من » إذا كانت للمجازاة فهي عامة إلا أن يقع دليل على تخصيصها قيل له :«من » هنا بمعنى الذي، مع ما ذكرناه من الأدلة والتقرير : واليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، فهذا من أحسن ما قيل في هذا.
ويروى أن حذيفة سئل عن هذه الآيات، أهي في بني إسرائيل، فقال : نعم هي فيهم، ولتسلكن سبيلهم حذو النعل بالنعل، وقيل :﴿ الْكَافِرُونَ ﴾ للمسلمين، و ﴿ الظَّالِمُونَ ﴾ لليهود و ﴿ الْفَاسِقُونَ ﴾ للنصارى، وهذا اختيار أبي بكر بن العربي، قال : لأنه ظاهر الآيات، وهو اختيار ابن عباس، وجابر بن زيد، وابن أبي زائدة، وابن شبرمة والشعبي أيضاً. قال طاوس وغيره : ليس بكفر ينقل عن الملة، ولكنه كفر دون كفر.
وهذا يختلف إن حكم بما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر ؛ وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين. قال القشيري : ومذهب الخوارج أن من ارتشى، وحكم بحكم غير الله فهو كافر، وعزا هذا إلى الحسن والسُّدِّي، وقال الحسن أيضاً : أخذ الله على الحكام ثلاثة أشياء : ألا يتبعوا الهوى، وألا يخشوا الناس ويخشوه، وألا يشتروا بآياته ثمناً قليلاً، انتهى كلام القرطبي.
قال مقيّده عفا الله عنه : الظاهر المتبادر من سياق الآيات أن آية ﴿ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ نازلة في المسلمين، لأنه تعالى قال قبلها مخاطباً لمسلمي هذه الأُمة ﴿ فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ [ المائدة : ٤٤ ]، ثم قال :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ فالخطاب للمسلمين كما هو ظاهر متبادر من سياق الآية، وعليه فالكفر إما كفر دون كفر، وإما أن يكون فعل ذلك مستحلاً له، أو قاصداً به جحد أحكام الله وردها مع العلم بها.
أما من حكم بغير حكم الله، وهو عالم أنه مرتكب ذنباً فاعل قبيحاً، وإنما حمله على ذلك الهوى فهو من سائر عصاة المسلمين، وسياق القرآن ظاهر أيضاً في أن آية ﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [ المائدة : ٤٥ ] في اليهود لأنه قال قبلها :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ والأنف بالأنف والأذن بالأذن وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [ المائدة : ٤٥ ].
فالخطاب لهم لوضوح دلالة السياق عليه كما أنه ظاهر أيضاً في أن آية ﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون ﴾ [ المائدة : ٤٧ ].
واعلم أن تحرير المقام في هذا البحث أن الكفر والظلم والفسق كل واحد منها ربما أطلق في الشرع مراداً به المعصية تارة، والكفر المخرج من الملة أخرى ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ ﴾ معارضةً للرُّسل وإبطالاً لأحكام الله فظلمه وفسقه وكفره كلها كفر مخرج عن الملة، ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ ﴾ معتقداً أنه مرتكب حراماً فاعل قبيحاً فكفره وظلمه وفسقه غير مخرج عن الملة، وقد عرفت أن ظاهر القرآن يدل على أن الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، وتحقيق أحكام الكل هو ما رأيت، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ [ ٤٥ ] الآية.
قد قدمنا احتجاج أبي حنيفة رحمه الله تعالى بعموم هذه الآية على قتل المسلم بالذمي، ونفس الآية فيها إشارة إلى أن الكافر لا يدخل في عموم الآية، كما ذهب إليه جمهور العلماء، وذلك في قوله تعالى :﴿ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ﴾ الآية.
ومن المعلوم أن الكافر ليس من المتصدقين الذين تكون صدقتهم كفارة لهم، لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة، نبه على هذا إسماعيل القاضي في [ أحكام القرآن ] كما نقله ابن حجر في [ فتح الباري ]، وما ذكره إسماعيل القاضي من أن الآية تدل أيضاً على عدم دخول العبد، بناء على أنه لا يصح له التصدق بجرحه، لأن الحق لسيده غير مسلم، لأن من العلماء من يقول : إن الأمور المتعلقة ببدن العبد، كالقصاص له العفو فيها دون سيده، وعليه فلا مانع من تصدقه بجرحه، وعلى قول من قال : إن معنى ﴿ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ﴾ [ المائدة : ٤٥ ]، أن التصدق بالجناية كفارة للجاني، لا للمجني عليه، فلا مانع أيضاً من الاستدلال المذكور بالآية، لأن الله لا يذكر عن الكافر أنه متصدق، لأن الكافر لا صدقة له لكفره، وما هو باطل لا فائدة فيه لا يذكره الله تعالى، في معرض التقرير والإثبات، مع أن هذا القول ضعيف في معنى الآية.
وجمهور العلماء من الصحابة، فمن بعدهم على أن معناها فهو كفارة للمتصدق، وهو أظهر. لأن الضمير فيه عائد إلى مذكور، وذلك في المؤمن قطعاً دون الكافر، فالاستدلال بالآية ظاهر جداً.
تنبيه
احتج بعض العلماء بهذه الآية الكريمة على أنه لا يقتل اثنان بواحد، لأنهما لو قتلا به لخرج عن قوله :﴿ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ [ المائدة : ٤٥ ] لكونهما نفسين بنفس واحدة.
وممن قال بهذا متمسكاً بهذا الدليل ابن الزبير، والزهري، وابن سيرين، وحبيب بن أبي ثابت، وعبد الملك، وربيعة، وداود، وابن المنذر، وحكاه ابن أبي موسى، عن ابن عباس، وروي عن معاذ بن جبل، وابن الزبير، وابن سيرين، والزهري أنه يقتل منهم واحد، ويؤخذ من الباقين حصصهم من الدية. لأن كل واحد منهم مكافىء له، فلا تستوفى أبدال بمبدل واحد، كما لا تجب ديات لمقتول واحد، كما نقله عمن ذكرنا ابن قدامة في [ المغني ].
وقالوا مقتضى قوله تعالى :﴿ الْحُرُّ بِالْحُرّ ﴾، وقوله :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ [ البقرة : ١٧٨ ] أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر من نفسٍ واحدة، قالوا : ولأن التفاوت في الأوصاف يمنع القصاص، بدليل عدم قتل الحر بالعبد، والتفاوت في العدد أولى.
وقال ابن المنذر : لا حجة مع من أوجب قتل جماعة بواحد، وعدم قتل الجماعة بالواحد رواية عن الإمام أحمد.
والرواية المشهورة عن الإمام أحمد. ومذهب الأئمة الثلاثة أنه يقتل الجماعة بالواحد، وقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قتل سبعة بواحد، وقال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعاً، وروي نحو ذلك عن علي رضي الله عنه، فإنه توقف عن قتال الحرورية حتى يحدثوا، فلما ذبحوا عبد الله بن خبّاب، كما تذبح الشاة، وأخبر علي بذلك قال : الله أكبر نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبد الله بن خبّاب. فقالوا : كلنا قتله، ثلاث مرات، فقال علي لأصحابه : دونكم القوم، فما لبث أن قتلهم علي وأصحابه، نقله القرطبي عن الدارقطني في [ سننه ].
ويزيد قتل الجماعة بالواحد، ما رواه الترمذي عن أبي سعيد، وأبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«لو أن أهل السماء، وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار ». قال فيه الترمذي : حديث غريب نقله عنه القرطبي.
وروى البيهقي في [ السنن الكبرى ] نحوه عن ابن عباس مرفوعاً، وزاد «إلا أن يشاء »، وروى البيهقي أيضاً عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله عز وجل يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله ».
وروي عن المغيرة بن شعبة، وابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن، وأبو سلمة، وعطاء، وقتادة، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور، كما نقله عنهم ابن قدامة في [ المغني ] أن الجماعة تقتل بالواحد، ورواه البيهقي عن عمر، وعلي رضي الله عنهما أيضاً، ولم يعلم لهما مخالف من الصحابة، فصار إجماعاً سكوتياً، واعترضه بعضهم بأن ابن الزبير ثبت عنه عدم قتل الجماعة بالواحد، كما قاله ابن المنذر.
وإذن فالخلاف واقع بين الصحابة، والمقرر في الأصول أن الصحابة إذا اختلفوا، لم يجز العمل بأحد القولين إلا بترجيح.
قال مقيده، عفا الله عنه : ويترجح مذهب الجمهور الذي هو قتل الجماعة بالواحد، بأن الله تعالى قال :﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياة ﴾ [ البقرة : ١٧٩ ]، يعني أن من علم أنه يقتل إذا قتل يكون ذلك رادعاً له وزاجراً عن القتل، ولو كان الاثنان لا يقتص منهما للواحد، لكان كل من أحب أن يقتل مسلماً، أخذ واحداً من أعوانه فقتله معه، فلم يكن هناك رادع عن القتل وبذلك تضيع حكمة القصاص من أصلها، مع أن المتمالئين على القتل يصدق على كل واحد منهم أنه قاتل فيقتل، ويدل له أن الجماعة لو قذفوا واحداً لوجب حد القذف على جميعهم، والعلم عند الله تعالى.
لم يبين هنا شيئاً مما أنزل في الإنجيل الذي أمر أهل الإنجيل بالحكم به، وبين في مواضع أخر أن من ذلك البشارة بمبعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ووجوب اتباعه. والإيمان به كقوله :﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِى إسرائيل إني رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يدي مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يأتي مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [ الصف : ٦ ]، وقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ في التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
لطيفة لها مناسبة بهذه الآية الكريمة : ذكر بعض العلماء أن نصرانياً قال لعالم من علماء المسلمين : ناظرني في الإسلام والمسيحية أيهما أفضل ؟ فقال العالم للنصراني : هلم إلى المناظرة في ذلك، فقال النصراني : المتفق عليه أحق بالاتباع أم المختلف فيه ؟ فقال العالم : المتفق عليه أحق بالاتباع من المختلف فيه. فقال النصراني : إذن يلزمكم اتباع عيسى معنا، وترك اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، لأننا نحن وأنتم نتفق على نبوة عيسى، ونخالفكم في نبوة محمد عليهما الصلاة والسلام، فقال المسلم : أنتم الذين تمتنعون من اتباع المتفق عليه، لأن المتفق عليه الذي هو عيسى قال لكم :﴿ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يأتي مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [ الصف : ٦ ]، فلو كنتم متبعين عيسى حقاً لاتبعتم محمداً صلى الله عليه وسلم، فظهر أنكم أنتم الذين لم تتبعوا المتفق عليه ولا غيره، فانقطع النصراني.
ولا شك أن النصارى لو كانوا متبعين عيسى، لاتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى :﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ﴾.
قد قدمنا أن هذه الآية في النصارى، والتي قبلها في اليهود، والتي قبل تلك في المسلمين، كما يقتضيه ظاهر القرآن.
وقد قدمنا أن الكفر، والظلم، والفسق كلها يطلق على المعصية بما دون الكفر، وعلى الكفر المخْرج من الملة نفسه. فمن الكفر بمعنى المعصية ؛ قوله صلى الله عليه وسلم لما سألته المرأة عن سبب كون النساء أكثر أهل النار، «إن ذلك واقع بسبب كفرهن » ثم فسره بأنهن يكفرن العشير، ومن الكفر بمعنى المخرج عن الملة، قوله تعالى :﴿ قُلْ يا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ [ الكافرون : ١ – ٢ ] الآية. ومن الظلم بمعنى الكفر قوله تعالى :﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [ البقرة : ٢٥٤ ]، وقوله :﴿ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [ يونس : ١٠٦ ]، وقوله :﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [ لقمان : ١٣ ]، ومنه بمعنى المعصية قوله تعالى :﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ ﴾ [ فاطر : ٣٢ ] الآية، ومن الفسق بمعنى الكفر قوله :﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا ﴾ [ السجدة : ٢٠ ] الآية، ومنه بمعنى المعصية قوله في الذين قذفوا عائشة، رضي الله عنها :﴿ وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [ النور : ٤ ].
ومعلوم أن القذف ليس بمخرج عن الملة، ويدل له قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَآءُو بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ ﴾ [ النور : ١١ ]، ومن الفِسق بمعنى المعصية أيضاً، قوله في الوليد بن عقبة :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ ﴾ [ الحجرات : ٦ ] الآية.
وقد قدمنا أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، فمن كان امتناعه من الحكم بما أنزل الله، لقصد معارضته ورده، والامتناع من التزامه، فهو كافر ظالم فاسق كلها بمعناها المخرج من الملة، ومن كان امتناعه من الحكم لهوى، وهو يعتقد قبح فعله، فكفره وظلمه وفسقه غير المخرج من الملة، إلا إذا كان ما امتنع من الحكم به شرطاً في صحة إيمانه، كالامتناع من اعتقاد ما لا بد من اعتقاده، هذا هو الظاهر في الآيات المذكورة، كما قدمنا والعلم عند الله تعالى.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض، ولكنه بين في مواضع أخر أن ولاية بعضهم لبعض زائفة ليست خالصة، لأنها لا تستند على أساس صحيح، هو دين الإسلام، فبين أن العداوة والبغضاء بين النصارى دائمة إلى يوم القيامة، بقوله :﴿ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ والبغضاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [ المائدة : ١٤ ]، وبين مثل ذلك في اليهود أيضاً، حيث قال فيهم :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يشاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [ المائدة : ٦٤ ]، والظاهر أنها في اليهود فيما بينهم، كما هو صريح السياق، خلافاً لمن قال : إنها بين اليهود، والنصارى.
وصرح تعالى بعدم اتفاق اليهود معللاً له بعدم عقولهم في قوله :﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ﴾ [ الحشر : ١٤ ].
تنبيه
أخذ بعض العلماء من قوله تعالى :﴿ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾ أن اليهودي، والنصراني، يتوارثان، ورده بعض العلماء، بأن المراد بالآية، ولاية اليهود لخصوص اليهود، والنصارى لخصوص النصارى، وعلى هذا المعنى فلا دليل في الآية لتوارث اليهود والنصارى.
قوله تعالى :﴿ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾.
ذكر في هذه الآية الكريمة، أن من تولى اليهود، والنصارى، مِن المسلمين، فإنه يكون منهم بتوليه إياهم ؛ وبين في موضع آخر أن توليهم موجب لسخط الله، والخلود في عذابه، وأن متوليهم لو كان مؤمناً ما تولاهم، وهو قوله تعالى :﴿ تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنبي وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أولياء وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [ المائدة : ٨٠- ٨١ ].
ونهى في موضِع آخر عن تَوليهم مبيناً سبب التنفير منه. وهو قوله :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخرة كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ﴾ [ الممتحنة : ١٣ ].
وبين في موضع آخر : أن محل ذلك، فيما إذا لم تكن الموالاة بسبب خوف، وتقية، وإن كانت بسبب ذلك فصاحبها معذور، وهو قوله تعالى :﴿ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شيء إِلاَ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾ [ آل عمران : ٢٨ ] فهذه الآية الكريمة فيها بيان لكل الآيات القاضية بمنع موالاة الكفار مطلقاً وإيضاح، لأن محل ذلك في حالة الاختيار، وأما عند الخوف والتقية، فيرخص في موالاتهم، بقدر المداراة التي يكتفي بها شرهم، ويشترط في ذلك سلامة الباطن من تلك الموالاة.
ومن يأتي الأمور على اضطرار | فليس كمثل آتيها اختيارا |
إذا ما الدهر جر على أناس | كلا كله أناخ بآخرينا |
والفتح المذكور قيل : هو فتح المسلمين لبلاد المشركين، وقيل : الفتح الحكم، كقوله ﴿ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ﴾ [ الأعراف : ٨٩ ]، وعليه فهو حكم الله بقتل مقاتلة بني قريظة، وسبي ذراريهم، وإجلاء بني النضير، وقيل : هو فتح مكة، وهو راجع إلى الأول.
وبين تعالى في موضع آخر، أنهم يحلفون تلك الأَيمان ليرضى عنهم المؤمنون، وأنهم إن رضوا عنهم، فإن الله لا يرضى عنهم، وهو قوله :﴿ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [ التوبة : ٩٦ ].
وبين في موضع آخر : أنهم يريدون بأيمانهم إرضاء المؤمنين، وإن الله ورسوله أحق بالإرضاء، وهو قوله :﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [ التوبة : ٦٢ ].
وبين في موضع آخر أنهم يحلفون لهم ليرضوا عنهم، بسبب أن لهم عذراً صحيحاً، وأن الله أمرهم بالإعراض عنهم، لا لأن لهم عذراً صحيحاً، بل مع الإعلام بأنهم رجس، ومأواهم النار بسبب ما كسبوا من النفاق، وهو قوله :﴿ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ [ التوبة : ٩٥ ] الآية.
وبيَّن في موضع آخر. أن أيمانهم الكاذبة سبب لإهلاكهم أنفسهم وهو قوله :﴿ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [ التوبة : ٥٢ ] الآية.
وهذه الأسباب لحلف المنافقين التي ذكرت في هذه الآيات راجعة جميعاً إلى السبب الأول، الذي هو الخوف ؛ لأن خوفهم مِن المؤمنين هو سبب رغبتهم في إرضائهم، وإعراضهم عنهم بأن لا يؤذوهم، ولذا حلفوا لهم، ليرضوهم، وليعرضوا عنهم، خوفاً من أذاهم، كما هو ظاهر.
تنبيه
قوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَهُؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ ﴾ فيه ثلاث قراءات سبعيات.
الأولى :﴿ يِقُولُ ﴾ : بلا واو مع الرفع، وبها قرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر.
الثانية :﴿ وَيَقُولُ ﴾ بإثبات الواو مع رفع الفعل أيضاً، وبها قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي.
الثالثة : بإثبات الواو، ونصب ﴿ يِقُولُ ﴾ عطفاً على ﴿ أَن يأتي بِالْفَتْحِ ﴾ [ المائدة : ٥٢ ] وبها قرأ أبو عمرو.
أَخبَر تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة أنهم إن ارتد بعضهم فإن الله يأتي عوضاً عن ذلك المرتد بقوم من صفاتهم الذل للمؤمنين، والتواضع لهم ولين الجانب، والقسوة والشدة على الكافرين، وهذا من كمال صفات المؤمنين، وبهذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فأمره بلين الجانب للمؤمنين، بقوله :﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الحجر : ٨٨ ]، وقوله :﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الشعراء : ٢١٥ ]، وأمَره بالقسوة على غيرهم بقوله :﴿ يا أَيُّهَا النبي جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [ التوبة : ٧٣ ]، وأثنى تعالى على نبيه باللين للمؤمنين في قوله :﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ] الآية وصرح بأن ذلك المذكور من اللين للمؤمنين، والشدة على الكافرين، من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، بقوله :﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ﴾.
وقد قال الشاعر في رسول الله صلى الله عليه وسلم :
وما حملت من ناقة فوق رحلها | أبر وأوفى ذمة من محمد |
وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه | وأمضى بحد المشرفي المهند |
وما حملت من ناقةٍ فوق رحلها | أشد على أعدائه مِن محمد |
إذا قيل حلم قل فللحلم موضع | وحلم الفتى في غير موضعه جَهل |
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الكتاب لو أطاعوا الله، وأقاموا كتابهم باتباعه، والعمل بما فيه، ليسّر الله لهم الأرزاق وأرسل عليهم المطر، وأخرج لهم ثمرات الأرض.
وبين في مواضع أُخَر أن ذلك ليس خاصّاً بهم، كقوله عن نوح وقومه ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مُدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً ﴾ [ نوح : ١٠- ١٢ ] وقوله عن هود وقومه :﴿ وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ﴾ [ هود : ٥٢ ] الآية وقوله عن نبينا عليه الصلاة والسلام وقومه ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ [ هود : ٣ ] وقوله تعالى ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيِّبَةً ﴾ [ النحل : ٩٧ ] الآية.
على أحد الأقوال وقوله :﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ والأرض ﴾ [ الأعراف : ٩٦ ] الاية. وقوله :﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾ [ الطلاق : ٢-٣ ] وقوله :﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [ طه : ١٣٢ ] ومفهوم الآية أن معصية الله تعالى، سبب لنقيض ما يستجلب بطاعته، وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله :﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ في الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أيدي النَّاسِ ﴾ [ الروم : ٤١ ] الآية، ونحوها من الآيات.
قوله تعالى :﴿ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴾.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة، أن أهل الكتاب قسمان :
طائفة منهم مُقتصدة في عملها، وكثير مِنهم سيء العمل، وقسّم هذه الأمة إلى ثلاثة أقسام في قوله :﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ [ فاطر : ٣٢ ] ووعد الجميع بالجنة بقوله :﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴾ [ فاطر : ٣٣ ].
وذكر القسم الرابع : وهو الكفّار منها بقوله ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ ﴾ [ فاطر : ٣٦ ] الآية.
وأظهر الأقوال في المقتصِد، والسابِق، والظالم، أن المقتصد هو من امتثل الأمر، واجتنب النهي، ولم يزِد على ذلك، وأن السابق بالخيرات هو من فعل ذلك، وزاد بالتقرب إلى الله بالنوافل، والتورُّع عن بعض الجائزات، خوفاً من أن يكون سبباً لغيره، وأن الظالم هو المذكور في قوله :﴿ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٠٢ ]، والعلم عند الله تعالى.
أمر تعالى في هذه الآية نبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أُنزل إليه، وشهد له بالامتثال في آيات متعدِّدة كقوله :﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ [ المائدة : ٣ ]، وقوله :﴿ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ ﴾ [ النور : ٥٤ ]، وقوله :﴿ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ ﴾ [ الذاريات : ٥٤ ]، ولو كان يُمكن أن يكتم شيئاً، لكَتَم قوله تعالى :﴿ وَتُخْفِى في نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ﴾ [ الأحزاب : ٣٧ ]، فمن زعم أنه صلى الله عليه وسلم، كَتم حرفاً مما أُنزل عليه، فقد أعظم الافتراء، على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
ذكر تعالى في هذه الآية الكَريمة أن بني إسرائيل عموا وصموا مرتين، تتخللهما توبة مِن الله عليهم، وبيَّن تفصيل ذلك في قومه :﴿ وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِى إسرائيل في الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ في الأرض مَرَّتَيْنِ ﴾ [ الإسراء : ٤ ] الآية فبين جزاء عَماهم، وصَمَمهِم في المرة الأولى بقوله :﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ ﴾ [ الإسراء : ٥ ]، وبين جَزاء عماهم، وصَمَمِهم في المرة الآخرة بقوله ﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا ﴾ [ الإسراء : ٧ ]، وبين التوبة التي بينهما بقوله :﴿ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ﴾ [ الإسراء : ٦ ]. ثم بين أنهم إن عادوا إلى الإفساد عاد إلى الانتقام منهم بقوله :﴿ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ﴾ [ الإسراء : ٨ ] فعادوا إلى الإفساد بتكذبيه صلى الله عليه وسلم، وكتم صفاته التي في التوراة، فعاد الله إلى الانتقام منهم، فسلط عليهم نبيه صلى الله عليه وسلم فذبح مقاتلة بني قريظة، وسبى نساءهم، وذراريهم وأجلى بني قينقاع، وبني النضير. كما ذكر تعالى طرفاً من ذلك في سورة الحشر، وهذا البيان الذي ذكرنا في هذه الآية ذكره بعض المفسرين، وكثير منهم لم يذكره، ولكن ظاهر القرآن يقتضيه، لأن السياق في ذكر أفعالهم القبيحة الماضية من قتل الرسل وتكذبيهم، إذ قبل الآية المذكورة ﴿ كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ ﴾ [ المائدة : ٧٠ ].
ومعنى ﴿ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ ظنوا ألا يصيبهم بلاء وعذاب من الله، بسبب كُفرهم، وقتلهم الأنبياء، لزعمهم الباطل، أنهم أبناء الله، وأحباؤه، وقوله :﴿ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ ﴾ أحسن، أوجه الإعراب فيه. أنه بدل من واو الفاعل في قوله :﴿ عَمُواْ وَصَمُّواْ ﴾، كقولك : جاء القوم أكثرهم، وقوله :﴿ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ قرأه حمزة، والكسائي، وأبو عمرو بالرفع، والباقون بالنصب، فوجه قراءة النصب ظاهر، لأن الحسبان بمعنى الظن، ووجه قراءة الرفع، تنزيل اعتقادهم لذلك ولو كان باطلاً منزلة العلم. فتكون أن مخففة من الثقيلة، والعلم عند الله تعالى.
أشار في هذه الآية، إلى أن الذّين قالوا :﴿ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ﴾ [ المائدة : ٧٣ ] لو تابوا إليه مِن ذل، لتاب عليهم، وغفر لهم، لأنه استعطفهم إلَى ذلك أحسن استعطاف، وألطفه، بقوله :﴿ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ﴾، ثم أشار إلى أنهم إن فعلوا ذلك غفر لهم بقوله :﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، وصرَّح بهذا المعنى عاماً لجميع الكفار بقوله :﴿ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾ [ الأنفال : ٣٨ ] الآية.
ذكَر في هذه الآية الكريمة أن عيسى وأمه كانا يأكلان الطعام، وذكر في مواضع أخر، أن جميع الرسل كانوا كذلك. كقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ﴾ [ الفرقان : ٢٠ ] الآية، وقوله :﴿ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ﴾ [ الأنبياء : ٨ ] الآية، وقوله :﴿ وَقَالُواْ مَا لهذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ ﴾ [ الفرقان : ٧ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ يُؤْفَكُونَ ﴾ معنى قوله :﴿ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيات ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ يصرفون عن الحقّ، والمراد بصرفهم عنه، قول بعضهم : إن الله هو المسيح بن مريم، وقول بعضهم : إن الله ثالث ثلاثة، وقول بعضهم : عزير بن الله سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وعلى من يقول ذلك لعائن الله إلى يوم القيامة، فإنهم يقولون هذا الأمر الذي لم يقل أحد أشنع منه ولا أعظم، مع ظُهور أدلة التوحيد المبينة له، ولذا قال تعالى :﴿ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيات ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ على سبيل التعجب من أمرهم، كيف يُؤفكون إلى هذا الكفر مع وُضوح أدِلة التوحيد ؟
قال بعض العلماء : الذين لُعنوا على لسان داود الذين اعتدوا في السبت، والذين لعنوا على لسان عيسى ابن مريم، هم الذين كفروا مِن أهل المائدة، وعليه فلعن الأولين مسخهم قِرَدَةَ، كما بينه تعالى بقوله :﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ في السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ [ البقرة : ٦٥ ]، وقوله :﴿ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٦٦ ]، ولعن الآخرين هو المذكور في قوله :﴿ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فإني أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ ﴾ [ المائدة : ١١٥ ]، وذكر غير واحد أنه مسخهم خنازير، وهذا القول مَرْوِي عن الحسن، وقتادة، ومجاهد، والباقِر نقله الألوسي في تفسيره، وقال : واختاره غير واحد، ونقله القرطبي عن ابن عبّاس، وقتادة، ومُجاهد، وأبي مالك، وذكر أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال بعض من قال بهذا القول : إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت، قال داود عليه الصلاة والسلام :«اللهم ألبِسهم اللعن مثل الرداء ومثل المنطقة على الحقوين »، فمسخهم الله قردة، وأصحاب المائدة لما كفروا، قال عيسى عليه الصلاة والسلام :«اللهم عذِّب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذاباً لم تعذّبه أحداً من العالمين، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت، فأصبحوا خنازير ».
وإن هذا معنى لعنهم على لسان داود، وعيسى ابن مريم، وفي الآية أقوال غير هذا تركنا التعرض لها، لأِنها ليست مما نحن بصدده.
قد قدمنا في سورة البقرة أن المراد بما عقدتم الأيمان، هو ما قصدتم عقد اليمين فيه، لا ما جرى على ألسنتكم من غير قصد نحو «لا والله » و «بلى والله »، ومنه قول الفرزدق :
ولَيستُ بمأخوذ بلغو تقوله *** إذا لم تعمد عاقدات العزائم
وهذا العقد معنوي، ومنه قول الحطيئة :
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم *** شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
وقرأه حمزة، والكسائي، وشعبة عن عاصم ﴿ عَقَّدتُّمُ ﴾ بالتخفيف بلا ألف. وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر ﴿ عَاقدْتُم ﴾ بألف بوزن فاعل، وقرأه الباقون بالتشديد من غير ألف، والتضعيف والمفاعلة : معناهما مجرد الفعل بدليل قراءة ﴿ بِمَا عَقَّدتُّمُ ﴾ بلا ألف، ولا تضعيف، والقراءات يبين بعضها بعضاً «وما » في قوله ﴿ بِمَا عَقَّدتُّمُ ﴾ مصدرية على التحقيق لا موصولة، كما قاله بعضهم زاعماً أن ضمير الرابط محذوف.
وفي المراد باللغو في الآية أقوال أشهرها عند العلماء اثنان :
الأول : أن اللغو ما يجري على لسان الإنسان من غير قصد، كقوله «لا والله » و «بلى والله ».
وذهب إلى هذا القول الشافعي، وعائشة في إحدى الروايتين عنها، وروي عن ابن عمر، وابن عبّاس في أحد قوليه، والشعبي، وعكرمة في أحد قوليه، وعُروة بن الزبير، وأبي صالح، والضحّاك في أحد قوليه، وأبي قلابة، والزهري، كما نقله عنهم ابن كثير، وغيره.
القول الثاني : أن اللغو هو أن يحلف على ما يعتقده، فيظهر نفيه : وهذا هو مذهب مالك بن أنس، وقال : إنه أحسن ما سمع في معنى اللغو، وهو مروي أيضاً عن عائشة، وأبي هريرة، وابن عباس في أحد قوليه، وسليمان بن يسار، وسعيد بن جُبَيْر، ومجاهد في أحد قوليه، وإبراهيم النخعي في أحد قوليه، والحسن، وزرارة بن أوفى، وأبي مالك، وعطاء الخراساني، وبكر بن عبد الله، وأحد قولي عكرمة، وحبيب بن أبي ثابت، والسُّدِّي، ومكحول، ومقاتل، وطاوس، وقتادة، والربيع بن أنس، ويحيى بن سعيد، وربيعة، كما نقله عنهم ابن كثير.
والقولان متقاربان، واللغو يشملهما ؛ لأنه في الأول لم يقصد عقد اليمين أصلاً، وفي الثاني لم يقصد إلا الحقّ والصواب، وغير هذين القولين من الأقوال تركته لضعفه في نظري، واللغو في اللُّغة : هو الكلام بما لا خير فيه، ولا حاجة إليه، ومنه حديث :«إذا قلت لصاحبك، والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت، فقد لغوت أو لغيت ».
وقول العجاج :
ورب أسراب حجيج كظم *** عن اللغا ورفث التكلم
مسائل من أحكام الأيمان
المسألة الأولى : اعلم أن الأيمان أربعة أقسام : اثنان فيهما الكفَّارة بلا خِلاف، واثنان مُخْتلف فيهما.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصّه : الأيمان في الشريعة على أربعة أقسام : قسمان فيهما الكفارة، وقسمان لا كفَّارة فيهما. خرج الدارقطني في سننه، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، حدثنا خلف بن هشام، حدثنا عبثر عن ليث، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال : الأيمان أربعة، يمينان يكفران، ويمينان لا يكفران فاليمينان اللذان يكفران، فالرجل الذي يحلف : والله لا أفعل كذا وكذا فيفعل، والرجل يقول : والله لأفعلن كذا وكذا، فلا يفعل، واليمينان اللذان لا يكفران، فالرجل يحلف : والله ما فعلت كذا وكذا، وقد فعل، والرجل يحلف : لقد فعلت كذا وكذا ولم يفعله. قال ابن عبد البر : وذكر سفيان الثوري في [ جامعه ]، وذكره المروزي عنه أيضاً، قال سفيان : الأيمان أربعة، يمينان يكفران، وهو أن يقول الرجل : والله «لا أفعل » ثم يفعل، أو يقول :«والله لأفعلن » ثم لا يفعل. ويمينان لا يكفران، وهو أن يقول الرجل «والله ما فعلت »، وقد فعل أو يقول «والله لقد فعلت » وما فعل. قال المروزي : أما اليمينان الأوليان، فلا اختلاف فيهما بين العلماء على ما قال سفيان. وأما اليمينان الأُخريان، فقد اختلف أهل العلم فيهما فإن كان الحالف حلف على أنه لم يفعل كذا وكذا، أو أنه فعل كذا وكذا عند نفسه صادقاً يرى أنه على ما حلف عليه، فلا إثم عليه ولا كفّارة عليه في قول مالك وسفيان الثوري، وأصحاب الرأي وكذلك قال أحمد وأبو عبيد. وقال الشافعي : لا إثم عليه، وعليه الكفَّارة. قال المروزي : وليس قول الشافعي في هذا بالقوي، قال : وإن كان الحالف على أنه لم يفعل كذا وكذا، وقد فعل، متعمِّداً للكذب فهو آثم، ولا كفّارة عليه في قول عامَّة العلماء ؛ مالك، وسفيان الثوري، وأصحاب الرأي، وأحمد بن حنبل، وأبي ثور، وأبي عبيد. وكان الشافعي يقول : يكفر ؛ قال : وقد روي عن بعض التابعين مثل قول الشافعي، قال المروزي : أميل إلى قول مالك وأحمد، اه محل الغرض من القرطبي بلفظه، وهو حاصل تحرير المقام في حلف الإنسان «لأفعلن » أو «لا أفعل ».
وأما حلفه على وقوع أمر غير فعله، أو عدم وقوعه، كأن يقول : والله لقد وقع في الوجود كذا، أو لم يقع في الوجود كذا، فإن حلف على ماض أنه واقع، وهو يعلم عدم وقوعه متعمّداً الكذب فهي يمين غموس، وإن كان يعتقد وقوعه فظهر نفيه فهي من يمين اللغو كما قدمنا، وإن كان شاكاً فهو كالغموس، وجعله بعضهم من الغموس.
وإن حلف على مستقبل لا يدري أيقع أم لا ؟ فهو كذلك أيضاً يدخل في يمين الغموس، وأكثر العلماء على أن يمين الغموس لا تكفر لأنها أعظم إثماً من أن تُكفِّرها كفّارة اليمين.
وقد قدمنا قول الشافعي بالكفّارة فيها، وفيها عند المالكية تفصيل، وهو وجوب الكفّارة في غير المتعلقة بالزمن الماضي منها، واعلم أن اليمين منقسمة أيضاً إلى يمين منعقدة على بر، ويمين منعقدة على حِنث، فالمنعقدة بر، هي التي لا يلزم حالفها تحليل اليمين كقوله «والله لا أفعل كذا »، والمنعقدة على حنث، هي التي يلزم صاحبها حل اليمين بفعل ما حلف عليه، أو بالكفّارة كقوله «والله لأفعلن كذا »، ولا يحكم بحنثه في المنعقدة على حنث حتى يفوت إمكان فعل ما حلف عليه، إلا إذا كانت موقَّتة بوقت فيحنث بفواته، ولكن إن كانت بطلاق كقوله على طلاقها «لأفعلن كذا » فإنه يمنع من وطئها حتَّى يفعل ما حلف عليه، لأنه لا يدري أيبر في يمينه أم يحنث ؟ ولا يجوز الإقدام على فرج مشكوك فيه عند جماعة من العلماء منهم مالك وأصحابه.
وقال بعض العلماء : لا يمنع من الوطء، لأنها زوجته، والطلاق لم يقع بالفعل، وممّن قال به أحمد.
المسألة الثانية : اعلم أن اليمين لا تنعقد إلا بأسماء الله وصفاته، فلا يجوز القسم بمخلوق لقوله صلى الله عليه وسلم :«من كان حالفاً فليحلف بالله، أو ليصمت »، ولا تنعقد يمين بمخلوق كائناً من كان، كما أنها لا تجوز بإجماع من يعتد به من أهل العلم، وبالنص الصحيح الصريح في منع الحلف بغير الله، فقول بعض أهل العلم بانعقاد اليمين به صلى الله عليه وسلم لتوقف إسلام المرء على الإيمان به ظاهر البطلان، والله تعالى أعلم.
* * *
المسألة الثالثة : يخرج من عهدة اليمين بواحد من ثلاثة أشياء :
الأول : إبرارها بفعل ما حلف عليه.
الثاني : الكفَّارة، وهي جائزة قبل الحنث وبعده على التحقيق.
الثالث : الاستثناء بنحو إن شاء الله، والتحقيق أنه حل لليمين لا بدل من الكفارة، كما زعمه ابن الماجشون، ويشترط فيه قصد التلفُّظ به، والاتصال باليمين، فلا يقبل الفصل بغير ضروري كالسعال، والعطاس، وما ذهب إليه ابن عباس وغيره من جواز تراخي الاستثناء.
فالتحقيق فيه أن المراد به أن العبد يلزمه إذا قال «لأفعلن كذا » أن يقول : إن شاء الله، كما صرح به تعالى في قوله :﴿ وَلاَ تَقْولَنَّ لشيء إني فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ ﴾ فإن نسي الاستثناء بإن شاء، وتذكره ولو بعد فصل، فإنه يقول : إن شاء الله. ليخرج بذلك من عهدة عدم تفويض الأمور إلى الله وتعليقها بمشيئته، لا من حيث إنه يحل اليمين التي مضت وانعقدت.
ويدل لهذا أنه تعالى قال لأيُّوب :﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ ﴾، ولو كان تدارك الاستثناء ممكناً لقال له قل : إن شاء الله، ويدل له أيضاً أنه ولو كان كذلك لما علم انعقاد يمين لإمكان أن يلحقها الاستثناء المتأخر، واعلم أن الاستثناء بإن شاء الله يفيد في الحلف بالله إجماعاً.
واختلف العلماء في غيره كالحلف بالطلاق والظهار والعتق، كأن يقول : إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله، أو أنت علي كظهر أمي إن شاء الله، أو أنت حرة إن شاء الله، فذهب بعض العلماء إلى أنه لا يفيد في شيء من ذلك، لأن هذه ليست أيماناً، وإنما هي تعليقات للعتق والظهار والطلاق ؛ والاستثناء بالمشيئة إنما ورد به الشرع في اليمين دون التعليق، وهذا مذهب مالك وأصحابه، وبه قال الحسن، والأوزاعي، وقتادة، ورجحه ابن العربي وغيره.
وذهب جماعة من العلماء إلى أنه يفيد في ذلك كلِّه، وبه قال الشافعي. وأبو حنيفة، وطاوس، وحماد، وأبو ثور، كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني، وفرق قوم بين الظهار وبين العتق والطلاق، لأن الظهار فيه كفارة فهو يمين تنحل بالاستثناء، كاليمين بالله والنذر، ونقله ابن قدامة في المغني عن أبي موسى، وجزم هو به.
* * *
المسألة الرابعة : لو فعل المحلوف عن فعله ناسياً، ففيه للعلماء ثلاثة مذاهب :
الأول : لا حِنث عليه مطلقاً، لأنه معذور بالنسيان، والله تعالى يقول :﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ ﴾[ الأحزاب : ٥ ]، وقال صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللَّهَ تجاوز لي عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه "، وهذا الحديث وإن أعله الإمام أحمد، وابن أبي حاتم، فإن العلماء تلقوه بالقبول قديماً وحديثاً، ويشهد له ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ ﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ]، قال الله نعم » ومن حديث ابن عباس : قال الله «قد فعلت » وكون من فعل ناسياً لا يحنث هو قول عطاء، وعمرو بن دينار، وابن أبي نجيح، وإسحاق، ورواية عن أحمد، كما قاله صاحب المغني، ووجه هذا القول ظاهر للأدلة التي ذكرنا.
الثاني : وذهب قوم إلى أنه يحنث مطلقاً، وهو مشهور مذهب مالك، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد والزهري وقتادة، وربيعة وأبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي، كما نقله عنهم صاحب المغني، ووجه هذا القول عند القائل به أنه فعل ما حلف لا يفعله عمداً، فلما كان عامداً للفعل الذي هو سبب الحنث لم يعذر بنسيانه اليمين، ولا يخفى عدم ظهوره.
الثالث : وذهب قوم إلى الفرق بين الطلاق والعتق وبين غيرهما، فلا يعذر بالنسيان في الطلاق والعتق، ويعذر به في غيرهما، وهذا هو ظاهر مذهب الإمام أحمد، كما قاله صاحب المغني قال : واختاره الخلال، وصاحبه، وهو قول أبي عبيد.
قال مقيده عفا الله عنه : وهذا القول الأخير له وجه من النظر، لأن في الطلاق والعتق حقّاً لله وحقاً للآدمي، والحالف يمكن أن يكون متعمداً في نفس الأمر، ويدعي النسيان لأن العمد من القصود الكامنة التي لا تظهر حقيقتها للناس، فلو عذ
يفهم مِن هذه الآية الكريمة أن الخمر نجسة العين، لأن الله تعالى قال : إنها رجس، والرِّجْس في كلام العرب كل مستقذر تعافه النفس.
وقيل : إن أصله من الركس، وهو العذرة والنتن. قال بعض العلماء : ويدل لهذا مفهوم المخالفة في قوله تعالى في شراب أهل الجنَّة ﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ﴾ [ الإنسان : ٢١ ]، لأن وصفه لشراب أهل الجنة بأنه طهور يفهم منه، أن خمر الدنيا ليستْ كذلك، ومما يؤيِّد هذا أن كل الأوصاف التي مدح بها تعالى خمر الآخرة منفية عن خمر الدنيا، كقوله :﴿ لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ﴾ [ الصافات : ٤٧ ]، وكقوله :﴿ لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ ﴾ [ الواقعة : ١٩ ]، بخلاف خمر الدنيا ففيها غَوْل يغتال العقُول وأهلها يصدَّعون. أي يصيبهم الصداع الذي هو وجع الرأس بسببها، وقوله ﴿ لا يُنزَفُونَ ﴾ على قراءة فتح الزاي مبنياً للمفعول، فمعناه : أنهم لا يسكرون، والنزيف السكران، ومنه قول حميد بن ثور :
نزيف ترى ردع العبير بجيبها | كما ضرّج الضاري النزيفُ المكلما |
وإذ هي تمشي كمشّي النزيف | يصرعه بالكثِيب البهر |
نزيف إذا قامتْ لوجه تمايلت | تراشى الفؤاد الرخص ألا تخترا |
فلثمتُ فاها آخذاً بقرونِها | شرب النزيف ببرد ماء الحشرج |
أحدهما : أنه من أنزف القوم إذا حان منهم النزف وهو السكر ؛ ونظيره قولهم : أحصد الزرع إذا حان حصاده وأقطف العنب إذا حان قطافه، وهذا القول معناه راجع إلى الأول.
والثاني : أنه من أنزف القوم إذا فنيت خمورهم، ومنه قول الحطيئة :
لعمري لئن أنزفتموا أو صحوتموا | لَبِئس الندامى أنتم آل أبجرا |
واستدلُّوا لطهارة عينها بأن المذكورات معها في الآية من مال ميسر، ومال قِمار وأنصاب وأَزلام ليست نجسة العين، وإن كانت محرَّمة الاستعمال.
وأُجِيب من جهة الجمهور بأن قوله ﴿ رِجْسٌ ﴾ يقتضي نجاسة العين في الكل، فما أخْرجه إجماع، أو نصّ خرج بذلك، وما لم يخْرجه نصّ ولا إجماع، لزم الحكم بنجاسته، لأن خروج بعض ما تناوله العام بمخصّص من المخصصات، لا يسقط الاحتجاج به في الباقي، كما هو مقرر في الأصول، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود :
وهو حجّة لدى الأكثر إن | مخصّص له معيناً يبِن |
قال مُقيِّده عفا الله عنه : لا يخفَى على منصف أن التضمخ بالطِّيب المذكور والتلذذ بريحه واستطابته. واستحسانه مع أنه مسكر، والله يصرح في كتابة بأن الخمر رجس فيه ما فيه، فليس للمسلم أن يتطيب بما يسمع ربَّه يقول فيه :﴿ إنَّهُ رِجْسٌ ﴾ كما هو واضح، ويؤيده «أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإراقة الخمر » فلو كانت فيها منفعة أخرى لبينها، كما بين جواز الانتفاع بجلود الميتة، ولما أراقها.
واعلم أن ما استدل به سعيد بن الحداد، القروي على طهارة عَين الخمر بأن الصحابة أراقوها في طرق المدينة، ولو كانت نجسة، لما فعلوا ذلك ولَنهاهم النَّبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، كما نهاهم عن التخلي في الطرق، لا دليل له فيه، فإنها لا تعم الطرق، بل يمكن التحرز منها، لأن المدينة كانت واسِعة، ولم تكُن الخمر كثيرة جِداً بحيث تكون نَهراً أو سيلاً في الطرق يَعمُّها كلها، وإنما أُرِيقت في مواضع يسيرة يمكن التحرز منها، قاله القرطبي، وهو ظاهر.
هذه الآية الكريمة يفهم من دليل خطابها أي مفهوم مخالفتها أنهم إن حلوا من إحرامهم، جاز لهم قتل الصيد، وهذا المفهوم مصرح به في قوله تعالى :﴿ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ ﴾، يعني إن شئتم كما تقدم إيضاحه في أول هذه السورة الكريمة.
قوله تعالى :﴿ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً ﴾ الآية.
ذَهب جمهور العلماء إلى أن معنى هذه الآية الكريمة :﴿ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً ﴾ لِقَتْلِه ذاكراً لإحرامه، وخالف مجاهد رَحمه الله الجمهور قائلاً : إن معنى الآية :﴿ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً ﴾ لِقَتْله في حال كونه ناسياً لإحْرامه، واستدل لِذلك بقوله تعالى :﴿ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ﴾، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب أن مِن أنواع البيان التي تضمنها أنْ يقول بعض العلماء في الآية قولاً، ويكون فيها قرينة دالة على عدم صحّة ذلك القول ؛ وإذا عرفت ذلك فاعلم أن في الآية قرينة واضحة دالة على عدم صحّة قول مجاهد رحمه الله، وهي قوله تعالى :﴿ لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ﴾، فإنه يدل على أنه مُتعمِّداً أمراً لا يجوز، أما الناسي فهو غَير آثِم إجماعاً، فلا يناسِب أن يقال فيه :﴿ لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ﴾، كما ترى، والعِلْم عند الله تعالى.
ظاهر عموم هذه الآية الكريمة يشمل إباحة صيد البحر للمحرم بحج أو عمرة، وهو كذلك، كما بينه تخصيصه تعالى تحريم الصيد على المحرم بصيد البر في قوله :﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ ﴾ [ المائدة : ٩٦ ]، فإنه يفهم منه أن صيد البحر لا يحرم على المحرم، كما هو ظاهر.
* * *
مسائل تتعلق بالاصطياد في الإحرام أو في الحرم
المسألة الأولى : اجمع العلماء على منع صيد البر للمحرم بحج أو عمرة.
وهذا الإجماع في مأكول اللحم الوحشي كالظبي والغزال ونحو ذلك، وتحرم عليه الإشارة إلى الصيد والدلالة عليه، لما ثبت في الصّحيحين من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، «أنه كان مع قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حَلاَلٌ وهم مُحْرِمُونَ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم محرم أمَامَهُمْ، فَأَبْصَروا حِمَاراً وَحْشِياً وأبو قتادة مشغول يخْصِفُ نعله فلم يؤذنوه، وأحبوا لو أنه أبصره فأبصره فأسرج فرسه ؛ ثم ركب ونسي سوطه ورمحه فقال لهم : ناولوني السّوط والرمح، فقالوا : والله لا نعينك عليه، فغضب فنزل فأخذهما فركِبَ فَشَدَّ على الحمار فَعَقَرَهُ ثم جاء به، وقد مات فوقعوا فيه يأكلونه، ثم إنهم شَكوا في أكلهم إيَّاه وهم حُرم، فأدركوا النَّبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه فَقَرَّرَهُم على أكله، وناوله أبو قتادة عضُدَ الحمار الوحشي، فأكل منها صلى الله عليه وسلم »، ولمسلم «هل أشار إليه إنسان أو أمره بشيء، قالوا : لا، قال : فكلوه ».
وللبخاري «هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها قالوا : لا، قال : فكلوا ما بقى من لحمها »، وقد أجمع جميع العلماء على أن ما صاده محرم لا يجوز أكله للمحرم الذي صاده، ولا لمحرم غيره، ولا لحلال غير محرم لأنه ميتة.
واختلف العلماء في أكل المحرم مما صاده حلال على ثلاثة أقوال، قيل : لا يجوز له الأكل مطلقاً، وقيل : يجوز مطلقاً، وقيل : بالتفصيل بين ما صاده لأجله، وما صاده لا لأجله فيمنع الأول دون الثاني.
واحتج أهل القوم الأول بحديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه «أنه أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً وهو بالأبواء أبو بودان فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم » متفق عليه، ولأحمد ومسلم «لحم حمار وحشي ».
واحتجوا أيضاً بحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أهدي له عضو من لحم صيد فرده، وقال : إنا لا نأكله إنا حرم » أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي.
واحتجوا أيضاً بعموم قوله تعالى :﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ﴾ [ المائدة : ٩٦ ]، ويروى هذا القول عن علي وابن عباس وابن عمر، والليث والثوري وإسحاق وعائشة وغيرهم.
واحتج من قال : بجواز أكل المحرم ما صاده الحلال مطلقاً بعموم الأحاديث الواردة بجواز أكل المحرم من صيد الحلال، كحديث طلحة بن عبيد الله عند مسلم، والإمام أحمد «أنه كان في قوم محرمين فأهدي لهم طير، وطلحة راقد، فمنهم من أكل ومنهم من تورع فلم يأكل فلما استيقظ طلحة رضي الله عنه وفق من أكله وقال :«أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ».
وكحديث البهزيّ واسمه زيد بن كعب، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم في حمار وحشي عقير في بعض وادي الروحاء وهو صاحبه «شأنكم بهذا الحمار، فأمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقسمه في الرفاق وهم محرمون »، أخرجه الإمامان مالك في موطئه وأحمد في مسنده، والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره، كما قاله ابن حجر، وممن قال بإباحته مطلقاً أبو حنيفة وأصحابه.
قال مقيده، عفا الله عنه : أظهر الأقوال وأقواها دليلاً، هو القول المفصل بين ما صيد لأجل المحرم، فلا يحل له، وبين ما صاده الحلال، لا لأجل المحرم، فإنه يحل له.
والدليل على هذا أمران :
الأول : أن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن، لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، ولا طريق للجمع إلا هذه الطريق.
ومن عدل عنها لابد أن يلغي نصوصاً صحيحة.
الثاني : أن جابراً رضي الله عنه، روى عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«صيد البر لكم حلال، وأنتم حرم ما لم تصيدوه، أو يصد لكم »، رواه الإمام أحمد وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، والدارقطني.
وقال الشافعي : هذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس، فإن قيل في إسناد هذا الحديث، عمرو بن أبي عمرو، مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن مولاه المطلب، عن جابر، وعمرو مختلف فيه، قال فيه النسائي : ليس بالقوي في الحديث، وإن كان قد روى عنه مالك.
وقال الترمذي في مولاه المطلب أيضاً : لا يعرف له سماع من جابر، وقال فيه الترمذي أيضاً في موضع آخر قال محمد : لا أعرف له سماعاً من أحد من الصحابة، إلا قوله حدثني من شهد خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالجواب أن هذا كله ليس فيه ما يقتضي رد هذا الحديث، لأن عمراً المذكور ثقة، وهو من رجال البخاري ومسلم، وممن روى عنه مالك بن أنس، وكل ذلك يدل على أنه ثقة، وقال فيه ابن حجر في [ التقريب ] : ثقة ربما وهم، وقال فيه النووي في [ شرح المهذب ] : أما تضعيف عمرو بن أبي عمرو فغير ثابت، لأن البخاري، ومسلماً رويا له في صحيحيهما، واحتجا به، وهما القدوة في هذا الباب.
وقد احتج به مالك، وروى عنه وهو القدوة، وقد عرف من عادته أنه لا يروي في كتابه إلا عن ثقة، وقال أحمد بن حنبل فيه : ليس به بأس، وقال أبو زرعة : هو ثقة، وقال أبو حاتم : لا بأس به.
وقال ابن عدي : لا بأس به، لأن مالكاً روى عنه، ولا يروي مالك إلا عن صدوق ثقة، قلت : وقد عُرِف أن الجرح لا يثبت إلا مفسراً، ولم يفسره ابن معين، والنسائي بما يثبت تضعيف عمرو المذكور، وقول الترمذي : إن مولاه المطلب بن عبد الله بن حنطب، لا يعرف له سماع من جابر، وقول البخاري للترمذي : لا أعرف له سماعاً من أحد من الصحابة إلا قوله : حدثني من شهد خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس في شيء من ذلك ما يقتضي رد روايته، لما قدمنا في سورة النساء من أن التحقيق هو الاكتفاء بالمعاصرة.
ولا يلزم ثبوت اللقي، وأحرى ثبوت السماع، كما أوضحه الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى في مقدمة صحيحه، بما لا مزيد عليه مع أن البخاري ذكر في كلامه هذا الذي نقله عنه الترمذي، أن المطلب مولى عمرو بن أبي عمرو المذكور، صرح بالتحديث ممن سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وهو تصريح بالسماع من بعض الصحابة بلا شك.
وقال النووي في [ شرح المهذب ] : وأما إدراك المطلب لجابر. فقال ابن أبي حاتم، وروى عن جابر قال : ويشبه أن يكون أدركه، هذا هو كلام ابن أبي حاتم، فحصل شك في إدراكه، ومذهب مسلم بن الحجاج الذي ادعى في مقدمة صحيحه الإجماع فيه أنه لا يشترط في اتصال الحديث اللقاء، بل يكتفي بإمكانه، والإمكان حاصل قطعاً، ومذهب علي بن المديني، والبخاري، والأكثرين اشتراط ثبوت اللقاء، فعلى مذهب مسلم الحديث متصل، وعلى مذهب الأكثرين يكون مرسلاً لبعض كبار التابعين، وقد سبق أن مرسل التابعي الكبير يحتج به عندنا إذا اعتضد بقول الصحابة ؛ أو قول أكثر العلماء، أو غير ذلك مما سبق.
وقد اعتضد هذا الحديث، فقال به من الصحابة رضي الله عنهم، من سنذكره في فرع مذاهب العلماء اه، كلام النووي، فظهرت صحة الاحتجاج بالحديث المذكور على كل التقديرات، على مذاهب الأئمة الأربعة ؛ لأن الشافعي منهم هو الذي لا يحتج بالمرسل، وقد عرفت احتجاجه بهذا الحديث على تقدير إرساله.
قال مقيده عفا الله عنه : نعم يشترط في قبول رواية [ المدلس ] التصريح بالسماع والمطلب المذكور مدلس، لكن مشهور مذهب مالك، وأبي حنيفة وأحمد رحمهم الله تعالى صحة الاحتجاج بالمرسل، ولاسيما إذا اعتضد بغيره كما هنا، وقد علمت من كلام النووي موافقة الشافعية.
واحتج من قال بأن المرسل حجة بأن العدل لا يحذف الواسطة مع الجزم بنسبة الحديث لمن فوقها، إلا وهو جازم بالعدالة والثقة فيمن حذفه، حتى قال بعض المالكية : إن المرسل مقدم على المسند ؛ لأنه ما حذف الواسطة في المرسل إلا وهو متكفل بالعدالة والثقة فيما حذف بخلاف المسند، فإنه يحيل الناظر عليه، ولا يتكفل له بالعدالة والثقة، وإلى هذا أشار في [ مراقي السعود ] بقوله في مبحث المرسل :
وهو حجة ولكن رجحا *** عليه مسند وعكس صححا
ومن المعلوم أن من يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى، فظهرت صحة الاحتجاج بالحديث المذكور عند مالك وأبي حنيفة وأحمد مع أن هذا الحديث له شاهد عند الخطيب وابن عدي من رواية عثمان بن خالد المخزومي، عن مالك عن نافع عن ابن عمر، كما نقله ابن حجر في التلخيص وغيره وهو يقويه.
وإن كان عثمان المذكور ضعيفاً لأن الضعيف يقوِّي المرسل، كما عُرف في علوم الحديث، فالظاهر أن حديث جابر هذا صالح، وأنه نص في محل النزاع، وهو جمع بين هذه الأدلة بعين الجمع الذي ذكرنا أولاً، فاتضح بهذا أن الأحاديث الدالة على منع أكل المحرم مما صاده الحلال كلها محمولة على أنه صاده من أجله، وأن الأحاديث الدالة على إباحة الأكل منه محمولة على أنه لم يصده من أجله، ولو صاده لأجل محرم معين حرم على جميع المحرمين خلافاً لمن قال : لا يحرم إلا على ذلك المحرم المعين الذي صيد من أجله.
ويَروى هذا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم «أو يصَدْ لكم » ويدل للأول ظاهر قوله في حديث أبي قتادة، «هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار لها ؟ قالوا : لا، قال : فكلوه » فمهومه أن إشارة واحد منهم تحرمه عليهم كلهم، ويدل له أيضاً ما رواه أبو داود عن علي «أنه دُعِيَ وهو محرم إلى طعام عليه صيد فقال «أطعموه حلالاً فإنا حرم »، وهذا مشهور مذهب مالك عند أصحابه مع اختلاف قوله في ذلك.
* * *
المسألة الثانية : لا تجوز زكاة المحرم للصيد بأن يذبحه مثلاً، فإن ذبحه فهو ميتة لا يحل أكله لأحد كائناً من كان إذ لا فرق بين قتله بالعقر وقتله بالذبح، لعموم قوله تعالى :﴿ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾، وبهذا قال مالك وأصحابه كما نقله عنهم القرطبي وغيره، وبه قال الحسن، والقاسم وسالم، والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه، وقال الحكم والثوري وأبو ثور : لا بأس بأكله، قال ابن المنذر : هو بمنزلة ذبيحة السارق.
وقال عمرو بن دينار وأيوب السختياني يأكله الحلال، وهو أحد قولي الشافعي، كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني، وغيره.
واحتج أهل هذا القول بأن من أباحت ذكاته غير الصيد أباحت الصيد كالحلال، والظاهر هو ما تقدم من أن ذبح المحرم لا يحل الصيد، ولا يعتبر ذكاة له، لأن قتل الصيد حرام عليه، ولأن ذكاته لا تحل له هو أكله إجماعاً، وإذا كان الذبح لا يفيد الحل للذابح، فأولى وأحرى ألا يفيد لغيره، لأن الفرع تبع للأصل في أحكامه، فلا يصح أن يثبت له ما لا يثبت لأصله، قاله القرطبي، وهو ظاهر.
* * *
المسألة الثال
قد يتوهم الجاهل من ظاهر هذه الآية الكريمة عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن نفس الآية فيها الإشارة إلى أن ذلك فيما إذا بلغ جهده فلم يقبل منه المأمور، وذلك في قوله ﴿ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ ﴾، لأن من ترك الأمر بالمعروف لم يهتد، وممن قال بهذا حذيفة، وسعيد بن المسيب، كما نقله عنهما الألوسي في تفسيره، وابن جرير، ونقله القرطبي عن سعيد ابن المسيب، وأبي عبيد القاسم بن سلام، ونقل نحوه ابن جرير عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر وابن مسعود.
فمن العلماء من قال :﴿ اهْتَدَيْتُمْ إِلَى ﴾ أي أمرتم فلم يسمع منكم، ومنهم من قال : يدخل الأمر بالمعروف في المراد بالاهتداء في الآية، وهو ظاهر جداً ولا ينبغي العدول عنه لمنصف.
ومما يدل على أن تارك الأمر بالمعروف غير مهتد، أن الله تعالى أقسم أنه في خسر في قوله تعالى :﴿ وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ ﴾ [ العصر : ١ -٣ ] فالحق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعد أداء الواجب لا يضر الآمر ضلال من ضل ؛ وقد دلت الآيات كقوله تعالى :﴿ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ﴾ [ الأنفال : ٢٥ ]، والأحاديث على أن الناس إن لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر، عمهم الله بعذاب من عنده.
فمن ذلك ما خرجه الشيخان في صحيحهما عن أم المؤمنين أم الحكم زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النَّبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً مرعوباً يقول :«لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج، مثل هذه وحلق بإصبعيه الإبهام، والتي تليها فقلت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث ».
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«مثل القائم في حدود الله، والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً »، أخرجه البخاري والترمذي.
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [ المائدة : ١٠٥ ] وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إن رأى الناس الظالم فلم يأخذوا على يده، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه »، رواه أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، أنه كان الرجل يَلْقَى الرجل فيقول : يا هذا اتق الله، ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشربيه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال :﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بني إسرائيل عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [ المائدة : ٧٨-٨١ ]، ثم قال :«كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم ليلعننكم كما لعنهم ».
رواه أبو داود والترمذي وقال : حسن، وهذا لفظ أبي داود، ولفظ الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لَمَّا وقعت بنو إسرائيل في المعاصِي، نهتهم علماؤُهم فلم ينتهوا فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً، فقال : لا والذي نفسي بيده حتى يأطروهم على الحق أطرا ».
ومعنى تأطروهم أي تعطفوهم، ومعنى تقصرونه : تحبسونه، والأحاديث في الباب كثيرة جداً، وفيها الدلالة الواضحة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل في قوله ﴿ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [ المائدة : ١٠٥ ]، ويؤيده كثرة الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كقوله تعالى :﴿ وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [ آل عمران : ١٠٤ ]، وقوله ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [ آل عمران : ١١٠ ]. وقوله :﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بني إسرائيل عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذالِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ [ المائدة : ٧٨-٧٩ ]، وقوله :﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [ الكهف : ٢٩ ]، وقوله :﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ﴾ [ الحجر : ٩٤ ]، وقوله :﴿ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٦٥ ]، وقوله :﴿ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ﴾ [ الأنفال : ٢٥ ].
والتحقيق في معناها أن المراد بتلك الفتنة التي تعم الظالم وغيره هي أن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بالعذاب، صالحهم وطالحهم وبه فسرها جماعة من أهل العلم والأحاديث الصحيحة شاهدة لذلك كما قدمنا طرفاً منها.
مسائل تتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
المسألة الأولى : اعلم أن كلا من الآمر والمأمور يجب عليه اتباع الحق المأمور به، وقد دلت السنة الصحيحة على «أن من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهي عن المنكر ويفعله أنه حمار من حمر جهنم يجر أمعاءه فيها ».
وقد دل القرآن العظيم على أن المأمور المعرض عن التذكرة حمار أيضاً، أما السنة المذكورة فقوله صلى الله عليه وسلم «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل النار فيقولون : أي فلان ما أصابك، ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر، فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه »، أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
ومعنى تندلق أقتابه : تتدلى أمعاؤه، أعاذنا الله والمسلمين من كل سوء، وعن أنس قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت ليلة أسرى بي رجالا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمِ بِمَقَارِيضَ مِن نار كلما قُرِضَتْ رجعت فقلت لجبريل : من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء خُطَبَاء من أمتك كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون » أخرجه الإمام أحمد، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد والبزار، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية، وابن حيان وابن مردويه والبيهقي، كما نقله عنهم الشوكاني وغيره. وعن ابن عباس رضي الله عنهما «أنه جاءه رجل فقال له : يا ابن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، فقال ابن عباس : أو بلغت ذلك ؟ فقال أرجو، قال : فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل، قال : وما هي ؟ قال قوله تعالى :﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ﴾، وقوله تعالى عن العبد الصالح شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ﴿ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾ [ هود : ٨٨ ] الآية، أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، وابن مردويه، وابن عساكر، كما نقله عنهم أيضاً الشوكاني وغيره.
واعلم أن التحقيق أن هذا الوعيد الشديد الذي ذكرنا من اندلاق الأمعاء في النار، وقرض الشفاه بمقاريض النار، ليس على الأمر بالمعروف. وإنما هو على ارتكابه المنكر عالماً بذلك، ينصح الناس عنه، فالحق أن الأمر بالمعروف غير ساقط عن صالح، ولا طالح، والوعيد على المعصية، لا على الأمر بالمعروف، لأنه في حد ذاته ليس فيه إلا الخير، ولقد أجاد من قال :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله | عار عليك إذا فعلت عظيم |
وغير تقي يأمر الناس بالتقى | طبيب يداوي الناس وهو مريض |
فإنك إذ ما تأت ما أنت آمر*** به تلف من إياه تأمر آتيا
وأما الآية الدالة على أن المعرض عن التذكير كالحمار أيضاً، فهي قوله تعالى ﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ﴾ [ المدثر : ٤٩-٥١ ] والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، فيجب على المذكر بالكسر والمذكر بالفتح أن يعملا بمقتصى التذكرة، وأن يتحفظا من عدم المبالاة بها، لئلا يكونا حمارين من حمر جهنم.
* * *
المسألة الثانية : يشترط في الآمر بالمعروف أن يكون له علم يعلم به، أن ما يأمر به معروف، وأن ما ينهى عنه منكر، لأنه إن كان جاهلاً بذلك فقد يأمر بما ليس بمعروف، وينهي عما ليس بمنكر، ولاسيما في هذا الزمن الذي عم فيه الجهل وصار فيه الحق منكراً، والمنكر معروفاً والله تعالى يقول ﴿ قُلْ هذه سبيلي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعني ﴾ [ يوسف : ١٠٨ ] الآية، فدل على أن الداعي إلى الله لا بد أن يكون على بصيرة، وهي الدليل الواضح الذي لا لبس في الحق معه، وينبغي أن تكون دعوته إلى الله بالحكمة، وحسن الأسلوب، واللطافة مع إيضاح الحق ؛ لقوله تعالى ﴿ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ [ النحل : ١٢٥ ] الآية، فإن كانت دعوته إلى الله بقسوة وعنف وخرق، فإنها تضر أكثر مما تنفع، فلا ينبغي أن يسند الأمر بالمعروف إسناداً مطلقاً، إلا لمن جمع بين العلم والحكمة والصبر على أذى الناس، لأن الأمر بالمعروف وظيفة الرسل، وأتباعهم وهو مستلزم للأذى من الناس، لأنهم مجب
ذكر في هذه الآية الكريمة أن كاتم الشهادة آثم، وبين في موضع آخر أن هذا الإثم من الآثام القلبية، وهو قوله :﴿ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ [ البقرة : ٢٨٣ ]، ومعلوم أن منشأ الآثام والطاعات جميعاً من القلب، لأنه إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد الجسد كله.
معناه إخراجهم من قبورهم أحياء بمشيئة الله، وقدرته كما أوضحه بقوله :﴿ وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [ آل عمران : ٤٩ ]
قوله تعالى :﴿ إذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتم بالبينات ﴾
لم يذكر هنا كيفية كفه إياهم عنه، ولكنه بينه في مواضع أخر، كقوله ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ [ النساء : ١٥٧ ]، وقوله :﴿ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينا بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ﴾ [ النساء : ١٥٧-١٥٨ ] الآية، وقوله :﴿ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ [ آل عمران : ٥٥ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
قال بعض أهل العلم : المراد بالإيحاء إلى الحواريين الإلهام، ويدل له ورود الإيحاء في القرآن بمعنى الإلهام كقوله :﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ﴾ [ النحل : ٦٨ ] الآية يعني ألهمها، قال بعض العلماء : ومنه ﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ﴾ [ القصص : ٧ ]، وقال بعض العلماء معناه : أوحيت إلى الحواريين إيحاء حقيقياً بواسطة عيسى عليه، وعلى نبينا الصلاة والسلام.