هذه سورة المائدة جاءت بعد سورة النساء وسميت سورة المائدة لأنها اشتملت في آخرها على طلب الحواريين من عيسى ابن مريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم أن ينزل عليهم ربهم مائدة من السماء واستجاب عيسى عليه السلام لما طلبوا فطلب من الله تعالى قائلا كما أخبر القرآن الكريم عنه :﴿... اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين( ١١٤ ) ﴾.
وقد نزلت بعد فتح مكة، وهي سورة مدنية وإن قال الأكثرون : إن آية :﴿... اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا...( ٣ ) ﴾ إنها نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات في حجة الوداع لأنها نزلت على أي حال بعد الهجرة.
وهي من آخر القرآن نزولا، وقد اشتملت على أحكام شرعية كثيرة، وابتداؤها يدل على ما فيها فقد ابتدأت بوجوب الالتزام بالتكليفات التي كلف الله عبيده إياها، وما يعقده العبد مع الناس ثم أردفت ذلك ببيان الحلال من الذبائح والحرام منها، مع الإشارة إلى تحريم الصيد في الحرم من المحرمين واحترام الشعائر في الحج.
ثم أشارت من بعد ذلك إلى تمام الشرع الإسلامي وكماله وتكلمت السورة الكريمة من بعد ذلك في العلاقات بين المسلمين وأهل الكتاب من الناحية الشخصية وإباحة ذبائحهم وحل نسائهم.
وبعد أن بينت هذه المباحات من الطيبات، أخذت تتجه إلى غذاء الروح بعد غذاء الجسم، وهو الصلاة وما يجب أن يتقدمها وأن العبادات لا يريد الله تعالى منها بعباده الضيق والحرج، ولكن الطهارة النفسية.
﴿... ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم...( ٦ ) ﴾ وإن الطهارة في الصلاة لها غاية اجتماعية عالية، وهي حسن التعامل وإقامة العدالة ولذلك أمر من بعد هذا بإقامة العدالة مع العدو، ومع الولي على سواء ثم ذكر المؤمنين بأن العدالة هي التي تحمي المجتمعات وأن الله تعالى حماهم عندما هم قوم أن يبسطوا أيديهم بإيذائهم، ثم ذكرهم ببني إسرائيل أنهم عندما نقضوا الميثاق الذي أخذه الله تعالى عليهم بإقامة العدل لعنهم الله تعالى، وجعل قلوبهم قاسية قد غلقت عن الحق، وأغلفت على تحكم الهوى، فأخذوا يحرفون الكتب ويحذفونها منها ما لا تهوى الأنفس، وكذلك فعل النصارى حتى ادعوا الألوهية للمسيح عيسى ابن مريم، فكفروا واسترسلوا حتى ادعى اليهود والنصارى أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه، ثم وجه الله تعالى الخطاب من بعد للذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الحق، ويقيم الحجة عليهم بهذه الدعوة القائمة.
وإن الذل يفسد القلوب ويذهب النخوة وكذلك كان الأمر بالنسبة لليهود، فقد ذكرت السورة الكريمة أنهم بعد أن ضربت عليهم الذلة في مصر أراد موسى عليه السلام بأمر ربه أن يجعل منهم قوما ذوي بأس، فأراد أن يقودهم ليدخلوا الأرض المقدسة ولكنهم آثروا الاستنامة فأخذوا يتيهون في الأرض أربعين سنة.
وإن النفس البشرية إذا دخلها الحسد فسدت، وصارت العداوة بدل المودة في موضع كان يجب أن تسوده المحبة، وقد ذكر الله تعالى في هذه السورة خبر ابني آدم إذ قتل أحدهما الآخر لأنه قبل قربانه ولما أخذه الندم بعد فوات وقت العمل حار في مواراة جثة أخيه، حتى تعلمها من غراب أخذ يبحث في الأرض ليواري جثة غراب مثله.
وإذا كان الحسد حتى في العبادات يؤدي إلى القتل فلذلك شرعت عقوبة القصاص، كما ذكر النص القرآني في هذه السورة الجامعة.
وإذا كان الحقد البشري في الجماعات هو الذي يؤدي إلى أشد الجرائم فتكا بها، فقد ذكر سبحانه عقوبات شديدة تناسب الجرائم العنيفة الشديدة، فذكر سبحانه عقوبة الذين يحاربون النظام، وينقضون على الشرع ويزعجون الآمنين ويقطعون الطريق على السابلة١، وقد ذكر سبحانه وتعالى بعد ذكر عقوبة قطع الطريق المغلظة بطبيعتها ذكر سبحانه أن طلب الحق والجهاد في سبيله وتثبيت النظام الإسلامي ووضعه في نصابه، هو الوسيلة الكبرى للتقرب إلى الله تعالى.
وذكر من بعد عقوبة الذين يهددون الأمن بقوة قاهرة ظاهرة، وحكم الذين يهددون الأمن في خفية، ويزعجون الناس في مآمنهم، فذكر عقوبة السرقة وهي قطع اليد.
وبعد بيان هذه العقوبات الزاجرة للجرائم المنبعثة، والتي يسوق إليها الحقد والحسد أخذ يبين سبحانه حال أهل الكتاب من اليهود، وما فسدت به قلوبهم من حقد أثر في قولهم واعتقادهم، وأوجد النفاق في قلوبهم وجعل أعمالهم إثما مستمرا، وأنهم لم ينفذوا أحكام التوراة في جرائمهم، وأرادوا أن يفروا منها إلى أحكام الإسلام زاعمين أنها تخفف عنهم، وقد بين سبحانه أحكام التوراة التي نزلت على موسى، ووجوب أن يخضعوا لها، كما يجب أن يخضع أهل الإنجيل لما جاء في الإنجيل ومنها التبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأشار سبحانه وتعالى إلى أن لكل أمة جعل سبحانه شرعة ومنهاجا مؤقتا، حتى جاءت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
وإنه بعد نزول القرآن لا حكم إلا له، ولذا قال سبحانه :﴿ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم بعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون( ٤٩ ) أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون( ٥٠ ) ﴾.
وإن الحقد الذي سكن قلوب الذين يخالفونكم من أهل الكتاب لا يسوغ لكم أن تتخذوا منهم نصراء، فإن بعضهم نصراء لبعضهم، وإن الذي يرضى أن يكونوا أولياء الله عليه يكون منهم، وإن من يفعل ذلك يكون مرتدا عن دينه خاذلا له، ومن يرتد عن دينه لا يخسر الله تعالى به شيئا، بل سيخلفه في الإسلام قوم يحبهم الله ويحبونه بعد أن زال فساد المنافقين المرتدين.
وبين سبحانه وتعالى أن الولاية لله وحده وأن اليهود يتخذون الإسلام هزوا ولعبا، وأنهم يسارعون في الإثم والعدوان متنقلين في دركاتهما وأن الذي أفسدهم أنهم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، وأنهم لم يقيموا التوراة والإنجيل، وقد أمر الله نبيه في وسط ذلك الغبار الذي يثيرونه أن يبلغ ما أنزل إليه، وقد بين سبحانه بعد ذلك أنه من يخلص لله يدخل الجنة، لأنه لا محالة سيدرك ما جاء به محمد ويؤمن به، ولقد بين سبحانه كفر الذين ألهوا المسيح، وقالوا : إن الله تعالى ثالث ثلاثة، وبين أنه يجب أن يرجعوا إلى الله تعالى، ولكنهم غلوا في دينهم، فغلا النصارى في شأن المسيح فقدسوه وألهوه، وغلا اليهود في الطعن فيه، وهموا بقتله وادعوا أنهم قتلوه.
وقد بين سبحانه وتعالى بعد ذلك مراتب أعداء المؤمنين فذكر أنه في المرتبة الأولى في العداوة اليهود والمشركون، والنصارى أقرب مودة من غيرهم وذكر سبحانه حال النصارى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا يسارعون إلى الإيمان إذا سمعوا الحق كما قال تعالى :
﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا من الشاهدين( ٨٣ ) ﴾.
بعد هذا البيان المعجز، الذي ابتدأ بذكر آثار الحسد والحقد في بني آدم إذ قربا قربانا، ثم ما أدى إليه الحقد من كفر وطغيان وطمس للحقائق، ومعاندة لأوامر الله تعالى، وفساد للنفوس بعد هذا أخذ يبين سبحانه إباحة الطيبات وأنه لا يصح تحريمها على النفس وأن من يحرمها على نفسه بيمين فليحنث وليكفر، وتكفير اليمين عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم فمن لم يجد شيئا من هذا فليصم ثلاثة أيام.
وإذا كان الله تعالى أباح الطيبات، فقد حرم الخبائث وأول الخبائث الخمر والميسر، وإن الخمر أم الخبائث وأم الجرائم وإنه ليس على المؤمنين إثم فيما يتناولون من طيبات إنما الإثم فيما يتناولون من خبائث.
وقد بين سبحانه أنه من الطيبات ما يحرم في بعض الأوقات لا لذاته بل للمكان الذي يكون فيه، والحال التي يكون فيها، فحرم الصيد في البيت الحرام للمحرمين، وأن المنع مقصور على صيد البر، ولا يشمل صيد البحر وإن ذلك لمكانة البيت، ولمكانة الإحرام وقد ذكر سبحانه وتعالى مقام البيت ومكانته.
وأن الخبيث من الأشياء ومن الأشخاص لا يستوي مع الطيب، وندد سبحانه بالذين يحرمون بعض الطيبات على أنفسهم لأوهام توهموها، وأفكار جاهلية اعتنقوها.
وأن الذي يقوم بالواجب ويبين الخير ويدعو إليه لا يكون مسؤولا عمن يضل من بعد.
وفي وسط أحكام الحلال والحرام أخذت الصورة تبين سببا من أسباب الملكية، وهو الوصية في السفر وطريق إثباتها.
بعد ذلك أخذ يبين الضلال الذي وقع فيه الذين ادعوا المسيحية وهو ألوهية المسيح، مع ذكر معجزاته عليه السلام ومنها أنه يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وأنه أخرج الموتى بإذن الله تعالى، وأنه نزلت عليه المائدة من السماء.
ومع هذه المعجزات الباهرة كفر به من كفر، وشهد الحواريون بأنه رسول من عند الله، وغالى غيرهم فزعموا أنه وأمه إلهان، ومنهم من زاد غيرهما.
وقد ذكر سبحانه وتعالى أنه سيخاطب عيسى يوم القيامة عن هذا الذي افتراه على المسيح ونذكر هذه المجاوبة بالنص.
﴿ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب( ١١٦ ) ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد( ١١٧ ) إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم( ١١٨ ) قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم( ١١٩ ) لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير( ١٢٠ ) ﴾.
هذه نظرات كليلة في سورة المائدة، ولننظر في ذكر معانيها.
ﰡ
هذه أول آية من السورة، وهي تأمر المؤمنين بأن يوفوا بالعهود التي أخذت عليهم بمقتضى الإيمان وهي الطاعة لله تعالى ولرسوله والقيام بالتكليفات الشرعية، فالعقد هو كل ما يلتزمه المؤمنون، سواء أكان في الأحكام التكليفية أم من العهود التي يلتزم بها العباد، وبذلك تشمل ما يعقده الإنسان مع غيره من عقود واجبة الوفاء، وما يتبادلان فيه الالتزام كالبيع والإجارة وغيرهما وتشمل ما يلتزمه المؤمن من صدقات وما يلزمه الوفاء به بحكم الإيمان فإن الإيمان ميثاق يلتزم فيه العبد بالطاعة فإذا عصى فقد نقض ذلك الميثاق وذلك كما كان يفعل اليهود من نقض للمواثيق المؤكدة، وإن الأصل اللغوي لمعنى كلمة عقد أنه ربط لطرفي شيء، ومنه العقدة وقد أطلق على الربط بين كلامين كالعقود القائمة، وأطلقه القرآن كما في هذا النص على كل الأحكام الواجبة الطاعة لها، لأنها تشمل معنى الربط لأن المؤمن بمقتضى إيمانه قد عاهد الله تعالى على طاعته والأخذ بكل ما يأمر به وبكل ما ينهى عنه وقد جمع الراغب الأصفهاني معنى كلمة عقد فقال :"العقد : الجمع بين أطراف الشيء ويستعمل ذلك في الأجسام الصلبة كعقد الحبل، وعقد البناء ثم يستعار للمعاني فيقال نحو عقد البيع والعهد وغيرهما، يقال : عاقدته وعقدته وتعاقدنا وعقدت يمينه...".
والعقد على هذا : كل ارتباط يرتبط به المؤمن بموجب النقل أو بموجب العقل وهو ما يدركه بالبديهة وأدنى نظر، سواء أكان بينه وبين نفسه بمقتضى إيمانه وخلقه وإنسانيته أم كان بينه وبين غيره، وكل هذا واجب الوفاء بحكم الله تعالى فأوامر الله تعالى ونواهيه واجبة الوفاء، وعقود الإنسان مع غيره واجبة الوفاء إلا أن يكون فيها مخالفة لأمر الله تعالى ونهيه، فكل اتفاق على خلاف ذلك رد على صاحبه، ولا وفاء فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم :"المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا"١ ولقوله صلى الله عليه وسلم :"كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، ولو كان مائة شرط"٢، ولأن تنفيذ العقود التي تتضمن خلاف ما جاء عليه الشرع يكون تنفيذها نقضا لعهد المؤمن الذي يجب تنفيذه وهو طاعة الله تعالى ورسوله، وعهد الله تعالى أولى بالوفاء، ولأن عقود الناس تستمد قوة الوفاء من أمر الله فلا يصح أن تكون على خلافه.
فالعقد : معناه في اللغة العربية ضم طرف إلى طرف وربطهما ربطا محكما، يقال : عقد الرجل طرفي الحبل أو الحبلين إذا ربط أحدهما بالآخر، وضده الحل أي فك هذا الربط وسمي الإيجاب والقبول عقدا لأنهما يضمان إرادتي المتعاقدين، ويربطان أحدهما بالآخر.
والعقد معناه في استعمال القرآن الارتباط، والعقود والعهود والمواثيق والمعاهدات والمحالفات والتعهدات والاتفاقات والالتزامات كلها في استعمال القرآن والاصطلاح الشرعي ألفاظ متقاربة المعنى المراد بها الارتباطات، سواء أكانت ارتباطات بين أفراد أو حكومات أو جماعات، وسواء أكانت ارتباطات على عمل أو على كف عن عمل، والفروق التي يقررها علماء القانون الدولي لهذه الألفاظ لا تعرف في الاصطلاح الشرعي.
والإيفاء بالعقد معناه تنفيذ ما يقتضيه والقيام بما يوجبه وافيا تاما غير منقوص، والإيفاء بالعقد والوفاء به والتوفية به ألفاظ مترادفة معناها واحد.
والمعنى بالإجمال : يا أيها المؤمنون نفذوا ارتباطاتكم، وقوموا بما تعاقدتم على القيام به وافيا تاما، وقد ذكر سبحانه العقود التي أمر بالإيفاء بها بصيغة العموم ولم يخصصها بنوع لتشمل كل ارتباط يرتبط به المؤمن، سواء أكان ارتباطه مع ربه أم ارتباطه مع نفسه أم ارتباطه مع فرد آخر، وسواء أكان ارتباط جماعتهم أو حكومتهم على عمل، أو كف عن عمل ولهذا قال المحققون من المفسرين : العقود التي أمر الله المؤمنين أن يوفوا بها تشمل أربعة أنواع :
الأول : العقود التي عقدها المؤمن مع ربه بسبب إيمانه فكل من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد التزم لله بأن يطيعه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وإحلال ما أحله وتحريم ما حرمه، فهذا عقد بين المؤمن وربه، وسبب الالتزام فيه إيمانه. وإلى هذا أشار الله سبحانه بقوله :﴿ واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا... ( ٧ ) ﴾، وبقوله :﴿ الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق( ٢٠ ) ﴾( الرعد ).
الثاني : العقود التي عقدها المؤمن مع نفسه بسبب حلفه على أن يفعل فعلا أو يكف عن فعل، أو نذره أن يفعل فعلا أو يكف عن فعل فكل من حلف على فعل أو كف عن فعل أو نذر فعلا أو كفا عن فعل فقد التزم أن يبر بيمينه، وأن يوفي بنذره. وسبب الالتزام يمينه أو نذره. وإلى هذا أشار الله سبحانه بقوله :﴿... وليوفوا نذورهم...( ٢٩ ) ﴾( الحج ).
الثالث : العقود التي يعقدها الأفراد بعضهم مع بعض من بيع وإجارة ورهن وشركة ومضاربة وزواج ونحوها، فكل من ارتبط مع غيره بعقد فعليه أن ينفذ موجب هذا العقد ولا يخل بشيء مما يقتضيه وسبب الالتزام عقده بإرادته واختياره.
الرابع : العقود التي تعقدها الحكومة الإسلامية مع غيرها من الحكومات في السلم والحرب، فإذا تعاقدت دولة إسلامية مع أية دولة على أحكام عسكرية أو مدنية دفاعية أو هجومية إيجابية أو سلبية فعلى الحكومة أن توفي بعقودها وتنفذ التزاماتها.
فالله سبحانه أمر المؤمنين بأن يوفوا بكل الارتباطات التي يرتبطون بها أفرادا أو جماعات أو حكومات مع ربهم أو مع أنفسهم أو مع أبناء نوعهم.
قال الإمام أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص المتوفي سنة( ٣٧٠ه ) في كتابه في تفسير آيات الأحكام : العقد ما يعقده العاقد مع نفسه على أمر يفعله هو، أو ما يعقده مع غيره، ويسمى اليمين على المستقبل عقدا، لأن الحالف قد ألزم نفسه الوفاء بما حلف عليه من فعل أو ترك، وكذلك العهد والأمان لأن معطيه قد ألزم نفسه الوفاء به، وكذلك كل شرط شرطه الإنسان على نفسه في شيء يفعله في المستقبل فهو عقد، وكذلك النذر وإيجاب القرب وما جرى مجرى ذلك، وقد اشتمل قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ﴾ على كل ذلك وعلى إلزام الوفاء بالعهود والذمم التي نعقدها لأهل الحرب وأهل الذمة والخوارج وغيرهم من سائر الناس، وعلى إلزام الوفاء بالنذور والأيمان. ثم قال : ومتى اختلفنا في جواز عقد من العقود أو فساده أو في صحة نذر ولزومه صح الاحتجاج على جوازه ولزومه بعموم قوله سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ﴾.
وإذا تعارض الإيفاء بعقد من هذه الأنواع الأربعة مع الإيفاء بعقد آخر منها، وجب على المؤمن أن يوفي بعقده مع ربه، ولا يجب عليه أن يوفي بعقده مع نفسه أو مع غيره إذا كان إيفاؤه بعقد منهما يخل بإيفائه بعقد ربه. فإذا حلف على ما فيه مخالفة أمر ربه فليحنث في يمينه وليوف عقده مع ربه ولا يوف بما حلف عليه، ولهذا ورد في الحديث "من حلف على شيء ورأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير منه وليكفر عن يمينه"٣. وإذا عقد عقدا أو شرط شرطا يقضي بتحليل محرم أو تحريم حلال، أو التزام بباطل شرعا فعليه أن يوفي بعقده مع ربه ولا يوفي بما يخالفه من عقود وشروط، ولهذا ورد في الحديث :"المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا"٤.
وقد خاطب الله المخاطبين في أمرهم بالإيفاء بالعقود بوصف الإيمان ليشير إلى أن الإيفاء بالعقود مما يقتضيه الإيمان، وفي هذا حث على امتثال الأمر والإيفاء بالعقد. وهذا الذي أشار إليه القرآن صرح به رسول صلى الله عليه وسلم في سنته إذ عد الوفاء بالعهود من شعائر الإيمان وآيات المؤمن، ففي الحديث :"آية المؤمن ثلاث : إذا حدث صدق، وإذا اؤتمن أدى وإذا وعد وفى"٥ وكما ذكرهم بإيمانهم في بدء هذه السورة إذ أمرهم بالإيفاء بالعقود جملة، ذكرهم بإيمانهم في أمرهم بكل عقد فصله فيها. ففي تفصيل ما حرمه قال :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد...( ٢ ) ﴾.
وفي تفصيل التطهر لأداء الصلاة وهي عماد الدين قال :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم...( ٦ ) ﴾.
وفي تفصيل عماد الدنيا وهو الشهادة بالقسط في إقامة حقوق الله قال :﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط...( ٨ ) ﴾.
فالمقصود بهذا إشعار المؤمنين بأن إيفاءهم بالعقود جملة وتفصيلا هو من مقتضى الإيمان وأن نكث العهود والإخلال بما تقتضيه العقود لا يتفق والإيمان. فالمؤمن حقا يوفي بالتزاماته لربه ولنفسه ولغيره. ومن هنا نفهم معنى الحديث :"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن"٦.
وإن من أوائل الأحكام الشرعية ما أحله الله تعالى، وما أحله سبحانه قيده بقيود ولذا قال تعالى :
﴿... أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم...( ١ ) ﴾ ابتدأ الحكم ببيان الحلال من الأطعمة لسببين أولهما أن العرب كانوا يحرمون في الجاهلية على أنفسهم بعض الحيوان لأوهام ورثوها، لم يأت بها دين، ولم يتصورها عقل، وليس للتحريم سبب يدركه أهل العقول، ثانيهما : أن النص جاء للإباحة مع القيد، فهي حلال بشرط ألا تكون مما يتلى تحريمه، وسيبينه الله تعالى من بعد، والتحريم سببه أحد أمرين : أولهما : ذاتي في ذات الحيوان كالخنزير والميتة، وما يشبه الميتة من التي تردت في منخفض من الأرض فنفقت، أو نطحت فهلكت والثاني عرضي بحال معينة كتحريم الصيد، فالنص لإباحة مقيدة مع ذكر القيد بالإشارة إليه ثم بيانه.
والبهيمة : إسم لكل حيوان أعجم لإبهامه من جهة نقص النطق وعدم تمييزه.
والنعم في أصل الإطلاق العربي يكون على الإبل والبقر والغنم، واشتقاقها من النعمة لأنها من نعمه سبحانه وتعالى التي أنعم الله بها، كما قال تعالى :
﴿ والأنعام خلقها لكم فيها دفئ ومنافع ومنها تأكلون( ٥ ) ﴾( النحل ).
ويصح أن يكون مثل الإبل والبقر والغنم كل حيوان أو طير يتغذى من النبات ولم يرد نص بتحريمه فيدخل الظبي وحمار الوحش وغيرهما من آكلات الأعشاب كما يدخل الطير غير سباعه وغيرها.
﴿ أحلت لكم بهيمة الأنعام ﴾ البهيمة في اللغة العربية : هي كل ذات أربع من الدواب، والأنعام هي الإبل والبقر والغنم ذكورها وإناثها، وقد بينها الله سبحانه في سورة الأنعام بأنها ثمانية أزواج : من الضأن اثنين( الكبش والنعجة ) ومن المعز اثنين( الجدي والعنز ) ومن الإبل اثنين( الجمل والناقة ) ومن البقر اثنين( الثور أو الفحل والبقرة أو الجاموسة ). فهذه هي الأنعام في لسان القرآن.
ولما أمر الله المؤمنين بأن يوفوا بالعقود أخذ يفصل لهم العقود التي أمرهم أن يوفوا بها، وبدأ بأولها وأحقها بالإيفاء وهي عقودهم مع ربهم بمقتضى إيمانهم وبدأ من هذه العقود ببيان ما أباح لهم أكله والانتفاع به من الحيوان، وما حرمه لأن هذا الأكل والانتفاع أكثر ما يعرض للإنسان، وأكثر ما يحتاج إلى معرفة حكمه ولأن أهل الجاهلية كانوا قد جاروا وظلموا في حكمهم في الأنعام، وبنوا تحريمهم لما حرموه منها وتحليلهم ما أحلوه منها على نزعات وثنية وأوهام لا يصح أن يبنى عليها تحريم ولا تحليل، فجعلوا لله مما ذرأ من ال
٢ ذكره البخاري تعليقا: باب المكاتب وما لا يحل من الشروط التي تخالف كتاب الله، ورواه ابن ماجه: الأحكام باب المكاتب (٢٥٢١) عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، كما رواه أحمد بلفظ مقارب، مسند الأنصار باقي المسند السابق (٢٥٢٥٨) عن عائشة رضي الله عنها..
٣ سبق تخريجه..
٤ سبق تخريجه..
٥ سبق تخريجه..
٦ متفق عليه وقد سبق تخريجه..
في الآية السابقة أشار سبحانه وتعالى إلى ما أحل من طيبات، وأشار إلى مكان البيت الحرام وحرمته، وأنه لا يحل صيده والإحرام قائم، وأن الله تعالى يحكم بما يريد وهذا حكمه وأمره، وما على المؤمن إلا الطاعة فيما أمر به، وفي هذه الآية يبين سبحانه وتعالى ما يجب وقد بين الحرمات التي تجب صيانتها ومن تتعلق بهم، وقد ذكر أمورا لا يصح إحلالها وهي شعائر الله تعالى والشهر الحرام والهدي والقلائد والذين يقصدون البيت. وقد ابتدأ بأولها، فقال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام... ﴾. النداء لأهل الإيمان الصادقين في إيمانهم الذين يعملون بما يأمر، وينتهون عما ينهى، وتصدير الكلام بهذا النداء لبيان ما كان محرما في الحج وما يدعو الإسلام إلى الاستجابة إليه من مقتضيات والإحلال معناه أن يخالف أمر الله تعالى فما يكون حراما منهيا عنه في الحج يفعله ويستحله، وما يكون مأمورا به لا يستجيب له وشعائر الله تعالى في هذا المقام المراد بها مناسك الحج، وما حرمه فيه من ثياب في أثناء الإحرام وما أمره به من أمور فيه من السعي بين الصفا والمروة والطواف بالبيت الحرام، والوقوف بعرفة ورمي الجمار وسائر الأفعال، فإن هذه كلها شعائر لله تعالى، كما قال تعالى :﴿ ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ( ٣٢ ) ﴾( الحج ). وكما قال تعالى في بعض هذه المناسك :﴿ إن الصفا والمروة من شعائر الله...( ١٥٨ ) ﴾( البقرة ).
وسميت أعمال الحج شعائر، وهي جمع شعيرة كما سميت مشاعر جمع مشعر وهي أمور معلمة محسوسة مرئية، تدل على اتجاه القلوب إليه سبحانه وتعالى، فكان الإحرام مقترنا بمظهر حسي وهو ألا يلبس مخيطا، وأن يجهر بالتلبية وكان الطواف وهو عمل حسي يدل على الاتجاه إلى ضيافة الرحمن، والإقامة بجوار بيته العتيق أول بيت وضع وفي ذلك اتصال دائم بين الرسالة الإلهية إذ إن الذي بناه أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام فكان الطواف به رمز الوحدة في الرسالة الإلهية، وأن آخرها متصل بأولها، وأنها سلسلة متصلة الحلقات تتم كل واحدة جزءا حتى أوفت على الغاية برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وكذلك السعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة في المشهد الإسلامي الأكبر، ورمي الجمار كما فعل إبراهيم عليه السلام من قبل، وذلك مظهر للتطهر التام والخروج من وسوسة الشيطان ورميه والإعراض عنه.
والأمر الثاني الذي لا يحل ونهي المسلمون عن إحلاله، وهو الشهر الحرام، والمراد النهي عن القتال فيه والشهر مفرد أريد به الجمع وذلك أنه أشهر أربعة كما قال تعالى في سورة براءة :
﴿ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين( ٣٦ ) ﴾( التوبة ).
وهذه الأشهر لا يحل القتال فيها، فلا يبدأ المسلمون القتال فيها، ولكن يدافعون إن اعتدي عليهم فيها، ولهم أن يطلبوا الهدنة إن جاءت في أثناء القتال فيها، فإن كان الذين يقاتلونهم لا يؤمنون بها استمر القتال، إذ لا مناص منه، وقد ادعى كثيرون أن منع القتال في هذه الأشهر نسخ، ولا نجد دليلا يدل على النسخ، بل الأدلة تدل على دوام التحرير بل الأدلة متضافرة على استمرار تحريمها لأن ذلك جاء في سورة المائدة وهي من أواخر القرآن نزولا ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر التحريم في خطبة الوداع ولعل الذين ادعوا النسخ أخذوه من الحروب الإسلامية والواقع أن المسلمين كانوا مضطرين للاستمرار.
والأشهر الحرم هي : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى وشعبان والأشهر الثلاثة الأولى فيها الحج والذهاب إليه والعودة منه، ورجب فيه العمرة والتحريم ليكون الطريق آمنا في مدة الحج.
﴿ ولا الهدي ولا القلائد ﴾ الهدي جمع هدية وهو ما يهدى ويراد به هنا ما يهدى إلى البيت الحرام ليذبح في الحج، وإحلاله المنهي عنه ذبحه في غير موضع الحج، كما قال تعالى :
﴿... ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله...( ١٩٦ ) ﴾( البقرة ) كما أن من إحلاله اغتصابه أو منعه من أن يصل إلى البيت الحرام، والقلائد جمع قلادة، وهي ما تقلد به الهدي ومن الفقهاء من خصها بالبدن( الإبل والبقر ) فلا يقلد سواها، والنهي عن إحلال القلائد قد اختلف المفسرون في معناه وأحسن ما قيل هو ما قرره الزمخشري وهو : أن النهي عن إحلال القلائد هو النهي عن إحلال الهدي الذي حمل القلادة، وكان ذكرها بعد ذكر الهدي عامة من قبيل ذكر الخاص بعد العام، وكان المعنى لا تحلوا الهدي، ولا تحلوا القلائد بشكل خاص، وذلك لأن إحلال الهدي الذي أشعر وأعلم بالقلادة يكون أشد نهيا إذ إنه اعتداء على ما أعلن بالحس أنه خصص للبيت الحرام، ولم يكتف بالنية وحدها فما خصص بالنية قد يخفى وما خصص بالحس لا يخفى وذكر الزمخشري وجها آخر وهو أن النهي عن إحلال ذات القلائد وإذا كانت القلائد لا يحل الاعتداء عليها فالأولى بذلك الحيوان الذي يحمل شعارها ومهما يكن من التخريجين فالنهي ثابت عن إحلال الهدي وشعاره.
وإن سوق الهدي وذبحه من مناسك الحج وفيه توسعة على سكان البيت الحرام، وإجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام :﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون( ٣٧ ) ﴾( إبراهيم ).
ولكن هل يغني عن الهدي وذبحه في منى ما يقوم به من نقود ؟ لقد أجمع الفقهاء على أنه لا تغني قيمته عنه، ما دام يستطيع الرجل أن يهدي وقد جعل الله تعالى الصيام بدل الهدي لمن لا يجد، فقال تعالى :
﴿... فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة...( ١٩٦ ) ﴾( البقرة ).
ولقد ثارت مناقشات حول استبدال الذبح بقيمة الهدي لأن الناس لا يأكلون كل ما يذبح فيتلف، ووراء ذلك فشو الأوبئة ونحوها، وهذا فوق ما تنشره الدماء من أدواء.
ونقول في الجواب عن ذلك : إن هذا من ضيق عقل الإنسان، لا من شريعة الديان، والقرآن أمر بالذبح ولم يقل أحد من الصحابة أو من جاء بعدهم : إن قيمة الهدي تغني عنه، وكان يجب أن يفكر المفكرون في الانتفاع باللحم والدم من غير أن يتعرضا للفساد والإفساد، وذلك بادخار اللحم، بالتثليج أو نحوه ليمد سكان الحرم الشريف باللحم أكثر العام، لا في موسم الحج وحده، وأن تقام المدابغ لدبغ الجلود فتكون مصدر ثروة، والدم يصنع منه أحسن الأواني والنار تطهره ولكن العقول تتسع في كل شؤون الحياة فإذا جاءت إلى أوامر الإسلام ضاقت وذلك من ضعف الإيمان.
﴿ ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ﴾ المراد الذين يقصدون البيت الحرام لأداء الحج، وقد قال بعض العلماء : إن هؤلاء الذين ينهى عن إحلالهم ( بمعنى منعهم ) هم من كانوا من المشركين يقصدون البيت الحرام يبتغون التجارة ورضا الله تعالى بزعمهم وقد نسخ هذا بقوله تعالى بعد ذلك :﴿... إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا...( ٢٨ ) ﴾( التوبة ).
ولكن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"المائدة من آخر القرآن نزولا، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها" وقال الحسن البصري : ليس فيها منسوخ. وعلى ذلك نقول : إن آمين البيت ( أي القاصدين له حجا ) هم المؤمنين، ومعنى إحلال هؤلاء منعهم من الحج لحرب أو نزاع أو بغي بل يجب أن يكون مفتوحا للجميع، وإذا كان الله تعالى قد جعله آمنا فقد فتحه لكل المؤمنين يقصدونه، وليس لأحد أن يمنعهم فلا يحل لأحد أن يمنع أو يصعب على الناس دخول البيت الحرام.
وقد بين سبحانه مقصد هؤلاء الذين يؤمون البيت وهو أنهم يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا، وفسر بعض العلماء الفضل بأنه التجارة أي أنهم يبتغون من رضوان الله تعالى غرضا من أغراض الدنيا، وهو التجارة وقد يكون في التجارة جلب أرزاق لسكان الحرم، فالتجارة غير ممنوعة ولكن القصد الأسمى هو رضوان الله تبارك وتعالى، فهو العبادة التي يكون لها القصد الأول في البيت.
وفسر آخرون الفضل بالثواب، فالذين يقصدون البيت حاجين أو معتمرين يطلبون الثواب من الله تعالى، وهو النعيم المقيم ويطلبون ما هو أكبر منه وهو رضوان الله تعالى، كما قال تعالى :﴿ يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم ( ٢١ ) ﴾( التوبة ).
وهذا هو الذي نختاره فإن المقام مقام طلب الثواب لا مقام طلب المال، ولكل مقام ما يناسبه.
وإن الآية تومئ إلى مناسك الحج والقيام بها، وقد ذكرت الآية السابقة أنه لا يحل الصيد مع الإحرام وهذه الآية بينت ما يجب على المؤمن من القيام بشعائر الحج وفتح أبواب مكة لمن يريدها من المؤمنين وذكرت الآية الكريمة متى يباح الصيد فقال سبحانه :﴿ وإذا حللتم فاصطادوا ﴾.
معنى الإحلال الخروج من الإحرام بالحج أو العمرة أو هما معا بأن يلبس الملابس كاملة، ويقص شعره وأظافره وغير ذلك مما كان يحرمه عليه الذي هو فيه من الحج، مع لبس لباسه، والقيام بمظاهر النسك والاتجاه إلى الله تعالى والشعور بأنه في ضيافته عند بيته الحرام.
وإذا تحلل ذلك التحلل أبيح له ما حرمه الإحرام عليه، ومن ذلك الصيد، والأمر بالإحلال هنا ليس للطلب فليس الصيد بمطلوب ولكنه مباح وقد جاءت صيغة الأمر بعد النهي فكانت للإباحة وهي كذلك في كل صيغة "افعل" بعد النهي غالبا، مثل قوله تعالى :﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله... ( ١٠ ) ﴾( الجمعة ).
وذلك بعد أن نهى عن البيع عند النداء للصلاة من يوم الجمعة في قوله تعالت كلماته :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ( ٩ ) ﴾( الجمعة ).
وقد روي في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم :"كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها".١
والخلاصة أن هذا النص الكريم فيه إباحة الصيد بعد الخروج من الإحرام بعد أن كان محرما في أثناء الإحرام.
ولقد ساد الإسلام أرض العرب بعد أن كانت حجة الوداع ولكن بقيت بعض الإحن في النفوس ونفس المؤمن يجب أن تكون طهورا لا يعيش فيها الحقد، ولا حب الانتقام ولذا نهى الله تعالى عباده المؤمنين عن أن يدفعهم البغض السابق لقوم لأنهم صدوهم عن المسجد الحرام، أن يمنعوهم كما منعوهم فإن ذلك يكون اعتداء من أهل الإيمان ولذا قال سبحانه :
﴿ ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ﴾ يجرمنكم معناها يحملنكم لأن "جرم" في هذا المقام وما يشبهه معناها حمل حملا قاطعا يقال جرمني كذا على بغضه، أي حملني عليه حملا قاطعا ومن ذلك قول الشاعر :
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
أي حملت فزارة على أن تغضب.
والشنآن : البغض الشدي
في الآية السابقة بين سبحانه تحريم الصيد في وقت معين ومكان معين، وحال معينة وهذا في البيت الحرام وفي الأشهر الحرم المخصصة للحج، كما قال تعالى :﴿ الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج...( ١٩٧ ) ﴾( البقرة ).
وفي هذه الآية بين سبحانه وتعالى المحرمات من الحيوان الذي كان في أصله حلال، ولكن كان التحريم فيه سببه مقترنا بهلاكه مما يهلك بموت من غير ذبح، وكذلك بعض أجزائه وبين تحريم حيوانات أخرى وبعض الأفعال التي تقترن بالذبح عند الذين أباحوا الميسر لأنفسهم ولذلك قال تعالى :
﴿ حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ﴾ هذه الآية تبين تحريم أربعة أنواع هي الميتة وما هو في حكمها مما يقتل ودمه لا يخرج منه، والثاني الدم، والثالث لحم الخنزير والرابع ما أهل لغير الله به وما ذبح على النصب وحرم مع هذا فعلا يقترن بالذبح، وهو الاستقسام بالأزلام أي قسم اللحم بطريق الأزلام، وهي الأقداح التي تستعمل في الميسر، أو كانت ستعمل عند العرب.
والميتة : الحيوان الذي يموت وكلمة "الميتة" وصف والموصوف هو الجثة، فإن كل جثة لا تجري فيها الحياة تكون ميتة والمراد من الميتة هنا ما يموت من غير فعل فاعل، والميتة غالبا تكون مستقذرة في ذاتها تعافها النفس وينفر منها الطبع، وهي رجس قذر، يكون فيه تعفن أو على الأقل يسارع إليه التعفن وهي فوق أنها خبث يكون في الغالب سببه مرضا قد اعترى جسمه، وقد يكون بجرثومة تبقى بعد الموت أمدا غير قصير ولأن الميتة يكون دمها فيها وقد فسد، ولذلك كله حرمت، فهي قذارة وفيها ضرر كبير.
والدم الذي جاء النص الكريم بتحريمه هو الدم المسفوح الذي نص عليه في قوله تعالى في سورة الأنعام :﴿ قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به... ( ١٤٥ ) ﴾( الأنعام ). والمراد بالمسفوح : الذي يسفح ويراق من الحيوان وإن غلظ وتماسك من بعد ذلك فالدم الذي يكون جامدا بأصل خلقته وتكوينه كالكبد والطحال يكون حلالا كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :"أحلت لنا ميتتان حلالان ودمان حلالان : الكبد والطحال والسمك والجراد"١.
وكان تحريم الدم لأنه ضار إذ أنه يعسر هضمه وسريع التعفن ويحمل كثيرا من جراثيم الأمراض ولا يمكن تنقيته من هذه الجراثيم كاللبن إذ يغلى. وإن دم الحيوان السليم قد ينقل إلى الإنسان محفوظا مصونا من غير أن يتعرض للهواء فيزيده قوة أو يعوضه عما فقده ولكنه لا يمكن أن يكون غذاء يتناول بالفم، ويمر على الجهاز الهضمي إذ إنه لا يكون قابلا للتمثيل في الجسم فوق ما يسري إليه من جراثيم تفسده وأن النفس الفطرية تعافه.
ولحم الخنزير : حرام لأنه مستقذر تعافه الفطرة كالميتة والدم إذ إنه يلازم القاذورات ويتغذى منها، ولهذا المعنى حرمت البهائم الجلالة التي تأكل الجلة وتتغذى بها، فقد روى عن ابن عمر أنه قال :"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها"٢ وهذا النهي للكراهة عند بعض الأئمة وللتحريم عند الآخرين وقالوا : لا تؤكل حتى تحبس، وكان ابن عمر يحبس الدجاجة ثلاثا ولا يرى بأكلها بعد ذلك بأسا.
وإن المقصد من ذلك ألا يأكل المؤمن إلا طيبا لا خبث فيه.
وإن كون لحم الخنزير ضارا فهو أمر قد قرره الطب، فلحمه يولد كثيرا من الديدان كالدودة الوحيدة والشعرة الحلزونية التي تجيء إليه من أكل الجرذان الميتة، وإنه عسر الهضم لا تكاد النفس تستسيغه والجهاز الهضمي لا يهضمه وإن الذين يستطيبونه قد فسدت أذواقهم، والعادة هي التي سهلت استساغته وكثير من المستقذرات تسهل العادة تناولها، وقد وصفه القرآن الكريم بأنه رجس، وقد صدق فيه الوصف فهو ضار ضررا بليغا ومستقذر استقذارا شديدا مهما يقل فيه الذين فسدت أذواقهم.
﴿ وما أهل لغير الله به ﴾ الإهلال : هو رفع الصوت وأصله رفع الصوت عند رؤية الهلال ثم أطلق على رفع الصوت لأمر يدعو إلى رفعه ومنه أهل فلان بالحج إذا رفع صوته بالتلبية والدعاء في كل مكان يناسب ذلك، وعند البيت الحرام، والإهلال لغير الله عند الذبح أن يذبحوا باسم صنم من الأصنام، وإن ذلك فيه عبادة لغير الله تعالى، فنهى عن أكل ما يذبح لذلك منعا لهذا العمل الذي هو شرك بالله، وكان النهي عن الأكل لأنه ذريعة إلى المنع المطلق.
والتحريم في هذا ليس لذات الحيوان، بل لما صحبه من عمل فيه شرك بالله تعالى وفسوق عن أمره سبحانه وتعالى.
ولذلك كان تحريم الميتة والدم و الخنزير لأنها رجس وهذا حرم لأنه فسق وإشراك، وهذا مؤدى قوله تعالى :﴿ قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به...( ١٤٥ ) ﴾( الأنعام ).
وإن الذبيحة إنما تحرم إذ كان قد ذكر غير اسم الله تعالى عليها، وإنها حلال إذا ذكر اسم الله تعالى عليها، ولكن إذا لم يذكر اسم الله تعالى عليها ولم يذكر غيره وكان الذابح مسلما وكان الذبح في مكان لا يبدو أن فيه تقربا لغير الله تعالى أتكون الذبيحة حراما أم لا تكون ؟
قال بعض الفقهاء : لا تحل لقوله تعالى :﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه...( ١٢١ ) ﴾( الأنعام ) فإذا لم يذكر اسم الله فذلك من مواضع النهي.
وقال آخرون : موضع التحريم هو فيما أهل لغير الله به والآخر على أصل الحل ويدل على ذلك القصر في التحريم في قوله تعالى :﴿ قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما...( ١٤٥ ) ﴾( الأنعام ). وبقصر النهي في قوله تعالى :﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه...( ١٢١ ) ﴾( الأنعام ) على حال ما إذا ذكره غيره وما كان قبل النهي وبعده يزكي تفسيره بذلك وسبين ذلك عند الكلام في هذه الآية إن شاء الله تعالى.
﴿ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ﴾.
المنخنقة : هي التي تموت بخنق إما باختناقها من وثاقها أو يخنقها غيرها ويتركها حتى تموت.
والموقوذة : هي التي وقذت بحجر، أو تضرب بعصا حتى تموت من غير تذكية شرعية، فالوقذ الرمي والضرب الشديد وما يرمى بالسهم، فيموت أيعد موقوذا أم لا يعد ؟ روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"إذا رميت بالمعراض( السهم الذي قد يصيب بعرضه لا بحده )، فخزق فكله وإن أصابه بعرضه فلا تأكله، فإنه وقيذ"٣، ومؤدى الحديث أن السهم إن اخترق الجسم وأسال الدم يؤكل المضروب وإلا فإنه لا يؤكل، فالعبرة إذن بإسالة الدم فإن أساله أكله، وإلا فلا يؤكل.
والمتردية : هي التي تموت بسبب سقوطها من مكان مرتفع في مكان منخفض، كالتي تسقط من جبل في هاوية، أو تسقط في بئر فتموت.
والنطيحة : هي الحيوان الذي يموت من نطح أو اصطدام فهي فعيلة بمعنى مفعولة كذبيحة بمعنى مذبوحة وقد كان العرب يأكلون كل هذه الأصناف الأربعة فجاء الإسلام وحرمها، والحقيقة أنها من نوع الميتة لأنها تموت ودمها محبوس فيها لم يخرج منها، ويصح أن تدخل في عموم الميتة ولذلك جاء الاقتصار على ذكر الميتة في قوله تعالى :
﴿ قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه...( ١٤٥ ) ﴾( الأنعام ) وهي بلا شك داخلة في عموم كلمة الميتة.
وما أكل السبع : المراد به ما افترسه ذو ناب وأظفار من سباع الحيوان كالأسد والنمر والذئب والثعلب والضبع، وغيرها من الحيوان فما افترسه حتى مات يكون حراما سواء أكل منه أم لم يأكل، وذلك لأنه افترسه ليأكله فأطلق اسم السبب وأريد المسبب، ولإطلاق السبب هنا معنى، ذلك أنه افترسه ليأكله فيخرج بذلك الكلب المعلم الذي أطلق ليصطاد لصاحبه وسمى عند إطلاقه فهو يفترس لا ليأكل بل لمن أطلقه، وقالوا : إنه إذا افترسه ليأكله هو بأن أكل أكثره فإنه لا يحل الباقي لمن أطلقه.
وقد استثنى من المحرمات السابقة حال التذكية الشرعية وهي الذبح أو ما يشبهه مما يريق الدم، ويصفيه ولذا قال تعالى :﴿ إلا ما ذكيتم ﴾ أي أن المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما افترسه السبع إذا أدرك وهو حي، وذكي التذكية الشرعية وأريق دمه، فإنه يكون حلالا بسبب هذه التذكية فهو وما ذكي ابتداء وهو قوي قادر على سواء٤، لأن التذكية الشرعية وهو حي هي سبب الحل وقد تحقق في الحالين.
﴿ وما ذبح على النصب ﴾ النصب : اسم مفرد لحجر كان ينصب فيعبد وتصب عليه دماء الذبائح ويشرح اللحم ويوضع عليه، وكانوا يفعلون ذلك تقربا إليها، أو ليتقربوا عن طريقها فنهى الله تعالى عن أكل ما يذبح على هذه الحجارة قطعا لدابر الوثنية والأفعال التي تؤدي إليها، وتحريم هذا هو من قبيل تحريم ما أهل لغير الله تعالى، فالمعنى فيهما واحد والتحريم ليس لذات الشيء المذبوح ولكن لما اقترن بالذبح من آثام وفسوق عن أمر الله تعالى.
والفعل الذي حرمه الإسلام من غير أن يتعرض لتحريم اللحم هو ما جاء في قوله تعالى :
﴿ وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق ﴾ فقد وصفه سبحانه وتعالى بأنه فسق والأزلام جمع زلم وهو القدح من أقداح الميسر وهي عشرة أقداح، منها ثلاثة غفل ليس فيها ما يدل على مقدار يؤخذ وسبعة فيها مقادير تبين مقاديرها، فإذا عقر الجزور٥، قسم على مقدار ما يشتمل عليه من أجزاء ثم ضربت الأقداح، فمن يخرج له منها قدح يأخذ بمقدار ما يشتمل عليه، وبذلك يطلب كل واحد نصيبه من الجزور بهذا القمار، وقد وصف الله تعالى ذلك الفعل بأنه فسق، أي خروج على المبادئ الإسلامية والتحريم منصب على الفعل وليس منصبا على اللحم، وعلى ذلك إذا كانت الذبيحة قد ذكيت بالطريقة الإسلامية وذكر اسم الله تعالى عليها فإنها تكون حلالا، والتقسيم بهذه الطريقة يكون حراما.
﴿ اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون ﴾ اليوم المعرف بأل التي هي للحضور، هو يوم عرفة ذلك أن الآية كلها نزلت في يوم عرفة وفيها بيان المحرمات وقد ذكر سبحانه وتعالى عقب بيان هذه المحرمات بيانا قاطعا بين حياة جاهلية فيها أخباث، وحياة إسلامية نظيفة نزيهة ببيان قوة الإسلام وعلوه في الأرض، وإذلال الشرك وذهاب سطوته في أرض العرب، ومعنى قوله تعالى :﴿ يئس الذين كفروا من دينكم ﴾ أنهم يئسوا من القضاء عليه، وتغيير حقائقه وسيطرة الشرك على المؤمنين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يوم عرفة، وهو يعرض الحقائق الإسلامية ويشهد الله تعالى على تبليغها :"إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه"٦ ويأس الشيطان هو يأس أولياءه من المشركين من أن يتغلبوا على ذلك الدين المكين الثابت، وإذا كان المشركون قد يئسوا من السيطرة ووهنت قواهم فإنه لا تجوز مسايرتهم في أي أمر من الأمور ولذا قال سبحانه :﴿ فلا تخشوهم واخشون ﴾ والخشية : خوف يشوبه تعظيم لما يخشى منه، والمعنى لا تجعلوا للكافرين مكانا للهيبة أو الخوف أو التعظيم فقد ضعفوا واستكانوا وإنما الخشية كلها لله الذي نصركم وأنتم أذلة، وأعزكم وقد كنتم مستضعفين في الأرض، وخشية
٢ رواه الترمذي: الأطعمة في أكل لحوم الجلالة وألبانها (١٨٢٤)، وأبو داود: الأطعمة (٣٧٨٥)، وابن ماجة: الذبائح النهي عن لحوم الجلالة (٣١٨٩)، عن ابن عمر رضي الله عنهما..
٣ رواه البخاري: الذبائح والصيد صيد المعراض (٥٤٧٦). والوقيذ والموقوذ: ما يقتل بغير أداة حادة. راجع أطرافه في البخاري ومسلم، من رواية عدي بن حاتم رضي الله عنه..
٤ وهو قوي قادر: أي الحيوان قبل أن يصيبه ما أصابه، ما دام ذكي التذكية الشرعية قبل موته..
٥ الجزور: البعير ذكرا كان أو أنثى. الصحاح (جزر)..
٦ روى الترمذي الفتن دماؤكم وأموالكم (٢١٥٩) عن عمرو بن الأحوص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع للناس: "ألا وإن الشيطان قد أيس من أن يعبد في بلادكم هذه أبدا، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم فسيرضى به"، قال أبو عيسى: وفي الباب عن أبي بكرة وابن عباس وجابر وحذيم بن عمرو السعدي وهذا حديث حسن صحيح. ورواه ابن ماجه: المناسك الخطبة يوم النحر (٣٠٥٥) عن عمرو بن الأحوص بنحوه..
كانت الآية السابقة في بيان المحرمات، وبعضها كانت العرب تستبيحه فالخنزير كان مستباحا عند العرب، وكذلك أنواع الحيوان الذي لا يذكى تذكية تهرق دمه، وتنقي اللحم والعظم من أوضاره، فكان ذلك التحريم دافعا لأن يتأثم بعض المسلمين ويسألوا عن المحلل من الأطعمة واللحوم بعد ذكر المحرم، وقد سألوا عن ذلك، كما يدل النص الكريم ﴿ يسألونك ماذا أحل لهم ﴾.
يتضمن السؤال معنى القول، كان تأويل الكلام هكذا : يسألونك قائلين : ماذا أحل لنا ؟ وكان التفاتا من الحاضر إلى الغائب للتنبيه ولتوجيه الذهن، ولأن في السياق حكاية عنهم، كما يقال : أقسم فلان ليفعلن كذا، فتضمن الحكاية جعل للتحدث بضمير الغائب موضعا، ولو كان الحديث بضمير الحاضر لكان له موضع أيضا، ولكن نسق القرآن أبلغ وأقوم وأدعي للتنبيه والالتفات، وقوله تعالى :﴿ ماذا أحل لهم ﴾ يصح أن نعتبر ماذا كلها إسم استفهام مبتدأ خبره جملة أحل لهم، وقد اختار ذلك الزمخشري في الكشاف فقال :"وماذا" مبتدأ، و"أحل لهم" خبره، كقولك أي شيء "أحل لهم"، وموضع السؤال هو ما أحل لهم من مطاعم، لأن الآية السابقة كانت في محرمات المطاعم، فكان السؤال عما أحل منها بعد أن بين ما حرم منها من خبائث وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أن طريق التحليل هو التذكية الشرعية، ولذا كان الجواب في المطاعم الحلال وبعض طرق التذكية فقال تعالى :
﴿ قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين ﴾ أمر الله تعالى نبيه أن يتولى الجواب لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو المبلغ للرسالة، وهو المبين لهم والمرشد وهو المرجع، ومما يتفق مع مقام الرسالة أن يكون هو المجيب ولكن إذا كان اتجاه الناس إلى ربهم والضراعة تكون الإجابة منه سبحانه من غير توسط أحد، ولذا قال تعالى :
﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان...( ١٨٦ ) ﴾( البقرة ) أمر الله تعالى أن يجيب هو سؤالهم الخاص بالحلال والحرام، لأنه يتعلق ببيان رسالته التي بعث بها، وعمله الذي يتولاه وهو بيان الشرع للناس، والطيبات التي أحلت هي غير المحرمات التي حرمت، وما تستطيبه النفوس، ولا تستقذره وتعافه، وبعض الفقهاء ومنهم المالكية فسروا الطيبات بالحلال الذي لم يحرم في نص من كتاب أو سنة من غير نظر إلى أن الناس يستطيبونه أو لا يستطيبونه وبعض آخر من الفقهاء ومنهم الإمام الشافعي قالوا إن الطيب هو الذي تستطيبه النفوس ولا تستقذره ولم يثبت تحريمه بنص، وعلى ذلك لا يحل ما نص على تحريمه، لأنه خبيث قذر جاء النص بتحريمه ولا يحل أيضا المستقذر الذي تعافه النفوس كالخنافس وشبهها من هوام الأرض ومثلها كل حيوان أو طعام يثبت ضرره بالإنسان طبيا أو يستقذره طبعيا لأن هذا الدين دين الفطرة، فما تعافه النفوس المستقيمة لا يكون حلالا وعندي أن هذا هو المعنى المستقيم.
وقد بين سبحانه فيما أحل صيد الكلب ونحوه من الفهود والطيور لأن ذلك كان من مواضع سؤالهم فقال :
﴿ وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم ﴾ وبعض المفسرين قال : إن في الكلام محذوفا دل عليه السياق، وهو كلمة "صيد"، والمعنى أحل لكم الطيبات وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح وبعض العلماء لا يقدر محذوفا بل يجعل الخبر هو الجملة الطلبية :﴿ فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه ﴾ ويكون قوله تعالى :﴿ مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله ﴾ حالا بعد حال، وصاحب الحال، ضمير الخطاب في قوله :﴿ وما علمتم ﴾ حال كونكم ﴿ مكلبين ﴾ معلمين، وتقدير الكلام يكون هكذا.. وأحل لكم ما أمسكن لكم من صيد الجوارح، وذلك لأن الخبر محل الفائدة ودخلت الفاء الخبر لأن الجملة طلبية ولأن ما موصولة والفاء تدخل في خبر الموصول مثل قوله تعالى :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها...( ١٦٠ ) ﴾( الأنعام ) لتضمن الموصول أحيانا معنى الشرط.
والتكليب تعليم الكلاب ومما يشبهها الصيد، فهو إسم فاعل اشتق من الكلب، أو أخذ من الكلب باعتبار أن الكلب طيع ألوف أقرب الحيوان إلى تعلم الصيد وقد قال تعالى ما يفيد تعليم كل حيوان له مثل خواص الكلب في الطاعة والمهارة والاستعداد للتعلم، فقال تعالى :﴿ من الجوارح ﴾ وهذا يعم كل حيوان يمكن أن يعلم الصيد، والجارح معناه الكاسب، أي الحيوانات التي من شأنها أن تكسب صيدا كما يكسب الإنسان أو معناه : الذي يخدش الجسم بالجروح فإن ذلك لا يستغني عنه الصيد، إذ إنه لا يمكنه أن يسيطر على الحيوان غالبا إلا إذا جرحه بأنيابه وهذا هو الذي نختاره.
وقوله تعالى :﴿ تعلمونهن مما علمكم ﴾ حال على اعتبار أن من مبتدأ خبره ﴿ فكلوا مما أمسكن عليكم ﴾ وهي حال بعد حال كما أشرنا وذلك الذي اخترناه وعلى تقدير محذوف والمعنى : صيد ما علمتم من الجوارح تكون جملة تعلمونهن مما علمكم مستأنفة.
ومعنى هذه الجملة السامية :﴿ تعلمونهن مما علمكم الله ﴾ أي أنكم تعلمونهن مما علمكم الله تعالى بإلهامكم تعليمهن والانتفاع بهن في الصيد ومن للتبعيض أي تعلمونهن جزءا مما أودعه الله عقولكم أي تعلمونهن وسائل التحايل والسبل المختلفة للاصطياد وقد أودع الله غرائزهم القابلية للتعلم وما أودعها إلا لتنتفعوا بها في التعليم. وقد اتفق العلماء على أن الصيد بالكلاب يجوز، ويحل ما تمسكه وقال الجمهور : إن مثل الكلاب كل حيوان يصنع صنيع الكلب. وكل طير كذلك لأن قوله تعالى ﴿ من الجوارح ﴾ يعم كل حيوان يصنع صنيع الكلب، وكان التعبير بمكلبين لأن الكلاب أكثر الحيوانات استعمالا لذلك، كما أشرنا من قبل وقال بعض الفقهاء : إنه لا يحل إلا صيد الكلاب والأول أظهر وأوضح.
وقد استنبط الإمام مالك من هذا النص أن الكلاب طاهرة، وليست نجسة وقال : كيف يحل صيدها وينجس لحمها ؟ ورد بهذه الآية الخبر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء فيه "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا أولاهن بالتراب الطاهر"١ والجمهور على أن حل صيده لا يستوجب طهارته.
والأمر في قوله تعالى ﴿ فكلوا مما أمسكن عليكم ﴾ للإباحة، ومعنى قوله تعالى :﴿ أمسكن عليكم ﴾، أي أمسكنه محبوسا عليكم، ولأجلكم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم :"إذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله، وإن أمسك عليك وأدركته حيا فاذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه، فكله"٢، فإن أخذ الكلب ذكاة.
وعلى هذا قال الشافعي وأحمد : إذا أكل منه الكلب لا يحل، لأنه لم يمسك على من أرسله إنما أمسكه على نفسه وقال الإمام مالك : ما دام قد عاد به ولو مأكولا منه، فقد أمسكه على صاحبه وقد روي ذلك عن بعض الصحابة كعبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة وسلمان الفارسي وقد وردت أحاديث تفيد أنه يأكل منه صاحبه وإن أكل الكلب منه.
والحنفية فصلوا تفصيلا حسنا في تفسير قوله تعالى :﴿ فكلوا مما أمسكن عليكم ﴾ فقالوا :{ إن عاد بأكثره فقد أمسك على صاحبه وإن عاد بأقله فقد أمسك على نفسه، وبذلك يقع النهي عن الأكل الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان تفصيلهم تفسيرا لقوله تعالى :﴿ أمسكن عليكم ﴾.
والأحاديث الواردة في الباب تشترط كلها أن يذكر اسم الله تعالى عند الإرسال ليقوم الصيد مقام الذبح وهذا هو قوله تعالى :﴿ واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب ﴾. ثبت من الأحاديث وقد روينا بعضها أن ذكر اسم الله تعالى يكون عند الإرسال لا عند الأكل، وإن التسمية عند الإرسال تقوم مقام التسمية عند الذبح، وإن الإرسال مع التسمية على من أسله يكون كالتذكية الشرعية إلا إذا أدرك حيا، فإنه لا بد من التذكية، لأن قيام التسمية والإرسال مقام التذكية لتعذرها، إذا جيء به حيا فإن التذكية ممكنة فلا يغني عنها ما يقوم مقامها، عند عدم إمكانها والواو في العطف لا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا وذكرت آخرا لأنها من تقوى الله تعالى، فكان اقترانها بالأمر العام بالتقوى من التنسيق البياني الحكيم وهو الذي يتناسب مع الذكر الحكيم.
واختلف العلماء في التسمية عند الإرسال كاختلافهم في التسمية عند الذبح، فقال الظاهرية : إنها واجبة حملا للأمر هنا على الوجوب ولقوله تعالى في مقام آخر :﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه... ( ١٢١ ) ﴾( الأنعام ) وقال الشافعي : إنها مستحبة هنا، وقريب من ذلك قال الحنفية : إلا أن يكون الترك عمدا، وقال المالكية : إنها إن تركت عمدا لا تأكل، لأنه لا يبين أن الصيد للمرسل إلا إذا قصد ذلك، وتركها عمدا ينافي القصد، وإن تركت سهوا فإنها تؤكل لأن الحيوان المخصص للصيد يكون إرساله المقصود منه الأكل ولا يقصد سواه، إلا أن يقصد اللعب أو اللهو، وعندئذ يكون الترك عمدا لا نسيانا.
وقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بالأمر بالتقوى والتذكير بالحساب وذلك لتذكير الناس عند الطعام بأن يكونوا في ظل تقوى الله تعالى بألا يسرفوا في الطعام فيفسدوا أجسامهم وألا يتعدوا القدر المطلوب أو لا يأكلوا حق الغير وما يكون محرما لتعلق حق الناس ولذلك يقول الله تعالى بعد الأمر بالأكل :﴿... وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ( ٣١ ) ﴾( الأعراف ).
ويقول تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ( ٨٧ ) ﴾.
.
٢ عن عدي بن حاتم قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله، وإن وجدت مع كلبك كلبا غيره، وقد قتل فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتله وإذا رميت سهمك فاذكر اسم الله، فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت، وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل". رواه مسلم: الصيد والذبائح- الصيد بالكلاب المعلمة (١٩٢٩)..
وقد قال بعض الشيعة : إن المراد من الطعام هنا هو البر، وغيره من الحبوب والأطعمة غير الذبائح أما الذبائح فلا تحل خشية ألا يذكروا اسم الله تعالى عليها، وفي الغالب يذكرون غيره.
والجمهور على حل ذبائح أهل الكتاب إذا أهريق الدم، وقد اتفق الجمهور على حل هذه الذبائح والخلاف عندهم فيما عدا الذبائح التي ثبت حلها بالنص، وأما غير الذبائح فهو قسمان : القسم الأول : ما لا عمل لهم فيه كالفاكهة والبر، وهو حلال بالاتفاق، والقسم الثاني : ما لهم فيه عمل وهو قسمان أيضا : أحدهما : ما يحتمل دخول النجاسات فيه كاستخراج الزيوت من النباتات أو الحيوانات وهذا قد اختلف فيه الفقهاء فمنهم من منعه لاحتمال النجاسة ومن هؤلاء ابن عباس لأن احتمال النجاسة ثابت، وهو يمنع الحل وقد اتبع هذا الرأي بعض المالكية ومن هؤلاء الطرطوشي وقد صنف في تحريم جبن النصارى ويجري مجرى الجبن الزيت، وعلى هذا الرأي يجري مجراها السمن الهولاندي وما شابهه، ولكن الجمهور على جواز ذلك ما دام لم يثبت أنه اختلط بهذا النوع من الطعام نجاسة.
والمحرم ما ثبت أنه قد دخله نجاسة بأن دخله أجزاء من الخمر أو الميتة أو الخنزير أو غير ذلك من المحرمات.
﴿ والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾ الإحصان يطلق على أربعة معان : الإسلام ولا موضع له هنا لأن الكلام في غير المسلمات والثاني التزوج، ولا موضع له هنا أيضا لأن المتزوجة لا تحل مسلمة أو كتابية والثالث العفة والرابع الحرية وهذان المعنيان لهما موضع القول فبعض الفقهاء قرر أن المراد بالمحصنات من أهل الكتاب العفيفات ويكون الوصف للترغيب في طلب العفة والعمل على الانتقاء والاختيار وعلى هذا الرأي يصح الزواج من الكتابيات سواء أكن حرائر أم كم إماء، ويروى في ذلك أن النبي صل الله عليه وسلم تزوج مارية القبطية، وهي أمة١.
وبعض الفقهاء ومنهم الشافعية قالوا : إن المراد بالمحصنات من أهل الكتاب الحرائر فلا يحل من نساء أهل الكتاب إلا الحرائر وقد ذكر هذا بقوله تعالى :
﴿ ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات...( ٢٥ ) ﴾( النساء ).
فقيد زواج الإماء هنا بأن يكن من المؤمنات كذلك قيد زواج الكتابيات هنا بأن يكن من الحرائر.
والشيعة يمنعون زواج الكتابيات على اعتبار أنهن يشركن في عبادتهن والله تعالى يقول :﴿ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم...( ٢٢١ ) ﴾( البقرة ) ولكن إجماع غير الشيعة قد انعقد على إباحة الزواج من الكتابيات.
وقد ذكر سبحانه وتعالى وجوب المهور لهن، فقال تعالى :﴿... إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخذان...( ٥ ) ﴾ أي إذ آتيتموهن مهورهن وسمي المهر هنا أجرا لتأكيد وجوبه، وقد قال تعالى من قبل :﴿ وآتوا النساء صدقاتهن نحلة...( ٤ ) ﴾ أي عطاء فذكر الأجر في هذا المقام لكيلا يكون ثمة استهانة بأي حق من حقوقهن كما أكد العمل على عفتهن بقوله تعالى :﴿ محصنين غير مسافحين ﴾ أي طالبين بهذا الزواج الإعفاف والصون لأنفسكم وأنفسهن، وحماية عرضكم وعرضهن فمعنى الإحصان هنا العفة بأن يجعل نفسه في حصن من الزنا ويجعلها في حصن مثله، والسفاح الزنا، والمسافح كالمسافحة الذي يرتكب الفحشاء مع أي امرأة يلقاها فيقضي معها الفحشاء. واتخاذ الخدن أي اتخاذ الخليلة، وأن يختص بامرأة وتختص به من غير عقد نكاح مدة أو من غير مدة وهذه هي المتعة بعينها التي تبيحها بعض الطوائف وهي بقية من بقايا الجاهلية والمعنى طالبين حصن الزواج غير طالبين الزنا العلني أو السري والله محيط بكل شيء.
وزواج الكتابيات قد يغري بالانحراف عن الدين كما نرى في عصرنا، ولذا كان عمر ينهى عنه كبار الصحابة كطلحة بن عبيد الله، ولذا حذر سبحانه من الكفر بعد هذه الإباحة فقد قال تعالى :﴿ ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين ﴾.
أصل الحبط : هو تلف الدابة من كثرة ما تتناول من طعام لا يناسبها والإيمان هنا الشرائع والأحكام، والكفر بها الاستهانة بها وعدم الأخذ بما تدعو إليه، والمعنى : ومن ينحرف عن دينه ولا يؤمن ويذعن لأحكام الإسلام فقد تلف ما كان يعمله من خير وذهب وهو في الآخرة من الخاسرين، ولم يقل سبحانه في هذا المقام ومن يكفر بالله بل قال :﴿ ومن يكفر بالإيمان ﴾ للإشارة إلى أن الإغراء بإفساد الدين من جهة النساء يبتدئ بالأعمال ثم ينتهي إلى العقيدة، وهو سبحانه الذي يقي النفوس من الزلل ويحفظها من الشر، اللهم احفظ قلوبنا فلا تزيغ، ونفوسنا فلا تنحرف وعقولنا فلا تضل إنك سميع الدعاء.
كانت الآيات السابقات في بيان ما يحل وما يحرم من الأطعمة ومن يحل من النساء وذلك يتعلق بغذاء الأجسام وتبعتها، إن هذه الآية الكريمة لبيان غذاء الروح وهو الصلاة ففي الأوليات غذاء الأبدان وفي هذه غذاء النفوس، وفوق ذلك إن هذه الآية بيان للوضوء والاغتسال وما يقوم مقامهما وهذان يكونان من نتائج الغذاء والزواج، فكان التلازم بينهما ثابتا، لأن نواقض الوضوء والجنابة إنما تكون من نتائج الطعام في هذه الدنيا ومن نتائج متعة الزواج بما يكون بين الزوجين.
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ﴾ النداء للمؤمنين والمنادى به الاستعداد للصلاة بأخذ وسيلتها، وهو الوضوء والاغتسال إن كان ما يوجبها. وكان النداء بوصف الإيمان للإشارة إلى أن الصلاة ركن الإسلام الركين، حتى إن بعض الحنابلة قرر أن من تركها عامدا، وداوم على تركها لا يكون مسلما وأجمع المسلمون على أن من أنكر فرضية الصلوات الخمس بركعاتها يكون كافرا ولا يدخل في زمرة المسلمين كشأن من ينكر أمرا من الدين بالضرورة.
وقوله :﴿ إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ﴾ في ظاهره أن القيام إلى الصلاة سابق على الوضوء على أن الوضوء سابق الصلاة وقد أجاب عن ذلك الزمخشري في الكشاف بجوابين :
أولهما : أن المراد من القيام إرادة القيام وعلل التعبير عن إرادة الفعل، بكلمة تدل على الفعل بأن ذلك من قبيل المجاز لأن إرادة الفعل سبب الفعل وقد يطلق المسبب ويراد السبب، كمن يقول إن فلان أسكرني أي سقاني السكر، وفوق ذلك إن الفعل يوجد بالقدرة عليه، وإرادته له. وقصده إليه وميله له وخلوص دواعيه وإن هذا كله يسوغ أنه يعبر عن الإرادة مع القدرة والقصد بذات الفعل كقوله تعالى :﴿... كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين( ١٠٤ ) ﴾( الأنبياء ).
والجواب الثاني : أن قوله تعالى :﴿ قمتم إلى الصلاة ﴾ معناه : تهيأتم لها واستعددتم يقال : قام للأمر إذا تهيأ له وأخذ الأهبة للاستعداد له، والدخول فيه، ويرشح لهذا المعنى في نظرنا التعدية ب "إلى"، إذ مؤاده استعددتم وتهيأتم متجهين للصلاة وذلك لا يكون بأدائها إنما يكون بأخذ الأهبة لها والسير إليها.
وإن هذا النص الكريم :﴿ قمتم إلى الصلاة ﴾، وما اشتمل عليه من عبارات يفيد أمرين بظاهره :
أولهما : أن الوضوء وهو يشتمل على الأركان الأربعة وغسل الوجه واليدين ومسح الرأس وغسل الرجلين لا بد فيه من القصد إليه وإرادته، وعلى ذلك تكون نية الوضوء بالقصد إليه لأجل الصلاة باعتبار أن قصده لأجل الصلاة، لا للنظافة ونحوها لا بد منها لتحقق الوضوء لأنه للتهيئة لأجل الصلاة.
وقد قال مالك والشافعي وأحمد والليث بن سعد وإسحق بن راهويه، وأئمة أهل البيت : إن النية ركن من أركان الوضوء ومعناها القصد إلى الصلاة بالوضوء طالبا رضا الله تعالى وقد فسرها البيضاوي بقوله :{ النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالا أو مآلا، والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضا الله تعالى وامتثال حكمه".
وعلى ذلك تكون النية المطلوبة في الوضوء عند الذين قرروها القصد إلى الوضوء مبتغين رضا الله تعالى، ويستدلون على فرضيتها في الوضوء بأن الوضوء عمل من أعمال القربات والنبي صلى الله عليه وسلم يقول :"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه"١.
وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن النية في الوضوء ليست بفرض لأن الوضوء ليس عبادة مقصودة ولكنه وسيلة للعبادة والنية شرط في العبادة نفسها باعتبارها المقصد، وليست فرضا في الوسيلة بل الوسيلة تتحقق بمجرد تحقق الغسل للأعضاء المذكورة والمسح والرأس فمن حصل منه هذا ولو لم يقصد العمل لأجل الصلاة يتحقق الوضوء ويستدلون على أن الوضوء وسيلة للعبادة بظاهر الآية إذا كان النص الكريم ﴿ إذا قمتم إلى الصلاة ﴾ فهو شرع سبيلا لعبادة ووسيلة وليس غاية.
والأمر الثاني : الذي يفيده ظاهر النص ﴿ إذا قمتم إلى الصلاة ﴾ : وهو أن الوضوء واجب عند التهيؤ والقيام لكل الصلاة، فالوضوء واجب لكل صلاة وبذلك قال الظاهرية فقالوا : إن الصلاة واجبة لكل مفروضة، وأخذوا في ذلك بظاهر النص الكريم ولكن الثابت في السنة غير ذلك، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح مسح على خفيه فصلى الصلوات الخمس بوضوء واحد، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه :"صنعت شيئا لم تكن تصنعه" فقال صلى الله عليه وسلم : عمدا فعلته"٢. ومعنى ذلك أنه صلى الله عليه وسلم فعله عمدا في هذه الجموع الحاشدة ليبين أنه ليس بفرض أن يتوضأ لكل صلاة. فدل هذا على أن الوضوء لكل صلاة ليس بمطلوب على جهة الفرضية، وقد ادعى بعض الناس أن الوضوء لكل صلاة كان فرضا ثم نسخ وإن هذا الكلام منقوض لأن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا، ولأن أحاديث الآحاد لا تنسخ القرآن ولأن الآية ليست قاطعة في وجوب الوضوء لأجل كل صلاة.
والذي نراه أن الآية في الذين قام بهم موجب الوضوء من إحداث ما ينقض الوضوء السابق، والدليل على ذلك قوله تعالى :
﴿ وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا ﴾ فدل هذا بصريح اللفظ على أن موجب التيمم هو إحداث الحدث الموجب للوضوء، إذا لم يكن الماء، فيقوم التراب مقام الماء، وهذا يدل على أنه لا يكون الوضوء واجبا للصلاة إلا إذا حدث نقض للوضوء السابق والآية بيان واحد يتمم بعضه بعضا.
﴿ فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ﴾ ولنذكر هذه الأركان ركنا ركنا وقبل ذلك نذكر أمرين :
أولهما : أنه في قوله ﴿ وأرجلكم ﴾ فيها قراءتان إحداهما بفتح اللام على حذف فعل، والمعنى : امسحوا برؤوسكم واغسلوا أرجلكم، والثانية قراءتها بكسر اللام عطفا على قوله تعالى :﴿ برءوسكم ﴾٣ والمعنى : هو الغسل لا المسح بحمل القراءة الثانية على القراءة الأولى ويكون السبب في عطفها على الرؤوس، للإشارة إلى وجوب عدم الإسراف لأن الرجلين مظنة الإسراف في الماء فعطف وجوب الغسل فيها على وجوب المسح لمنع الإسراف، بحيث يكون الغسل ليس بعيدا بعدا تاما عن المسح.
والغسل إسالة الماء على العضو، وإمراره عليه والمسح إمرا ر اليد المبللة بالماء عليه.
والأمر الثاني : الترتيب بين هذه الأركان بحيث يغسل الوجه أولا ثم اليدان ثانيا ثم من بعدها مسح الرأس، ثم غسل الرجلين وقد قال الجمهور بوجوب ذلك لأنها ذكرت مرتبة في القرآن وعمل النبي صلى الله عليه وسلم كان على ذلك الترتيب دائما، والنبي هو مفسر القرآن ولو كان الترتيب غير لازم لخالفه النبي صلى الله عليه وسلم ولو مرة واحدة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه : الترتيب ليس بفرض لأن الآية كان العطف فيها بالواو والواو لا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا.
ومما يتصل بهذه أيبتدأ في غسل الأيدي والرجلين باليمين وجوبا، أم أن ذلك سنة ؟ الجمهور الأعظم على أن التيامن سنة وليس بفرض ومذهب الشيعة وجوب التيامن في الطهارة.
والموالاة في الوضوء قد ذهب الأوزاعي ومالك وأحمد إلى وجوبه وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى سنيته، وعندي أن الموالاة هي الأمر المعقول وأنه إذا قطع المتوضئ وضوءه بعمل أجنبي وجب استئنافه مبتدئا بأوله.
ولنذكر كل ركن ونبدأ بالأول وهو غسل الوجه وهو معروف ولكن الفقهاء يذكرون له تعريفا وحدا، فحده من أعلى تسطيح الجبهة إلى أسفل اللحيين طولا ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضا.
وموضع النظر عند الفقهاء هو في وجوب غسل الوجه أيجب غسل الظاهر والباطل فيه، وبعبارة أوضح أيدخل في الغسل المضمضة والاستنشاق أم أنهما سنتان زائدتان ؟ قال أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وأبو ثور وابن المنذر وبعض فقهاء الشيعة إن المضمضة والاستنشاق من غسل الوجه والجمهور على أنه لا يدخل في غسل الوجه إلا ظاهره وقول أحمد ومن معه.
واليدان ينتهيان إلى المرفقين، والمرفقان : ملتقى عظم العضد بعظم الذراع وهل يدخل المرفقان في الوضوء فيجب غسلهما. قال ابن جرير الطبري وبعض الفقهاء : إن غسل المرفقين ليس بفرض ولكنه سنة، لأن الغاية في قوله تعالى :﴿ إلى المرافق ﴾ تحتمل أن يدخل المرفقان في الوجوب وتحتمل ألا يدخلا ولا وجوب مع الاحتمال، ولكن الاحتياط في الغسل ولذا كان سنة. وقال بعض الفقهاء : إنهما داخلان في وجوب الغسل وبنى ذلك على أن ﴿ إلى ﴾ بمعنى مع، وعلى ما قرره سيبويه مع بعض علماء اللغة من أن بعد "إلى" إذا كان من نوع ما قبلها دخل في الحد، وإلا لا يدخل وعلى ذلك يكون المرفقان داخلين، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لازم في وضوئه غسل المرفقين، ولم يعرف أنه غسل اليدين من غير المرفقين ولأن جعل ما قبل المرفقين حدا، لا يكون أمارة واضحة والأمارات يجب أن تكون معلمة مادية واضحة.
والكعبان هما الجزءان البارزان في أعلى القدم، والخلاف في دخولهما هو كالخلاف في دخول المرفقين والحجة واحدة.
والمسح يكون في الرأس، لقوله تعالى :﴿ وامسحوا برؤوسكم ﴾ وقد اتفقوا على أن مسح الرأس كله مطلوب ولكن على أنه سنة عند الجمهور وعند مالك مطلوب على وجه الفرضية.
والشافعي قال : إن المطلوب مسح بعض الرأس لأن الباء للبعضية وقال الثوري والأوزاعي والليث : يجزئ بعض الرأس ويمسح المقدم، وعلى هذا أحمد والناصر والباقر والصادق من أئمة آل البيت، وقال أبو حنيفة : يمسح ربع الرأس مستدلا بما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى كناسة قوم فبال وتوضأ ومسح في وضوئه على ناصيته٤، والناصية تساوي ربع الرأس.
وبعد بيان الوضوء بين سبحانه الاغتسال وموجبه فقال تعالى :﴿ وإن كنتم جنبا فاطهروا ﴾.
كلمة جنب : وصف للرجل والمرأة والجمع والمفرد، فيقال : رجل جنب وامرأة جنب ونساء جنب وهو لفظ مشتق من الجنابة وهي ما يكون بسبب الاتصال بين الرجل والمرأة، وسمي ذلك جنابة لأنه يجنبهما الصلاة، ولما يكون من معنى التقارب بينهما بحيث يكون أحدهما بجنب الآخر وفي حكم الجنابة بهذا المعنى الحيض والنفاس، ومعنى النص الكريم : أنه لا بد من التطهر من الجنابة عند القيام للصلاة والاستعداد لها، والتطهر : هو الاغتسال وهو العناية بصب الماء على كل جزء يمكن أن يصل إليه فالمضمضة والاستنشاق لا بد منهما في الوضوء، وتوصيل المياه إلى منابت الشعر بالنسبة للرجال لازم باتفاق الفقهاء، أما بالنسبة للنساء فقد قال بعضهم ومنهم الحنفية قالوا : إنه إذا كان للمرأة ضفائر لا تحل عند النساء دفعا للحرج، ولكن تحل عند الرجال٥، وعلى أي حال لا بد من صب الماء صبا، ولا يكتفى بالمسح.
والتعبير بكلمة "فاطهروا" فيها إشارة إلى وجوب العناية في تعميم الماء، وإشارة إلى أ
٢ رواه الترمذي: الطهارة يصلي الصلوات كلها بوضوء واحد (٦١)، والنسائي الطهارة الوضوء لكل صلاة (١٣٣)، عن بريدة بن الحصيب كما رواه أبو داود وأحمد وابن ماجه بلفظ: "عمدا صنعته"..
٣ ﴿وأرجلكم﴾ قرأها بالفتح ابن عامر ونافع والكسائي ويعقوب وحفص وأبو زيد عن المفضل عن عاصم، والأعشى إلا النقار، وقرأ الباقون بالجر. غاية الاختصار سورة المائدة (٧٩٩)..
٤ عن حذيفة قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائما فتنحيت فقال: "ادنه فدنوت حتى قمت عند عقبيه فتوضأ فمسح على خفيه" رواه مسلم: الطهارة- الرخصة في ذلك( ١٣)، كما رواه البخاري: الوضوء: البول قائما و قاعدا (٢٢٤) بغير زيادة" فمسح على خفيه". والسباطة: موضع رمي التراب والأوساخ. وقد رواه أصحاب السنن بمثل رواية مسلم..
٥ روى مسلم: الحيض حكم ضفائر المغتسلة (٣٣٠) عن أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: "لا. إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين"..
ذكر الله سبحانه وتعالى ما به غذاء الأبدان، وهو كل طيب لا خبث فيه، ثم أشار إلى ما فيه غذاء الأرواح وطهارة الأبدان وهو الصلاة والوضوء لها، والاغتسال عند الإقدام عليها فذكر الأطعمة الحلال، وذكر ما به بقاء الجنس البشري، وهو الزواج ثم الوضوء وأركانه والاغتسال والتيمم وبعد أن ذكر ذلك الغذاء الفردي من جسم وروح ذكر الثمرة الطيبة لذلك وهي بناء مجتمع إنساني سليم، أساسه الثقة والعدالة، وابتدأ سبحانه وتعالى بذكر نعم الله ثم بذكر العدالة التي هي قوام هذا الوجود الإنساني فقال تعالى :﴿ واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا ﴾
﴿ واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا ﴾ الخطاب في هذه الآية للذين آمنوا، فهو امتداد للسياق الذي كان يتعلق بالصلاة وما قبله من بيان الحلال والحرام كان يتعلق بالذين آمنوا فالآية الكريمة سائرة على هذا النسق البياني الرائع، والأمر في الآية لطلب تذكر أمرين جليلين، وهما نعمة الله تعالى التي أنعمها على المؤمنين وهي آلاء جليلة عظيمة، وتشمل نوعين من النعم، عامة وخاصة فالعامة تعم الناس جميعا مشركهم ومؤمنهم وهي نعمة الوجود وتسخير الكون بكل ما فيه لبني الإنسان والخاصة ما أسداه الله تعالى إلى المؤمنين، إذ هداهم وإذ كانوا قليلا فكثرهم وكانوا متفرقين فجمعهم، وكانوا أذلاء فأعزهم، وكانوا فقراء فأغناهم وكانوا مستضعفين في الأرض فمكن لهم فيها بمنه سبحانه وفضله، كما قال تعالى :{... فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار... ( ١٠٣ ){ ( آل عمران ).
والأمر الثاني الذي ذكرهم الله تعالى به هو الميثاق الذي عقدوه مع الله تعالى، والميثاق في اللغة هو العقد الموثق المؤكد بيمين الله تعالى وقد كان العهد من جانبهم يوجب عليهم السمع والطاعة فيما يأمرهم به الله تعالى، وفيما ينهاهم عنه، فالعهد فيه التزام من جانبهم وهو السمع والطاعة ووعد من جانب الله تعالى بأن يوليهم نعمه، ويهبهم النصر من لدنه وهو العزيز الحكيم وقد أكد سبحانه وتعالى ذلك العهد بقوله :﴿ الذي واثقكم به ﴾ أي الذي عقده سبحانه وتعالى معكم وتبادل معكم توثيقه وتأكيده، إذ إن واثق تقتضي المبادلة فالله تعالى ذو الجلال والإكرام هو الذي تولى ذلك الميثاق.
والمفسرون يتكلمون في الميثاق ما هو ؟ قيل : هو الميثاق الذي أخذ بمقتضى الفطرة ولكن ذلك الميثاق لا يخص المؤمنين، بل يعم البشر وقيل : إنه الميثاق الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل يثرب في العقبة١، ولكن هذا يخص الأنصار ولا يعم المؤمنين والحق أنه الميثاق الذي كان التواثق فيه على أساس التزام المؤمنين بالسمع والطاعة، كما عين النص الكريم موضوعه إذ قال سبحانه :﴿ إذ قلتم سمعنا وأطعنا ﴾ أي في الوقت الذي التزمتم فيه بالسمع والطاعة، وقد اختار ذلك ابن جرير ( وهو قول ابن عباس ) وقال في اختياره :"وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك قول ابن عباس وهو أن معناه : واذكروا أيها المؤمنون نعمة الله تعالى عليكم التي أنعمها بهدايته للإسلام، وميثاقه الذي واثقكم به، يعني وعهده الذي عاهدكم به، حين بايعتم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة له في المنشط والمكره، والعسر واليسر إذ قلتم : سمعنا ما قلت لنا، وأخذت علينا من المواثيق، وأطعناك فيما أمرتنا به، ونهيتنا عنه"... إلخ.
وكان التذكير بهذين الأمرين ليقوم المؤمنون بحقهما، فيما يتعلق بمعاملة الغير وفي علاقتهم بالناس من حيث إقامة العدالة لذات الله تعالى لا يريدون إلا وجهه الكريم وليكون القسط والميزان أساس أعمالهم.
﴿ واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور ﴾ بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بنعمه عليهم وميثاقه الذي واثقهم عليه، على أساس السمع والطاعة، طلب إليهم أمرا آخر هو أساس الاستجابة للميثاق وهو تقوى الله تعالى بأن يستشعروا دائما عظمته، ويتخذوا وقاية لأنفسهم من معصية الله تعالى، فإن التقوى هي أساس الطاعة وهي لب الاستجابة لما جاء في ميثاق الله تعالى وهو أعلى ميثاق في الوجود، لا ميثاق يدانيه إلا إذا كان مشتقا منه، بأن يكون أساسه السمع والطاعة لله في المنشط والمكره، وفي العسر واليسر وإن التقوى لله موضعها القلوب، وهي التي تحرك الجوارح فلا طاعة إلا إذا انبعثت من القلب عن طواعية ورضا واطمئنان ولذا قال سبحانه :﴿ إن الله عليم بذات الصدور ﴾ وتكرار ذكر الله تعالى لإشعار المؤمنين برقابته وإلى أنه فوقهم ومطلع عليهم، ومراقبتهم بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى والله تعالى عليم علما لا يدرك كنهه بكل شيء بما تخفيه وما تكنه الأفئدة. وذات الصدور هي : الأمور الملازمة للصدور التي تخفيها ولا تظهرها فهي بالنسبة للصدور كالصاحب بالنسبة لصاحبه يلازمه ولا يبعد عنه، ولا ينكشف فهي من ناحية أنها لا تخرج من الصدر تعد مصاحبته ويعبر عنها بذات الصدر كما يقال : فلان ذو مال. أي ملازم له.
وذكر إحاطة علم الله تعالى في هذا فيه إشارة إلى وجوب تطهير القلوب من الدنس، وتنظيفها من الشر، حتى لا تربد به وتطمس وفيه تنبيه إلى أنه من يريد السمع والطاعة عليه أن يتجه إلى قلبه ويشعر بأن الله عليم به، مطلع عليه لا تخفى عليه خافية.
ذكر الله سبحانه وتعالى ما به غذاء الأبدان، وهو كل طيب لا خبث فيه، ثم أشار إلى ما فيه غذاء الأرواح وطهارة الأبدان وهو الصلاة والوضوء لها، والاغتسال عند الإقدام عليها فذكر الأطعمة الحلال، وذكر ما به بقاء الجنس البشري، وهو الزواج ثم الوضوء وأركانه والاغتسال والتيمم وبعد أن ذكر ذلك الغذاء الفردي من جسم وروح ذكر الثمرة الطيبة لذلك وهي بناء مجتمع إنساني سليم، أساسه الثقة والعدالة، وابتدأ سبحانه وتعالى بذكر نعم الله ثم بذكر العدالة التي هي قوام هذا الوجود الإنساني فقال تعالى :﴿ واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا ﴾
معنى النص الكريم : يا أيها الذين اتصفوا بالإيمان بالله والخضوع وكان ذلك الإيمان عنوانهم الذي يعرفون به، وشرفهم الذين يتشرفون به، كونوا قوامين لله، أي اجعلوا أنفسكم وإحساسكم ومشاعركم مطبوعة على أن تقوم لله ولأجل محبته سبحانه وطلب رضاه، لا لهوى النفس ومنازع الشهوات وكونوا شاهدين بالحق، لا تطلبون سواه وهذا هو المعنى الجلي المقرب لما اشتمل عليه النص الكريم، وهو أعلى من أن تتسع عبارتنا لمعناه.
وهنا ملاحظات بيانية يجب اعتبارها والإشارة إلى كمال الحكمة في عمومها :
الأولى :﴿ كونوا ﴾ فهو أمر بالكينونة بأن يجعلوا القيام لله تعالى، والاعتبار به، والأخذ بهديه جزاءا من كيانهم وذلك بأن يستمروا على الطاعة ويديموا عليها فإن الدوام على الفعل والاستمرار عليه يجعل النفس تنطبع به، ويكون جزءا منها فالأمر ب "كونوا" يتضمن الاستمرار والدوام وأحب الأعمال إلى الله تعالى ما أمكن الاستمرار عليه، ليكون عادة للنفس بمنزلة الطبيعة فالعادة طبع ثان، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل"١.
ثانيهما : قوله تعالى :﴿ قوامين لله ﴾ فإن قوام معناها : من يبالغ بالقيام بالشيء وإتقانه والإتيان به على الوجه الأكمل، وكونه لله تعالى معناه أن تكون تلك المبالغة في الفعل لأجل الله تعالى لا شيء سواه وهذا يتضمن "أمرين" : أحدهما : أن يعمل الشخص على إتقان ما يعمل والمبالغة، فإن كان عبادة أتى بها على أكمل وجوهها، فالصلاة تكون كاملة وكذلك الصوم.. إلخ، وهذا يشمل ما يعمله الإنسان في الحياة سواء أكان عبادة أم كان أمرا من أمور الدنيا، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه"٢.
وثانيهما : أن يكون ذلك لله، بأن يكون أصل العمل لله، وأن يكون إتقانه لله تعالى، فيتجه في كل الأعمال إلى الله تعالى فالعامل في المصنع يعمل لله إن قصد بذلك نفع عباده، والتاجر كذلك وإذا قصد بأعماله وجه الله وما فيها من خير للعموم كان في عبادة مستمرة، وليست العبادة مقصورة على الصلاة والصوم والحج، بل كل عبادة إذا قصد بها وجه الله تعالى، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله"٣.
الثالثة : في قوله تعالى :﴿ شهداء بالقسط ﴾ فإن شهداء تدل على الحضور، وعلى الإثبات وأداء الشهادة وعلى الحكم وهي في النص الكريم تشمل كل هذا فالمعنى : لا يحكمون إلا بالقسط أي العدل، ولا يشهدون إلا بالعدل ولا يشهدون الزور، ولا يحضرون، إلا ما يكون قسطا وعدلا، وما يكون قسطاسا مستقيما لا تحيف فيه ولا انحراف، والمؤدى أن يكون حضورهم في القسط، ونطقهم بالقسط وحكمهم بالقسط وعملهم بالقسط فلا يكون إلا للخير وفي سبيل الخير دائما.
وعبر بالقسط، لأنه شامل للخير كله، ولأن العدل ميزان الخير، ولذا قال من بعد :﴿ ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ﴾.
الجرم في أصل معناه اللغوي : القطع فيقال جرم الثمار أي قطعها ثم أطلق على الكسب وغلب على الكسب الآثم، ومنه أجرم بمعنى ارتكب إثما، لأنه كسبه، وقد يتضمن معنى الحمل مع اشتماله على معنى الكسب الآثم وهذا هو القريب من المعنى هنا، فمعنى ﴿ ولا يجرمنكم شنآن ﴾ لا يحملنكم حملا آثما شنآن قوم ألا تعدلوا، والشنآن : البغض الشديد مصدر شنأه بمعنى أبغضه والمعنى لا يحملنكم البغض الشديد لقوم على ألا تعدلوا معهم بل أعطوهم حقوقهم ومكنوهم مما يستحقون وفي صدر هذه السورة يقول سبحانه :﴿... ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا...( ٢ ) ﴾( المائدة )، والمعنى هناك : أنه لا يصح أن يحمل البغض بسبب الصد عن المسجد الحرام على الاعتداء ففيها أمر بعدم الاعتداء أما هنا، فإن فيها أمرا بالعدالة حتى مع الأعداء فالعدالة نظام هذا الوجود الإنساني وبجمع الآيتين يكون المعنى المقرب لمراد الله سبحانه أنه لا يصح أن يكون البغض الشديد حاملا على الاعتداء، ولا أن يكون البغض الشديد حاملا على منع الحقوق بل يعطى كل ذي حق حقه ولو كان عدوا مبينا، فالحق ليس منحة من شخص يسلبه إن أبغض، ويعطيه إن أحب، بل إن التمكين منه واجب مقدس أمر الله سبحانه وتعالى به، وحث عليه، وقد روي في الحديث القدسي :"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا"٤. ولا ينتظم الوجود الإنساني بغير العدل، وقد روى الطبراني عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إذا ظلم أهل الذمة كانت الدولة دولة العدو"٥ومعنى هذا الحديث : أنه لا يصح أن يظلم غير المسلم الذي يعيش مع المسلمين، والدولة إذا ظلمت رعاياها من غير المسلمين لا تكون دولة الإسلام بل تكون دولة الأعداء.
وازنوا بين حكم الإسلام وحكم الأقوياء في هذا الزمان الذين يستبيحون كل شيء من غير حريجة من أخلاق أو دين.
﴿ اعدلوا هو أقرب للتقوى ﴾ الضمير في قوله "هو" يعود إلى العدل الذي تضمنه قوله تعالى :﴿ اعدلوا ﴾ وقوله تعالى من قبل :﴿ ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ﴾ والمعنى : اعدلوا، فالعدل أقرب للتقوى وفي النص انتقال من النهي إلى الأمر ففي النص الأول نهى عن أن يحملهم البغض على عدم العدل وفي هذا النص أمر بالعدل ولا شك أن النص الأول يتضمن الأمر بالعدل لأن النهي عن الشيء أمر بنقيضه فالنهي عن الظلم أمر بالعدل فكان ثمة تكرار مؤكد، وكان مع التكرار فائدة وهي طلب معالجة النفس، ومحاولة ترويضها على العدل، فإن قوله تعالى :﴿ ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ﴾ فيه أمر بعلاج النفس، وحملها على البقاء في دائرة الاعتدال وتقوية للإرادة حتى لا يستولي عليها الغضب، فتجمح وفي الجموح سير وراء شيطان الغضب، ووراء ذلك منع الحقوق، والظلم. وقوله تعالى :﴿ هو أقرب للتقوى ﴾ فيه بيان قرب العدالة من التقوى، مع أن العدل من صميم التقوى فلماذا عبر بالقرب من العدالة مع أن العدالة في ذاتها تقوى مؤكدة، وخصوصا في حال المغالبة النفسية والبغض الشديد ؟ والجواب عن ذلك أن قلب المؤمن في معاملته مع غير المؤمن قد تعتريه حال يرى فيه أن من التقوى ألا يعطيه حقه، لأنه في ميدان القتال يستبيح ماله ويستبيح دمه، فيظن حال السلم كحال الحرب، ويظن ذلك قريبا من التقوى فبين له القرآن الكريم أن القرب من التقوى أن يحسن معاملته وأن يعطي كل ذي حق حقه، فذلك دفعا للخاطر بمثله، أو بما يقرب إليه المعنى في التعبير، ولأن كمال التقوى بعيد المنال، وأنها إذا كانت مطلوبة فإن الله يعفو عن كمالها، ويكتفي منا بقربها ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :"لن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه، ولكن سددوا وقاربوا"٦ فالله جل جلاله غفور رحيم يطلب منا المقاربة بعد أن نسدد ونقارب ولقد طلب سبحانه منا أن نسدد فقال تعالى :
﴿ واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ﴾ أمرنا الله تعالى بالتقوى في كل الأمور في ذات أنفسنا بأن نراقب الله في كل عمل نعمله، فلا نعمل إلا طيبا ولا نقول إلا طيبا ولا نأكل إلا طيبا، ونخشى الله حق خشيته، ونقوم بعبادته مسددين مقاربين، ونتقي الله فيما بيننا ونكون عباد الله إخوانا، ويكون التعاون الحكم بيننا، ونتقي الله تعالى في مخالفينا فلا يكون منا عليهم اعتداء ولا ظلم بل تقريب وائتلاف، وإن كان منهم اعتداء دفعناه من غير أن نتجاوز حد الدفع.
وقد ذيل الله سبحانه وتعالى الأمر بالتقوى، بما يدل على علم الله تعالى بكل أعمالنا، حتى خلجات صدورنا وما يحوك في قلوبنا فقال سبحانه :﴿ إن الله خبير بما تعملون ﴾. أي أن الله جل جلاله عليم علما دقيقا فالخبرة : هي العلم الدقيق الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض، ولا في السماء عليم، هذا النوع من العلم بكل ما نعمل وما ظهر منه وما بطن وهو يجازينا بما نعمل إن خيرا فخير وإن شرا فشر ومن ينوي الخير فهو محتسب له، ومن ينوي الشر ويعدل عنه اختيارا لا يحتسب عليه إثم، اللهم وفقنا لتقواك واهدنا لما يرضيك وقربنا ولا تباعدنا إنك عليم حكيم.
٢ سبق تخريجه..
٣ سبق تخريج ما في معناه من حديث صحيح..
٤ جزء من حديث قدسي طويل سبق تخريجه من رواية مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه..
٥ عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ظلم أهل الذمة كانت الدولة دولة العدو، وإذا كثر الزنا كثر السبا وإذا كثر اللوطية رفع الله عز وجل يده عن الخلق فلا يبالي في أي واد هلكوا". رواه الطبراني..
٦ سبق تخريجه، وهو صحيح رواه البخاري وغير ه عن أبي هريرة رضي الله عنه..
بين الله سبحانه وتعالى غذاء الأبدان بطيب الأطعمة وغذاء الأرواح بالصلاة، فذكر مقوماتها ثم ذكر سبحانه وتعالى التكليفات الشرعية التي هي بناء الجماعات الإنسانية، وأنها ميثاق الله تعالى واثق به عباده، فوعدهم بالثواب عليه، وتعهدوا موثقين العهد بالسمع والطاعة، والاستجابة لما كلفوا القيام به، ثم بين سبحانه وتعالى أن أساس العلاقات الإنسانية العامة العدالة، وليس الحب والبغض : فإنهما يسيران أحيانا وراء الهوى، والهوى فساد والعدالة صلاح، وهي التقوى وما يقرب إليها ويدني منها، وفي الآية الآتية وما يليها بين سبحانه جزاء المهتدين وعقاب الكافرين وهو الوعد الذي وعد به عباده، ويبين سبحانه أنه لا يصح أن تؤدي قوة أهل الإيمان إلى ترك العدل وذكرهم سبحانه بحالهم أيام كانوا مستضعفين في الأرض، وهم المشركون أن يبسطوا أيديهم بالأذى فكفها سبحانه وتعالى عنهم، فقال :﴿ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم ﴾
﴿ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم ﴾ هذا هو الوعد الذي وعد الله تعالى به عباده المؤمنين، وهو الذي واثقكم به من جانبه، جل جلاله، في نظير السمع والطاعة والاستجابة لما أمر الله تعالى به ونهى عنه.
وإن ذلك الوعد إنما يستحقه الذين قاموا بما ألزمهم به الميثاق وهو الإيمان والطاعة إذ قالوا سمعنا وأطعنا وقد عبر الله تعالى عن السمع والاستجابة للسماع والإنصات للأدلة والإذعان لها بالإيمان فالإيمان هو العماد الذي يقوم عليه الميثاق الذي التزمه المؤمنون، والطاعة لأوامر الله تعالى هي التي عبر الله تعالى عنها بقوله تعالى :
﴿ وعملوا الصالحات ﴾ وما من مقام ذكر فيه المؤمنون بالمدح إلا اقتران به قيامهم بالعمل الصالح، لأن العمل الصالح ثمرته، ومثل الإيمان من غير عمل صالح يقدمه المؤمن كمثل شجرة جرداء لا تثمر ثمرا ولا تظل مستظلا والأكثرون من العلماء على أن الإيمان ناقص إذا لم يصحبه عمل، لأن الإيمان يزيد وينقص عند كثيرين ويزيد ولا ينقص عند آخرين، وعند هؤلاء يكون الإيمان من غير عمل إيمانا غير كامل.
والعمل الصالح الذي هو الطاعة والذي هو استجابة لأوامر الله تعالى ونواهيه، هو العمل الذي يكون فيه نفع للناس، ودفع للفساد في الأرض، وليس فيه ما يسوء أهل الخير، وقد جاء في كتاب غريب القرآن للأصفهاني :"الصلاح ضد الفساد وهما مختصان في أكثر الاستعمال بالأفعال وقوبل في القرآن تارة بالفساد وتارة بالسيئة قال تعالى :﴿... خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا...( ١٠٢ ) ﴾( التوبة )، وقال تعالى :﴿... ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها... ( ٨٥ ) ﴾( الأعراف ). وقال تعالى :﴿ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ في مواضع كثيرة وإصلاح الله تعالى الإنسان يكون تارة بخلقه إياه صالحا وتارة بإزالة ما فيه من فساد بعد إصلاحه، وتارة بالحكم له بالصلاح".
وإذا كان عمل الصالحات هو استجابة المؤمن لأمر الله ونهيه أو تنفيذ لقول المؤمنين :"سمعنا وأطعنا" فمؤدى ذلك أن الله تعالى لا يكلف عباده إلا ما فيه صلاح أمورهم ورفع الفساد عنهم، فما من أمر كلف الله تعالى عباده أن يقوموا به إلا كان فيه صلاح لهم ومنفعة، وما من أمر نهاهم عنه إلا كان فيه مفسدة، وعلى مقدار ما في الشيء من نفع تكون قوة المطالبة به، وعلى مقدار ما فيه من شر يكون مقدار النهي عنه، وبذلك يتبين أن الشرع الإسلامي كله جاء لخير العباد وصلاحهم والرحمة بهم، كما قال تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ( ١٠٧ ) ﴾( الأنبياء ) وعلى ذلك لا يصح لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول : إن نصوص القرآن أو السنة جاءت بأحكام فيها مضرة فإن ذلك أقصى العناد وغاية ما يريده أهل الفساد، وما يبتغيه الذين يريدون أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم.
وقد ذكر سبحانه وتعالى ما وعد به الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فقال :﴿ لهم مغفرة وأجر عظيم ﴾ فهذا النص الكريم هو بيان للوعد الذي وعد الله تعالى به عباده المؤمنين، فذكر الوعد بهما في قوله تعالى :﴿ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾. ثم ذكر البيان وفي ذكر البيان بعد الإبهام فضل تمكين للإعلام، وتثبيت للمعرفة، والوعد الذي وعد الله تعالى به يتكون من أمرين عظيمين : أحدهما مغفرة عظيمة والثاني أجر عظيم أما المغفرة فمعناها : ستر الذنوب وإخفاؤها، وإخفاء الذنوب من الله تعالى معناه ألا يقيم لها وزنا ويعفو عنها ويكفر السيئات ولا يجازي عليها، وأما إخفاؤها في الدنيا فذلك لأن العمل الصالح يلقي في النفس نورا فيذهب أعتامها إذ إن المرء إذا ارتكب سيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا استمرت السيئات ولم يكن ثمة عمل صالح تكاثرت النكت السوداء حتى يربد القلب ويسود، وإذا كان العمل الصالح أشرق النور فاختفت السيئات وهذا معنى قوله تعالى :﴿... إن الحسنات يذهبن السيئات ( ١١٤ ) ﴾ ( هود ).
ونكرت كلمة "مغفرة" للدلالة على عظمتها، وأنها مغفرة عظيمة لا تحيط بها المدارك البشرية.
هذا هو الأمر الأول أما الأمر الثاني : فهو الأجر العظيم وهو الثواب وسماه الله تعالى أجرا أي أنه استحقاق على عمل صالح، وذلك كان من الله تكرما وفضلا فكل شيء بفضل الله تعالى وهو ذو الفضل العظيم.
بين الله سبحانه وتعالى غذاء الأبدان بطيب الأطعمة وغذاء الأرواح بالصلاة، فذكر مقوماتها ثم ذكر سبحانه وتعالى التكليفات الشرعية التي هي بناء الجماعات الإنسانية، وأنها ميثاق الله تعالى واثق به عباده، فوعدهم بالثواب عليه، وتعهدوا موثقين العهد بالسمع والطاعة، والاستجابة لما كلفوا القيام به، ثم بين سبحانه وتعالى أن أساس العلاقات الإنسانية العامة العدالة، وليس الحب والبغض : فإنهما يسيران أحيانا وراء الهوى، والهوى فساد والعدالة صلاح، وهي التقوى وما يقرب إليها ويدني منها، وفي الآية الآتية وما يليها بين سبحانه جزاء المهتدين وعقاب الكافرين وهو الوعد الذي وعد به عباده، ويبين سبحانه أنه لا يصح أن تؤدي قوة أهل الإيمان إلى ترك العدل وذكرهم سبحانه بحالهم أيام كانوا مستضعفين في الأرض، وهم المشركون أن يبسطوا أيديهم بالأذى فكفها سبحانه وتعالى عنهم، فقال :﴿ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم ﴾
بعد أن ذكر سبحانه جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات ذكر سبحانه الذين كفروا وكذبوا بآيات الله تعالى، وهذا النص الكريم يشتمل على وصف الذين لم يؤمنوا وجزائهم.
وإن أولئك الذين لم يؤمنوا يتصفون بوصفين : أولهما : الكفر وثانيهما : تكذيب آيات الله تعالى القائمة حجة على رسالة الرسول الذي أرسل إليهم، وقد ذكر الكفر سابقا على تكذيب الآيات مع أن الظاهر أن الكفر نتيجة لهذا التكذيب وذلك لأن الكفر هنا معناه : جحود القلب وطمس معالم الإدراك فقلوبهم غلف، قد غطيت عنها الحقائق وغاب عنها الفهم الصحيح، والإنكار يكون مرتكزا في النفس، فلا تذعن ولا تصدق وإذا كانت النفوس على هذا النحو فإنه يكون التكذيب لكل ما تدل عليه الآيات الحسية والمعجزات القطعية، لأن القلب قد شاه وفسد، فلا يرى الحقائق ويكذب بها، كما أن العين إذا شاهت وغشيت أصبحت لا ترى النور المبصر، وإن عم صاحبها وإن التكذيب بالمعجزات أكبر ما يكون عن فساد في الإدراك، إذ يكون لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، وكان التكذيب جرما عظيما لأنه تكذيب بآيات الله تعالى التي كانت للدلالة على الرسالة والإذعان للحق، فلم يفعلوا وكان الجزاء ما عبر عنه سبحانه بقوله تعالى :﴿ أولئك أصحاب الجحيم ﴾.
أي أولئك الذين كان منهم الكفر والجحود ثم التكذيب للآيات وقد جاءت معلمة واضحة بسبب ذلك كانوا ملازمين للجحيم أي النار المتأججة الشديدة اللهب التي تشوي الأجسام والوجوه شيا، فمعنى أصحاب الجحيم : الملازمون لها ملازمة الصاحب لصاحبه الذي لا يفترق عنه، وكلاهما جدير بصاحبه.
بين الله سبحانه وتعالى غذاء الأبدان بطيب الأطعمة وغذاء الأرواح بالصلاة، فذكر مقوماتها ثم ذكر سبحانه وتعالى التكليفات الشرعية التي هي بناء الجماعات الإنسانية، وأنها ميثاق الله تعالى واثق به عباده، فوعدهم بالثواب عليه، وتعهدوا موثقين العهد بالسمع والطاعة، والاستجابة لما كلفوا القيام به، ثم بين سبحانه وتعالى أن أساس العلاقات الإنسانية العامة العدالة، وليس الحب والبغض : فإنهما يسيران أحيانا وراء الهوى، والهوى فساد والعدالة صلاح، وهي التقوى وما يقرب إليها ويدني منها، وفي الآية الآتية وما يليها بين سبحانه جزاء المهتدين وعقاب الكافرين وهو الوعد الذي وعد به عباده، ويبين سبحانه أنه لا يصح أن تؤدي قوة أهل الإيمان إلى ترك العدل وذكرهم سبحانه بحالهم أيام كانوا مستضعفين في الأرض، وهم المشركون أن يبسطوا أيديهم بالأذى فكفها سبحانه وتعالى عنهم، فقال :﴿ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم ﴾
هذا متصل بالأمر بالعدالة مع الأعداء كالعدل مع الأولياء، ففي هذا النص أمر بالتذكير بحال ضعفهم عندما كانوا يلتمسون العدالة، ليعتبروا بماضيهم، ويتخذوا منه عبرة لحاضرهم، فيتذكروا حال الضعف في حال القوة، ليعلموا نعمة الله تعالى عليهم ولكي يعدلوا مع غيرهم كما كانوا يلتمسون العدل إذ كانوا مظلومين يتخطفهم الناس، وينزل بهم البأس.
فالآية تدعو إلى التذكير بنعمة الله ليشكروها، ولكيلا يشتطوا مع غيرهم، وبسط اليد معناه بالقوة والأخذ والسيطرة والصولة، وقد قال تعالى :﴿... ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء...( ٢ ) ﴾( الممتحنة ) فالبسط هنا بسط للصولة والقوة والسيطرة ومعنى النص الكريم : يا أيها الذين أذعنوا للحق واستمسكوا به، واستجابوا لأمر ربهم تذكروا نعمة الله التي أنعمها عليكم إذ هم قوم أن يمتدوا بيد الأذى ويبسطوها، فكفها عنكم وبدلكم من بعد الضعف قوة، ومن بعد الذلة عزة، ومن بعد أن كنتم تظلمون وترامون بالسوء صرتم يطلب الإنصاف منكم.
وقد أكد سبحانه وتعالى أنه هو سبحانه الذي رد الأذى وتدبير الشر، فقال مكررا كلمة الأيدي ﴿ فكف أيديهم عنكم ﴾ وفي ذلك إشارة إلى أنه سبحانه هو الذي قضى على موضع قوة أعدائهم ومناط شدتهم، وهي الأيدي التي يكون بها البطش والصولة.
ولقد تكلم مفسرو الأثر وغيرهم في سبب نزول هذه الآية وخصصوا واللفظ عام، فقالوا : إن يد البطش والغدر كان قد هم بها ناس للاعتداء على شخص النبي صلى الله عليه وسلم، والاعتداء عليه اعتداء على المسلمين، وكف الاعتداء عنه نعمة على كل المسلمين، وقالوا في ذلك روايات مختلفة تنتهي إلى خبرين :
أولهما : أنه روي من حديث جابر وغيره أن رجلا من بني محارب قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت الراحة ومعه السيف وقال للرسول من يمنعك : قال الرسول صلى الله عليه وسلم :"الله" فوقع السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال :"من يمنعك مني"، فقال الرجل : كن خير آخذ. قال الرسول صلى الله عليه وسلم :"تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله" قال :"أعاهدك ألا أقاتلك، ولا أكون مع من يقاتلونك، فخلى سبيله، فجاء إلى قومه وقال : جئتكم من عند خير الناس"١.
ثانيهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني النضير ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير يطلبون منهم الإعانة على دية رجلين قتلا، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم عقد مع بني النضير عهدا على ألا يحاربوه، وأن يعينوه على الديات، فلما طالبهم بحكم هذا العهد أظهروا القبول وأخفوا الغدر، فقالوا : نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي سألتنا، فجلس بجانب جدار لهم، وقال لهم حيي ابن أخطب : لا ترونه أقرب منه الآن، اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه فهموا أن يطرحوا عليه صخرة، وقد أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بنية الغدر إذ أعلمه جبريل فانصرف قبل أن ينفذوا ما دبروا٢.
هاتان روايتان في أسباب النزول ويكون القوم هم الذين دبروا قتل النبي صلى الله عليه وسلم فرادى وجماعات، ويكون كف أيديهم نعمة عظيمة على أهل الإيمان.
والذي نراه هو تذكير المؤمنين بما هم به الأقوام من الاعتداء على النبي صلى الله عليه وسلم في هاتين الواقعتين، ومن قبلهما بتدبير قتله يوم الهجرة النبوية، ومن الاعتداء على المؤمنين في غزوة أحد، ومن تضافر العرب في الجزيرة العربية على الذهاب إلى المدينة قصبة الإسلام، واقتلاعها في غزوة الأحزاب وقد كف الله سبحانه وتعالى في كل هذا تلك الأيدي المبسوطة بالشر، فلا تخصيص في النص بل يترك على عمومه.
﴿ واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ بعد التذكير بهذه النعمة التي جعلت للمؤمنين كيانا مستقلا عزيزا كريما ينتصف من الظالمين، ولا يظلم أحدا أمر الله سبحانه وتعالى بالتقوى وتقوى الله تعالى هي : الشعور بعظمته والإحساس بجلاله وامتلاء القلب به، واطمئنانه إليه ورجاء ثوابه وخشية عذابه وعبادته كأنه يراه كما ورد في الأثر :"اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"٣.
هذه كلمات تقرب معنى تقوى الله تعالى وهي تتضمن ذكر النعمة، وتتضمن شكرها وهي في الشكر نص، ولا يكون الشكر من غير تذكر.
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالت كلماته :﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ وفي هذا طلب الله تعالى من عباده المؤمنين أن يتوكلوا عليه، ولا يتوكلوا على سواه، وقد صيغ الطلب في صيغة الخبر، للإشارة إلى أنه حال ملازمة للمؤمنين لا ينفصلون عنها، لأن من تقوى القلوب ألا يعتمدوا إلا على علام الغيوب فالتوكل على الله وحده في السراء والضراء، في الشدة وفي الضعف من لب عبادته سبحانه وتعالى.
والتوكل على الله ليس هو التواكل وترك العمل، بل هو الأخذ في الأسباب ثم الاعتماد في الوصول إلى النتائج على الله تعالى وحده، فإن الأسباب لا تنتج وحدها ولكن لا بد من فضل الله تعالى بالتوفيق ولطف التقدير.
وفي الجملة الكريمة :﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ إشارات بيانية واضحة منها ذكر لفظ الجلالة فإنه يشير إلى عظمة من يعتمد عليه إذ يعتمد على منشئ الوجود ومسيره ومبدعه، وفيها لفظ ﴿ على ﴾ فإنه يشير إلى علو من يعتمد على الله وسموه، وعدم ذلته لمخلوق، ومنها تقديم الجار وما بعده فإنه يشير إلى الاقتصار في التوكل على الله، فلا يتوكل على غيره، لأن ذلك لا يخلو من شرك، ولأن التوكل من العبادة، والعبادة لله وحده، ومنها لفظ الفاء التي ربطت الكلام ولا تخلو من معنى السببية، فإنها تدل على أن من ثمرات التقوى التوكل على الله تعالى.
هذا ونكرر أن التوكل على الله تعالى حق التوكل يوجب العمل ﴿... ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير( ٤ ) ﴾( الممتحنة ).
٢ سبق تخريجه بهذا اللفظ..
٣ سبق تخريجه..
في الآيات السابقة بين سبحانه طيبات ما أحل الله تعالى، وهي تصور متعة الجسد التي تكون حلالا، سواء أكانت طعاما يؤكل أم كانت تتعلق بما يكون بين الرجل والمرأة، ثم بين طهارة الأجساد والقلوب بالصلاة وما يتقدمها من وضوء وتيمم، وذلك لتكون متعة الجسد في دائرة الطهارة والسمو، فيتهذب الفرد وينمو ويقوى وبذلك يكون قوة في بناء المجتمع الإنساني الذي يبتدئ بمجتمع الأمة أو القوم من غير تعصب ظالم، ولا انحراف لغير غاية فاضلة، وبين سبحانه وتعالى أن العدالة هي نظام العلاقات الإنسانية، وهي التي تنسقها وكل تنسيق لا يبنى عليها هو معول هدام، ينقض القائم ويفسد الصالح، والعدالة الحقيقية لا تفرق بين عدو مشنوء مبغض، وولي محبوب مقرب، وذكر المؤمنين من بعد ذلك بأوقات ضعفهم حتى لا يشتطوا في أوقات قوتهم ومن بعد ذلك وثق الله سبحانه وتعالى هذه المبادئ الإنسانية العالية التي هي شريعة النبيين أجمعين، وإن يخالفوها ينقض بنيانهم وتذهب وحدتهم أوزاعا، ولهذا ذكر أخذ الميثاق بها على بني إسرائيل وكيف نقضوه، فقال تعالى :
﴿ ولقد أخذ ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ﴾ الميثاق : أصله من وثق وهي تدل على معان فيها الاطمئنان فيقال : وثقت به، أي اطمأننت إليه ومنها الشد، وربط شيئين ومنه قوله تعالى :﴿... فشدوا الوثاق... ( ٤ ) ﴾( محمد ) ومنها ربط الكلامين ربطا موثقا، ومنه هذه الكلمة السامية ميثاق الله تعالى، وهي تتضمن معنى التشديد في العهد لأنه مأخوذ مع الله سبحانه وتعالى وأي عهد أقوى وأوثق من عهد يكون بين العبد والرب ؟ ويتضمن ميثاق الله تعالى معنى الاطمئنان والثقة لأن الاعتماد فيه على الله سبحانه وتعالى وهو المعاذ الذي يعاذ به ويلجأ إليه سبحانه وتعالى.
وميثاق الله تعالى الذي أخذه على بني إسرائيل هو التكليفات التي كلفهم إياها، من صلاة وزكاة وطاعة للرسل في المنشط والمكره، والسلم والحرب، يروى في ذلك عن ابن إسحاق قال :"أمر موسى أن يسير ببني إسرائيل إلى الأرض المقدسة وقال : إني كتبتها لكم دارا وقرارا ومنزلا فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدو، فإني ناصركم عليهم، وخذ من قومك اثنى عشر نقيبا، من كل سبط نقيبا يكون على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به، وقل لهم : إن الله يقول : إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي...".
فالميثاق كما تدل الروايات يتضمن التكليفات كلها، وأخصها الجهاد وموضوعه يبينه الله تعالى بالنص في قوله تعالى :﴿ لئن أقمتم الصلاة ﴾.
ومعنى قوله تعالى :﴿ وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ﴾ أن الله سبحانه وتعالى اختار منهم اثنى عشر رئيسا على حسب بطونهم ليوقعوا الميثاق أو ليتلقوا العهد، فالبعث أصل معناه : الإثارة ثم أطلق على الإثارة التي يتبعها فحص، ثم اختيار، والنقباء جمع نقيب وأصل النقب : الخرق في الجدار ونحوه، ويقال : نقب عليهم صار نقيبا لهم، أي رئيسا مختارا بما يشبه الانتخاب الطبعي، أي أن رياسته بمقتضى التكوين الفطري فهو رئيس، وإن لم يعين بسلطان، ويقول ابن جرير في تفسير معنى النقيب :"النقيب في كلام العرب كالعريف على القوم غير أنه فوق العريف، يقال منه نقب على بني فلان فهو ينقب نقبا، فإذا أريد أنه لم يكن نقيبا فصار نقيبا، قيل قد نقب نقابة".
وفسر بعض العلماء النقيب بمعنى الأمين، وإن هذا التزامي لتفسير النقيب على النحو السابق، لأنه لا يكون له المنزلة السابقة إلا إذا كان أمينا له سابقات في المكارم والمعارف والصدق والأمانة، إذ إن هذه الصفات هي أسس السيادة على الناس، والسيادة بغير ذلك تكون نوعا من العلو والجبروت ولا تكون نقابة سامية.
ومؤدى القول أن الله تعالى أخذ عليهم الميثاق بالطاعة، والإذعان بما أمرهم به، وبأنه كان في سبط من أسباطهم الإثنى عشر نقيب له عليهم فضل النقابة والشرف يدعوهم إلى تنفيذ ميثاق الله تعالى، والقيام على عهده وكان ذلك لأن بني إسرائيل توالت عليهم القرون وهم في حكم فرعون وقهره، وقد استمر العذاب والهوان وانحلت إرادتهم وعزائمهم، وأصبحوا لا يؤمنون بفضيلة ولا عقيدة فكان لا بد من مذكر مستمر من بينهم ومحرض دائم منهم ومثل من بينهم تكون عيانا مستمسكة بالخلق والدين، حتى تتربى إرادتهم، وتقوى عزائمهم ألم تر أنهم مع إنقاذ الله تعالى لهم على يد موسى عليه السلام، وفلق البحر لهم حتى صار كل فرق كالطود العظيم ومع توالي البينات الشاهدة المثبتة للرسالة والوحدانية قالوا لموسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، فالحس قد استولى عليهم، والمادية قد استغرقتهم لذلك كان ميثاق الله تعالى الذي واثقهم به النقباء كانوا فيهم مع الرسول موسى عليه السلام وأخيه هرون الذي شد أزره في رسالته. وفي النص الكريم إشارتان بيانيتان :
إحداهما : أن الله تعالى نسب الميثاق إليه جل جلاله بلفظ الجلالة لزيادة توثيقه ولعظيم توكيده ثم التفت بنسبته بعث النقباء إليه من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم العظيم لبيان عظم مقام النقباء فإسناد بعثهم إليه سبحانه هو الذي بينهم وهو الذي كونهم.
والإشارة الثانية : يتضمنها قوله تعالى :﴿ وقال الله إني معكم ﴾ وهنا كان الالتفات إلى لفظ الحاضر مرة ثانية، وذكر معية الله تعالى تفيد أمرين أولهما، أن الله تعالى يعلم حالهم من طاعة أو عصيان علم المصاحب لهم، فإنه لا يخفى عليه أمرهم، وإنه محاسبهم على تنفيذ العهد والميثاق وإنه سبحانه وتعالى يجزي بالحسنة الحسنى وبالسيئة السوءى. والأمر الثاني : أنه إذا كان جهادا فالله تعالى معهم مؤيدهم بنصره إن اعتزموا ونصروه.
وقوله تعالى :﴿ وقال الله إني معكم ﴾ ذكر القول ونسبته إلى الله سبحانه وتعالى، وذلك فضل تأكيد بالمعية والمصاحبة، والمراقبة والمناصرة، لأن الله تعالى هو الذي أخبر بذلك عن نفسه.
﴿ لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا ﴾ هذا بيان الميثاق الذي واثقهم الله تعالى به، وقد ذكره سبحانه وتعالى مؤكدا بالقسم فضلا تأكيد، إذ إن التأكيد بالقسم تبعه لغة التأكيد باللام، والتأكيد بالنون التي تدخل هي واللام في الجواب وهو هنا قوله تعالى :﴿ لأكفرن عنكم سيئاتكم ﴾.
وقد فهم بعض المفسرين أن قوله تعالى :﴿ لئن أقمتم الصلاة ﴾ داخل في مقول القول في قول الله تعالى :﴿ وقال الله إني معكم ﴾ فيكون ذلك خير تأكيد للعهد بالنسبة لله تعالى، وهو جواب القسم وعندي أن هذا النص استئناف بياني فيه بيان موضوع الميثاق فهو عهد بين العبد وربه، كان الالتزام على بن إسرائيل هو ما اشتمل عليه النص الكريم وما وعد الله تعالى هو ما جاء في قوله سبحانه :﴿ لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾.
والالتزام الذي أوجبه ميثاق الله تعالى عليه يتصل بتهذيب النفوس، والتعاون الاجتماعي والجهاد والإيمان وقد ذكره سبحانه وتعالى في خمسة أركان :
أولها : ما قاله سبحانه في صدر العهد :﴿ لئن أقمتم الصلاة ﴾ فالصلاة هي الركن الأول من الميثاق الرباني الإلهي وابتدئ بذكرها لأنها طهارة النفوس، وتزكية القلوب وبها تربية الضمير الذي يكون جماعة مؤتلفة وإقامتها تنهى عن الفحشاء والمنكر وتربي في النفس روح الخير، والإحساس بعظمة الله تعالى، ولا يمكن أن يكون الوفاء بالميثاق الإلهي من غير إقامة الصلاة فإنها ركن كل دين وروح التدين الصحيح وقوامه، وعبر بإقامتها دون أدائها، فقد قال :﴿ لئن أقمتم الصلاة ﴾ لأن الصلاة التي تأتي بثمراتها هي الصلاة الكاملة التي يأتي بها صاحبها مقومة غير ملتوية يتجه فيها بالبنية إلى الله تعالى، ويخلص فيها لا التي تكون رئاء الناس أو تؤدى على وجه العادة لا على وجه العبادة.
الركن الثاني : من أركان ميثاق الله تعالى على بني إسرائيل وهو ميثاقه على خلقه عامة لا على بني إسرائيل، وهو إيتاء الزكاة وإذا كانت الصلاة تربية القلوب وتهذيب الوجدان ليندمج المؤمن في جماعته فالزكاة فريضة تعاونية لسد خلة الضعفاء ولإيجاد تعاون بين الغني والفقير، فلا يكون الغني مملوء الجيب، والبطن، والفقير فارغ الجيب أخمص البطن فهي التعاون الكامل، وهذا يدل على أن الزكاة ليست في الإسلام فقط، بل هي في كل الأديان السماوية وهي جزء من الميثاق الديني في كل الرسالات السماوية، فليس لأهل دين سماوي أن يفر منها باسم أنها ليست في دينه، وإن كانت النظم تختلف أحيانا في بعض الشرائع عنها في الآخر، فالأصل ثابت وهو مشترك في الجميع ولعل الصلاة أيضا قد تختلف أشكالها ولكن لبها ثابت في الجميع وليس لأهل دين أن يغير في أمر الله تعالى.
الركن الثالث : ذكره الله سبحانه وتعالى بقوله :﴿ وآمنتم برسلي ﴾ والإيمان بالرسل معناه الإذعان والتصديق فمن ميثاق الله تعالى على بني إسرائيل وغيرهم الإيمان برسل الله تعالى بتصديقهم، والإذعان لما يدعون إليه فلا يقبلون لبعضهم البعض، ويرفضون الآخرين، فيؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض لأن رسالة الله واحدة، ورسل الله تعالى جاءوا جميعا بشرع واحد في أصله وإن اختلف في بعض فروعه، وقد أضاف سبحانه وتعالى الرسل إليه، فقال :﴿ وآمنتم برسلي ﴾ لتأكيد معنى رسالة هؤلاء الرسل، وللإشارة إلى أن عدم الإذعان لهم، والتصديق بهم تمرد على الله تعالى وتكذيب فمن يطعهم فقد أطاع الله تعالى ومن يعصهم فقد عصاه سبحانه، فإضافة الرسل إليه سبحانه وتعالى لتعظيم شأن رسالاتهم، وبيان آثار طاعتهم ومغبة عصيانهم.
وقد يقال : إن الإيمان بالرسل مقدم على طلب إقامة الصلاة وطلب إيتاء الزكاة فلماذا أخر في الذكر عنه ؟ وإن الجواب عن ذلك : أن الميثاق مفروض أنه بعد الإذعان لرسالة موسى عليه السلام، فكان أخذه ثمرة من ثمرات تلك الرسالة، فهناك إيمان ضمني مقدر في ثنايا القول، وإن لم يكن مذكورا، وإن الإيمان بالرسل المذكور من بعد هو الإيمان بالرسل الذين يجيئون من بعد موسى، كعيسى ومحمد صلى الله تعالى عليهما وسلم حتى لا يحسبوا أن الرسالة مقصورة على موسى وأنهم لا يؤمنون إلا بها، وأن يقولوا : أن غيرهم ليسوا على شيء فإن فعلوا يكونوا بذلك قد نقضوا الميثاق الذي واثقهم الله تعالى.
والركن الرابع : من أركان ذلك الميثاق القدسي : عبر الله تعالى عنه بقوله تعالى :﴿ وعزرتموهم ﴾ أي قويتموهم ونصرتموهم فذلك فتح باب الجهاد الواجب لنصرة الرسل، ونصرة الحق دائما، فالتعزير هو النصر ويطلق على العقاب المانع من الضرر، ويقول صاحب المفردات : إنها من باب واحد فيقول في ذلك : التعزير النصرة مع التعظيم قال تعالى :﴿... وتعزروه...( ٩ ) ﴾ ( الفتح ) ﴿ وعزرتموهم ﴾، والتعزير ضرب دون الحد، وذلك يرجع للأول، فإن ذلك تأديب والتأديب نصرة، لكن الأول نصرة بقمع ما يضره بالدفاع عنه، والثاني نصرة بقمعه عما يضره فمن قمعته فقد نصرته وعلى هذا الوجه قال صلى الله عليه وسلم :"انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قال قائل : أنصره مظلوما فكيف أنصره
أخذ الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل الميثاق أن يقوموا بالتكليفات التي كلفهم إياها، وألزمهم بمقتضى هذا الميثاق أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وأن يقوموا بالخير الذي رغبهم فيه سبحانه بأن سماه إقراضا له، وهو المنعم بكل شيء الغني الحميد ووعدهم سبحانه بأن من يقوم بحق الميثاق يستر سبحانه وتعالى سيئاته، ويدخله جنات النعيم الدائم الذي لا يحول ولا يزول، وأوعدهم بأن من يكفر بالميثاق ينال جزاء الضالين وأشار لهم بأن الميثاق هو الطريق المستقيم، وأن الخروج عن منهاجه هو الضلال المبين، ولكن ذكر بعد ذلك أنهم اختاروا الضلالة على الهدى ونقضوا الميثاق وضلوا وبعدوا عن طريق الحق، فطردوا من نعمة الإيمان واستولى الشيطان على قلوبهم ولذا قال سبحانه :﴿ فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية ﴾
﴿ فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية ﴾ أي بسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم، والتزموا بأحكامه طردهم الله تعالى من رحمته، وذلك لضلالهم عن طريق الهداية، لأن من ترك طريق الله الذي سنه فقد ضل وبهذا الضلال المبين طردوا من طريق الرحمة، وهو الطريق المستقيم الذي يوصل إلى جنات النعيم فمعنى لعناهم : طردناهم، والطرد هنا هو السير في متاهات الضلال، وفي ذلك تشبيه لحال من يسلك سبيل الضلال بعد أن فتح له باب الهداية، وأرشد إلى الطريق المستقيم بحال من يكون في مكان آمن مستقر فيه، قد مكن له في الإقامة ومهد له، ثم طرد منه مذءوما مدحورا مبغوضا مكروها.
وإنهم إذا ساروا في طريق الغواية وتركوا منهاج الهداية تفسد مداركهم، فيطمس على عقولهم، وتجمد قلوبهم فلا تلين لحق، ولا يدخل إليها نور، ولذلك قال تعالى :﴿ وجعلنا قلوبهم قاسية ﴾ أي جعلنا قلوبهم غليظة صلبة كالحجارة، منزوعة منها الرأفة والرحمة، وذلك لأنهم لما مردوا على العصيان والمخالفة صلبت قلوبهم فأصبحت لا تنفتح لإدراك حق، كما قال في شأن هؤلاء اليهود عندما أخذوا في طريق العصيان :﴿ ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون( ٧٤ ) ﴾( البقرة ).
والقراءة المشهورة عند البصريين هي :﴿ وجعلنا قلوبهم قاسية ﴾ وهناك قراءة أخرى وهي مشهورة عند الكوفيين، وهي :( وجعلنا قلوبهم قسية }١ وقد خرجها بعض المفسرين على معنى القراءة السابقة بيد أن فيها مبالغة لأنها على وزن فعيلة فهي تدل على تمكن صفة القسوة فيهم، وذكر ابن جرير الطبري لهذه القراءة وجها آخر، وقال :"إنها القسية في هذا الموضع القلوب التي لم يخلص إيمانها ولكن يخالط إيمانها كفر كالدراهم القسية، وهي التي يخالط فضتها غش من نحاس أو رصاص "ثم قال رضي الله عنه :"وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، تأويل من تأول فعيلة من القسوة، كما قيل نفس زكية وزاكية وامرأة شاهدة وشهيدة لأن الله تعالى جل شأنه وصف القوم بنقضهم ميثاقهم وكفرهم به ولم يصفهم بأي شيء من الإيمان حتى تكون قلوبهم موصوفة بإيمان يخالطه كفر، كالدراهم القسية التي يخالط فضتها غش". والحق عندي أن كلتا القراءتين قرآن، وما دامت متواترة فالجمع بينهما ضروري والجمع بجعل إحداهما تأتي بمعنى ليس في الأولى يكون أولى وتكون كلتاهما متممة للأخرى، وبالجمع يكون المعنى : وجعلنا قلوبهم قاسية، لأنه اختلط فيها الزيف بأصل الإيمان، فعندهم إيمان بالله من غير إذعان لأحكامه ولا تصديق لرسله ولا قيام بالتكليفات والزيف أكثر من الأصل والنحاس أكثر من الفضة فصلبت.
وإن قسوة القلب وفساده يترتبان على الانحراف عن الطريق السوي الذي عبر عنه بالطرد، لأن من ضل الطريق كلما سار في الضلال تاه عن الحق وغاب عنه، ولأن القلب كلما أركس في الشر أربد وأظلم، وصارت غشاوة من الباطل تغطيه فلا يدرك، وتحجره فلا يلين.
وهنا بحث لفظي، وهو في قوله تعالى :﴿ فبما نقضهم ميثاقهم ﴾ فإن الفاء هنا تسمى بفاء الإفصاح، وهي تفصح عن شرط مقدر تقديره : فإذا ضلوا ونقضوا الميثاق فبسبب ذلك يطردون من طريق الرحمة ومنهاج الاستقامة و "ما" زيدت في الإعراب لتأكيد معنى السببية بين نقض الميثاق والضلال.
﴿ يحرفون الكلم عن مواضعه ﴾ أي يحيلون بالكلام عن الموضع الذي نزل فيه ولأجله، والمعنى المقصود منه إلى طرف بعيد عن لبه، وعن معناه فالحرف للشيء طرفه الذي يبعد عن قلبه وعن قطبه الذي يدور حوله والتحريف كما جاء في عبارات المفسرين قسمان، قسم يغيرون به معاني الكتاب فيتجهون بها إلى أمور ربما يحتملها الكلام ولكن لا يحتملها إلا على بعد من موضوعها، كبعد طرف الشيء عن قطبه وقسم آخر يغير ذات الكلام بزيادة ألفاظ فيه تذهب بأصل المعنى، أو بحذف ألفاظ يذهب بالمقصد من القول، وقد كان من اليهود القسمان، فهم غيروا معاني الكتاب الذي أنزل وأبعدوه عن معانيه التي قصدت من سوقه، وأريدت عن شرعه وهم غيروا وبدلوا في عباراته حتى تذهب تكاليف الكتاب وتطمس معالم أحكامه ومن ذلك مثلا أنه جاء في كتبهم تحريم الربا بمثل هذا الكلام ( أخاك لا تقرض بالربا ) فزادوا كلمة الإسرائيلي :( أخاك الإسرائيلي لا تقرض بالربا ) وبذلك تغير المعنى تغيرا جوهريا، والكلم : المراد بها الكلام فهو إسم جمع يدل على الجمع بحذف التاء كشجر وشجرة وتمر وتمرة.
وجاء قوله تعالى :﴿ يحرفون الكلم عن مواضعه ﴾ ثمرة لقسوة القلوب والطرد بالضلال وذلك لأنهم لما ضلوا وفسدت قلوبهم واختلط فيها الزيف بالجوهر حتى غلب الزيف ماتت ضمائرهم وصاروا كذابين يكذبون على الله تعالى وعلى الناس فيغيرون معاني التنزيل ويزيدون فيه وينقصون على حسب هواهم وشهواتهم، وارتكبوا بهتانا عظيما.
ومع التحريف الذي قصدوه وشوهوا به التوراة التي نزلت على رسولهم قال الله تعالى عنهم :﴿ ونسوا حظا مما ذكروا به ﴾ والنسيان معناه الترك، أو الغفلة عنه. وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني ما نصه :"النسيان ترك الإنسان ما استودع إما لضعف قلبه وإما عن غفلة وإما عن قصد، حتى ينحذف عن القلب ذكره" وهذا يستفاد منه أن النسيان ترك عن غفلة أو ترك عن قصد، وقد يكون النسيان سببه أمر خارج عن إرادة الناس كأن يخفي عدو قاهر ما عند الشخص فيتركه مكرها.
وقد كان عند اليهود قبحهم الله الأنواع الثلاثة فهم قد أصابتهم الغفلة عن كتابهم بسبب فساد قلوبهم، وهم قد تركوا بعضه وجعلوه مهجورا، لأنه لا يتفق مع أهوائهم وقد نزل بهم الشدائد ما ضيع كتبهم، ولم يبق منها إلا القليل كما فعل ذلك بختنصر معهم، حتى إذا عاد جمعهم لم يبق من كتبهم إلا متناثرا لا يكون مجموعا متناسقا.
وهنا لفظان نقف عند المعاني التي يشيران إليها : أولهما : معنى "حظ" فنقول : الحظ هو النصيب الكبير الذي يعد محظوظا من يأخذه وهذا يدل على أن الجزء الذي نسي هو جوهر الدين ولبه، وحسبك أن تعلم أن التوراة التي بأيدينا ليس فيها ذكر لليوم الآخر وما يكون فيه من نعيم مقيم وعذاب أليم وثاني الفظين : هو "مما ذكروا به" فإن ذلك يشمل تعاليم موسى وتعاليم الأنبياء من قبله، وكل هذا نسوا الحظ الأكبر منه.
﴿ ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم ﴾ الجماعات الإنسانية تتوارث عادات وأخلاقا حتى تصير كأنها طبائع وجبلة فالكلام في بني إسرائيل الذين سبقوا عصر النبوة، ولكن الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم يحملون الصفات التي كان أسلافهم عليها ولذلك اعتبروا منهم أو مثلهم فخاطب الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه صلى الله عليه وسلم يرى في الحاضرين صورة السابقين ويرى فيهم طائفة منهم، وإن تباعدت الأزمان وإذا تخالفت الشخوص لا تتخالف الصفات، ولذلك قال تعالى :﴿ ولا تزال تطلع على خائنة منهم ﴾ أي أن صفاتهم مستمرة وهم بذلك مستمرون فلا تزال تطلع على طائفة خائنة منهم خيانة أسلافهم فيهم قسوتهم، وفيهم ضلالهم وفيهم انحرافهم. و﴿ خائنة ﴾ : وصف لمحذوف تقديره بقية خائنة أو طائفة خائنة أو نفوس خائنة منهم، وفسر بعض المفسرين خائنة بمعنى خيانة والمعنى على ذلك لا تزال تطلع على خيانة، والمؤدى واحد لأن الاطلاع على فرقة أو بقية خائنة اطلاع على الخيانة، والإطلاع على الخيانة اطلاع على قوم متصفين بها، وفي الكلام إشارة إلى أن هؤلاء اليهود في ماضيهم قد خانوا الله تعالى، وخانوا أنفسهم بنقضهم الميثاق الذي أخذ موثقا مؤكدا عليهم، فلا تعجب إذا كانوا قد خانوا العهد معك، ونقضوا الحلف الذي حالفوك عليه، على أن أمنك أمنهم، وأمنهم أمنك، وأن تكون العلاقة بينك وبينهم حسن الجوار والمودة الحسنة.
ولما كان اليهود منهم أمة مقتصدة، وأن كثيرا منهم ساء ما يعملون، استثنى أهل الخير من أن يكونوا خائنين، كسائرهم، فقال :﴿ إلا قليلا منهم ﴾ ولقد أجمع المفسرون على أن هذا القليل منهم : اليهود الذين دخلوا في الإسلام وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، ويصح أن نعد منهم عددا قليلا محدودا من اليهود قد خالفوا سائرهم عندما كانوا يهمون بنكث العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء وإن لم يسلموا يصح أن يستثنوا من الذين يخونون وينكثون العهد، ولقد أمر الله تعالى نبيه بأن يأخذ الناس بالعفو والصفح الجميل ولذا قال تعالى :
﴿ فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ﴾ العفو معناه في مثل هذه : عدم مقابلة الإساءة بمثلها والتجافي عنها، وترك المؤاخذة عليها، والصفح معناه ترك المؤاخذة وترك اللوم والتثريب بل ترك العتاب عليها، ولذلك قالوا : إن الصفح أعلى رتبة من العفو، وقال في ذلك الراغب الأصفهاني في مفرداته : وهو أي الصفح أبلغ من العفو، ولذلك قال تعالى :﴿... فاعفوا واصفحوا... ( ١٠٩ ) ﴾( البقرة ) وقد يعفو الإنسان ولا يصفح ولكن لا يمكن أن يتحقق صفح من غير عفو، إذ العفو ترك المقابلة بالمثل ظاهرا وقد يكون في النفس شيء، أما الصفح فإنه يتناول السماحة النفسية واعتبار الإيذاء كأن لم يكن في المظهر والقلب.
والإحسان يطلق على الإتقان، ومن ذلك قوله تعالى :﴿... إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا( ٣٠ ) ﴾( الكهف ) ويطلق على الإنعام على الغير، ومن ذلك قول القائل :"أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم" والإحسان في هذه الآية يشمل المعنيين، والإحسان فوق العدل لأن العدل مع غيرك إعطاؤه الحق الذي له والإحسان إعطاؤه الحق وزيادة ومعنى النص الكريم : إذا كانوا على هذه الصفة التي ذكرناها فلا تعاملهم بمثل أخلاقهم بل عاملهم بأخلاق النبوة التي تدعو إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، فاعف عنهم ولا تؤاخذهم بذنوبهم فلا تعاملهم بالمثل إلا دفاعا عن الحوزة واصفح الصفح الجميل، ولا تجعل في قلبك غلا ولا ضغنا، حتى يخلص قلبك من كل ما يعكره، لتصفو الدعوة وإن الله تعالى يحب الذين يتقنون أعمالهم بسلوك سبيل الدعوة الصحيحة وأخذ الناس بالرفق ومعاملتهم بالتي هي أحسن والإنعام عليهم بالعفو وخلوص النفس من كل الشوائب بالصفح الجميل.
ولكن من هم الذين يستحقون ذلك العفو والصفح أو بعبارة أخرى من الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعفو عنهم والصفح الجميل لهم، قال بعض المفسرين : هم العدد القليل الذين استثناهم الله تعالى بقوله تعالت كلماته :﴿ إلا قليلا منهم ﴾.
وإنا نرى أن ذلك ولو أنه مستقيم مع سياق اللفظ و غير مستقيم في سياق المعاني لأن هؤلاء لم يسيئوا ولم يكونوا خائنين، حتى يكون للعفو والصفح موضع.
وقال بعض المفسرين : إن الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعفو عنهم هم اليهود جميعا ولكن نسخ هذا بقوله تعالى :﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنوا بالله ولا باليوم الآخر...( ٢٩ ) ﴾( التوبة ) وهؤلاء منهم، ولكن يرد عليه بأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا لم يمكن الجمع
أخذ الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل الميثاق أن يقوموا بالتكليفات التي كلفهم إياها، وألزمهم بمقتضى هذا الميثاق أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وأن يقوموا بالخير الذي رغبهم فيه سبحانه بأن سماه إقراضا له، وهو المنعم بكل شيء الغني الحميد ووعدهم سبحانه بأن من يقوم بحق الميثاق يستر سبحانه وتعالى سيئاته، ويدخله جنات النعيم الدائم الذي لا يحول ولا يزول، وأوعدهم بأن من يكفر بالميثاق ينال جزاء الضالين وأشار لهم بأن الميثاق هو الطريق المستقيم، وأن الخروج عن منهاجه هو الضلال المبين، ولكن ذكر بعد ذلك أنهم اختاروا الضلالة على الهدى ونقضوا الميثاق وضلوا وبعدوا عن طريق الحق، فطردوا من نعمة الإيمان واستولى الشيطان على قلوبهم ولذا قال سبحانه :﴿ فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية ﴾
في الآيات السابقة بين الله الميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل ونقضوه ونسوا حظا مما ذكروا به، وفي هذا النص الكريم يذكر سبحانه وتعالى الميثاق الذي أخذ على قوم عيسى عليه السلام، وهو يشمل ما جاء به ذلك النبي الكريم، والرسول الأمين صلى الله عليه وسلم من بيان وحدانية الله تعالى، وأنه ليس بوالد ولا ولد، وأنه ليس له صاحبة، ومن إحياء للتوراة الحقيقية ووصاياها وتكليفاتها، وقد صدق الصادق منها.
ولكن النصارى نسوا حظا مما ذكروا أي نسوا قدرا كبيرا هو لب الديانة المسيحية، وهو التوحيد، وكثير من وصايا عيسى عليه السلام، وما دعاهم إليه من تسامح وحب للسلام.
وسبب نسيان حظ أي نصيب كبير مما ذكروا به هو اضطهاد النصارى اضطهادا شديدا في عهد الرومان حتى ضاعت كتبهم، ولم يعرف شيء منها إلا قليل غير سليم بعد مائتي سنة من ترك المسيح هذه الدنيا، ثم ظهرت هذه الأناجيل التي يتدارسونها ولا يزالون يغيرون ويبدلون فيها حسب الطبعات المختلفة، بعد أن دخل قسطنطين إمبراطور الرومان فيها، وغير وبدل في مجمع نيقية الذي انعقد في سنة٣٢٥ميلادية، وقد ذهب لب الديانة وهو التوحيد.
وهنا نكتة بيانية أساسها بيان السبب في أن الله تعالى عبر عنهم بقوله تعالت كلماته :﴿ الذين قالوا إنا نصارى ﴾ ولم يقل النصارى للإشارة إلى أن ادعائهم النصرانية التي هي الدين الذي دعا إليه المسيح عليه السلام قول يقولونه بأفواههم ولا يتبعونه بقلوبهم، إذ هجروا لب تعاليم المسيح وهو الوحدانية.
﴿ فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ﴾ "الفاء" هنا للسببية أي أنهم بسبب نسيان كتبهم وذهاب مصدر دينهم اختلط الباطل بالحق فيما يعتقدون فتفرقوا شيعا، وكانت بينهم العداوة، فمن قائل إن المسيح إله وهو ابن الله، ومنهم من قال إنها بنوة نعمة ومنهم القائلون بالحق وهم الذين أنكروا ألوهيته كأريوس وأتباعه ثم الذين قالوا بالألوهية اختلفوا أولدت مريم اللاهوت من الناسوت، أم ولدت الإنسان فقط، ثم اختلفوا في الإرادة التي تكون من المسيح أتكون منهما أو من أحدهما وكل فرقة تكفر الأخرى وتعاديها وتضطهدها وترميها بالكفر، حتى إن الملكانيين كانوا يذيقون اليعقوبيين سوء العذاب، ولم ينقذهم من أيديهم إلا الحكم الإسلامي العادل الرشيد، وكانت العداوة في العصور الأخيرة بين الكاثوليك والإنجيليين، وأريقت فيها الدماء، وإن تلك العداوة ستستمر إلى يوم القيامة، وهنا بحث بياني وهو التعبير بأغرينا، فإن الإغراء من الغراء وهو ما يلصق به، والمعنى كان الالتصاق والارتباط الذي يربطهم عداوة ظاهرة بالجدل أو المحاربة وبالكراهية المستكنة بالنفس وهي البغضاء أي البغض الشديد الذي يسكن القلب ولا علاج له، وقد بين الله سبحانه وتعالى عاقبتهم بقوله :
﴿ وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ﴾ أي أنهم يستمرون في ريبهم يترددون وفي عداوتهم يلجون، حتى يوم القيامة وفي هذا يخبرهم الله تعالى الخبر العظيم بنتيجة ما كانوا يعملون ويصنعون من غير تفكير ولا تدبر وسوف هنا لتأكيد الخبر، وبيان أنه وإن تأخر آت لا محالة.. اللهم ألهمنا قول الحق والنطق به، وقنا شر أهل العداوة والبغضاء من عبيدك، إنك سميع الدعاء.
بين الله سبحانه وتعالى الميثاق الذي أخذه على بني إسرائيل وقد وثقه بشهادته سبحانه وتعالى وبعث اثني عشر نقيبا عليهم يمثلون أسباطهم، ومع ذلك نقضوه فطردهم الله من رحمته فقست قلوبهم إذ مردت على العصيان وأطفأت النور الذي جاء إليهم من الله تعالى، فحرفوا الكلم عن مواضعه، وأهملوا العمل بالباقي وجعلوا شرع الله تعالى نسيا منسيا، وامتلأت نفوسهم بالخيانة، وابتلى الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بذريتهم التي ورثت عنهم أخلاقهم ومروقهم عن الحق، مروق السهم من الرمية، ثم كان من الذين نسبوا أنفسهم للنصرانية بعض ما كان من اليهود، فنسوا حظا من الكتاب الذي جاء به عيسى عليه السلام إليهم، وأطفئوا نور الحق الذي جاء به في قلوبهم، وتفرقوا فيما بينهم، وأغريت بسبب هذا التفريق العداوة والبغضاء بينهم بعد هذا بين لهذين الفريقين وغيرهما الطريقة المثلى، والصراط المستقيم فقال سبحانه :﴿ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ﴾
﴿ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ﴾ الخطاب لليهود والنصارى الذين نسوا في الماضي حظا مما ذكروا به وحرفوا في الماضي الكلم عن مواضعه، والذين طردوا أسلافهم من طريق الحق لنقضهم الميثاق وقست قلوب الماضين منهم وقد انتقل البيان القرآني من الكلام عن ماضيهم إلى مخاطبة الحاضرين الذي يجري في أوساطهم ما كان يجري في أوساط الذين تقدموهم، فالالتفات من الكلام عن الغائب إلى مخاطبة الحاضر، لأن البيان للحاضرين والتكليف القائم للقائمين وإن كان يجري في أوساطهم ما كان يجري في أوساط ماضيهم، ولكن لا بد من أنه يجهر بالحق في أوساطهم فهم مخاطبون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد أفرد الكتاب والنصارى واليهود لهم كتب وأسفار لا كتاب واحد، وكان الإفراد لأحد أمرين أو لهما معا أول الأمرين أن الكتاب يطلق ويراد به الجمع، لأن ( أل ) هنا للجنس، كما يقال : السوق أو : أهل العلم ويراد العلوم.
وثاني الأمرين : أن العرب كانوا قسمين : أميين لا يقرءون أو ليست الكتابة رائجة عندهم، وأهل كتابة وعلم بالكتاب ومن ذلك قوله تعالى :﴿ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ( ٧٥ ) ﴾( آل عمران ) فالأميون هنا العرب الذين لم تكن الكتابة والقراءة كثيرة عندهم.
وعلى ذلك تكون كلمة "أهل الكتاب" ليست مقابلة فقط للمشركين وعبدة الأوثان بل هي مقابلة للأميين.
وأهل الكتاب الذين صاحبهم الكتاب وكانوا له كالأهل الذين يرتبطون فيه.
وفي نداء اليهود والنصارى فائدتان :
إحداهما : ما يمتازون به عن المشركين بالعلم، وأنهم ليسوا أميين بل هم مدركون عمن دونهم.
والفائدة الثانية : تقريعهم ولومهم بأنهم مع أنهم معرفون بعلمهم بالكتابة ومصاحبتهم لهم قد أخفوا كثيرا.
وقوله تعالى :﴿ قد جاءكم رسولنا ﴾ فيه ما يومئ بأنهم مختصون بالخطاب، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث للناس أجمعين عربهم وعجمهم، وأسودهم وأبيضهم، كما قال تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا...( ٢٨ ) ﴾( سبأ ) ولكن كان الإيمان بالاختصاص لما يتضمنه البيان الذي من بعد ذلك، من أنه يبين كثيرا مما كانوا يخفون، فكان هذا نوع اختصاص لهم، وإن كان القرآن قد جاء لعامة المكلفين لا فرق بين كتابي وأمي، ولا بين من كانت له ديانة سماوية ومن لم يكن له بلاغ من قبل، وكان التعبير بقوله تعالت كلماته ب ﴿ جاءكم ﴾ بدل "بعث لكم" للإشارة إلى أنه يحاضرهم ويخاطبهم ومعهم جاء إليهم يرونه ويراهم، وإضافة رسول إلى الله تعالى في قوله سبحانه ﴿ رسولنا ﴾ فيه إشارة واضحة إلى أن البيان من الله سبحانه وتعالى، وكأن المعنى ولكلام الله تعالى المثل الأعلى : قد جاءكم يحاضركم ويخاطبكم رسولنا الذي ينطق باسمنا ويتحدث عنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون.
﴿ يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير ﴾ هذا النص الكريم صريح في أنهم كانوا يخفون أمورا من علم الكتاب الذي نزل على موسى وما جاء به عيسى عليهما السلام وقد قال تعالى في شأنهم :﴿ إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ( ١٧٤ ) ﴾( البقرة ).
وهنا نتساءل ما الذي أخفوه وبينه القرآن والجواب عن ذلك : هو كل ما جاء في القرآن من تكليفات دينية تتصل بالفطرة الإنسانية ولا تختص بقوم دون قوم، مثل الصدق وحسن المعاملة للناس وإعطاء الناس حقوقهم لا فرق بين جاهل وعالم، وأمي وغير أمي وقوم وقوم وجنس وجنس، وتحريم الربا وأكله من القريب والبعيد والقصاص العادل والعقوبات الزاجرة، وقد قال بعض العلماء : إن الذي أخفوه هو عقوبة الرجم، ويروي ذلك ابن جرير الطبري فيقول بسنده : إن نبي الله تعالى أتاه اليهود يسألونه عن الرجم، واجتمعوا في بيت قال : أيكم أعلمكم ؟ فأشاروا إلى ابن صوريا فقال : أنت أعلمهم، قال : سل عما شئت، قال : أنت أعلمهم قال : إنهم يزعمون ذلك، فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى، والذي رفع الطور، وناشده بالمواثيق التي أخذت عليهم حتى أخذه أفكل١، فقال : إن نساءنا نساء حسان، فكثر فينا القتل فاختصرنا فجلدنا مائة.
وقد يكون هذا مما أخفوه، ولكن لا يمكن أن يكون كل الذي أخفوه، فإن الله تعالى يقول :﴿ يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون ﴾ ولا يمكن أن يكون الشيء الواحد كثيرا بل إن الكثرة تقتضي التعدد، وأنهم أخفوا كثيرا فقد أخفوا البشرى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وحرفوا القول لكيلا تعلم للناس وأخفوا العلم بما يكون بعد الموت من بعث ونشور والحساب والثواب والعقاب والجنة، والنار وما فيها من عذاب أليم حتى إنك تقرأ التوراة التي بأيدينا فلا تجد ذكرا للحياة الآخرة، وما يكون من جزاء على ما عمل المرء، إن خير فخير، وإن شرا فشر، وأخفوا تحريم أكل الربا من كل إنسان وحرفوه وقصروا المنع على أكل الربا من الإسرائيلي، وأخفوا محاولتهم عبادة الأوثان عقب إخراجهم مستنقذين من فرعون، وهكذا فقد أخفوا كثيرا وبين الله تعالى في القرآن الكريم كثيرا مما يتصل بلب الرسالة الإلهية.
هذا بعض مما أخفوا وهذا بعض مما بين الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأنه سبحانه بين الجوهر الذي أخفوه وهو كثير لأنه لب الرسالة الإلهية.
ولقد قال تعالى :﴿ ويعفو عن كثير ﴾ أي يترك كثيرا ما كنتم تخفون من غير بيان إذا لم يكن في تركه إهمال لحقيقة دينية، ويكون فيه افتضاح لأمركم كادعائكم أن لوطا عليه السلام زنى بابنتيه، وكادعائكم أن داود أحب امرأة قائد فأرسله إلى الميدان ليخلو له وجه زوجته، وغيره مما اشتملت عليه توراتكم التي ألفتموها وفيها الحق والباطل وفي التعبير بكلمة "العفو" إشارة إلى أن هذا الترك يتضمن معنى الصفح والغفران إن أحسنتم في حاضركم، لأنه ترك لأمر في ذكره مضرة وتحقير لكم.
وقال الحسن البصري : إن معنى ﴿ ويعفو عن كثير ﴾ أي لا يؤاخذكم عليه، ولا يعاقبكم لأجله إن أحسنتم في حاضركم وإن النسق البياني يقتضي أن يكون موضع الترك مقابلا لموضع البيان والمقابلة تقتضي أن يكون الترك الكثير كالبيان الكثير، وكل ذلك داخل في عموم ما كانوا يخفونه ولا يبينونه، وذلك هو الظاهر المتفق مع السياق وغيره ليس متفقا مع السياق.
﴿ قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ﴾ هذه الجملة بيان للجملة السابقة، ولذلك كان الفصل بينهما لكمال الاتحاد إذ الثانية في معنى الأولى مع وصف جديد في بيان الحقيقة لأنه إذا كان مجيء الرسول فيه بيان المختفي وكشف المستور فهو نور، وبعثه نور وقد سجل ذلك النور في كتاب مبين، أي واضح في ذاته مبين للشرع الشريف، ولما أخفاه أهل الكتاب وطمسوه من معاني الوحدانية الخالصة، ومن الشرائع المحكمة وفي هذا النص تأكيد لمعنى الرسالة عن الله تعالى التي ثبتت بقوله تعالى ﴿ رسولنا ﴾ وفي هذا النص تصريح بأن ما يجيء به الرسول من نور كاشف هاد، وكتاب مسجل للشريعة هو من الله تعالى، وقد صرح بذلك في قوله تعالى :﴿ قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ﴾.
وللمفسرين في بيان معنى ﴿ نور ﴾ و ﴿ كتاب ﴾ كلام أساسه أن النور يجب أن يكون غير الكتاب، لأن العطف بينهما يقتضي التغاير بين حقيقتهما إما من حيث الذات أو من حيث الوصف أو النتيجة فإن الشيء الواحد قد يكون له وصفان متغايران وبمقتضى هذا التغاير يكون العطف.
وقد خرج بعض المفسرين العطف على أساس التغاير في الذات ففسروا النور بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فهو نور الأنوار، كما عبر الآلوسي٢، والكتاب بأنه القرآن الكريم، فهو سجل الإسلام لا يغادر شيئا منه إلا بينه، إما بالتفصيل أو بالإجمال الذي بينته السنة.
وفسر آخرون النور بأنه القرآن الكريم كما فسر الكتاب المبين به على أساس المغايرة من حيث الأثر والبيان فالقرآن نور لأن فيه بيان الحق الذي لا تنكره العقول والشرع الجامع الذي أتت به كل الرسائل وهو من ناحية أخرى الشيء المكتوب المسجل الباقي إلى يوم القيامة لا يعتريه تغيير ولا تبديل فالمغايرة في العطف مغايرة وصف وأثر لا مغايرة ذات، إذ القرآن المبين نور، وكتاب مكتوب مسجل باق إلى يوم القيامة. وقد اختار هذا الوجه الزمخشري ولم يذكر غيره.
٢ قال الألوسي في تفسيره (ج٦، ص٩٦) ﴿قد جاءكم من الله نور﴾ عظيم وهو نور الأنوار والنبي المختار صلى الله عليه وسلم..
بين الله سبحانه وتعالى الميثاق الذي أخذه على بني إسرائيل وقد وثقه بشهادته سبحانه وتعالى وبعث اثني عشر نقيبا عليهم يمثلون أسباطهم، ومع ذلك نقضوه فطردهم الله من رحمته فقست قلوبهم إذ مردت على العصيان وأطفأت النور الذي جاء إليهم من الله تعالى، فحرفوا الكلم عن مواضعه، وأهملوا العمل بالباقي وجعلوا شرع الله تعالى نسيا منسيا، وامتلأت نفوسهم بالخيانة، وابتلى الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بذريتهم التي ورثت عنهم أخلاقهم ومروقهم عن الحق، مروق السهم من الرمية، ثم كان من الذين نسبوا أنفسهم للنصرانية بعض ما كان من اليهود، فنسوا حظا من الكتاب الذي جاء به عيسى عليه السلام إليهم، وأطفئوا نور الحق الذي جاء به في قلوبهم، وتفرقوا فيما بينهم، وأغريت بسبب هذا التفريق العداوة والبغضاء بينهم بعد هذا بين لهذين الفريقين وغيرهما الطريقة المثلى، والصراط المستقيم فقال سبحانه :﴿ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ﴾
هذه هي الثمرات التي ترجى من الرسالة الإلهية إلى أهل الأرض، وكونها نور يهتدي به الساري، وفيه شريعة قائمة في كتاب محفوظ إلى يوم القيامة، وهذه الثمرات ثلاث أولها : هداية إلى الحق، وإخراج من الظلمات إلى النور، ويهدي به الله سبحانه إلى صراط مستقيم لا عوج ولا أمت.
أما الأولى : فقد عبر الله سبحانه وتعالى عنها بقوله تعالت كلماته :﴿ يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ﴾ والضمير في قوله تعالى :﴿ به ﴾ يعود إلى مجموع ما ذكر أو يعود إلى القرآن وحده والظاهر ذلك لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، وفي عود الضمير إلى القرآن تضمين لكل ما ذكر، لأن القرآن هو وعاء الشريعة وحجة النبي صلى الله عليه وسلم القائمة إلى يوم القيامة، وهو مصباح النور المحمدي الذي لا ظلام فيه، وقد ذكر سبحانه من يهتدي بالقرآن وموضع الهداية، فليس كل إنسان أهلا لهداية القرآن والانتفاع به، فإن من يهتدي لا بد أن يكون فيه عقل يدرك لم تظله غشاوة رانت عليه، وبصيرة نافذة، وقلب قد استقام لطلب الحكمة وقد ذكر سبحانه أن الذي يهتدي بالحق والنور الكاشف من اتبع رضوانه واتباع رضوان الله تعالى : طلبه ذلك الرضوان، ومعنى طلب ذلك الرضوان : أن يكون قلبه مخلصا لطلب الحق، لم يرنق قلبه بغرض باطل أو أهواء مردية أو انحراف في طلب عن الغاية، بل يتجه اتجاها مستقيما إلى الحق لا يبغي سواه، ولا يطلب إلا رضوان الله تبارك وتعالى، فإن الإخلاص يجعل العقل يشرق والقلب يمتلئ بالحكمة.
وأما ما يهتدي إليه فهو سبل السلامة والصفاء وعدم وجود البغضاء فالسلام هو : السلامة من كل أدران الحقد والحسد، والسلامة من كل ما يؤدي إلى البغضاء والعداوة وسبلها هو الأعمال الصالحة فيعمل للدنيا بأخلاق مستقيمة، ونفس لا يخالطها فساد ولا تستولي عليه الشهوات فيكون مع الناس في أمن وسلام، وفي الآخرة يكون في دار السلام، كما قال تعالى في شأن المتقين المهتدين :﴿ لهم دار السلام عند ربهم... ( ١٢٧ )( الأنعام ) وكما قال تعالى :{ تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما ( ٤٤ ) ﴾( الأحزاب ).
وأما الثانية : فقد عبر عنها تعالى بقوله :﴿ ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ﴾ ومرجع الضمير هنا هو مرجع الضمير في الجملة السامية السابقة، فالقرآن والنور والهداية المحمدية كل هذا يخرج الناس من ظلمات الباطل إلى النور الواضح بإذن الله تعالى وبعلمه وتقديره، فالإذن هنا معناه العلم والإرادة، أي أن ذلك الإخراج من ظلمات الضلالة إلى نور الهدى بعلمه تعالى وإرادته وإرادته لا تكون إلا على مقتضى حكمته في خلقه وهو العزيز الحكيم اللطيف الخبير السميع البصير تعالت أسماؤه الحسنى.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الضلال بالجمع والنور بالإفراد، وذلك لأن طرق الشيطان مختلفة وكل طريق منها ظلمة في ذاته، فالشرك ظلمة والبغضاء ظلمة والمعصية ظلمة وأكل مال الناس ظلمة، ووأد البنات ظلمة واسوداد الوجه بالكآبة عند ولادة المرأة ظلمة، والظلم ظلمات قد تعددت فنونه، وتباينت أقسامه والنور والقرآن والهدى المحمدي هو الذي يكشف هذه الظلمات وينير الطريق للخروج بإذن الله تعالى وعلمه وإرادته يخرجهم النور من هذه الظلمات المتكاثفة.
وأما الثالث : فقد قال تعالى :﴿ ويهديهم إلى صراط مستقيم ﴾ والمعنى أن الله تعالى يهدي طالب إلى طريق المستقيم لا التواء فيه، والهداية في الحقيقة من الله تعالى، فهو الذي يهدي ويرشد والمهتدى هو من يطلب الحق إرضاء لله تعالى، ونسبت الهداية إلى القرآن لأنه الذي اشتمل على ما فيه الهداية من أحكام وفضائل وبيان لمعنى الرسالة الإلهية ولأنه هو المعجزة الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم، والطريق المستقيم هو دين الله تعالى القيم، دين التوحيد دين الإسلام والتسليم والتفويض لله تعالى بعد القيام بالعمل، وهو دين الخير في الدنيا والآخرة، فمن اتبعه فقد رشد ومن تركه فقد ضل، وهو وإن تعددت أنواع العمل طريق واحد موصل للغاية من أقرب اتجاه، وهو طريق الله تعالى، وقد قال تعالى :﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ( ١٥٣ ) ﴾( الأنعام )١. اللهم اهدنا صراطك المستقيم.
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن اليهود حرفوا الكلم بتبديل عبارات التوراة، وتحريف معانيها وتفسيرها بغير ما يراد منها، ثم بإخفائهم كثيرا مما اشتملت عليه من أحكام تكليفية ثم تحللهم من أحكام الباقي، وأن النصارى مثلهم نسوا حظا مما ذكروا به بل أهملوا لب الدين وحقيقة التوحيد فيه، وتفرقوا فرقا مختلفة وأغريت بينهم العداوة والبغضاء فكان في الماضي التذبيح بين الملكانية واليعقوبية وكان من بعد ذلك ما كان بين غيرهم، حتى تركوا الدين من حياتهم ولم يبق منه عندهم إلا ما يعاند الوحدانية ويضطهدون به أولياءها، وأنصارها وقد جاء الإسلام منذ تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم به، يبين كثيرا مما أخفوا وحقيقة الرسالة التي تنزل من الله تعالى لخلقه، والتي هي لب اليهودية الأولى، ونصرانية المسيح عليه السلام، وفي هذه الآيات الملتوية يبين سبحانه لب ما غيروا فقال تعالى :﴿ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ﴾ لقد اتفق النصارى على أن يسوع عندهم فيه عنصر إلهي، وفي عصور الإسلام الأولى كان النسطوريون منهم يقولون : إن المسيح ليس ابن الله تعالى في الألوهية ولكنها بنوة النعمة وقد ذهبت هذه الفرقة في عبر التاريخ أو تكاد فلا تكاد تسمع ذلك الصوت الآن إلا عند بعض الموحدين الذين ظهروا في طائفة البروتستانت، ولكنهم عدد نادر، لا يعترف بهم على أنهم نصارى.
وإذا كان الأمر المعروف عندهم أن يسوع ابن الله، وفيه عنصر إلهي فقد قالوا : إن الألوهية قد حلت فيه، ولازم ذلك القول أن يكون هو الله، أو هو إله يعبد، ومهما يكن فقد قالوا باتحاد عنصر الألوهية فيه، وقد قال في ذلك البيضاوي :"هم الذين قالوا بالاتحاد منهم، وقيل لم يصرح به أحد منهم ولكنهم لما زعموا أن فيه لاهوتا، وقالوا لا إله إلا واحد، لزمهم أن يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم "وذلك بلا ريب ينتهي إلى القول بأنهم يعتقدون أن المسيح هو الله، وإن لم يصرحوا بذلك فهو لازم قولهم باتحاد عنصر الألوهية فيه مع الله.
وإن ذلك الكلام تخريج على أن النصارى مذهب واحد في اعتقاد الألوهية، وأنه ابن الله وبذلك يكون قوله تعالى في هذه السورة سورة المائدة :
﴿ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة...( ٧٣ ) ﴾ متلاقيا مع هذا النص الكريم، فهنا صرح بلازم قولهم وهنالك صريح بذات قولهم.
والحقيقة أن النصارى اليوم، وهم لا يزالون يغيرون ويبدلون، يصرحون بأن الأقانيم ثلاثة وأنها شيء واحد وينتهون إلى أن المسيح هو الله، والله هو المسيح، والله هو روح القدس، فقد قال الدكتور "بوست" في تاريخ الكتاب المقدس :"طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر : الله الآب، والله الابن والله روح القدس، فإلى الأب ينتمي الخلق بواسطة الابن وإلى الابن الفداء وإلى الروح القدس التطهير غير أن الثلاثة أقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء، أما مسألة التثليث فغير واضحة في العهد القديم، كما هي في العهد الجديد".
ومن هذا الكلام يتبين أن النصارى يصرحون بأن الابن هو الله، ولا يكون الكلام بطريق اللازم لقولهم، بل بطريق الصريح منه، فهم يصرحون بأن الله هو الابن، كما أن الله هو الأب كما أن الله هو روح القدس.
وذكر الله سبحانه وتعالى الإخبار عن المسيح بأنه الله لأن فيه إشارة واضحة إلى بطلان العقيدة لأن المسيح ولد، ورئي يتحدث مع الناس، وأكل وشرب وقتل وصلب في زعمهم فكيف يكون هو الله تعالى ؟.
والحقيقة أن فكرة ألوهية المسيح عليه السلام ما سادت الفكر النصراني إلا في عهد قسطنطين، وقبل ذلك كان الأكثرون موحدين، ولكن وجد بجوارهم من بقايا الفلسفة الأفلاطونية الحديثة من زعم أن القوى المسيطرة على الوجود ثلاثة، ولننقل لك ما قاله ابن البطريق المسيحي في كتابه "تاريخ البطارقة" قال في مجمع نيقية الذي أعلن ألوهية المسيح ما نصه :
"كتب الملك قسطنطين إلى جميع البلدان، فجمع البطارقة والأساقفة، فاجتمع في مدينة نيقية ثمانية وأربعون وألفان من الأساقفة، وكانوا مختلفين في الآراء والأديان.. فمنهم من كان يقول : إن المسيح وأمه إلهان من دون الله، وهم البربرانية ويسمون "المريميين" ومنهم من كان يقول : إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار، فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية ومنهم من كان يقول لم تحبل به مريم تسعة أشهر وإنما مر في بطنها كما يمر الماء في الميزاب، لأن الكلمة دخلت في أذنها، وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها، وهي مقالة إليان وأشياعه، ومنهم من كان يقول : إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره، وإن ابتداء الابن من مريم، وأنه مصطفى ليكون مخلصا للجوهر الإنسي صحبته النعمة الإلهية، وحلت فيه بالمحبة والمشيئة ولذلك سمي ابن الله ويقولون : إن الله جوهر قديم واحد وأقنوم واحد ويسمونه بثلاثة أسماء، ولا يسمونه الكلمة وهي مقالة بولس الشمشاطي بطريرك أنطاكية، وأشياعه ومنهم من كان يقول : إنهم ثلاثة آلهة لم تزل صالح وطالح وعدل بينهما وهي مقالة مرقيون اللعين وأصحابه، وزعموا أن مرقيون رئيس الحواريين وأنكروا بطرس، ومنهم من كان يقول بألوهية المسيح وهي مقالة بولس الرسول ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا".
وذكر فكرة أرتوس، وكانت شائعة وهي إنكار ألوهية المسيح والإيمان بالوحدانية واختار قسطنطين من( ٢٠٤٨ ) الثمانية والأربعين والألفين عدد( ٣١٨ ) الذين قالوا بألوهية المسيح، وبذلك ساد هذا القول بسلطان قسطنطين.
وإن ذلك القول بلا ريب باطل، فالله سبحانه وتعالى هو الخالق وهو الذي يحيي ويميت وقد أمر الله نبيه بالرد عليهم بأمر محسوس.
﴿ قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ﴾ أمر الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم ادعائهم بإثبات القدرة لله تعالى فإن صفة الله الذي يعبد لأجلها أساسها القدرة على الإنشاء وعلى الإفناء من غير قيد يقيدها ولا مانع يمنعها، فإذا كان المسيح لا يملك أن يدفع عن نفسه الإعدام فهو أولى بألا يستطيع الإنشاء ولا الإفناء.
والمعنى : قل لهؤلاء الذين يدعون الألوهية للمسيح : من يملك من دون الله أمرا يستطيع أن يمنعه سبحانه بأي قدر من قدرته تعالى إن اتجهت إرادته العالية إلى إهلاك المسيح وأمه، وفي الجملة السامية إشارات بيانية :
منها في قوله :﴿ فمن يملك من الله شيئا ﴾ لأن ( يملك ) معناه يتضمن معنى يمنع، أي يمنع من قدرة الله وأمره شيئا، وتنكير كلمة "شيئا" للتصغير، أي قدرا ولو كان ضئيلا.
ومنها أن التعبير ب "يملك" يستفاد منها أن قدرة الله تعالى قدرة من يملك، وليست قدرة مستعارة أو مأخوذة من غيره.
ومنها أن ذكر الإهلاك في هذا المقام فيه دلالة مادية في زعمهم على بطلان ما يدعون لأنهم زعموا أن عيسى أهلكه الرومان بتحريض وشهادة الزور من اليهود لعنهم الله، فكيف يكون إلها وهو لا يملك حماية نفسه مع أن وصف الإله يوجب أن تكون قدرته على الإهلاك والإبقاء ثابتة.
ومنها أنه ذكر المسيح مضافا إلى أمه على أنه متولد منها فكيف يكون من الفاني الإله الباقي، وهو ابن الله في زعمهم، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وإن الذي يستمسكون به بالباطل في هذا الزعم الباطل أنه خلق من غير أب، وقد رد سبحانه وتعالى زعمهم في قضية عامة بقوله تعالى :﴿ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء ﴾.
هذه الجملة السامية مع إبطالها لزعمهم في مقام الحال من الجملة السابقة، فهي مؤيدة لمعنى القدرة على الإبقاء والإهلاك والإحياء، ورادة على زعمهم أن عيسى خلق من غير أب فيكون ابنا لله تعالى الله عند ذلك. والمعنى أن لله سبحانه وتعالى الملكية التامة للتصرف في السماوات بطبقاتها المختلفة، والنجوم ومداراتها وما بين السماء والأرض من فضاء تجري فيه السحب بأمره، ويطير فيه الطير، ويسبح فيه، ثم ما يصنعه الإنسان من طائرات تقطع أجواء الفضاء، كل ذلك مملوك ملكية تامة لله تعالى، ولا توجد ملكية تامة في شيء من الأشياء إلا لله سبحانه وتعالى، فكل مالك من الناس ملكيته نسبية، وليست تامة أو مطلقة بل هي مقيدة.
وإرادته سبحانه وتعالى مطلقة في خلق الأشياء ولذلك قال تعالى :﴿ يخلق ما يشاء ﴾ وهذه الجملة في مقام الثمرة والنتيجة لما قبلها من قدرة مطلقة لا حد لها، ومن ملكية مطلقة لا قيد يقيدها، فهو يخلق ما يشاء ويريد، فيخلق ذكرا أو أنثى فهو يجعل لهذا ذكرانا ولهذا إناثا، ويجعل من يشاء عقيما، ولا قيد يقيد إرادته، في طريقة الخلق والتكوين فيخلق الناس من أب وأم ويخلق آدم من غير أب ولا أم، ويخلق عيسى من أم، ومن غير أب وهكذا.
﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ هو قادر على كل شيء في هذا الوجود، يفعل به ما شاء، يفنيه ويبقيه على ما يشاء، وقد وجد كل شيء بالقدرة والإرادة لا بالعلية والسببية، فلا يقال : إن الأب سبب للإبن، فإن وجد له من غير أب فالله سبحانه أبوه، لا يقال ذلك لأن الله تعالى لا يتقيد بالأسباب فهو خالق الأسباب وخالق المسببات وخالق نواميس الكون، وكل ما فيه وهو القاهر فوق عباده فهو خالق عيسى وليس أباه وإن النصارى واليهود مع أنهم يخطئون في جنب الله، ولا ينزهونه كمال التنزيه ولا يطيعونه يزعمون أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه ولذا قال سبحانه :﴿ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه ﴾.
اليهود يعلنون للناس أنهم شعب الله المختار، والنصارى يعلنون أنهم هداة هذا الوجود وأنه لا سلامة إلا في دينهم على الوضع الذي وضعوه، وعلى الزعم الذي زعموه وبذلك يعتبرون أنفسهم أبناء الله وأحباؤه، وعلى هذا يكون المراد بالبنوة بنوة مزية الاتصال بالله أكثر من اتصال غيرهم به، وأن الاتصال اتصال إيمان به وإدراك له، وأنهم اختصوا بنعمة المحبة فالبنوة بنوة الاتصال والمحبة ويكون عطف أحباء من قبيل عطف التفسير المشير إلى معنى البنوة.
وهناك احتمال آخر وهو أن تكون البنوة هي البنوة التي زعمها اليهود لعزير إذ قالوا : عزير ابن الله وهم أتباعه وشيعته وزعم النصارى أن المسيح ابن الله وهم أتباعه فهم أبناء الله بهذا الإتباع وقد قال الزمخشري في وضيح هذا الاحتمال :"أبناء الله أي أشياع ابنى الله عزير والمسيح، كما قيل لأشياع أبي خبيب، وهو عبد الله بن الزبير، وكما يقول رهط مسيلمة : نحن أنبياء الله ويقول أقرباء الملك وذوو حشمه نحن الملوك، ولذلك قال مؤمن آل فرعون :﴿... لكم الملك اليوم... ( ٢٩ ) ﴾( غافر ).
وفي الحق أن كلا من اليهود والنصارى ادعوا أن لهم صلة خاصة بالله، وأنهم دعاة الحق وأنهم وحدهم أحباب الله وأهل الاتصال به ولهذا رجح الأول.
﴿ قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق ﴾ الفاء هنا فاء الإفصاح لأنها تفصح عن شرط مقدر والمعنى
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن اليهود حرفوا الكلم بتبديل عبارات التوراة، وتحريف معانيها وتفسيرها بغير ما يراد منها، ثم بإخفائهم كثيرا مما اشتملت عليه من أحكام تكليفية ثم تحللهم من أحكام الباقي، وأن النصارى مثلهم نسوا حظا مما ذكروا به بل أهملوا لب الدين وحقيقة التوحيد فيه، وتفرقوا فرقا مختلفة وأغريت بينهم العداوة والبغضاء فكان في الماضي التذبيح بين الملكانية واليعقوبية وكان من بعد ذلك ما كان بين غيرهم، حتى تركوا الدين من حياتهم ولم يبق منه عندهم إلا ما يعاند الوحدانية ويضطهدون به أولياءها، وأنصارها وقد جاء الإسلام منذ تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم به، يبين كثيرا مما أخفوا وحقيقة الرسالة التي تنزل من الله تعالى لخلقه، والتي هي لب اليهودية الأولى، ونصرانية المسيح عليه السلام، وفي هذه الآيات الملتوية يبين سبحانه لب ما غيروا فقال تعالى :﴿ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ﴾ لقد اتفق النصارى على أن يسوع عندهم فيه عنصر إلهي، وفي عصور الإسلام الأولى كان النسطوريون منهم يقولون : إن المسيح ليس ابن الله تعالى في الألوهية ولكنها بنوة النعمة وقد ذهبت هذه الفرقة في عبر التاريخ أو تكاد فلا تكاد تسمع ذلك الصوت الآن إلا عند بعض الموحدين الذين ظهروا في طائفة البروتستانت، ولكنهم عدد نادر، لا يعترف بهم على أنهم نصارى.
وإذا كان الأمر المعروف عندهم أن يسوع ابن الله، وفيه عنصر إلهي فقد قالوا : إن الألوهية قد حلت فيه، ولازم ذلك القول أن يكون هو الله، أو هو إله يعبد، ومهما يكن فقد قالوا باتحاد عنصر الألوهية فيه، وقد قال في ذلك البيضاوي :"هم الذين قالوا بالاتحاد منهم، وقيل لم يصرح به أحد منهم ولكنهم لما زعموا أن فيه لاهوتا، وقالوا لا إله إلا واحد، لزمهم أن يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم "وذلك بلا ريب ينتهي إلى القول بأنهم يعتقدون أن المسيح هو الله، وإن لم يصرحوا بذلك فهو لازم قولهم باتحاد عنصر الألوهية فيه مع الله.
وإن ذلك الكلام تخريج على أن النصارى مذهب واحد في اعتقاد الألوهية، وأنه ابن الله وبذلك يكون قوله تعالى في هذه السورة سورة المائدة :
﴿ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة...( ٧٣ ) ﴾ متلاقيا مع هذا النص الكريم، فهنا صرح بلازم قولهم وهنالك صريح بذات قولهم.
والحقيقة أن النصارى اليوم، وهم لا يزالون يغيرون ويبدلون، يصرحون بأن الأقانيم ثلاثة وأنها شيء واحد وينتهون إلى أن المسيح هو الله، والله هو المسيح، والله هو روح القدس، فقد قال الدكتور "بوست" في تاريخ الكتاب المقدس :"طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر : الله الآب، والله الابن والله روح القدس، فإلى الأب ينتمي الخلق بواسطة الابن وإلى الابن الفداء وإلى الروح القدس التطهير غير أن الثلاثة أقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء، أما مسألة التثليث فغير واضحة في العهد القديم، كما هي في العهد الجديد".
ومن هذا الكلام يتبين أن النصارى يصرحون بأن الابن هو الله، ولا يكون الكلام بطريق اللازم لقولهم، بل بطريق الصريح منه، فهم يصرحون بأن الله هو الابن، كما أن الله هو الأب كما أن الله هو روح القدس.
وذكر الله سبحانه وتعالى الإخبار عن المسيح بأنه الله لأن فيه إشارة واضحة إلى بطلان العقيدة لأن المسيح ولد، ورئي يتحدث مع الناس، وأكل وشرب وقتل وصلب في زعمهم فكيف يكون هو الله تعالى ؟.
والحقيقة أن فكرة ألوهية المسيح عليه السلام ما سادت الفكر النصراني إلا في عهد قسطنطين، وقبل ذلك كان الأكثرون موحدين، ولكن وجد بجوارهم من بقايا الفلسفة الأفلاطونية الحديثة من زعم أن القوى المسيطرة على الوجود ثلاثة، ولننقل لك ما قاله ابن البطريق المسيحي في كتابه "تاريخ البطارقة" قال في مجمع نيقية الذي أعلن ألوهية المسيح ما نصه :
"كتب الملك قسطنطين إلى جميع البلدان، فجمع البطارقة والأساقفة، فاجتمع في مدينة نيقية ثمانية وأربعون وألفان من الأساقفة، وكانوا مختلفين في الآراء والأديان.. فمنهم من كان يقول : إن المسيح وأمه إلهان من دون الله، وهم البربرانية ويسمون "المريميين" ومنهم من كان يقول : إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار، فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية ومنهم من كان يقول لم تحبل به مريم تسعة أشهر وإنما مر في بطنها كما يمر الماء في الميزاب، لأن الكلمة دخلت في أذنها، وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها، وهي مقالة إليان وأشياعه، ومنهم من كان يقول : إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره، وإن ابتداء الابن من مريم، وأنه مصطفى ليكون مخلصا للجوهر الإنسي صحبته النعمة الإلهية، وحلت فيه بالمحبة والمشيئة ولذلك سمي ابن الله ويقولون : إن الله جوهر قديم واحد وأقنوم واحد ويسمونه بثلاثة أسماء، ولا يسمونه الكلمة وهي مقالة بولس الشمشاطي بطريرك أنطاكية، وأشياعه ومنهم من كان يقول : إنهم ثلاثة آلهة لم تزل صالح وطالح وعدل بينهما وهي مقالة مرقيون اللعين وأصحابه، وزعموا أن مرقيون رئيس الحواريين وأنكروا بطرس، ومنهم من كان يقول بألوهية المسيح وهي مقالة بولس الرسول ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا".
وذكر فكرة أرتوس، وكانت شائعة وهي إنكار ألوهية المسيح والإيمان بالوحدانية واختار قسطنطين من( ٢٠٤٨ ) الثمانية والأربعين والألفين عدد( ٣١٨ ) الذين قالوا بألوهية المسيح، وبذلك ساد هذا القول بسلطان قسطنطين.
وإن ذلك القول بلا ريب باطل، فالله سبحانه وتعالى هو الخالق وهو الذي يحيي ويميت وقد أمر الله نبيه بالرد عليهم بأمر محسوس.
﴿ قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ﴾ أمر الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم ادعائهم بإثبات القدرة لله تعالى فإن صفة الله الذي يعبد لأجلها أساسها القدرة على الإنشاء وعلى الإفناء من غير قيد يقيدها ولا مانع يمنعها، فإذا كان المسيح لا يملك أن يدفع عن نفسه الإعدام فهو أولى بألا يستطيع الإنشاء ولا الإفناء.
والمعنى : قل لهؤلاء الذين يدعون الألوهية للمسيح : من يملك من دون الله أمرا يستطيع أن يمنعه سبحانه بأي قدر من قدرته تعالى إن اتجهت إرادته العالية إلى إهلاك المسيح وأمه، وفي الجملة السامية إشارات بيانية :
منها في قوله :﴿ فمن يملك من الله شيئا ﴾ لأن ( يملك ) معناه يتضمن معنى يمنع، أي يمنع من قدرة الله وأمره شيئا، وتنكير كلمة "شيئا" للتصغير، أي قدرا ولو كان ضئيلا.
ومنها أن التعبير ب "يملك" يستفاد منها أن قدرة الله تعالى قدرة من يملك، وليست قدرة مستعارة أو مأخوذة من غيره.
ومنها أن ذكر الإهلاك في هذا المقام فيه دلالة مادية في زعمهم على بطلان ما يدعون لأنهم زعموا أن عيسى أهلكه الرومان بتحريض وشهادة الزور من اليهود لعنهم الله، فكيف يكون إلها وهو لا يملك حماية نفسه مع أن وصف الإله يوجب أن تكون قدرته على الإهلاك والإبقاء ثابتة.
ومنها أنه ذكر المسيح مضافا إلى أمه على أنه متولد منها فكيف يكون من الفاني الإله الباقي، وهو ابن الله في زعمهم، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وإن الذي يستمسكون به بالباطل في هذا الزعم الباطل أنه خلق من غير أب، وقد رد سبحانه وتعالى زعمهم في قضية عامة بقوله تعالى :﴿ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء ﴾.
هذه الجملة السامية مع إبطالها لزعمهم في مقام الحال من الجملة السابقة، فهي مؤيدة لمعنى القدرة على الإبقاء والإهلاك والإحياء، ورادة على زعمهم أن عيسى خلق من غير أب فيكون ابنا لله تعالى الله عند ذلك. والمعنى أن لله سبحانه وتعالى الملكية التامة للتصرف في السماوات بطبقاتها المختلفة، والنجوم ومداراتها وما بين السماء والأرض من فضاء تجري فيه السحب بأمره، ويطير فيه الطير، ويسبح فيه، ثم ما يصنعه الإنسان من طائرات تقطع أجواء الفضاء، كل ذلك مملوك ملكية تامة لله تعالى، ولا توجد ملكية تامة في شيء من الأشياء إلا لله سبحانه وتعالى، فكل مالك من الناس ملكيته نسبية، وليست تامة أو مطلقة بل هي مقيدة.
وإرادته سبحانه وتعالى مطلقة في خلق الأشياء ولذلك قال تعالى :﴿ يخلق ما يشاء ﴾ وهذه الجملة في مقام الثمرة والنتيجة لما قبلها من قدرة مطلقة لا حد لها، ومن ملكية مطلقة لا قيد يقيدها، فهو يخلق ما يشاء ويريد، فيخلق ذكرا أو أنثى فهو يجعل لهذا ذكرانا ولهذا إناثا، ويجعل من يشاء عقيما، ولا قيد يقيد إرادته، في طريقة الخلق والتكوين فيخلق الناس من أب وأم ويخلق آدم من غير أب ولا أم، ويخلق عيسى من أم، ومن غير أب وهكذا.
﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ هو قادر على كل شيء في هذا الوجود، يفعل به ما شاء، يفنيه ويبقيه على ما يشاء، وقد وجد كل شيء بالقدرة والإرادة لا بالعلية والسببية، فلا يقال : إن الأب سبب للإبن، فإن وجد له من غير أب فالله سبحانه أبوه، لا يقال ذلك لأن الله تعالى لا يتقيد بالأسباب فهو خالق الأسباب وخالق المسببات وخالق نواميس الكون، وكل ما فيه وهو القاهر فوق عباده فهو خالق عيسى وليس أباه وإن النصارى واليهود مع أنهم يخطئون في جنب الله، ولا ينزهونه كمال التنزيه ولا يطيعونه يزعمون أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه ولذا قال سبحانه :﴿ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه ﴾.
اليهود يعلنون للناس أنهم شعب الله المختار، والنصارى يعلنون أنهم هداة هذا الوجود وأنه لا سلامة إلا في دينهم على الوضع الذي وضعوه، وعلى الزعم الذي زعموه وبذلك يعتبرون أنفسهم أبناء الله وأحباؤه، وعلى هذا يكون المراد بالبنوة بنوة مزية الاتصال بالله أكثر من اتصال غيرهم به، وأن الاتصال اتصال إيمان به وإدراك له، وأنهم اختصوا بنعمة المحبة فالبنوة بنوة الاتصال والمحبة ويكون عطف أحباء من قبيل عطف التفسير المشير إلى معنى البنوة.
وهناك احتمال آخر وهو أن تكون البنوة هي البنوة التي زعمها اليهود لعزير إذ قالوا : عزير ابن الله وهم أتباعه وشيعته وزعم النصارى أن المسيح ابن الله وهم أتباعه فهم أبناء الله بهذا الإتباع وقد قال الزمخشري في وضيح هذا الاحتمال :"أبناء الله أي أشياع ابنى الله عزير والمسيح، كما قيل لأشياع أبي خبيب، وهو عبد الله بن الزبير، وكما يقول رهط مسيلمة : نحن أنبياء الله ويقول أقرباء الملك وذوو حشمه نحن الملوك، ولذلك قال مؤمن آل فرعون :﴿... لكم الملك اليوم... ( ٢٩ ) ﴾( غافر ).
وفي الحق أن كلا من اليهود والنصارى ادعوا أن لهم صلة خاصة بالله، وأنهم دعاة الحق وأنهم وحدهم أحباب الله وأهل الاتصال به ولهذا رجح الأول.
﴿ قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق ﴾ الفاء هنا فاء الإفصاح لأنها تفصح عن شرط مقدر والمعنى
بينت الآيات السابقة حال أهل الديانتين السابقتين على الإسلام، والذين يذكرون أنهم يتبعون رسولين من أولي العزم من الرسل، وهما عيسى وموسى عليهما السلام، وكيف نسوا حظا مما ذكروا به، وكيف أخفوا كثيرا مما ذكروا به، وكيف انحرفوا عن أصل التوحيد الذي هو لب الدين ودعوة كل النبيين الذين بعثوا من رب العالمين ثم ادعوا مع ذلك التغيير والتبديل والانحراف أنهم الأقربون إلى الله تعالى، وقد رد الله تعالى عليهم قولهم، فبين سبحانه أنهم بشر ممن خلق وأنه لا فضل لهم على أحد إلا بالاستجابة لأمر الله تعالى، وفي هذه الآية التالية يبين سبحانه مقام الرسالة المحمدية وأنها جاءت في إبانها، وفي وقت الحاجة إليها، فقال عز من قائل :
﴿ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل ﴾ الفترة هي الزمن بين زمنين متغايرين في الحوادث ويكون فيها سكون عما يكون في هذين الزمنين، وقد قال الراغب الأصفهاني في معنى الفترة :"الفتور سكون بعد حدة، ولين بعد شدة وضعف بعد قوة قال تعالى :
﴿ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل ﴾ أي سكون خال عن مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى :﴿... لا يفترون( ٢٠ ) ﴾( الأنبياء )، أي لا يسكنون عن نشاطهم في العبادة، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :"لكل عمل شرة ولكل شرة فترة، فمن فتر إلى سنتي فقد نجا، وإلا فقد هلك"١ فقوله عليه الصلاة والسلام :"ولكل شرة فترة" إشارة إلى ما قيل : للباطل جولة ثم يضمحل، وللحق دولة لا تذل ولا تقل، وقوله : من فتر إلى سنتي أي سكن إليها والطرف الفاتر في ضعف مستحسن".
ويستفاد من ذلك الكلام القيم أن الفترة سكون بين عملين بارزين، فهي سكون بين زمني عمل، ولا شك أن عدم وجود رسالة في زمن بين رسالة مضت ورسالة آتية وهو سكون نسبي في الزمن بينهما وإن كان العمل واجبا بالشريعة السابقة حتى تنسخها الشريعة اللاحقة، ويكون التكليف منها.
وهنا مباحث لفظية تشير إلى نواحي البيان العالي في النص الكريم :
المبحث الأول : في التعبير بقوله تعالى :﴿ قد جاءكم ﴾ بدل أن يقال"جاء إليكم" لأن التعدية بغير"إلى" فيها معنى الملاحقة والملازمة وأنه لا مناص من إتباعه، ففرق بين أن يقال جاء إليه، وأن يقال جاءه، لأن الثانية تضمن الملازمة، وأنهم لا يستطيعون الخروج عما جاء به إلا إذا أذنبوا.
الثاني : وإضافة كلمة الرسول إلى الذات العلية في قوله تعالت كلماته :﴿ رسولنا ﴾ إشارة إلى معنى قدسية هذه الرسالة ومكانتها وأنها ممن لا تسوغ مخالفته ولا الخروج عن طاعته.
الثالث : ابتداء الخطاب بقوله :﴿ يا أهل الكتاب ﴾ تنبيه لهم بأن مصاحبتهم للكتاب وكونهم أهل معرفة يوجبان عليهم الطاعة، والاستجابة لأنهم عرفوا رسالة الله تعالى إلى خلقه وأنه ما خلقهم عبثا ولا يتركهم هملا وأنه إن خالفوا ما جاءهم به الرسول يكون اللوم لهم أشد إذ يكون عصيانهم عن بينة ومعرفة.
الرابع : في قوله :﴿ يبين لكم على فترة من الرسل ﴾ فالفعل "يبين" قدر له بعض العلماء مفعولا وتقديره : يبين لكم الأحكام والتكليفات والأوامر الخالدة وبعض العلماء لا يقدر له مفعولا على أساس أنه منزل منزلة اللازم، وعلى هذا يكون المعنى : جاء رسولنا بالبيان الكافي المشرق الكاشف للظلمة التي وقعتم فيها وبذلك يشمل كل التكليفات وكل ما تشتمل عليه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك البيان كان بالقرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه وقد روي عن قتادة أنه قال في هذا المعنى :"قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل } وهو محمد صلى الله عليه وسلم، جاء بالفرقان الذي فرق الله به بين الحق والباطل، فيه بيان الله تعالى ونوره وهداه وعصمة لمن أخذ به".
الخامس : في قوله تعالى :﴿ على فترة من الرسل ﴾ يقول الزمخشري : إن الجار والمجرور متعلق بقوله تعالى :﴿ جاءكم ﴾ أي جاءكم على فترة من الرسل وعندي أن المتعلق يكون بأقرب فعل، وهو "يبين"، والمعنى يبين لكم على فترة من الرسل أي بعد فترة لم يكن فيها بيان وقد جاء الرسول الكريم بهذا البيان ويزكي هذا قوله تعالى :﴿ أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير ﴾.
ويفسر كثيرون من المفسرين أن قوله تعالى :﴿ على فترة ﴾ معناه حين فترة، وعندي أن تفسيرها بظرف آخر وهو "عند" يكون أدق، لأن الرسالة كانت نهاية الفترة فهي كانت عندهم في نهايتها، ولم تكن في حينها ووقتها والتعبير بقوله تعالى :﴿ على فترة ﴾ فيه معنى فوقية الرسالة على الفترة وعلوها عليها كعلو البيان على الجهل، والنور على الظلمة وفيه لوم لأنه يشير إلى أنه لا يسوغ لهم أن يجحدوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنهم ينزلون من الأعلى إلى الأدنى.
﴿ أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير ﴾ المقصود الواضح من هذا النص هو بيان أن حكمة مجيء الرسول هو قطع العذر على من يحتج بالجهل وعدم معرفة أوامر الله تعالى ونواهيه، فالمعنى على هذا هو أن رسولنا قد جاءكم يبين لكم الطريق المستقيم وطريق الحق القويم لكيلا تقولوا : ما جاءنا من بشير يبشر بالخير عند الطاعة وينذرنا بالعذاب عند المعصية بل إن الله تعالى قطع العذر عليهم وأبلغ الحجة فلا عذر لجاهل، ولا اعتذار لمتجاهل.
وهذا التعبير : أن تقولوا ما جاءنا من بشير مثله قوله تعالى :﴿... يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم( ١٧٦ ) ﴾ ( النساء ) كثير في القرآن الكريم، وفيه يكون التعليل مقتضيا تقدير محذوف فإن قولهم بنفي البشير لا يمكن أن يكون علة لإرسال الر سول إلا بتقدير محذوف ويقدره الكوفيون بتقدير لا النافية محذوفة، فيكون المعنى جاءكم رسولنا يبين لكم لئلا تقولوا : ما جاءنا من بشير، أو كيلا لا تقولوا : ما جاءنا من بشير، وقد اختار الطبري ذلك التقدير، ويقدره البصريون بمصدر محذوف مناسب ككراهة أن تقولوا أو اتقاء أن تقولوا، والمعنى على ذلك جاءكم رسولنا يبين لكم كراهة أن تقولوا، أو اتقاء أن تقولوا وقد اختار هذا التقدير الزمخشري.
والحق عندي : أن الآية الكريمة واضحة ومدلولها بين لا إبهام فيه، والمراد منها جلي، وهو قطع العذر عليهم وإنما هذه التقديرات تخريجات نحوية لتستقيم قواعد النحو، لا ليستبين معنى الآية فهي بينة واضحة.
والبشير : المبشر الذي يدعو إلى الحق ويبين الثمرات الحسنة لمن تبعه في الدنيا والآخرة ففي الدنيا يبين أن المصالح تتحقق فيما يدعو إليه، وأن العزة الحقيقية تكون لمن اتبعه والحياة الكريمة الفاضلة تكون لمن أخذ به، وفي الآخرة يبين جزاء الإحسان من جنات تجري من تحتها الأنهار ونعيم مقيم لا يبلى، والنذير هو الذي يبين العواقب السيئة لمن يخالف الحق إذ يكون في اضطراب لا اطمئنان معه وانزعاج لا أمن معه، ويعيش في آثام مبطئة، وأوزار مثقلة وفي الآخرة يكون العذاب الأليم والمقت والسخط من الله تعالى.
و "من" في قوله تعالى :﴿ من بشير ﴾لتأكيد النفي، والتنكير في بشير ونذير للتصغير لا للتكبير وإنما كان للتصغير لأن النفي بعمومه شامل والمعنى : ما جاءنا أي بشير ولو صغيرا، ولا نذير ولو كان ضئيلا فقد حرمنا من الهداية وما حرموا منها.
﴿ فقد جاءكم بشير ونذير ﴾ الفاء هنا تفصح عن كلام مقدر قبلها، قد يكون شرطا وقد يكون غير شرط والمعنى لا عذر لكم، وقد قطع السبيل عليكم فقد جاءكم الرسول الذي أرسلناه مبشرا بالحق وغايته وثمرته في الدنيا والآخرة، ومنذرا من يرتكبون المعاصي بالهوان وسوء العقبى، والاضطراب في الدنيا والعذاب الأليم فعليكم أن تطيعوا ولا تحسبوا أن الخير أماني تتمنى، من غير عمل يعمل.
لقد روي في السنة عن ابن عباس أنه قال :"دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود فرغبهم وحذرهم فأبوا عليه، فقال لهم معاذ بن جبل، وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب :"يا معشر يهود اتقوا الله فوالله لتعلمن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد كنتم تذكرونه قبل بعثه، وتصفونه لنا بصفته فقال وهب بن يهوذا : إنا ما قلنا لكم هذا وما أنزل الله من كتاب من بعد موسى ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية".
وسواء أصح هذا سببا للنزول أم لا يصح فإن الآية قد سيقت لقيام الحجة عليهم فيما ينكرون، وأنهم مأخوذون بما يدعون إليه، فإن قاموا بحق الإسلام واستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد نجوا، إلا فقد هلكوا والتنكير هنا للتعظيم في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولتعظيم بشارته وإنذاره والمعنى قد جاءكم بشير ونذير هو أعلى المبشرين المنذرين لأنه خاتم النبيين ولأنه آخر لبنة في صرح النبوة ولأن تبشيره وإنذاره قائمان إلى يوم القيامة، فلا نبوة بعده، ولا وحي ينزل على أحد من بعده فرسالته خالدة باقية وبشير ونذير وصفان وقد عطف ثانيهما على الآخر لتغايرهما في المعنى والمؤدى وإن كانا وصفين لشخص واحد كما قال تعالى :﴿ إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا...( ١١٩ ) ﴾( البقرة )، وكان التعدد لمعنى آخر لأن التبشير عمل غير الإنذار وكلاهما وظيفة النبوة فكان العطف بالواو لهذا المعنى فليسا وصفين ذاتيين ولكنهما وظيفتان متغايرتان للرسالة.
وإن هذا الخطاب لأهل الكتاب وبخاصة اليهود مع ما فيه من بيان الحقائق، وضع الاعتذار فيه تهديد وفيه إشارة لسلطان الله تعالى، ولهذا ختم الآية الكريمة بهذا النص الكريم :﴿ والله على كل شيء قدير ﴾.
كان هذا ختام الآية الكريمة وفيه إشارة إلى أمور ثلاثة :
أولها : أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يختار الرسل ويختار معجزاتهم، وعلى ذلك لا يصح لأحد أن يدعي أنه رسول، ولا يأتي أحد من بعده إلا إذا أخبر هو عن إرادته العالية، كما هو الشأن بالنسبة لمحمد صلى الله عليه وسلم أما موسى عليه السلام، فلم تكن رسالته خاتمة الرسائل ولو كان حيا ما وسعه إلا إتباع محمد.
ثانيها : أن تغير المعجزات في دائرة قدرة الله تعالى، فهو خالقها وهو الذي يختارها بحكمته بما يناسب كل رسول، وليس لمن كانت الرسالة موجهة إليهم أن يختاروا على الله تعالى، فهو المريد المختار الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
ثالثها : أن الله تعالى هو وحده القادر على تنفيذ ما أمر به رسوله من تبشير وإنذار فهو المعطي وهو المعاقب وهو المانح وهو المانع وسيكون العقاب الشديد نازلا بهم إن عصوا، وليس بأمانيهم ولا أماني أهل الكتاب.
اللهم اغفر لنا ونجنا من عقابك ولا تحرمنا من رحمتك وعفوك إنك أنت العفو الغفور.
في الآيات السابقة بين الله تعالى لجاجة أهل الكتاب في عنادهم وطغيانهم ونقضهم العهود التي وثقت عليهم، ولعن الله تعالى لهم وطردهم من رحمته، ومكان العز لهم، وأشار إلى أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يزال يرى طائفة من أخلاف الحاضرين تسير على خطة السابقين من خيانة وتظهر بما اتسموا به من قسوة جعلت قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة، وذكر سبحانه للنبي صلى الله عليه وسلم ما كان منهم لنبي الله موسى عليه السلام الذي أجرى الله تعالى على يده إنقاذهم من فرعون الذي كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ويسومهم سوء العذاب، ولقد قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري في معنى هذا :
" وهذا من تعريف الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بتمادي هؤلاء اليهود في الغي، وبعدهم عن الحق وسوء اختيارهم لأنفسهم، وشدة خلافهم لأنبيائهم وبطء إنابتهم إلى الرشاد مع كثرة نعم الله عندهم، وتتابع أياديه وآلائه عليهم، مسليا بذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، عما يحل به من علاجهم وينزل به من مقاساتهم في ذات الله تعالى، يقول الله تعالى له صلى الله عليه وسلم : لا تأس على ما أصابك منهم، فإن الذهاب عن الله تعالى والبعد عن الحق من عاداتهم وعادات أسلافهم
*م/
﴿ وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم ﴾ هذا النص وما يليه فيه عزاء للنبي صلى الله عليه وسلم ليصبر على ما يصيبه من المشركين وأهل الكتاب عامة، ومن اليهود خاصة ففيها بيان لما أصاب موسى عليه السلام، وهو من أولي العزم من الرسل، في سبيل الدعوة مع ما أجراه الله تعالى على يديه من نعم وآلاء، ومع ذلك جبنوا عندما دعاهم إلى الحق، وكان منهم أعداء له، فمهما ينزل بالنبي من الكفار عامة واليهود خاصة يجب أن يصبر عليه، صبر المتوقع له، الذي ينتظره كما قال تعالى :﴿ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل...( ٣٥ ) ﴾( الأحقاف ).
ومعنى النص الكريم : اذكر يا محمد حال موسى مع قومه، بعد أن رأوا الآيات المحسوسة وبعد أن نزل عليهم من النعم والآلاء وحال قومه معه. لقد دعاهم إلى الجهاد بقوله :﴿ يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم ﴾ ابتدأ بالنداء بقوله :﴿ يا قوم ﴾ تذكيرا لهم بما يربطهم من رابطة الدم والقرابة التي تجعله منهم، يهمه ما يهمهم، ويسعده ما يسعدهم ويعزه ما يعزهم فوق أنه رسول الله تعالى إليهم، وهو بهذا يقربهم إليه، ليقرب إلى نفوسهم والتذكير كان بنعمة الله تعالى عليهم التي توجب عليهم الطاعة وقد ذكر سبحانه وتعالى نعما ثلاثا بقوله تعالى :
﴿ إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ﴾ نعم ثلاث بينات واضحات، فالنعمة الأولى أنه سبحانه جعل فيهم أنبياء أي أنه سبحانه بعث فيهم أنبياء منهم يهدونهم ويرشدون، وكانوا كمصابيح في ديجور الظلام، ونورا في عمياء الضلالة ولا منة أجل من الهداية والسير في طريق الحق، ولا نقمة أشد من نقمة الضلالة والسير في طريق الفساد.
والتنكير في قوله تعالى :﴿ أنبياء ﴾ للكثرة، اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء كثيرين، ويكون ما اختصوا به هو كثرة الأنبياء قبل موسى وبعده، ولا يقال : إن الأنبياء كانت فيهم وحدهم، لأن الله تعالى يقول :﴿... وإن من أمة إلا خلا فيها نذير( ٢٤ ) ﴾ ( فاطر ) ويقول سبحانه :﴿... وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا( ١٥ ) ﴾ ( الإسراء ) والنعم الثانية عبر سبحانه عنها بقوله تعالت كلماته :﴿ وجعلكم ملوكا ﴾.
ويلاحظ أنه في النعمة الأولى قرر سبحانه وتعالى أنه جعل فيهم أنبياء، أي جعل بعضا منهم أنبياء أما النعمة الثانية فقد قال سبحانه :﴿ وجعلكم ملوكا ﴾ أي لم يجعل الملك في بعضهم بل جعلهم جميعا ملوكا ولقد أول ذلك بعض العلماء بأن المراد جعل فيهم زعماء منهم مسيطرين على أمورهم موجهين لشؤونهم، كم طلبوا ذلك من بعد، فقد قال الله تعالى عنهم :
﴿ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهو ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون( ٢٤٣ ) وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم( ٢٤٤ ) من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون( ٢٤٥ ) ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله...( ٢٤٦ ) ﴾( البقرة ).
والمراد أن يبعث عليهم كبيرا يتبعونه في القتال، ويظهر أن ذلك كان منهم من بعد موسى ومن قبله والقائد إذا كان من الشعب أو من الجماعة كانوا جميعا ملوكا ومسيطرين على أمورهم لأنه ينفذ إرادتهم ويسير مع إحساسهم ويعمل لمصلحتهم ما ظهر منها وما بطن.
وقد يفسر الملك بأنه خروجهم في عهد موسى من ربقة العبودية التي فرضها عليهم فرعون، فقد صارت لهم إرادة حرة، وتوجيه لعامة أمورهم واختيارهم لحكامهم وبذلك صاروا ملوكا وفوق ذلك فقد أوتوا رغد العيش وصاروا أحرارا في بيوتهم، بعد أن كان فرعون يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم وفي الآثار أن الرجل إذا كان له ما يكفيه وأهله بالمعروف كان ملكا، سأل رجل عبد الله بن عمرو بن العاص فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ فقال عبد الله : ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال : نعم، قال : ألك مسكن تسكنه ؟ قال : نعم، قال : فأنت من الأغنياء، فقال إن لي خادما، قال : فأنت من الملوك، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"من كان له بيت وخادم فهو ملك"١ قد آتى الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل الحرية، ومنع ذلهم ومنحهم رغد العيش وبذلك جعلهم ملوكا بموسى عليه السلام.
النعمة الثالثة : هي النعم التي أفاضها الله تعالى عليهم وقد عبر الله سبحانه وتعالى عنها بقوله تعالى حاكيا :﴿ وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ﴾.
والعالمون : جمع أريد به العقلاء من أهل هذه الأرض، ويفترق عن مفرده بأن المفرد يطلق على كل من هو على ظهر الأرض أو في باطنها من جماد أو نبات، وحيوان وإنسان بل إنه يشمل الأرض، والسماوات قاصيها ودانيها ولذلك يقول العلماء : إن المفرد هنا أعم من الجمع، لأن الجمع لا يشمل إلا العقلاء بينما المفرد يشمل كل شيء والمفرد هو العالم.
وقد قال العلماء : إن المراد هو العالمون في زمانهم أما من جاء بعدهم، فقد أطاعهم الله تعالى ما هو أكثر وأبعد أثرا وذكر الزمخشري هذه النعم فقال :﴿ ما لم يؤت أحدا من العالمين ﴾، من فلق البحر، وإغراق العدو وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى، ويصح أن يضاف إلى ذلك إنقاذهم من أذى فرعون.
وهذه نعم منها ما أخذها غيرهم ومنها ما اختصوا بها كفلق البحر اثني عشر فرقا كالطود العظيم، وإنزال المن والسلوى فهذه قد اختصوا بها دون العالمين، وإن لم يكن أكبر مما أعطاه غيرهم من نصر مؤزر.
كان تكرار النداء من موسى عليه السلام لعظم التنبيه، وخطر ما يدعوهم إليه، وعظم شأنه وكان تكرار كلمة "يا قوم" للإشارة إلى أن فيما يطلبه منهم عزهم جميعا ورفعة أقدارهم، وقد قيلت أقوال كثيرة في الأرض المقدسة وقد اتفقوا على أن معنى التقديس البركة والنماء فهي مباركة ولكنما ما هي هذه الأرض التي عناها موسى عليه السلام بطلبه، وأصح الأقوال وأولاها هو ما قاله ابن جرير الطبري إذ قال :"وأولى الأقوال عندي بالصواب أن يقال هي الأرض المقدسة، كما قال نبي الله تعالى موسى صلى الله تعالى عليه وسلم، لأن القول في ذلك بأنها أرض دون أرض لا تدرك حقيقته إلا بالخبر ولا خبر بذلك يجوز قطع الشهادة به، غير أنها لن تخرج من أن تكون الأرض التي ما بين الفرات وعريش مصر، أي أنها تشمل سيناء والشامات كلها بما فيها فلسطين والأردن ولبنان".
ولا شك أن هذا الكلام جدير بالأخذ لأن هذه الأرض المقدسة طلب منهم أن يدخلوها بعد أن اجتازوا البحر الأحمر، وعبروه إلى سيناء وسمي بعضها الوادي المقدس، كما قال تعالى مخاطبا موسى :﴿... إنك بالواد المقدس طوى ( ١٢ ) ﴾( طه ) وقد خصصها الأكثرون بأرض إيلياء بيت المقدس وما حوله.
وقد قرر الله سبحانه أنه كتب لهم أن يدخلوا بقوله تعالى :﴿ كتب الله لكم ﴾ وهنا نجد المفعول غير مذكور، إلا أن المحذوف قد وجد ما يدل عليه، والمعنى كتب لكم أن تدخلوها، أي قدر لكم أن تدخلوها، وفرض عليكم دخولها لإنقاذكم من الأهوال التي نزلت بكم في أرض مصر من فرعون وأعوانه، وقد تعدى فعل كتب باللام ولم يتعد بعلى للإشارة إلى أن ما فرضه عليهم إنما هو لأجلهم ولحفظهم وللإشارة إلى أنه واقع لمنع ضياعهم.
ولا يصح أن يقدر المفعول ضميرا كما نهج بعض المفسرين فيكون تقدير القول "كتبها لكم"، لأن مؤدى ذلك أن تكون لهم دائما مع أن النص الكريم لا يقتضيه ولا يصرح به، إذ الذي يصرح به أنه سبحانه قدر لهم أن يدخلوها، لا أن يكون قد كتبها وسجلها لهم.
وقد تمسك شذاب اليهود بأن الله تعالى قد كتب لهم أرض الميعاد وأن ذلك مذكور في الكتب المقدسة عندهم، والحقيقة أن الله تعالى كتب عليهم أن يدخلوا بعد أن خرجوا مصر ليجدوا فيها مأوى لهم، وإنما الأرض لله يرثها عباده الصالحون، وليسوا منهم.
﴿ ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين ﴾ توقع موسى عليه السلام أن يتخاذلوا إذ يدعوهم إلى العزة والنصر، فنبههم إلى ما يؤدي إليه التخاذل عن الدخول، وهذا التعبير "ارتد على دبره"، كتعبير "نكص على عقبيه"، وكتعبير"ولوا الأدبار" استعارة تمثيلية فيها تشبيه حال من يرجع عن الجهاد بعد أن توافرت أسبابه بحال من يتراجع سائرا بظهره إلى الوراء بدل أن يسير بمقدمه إلى الأمام، وهذا التعبير يصور قبح التخاذل حسا ومعنى.
ولقد كان رجوع بني إسرائيل إذا لم يعملوا على دخول الأرض المقدسة أن يعودوا إلى حكم فرعون، ويخسروا ما كسبوا من عزة وكرامة وحرية ويذهب عنهم، فإن البقاء على العزة يحتاج إلى مشقة الحصول عليها، ولئن ارتدوا عن العزة بعد نيلها فإنهم الخاسرون إذ لا يرضى بالعذاب الهون إلا الأخسرون.
صح ما توقعه موسى عليه السلام منهم، وما نهاهم عنه، إذ إن روح التردد والهزيمة قد ملك قلوبهم واستولى على نفوسهم فقرروا له أنهم لن يدخلوا، لأن فيها قوما جبارين والجبار في اللغة يطلق على الطويل القوي والمتكبر والعاتي وهو مأخوذ من نخلة جبارة إذا كانت طويلة لا ينال تمرها، وقد جاء في لسان العرب ( الجبار من النخيل وهو الطويل الذي فات يد المتناول ويقال جبار إذا كان طويلا عظيما قويا تشبيها بالجبار من النخل ) وجاء في مفردات الراغب أن الجبار من جبر، وهو الإصلاح بقهر وقوة.
ويكون على هذا معنى جبارين أنهم قوم غلاظ شداد عندهم قدرة على القهر، وقد قيل في الأخبار أنهم بنو عناق الذين يسكنون أمامهم في أدنى الأرض المقدسة إليهم، وهم أولو قوة وأولو بأس شديد ولعلهم الذين قال تعالى فيهم :
﴿ فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا( ٥ ) ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا ( ٦ ) ﴾( الإسراء )
امتنع بنو إسرائيل عن القتال وأكدوا المنع بثلاث تأكيدات :
أولها : في ندائهم بقولهم يا موسى فإن ذلك النداء فيه نوع من التذليل والاستغاثة ليسكت عنكم.
ثانيها : وصفهم لخصومهم بأنهم جبارون أي أقوياء قاهرون وأول الوهن الذي يعتري النفوس أن يشعر المجاهد بضعفه أمام خصمه.
ثالثها : أنهم أكدوا النفي بقولهم "لن ندخلها" فهذا التعبير ب "لن" فيه تأكيد للنفي، وجعل غاية النفي أن يخرج هؤلاء منها، وهم أقوياء فمن يخرجهم فكأن هذا نفي مؤبد، وهم لا يريدون قتالا ولذلك قالوا من بعد ذلك النفي ﴿ فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ﴾.
وهذا يدل على أنهم لا يريدون قتالا، بل لا يريدون دخولا لأن احتمال خروجهم بعيد، ولذلك كان التعبير بإن الشرطية التي تفيد الشك في الخروج والتعبير بالوصف في قولهم :﴿ فإنا داخلون ﴾ يدل على إرادة الدخول من غير عمل يعملونه، ومن غير معاناة ومجاهدة.. اللهم هب المسلمين العزة والقوة وأبعد عنهم الوهن الذي هو داء الضعفاء ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الكلام موصول في شأن بني إسرائيل عندما طلب إليهم موسى عليه السلام أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله عليهم أن يدخلوها فقد أجابوا راهبين خائفين بأن فيهم قوما أشداء عمالقة، وأنهم لن يدخلوها ما دام هؤلاء وهم يتكلون على الله تعالى في إخراجهم، كأن الله تعالى يخرجهم من غير عمل يعملونه وذلك لأن خنوعهم لحكم فرعون أمات فيهم روح الهمة والنخوة والمغالبة ولأنهم أحرص الناس على الحياة، أي حياة كانت كما قال تعالى :﴿ ولتجدنهم أحرص الناس على حياة... ( ٩٦ ) ﴾ ( البقرة )
﴿ قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها ﴾ بعد تلك العبارات القوية المثيرة للهمم والعزائم التي نادى بها من الصفوف رجال منهم أو من أعدائهم، أنعم الله عليهم أجابوا بإجابتهم الأولى وهي أنهم لن يدخلوا فيها حتى يخرجوا منها ولكنهم زادوا على الإجابة الأولى تأكيدا وتهجما على مقام الله سبحانه وتعالى. أما التأكيد فهو إضافة كلمة "أبدا" وإذا كانت كلمة "لن" فيها معنى تأكيد النفي فكلمة "أبدا" فيها معنى تأبيد النفي ما داموا على قيد الحياة.
﴿... فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون( ٢٤ ) ﴾ وهذه الكلمة فيها استهانة بأمر الطاعة واستخفاف بمقام الألوهية والرسالة، وخروج عن معاني الإيمان السليم لأن الله تعالى لا يعمل أعمال البشر ويقاتل ولكن ينصر ويخلق والقتال من أعمال العباد كما يقول رجل لآخر : يأمرك الأمير بالذهاب بالجند والقتال، فيجيبه : قاتل أنت والأمير ففي ذلك استهزاء بالأمير وخروج عليه وفي كل ذلك استخذاء من قوم جبناء ولذلك ختموا كلامهم بالقعود عن القتال والثبات في أماكنهم :﴿ إنا ها هنا قاعدون ﴾، وإن هذا الوصف الذي وصفوا به أنفسهم يدل على الخسة، لأن القعود غير البروز، والقاعد مخذل، والمجاهد عامل والقعود في وقت وجوب النشاط هذا للعمل الصالح هو وصف ذم، كما قال وصفا لأمثالهم :﴿... وقيل اقعدوا مع القاعدين( ٤٦ ) ﴾( التوبة ). وقال تعالى :﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة...( ٩٥ ) ﴾( النساء ).
ويقول الحطيئة :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي٢
فهم قد وصفوا أنفسهم بأقبح ما توصف الجماعات الطامحة :
ولقد أحس موسى القوي الأمين بالعبء الذي ألقى على هذه الجماعة وتخاذلها عن حمله فتقدم إلى ربه بالمعذرة يرجو بها المغفرة، فقال ما حكاه الله تعالى عنه :﴿ قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي ﴾.
ابتدأ موسى عليه السلام قوله بالاتجاه إلى ربه الذي خلقه ورباه وكون جسمه ونفسه، وذلك بالضراعة إليه وبيان أنه أعلم بحاله وأنه في طاعته لا يخرج عنها، ثم قرر المعذرة وهو أنه لا يملك من أمرهم شيئا وإنما الأمر كله إلى الله تعالى وأنه لا يستطيع أن يجعل من ضعف نفوسهم قوة، ولا من استخذائهم عزة، ولا من تقاعدهم همة، ولا يملك إلا نفسه وأخاه فهو لا يضمن إلا إياهما وهما وحدهما لا يملكان الدخول إلى هذه الأرض، والمراد بأخيه سيدنا هارون عليه السلام وقد أكدت المعذرة ب "إن" وبالقصر، وعبر عن هارون بأخيه للإشارة إلى قوة إحساسه بأنه معه في طاعة ربه وعدم عصيانه فيما أمر١.
وإذا كانت تلك حاله، فهي مفترقة عن حال الذين معه، ولذلك الافتراق عنهم ما حكاه الله تعالى :﴿ فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ﴾.
الفرق معناه الفصل بين شيئين أو شخصين فصلا حسيا أو معنويا كما قال تعالى :﴿... لا نفرق بين أحد من رسله...( ٢٨٥ ) ﴾( البقرة ).
والمراد هنا والله أعلم اجعل بيننا وبينهم فارقا في الحكم وهو العدل بيننا وبين هؤلاء الفاسقين لأننا لا نرضى بما يفعلون، ولسنا معهم في الإحساس وهذا التخاذل فلسنا منهم في هذا وليسوا منا في شيء وافصل بيننا وبينهم في الآخرة، كما فصلت في الحكم بيننا وبينهم في الدنيا والمؤدى من قول سيدنا موسى هذا هو أنه يبرئ نفسه منهم، ومن عملهم وخذلانهم والفاسق هو الخارج المنفصل بالحس أو المعنى، والمعنى : افرق بيننا وبين هؤلاء الذين خرجوا عن الطاعة وعن مناط العزة ورضوا بالذلة والهوان.
الكلام موصول في شأن بني إسرائيل عندما طلب إليهم موسى عليه السلام أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله عليهم أن يدخلوها فقد أجابوا راهبين خائفين بأن فيهم قوما أشداء عمالقة، وأنهم لن يدخلوها ما دام هؤلاء وهم يتكلون على الله تعالى في إخراجهم، كأن الله تعالى يخرجهم من غير عمل يعملونه وذلك لأن خنوعهم لحكم فرعون أمات فيهم روح الهمة والنخوة والمغالبة ولأنهم أحرص الناس على الحياة، أي حياة كانت كما قال تعالى :﴿ ولتجدنهم أحرص الناس على حياة... ( ٩٦ ) ﴾ ( البقرة )
القول هنا هو قول الله تعالى، كما يدل على ذلك الحكم الذي حكم به، فإنه لله تعالى وحده وكما يدل عليه من بعد ذلك قوله :﴿ فلا تأس على القوم الفاسقين ﴾.
والفاء في قوله تعالى :﴿ فإنها محرمة ﴾ هي فاء الإفصاح أي التي تفصح عن شرط المقدر، والمعنى : أنهم إذا كانت حالهم كذلك من الخور وضعف العزيمة والخوف من أعدائهم فإنهم لا يدخلون الآن لضعف بأسهم وشكيمتهم، فإنها محرمة عليهم تحريما واقعيا، لا تحريما حكميا تكليفيا يتيهون في الأرض أي يكونون في الأرض تائهين متحيرين يضطرب عيشهم وحياتهم ولا يستقر مقامهم بل يعيشون فرادى هائمين على وجوههم حتى يتربى البأس في قلوبهم.
هذا خلاصة معنى النص الكريم وهو يدل على أن الله تعالى بسنته التي سنها سبحانه وتعالى في الكون لا يمكنهم من أن يدخلوها إلا إذا غيروا وبدلوا حالهم من بعد الضعف قوة ومن بعد الخور عزيمة :﴿... إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال( ١١ ) ﴾( الرعد ).
إن بني إسرائيل من بعد أن بعث الله تعالى إليهم من أنفسهم سيدنا موسى عليه السلام كانت كل انتصاراتهم على فرعون بأمور خارقة للعادة، وحياتهم كلها لا تخلو من خارق، فقد أنقذوا بالبحر ينفلق اثنى عشر فرقا، وشربوا الماء بالعصا يضرب بها الحجر فينبثق منه اثنتا عشرة عينا لكل إنسان مشربهم ويشكون الجوع، فيجيء إليهم المن والسلوى. وبذلك استرخت نفوسهم، والله سبحانه وتعالى لم يجعل فيما سنه في الكون الأمم تعيش من غير كفاح وطلب للعزة بجهاد وعمل. فكلفهم سبحانه أن يدخلوا الأرض المقدسة، وهو يعلم حالهم، وبماذا يجيبون، وكان لا بد أن يربيهم على الكفاح بعد الاسترخاء، وعلى طلب العزة بأنفسهم بعد الاستخذاء فكان لا بد من البلاء بتركهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ويعيشون في الأخبية وينتقلون طلبا للماء والكلإ ويحيون حياة خشنة.
ولقد قرر ابن خلدون في مقدمته إن الأمم كلما تحضرت استرخت منها العزائم حتى يغزوها من يعيشون في شظف العيش ويسيطرون عليهم حتى يصيبهم الرفه، ويفكهوا في نعيمه فيصيبهم ما أصاب من سبقوهم.
كان التيه الذي عاش فيه بنو إسرائيل أربعين سنة لتربى فيهم قوة البأس والعزيمة ويستهينوا بالصعاب فيذللوها ويتغلبوا عليها :﴿ فلا تأس على القوم الفاسقين ﴾ هذا تطمين لموسى عليه السلام، وبيان استجابة معذرته وإزالة لما علق بنفسه من هم بسبب فعل قومه وعصيانهم لأمر ربهم ومعنى أسى حزن حزنا عميقا يحدث هما وغما، ومن ذلك قول امرئ القيس :
وقوفا بها صحبى على مطيهم** يقولون لا تهلك أسى وتجمل
اللهم هب لأمة الإسلام القوة والعزة والمنعة، وطلب إعزاز الإسلام بالجهاد بالنفس والمال، وألا يرهبوا عدو الإسلام ويطيعوا قول الله تعالى ويستمعوا إليه :﴿ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ( ١٣٩ ) ﴾( آل عمران ).
هذا النص القرآني فيه تعليل لما كان من اليهود من قبله من بسط أيديهم بالأذى للنبي صلى الله عليه وسلم ونقضهم المواثيق وقتلهم للنبيين وادعائهم الكاذب الفضل على الناس، فإن علة ذلك هو الحسد الكمين في نفوسهم والحسد قديم في الخليقة قدم الإنسان فيها، فهذا أحد ولدي آدم يحسد آخاه، حتى في العبادة التي تقتضي تنقية النفوس وتقوى القلوب، وذلك دليل على كمون الحسد في بعض النفوس مما لا علاج له إلا الصبر على الذين تصيبهم هذه الآفة كما صبر الأخ الذي قتله أخوه فإذا كان في النصوص بيان لآفة الحسد، ففيها أيضا بيان لحلية الصبر والصفح والرضا بما يقدره رب العالمين من أذى المؤذين، والإخلاص لله تعالى.
وكل هذا فيه عزاء للنبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الصبر، كما قال تعالى :﴿ واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون( ١٢٧ ) ﴾ ( النحل ).
وكما أن في النص تعليلا لما سبقه ففيه تمهيد لما يلحقه فإنه سيجيء بعد ذلك عقوبات رادعة للذين يعيثون في الأرض فسادا ويخرجون ويقتلون الأنفس البريئة ويزعجون الآمنين بالسرقات والاختطاف، ففي هذا النص يبين قسوة المعتدي ليتبين استحقاقه هو وأمثاله من عقاب ردعا وزجرا ونكالا يمنع غيرهم من العبث، ولذلك كانت الآية التي أعقبت هذا النص فيها بيان لسببيته في شرعية العقاب الرادع، فقال تعالى :﴿ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا( ٣٢ ) ﴾ ( المائدة )
﴿ واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين( ٢٧ ) ﴾ ابنا آدم، يقول المؤرخون وبعض المفسرين فيهما كما جاء في التوراة : هما هابيل التقي وقابيل الباغي، ويقول أكثر المفسرين : إنهما ولدا آدم من صلبه ولكن الحسن من التابعين قال : إنهما من بني إسرائيل، ولعل مما يشير إلى ذلك قوله تعالى من بعد :﴿ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس ﴾... إلخ.
ولا يهمنا أن نعرف من هما، ولكن الذي يهمنا أن نعرف أن ما يومئ إليه النص من حقائق، والقصص صادق وواقع ولكن نترك ما تركه القرآن ولا نهيم في إسرائيليات صادقة أو كاذبة، والنص القرآني واضح في مقصده من غير حاجة إلى ما يوضحه من خارجه ويقول سبحانه :﴿ واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق ﴾.
ومعناه اذكر خبر ابني آدم ذكرا متتابعا منسقا يشبه الكلام العظيم المتلو، وأصل التلاوة القراءة المتتابعة الواضحة في مخارج حروفها والمصورة للمعاني في وقوفها والمؤدى : أخبرهم بخبر الابنين بعناية، وأخبرهم بهذا الخبر الصادق خبرا قد لبسه الحق، وصار حليته ومظهره وحقيقته والنبأ هو الخبر العظيم ذو الشأن الذي يستدعي دراسة وعناية، ولا شك أن خبر ابني آدم ( خبر له شأنه ) بما فيه من قتل الأخ لأخيه من غير جريمة ارتكبت ولا شر وقع ولا اعتداء بل بسبب العبادة الخالصة لوجه الله تعالى فما كان سبب الاعتداء إلا ذلك ولذا ذكر سبحانه وقت الجريمة وهو سببها وباعثها مما يدل على أن القلب الخبيث لا يدفعه فعل الخير المقبول إلا إلى الأذى الممقوت، فقال :
﴿ إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر ﴾ أي اذكرهما ذكرا حقا صادقا في الوقت الذي قربا فيه قربانا وكانت نتيجة القربان تقبلا حسنا من أحدهما وعدم تقبل من الآخر، فكان من وراء ذلك الاعتداء الشنيع من الذي لم يقبل قربانه والقربان العبادة التي يتقرب بها الله تعالى، وهي تطلق في أكثر أحوال العبادة على الذبائح التي يتقرب إلى الله تعالى بذبحها، كذبح الهدي في مكة.
والتقبل معناه القبول بقوة من القابل سبحانه، فهو قبول ورضا وترحيب وقد ذكر اللفظ في الإثبات لمعنى القصد الطيب والنية الحسنة من الابن الصالح، وذكر اللفظ في النفي بقوله سبحانه :﴿ ولم يتقبل من الآخر ﴾ للمقابلة بين النفي والإثبات لأن قربان ذلك الآثم لم يقبل أصلا فنفيه منصب على أصل القبول لا على وصفه.
وكان عدم قبول لسوء نيته، ولنقص تقواه ولأنه قصد الخبيث من ماله وأراد به التقرب، ولأنه قصد المباهاة والفخر ولم يقصد وجه الله ولأن قلبه متأشب بالآثام كما تبين من سوء فعله وخبثه وعدم رحمته من بعد ذلك، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن أحدهما لم يتقبل قربانه ولم يبين سبحانه كيف عرف أنه لم يقبل ولقد ذكر العلماء كلاما في هذا، فقيل إن القربان تنزل عليه نار فتأكله، والآخر لا تنزل عليه نار وقد علم القبول بهذه الأمارة، وقال آخرون : إن ذلك كان بوحي أوحي إلى نبي هذا الزمان، وعندي أن ذلك كان برؤيا صادقة أو بحال المتصدق في نفسه وقد علم من حاله أن تصدقه غير مقبول، وقد يكون بإخبار نبي الزمان إن كانا غير ولدي آدم الصلبيين١.
وكان نتيجة ذلك أن كان بين الأخوين تلك المجاوبات الكلامية ثم الجريمة الكبرى التي هي أعظم ما ظهر من جرائم في الوجود الإنساني ولنذكر المجاوبة بين التقي المؤمن العادل السمح والفاجر الباغي الظالم الحاسد، قال :﴿ لأقتلنك ﴾ تلك كلمة الظالم الآثم الذي خلا قلبه من كل شعور بالحق، فلم يشعر بالعدالة في ذاتها، ولم يشعر بالرحم الواصلة بينهما ولم يشعر بحق الحياة التي خلقها الله تعالى وأودعها كل نفس ولم يشعر بحرمة الدم، وبأن القتل أعظم جريمة في هذا الوجود الإنساني وقد أكد عزمته الآثمة وإصراره عليها من غير خور ولا ضعف، ولذلك أكدهما أولا بالقسم المطوي في القول، والذي تدل عليه اللام، وهي مؤكدة أيضا بنون التوكيد الثقيلة وكانت المجابهة الآثمة لأخيه بذلك الخطاب المواجه، ولم يستر نيته، فكان التبجح السافر الذي أدى إليه الفجر في القول والإجرام في العمل والكسب الآثم.
وإن هذا يدل على تصميمه على القتل وهذا النص الموجز يبين روح الإجرام في المجرمين الذين يريدون السوء بالأخيار في المجتمع، وكلما زاد خير الأخيار، أوغل المجرمون في الشر والإيذاء، حتى أنهم ليستمرئون الشر كما يستطيب الأخيار حب الخير وإن هؤلاء آفة الجماعة الإنسانية ومن تظهر مآثمه منهم تحق عليه كلمة العقاب زجرا وردعا، وتهذيبا للمجتمع وتطهيرا له، فالذين يذهب بهم فرط رأفتهم إلى الاعتذار لهم آثمون في حق جماعتهم، راضون بأن يعيش الشر في قلوب الآثمين.
﴿ قال إنما يتقبل الله من المتقين ﴾ تلك أول كلمة نطق بها التقي البر في مجاوبة اعتداء أخيه، أو الجهر بنية الاعتداء وهي في ذاتها اعتداء فقد قال كلمات أربعة كل واحدة منها تنبئ عن إيمان مكين عميق وتلك هي الأولى، وهذه الكلمة تفيد السبب في القبول، وترشد أخاه إلى تطهير قلبه، وإلى الاتجاه إلى ربه وإلى الاستشعار بخشيته، وفي تلك الكلمات الطيبة معان كريمة.
فهي أولا تفيد قصر القبول بلفظ :﴿ إنما ﴾ على المتقين والقصر نفي وإثبات أي أن التقوى هي سبب القبول، فإن وجدت كان القبول، وإن لم توجد انتفى القبول وتفيد ثانيا أن عدم القبول إنما يكون من نفس المتصدق، لا من أمر خارجي فالجزاء على قدر النية فالتقوى دائما من القلوب.
وتفيد ثالثا توجيه أخيه الفاسد إلى الإقلاع عن ذنبه بموضع الداء في قلبه، وأن عليه أن يطب له، والتقوى التي اعتبرت سببا للجزاء الطيب، تتضمن خشية الله تعالى وامتلاء القلب بطلب رضاه وتتضمن اتقاء الذنوب والآثام وتتضمن احترام حق الإنسان على أخيه الإنسان فهي كلمة جامعة لكل معاني الفضيلة الدينية والخلقية والاجتماعية.
هذا النص القرآني فيه تعليل لما كان من اليهود من قبله من بسط أيديهم بالأذى للنبي صلى الله عليه وسلم ونقضهم المواثيق وقتلهم للنبيين وادعائهم الكاذب الفضل على الناس، فإن علة ذلك هو الحسد الكمين في نفوسهم والحسد قديم في الخليقة قدم الإنسان فيها، فهذا أحد ولدي آدم يحسد آخاه، حتى في العبادة التي تقتضي تنقية النفوس وتقوى القلوب، وذلك دليل على كمون الحسد في بعض النفوس مما لا علاج له إلا الصبر على الذين تصيبهم هذه الآفة كما صبر الأخ الذي قتله أخوه فإذا كان في النصوص بيان لآفة الحسد، ففيها أيضا بيان لحلية الصبر والصفح والرضا بما يقدره رب العالمين من أذى المؤذين، والإخلاص لله تعالى.
وكل هذا فيه عزاء للنبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الصبر، كما قال تعالى :﴿ واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون( ١٢٧ ) ﴾ ( النحل ).
وكما أن في النص تعليلا لما سبقه ففيه تمهيد لما يلحقه فإنه سيجيء بعد ذلك عقوبات رادعة للذين يعيثون في الأرض فسادا ويخرجون ويقتلون الأنفس البريئة ويزعجون الآمنين بالسرقات والاختطاف، ففي هذا النص يبين قسوة المعتدي ليتبين استحقاقه هو وأمثاله من عقاب ردعا وزجرا ونكالا يمنع غيرهم من العبث، ولذلك كانت الآية التي أعقبت هذا النص فيها بيان لسببيته في شرعية العقاب الرادع، فقال تعالى :﴿ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا( ٣٢ ) ﴾ ( المائدة )
تلك هي الكلمة الثانية وبسط اليد مدها بالاعتداء ونرى في هذا النص قسما ينبئ عن الطيبة والخلق السمح في مقابل قسم ينبئ عن الشر ونية الأذى والتصميم عليه، وهذا يصور ما بين الأخيار والأشرار من تضاد، فهو يؤكد هنا سلامة القلب وسلامة العمل، أقسم الأول على القتل، وأقسم الثاني على عدم الرد١، وقد أكد نفيه بهذا القسم وبالتعبير بالجملة الإسمية في جوابي القسم، لأن جواب القسم :
﴿ ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ﴾ وقد أكد النفي بأمور ثلاثة : أولها التعبير بالوصف فهو ينفي عن نفسه وصف بسط اليد لأجل الاعتداء لأن ذلك ليس من شأنه ولا من رغباته والثاني : التعبير ( باليد ) للإشارة إلى أن ما بينهما من رابطة الرحم الموصولة عنده تمنعه من أن يمد إليه يده بالأذى، والمؤكد الثالث التعبير ﴿ لأقتلك ﴾ فيه أن هذه الجريمة تنفر منها الطبائع السليمة ولا ترضى بها العقول المستقيمة وخصوصا إذا كان يريد قتله.
وقد أقسم الأول على الفعل فقال ﴿ لأقتلنك ﴾ وردد كلامه في نية الاعتداء بالفعل أيضا لأن موضوع القول هو ذلك الفعل الذي كان ثمرة للنية الخبيثة من فاعله، أما النفي الذي كان من الشاب الطيب، فقد كان عن نفي الوصف أي أنه لا يقع منه ذلك الفعل، ولا يمكن أن يقع.
ويثير الفقهاء بحثا في هذا الموضوع، وهو حول ما قرروه من أن الدفاع عن النفس عند محاولة الجاني للقتل أمر مشروع لا يتجافى مع التقوى، ويقرر الحنفية أن الشخص إذا تأكد أنه مقتول إذا لم يدفع عن نفسه ولو بالقتل، يكون الدفاع واجبا حفظا لنفسه، ويكتفي الأكثرون من الفقهاء بالقول بأن الدفاع يكون مشروعا، ولا يكون لازما وسواء أكان هذا أم ذاك، فإنه ليس من التقوى أن يقف المجني عليه مكتوف اليد لا يدافع.
وقد أجاب جمهور الفقهاء بأن التقوى في هذا المقام اختيارية، أي أنه يختار أي الطريقين. فإما أن يدفع الشر وإما أن يكون عبد الله المظلوم، ولا يكون عبد الله الظالم، وليس في كليهما ما ينافي التقوى أما الحنفية الذين قالوا : إن الدفاع عن النفس واجب، فقد قالوا : إن السكوت واعتباره من التقوى كان شرع من قبلنا، أما شرعنا فهو واضح في قوله تعالى :﴿... فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم...( ١٩٤ ) ﴾( البقرة ) ونقول : إن موقف ولدي آدم خارج عن موضوع الخلاف، لأن موضوع الخلاف هو في دفع الصائل الذي يجيء ليقتل، فإنه يجب دفعه، حتى لا يستشري شره، أما هنا فأخ يهدد أخاه بالقتل ولو أنه هدده بمثل ما هدده به لدخلا في ملحمة، ولا يدري أيهما الغالب، ويكون هذا داخلا في معنى قوله صلى الله عليه وسلم :"إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار"، قالوا : هذا القاتل يا رسول الله، فما بال المقتول، فقال صلى الله عليه وسلم :"إنه كان حريصا على قتل صاحبه"٢ على أن في الصبر أجرا وقد قال تعالى :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ( ١٢٦ ) ﴾ ( النحل ) فهذه القضية خارجة خروجا تاما عن موضع الخلاف وخصوصا أن الأمر بين أخوين لا بين صائل يضرب بالسيف ابتداء من غير فرصة للموازنة والتفكير.
﴿ إني أخاف الله رب العالمين ﴾ هذه هي الكلمة الثالثة وهي تنبئ عن الباعث الذي جعله يقف ذلك الموقف السلبي ويتخلى حتى عن الدفاع عن نفسه، والباعث عليه هو خوف الله تعالى، وفي ذلك إشعار لأخيه الذي يهم بقتله بأن يقف موقفه ويخاف الله تعالى الذي يقبل الطاعات ويرد المعاصي وهو عليم بكل ما في الصدور وهو شهيد على حركات الجوارح والأعضاء والقلوب لا يخفى عليه شيء في الأرض، وفي النص الكريم إشارات بيانية يحسن التنبيه إليها :
الأولى : تأكيد خوف الله بذكر ( إن ) المؤكدة للقول.
الثانية : ذكر الله تعالى جل جلاله بلفظ الجلالة للإشعار بأنه هو وحده صاحب السلطان على نفسه، ولا سلطان سواه فلا يدفعه غضب أو حب انتقام إلى مخالفة أمره.
الثالثة : وصف الله جل جلاله بأنه رب العالمين أي منشئ الكون ومن فيه وهو يتعهدهم بالنماء والتغذية والتربية، فقتل النفس التي حرم الله تعالى قتلها هدم لما بناه الله تعالى، وتخريب في الأرض ونشر للفساد.
٢ متفق عليه رواه البخاري: الإيمان..
هذا النص القرآني فيه تعليل لما كان من اليهود من قبله من بسط أيديهم بالأذى للنبي صلى الله عليه وسلم ونقضهم المواثيق وقتلهم للنبيين وادعائهم الكاذب الفضل على الناس، فإن علة ذلك هو الحسد الكمين في نفوسهم والحسد قديم في الخليقة قدم الإنسان فيها، فهذا أحد ولدي آدم يحسد آخاه، حتى في العبادة التي تقتضي تنقية النفوس وتقوى القلوب، وذلك دليل على كمون الحسد في بعض النفوس مما لا علاج له إلا الصبر على الذين تصيبهم هذه الآفة كما صبر الأخ الذي قتله أخوه فإذا كان في النصوص بيان لآفة الحسد، ففيها أيضا بيان لحلية الصبر والصفح والرضا بما يقدره رب العالمين من أذى المؤذين، والإخلاص لله تعالى.
وكل هذا فيه عزاء للنبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الصبر، كما قال تعالى :﴿ واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون( ١٢٧ ) ﴾ ( النحل ).
وكما أن في النص تعليلا لما سبقه ففيه تمهيد لما يلحقه فإنه سيجيء بعد ذلك عقوبات رادعة للذين يعيثون في الأرض فسادا ويخرجون ويقتلون الأنفس البريئة ويزعجون الآمنين بالسرقات والاختطاف، ففي هذا النص يبين قسوة المعتدي ليتبين استحقاقه هو وأمثاله من عقاب ردعا وزجرا ونكالا يمنع غيرهم من العبث، ولذلك كانت الآية التي أعقبت هذا النص فيها بيان لسببيته في شرعية العقاب الرادع، فقال تعالى :﴿ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا( ٣٢ ) ﴾ ( المائدة )
. تبوء هنا معناها : ترجع ويلازمك الإثم ملازمة من يقيم في مكان ويبوء إليه، وهنا نتكلم عن معنى"إثمي وإثمك" روي عن ابن عباس أن المعنى إثمي أي إثم قتلي، فهي تشبه إضافة الفعل إلى المفعول، أي الإثم الذي ترتكبه في شأني بقتلك إياي، وإثمك الأصلي الذي عوق صدقتك عن أن تقبل، فترتكب إثمين، وتضيف إلى ذنبك الأصلي ذنبا آخر فلا تكون قد خلعت نفسك من المعاصي بل أركست نفسك فيها وزدتها.
وهذا الذي نختاره وهو معنى مستقيم وروي عن الحسن أن المعنى أن يحمل يوم القيامة ما عسى أن يكون التقى قد ارتكبه من إثم فوق آثامه الأصلية.
والزمخشري يقول في تفسير هذه الآية :﴿ إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك ﴾.
أن تحتمل إثم قتلي لك لو قتلتك وإثم قتلك لي ثم يقول( المراد بمثل إثمي ) وروي ذلك عن مجاهد وإني أرى في هذا تكلفا والواضح هو ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه.
وهنا قد يسأل سائل أكان من التقوى أن يريد أن يتحمل غيره الأوزار ونقول : إن ذلك بيان للنتيجة لامتناعه عن مقاومة أخيه فهو إذ أراد الامتناع عن بسط يد الأذى لأخيه فكأنه أراد النتيجة المحتومة لذلك، وهي أن يبوء بإثم نفسه وإثمه، فإن إرادة السبب كأنها إرادة للمسبب.
وقد ختم كلامه السمح بتبصير أخيه بالنتيجة النهائية، وهي أن يكون من أصحاب النار الملازمين لها الذين لا يخرجون منها يوم القيامة ثم يبصره بأن ذلك جزاء الظالمين، وأنه في فعلته التي يهم بفعلها يكون ظالما داخلا في زمرة الظالمين.. اللهم جنبنا الظلم وأهله، وإنك نعم المولى ونعم النصير.
الآيات المتلوة استمرار في بيان قصة ابني آدم التي ضربها الله تعالى مثلا للشر كيف يستحكم في النفس وينتصر على نوازع الخير والمحبة فيها، وإن فيها مغالبة بين الخير والشر بين أخوين، وكان الشر معتديا، والخير مسالما وكان الخير في قلب الشرير ينازع الشر، حتى انتصر الشر في قلبه، وقد كان أخوه الخير يرجو أن تثور في قلب أخيه الشرير نوازع الرحمة والمودة والأخوة الواصلة ولا تقطعها جفوة الحسد العارضة، وقد قال صلى الله عليه وسلم :" إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا، فخذوا من خيرهما ودعوا الشر " ١.
ولقد تمت جريمة الأخ الآثم، ولكن بعد مجاوبات نفسية انتهت بانتصار الشر، ولذلك قال تعالى :﴿ فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله ﴾
﴿ فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله ﴾ هذا النص الكريم يدل على أمرين : أحدهما أن قابيل الذي قتل أخاه، ولو أنه أكد عزمته على الاعتداء بقوله :"لأقتلنك" كانت نفسه يتردد فيها عاملان : الأول عامل الود والرحم الواصلة، والثاني عامل الحسد والضغن وثانيهما أن أخاه فيما ساقه من قول كان يريد أن ينمي في نفسه روح المودة والأخوة لتنتصر على الأخرى ولذلك ما تحرك لمقاومته، بل تحرك لمراجعته ليثوب إلى نفسه.
ومعنى كلمة "طوعت" قال فيها مفسرو السلف معاني تدل على أن هناك مقاومة في داخل شعوره قبل أن يقع في الجريمة وقد فسر مجاهد "طوعت" شجعت، وفسرها بعض التابعين بسهلت ووسعت، وبعضهم بزينت وحسنت، وكلها يشير إلى أنه كانت هناك معركة في داخل نفسه بين الخير والشر، بين الإقدام على الجريمة، والإحجام عنها حتى انتصرت وقرأ الحسن بدل "طوعت"، "طاوعت" وهذه الصيغة تدل على المشاركة وهو يدل على معنى المقاومة، وقد صور السيد رشيد رضا في تفسير المنار معنى المغالبة في النفس تصويرا حسنا فقال :
"إن هذه الكلمة ( طوعت ) تدل على تكرار في حمل الفطرة على طاعة الحسد الداعي إلى القتل، كتذليل الفرس والبعير الصعب، فهي تمثل لمن يفهمها ولد آدم الذي زين له حسده لأخيه قتله، وهو بين إقدام وإحجام يفكر في كل كلمة من أخيه الحكيم، فيجد في كل منها صارفا له عن الجريمة، ويدعم ما في الفطرة من صوارف العقل والقرابة فيكر الحسد من نفسه الأمارة بالسوء على كل صارف من صوارف نفسه اللوامة، فلا يزالان يتنازعان ويتجاذبان حتى يغلب الحسد ويجذبه إلى طاعته".
وإن في النص الكريم إشارة إلى هذه المعاني من حيث التردد، فقد عبر عن المقتول بقوله :﴿ فطوعت له نفسه قتل أخيه ﴾ والمعنى : أن الأخوة والاطمئنان إلى القرابة كانا يعارضان دواعي القتل، وعبر عن الجريمة بقوله فقتله، مما يدل على أن التطويع للحسد بعد المغالبة ترتب عليه أقوى شر في هذا الوجود، وهو إزهاق النفس التي حرم الله قتلها من غير جريمة إلا أن يكون قبول الله لقربانه جريمة عند الحاسدين.
والنص القرآني مع كل ما سبق فيه إشارة إلى شناعة الجرم في ذاته من حيث الباعث عليه ومن حيث الصلة بين القاتل والمقتول، ومن حيث ذات الفعل، فإنه أكبر جريمة إنسانية في هذا الوجود ولكل هذه المعاني أشار القرآن الكريم بأوجه تعبير وأدق الألفاظ وهو سر الإعجاز وفيه بلاغة الإيجاز مع الوضوح، وإشعاع المعاني بالنور من ثنايا الألفاظ.
﴿ فأصبح من الخاسرين ﴾ أي فصار من الخاسرين بعد تلك الجريمة الكبيرة التي تحيط بها الشناعة من كل أطرافها والتعبير بأصبح هيأ لها المقام في الكلام، لأن "أصبح" تدل على أنه كان مدركا لما ارتكب عندما أشرق نور الصبح، كأنه وقت الحيرة أو إرادة الارتكاب في ظلمة من عقله وقلبه، وفي ديجور من الظلام يشبه ظلام الليل، حتى كان الصبح المنير الذي أراه الأمور على وجهها، وأدرك في ذلك الضوء الذي جاء عند الصباح مقدار الإثم فيما فعل.
والخسران الذي لحقه هو خسران القلب المؤمن إذا أربد بالمعاصي وطغى عليه الشر حتى غلبه، وأركس في مهاوي الشر بسبب ضغن نفسه وامتلاء قلبه بالحسد، وأحس بأنه خسر أخاه الطيب الطاهر العفيف وأحس بغضب الله تعالى، وذلك هو الخسران المبين وهكذا صار ممن غلبت عليه شقوته، وامتلأت نفسه بالحسرة على سوء ما فعل.
وهنا إشارة بيانية، وهي في التعبير بقوله تعالى :﴿ فأصبح من الخاسرين ﴾.
فإن مؤداه أنه صار في زمرة الخاسرين الذين كسبوا السيئات وأركست نفوسهم في مهاوي الخسران، وأصبحوا ولا منجاة لهم ولا بقاء لأنهم نزلوا إلى قاع الهاوية بارتكاب أعظم الجرائم بإصرار وتصميم.
الآيات المتلوة استمرار في بيان قصة ابني آدم التي ضربها الله تعالى مثلا للشر كيف يستحكم في النفس وينتصر على نوازع الخير والمحبة فيها، وإن فيها مغالبة بين الخير والشر بين أخوين، وكان الشر معتديا، والخير مسالما وكان الخير في قلب الشرير ينازع الشر، حتى انتصر الشر في قلبه، وقد كان أخوه الخير يرجو أن تثور في قلب أخيه الشرير نوازع الرحمة والمودة والأخوة الواصلة ولا تقطعها جفوة الحسد العارضة، وقد قال صلى الله عليه وسلم :" إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا، فخذوا من خيرهما ودعوا الشر " ١.
ولقد تمت جريمة الأخ الآثم، ولكن بعد مجاوبات نفسية انتهت بانتصار الشر، ولذلك قال تعالى :﴿ فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله ﴾
هذا الكلام يتضمن معاني سبقته، ولم يذكرها القرآن الكريم، لأنها تفهم من المعنى والسياق من غير حاجة إلى الذكر ولا يدرك المعنى ولا يستقيم إلا بتقديرها، وذلك أن القاتل بعد أن ارتكب الجريمة وأحس بالخسارة الشديدة التي نالته لم يرد أن يترك أخاه تنهشه السباع أو تنقره جوارح الطيور، ولا أن يترك جسمه ملقى، وألهم بالفطرة أنه لا بد من مداراة جسمه، وستره، وإبعاده عن الأنظار لأنه بعد موته صار جسمه كله سوءة يسوء النظر إليها، ولا تألف الطباع السليمة رؤيته، فالمراد بالسوءة الجسم كله بعد موته، لأنه يسوء النظر وخصوصا بعد أن تتحول حاله ويتعفن، وقد استيقظت الأخوة في نفسه بعد أن خبت أمدا ارتكب فيه جريمته.
اتجه الأخ القاتل لمواراة جثة أخيه أي سترها، وقد أراد الله تعالى أن يعلمه ذلك، فبعث غرابا، ومعنى بعثه أنه أفهمه أن يفعل ذلك، وقد رأى ذلك الغراب الملهم غرابا آخر ميتا، وأراد أن يستره عن الأنظار فأخذ يبحث في أرض أي يثيرها ويحفرها برجليه، حتى أوجد حفرة تسع الغراب الميت فوضعه فيها فكان هذا إعلاما للقاتل بالطريق التي يواري بها جثة أخيه.
وقد فهم بعض المفسرين من الآية أنه لم يكن ثمة غراب قد مات، أو قتله صاحبه ولكنه رأى الغراب يبحث في الأرض عن شيء من الأشياء ليدفنه، لأن من عادة الغربان حفر الأرض لدفن الأشياء، فلما قاتل أخيه الغراب يحفر الأرض اهتدى إلى حفر الحفرة التي ألقى فيها جثة أخيه القتيل.
والكثيرون من المفسرين على أن غرابين تناقرا فمات أحدهما، فدفنه الآخر بحفر حفرة في الأرض.
والحق أن الآية الكريمة نصت على أن الغراب قد أخذ يبحث في الأرض، حتى حفر حفرة، دفن فيها شيئا أو طيرا ميتا، ولم تتعرض لكون المدفون طيرا أو غير طير، لا لكون الطير مات بقتل الدافن، أو مات بسبب آخر والآية الكريمة بينة واضحة المقصد من غير فرض واحد من هذه الفروض بعينه، وما دامت الأخبار التي لا مناص من قبولها لصدقها غير موجودة فليس لنا أن نفرض واحدا من هذه الفروض بعينه، والفرض الواحد الذي يقتضيه بيان الغرض والمغزى هو أن نفرض أن الغراب أخذ يحفر في الأرض، حتى أتم حفرة وضع فيها شيئا، فعلم القاتل الجهول أن ذلك هو الطريق لدفن أخيه.
وأصل كلمة "يبحث" معناها كشف أو دق الأرض أو حفرها، وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني :"البحث" الكشف والطلب فيقال بحثت عن الأمر وبحثت كذا قال تعالى :﴿ فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري ﴾.
وقيل بحثت الناقة الأرض بأرجلها في السير إذا شددت الوطء تشبيها بذلك.
والمعنى : أن الغراب أخذ يدق بمنقاره مثيرا للأرض، حتى حفر حفرة فيها ثم دفن ما شاء أن يدفنه وأنه دأب في ذلك وقتا طويلا بدليل التعبير بقوله ﴿ يبحث ﴾ بالمضارع بدل الماضي، لأن في التعبير بالمضارع إشارة إلى حال استمرت لا إلى واقعة وقعت فقط، فالتعبير بالمضارع عن أمر مضى لبيان أن الفعل مكث وقتا وكان مجال استمرار.
وفي كل هذه الأمور التي كانت بعد قتل أخيه ما يثير العبرة، وإذا كان الغراب قد أراه كيف يواري سوءة أخيه فإن ضميره قد استيقظ، وأصبح لا يستطيع كيف يواري سوءة فعله التي فتحت باب القتل والقتال إلى يوم القيامة ولذلك صرح القرآن بأنه اعتراه الندم، ولكن في غير مندم لأن الجريمة قد وقعت ولا منجاة منها ولذلك قال سبحانه :﴿ قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي ﴾.
أخذ القاتل تعتريه الحسرة بعد الفعلة التي فعلها، واكتسب بها ذلك الجرم الشديد البليغ الأثر في هذا الوجود، وقد كانت حسرته للفعل الذي ارتكبه للعجز الذي لحقه ولصغر نفسه أمام الطائر وهو الذي أبى واستكبر، لأن الله قبل قربان أخيه، ولم يقبل قربانه وطغى على أخيه وتجبر.
والويلة والويل البلية والفضيحة والألف في قوله تعالى :﴿ يا ويلتى ﴾، هي مقلوب ياء المتكلم، مثل الألف في قوله تعالى :﴿... يا أسفى على يوسف...( ٨٤ ) ﴾( يوسف ). والمعنى "يا ويلتى" أي يا فضيحتي وبليتي أقبلي فهذا وقتك، لأني قد نزلت بي أسبابك، وهذا النداء يستعمل للتحسر وإظهار الألم النفسي، وإن هذه البلية والفضيحة اللتين نزلتا به، ويتحسر منهما ويناديهما، وهما بين جنبيه انبعثا من قلبه ومن فعلته التي فعلها، ومن جهله وغبائه وعدم التفاته إلى ما يجب عليه بالنسبة لجثمان أخيه الذي كان سببا في جعله جثة هامدة، بعد أن كان لسانا نقيا وقلبا تقيا، وأخا مباركا. وقد صور جهله بهذا الاستفهام التقريري الذي يصور جهله، وغفلته وحسرته، وقد حكاه الله تعالى عنه بقوله :﴿ أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي ﴾.
والمعنى : أنه يقرر عجزه عن أن يكون مثل هذا الغراب ولكنه قال ذلك بصيغة الاستفهام للتقرير والتثبيت وللحسرة على ما وقع منه وللأسى والألم ولذلك عبر باللفظ ﴿ أخي ﴾ الذي كان يوجب المودة والمحبة بدل الحسد وما أدى إليه من قتله، وشطر لحمه، وهو جزء أبيه فقال سوءة أخي وحسرته ليست للعجز، عن مواراتها التراب وغفلته، ولكن لذلك ولأصل الجريمة بالذات ولذلك كان التعبير بأخي وإن هذه أولى درجات الندم، إذ إن أولى الدرجات فيه أن يحس بعظم الجريمة التي ارتكبها، وأثر الإثم الذي فعله فقد فعل ما فعل بعد ترديد الفكرة مرتين ولكنه ما إن فعل حتى رأى أثر الجريمة مجسما، وبذلك كانت الحسرة ثم كان الندم ولذلك قال سبحانه بعد ذلك :
﴿ فأصبح من النادمين ﴾ بعد أن رأى جثة أخيه بين يديه، وغفل عن أن يواريها وأحس البلية التي وقع فيها من رؤية جثمان أخيه الطيب ملقى، وهو عرضة لسباع البهائم وسباع الطير تنهشه أدرك مقدار الشر الذي ارتكبه، ومن المقررات العلمية أن أول إحساس بهول الجريمة أن يرى المجرم الفريسة التي افترسها، سواء أكان ذا قربى أم لم يكن ذا قربى، فما بالك إذا كان المقتول لم يرتكب إثما، بل فعل برا، ولم يكن منه شر وأذى بل كان منه عظة وإرشاد.
وإن ذوي الخبرة من رجال التحقيق يستخدمون رؤية المقتول لاعتراف القاتل فإنه بمجرد رؤيته تضطرب أعصابه، ويتخلى عنه ثباته وإصراره على الإنكار وإن لم يصرح بالاعتراف، فإن قرائن الارتكاب تتكون من اضطراب ظاهر، ومن سرعة نبض ومن اصفرار وجه، وذلك سبيل لأخذ الاعتراف الصريح، لأن صوت الفطرة المستنكر يستيقظ ويتحرك، ويظهر في حركات الجوارح وخلجات اللسان، واضطراب الأعصاب وسرعة النبض، ولذلك كانت الندامة التي اعترت أول حاسد وأول قاتل وقد صار من النادمين أي أنه دخل في زمرة النادمين، بعد أن كان في زمرة المترددين الحاقدين الحاسدين الباغين.
وإن هذا الندم لا يعد غافرا للذنب، وإن كان أول طريق للتوبة هو الندم على الفعل الذي وقع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :"التوبة ندم"١، كما روى الإمام أحمد والإمام البخاري رضي الله عنهما، وإنما كان ذلك الندم ليس من التوبة لأنه استجابة لصوت الفطرة والتوبة المقبولة تكون ابتغاء مرضاة الله تعالى، وتكون في غير الاعتداء على العباد.
وبعد، فإن سبب هذه الجريمة الكبرى التي فتحت باب القتل والقتال هو الحسد، والحقد، وهما يأكلان القلوب، ويشعلانها بالشر كما تشعل النار الحطب، وإن ذلك الحسد كان في العبادة وقبولها، وذكر الله تعالى هذا النوع من الحسد ليبين أن الحسد كيفما كان الباعث عليه شر يؤدي إلى أقبح الشرور والآثام، وإذا كانت أول جريمة في البشرية سببها الحسد فإن ذلك تنبيه إلى أن الباعث على أكثر جرائم هذا الوجود الإنساني هو الحسد المقيت فالكفر بالنبيين وخصوصا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم كان سببه الحسد، وأكثر الجرائم بين الآحاد سببها الحسد، والحسد دائما يكون على فضل في المحسود وعجز في الحاسد وقى الله العاملين شر الحاسدين.
يتنازع النفس البشرية نزوعان : نزوع الخير ونزوع الشر، ولذلك قال تعالى :﴿ ونفس وما سواها( ٧ ) فألهمها فجورها وتقواها( ٨ ) ﴾ ( الشمس ). قال تعالى :﴿ وهديناه النجدين( ١٠ ) ﴾( البلد ) أي : أودع الله تعالى نفسه العلم بالخير والاتجاه إليه، وأودعها الشر والاتجاه إليه، فمن غلبت عليه نزعة الشر كان من الأشرار، ومن غلبت عليه نزعة الخير كان من الأخيار الأبرار، وكل ميسر لما خلق له، وما يتجه إليه، وقد أودعه الله سبحانه وتعالى مع ذلك عقلا به يميز الخير من الشر، والطيب من الخبيث ويعتبر بماضيه وحاضره وحاضر غيره وقابله. ولا بد من زواجر اجتماعية تنبه الضال، حتى لا يستمر في ضلاله وتوضح له بالعيان عقبى الشر وثمرة الخير.
وهذان أخوان أحدهما غلب عليه الخير حتى أنه لم يبسط يده ليقتل أخاه، مع أنه رأى بوادر الشر، والثاني غلبه الشر، حتى أنه ليستعديه الحسد على أخيه فيقتله، ولقد ذكر الله تعالى في سابق الآيات ما كان من ابني آدم، ويذكر هنا ما سنه من نظم ليرى فيها النازعون إلى الشر ما يردعهم، فقال تعالى :
﴿ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس ﴾ أي من جراء هذه الجناية التي ارتكبها أحد ابني آدم، ودلالتها على تغلغل الشر في نفوس بعض الناس واستعدادهم لأن تكون منهم الجريمة في كل وقت وحين، كان لا بد من رادع زاجر مانع وهو العقاب ف "أجل" هنا معناه جناية، وقد فسرها كذلك اللغويون في معاجمهم فذكر ذلك ابن منظور في لسان العرب، وذكره الأصفهاني في مفرداته، فقال : والأجل الجناية التي يخاف منها آجلا، فكل أجل جناية وليس كل جناية أجلا، يقال فعلت كذا من أجله، قال تعالى :﴿ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل ﴾ أي من جراء ذلك، وقد فسر الأجل بالجناية أكثر المفسرين، وقد حقق الطبري الأصل اللغوي واستشهد بقول الشاعر :
وأهل ضباء صالح بينهم** قد احتربوا في عاجل أنا آجله١
يعني بقوله : أنا آجله أي أنا الجار عليهم ذلك والجاني.
وقد أشار الأصفهاني إلى معنى جدير بالنظر وترديده، وهو أن الأجل هو الجناية التي يخاف منها آجلا، أي تكون لها عواقب وخيمة على الأشخاص أو على الجماعات أي الجناية التي لا تنتهي مغبتها بوقت وقوعها بل يكون لها آثار مؤجلة بعدها، إن لم تعالج تلك الآثار. وكذلك كانت جريمة أحد بني آدم فإنها جناية قد فتحت باب القتل والقتال إلى يوم القيامة، وهي جناية دلت على مكنون النفس البشرية الذي استتر فيها من غلبة الحق والحسد على بعض النفوس، حتى طغت على كل عناصر الخير فيها فهي جناية آجلها وخيم كحاضرها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :"لا تقتل نفس ظلما، إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه كان أول من سن القتل"٢.
و ( من ) هنا للسببية، أي سبب هذه الجناية كان ما شرعه الله تعالى من شريعة القصاص الخالدة الباقية لدفع الشر إلى يوم القيامة، وعبر عن السببية ب "من"، لبيان الابتداء في الحكم، فمع كون من أجل ذلك دالة على السببية وتشير إلى ابتداء الحكم، وأنه مقترن بما وقع من جريمة كان لها آجل هو شر إن لم تقمع النفوس وتردع الأهواء المتغلبة الطاغية.
وهنا معان بيانية تجب الإشارة إليها :
أولها : في الكلمة السامية "كتبنا"، فإنها تدل على تقرير العقاب، وتسجيله حتى لا يقبل المحو فإن الواجب الذي يكتب يكون مسجلا على القراطيس، ويبقى أثر الكتابة باقيا غير قابل للنسيان وفيها إضافة الفرضية والكتابة إلى الله تعالت قدرته، وجل جلاله، وتقدست ذاته وفي ذلك إشارة إلى عظمة المكتوب المفروض، وهو شريعة القصاص فهي شريعة عظيمة تمد المجتمع بحياة هادئة مطمئنة، إذ تحميه من أوضاره أن تتغلغل في كيانه ومن شراره من أن يتحكموا في خياره.
ثانيها : أن الله تعالى خص بني إسرائيل بالذكر مع أن القصاص شريعة عامة لم يخل منها دين من الأديان السماوية بل لم تخل منه شريعة وضعية على انحراف في تطبيقه، أو إهمال في العدالة فيه، والنفوس التي انحرفت عنه في الأيام الأخيرة قد غلب عليها هواها فغلبت عليها شقوتها، وعرضت الجماعات فيها لأعظم المخاطر من عدوان الأشرار. فلماذا خص الله تعالى بني إسرائيل بالذكر مع أنه مفروض قبلهم، ومفروض بعدهم، والجواب عن ذلك نتلمسه، ولا نجد نصا يدل عليه، ونقول في ذلك والله أعلم بمراده : إن التوراة فيما بقي منها هي الكتاب الذي اقترن هو والإنجيل بالقرآن زمنيا، فالقرآن جاء مهيمنا عليها، ومصدقا للصادق منهما فذكر بني إسرائيل دليل على أنه مفروض علينا بحكم الاقتران الزمني، وبحكم أن هذا المبدأ الخالد قرره القرآن، وجدده في مثل قوله تعالى :﴿ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص...( ٤٥ ) ﴾( المائدة ).
وفوق ذلك ما يزال هذا المبدأ باقيا في التوراة ولم يندثر فيها مع أنهم حرفوا ما حرفوا، والأنبياء الذين سبقوا يعقوب وليست كتبهم قائمة في أيدي الناس في عصر التنزيل كما بقيت التوراة مع تحريفهم فيها الكلم عن مواضعه وكانت شريعة القصاص باقية بعد هذا التحريف.
ثم إن بني إسرائيل قد كتبت عليهم شريعة القصاص كما كتبت على غيرهم من قبلهم ومن بعدهم ومع ذلك هم أشد الناس إسرافا في قتل الأبرياء والأطهار، وما أشبههم في قتلهم أنبياءهم ودعاة الحق بقابيل الذي قتل أخاه هابيل، فهو قتله لما ظهر فيه من خير، وهم قد قتلوا أنبيائهم، لأنهم دعوهم إلى الخير.
ثالثا : أن الله تعالى عندما بين شريعة القصاص قد ذكر الباعث عليها، وحكمتها وما يؤدي إليه تنفيذها واكتفى ببيان ذلك مكتفيا بما فصلته شرائع النبيين فيها وما أتت به من بينات، ولذلك قال تعالى :
﴿ أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ﴾ هذا هو ما كتبه الله تعالى وهو أن من قتل نفسا بغير حق شرعي مبيح لها، فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، وقد بين القرآن الكريم متى يكون القتل بغير حق مشيرا بإيجازه المعجز إلى القتل بحق، فبين أن القتل بغير حق هو ألا يكون في نظير نفس، فالقتل قصاصا لا يكون إلا بالحق ولكن بعد أن يقرر القضاء أنه يجب القصاص، أو يمكن ولي الدم من القصاص، وكذلك القتل لمنع الفساد في الأرض، كقتل الذين يعتدون على الجماعات المؤمنة ويرهقونهم في تدينهم، أو من يرتدون ليفسدوا عقائد المؤمنين أو الزنادقة الذين يفسدون العقائد أو أهل الدعارة والفساد من أهل الحرابة الذين يخرجون على الجماعات ويحاربون النظم التي قررها الشرع الشريف، وهكذا فإذا كان القتل لغير هذين الأمرين فهو قتل بغير حق، ومن فعل ذلك فكأنما قتل الناس جميعا.
ولقد تكلم العلماء في معنى هذا التشبيه وكيف يكون قتل الواحد بغير حق، مشابها لقتل الناس أجمعين قال بعض العلماء : إن المراد نفس الإمام العادل، وذلك لأن قتل الإمام العادل الاعتداء فيه ليس على شخصه وحده، ولكن على كل من يسعدون بحكمه ويظلهم عدله، فمن قتله فكأنه قتلهم، إذ يصير أمرهم بورا من بعده، وتضطرب أحوالهم وذلك قتل للجماعة، لأن تفريق الجماعة وحل رباطها هو موت لها، ومع سلامة ذلك التفكير فإن قصر القتل المفسد على قتل الإمام لا دليل عليه ولذلك كان الأولى التعميم بدل التخصيص والإطلاق بدل التقييد، إذ لا دليل من مخصص أو مقيد فالأولى هو تفسيرها بالعموم، ويبقى مع ذلك التشبيه سليما، لا شبهة فيه ووجه الشبه الذي جعل قتل النفس الواحدة كقتل الناس جميعا يكون من نواح :
الأولى أنه من قتل نفسا فقد استباح حق الحياة المصون المحترم الذي حماه الإسلام، ومن استباحه في نفس واحدة فقد استباحه في نفوس الناس جميعا، وقد أشار إلى هذا المعنى ابن كثير، فقال في تفسيره للقرآن العظيم : من قتل نفسا واحدة بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية فكأنما قتل الناس جميعا... وعن أبي هريرة قال :( دخلت على عثمان يوم الدار، فقلت : جئت لأنصرك، وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين، فقال : يا أبا هريرة، أيسرك أن تقتل الناس جميعا، وإياي معهم ؟ قلت : لا، قال : فإنك إن قتلت رجلا واحدا فكأنما قتلت الناس جميعا، فانصرف مأذونا لك مأجورا، غير مأزور، قال فانصرفت ولم أقاتل ). وروي عن سعيد بن جبير أنه قال : من استحل دم امرئ فكأنما استحل دم الناس جميعا، ومن حرم دم امرئ، فكأنما حرم دماء الناس جميعا.
الثانية : أن وزر من قتل نفسا واحدة كوزر من قتل ألفا.
الثالثة : أن عقاب قتل نفس كعقاب قتل الأنفس وهو في الدنيا بالقصاص العادل، وفي الآخرة بعذاب جهنم، كما قال تعالى :
﴿ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجاءه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ( ٩٣ ) ﴾( النساء ) وإذا كان قتل نفس واحدة كقتل الناس جميعا، فإحياؤها كإحياء الناس جميعا، ولذا قال سبحانه :﴿ ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ﴾. في هذا النص السامي نتكلم عن أمرين : أولهما معنى إحياء النفس، وثانيهما : معنى تشبيه من أحيا نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا. أما الجزء الأول وهو معنى الإحياء فقد ذكر العلماء له معاني كثيرة منها أن إحياءها بمعنى تحريم قتلها على نفسه والامتناع عن انتهاك حرماتها، ولكن ذلك أقرب إلى المعنى السلبي، اللهم إلا أنه يقال : إنه كب نفسه عن ذلك الفعل الأثيم عندما تساوره قوة الشر دافعة خاملة له، فإن الكف حينئذ ليس عملا سلبيا بل هو عمل إيجابي، ومنها أن معناها : من أنقذ إنسانا كان مشرفا على الهلاك في حرق أو غرق، أو مصاولة إنسان أو حيوان، فإن ذلك إحياء له، ولكن مع سلامة هذين المعنيين لا يمكن أن يكون تشبيه من يفعل ذلك سلبا أو إيجابا بإحياء الناس جميعا واضحا، لأنه إحياء لفرد، اللهم إلا أن يقال إن مجرد حماية حق الحياة أو احترامه في فرد هو احترام أو حماية له في الناس أجمعين.
ولقد قال بعض المفسرين : إن المراد بإحياء النفس حماية نفس الإمام ومعاونته على دفع شرور البغاة، والخارجين عليه، وإن ذلك سير على أن قتل النفس الذي يكون قتلا للجميع هو قتل الإمام وقد بينا أنه غير الأولى.
والحق الذي نراه أن المراد بإحياء النفس، هو بالتمكين من القصاص، لأن الله تعالى قال :﴿ ولكم في القصاص حياة...( ١٧٩ ) ﴾ ( البقرة ).
فإحياء النفس المقتولة بالقصاص لها ممن اعتدى وقتلها، وقد وجدنا الآلوسي ذكر ذلك الرأي فقال :
"وقيل المراد ومن أعان على استيفاء القصاص فكأنما... إلخ٣.
وبهذا يتبين بوضوح الأمر الثاني، وهو أن من أحيا نفسا قد قتلت بالتمكين من القصاص لها فقد أحيا نفوس الناس جميعا، بأن يوجد الردع العام عن القتل والاعتداء فتحيى النفوس وينقمع الأشرار وهذا ما أشار إليه ما تلونا من قوله تعالى :﴿ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب... ( ١٧٩ ) ﴾( البقرة ).
﴿ ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ﴾ يخبر الله سبحانه وتعالى أن الله تعالى أرسل الرسل لبني إسرائيل يبينون لهم الحقائق التي يقوم عليها بناء المجتمع السليم الذي تحم
.
٢ عن عبد الله(أي ابن مسعود)رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل". متفق عليه، رواه البخاري: أحاديث الأنبياء- خلق آدم صلوات الله عليه وذريته (٣٣٣٦) ومسلم: القسامة والمحاربين والديات والقتل- بيان إثم من سن القتل (١٦٧٧).
.
٣ قال الآلوسي (ج٦، ص١١٧): ﴿ومن أحياها﴾ أي تسبب لبقاء نفس واحدة موصوفة بعدم ما ذكر من القتل والفساد إما بنهي قاتلها عن قتلها. أو استنقاذها من سائر أسباب الهلكة بوجه من الوجوه ﴿فكأنما أحيا الناس جميعا﴾، وقيل: المراد ومن أعان على استيفاء القصاص فكأنما إلخ". ١هـ أي: فكأنما أحيا الناس جميعا..
يبين الله سبحانه وتعالى عقب اعتداء أحد ابني آدم على أخيه، أنه سبحانه وتعالى بسبب ما استكن في النفوس من نوازع الشر والخير، وأن بعض النفوس يغلب الشر عليها فتغلب عليها الشقوة وأنها لا بد لها من زاجر يزجرها، ورادع يردعها فتقرر القصاص الذي تكون فيه حياة الجماعة والأمن من شرور أهل الفساد الذين غلب عليهم الشر، وبين سبحانه أن من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، وأن من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، وأن صور الفساد الذي يبيح الدم صونا للجماعة، وحفظا للحياة الهادئة المطمئنة كثيرة، ولكن أبلغها في الفساد وأبعدها في الشر مدى هو الانتقاض على الجماعة بارتكاب جرائم القتل والعدوان، من غير تأويل والسرقة، والاتفاق الجنائي على ذلك ولذلك ابتدأ بهذا سبحانه فقال تعالى :﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ﴾
﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ﴾ هذا النص الكريم يبين جريمة كبيرة هي جماع لعدة جرائم، وهي جريمة الذين يحاربون النظام القائم ويخرجون جماعات ذات قوة وشكيمة ويرتكبون جرائم القتل والنهب والسرقة، لا في خفية بل في إعلان، معتصمين بقوة مانعة لهم، وقد اتفقوا جميعا على ارتكاب القتل والسرقة وتهديد الآمنين.
وجريمة هؤلاء أقوى من جريمة القتل المجرد، لأن جريمة القتل المجرد ليست في ذاتها تهديدا للأمن، وإن كان إهمال عقوبتها يؤدي إلى تهديد الأمن، أما هذه فإنها تهديد مباشر للأمن، فالأولى اعتداء ابتداء على الأفراد، أما هذه فهي اعتداء ابتداء على الجماعة لأنها تترصد السابلة في الطريق، فتقطع عليهم السبيل.
وقبل أن نخوض في بيان هذه الجرائم وكلام الفقهاء وأهل الخبرة في معناها ونذكر عقوبتها في ظل القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، نتكلم في معاني الألفاظ، ونتكلم على ثلاث عبارات :
أولها : في قوله تعالى :﴿ إنما جزاء الذين ﴾ فقد كان التعبير ب "إنما"، وهي من أوائل أدوات القصر والتخصيص وذكر هذه الكلمات في مقام بيان العقاب الذي سارع بيانه سبحانه هو لتأكيد العقاب، ولبيان أنه عقاب لا هوادة فيه، وأنه لا يحل محل ذلك العقاب غيره من دية أو مال، ولا يدخله عفو، لأنه حد من حدود الله تعالى، بل هو أعظم الحدود، لأنه جريمته أشد الجرائم خطرا، إذ هي مقوضة لبنيان الجماعة، وهادمة للأمن وكان معنى التخصيص واضحا إذ هي عقوبة ليس لها بديل من سواها أي لا جزاء للجريمة ولا كفاء لها إلا ذلك العقاب.
العبارة الثانية : هي قوله تعالى :﴿ يحاربون الله ورسوله ﴾ ومعناها : يحاربون شرع الله ورسوله بالانتقاض على أحكامه ومقاومة الحكام الذين يقومون على حفظ الأمن ويقاومون الجرائم ويكون المؤدى أن الله سبحانه وتعالى ليعتبر كل من يهدد أمن الجماعة، ويعتدي عليها بالقتل والسرقة والنهب ويمنع السابلة محاربا لله ولرسوله، لأنه يشيع الجرائم، ويناصب أحكام الشرع ومن يقومون على تنفيذه وأنهم يقومون بكل الجرائم مجتمعين متفقين فيكون لهم صولة تعطيهم وصف المحاربين، وكان التعبير بمحاربة الله ورسوله من نوع المجاز، لأن الذي يقوم بالسلب والنهب وقتل السابلة يؤدي عمله إلى نقض النظام والاطمئنان، فهو إن لم يقصد بفعله المحاربة هو يؤدي إليها، أو يقال إن ذات الفعل محاربة، فلا يكون مجازا لقول النبي صلى الله عليه وسلم :"من حارب مسلما على ماله فهو معاد لأولياء الله تعالى محارب لله".
والعبارة الثالثة ﴿ ويسعون في الأرض فسادا ﴾. السعي : هو الحركة السريعة المستمرة، وقوله تعالى :﴿ فسادا ﴾ هو من قبيل التميز، أي أن سعيهم لأجل الفساد لا لأجل الخير وفي ذلك الكلام إبهام بعده بيان، فيكون فيه تأكيد في البيان، فذكر السعي مبهما ثم بين بأنه من نوع الفساد لا من نوع الخير، وإن أولئك الذين يحاربون النظام وعقوبتهم التي ذكرها الله سبحانه وتعالى بقوله تعالت كلماته :﴿ أن يقتلوا أو يصلبوا ﴾. إلى آخر الآية الكريمة هم الذين يعبر عنهم في الفقه بقطاع الطرق، ويسمى فعلهم قطع الطريق ويسمى الحرابة، ويعنون له بذلك في الفقه الإسلامي والعقوبة المذكورة في النص الكريم خاصة بهم.
وقد التبس على بعض من لا دراية له بأحكام العقوبات في الفقه الإسلامي هؤلاء بالبغاة والتبس على بعض آخر أمر هؤلاء بأمر الخوارج، والواقع أن الذين ينقضون النظام أقسام ثلاثة متمايزة متغايرة، فالبغاة : هم الخارجون ذوو القوة والمنعة الذين يخرجون على الإمام العادل بتأويل، أي بوجه مسوغ لهم الخروج، كأولئك البغاة الذين خرجوا على الإمام علي كرم الله وجهه، والذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لعمار بن ياسر رضي الله عنه :"تقتلك الفئة الباغية"١ وهذه تقاتل حتى تسلم، كما قال تعالى :﴿... فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ( ٩ ) ﴾ ( الحجرات ).
وهؤلاء البغاة لا يستبيحون من الأموال والدماء إلا معسكر السلطان، إذ هم لا يحاربون غيره ويحسبون أنهم يحسنون صنعا.
والخوارج : هم الذين خرجوا على الإمام العادل بتأويل ولكنهم، لا يستبيحون معسكر السلطان فقط، بل يعتبرون مخالفيهم في الرأي كافرين بل يعتبرونهم مشركين، وهؤلاء يعاملون معاملة البغاة، يقاتلون حتى يفيئوا فإذا كانت الفيئة فالإصلاح والقسط، ورد القضب إلى أجفانها.
وقطاع الطريق، أو أهل الحرابة : وهؤلاء مجرمون يخرجون لارتكاب جرائم السلب والنهب والقتل، وسائر الموبقات بلا تأويل يتأولونه، ولا تفسير يفسرون بل يرتكبون ما يرتكبون إثما وعدوانا مقصودا ولا يقصدون إلا العدوان، كالعصابات الإجرامية التي نراها معتصمة في بعض الجبال أو الكهوف وكالعصابات التي تزعج الآمنين بقوة إرهابية.
فهي إذن أقسام متمايزة متغايرة، وما لأحد من بعد أن يخلط، فيجعل حكم واحدة لأخرى، ولا وصف واحدة لأخرى.
إن النص الكريم ينطبق كل الانطباق على الذين يخرجون بقوة، ويقطعون على السابلة الطريق وتكون لديهم القدرة على المنع، ولا يكون للمعتدى عليه من يحميه من خطرهم ما داموا قد تعرضوا في طريقه، فهم حينئذ يعدون قطاع طريق، ويعد عملهم حرابة ولكن اختلف الفقهاء من بعد ذلك في أمور أربعة من حيث انطباق النص القرآني... هذه الأمور الأربعة، هي : الأول المكان الذي يعدون باتخاذه مقاما لهم قطاع طريق، والثاني في طريقة إجرامهم، والثالث في عددهم وقوتهم، والرابع في الجرائم التي اتفقوا على ارتكابها أو اعتزموا ارتكابها أهي القتل والسلب فقط أم تشمل كل المعاصي كالزنا وشرب الخمر وتناول ما يشبهها وغير ذلك.
أولا : المكان الذي يتخذه قطاع الطريق فإنه يجب أن يكون في داخل الدولة الإسلامية لأنهم من رعاياها، ولأن قطع الطريق على جماعة المسلمين من غير المسلمين هو الحرب الحقيقية وليس هو الحرابة التي تتلاقى معها في الاشتقاق، وتختلف عنها في حقيقتها فإن الحرب قد اختصت بمدافعة الأعداء من خارجها، أما هذه فقد اختصت بمحاربة الفساد في داخلها، والحرابة بهذا المعنى : الخروج على المارة لأخذ المال على سبيل المغالبة ولو بالقتل على وجه يمنع المرور ويقطع الطريق سواء أكان القطع بسلاح أم بغيره مثل العصا والحجر والخشب ونحوها، لأن قطع الطريق يكون بكل ذلك.
واختلف الفقهاء في المكان الذي يتحقق به هذا أيمكن أن يكون في داخل المدينة أو القرية أم لا يتصور إلا في خارج الأمصار كالصحاري والجبال، والبراري من المزارع الشاسعة لقد قال أبو حنيفة : إن قطع الطريق لا يتصور في داخل المصر، إذ يمكن الإغاثة عند الاستغاثة ويد السلطان مبسوطة في داخل الأمصار والقرى.
ومالك والظاهرية لا يشترطون لقطع الطريق مكانا معينا، فحيث تتحقق إخافة المارة فهي حرابة لا فرق بين أن يكون ذلك في الفيافي والقفار، أو في القرى والأمصار، فحيث لا يأمن السابلة الطريق، ولا يجدون من يسعفهم بدفع الشر عنهم فإن الحرابة تتحقق.
وهناك رأي ثالث، وهو أن الأمصار والقرى تصلح مكانا لقطاع الطريق ليلا، ولا يصلح نهارا إلا الصحاري والحق الذي نراه متفقا مع مرمى النص الكريم وغايته أنه حيث تحقق الوصف وهو محاربة الله ورسوله بمحاربة الآمنين وحيث كانت القوة وحيث كان سلطان الشر، فإن الحرابة تتحقق وأننا نراها عيانا بيانا في مدن أمريكا وأوربا فالعصابات المخربة التي تحارب الأمن هنالك، وتغير على الآمنين تتخذ أوكارها في وسط الأمصار، وإن خفيت عن الأنظار.
وننتقل بعد ذلك إلى الأمر الثاني : وهو عددهم ونوعهم، وإنا نقول : إن الذي عليه كثرة الفقهاء أن العبرة في الأمر هو في قوة الإخافة لا في مقدار عدد المنفذين، ولا في نوعهم أهم ذكور أم إناث، فلو أن واحدا استقر في كهف، ومعه سلاح مدمر وكل من يمر من الضعفاء، أو من لا حول لهم ولا سلاح استلب ماله أو نفسه فإنه يعد قاطع طريق، ولو أن جمعا فيهم ذكور وإناث تعاونوا على الإثم والعدوان وقطعوا الطريق على الآمنين وقاموا بالاستلاب غير مراعين حرمة مال ولا عصمة دم، فإنهم قطاع طريق محاربون.
ثالثا : طريقة الإجرام أتكون بالمجاهرة والعصيان أم تكون ولو بالاختفاء، قال جمهور الفقهاء : إنه لا بد من المجاهرة بالعصيان، والظهور علنا حتى يتحقق معنى الحرابة وحتى يتحقق معنى التسليم وقال مالك : إنه تصح المحاربة بالاختفاء كالاتفاق على القتل غيلة، والاستيلاء على الأموال بالهجوم على مكامنها خفية كالعصابات التي نسمع عنها ويراها شبابنا على شاشة الخيالة ( السينما )، والإذاعة المرئية ( التليفزيون )، وقد حرر القرطبي في تفسيره رأي الإمام مالك، فقال :"والذي نختاره أن الحرابة عامة في المصر والقفر، وإن كان بعضها أفحش من بعض، ولكن اسم الحرابة يتناولها ومعناها موجود فيها، ولو خرج بعصا في المصر يقتل بالسيف، ويؤخذ فيه بأشد ذلك، لا بأيسره، فإنه سلب غيلة، وقتل الغيلة أقبح من قتل المجاهرة، ولذلك دخل العفو في فعل المجاهرة، ولم يدخل في قتل الغيلة".
وإن الذي نميل إليه هو مذهب مالك بلا ريب، لأن معنى المحاربة وهو إزعاج الآمنين ثابت في الاختفاء بل هو أمكن كما هو ثابت في المجاهرة بل أشد وأحكم.
رابعا : بالنسبة لجرائم المحاربة أهي مقصورة على الاعتداء على الأموال والأنفس ؟ قال جمهور الفقهاء ذلك، وقال مالك رضي الله عنه، كل اتفاق على ارتكاب المعاصي يعد من قبيل الحرابة، فالاتفاق على الزنا أو فتح بيوت له يعد من الحرابة، ويستحق عقابها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقبل أن نترك الكلام في الجريمة لابد من الإشارة إلى أمرين : أولهما : أنه لا بد في اعتبار هذا الفعل جريمة أن يكون القائمون به مكلفين تكليفا شرعيا بأن يكونوا بالغين عقلاء، لأن الفعل لا يوصف بأنه جريمة أو معصية إلا إذا كان الفاعل مكلفا تكليفا شرعيا فإذا قام بالعمل صغار لا يعدون قطاع الطريق، وإذا كانوا مميزين، فإنهم يؤدبون أو يعزرون على أن يكون تعزيزهم تأديبا، ولا يكون عقابا على ما هو مقرر في باب التعزير، وإذا كانوا مجانين، فإنهم يحجزون في المصاح أو نحوهما، ولا يعزرون لأن عقابهم يكون تعذيبا، إذ لا تبعة يتحملونها، ولا يصلحون للتأديب لفقد عقولهم.
ثانيهما : أيعدون محاربين، ولو لم يرتكبوا جريمة من جرائم قطع الطريق، فلم يسرقوا ولم يقتلوا ولكن اتخذوا مكانا قصيا لكي يرتكبوا الجرائم متفقين على الفعل وقصدوا الفعل ولم يفعلوا إما لأنهم لما يبدأوا، وإما لأن الأحوال لم تواتهم.
وبذلك يكون مجرد الاتفاق والأهبة للتنفيذ يعد جريمة في ذاته ؟ الظاهر من أقوال الفقهاء ذلك، وسيتبين وبذلك يكون الاتفاق الجنائي في الشريعة له مكانه من العقاب.
والآن نتصدى لبيان العقاب الذي ذكره الله سبحانه وتعالى، فقد قال سبحانه :
{ أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأ
.
يبين الله سبحانه وتعالى عقب اعتداء أحد ابني آدم على أخيه، أنه سبحانه وتعالى بسبب ما استكن في النفوس من نوازع الشر والخير، وأن بعض النفوس يغلب الشر عليها فتغلب عليها الشقوة وأنها لا بد لها من زاجر يزجرها، ورادع يردعها فتقرر القصاص الذي تكون فيه حياة الجماعة والأمن من شرور أهل الفساد الذين غلب عليهم الشر، وبين سبحانه أن من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، وأن من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، وأن صور الفساد الذي يبيح الدم صونا للجماعة، وحفظا للحياة الهادئة المطمئنة كثيرة، ولكن أبلغها في الفساد وأبعدها في الشر مدى هو الانتقاض على الجماعة بارتكاب جرائم القتل والعدوان، من غير تأويل والسرقة، والاتفاق الجنائي على ذلك ولذلك ابتدأ بهذا سبحانه فقال تعالى :﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ﴾
أي أن العقاب لمن استمروا في جريمتهم حتى غلبوا واستمكن الحاكم من جمعهم، وصاروا في قبضة يده، ولكن من تاب قبل ذلك فإن العفو يشملهم والرحمة تعمهم من الله الغفور الرحيم.
انتهينا من الكلام في عقوبات الذين نصبوا أنفسهم لمحاربة الأمن في الدولة والخروج على النظام من غير تأويل يتأولونه، ولا غاية دينية يحققونها، بل خرجوا قاصدين الإجرام لأجل الإجرام، ومحاربة الآمنين وإزعاجهم وبينا من الذين ينطبق عليهم وصف الحرابة، واختلاف الفقهاء في ظل معاني الآية الكريمة، وفسرنا الآيتين تفسيرا لفظيا، ولكن لم نتكلم في معنى التخيير في قوله تعالى :﴿ أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ﴾، ولم نتكلم في حقيقة التوبة ومعناها في هذه الآية الكريمة، كما لم نتكلم عن آثارها، وعن نوع العقوبة أهي حد من حدود، أم هي قصاص، وما أثر ذلك بالنسبة للتوبة وفي الحكم، ولا يتم جلاء ما اشتملت عليه الآيتان الكريمتان من أحكام إلا بالتعرض لهذه الأمور في إيجاز من غير إطناب.
ونبتدئ بالتخيير الذي دلت عليه "أو" في النص الكريم، أيقصد به التنويع بتنويع العقوبة على حسب الجرائم، فإذا قتلوا قتلوا، وإذا سرقوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا سرقوا وقتلوا قتلوا وصلبوا، وإذا تجمعوا واتفقوا على ارتكاب الجرائم من غير أن يرتكبوا بالفعل كان النفي من الأرض، أم تقصد حقيقة التخيير بأن يكون الإمام مخيرا غير مقيد بنوع في حال، وبنوع آخر في حال أخرى يرتكبون فيها جريمة معينة، بل ترك الأمر لتقديره، وهو ينظر إلى مقدار الترويع بما يتناسب مع قوة الجناة من غير نظر إلى نوع ما ارتكبوا من جرائم، ولا إلى مقداره إنما ينظر إلى مقدار الزجر والردع.
ولقد قال بالقول الأول، وهو أن "أو" لتنويع العقوبات بتنوع الجرائم بعض الصحابة والتابعين وجمهور الفقهاء، وقال بالقول الثاني بعض التابعين ومالك والظاهرية.
لقد روي عن ابن عباس أنه قال :( إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا نفوا من الأرض، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا نفوا من الأرض ) وبهذا القول أخذ الشافعي وأحمد وأبو حنيفة، وبذلك تكون العقوبات أربعة أقسام، مقسمة على أقسام الارتكاب، والحجة لهذا الرأي الآثار المروية عن الصحابة، والفقه في الموضوع أن هذه العقوبات لجرائم مختلفة المراتب، فيجب أن تكون تابعة لقوة الجريمة، وليس من المعقول أن جريمة الاتفاق والإرهاب تتساوى مع الإرهاب والقتل بالفعل، أو الإرهاب والقتل والسلب أو الإرهاب والسلب بالفعل، فالعدالة توجب ذلك التنويع وعلى ذلك يكون التخيير المأخوذ من كلمة "أو" هو لتنويع العقاب وليس لمطلق التخيير، وإلا كان مؤدى التخير أنه يجوز للإمام أن يكتفي بنفي الجناة إذا قتلوا أو سرقوا، وأن ذلك باطل بالإجماع، لأن السرقة توجب القطع، فكيف بالسرقة الكبرى التي يكون فيها ذلك التجمع الآثم، وإذا كان التخيير لا يمكن أن يفسر بالتخيير المطلق لهذا المعنى، فإنه يجب أن يفسر بالتنويع، لأن تفسيره بغيره يؤدي إلى ذلك الوجه الباطل، وما يؤدي إلى الباطل باطل، وإن التخيير المطلق في العقوبات إذا كان السبب الموجب للعقاب واحدا، ككفارة اليمين، فإن السبب هو الحنث وهو واحد، وكان التخيير في الكفارة بين العتق وإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، أما إذا اختلف السبب فإنه لا بد أن يكون التخيير للتنويع والعقوبات هنا قد اختلفت أسبابها، فإن منها القتل، ومنها السرقة ومنها الجمع بينها، ومنها مجرد الإرهاب والإزعاج، ولا يمكن أن تكون العقوبة واحدة لكل من هذه الجرائم، فلا بد من أن تختلف باختلاف أسبابها، وتكون لذلك "أو" لترتيب العقوبات تبعا للجرائم، ويذكر الكاساني أنه روي خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا، قد قالوا : أنه لما قطع أبو بريدة الأسلمي بأصحابه الطريق على أناس جاءوا يريدون الإسلام فقد قال : صلى الله عليه وسلم :"إن من قتل قتل، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، ومن قتل وأخذ المال صلب، ومن جاء مسلما هدم الإسلام ما كان قبله من الشرك"١، ويكون هذا النص النبوي معينا أن "أو" ليست لمجرد التخيير ولكن للتنويع، وقد وردت الصيغة التي تدل بظاهرها على التخيير، فقد قال تعالى :﴿... قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ( ٨٦ ) ﴾( الكهف ).
ولا شك أن اللفظ، وإن كان ظاهره تخيير ذي القرنين بين أي الأمرين يختار ولكن لا يمكن أن يكون له الحق في أي الأمرين من غير مرجح لأحدهما في اعتبار، ومنطق العدل الذي أوجبه الله على ذي القرنين والحكام العادلين أن يعذب من أبى وفسق عن أمر ربه ليرتدع غيره وينزجر، وأن يتخذ الأمر الحسن والرفق مع من استقام أو ترجى استقامته.
وعلى ذلك لا تكون "أو" ممحضة للتخيير، ولكنها تحتمل التخيير والتنويع، وقد ورد النص النبوي والآثار الصحاح عن الصحابة الذين تلقوا علم النبوة عن الرسول صلى الله عليه وسلم بما يفيد أنها للتنويع في العقوبات تبعا لقوة ما ارتكبوا لا لمجرد التخيير للإمام٢.
وهذا هو الرأي الأول الذي يقوم على أن التخيير هنا ليس مطلقا، ولكنه منوع تبعا لقوة الجريمة، أما الرأي الثاني فهو يقرر أن "أو" للتخيير المطلق، وأن الإمام له الحق في اختيار أي عقوبة من هذه العقوبات، فإما أن يقتلهم لمجرد إزعاجهم للآمنين، ليجتث من أول الأمر شأفتهم، كما أن له أن يقتل السارقين، وأن يصلبهم ولو لم يقتلوا والتخيير هنا فيه إجازة مطلقة لولي الأمر ليعالج الجريمة، بما يراه أقرب إلى المصلحة وإقامة الأمن على أسس سليمة.
ووجهة ذلك الرأي أن "أو" الأصل فيها أنها للتخيير، ولا يعدل عن الأصل إلا لما يوجب العدول، ولم يوجد ما يوجب العدول، وما ورد منسوبا للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن أقوال الصحابة فهو علاج لأحوال وقعت والتخيير لا يمنع ولي الأمر من أن يختار التنويع، فإن اختاره فهو من حقه، ويدخل في باب الإذن المطلق بالتخيير، فإذا اختار أن يقتل من قتل ويصلب من قتل وصلب ويقطع فقط من سرق فهو من حقه، وليس عمل النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا القبيل إن صح ما نسب إليه٣، وهذا التنويع ليس ملزما بأصل النص، ولكن قد تلزم به المصلحة، إن رأى أن ذلك هو طريق الردع.
وإنه على هذا الرأي جمع من التابعين منهم عطاء وسعيد بن المسيب ومجاهد والحسن البصري والنخعي وأبو الزناد، وهو مذهب الإمام مالك والظاهرية كما قلنا.
وإن الفقه في التفرقة بين الرأيين أن الرأي الأول يحد جرائم معينة ويعتبرها موضوع قطع بفعلها أو بالشروع فيها، وهي القتل والسرقة، وأن الجرائم لا تخلو عن ذلك ولذلك كانت العقوبات مترددة بين القطع والقتل، وأنه قد يكون ثمة تغليظ إذا ارتكبت الجريمتان معا، وإن كان الشروع بالتجمع واتخاذ الأسباب، فإن العقوبة تكون بمنع الجريمة من الوقوع باتخاذ أسباب الوقاية بالنفي من الأرض بالتغريب أو زجه في غيابات السجون، ولذلك كان التنويع وكان تخريج "أو" على ذلك الأساس ليكون التكافؤ بين الجريمة والعقوبة، وإن لم تكن جريمة كانت الوقاية.
أما الرأي الثاني فهو يتجه إلى أن عقوبة الحرابة لذات الحرابة والسعي في الأرض بالفساد، ومنع الناس من السير والاستمتاع بأموالهم، وحرياتهم الشخصية وظاهر هذا الرأي أنه لا ينظر إلا إلى ذات الحرابة التي هي التخويف والإرهاب، ولا ينظر إلى الجرائم التي ارتكبوها فعلا، ولذلك يعمم الجرائم ولا يقصرها على القتل والسرقة كالرأي الأول، ويرى أن العقوبات في جملتها هي لعلاج ذلك الشر، وحسم مادته والقضاء على التفكير لمن يهم بمحاكاة من وقعوا فيه، ولذلك يجب إطلاق يد ولي الأمر، واعتبار تلك العقوبات في يده كالدواء بين يدي الطبيب يختار من أصنافه ما يراه أنجع في علاج الآفة التي أصابت الجسم الاجتماعي.
وإنا نرى الرأي الأول بالنسبة لتنويع العقاب، ونرى الرأي الثاني بالنسبة لتعميم الجرائم التي تفسد المجتمع الإسلامي، فإذا كانت عصابة تعمل لجمع الرجال على النساء، وتخطف النساء لذلك الغرض، أو كانت عصابة لتجميع المواد، المخدرة المحرم دينا وقانونا تناولها فإنهم يكونون كقطاع الطريق، ويدخلون في باب الحرابة.
ونتكلم من بعد ذلك عن عقوبة الحرابة، أهي من قبيل الحدود أم من قبيل القصاص ؟ لقد نص الفقهاء بالإجماع على أنها من قبيل الحدود، فهي حد من حدود الله تعالى وليست قصاصا، ولذلك يصح العفو عنهم، وأنهم لا بد مأخوذون من تلك العقوبات التي قررها القرآن الكريم، فإن إقامة الحدود من العبادات بالنسبة لولي الأمر، ولا يصح أن يتخلى عن العبادة بأي صورة من الصور، ولأنهم قد وصفهم الله تعالى بأنهم يحاربون الله ورسوله، ووصفهم سبحانه بأنهم يسعون في الأرض فسادا، وهم بذلك يعتدون أبلغ اعتداء على الجماعة المؤمنة وكل ما يكون اعتداء على الجماعة يكون اعتداء على حق الله تعالى، والحدود عقوبات لأجل حق الله تعالى، ولأن هذه العقوبات حد تجب إقامته على ولي الأمر كان قابلا للتوبة، ولذلك قرر الله تعالى فيه قبول التوبة، فقال تعالت كلماته :﴿ إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ﴾.
وقد تكلمنا في معنى هذه الآية الكريمة، وبقي أن نتكلم في أمرين : أحدهما كيف تكون التوبة قبل القدرة عليهم، وثانيهما عن آثار هذه التوبة.
أما عن الأمر الأول وهو حقيقة التوبة في هذا المقام فنقول إن التوبة العامة تقتضي ثلاثة أمور : اثنان منها نفسيان، والآخر مادي، والنفسيان أن يعترف بالذنب ويندم عليه، وأن يعتزم ألا يعود إليه من بعد توبته. وأما الأمر المادي فهو الإقلاع عنه بالفعل.
وبتطبيق هذا على توبة قطاع الطريق لا يتعرض الفقهاء للناحية النفسية بل إن ذلك أمره إلى الله تعالى، ولكن يتجهون إلى الأمر المادي الذي يدل ظاهره على المعنى الباطني، وإن هذا الأمر المادي يتحقق بأمرين، أو بأحدهما أولهما بأن يؤمن الناس قطاع الطريق، ويتركوا المكان الذي يباشرون فيه جريمتهم، وثانيهما أن يقدموا الطاعة لولي الأمر، وهنا يجيء نظر الفقهاء أيكتفون بالأمر الثاني وهو تقديم الطاعة أم لا بد من الأمرين معا ؟ اختلف الفقهاء في ذلك ففريق قال : تحقق أحد الأمرين كاف، وهو تقديم الطاعة أو ترك السلاح ومغادرة المكان إنما لا بد من إفادة دالة على إنهاء قطع الطريق. وفريق قال : لا بد من إلقاء السلاح وتأمين الناس وتقديم الطاعة.
ومهما يكن من أمر الاختلاف فقد كان الاتفاق على أنه لابد من إنهاء قطع الطريق بالفعل، وتأمين الناس وإلقاء السلاح.
وأما الأمر الثاني المتضمن لآثار التوبة فقد فرض الفقهاء حالين للتوبة قبل القدرة عليهم :
إحداهما- أن تكون التوبة قبل أن يرتكبوا أي جريمة غير مجرد الحرابة، فلم يقتلوا ولم يسرقوا ولم يزنوا، بل أنابوا إلى الحق قبل أن تسلط عليهم سيوفه. وهؤلاء لا عقوبة عليهم لأن الحرابة قد عدلوا عنها، وهم في فسحة غير مضطرين إذا كانت قبل القدرة عليهم، ولم يتعلق بهم حق لآدمي وحق الله تعالى موضع عفوه
٢ انظر السابق..
٣ عن أنس بن مالك قال: قدم أناس من عكل أو عرينة فاجتووا (أي أصابهم داء البطن) المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، واستاقوا النعم، فجاء الخبر في أول النهار فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم، فأمر فقطع أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون. قال أبو قلابة (الراوي عن أنس) فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله. (رواه البخاري في ثلاثة عشر موضعا أولها: الوضوء- أبوال الإبل (٢٣٣)، ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص (١٦٧١)) كما رواه أصحاب السنن وغيرهم وله طرق..
في الآيات السابقات بين سبحانه ما أوغر به الحسد أحد ابني آدم، حتى قتل أخاه، إذ قربا قربانا فقبل من أحدهما فحسده أخوه، فقتله بعد أن كانت منازعة نفسية انتهت بأن طوعت نفسه له قتل أخيه فقتله، وبهذا صور القرآن أصل الجرائم البشرية والبواعث عليها، وهو الحسد الذي يربي الضغن في النفوس وحب الاستعلاء بأي طريق الذي يسهل الظلم للقريب والبعيد من غير أي حريجة مانعة، ومن غير نفس لوامة وازعة، ولقد أشار من بعد ذلك إلى جرائم الآحاد، وجرائم الجماعات، وبين أنه إذا لم يكن وازع النفوس كافيا، فلا بد من ردع بعقوبات زاجرة فيها إيلام للآثمين، ونكال يجعل غيرهم يفكر فيما يترقبه من عقاب إن حدثته نفسه بالآثام، فإنه لم يكن له من نفسه واعظ، كان له من العقاب أعظم رادع.
ثم بين سبحانه الطريق لمحاربة الآثام في النفس قبل أن يظهر الشر ويطفح على الألسنة والجوارح، فقال سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة ﴾
﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة ﴾النداء موجه للمؤمنين بوصف أنهم مؤمنون، لأن مقتضى الإيمان أن يربوا أنفسهم على الخير، وينزعوا منها نوازع الشر، وقد ذكر سبحانه وتعالى الطريق لتربية النفس وتغليب جانب الخير فيها على جانب الشر، وجانب الصلاح على جانب الفساد، وتلك الطريق المثلى مكونة من نقط ثلاث يتكون منها الخط المستقيم الموصل للغاية الفضلى، وهذه النقط الثلاث هي التقوى وابتغاء الوسيلة، والجهاد في سبيله والغاية الحسنى هي الفلاح في الدنيا والآخرة، ولنشر بكلمة موجزة إلى معاني التربية في كل نقطة من هذه النقط.
﴿ اتقوا الله ﴾أي : اجعلوا بينكم وبين غضب الله تعالى وقاية، بحيث تكون نفوسكم في حصن لا يدخل إليها الشر وهي فيه، وهذا الحصن هو التقوى التي تملأ القلب بذكر الله تعالى فلا تحس النفس إلا به سبحانه مسيطرا على كل ما في هذا الوجود، وتحس به رقيبا لا تخفى عليه خافية من خلجاتها، يعلم ما يخفي كل إنسان وما يعلن، وما يسر به وما يجهر، فيتجه إليه سبحانه وتعالى كأنه يرى ربه في كل عمل يعمله، فإن لم يكن يراه سبحانه فإنه يراه، كما قال النبي صلى الله عليه ونسلم :"اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"١.
ولا شك أن النفس إذا امتلأت بالتقوى ذلك الامتلاء، جانبها الهوى والحقد والحسد، وحب الاستعلاء الباطل، وصار صاحبها ممن ينطبق عليهم قول الله تعالى في أوصاف أهل الإيمان :﴿... لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا...( ٨٣ ) ﴾( القصص ).
﴿ وابتغوا إليه الوسيلة ﴾هذه هي النقطة الثانية من الخط المستقيم الذي لا عوج فيه، فالنقطة الأولى ملء القلب بذكر الله تعالى وخشيته وجعلها دائما في إحساس برقابته، وإنه يترتب على إدراك هذا الجزء من الخط المستقيم الوصول إلى النقطة الثانية، وهي طلب ما يتوسل به إليه لنيل رضاه وإدراك حق طاعته، فالوسيلة : هي ما يتوسل بها إلى رضا الله تعالى، وهي طاعته راغبا فيها محبا لها، قاصدا إليها، وزكى لذلك طلبها بقوله تعالى :﴿ وابتغوا ﴾أي اطلبوا رضاه وطاعته سبحانه طلب من يحبه ويبغيه لثواب، وتلك أعلى الدرجات ومن دون ذلك له فضل كبير ما دام قد طلب رضا الله تعالى.
فالوسيلة على هذا هي الطاعة برغبة، ولقد قال في ذلك الأصفهاني :
"الوسيلة التوصل إلى الشيء برغبة لتضمنها لمعنى الرغبة قال تعالى :﴿ وابتغوا إليه الوسيلة ﴾وحقيقة الوسيلة إلى الله تعالى مراعاة سبيله بالعلم والعبادة، وتحري مكارم الشريعة، وهي كالقربة والواسل : الراغب إلى الله، وعلى هذا التفسير اللغوي القرآني يكون معنى الوسيلة : الطاعة والتقرب إلى الله تعالى وطلب مرضاته. وقد جاءت بهذا المعنى في آية أخرى هي قوله تعالى :﴿ أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة...( ٥٧ ) ﴾( الإسراء )، وعلى ذلك تكون النقطة الثانية من صراط الحق وخط الإيمان المستقيم هي الطاعة وطلب رضا الله تعالى وحده.
وهنا مسألة لفظية نشير إليها، وهي تقديم الجار والمجرور في قوله جل جلاله :﴿ وابتغوا إليه الوسيلة ﴾
وإن التقديم هنا للقصر، والتخصيص، والمعنى اطلبوا برغبة وشدة إلى الله وحده الوسيلة إليه والتقرب، فلا تطيعوا سواه إلا في ظل طاعته، ولا تتقربوا إلى غيره إلا في ظل طلب رضاه، فإنه لا تقرب لسواه، ولا محبة إلا لأجله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :"حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله"٢ فالحب لله والبغض لله هما أقوى دعائم الإيمان، وأن المؤمن يتوسل إلى الله تعالى بالقربات التي شرعها، حتى يكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويمتلئ قلبه ونفسه بنوره فيكون ربانيا.
وأنه قد جاء في العبارات الإسلامية معنى للوسيلة على أنها درجة من أعلى الدرجات في الجنة بل أعلاها وهذا المعنى متلاق مع أصل المعنى وهو التقرب إلى الله والتوسل إليه وحده بالطاعات، ولقد كان من الدعاء الذي يردد في الآذان ما رواه البخاري : فقد روى عن جابر بن عبد الله أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت شفاعتي له يوم القيامة"٣. وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :"إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله تعالى عليه عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الوسيلة حلت له الشفاعة"٤.
و ﴿ جاهدوا في سبيله ﴾هذه هي النقطة الثالثة من الخط المستقيم، وهو الصراط القويم وهو الجهاد في سبيل الله تعالى، وسبيل الله هو الطريق المستقيم الذي ينتهي إلى الغاية العليا من شرائع النبوة، وهو السبيل الذي يكون فيه صلاح الإنسان ودفع الفساد في هذه الأرض، وإقامة مجتمع فاضل بين العالمين يسعى في ظله التقي البر، ويستمتع فيه الفاجر من غير عدوان ولا فساد، والجهاد معناه : بذل أقصى الجهد في تحقيق تلك الغاية الإنسانية العليا وهي الإصلاح في الأرض، ودفع الفساد عنها وإقامة الحق، وخفض الباطل، وسيادة الفضيلة ودفع الرذيلة.
والجهاد ذو شعب، الأولى جهاد النفس ومغالبة الأهواء والشهوات، ومقاومة نزاعات الشيطان ومراقبة النفس وسماه النبي صلى الله عليه وسلم الجهاد الأكبر، والشعبة الثانية من شعب الجهاد، العمل على تكوين رأي عام فاضل يحث على الخير، ويقاوم الشر، ويمنع الظلم ويقيم العدل ويحمل الظالمين على الجادة المستقيمة ويصح أن يسمى ذلك جهادا داخليا، لأنه حماية للأمة من الآفات الاجتماعية ووقاية لها من الشر الذي يقع فيها، فهو جهاد لحماية المجتمع من آحاده كما أن الشعبة الأولى حماية للفرد من آفات نفسه.
والشعبة الثالثة من شعب الجهاد العمل على حماية المجتمع من الظلم الخارجي، ونشر لواء المحبة والمودة بين الشعوب وجعل العدل يسود العلاقات الدولية ومدافعة الظالمين وذلك النوع من الجهاد ذو ثلاث شعب، أولاها- نصر الحق بين العالم بالدعوة إليه باللسان والقلم ومقاومة الشر من أن يستشرى بالدعاية للحق والعدل ودفع الظلم والثانية- مد الضعفاء بأسباب الحياة ومعاونتهم، والثالثة- مقاومة الظلم بالحرب العادلة دفعا للظالمين، كما قال تعالى :﴿... ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ( ٢٥١ ) ﴾ ( البقرة ).
ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"جاهدوا المشركين بأنفسكم وألسنتكم وأموالكم"٥.
وإن نقطة الجهاد هي آخر الخط المستقيم، وهي نهايته، وفيها غايته وهي تحقيق مجتمع فاضل، والثمرة المرجوة من هذا هو الفوز والفلاح ولذا قال سبحانه :﴿ لعلكم تفلحون ﴾.
إن تلك هي الثمرة المرجوة لهذه النقط الثلاث التي تكون ذلك الخط المستقيم المنير، وهو سبيل الله تعالى سبيل الفوز والنجاح وأطلق، فلم يقيد بفلاح الدنيا، ولا بفلاح الآخرة ولذلك كان شاملا، فإن الإنسانية إذا تهذبت نفوس الآحاد فيها، فاتخذت وقاية تمنعها من سخط الله تعالى، وإذا اتجهت إلى طلب رضاه والعمل في طاعته سبحانه، وصارت لا تعمل إلا لله تعالى وابتغاء مرضاته، وجاهدت لإعلاء كلمة الحق في شتى نواحيه، وترابطت برباط المودة والمحبة، والعدل والفضيلة- إذا كانت الإنسانية كذلك علا ابن الأرض في هذه الأرض، وعم الصلاح واندفع الفساد، وتحققت خلافة الإنسان فيها.
والرجاء في قوله تعالى :﴿ لعلكم تفلحون ﴾من الناس لا من الله، أي أن المؤمنين إذا اتقوا الله وطلبوا مرضاته وجاهدوا في سبيله، كانت حالهم حال من يرجو الفوز، بل إن عليهم أن يرجوه، لأنهم ساروا في طريقه، وأنه يتميز رجاء المؤمنين حينئذ عن خيبة الكافرين الذين لم يسيروا في ذلك الخط المستقيم، ولذا ذكر سبحانه حالهم في مقابل حال المؤمنين، فقال سبحانه :﴿ إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ﴾.
.
٢ سبق تخريج ما في معناه من حديث..
٣ رواه البخاري: الآذان- الدعاء عند النداء(٦١٤)، وبلفظ: "إلا حلت": الآذان- الدعاء عند الآذان(٦٨٠)عن جابر رضي الله عنه.
.
٤ رواه مسلم: الصلاة- استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه(٣٨٤)، والترمذي المناقب- في فضل النبي صلى الله عليه وسلم(٣٦١٤)، والنسائي: الآذان-الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم(٦٧٨ ) وأبو داود: الصلاة-إذا سمع ما يقول المؤذن(٥٢٣) وأحمد: مسند المكثرين- مسند عبد الله بن عمرو(٦٥٣٢).
.
٥ سبق تخريجه..
في الآيات السابقات بين سبحانه ما أوغر به الحسد أحد ابني آدم، حتى قتل أخاه، إذ قربا قربانا فقبل من أحدهما فحسده أخوه، فقتله بعد أن كانت منازعة نفسية انتهت بأن طوعت نفسه له قتل أخيه فقتله، وبهذا صور القرآن أصل الجرائم البشرية والبواعث عليها، وهو الحسد الذي يربي الضغن في النفوس وحب الاستعلاء بأي طريق الذي يسهل الظلم للقريب والبعيد من غير أي حريجة مانعة، ومن غير نفس لوامة وازعة، ولقد أشار من بعد ذلك إلى جرائم الآحاد، وجرائم الجماعات، وبين أنه إذا لم يكن وازع النفوس كافيا، فلا بد من ردع بعقوبات زاجرة فيها إيلام للآثمين، ونكال يجعل غيرهم يفكر فيما يترقبه من عقاب إن حدثته نفسه بالآثام، فإنه لم يكن له من نفسه واعظ، كان له من العقاب أعظم رادع.
ثم بين سبحانه الطريق لمحاربة الآثام في النفس قبل أن يظهر الشر ويطفح على الألسنة والجوارح، فقال سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة ﴾
في هذا النص الكريم يبين سبحانه المقابلة بين جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين، فالمؤمنون يفوزون في الدنيا بنعيم الاطمئنان والإحساس بالرضوان من الله تعالى، ونصره سبحانه وتأييده وفوز الآخرة بالنعيم المقيم، أما الكافرون فإنهم إن نالوا ظاهرا من الحياة الدنيا، يستقبلهم في الآخرة عذاب مقيم، دائم مستمر وإنه لو وزنت الدنيا بحذافيرها، وكل ما فيها بعذاب يوم القيامة، ما ساوت شيئا في جانبه وإنهم لو ملكوا الدنيا بما فيها، وأرادوا أن يقدموه فداء لأنفسهم من عذاب القيامة، ما قبل منهم ذلك، بل يرد عليهم ما يقدمون.
وإن الله سبحانه وتعالى قد ذكر كفر الكافرين مؤكدا ب "إن"، وذكر الموصول للإشارة إلى أن الكفر الثابت المؤكد الذي لم يقترن بالتوبة والانخلاع منه بإيمان يجب الكفر هو سبب لعذاب وهول يوم القيامة صوره الله سبحانه وتعالى بقوله :
﴿ ولو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ﴾ والافتداء تخليص النفس، والعمل على الحفاظ عليها بمال أو أي نفيس يبذل في سبيل ذلك الخلاص، والمعنى الجملي : لو ثبت أن الذين كفروا يقدمون كل ما في الأرض تخليصا لأنفسهم ومثله معه في قيمته وكمه ما قبله الله تعالى منهم، لأن الجزاء الذي ادخره الله تعالى لهم من عذاب أليم يتكافأ مع ما في الدنيا مضافا إليه مثله، وهم لو ملكوا كل ذلك لقبلوا أن يقدموه، فكيف وهم لا يملكون إلا قدرا ضئيلا لا يساوي ذرة صغيرة في هذه الدنيا، والله لا يتقبل ذلك الفداء مهما يكن قدره، لأنه قرر العذاب المؤلم المؤكد، وقد أكد نفي القبول بقوله تعالى :﴿ ما تقبل منهم ﴾ أي ما قبل منهم بأي قدر ولو كان ضئيلا، وكان من تأكيد النفي بصيغة التقبل والمراد هنا من التقبل تكلف القبول، أي أنه لا يمكن القبول ولو بطريق المحاولة والمعاناة.
وقد أكد سبحانه وتعالى العذاب بقوله تعالى :﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ أي أن الذين يملكونه في الآخرة بدلا في مقابل ما كانوا يملكون في الدنيا عذاب مؤلم مستمر لا يزول ولا يفارقهم، وهم يريدون أن يخرجوا منه، وهو ملازمهم لا يفارقهم، ولذا قال سبحانه :﴿ يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ﴾.
في الآيات السابقات بين سبحانه ما أوغر به الحسد أحد ابني آدم، حتى قتل أخاه، إذ قربا قربانا فقبل من أحدهما فحسده أخوه، فقتله بعد أن كانت منازعة نفسية انتهت بأن طوعت نفسه له قتل أخيه فقتله، وبهذا صور القرآن أصل الجرائم البشرية والبواعث عليها، وهو الحسد الذي يربي الضغن في النفوس وحب الاستعلاء بأي طريق الذي يسهل الظلم للقريب والبعيد من غير أي حريجة مانعة، ومن غير نفس لوامة وازعة، ولقد أشار من بعد ذلك إلى جرائم الآحاد، وجرائم الجماعات، وبين أنه إذا لم يكن وازع النفوس كافيا، فلا بد من ردع بعقوبات زاجرة فيها إيلام للآثمين، ونكال يجعل غيرهم يفكر فيما يترقبه من عقاب إن حدثته نفسه بالآثام، فإنه لم يكن له من نفسه واعظ، كان له من العقاب أعظم رادع.
ثم بين سبحانه الطريق لمحاربة الآثام في النفس قبل أن يظهر الشر ويطفح على الألسنة والجوارح، فقال سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة ﴾
صور الله سبحانه وتعالى حالهم بهذا النص الكريم، وهو أنهم اجتمع لهم العذاب الشديد المؤلم، والرغبة في الخروج منه ولكنه أمر لازم غير قابل للانفصال عنهم، فهم يريدون راغبين ملحفين أن يخرجوا من النار وعذابها الشديد، وكلما نضجت جلودهم بدلهم الله تعالى جلودا غيرها، وهم يريدون الخروج منها ولو بالموت والفناء، ولكنهم ليسوا بخارجين منها، وقد عبر سبحانه وتعالى عن رغبتهم بالفعل، فقال سبحانه :﴿ يريدون أن يخرجوا من النار ﴾.
أي أنهم يريدون أن يقع الخروج على أي صورة كان فهم يطلبون الخروج من العذاب ولو كان بعده الموت، وقد نفى الله تعالى الخروج بنفي الوصف، لا بنفي الفعل فقال :﴿ وما هم بخارجين ﴾ أي أنه ليس من شأنهم أن يخرجوا، ولا يصح أن نثبت لهم وصف الخروج، لأن العذاب هو الجزاء الحق الوفاق لما ارتكبوا، فلا يسوغ أن يقع الخروج منه أبدا، وقد أكد سبحانه بقوله تعالى :﴿ ولهم عذاب مقيم ﴾.
هذا النص الكريم يفيد دوام ذلك العقاب من غير زمن محدود، بل هو دائم ملازم ثابت، وهنا نصان كريمان متقابلان : أولهما قوله تعالى :﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ قد وصف فيه العذاب صراحة بأنه مؤلم، وجاء الثبات من صيغة اللفظ بوزن فعيل، ثانيهما- هذا النص وقد وصف بالإقامة والاستمرار والدوام صراحة، وفهم الإيلام من التعبير بكلمة "عذاب".
ولا شك أن العذاب المؤلم الدائم هو الجزاء لمن فرط في أمر دنياه، وجعلها رجسا وفسوقا فقد اشترى هذه الحياة الفانية، بالحياة الباقية فكان حقا أن يجعل الله تعالى جزاءه أن يحرمه من كل ما في الحياة الآخرة من الخير، ويذيقه وبال أمره جزاء وفاقا لما قدمت يداه، واجترح من سيئات.. اللهم اكتب التوبة لنا، ولا تؤاخذنا بما يفعل السفهاء منا، واغفر لنا وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم.
بين الله سبحانه وتعالى مقدار الإثم في الاعتداء على أنفس الآحاد، وذكر سبحانه وتعالى أن من قتل نفسا فقد اعتدى على حق الحياة عند كل الناس ﴿ فكأنما قتل الناس جميعا ﴾ ومن أحياها بالقصاص لها فكأنما أحيا الناس جميعا، لأنه يمكن للناس من حياة رافهة هادئة، فيها أمن وفيها استقرار واطمئنان، كما قال سبحانه في آية أخرى، ﴿ ولكم في القصاص حياة... ( ١٧٩ ) ﴾( البقرة )، ثم ذكر سبحانه وتعالى، الجريمة الكبرى في الاعتداء على الجماعة وخرق حرمات النظام، والانتقاض على الحكام الذين يقيمون الحق والعدل والشرع، وارتكاب القتل والسرقة والاعتداء على الأموال والأنفس والأعراض وانتهاك الحرمات من غير أي حريجة دينية، وبين أنهم ينالون أقسى العقاب، لأنهم يرتكبون أفحش الجرائم وأفجرها.
وقد ذكر سبحانه وتعالى أن العقوبات لا تكفي وحدها لإيجاد مجتمع فاضل، بل لا بد من تهذيب الأرواح بالتقوى وطلب الوسائل الفاضلة والغايات العالية، وأن يعرفوا أن عقاب الدنيا يهون بجوار عقاب الآخرة، وقد بين بعد ذلك العقوبة المقررة للاعتداء على الأموال، بعد أن ذكر عقوبة الاعتداء على الأنفس منفردة، ثم اجتماع الجرائم بالاعتداء على الأنفس والمال، والخروج على النظام.
وقد توسطت بين هذين النوعين من العقوبة آية الأمر بالتقوى وتذكر الآخرة وما فيها، لأن في ذلك بيانا بأن الصلاح الأول للمجتمع هو اجتثاث الجريمة من النفس بزرع التقوى، ولأن القرآن ليس كتاب قانون تسرد فيه العقوبات سردا، بل هو كتاب هداية وتهذيب وإرشاد وتوجيه إلى الطريق المستقيم، تذكر فيه العقوبة على أنها علاج للجريمة في المجتمع، ثم يذكر مع العقوبة المادية العلاج النفسي والروحي، وهو أجدى وأقوى وأبعد أثرا، وقد ذكر سبحانه وتعالى عقوبة المال في أغلظ جرائمه وهو السرقة فقال تعالى :﴿ والسارق والسارقة ﴾
﴿ والسارق والسارقة ﴾ الواو هنا في معنى الواو العاطفة، إذ هي عطفت حكما مقررا لازما، وهو قطع أيدي السارقين، على جزاء المحاربين وكان ما بينهما من طلب المؤمنين بالتقوى وطلب القربى إلى الله تعالى في معنى الجملة المعترضة بين معطوف ومعطوف عليه ولها معناها السامي، وهو بيان العلاج النفسي التهذيبي بجوار العلاج المادي الجزائي.
والمعنى فرض عليكم فيما فرض، حكم السارق والسارقة كما فرض عليكم من قبل حكم الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فسادا، وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك الحكم بقوله تعالت كلماته :﴿ فاقطعوا أيديهما ﴾. والفاء هنا للربط بين الكلام، وهي في معنى بيان السببية الرابطة بين الجريمة والعقوبة، فهي تبين أن سبب قطع الأيدي هو السرقة وكونهم قد اتصفوا بها، وكان ثمة تجانس بين الجريمة والعقوبة فاليد التي امتدت بالأخذ سرقة هي التي تصير موضعا للعقاب، وهو القطع.
وقد بين سبحانه وتعالى الباعث على ذلك العقاب، كما ذكر السبب، فالسبب المباشر هو السرقة، والحكمة أو الوصف المناسب هو ما اشتمل عليه قوله تعالى :﴿ جزاء بما كسبا نكالا من الله ﴾ أي أن ذلك العقاب هو كفاء لما كسبا من فعل شيء له آثار سيئة، وإن ذلك العقاب نكال أي زجر من الله تعالى لمنع هذه الجريمة وتقييد الأيدي، حتى لا ترتكبها.
وظاهر الأمر أن قطع اليد لا يمكن أن يكون كفاء لليد المقطوعة ولكن عند النظر الدقيق يتبين أن المقابلة ليست بين ذات المقدار المسروق، وبين اليد المقطوعة، إنما المقابلة بين الأثر الذي يكون للفعل الذي يفعله السارق وبين العقاب، فإن السرقة في حي أو قرية تفزع أهل القرية أجمعين، فيندفعون إلى جلب الحراس ووضع المغالق وإحكام الأبواب، فوق ما يكون بين الناس من اضطراب، إذ يفقدون الأمن والاطمئنان وتستيقظ أعين الحكام، ويزداد عدد القائمين على الأمن، فالمقابلة ليست بين ذات الفعل والعقاب، بل المقابلة بين أثر الفعل، وما يعقبه من انزعاج وليست العقوبة مقصودة فقط لذلك الجزاء، بل هي مقصودة لما يعقبها من خوف الفاسدين، وفزع المجرمين فيقل الإقدام عليها، بل لا يكون وهو ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ نكالا من الله ﴾. فالعقاب عادل في ذاته لأنه مناسب لأثر الجريمة وإصلاح لأنه يؤدي إلى ذهاب الجريمة أو تقليلها..
ونريد أن نقف للكلام في أمرين في معنى نكال، وفي السرقة التي تعد جريمة توجب قطع اليد.
ونقول : إن معنى كلمة نكال الزجر والمنع، فهو منع للغير من الارتكاب، وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني في أصل معنى كلمة نكال واشتقاقها : يقال نكل عن الشيء ضعف عنه وعجز، ونكلته قيدته، والنكل قيد الدابة. وحديدة اللجام لكونهما مانعين، والجمع الأنكال، قال تعالى :﴿ إن لدينا أنكالا وجحيما( ١٢ ) ﴾( المزمل ). ونكلت به إذا فعلت ما ينكل به غيره( أي يمنع غيره من أن يفعل فعله ) قال تعالى :﴿ فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها...( ٦٦ ) ﴾( البقرة ) وقال :﴿ جزاء بما كسبا نكالا من الله ﴾.
وقال صلى الله عليه وسلم :( إن الله يحب النكل على النكل أي الرجل القوي على الرجل القوي )١.
وإن هذا التحليل اللغوي يفيد أن معنى قوله تعالى :﴿ جزاء بما كسبا نكالا من الله ﴾. أن هذا العقاب فيه جزاء للجريمة وكفاء لها، وقد أشرنا إلى معنى ذلك، ويفيد أن هذا العقاب منع من الارتكاب، فإنه ينكل بالجاني، لكيلا يقع في الفعل غيره، أي لكي يكون ذلك التنكيل سببا في أن ينكل الغير عن الفعل.
والآن نتكلم عن معنى السرقة التي توجب قطع اليد وهنا ننتقل من المعنى اللغوي للكلمة، إلى المعنى الشرعي المستمد من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ومن المأثور عن صحابته، ومما فهمه السلف من فقهائنا الأمجاد، رضي الله تبارك وتعالى عنهم.
لقد اتفق علماء الشريعة على أن السرقة أخذ المال على سبيل الاستخفاء، وهذا معنى فقهي يلتقي مع المعنى اللغوي، ولكن الفقهاء زادوا قيدا في هذا المعنى، وهو أن يكون الأخذ من حرز مثله، أي يكون المال محرزا مصونا محفوظا معنيا بحفظه العناية التي تليق، وقد قال الفقهاء رضي الله عنهم : إن الأخذ على سبيل الاستخفاء هو ركن السرقة وكون الأخذ لمال محرز محفوظ حفظا يليق بمثله شرط لاستحقاق العقوبة المحدودة التي ذكرها الشارع الحكيم.
وإذا كانت السرقة لا يتحقق ذكرها إلا إذا كان الأخذ على سبيل الاستخفاء، فإنه لا يكون المغتصب سارقا، ولا يكون المختلس سارقا، وقد فرقوا بين المختلس والسارق فقالوا : إن السارق يكون مختفيا غير معلوم للمسروق منه، أما المختلس فإنه لا يكون مختفيا بل يكون ظاهرا ولكن يأخذ في غفلة من صاحب المال، والجمهور على أن الاختلاس لا يعد من السرقة فلا تقطع فيه اليد، ولقد خالف الجمهور إياس بن معاوية القاضي وأوجب القطع على اعتبار أن فيه نوع استخفاء، وإن كان في العمل ولم يكن في الشخص، وأن لذلك الرأي وجاهته من ناحية العمل، ومن ناحية المعنى.
ولقد روي عن الإمام أحمد بن حنبل : أنه عد من السرقات جحود العواري٢ والودائع، لأنه ثبت أن المخزومية التي قطع النبي صلى الله عليه وسلم يدها، كانت تجحد ما تستعيره من الناس٣.
وإن ذلك غير الرواية الراجحة عن الإمام، بل إن الراوية الراجحة مع الجمهور، والحق هو أنها لا تعتبر سرقة وإلا اعتبر جحود الحقوق سرقة موجبة للقطع، لأنه لا فرق بين جحود العواري والودائع، وجحود الديون وسائر الحقوق المالية، وإن الفارق بين السرقة وجحود العواري كبير، فإن السرقة أخذ، وهذه منع للحقوق والفرق بين المنع والأخذ كبير، وهذه أخذت بتمكين من المالك، والسرقة أخذ بغير تمكين من المالك.
هذا هو أصل معنى السرقة في ذاته وهذا القدر قد اتفق عليه العلماء في الجملة وقد اختلف العلماء من بعد في الشروط الواجبة للحد، ولنذكر بعض هذا الاختلاف :
فقد اشترط أكثر أهل العلم لتحقق السرقة الموجبة للقطع أن يأخذ المسروق ويخرج به من مكان حرزه، ومقتضى تحقق السرقة مع هذا الشرط، أن يدخل ويأخذ مستخفيا، ويخرج من المكان الذي فيه المال إلى خارجه فإن ضبط قبل أن يخرج به لا يقام عليه الحد، وقد خالف في اشتراط الخروج بالشيء من حرز- إبراهيم النخعي التابعي، وفقهاء أهل الظاهر.
وقد اشترط الحنفية وبعض الفقهاء أن يكون الدخول إلى مكان الحرز بغير إذن صاحبه فلو كان بإذنه وسرق لا تقطع يده، فالضيف إذا سرق من مضيفه لا تقطع يده، لأنه دخل بإذنه فلم يحدث هتك حمى الحرز وكأن هؤلاء يشترطون مع الشرطين السابقين أن يتحقق معنى هتك حمى الحرز، وهو موضع الأمانة التي تنتهك حرماتها.
ويظهر أن الكثيرين من الفقهاء يشترطون مع ذلك أن يكون المكان المسروق منه في وسط الأحياء العامرة في المدائن أو القرى، ليتحقق معنى الحرز والمحافظة، وكذلك قرروا أن البيوت التي تكون في البساتين أو الطرق أو الصحراء وليست في العمران إذا لم يكن بها أحد وسرقت مع اتخاذ المغاليق، وضبط الأبواب لا يكون ثمة قطع يد، لأن من ترك متاعه في مكان خال من الناس والعمران لا يعد حافظا له، وإن أغلق بابه وأحكم الإغلاق.
بينا في هذا معنى السرقة الموجبة للقطع من حيث ذات الفعل، وبقي أن نتكلم في محل السرقة وهو المال المسروق فليس كل مال يؤخذ ولو كان محرزا ومحفوظا وبين الناس يعد أخذه موجبا للقطع، وقد قالوا : إن المسروق يجب أن يكون مالا متقوما لا شبهة فيه، ولا قصور في ماليته بأن يكون مما يتموله الناس، ويعدونه لأغراضهم المختلفة، ويتنافسون في طلبه، وعلى ذلك لا يصح أن يكون المال من توافه الأموال كالتراب والطين وما يشبههما مهما تبلغ قيمته.
ولا بد أن يكون المال المسروق مملوكا لمن سرق منه ملكية قطعية لا شبهة فيها، فلا قطع في أخذ مال مباح، ولا في المال الذي كان أصله مباحا، وامتلك بالإحراز كالماء والصيد٤.
وهناك نوعان من المال قرر الفقهاء أنه لا يقطع من أخذهما استخفاء من حرز مثلهما :
أولهما- أموال بيت المال، فقد قرر الأكثرون أنه لو أخذ مسلم من بيت المال لا يقطع، ولنترك الكلمة لابن جرير في هذا الموضوع فهو يقول :"لا قطع على من سرق بيت المال إذا كان مسلما، ويروى ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما، وبه قال الشعبي والنخعي وأصحاب الرأي، وقال مالك وحماد يقطع بظاهر الكتاب( أي النص ) وهو﴿ والسارق والسارقة ﴾ ولنا ما روى ابن ماجه بإسناده أن عبدا من رقيق الخمس( أي الخمس المخصص لبيت المال من الغنائم ) سرق من الخمس، فدفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقطعه، وقال :"مال الله سرق بعضه بعضا"٥، ولأن له في المال حقا، فيكون شبهة تمنع وجوب القطع، كما لو سرق من مال له فيه شركة، ونرى أن الذين أقاموا الحد طبقوا النص باعتبار أن السرقة قد تحققت، فوجب تحقيق العقاب، وأن هذا المال مال الله ومال الله تعالى أوجب أن تراعى حرمته، ولأن إهمال الحد فيه معنى إباحته، وذلك لا يجوز.
والذين لم يقيموا الحد، وهم الأكثر عددا بنوه على أساس أن لكل مسلم حقا فيه، فهو مال الجماعة كلها، وإن كان كذلك فللآخذ حق أو شبهة حق، والحدود تسقط بالشبهات.
وإن الرأي الذي يوجب الحد أحرى بالقبول، حتى لا تكون أموال الأمة نهبا للناس ينالونها من غير أي حريجة دينية، ويحسبون أنهم يأخذون حقا لهم، وإن لم يكن مقسوما، فالأولى بالحماية مال الله حتى لا تمتد إليه الأيدي الآثمة، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم الحد على الرقيق الذي كان غنيمة إذ أخذ منها، لأن الحرز لم يكن ثابتا بالنسبة له، وللرفق بالرقيق الذي لم يكن على علم بالشرع وما يجب عليه، ولأن حماية مال الدولة أوجب رعايته، لأن ما سرقه من حيث القيمة دون ما ينقص من قيمته بقطع يده، وفوق ذلك نتلف جزءا من بيت المال بإتلاف جزء آخر، فيكون الإتلاف مضاعفا، وليس هذا متفقا مع ما عرف عن النبي صلى الله عليه وسلم من حكمة، ولعل قوله صلى الله عليه وسلم :"مال الله سرق بعضه بعضا"٦، يشير إلى هذا المعنى إشارة واضحة.
ويجب التنبيه هنا إلى أنه إذا لم يقم الحد عند من لا يقيمونه تجب عقوبة شديدة، وإن لم تكن قطع اليد، ولتكن الجلد أو الحبس، أو النفي من الأرض، أو ما يراه ولي الأمر عقابا رادعا ونكالا مانعا.
ثاني الفرعين : من المال الذي لا يكون فيه قطع كل مال يكون للسارق نوع شركة فيه أو يكون بين السارق والمسروق منه صلة تجعل لكل واحد منهما حقا في مال الآخر وذلك يشمل ما يأتي :
أ- سرقة أحد الأصول من الفروع، فإنه لا قطع فيها لأن للأب أو للأم أو الأصول نوع شركة في مال الفرع، كما قال صلى الله عليه وسلم :"أنت ومالك لأبيك"٧ وكما ورد عنه :"الولد كسب أبيه"٨ وكل أصل أب أو أم.
ب- إذا سرق أحد الزوجين من الآخر لا قطع لأن ثمة شركة أدبية بين الزوجين توجد ما يشبه الشركة المالية، ولأن مال أحد الزوجين غير محرز بالنسبة للآخر، وفي هذا الموضع خلاف كثير ذلك القول في عمومه أرجحها وأقواها.
ج- لا يقطع الفروع إذا سرقوا من مال
٢ العواري: جمع عارية، وفي القاموس المحيط('عور): والعارية، مشددة وقد تخفف والعارة: ما تداولوه بينهم. الجمع: عواري، مشددة ومخففة..
٣ عن سعيد بن المسيب أن امرأة من بني مخزوم استعارت حليا على لسان أناس فجحدتها فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت. رواه النسائي: قطع السارق- ما يكون حرزا وما لا يكون(٤٨٩٢)..
٤ روى الترمذي: الحدود- ما جاء في درء الحدود (١٣٢٤) عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة". وفي الباب عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو..
٥ عن ابن عباس أن عبدا من رقيق الخمس سرق من الخمس، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقطعه، وقال: "مال الله عز وجل سرق بعضه بعضا". رواه ابن ماجة: الحدود- العبد يسرق (٢٥٩٠). والخمس أي خمس الغنائم المفروض لله ورسوله..
٦ السابق..
٧ عن جابر بن عبد الله أن رجلا قال: يا رسول الله إن لي مالا وولدا وإن أبي يريد أن يجتاح مالي. فقال: "أنت ومالك لأبيك" رواه بن ماجه: التجارات- ما للرجل من مال ولده (٢٢٩١)..
٨ عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولد الرجل من كسبه". رواه الترمذي: البيوع- الحث على الكسب (٤٤٤٩)..
بين الله سبحانه وتعالى مقدار الإثم في الاعتداء على أنفس الآحاد، وذكر سبحانه وتعالى أن من قتل نفسا فقد اعتدى على حق الحياة عند كل الناس ﴿ فكأنما قتل الناس جميعا ﴾ ومن أحياها بالقصاص لها فكأنما أحيا الناس جميعا، لأنه يمكن للناس من حياة رافهة هادئة، فيها أمن وفيها استقرار واطمئنان، كما قال سبحانه في آية أخرى، ﴿ ولكم في القصاص حياة... ( ١٧٩ ) ﴾( البقرة )، ثم ذكر سبحانه وتعالى، الجريمة الكبرى في الاعتداء على الجماعة وخرق حرمات النظام، والانتقاض على الحكام الذين يقيمون الحق والعدل والشرع، وارتكاب القتل والسرقة والاعتداء على الأموال والأنفس والأعراض وانتهاك الحرمات من غير أي حريجة دينية، وبين أنهم ينالون أقسى العقاب، لأنهم يرتكبون أفحش الجرائم وأفجرها.
وقد ذكر سبحانه وتعالى أن العقوبات لا تكفي وحدها لإيجاد مجتمع فاضل، بل لا بد من تهذيب الأرواح بالتقوى وطلب الوسائل الفاضلة والغايات العالية، وأن يعرفوا أن عقاب الدنيا يهون بجوار عقاب الآخرة، وقد بين بعد ذلك العقوبة المقررة للاعتداء على الأموال، بعد أن ذكر عقوبة الاعتداء على الأنفس منفردة، ثم اجتماع الجرائم بالاعتداء على الأنفس والمال، والخروج على النظام.
وقد توسطت بين هذين النوعين من العقوبة آية الأمر بالتقوى وتذكر الآخرة وما فيها، لأن في ذلك بيانا بأن الصلاح الأول للمجتمع هو اجتثاث الجريمة من النفس بزرع التقوى، ولأن القرآن ليس كتاب قانون تسرد فيه العقوبات سردا، بل هو كتاب هداية وتهذيب وإرشاد وتوجيه إلى الطريق المستقيم، تذكر فيه العقوبة على أنها علاج للجريمة في المجتمع، ثم يذكر مع العقوبة المادية العلاج النفسي والروحي، وهو أجدى وأقوى وأبعد أثرا، وقد ذكر سبحانه وتعالى عقوبة المال في أغلظ جرائمه وهو السرقة فقال تعالى :﴿ والسارق والسارقة ﴾
الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، والمعنى إذا كان قطع اليد هو العقوبة الرادعة، فإن التوبة تجبها وتقطعها في الدنيا والآخرة، أو في الآخرة فقط، فمن أقلع عن الذنب وأحس بالندم على ما ارتكبه، واعتزم على ألا يعود إليه، فإن الله سبحانه وتعالى يقبل توبته، وعبر سبحانه وتعالى عن قبوله توبته بقوله :﴿ فإن الله يتوب عليه ﴾.
أي أنه جلت قدرته، وتعالت عظمته يقابل عمله القلبي في التوبة، والعمل الخارجي بالإصلاح ومنع الفساد، بعمل من جانبه سبحانه وهو أنه يتوب عليه، أي يعينه على التوبة ويقبلها، فقوله تعالى :﴿ فإن الله يتوب عليه ﴾ يتضمن ثلاث معان أولها : المعاونة على التوبة إذا أخلص العبد، وخلص العمل له سبحانه، وأصلح في الأرض بعد الإفساد فيها، وثانيهما قبول التوبة وثالثها تطمين التائب بتأكيد القبول.
وذكر سبحانه أن التوبة الخالصة لا بد أن تقترن بالإصلاح لأن الإذعان القلبي لا يكون كاملا وناميا إلا إذا اقترن به العمل الصالح لأنه يزكيه ويسقيه.
والتعبير بقوله تعالى :﴿ من بعد ظلمه ﴾ إشارة إلى أن السرقة خاصة وارتكاب الذنوب عامة ظلم كبير، وقوله تعالى :﴿ وأصلح ﴾ فيه إشارة إلى أن السرقة إفساد في الأرض والأمانة إصلاح أي إصلاح.
وقد ختم الله سبحانه و تعالى الآية بإثبات رحمته، وأنه سبحانه من صفاته الثابتة الغفران فقال :﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ أي أن الله يتوب على عبده إذا أذنب، لأن من صفاته أنه غفور كثير الغفران يتجاوز عن السيئات ويكافئ على الحسنات، لأن ذلك مقتضى رحمته، وهو الرحيم الدائم الرحمة وقد أكد سبحانه ذلك فضل تأكيد ب "إن"، وبإعادة لفظ الجلالة.
وقد أشرنا من قبل إلى أن كثيرين من الفقهاء يقولون : إن التوبة تسقط الحد، وكانت هذه الآية الكريمة :﴿ فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه ﴾ من شواهد ذلك.
والقول الجلي في هذا أن التوبة قبل الترافع إلى السلطان إذا صحبها رد المسروق إلى مالكه تمنع إقامة الحد بالاتفاق، ولكن الخلاف القائم بين الفقهاء في التوبة إذا كانت بعد الترافع وإثبات السرقة، فقد قال أبو حنيفة ومالك : إن التوبة لا تسقط الحد، لأن الأمر بالقطع عام يشمل التائب وغير التائب، والتوبة المنصوص عليها في هذه الآية هي ما يكون بعد إقامة الحد وقطع اليد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"إذا قطعت يد السارق فتاب سبقته يده إلى الجنة، وإن لم يتب سبقته يده إلى النار" وفوق ذلك فإن التوبة في السرقة كالتوبة في الزنا لا تسقط ( الحد )١، ولقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم حد الزنا، وقال في امرأة أقام عليها الحد :"لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم"٢. وفوق هذا وذاك الحد كفارة للذنوب في الدنيا والكفارات تجب مع التوبة.
وقال أكثر الشافعية والحنابلة : التوبة تمنع إقامة الحد وأقاموا على ذلك الأدلة الآتية :
أ- قوله تعالى :﴿ فمن تاب من بعد ظلمه فأصلح ﴾. وهذا النص مقترن بقوله تعالى :﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ﴾. فكان مخصصا للعموم في الأمر بالقطع، وإلا ما اقترن به.
ب- أن الله تعالى اعتبر التوبة مانعة من إقامة حد الحرابة، والحرابة٣ فيها جرائم سرقة وقتل وسرقاتها كبيرة، فكيف تقبل التوبة في السرقات الكبرى ولا تقبل في الصغرى.
ج- ما ورد في الآثار الصحاح مما يثبت أن التوبة تجب ما قبلها وقد قال صلى الله عليه وسلم :"التائب من الذنب كمن لا ذنب له".
د- أن التوبة السريعة تدل على أن النفس لم تدنس بالرجس، وقد قال تعالى في تحقيق هذا المعنى :﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب... ( ١٧ ) ﴾ ( النساء ).
والذي نراه في هذا الموضوع أننا نأخذ برأي الإمامين أبي حنيفة ومالك في الذين يعدون عائدين، فإن هؤلاء لا تقبل منهم توبة، ولا تأخذ العدالة فيهم رأفة، أما الذين لم يكونوا عائدين، فإن التوبة تعفيهم من العقاب إقالة لعثرتهم، ونأخذ في أمرهم برأي أكثر الشافعية والحنابلة.
وإذا كان لنا أن نطالب بإقامة حدود الله وهو واجب علينا فإننا إذا طالبنا بإقامة حد السرقة نطالب به في الحدود الآتية :
أولها : أن يقام الحد على السراق العائدين ليكونوا عبرة المعتبرين.
الثاني : ألا يقام الحد إلا في الحال التي اتفق الأئمة على إقامتها فيه، فلا يقام الحد، وبعض الأئمة لا يرى إقامته.
الثالث : ألا توجد أي شبهة في الإثبات أو في غيره، والله سبحانه بكل شيء عليم، ولقد قال سبحانه :﴿ ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ﴾.
٢ عن عمران بن حصين أن امرأة من جهينة أتت نبي الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا فقالت: يا نبي الله أصبت حدا فأقمه علي، فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليها فقال: "أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها"، ففعل فأمر نبي الله صلى الله عليه وسلم فشكت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها، فقال له عمر: تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟ فقال: "لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى".(رواه مسلم: الحدود- من اعترف على نفسه بالزنا (١٦٩٦)، كما رواه الترمذي: الحدود (١٤٣٥)، والنسائي: الجنائز (١٩٥٧)، وأبو داود: الحدود(٤٤٤٠)، وابن ماجة: الحدود (٢٥٥٥)، وأحمد: أول مسند البصريين ((١٩٣٦٠)، والدارمي: الحدود (٢٣٢٥))..
٣ إشارة إلى قوله تعالى في سورة المائدة (٣٤): ﴿إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم﴾، وقد سبقت..
بين الله سبحانه وتعالى مقدار الإثم في الاعتداء على أنفس الآحاد، وذكر سبحانه وتعالى أن من قتل نفسا فقد اعتدى على حق الحياة عند كل الناس ﴿ فكأنما قتل الناس جميعا ﴾ ومن أحياها بالقصاص لها فكأنما أحيا الناس جميعا، لأنه يمكن للناس من حياة رافهة هادئة، فيها أمن وفيها استقرار واطمئنان، كما قال سبحانه في آية أخرى، ﴿ ولكم في القصاص حياة... ( ١٧٩ ) ﴾( البقرة )، ثم ذكر سبحانه وتعالى، الجريمة الكبرى في الاعتداء على الجماعة وخرق حرمات النظام، والانتقاض على الحكام الذين يقيمون الحق والعدل والشرع، وارتكاب القتل والسرقة والاعتداء على الأموال والأنفس والأعراض وانتهاك الحرمات من غير أي حريجة دينية، وبين أنهم ينالون أقسى العقاب، لأنهم يرتكبون أفحش الجرائم وأفجرها.
وقد ذكر سبحانه وتعالى أن العقوبات لا تكفي وحدها لإيجاد مجتمع فاضل، بل لا بد من تهذيب الأرواح بالتقوى وطلب الوسائل الفاضلة والغايات العالية، وأن يعرفوا أن عقاب الدنيا يهون بجوار عقاب الآخرة، وقد بين بعد ذلك العقوبة المقررة للاعتداء على الأموال، بعد أن ذكر عقوبة الاعتداء على الأنفس منفردة، ثم اجتماع الجرائم بالاعتداء على الأنفس والمال، والخروج على النظام.
وقد توسطت بين هذين النوعين من العقوبة آية الأمر بالتقوى وتذكر الآخرة وما فيها، لأن في ذلك بيانا بأن الصلاح الأول للمجتمع هو اجتثاث الجريمة من النفس بزرع التقوى، ولأن القرآن ليس كتاب قانون تسرد فيه العقوبات سردا، بل هو كتاب هداية وتهذيب وإرشاد وتوجيه إلى الطريق المستقيم، تذكر فيه العقوبة على أنها علاج للجريمة في المجتمع، ثم يذكر مع العقوبة المادية العلاج النفسي والروحي، وهو أجدى وأقوى وأبعد أثرا، وقد ذكر سبحانه وتعالى عقوبة المال في أغلظ جرائمه وهو السرقة فقال تعالى :﴿ والسارق والسارقة ﴾
بعد أن بين سبحانه وتعالى العقاب الذي ينزل بالمفسدين في الأرض محاربين أحكام الله تعالى والنظام الذي يقرره الإسلام، وبين أن باب التوبة مفتوح، لمن يريد الإصلاح، ويقلع عن الإفساد، ذكر سبحانه وتعالى أن تلك هي أحكام العليم الحكيم، صاحب السلطان القاهر الذي هو فوق كل سلطان، وأن كل ذي سلطان مهما يكن اتساعه وسطوته، فهو في ملك الله تعالى، وأن ما يكون من عقاب أو غفران فهو من واسع حكمته، ومن شمول رحمته، ولذلك قال سبحانه مبينا سلطانه مخاطبا كل أهل للخطاب، أو مخاطبا النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء، ومخاطبا غيره إتباعا، وهذا ما نرجحه، ولذلك أردف هذا النص الكريم بقوله تعالى :﴿... لا يحزنك الذين...( ٤١ ) ﴾ ( المائدة ) كما سنتكلم في الآيات الآتية بمعونته تعالى ومشيئته.
وقوله تعالى :﴿ ألم تعلم ﴾ هذا التعبير السامي من قبيل الاستفهام الإنكاري الذي يؤكد ما في مضمونه ويبعده عن كل احتمال، ويقال إنه للنفي، فهو نفي للجهل، ونفي الجهل تأكيد للعلم، والمعنى أبحثت الأدلة، ودرست الكون وما فيه، والخلائق ومبدعها فعلمت أن أحدا له ملك السموات والأرض غير الله، وإذا كان بحثك وتنقيبك واستدلالك قد أدى بك إلى نفي العلم بأحد له ملك في السموات والأرض غيره فالدليل نفسه هو الذي يؤكد علمك بأنه وحده صاحب السلطان المطلق في السماوات والأرض.
وإذا كان سبحانه وتعالى هو صاحب الملك المطلق، والحكم الذي لا معقب له في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم فهو وحده المنفرد ببيان العقاب الرادع، والتجاوز السمح حسب ما يرى بحكمته، ولذلك قال سبحانه :
﴿ يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء ﴾ وإذا كان سبحانه وتعالى هو صاحب السلطان المطلق، فإنه لا يسأل عما يفعل وليس وراء ما يأمر به معقب من أحد، فهو يعذب من يشاء عقابا رادعا في الدنيا، ليمنع غيره من أن يقع في الشر، كما وقع هو، ويغفر لمن يسلك طريق التوبة، والأمر في كل ذلك إلى مشيئته هو وحده، وهو العليم الخبير اللطيف، بعباده، الذي لا يكون معه إلا ما فيه خيرهم، وإن علا على إدراكهم، وعسر على فهمهم، فمشيئته مطلقة تعلو حكمة ما يفعل على عقولنا ومداركنا.
ولقد كانت مشيئة الله تعالى مقترنة بقدرته، ولذلك قال سبحانه :
﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ فهو سبحانه قادر على كل شيء، فكل ما في هذا الوجود خاضع لإرادته وقدرته وسلطانه، لا يخرج عنه شيء، ولا يعجز عن شيء، اللهم أظلنا برحمتك وعفوك وغفرانك إنك على كل شيء قدير.
بعد أن بين الله سبحانه وتعالى حسد أحد ابني آدم لأخيه وكيف أدى الحسد والحقد إلى أن يقتل الأخ أخاه، بين سبحانه وتعالى ما هو نتيجة للحقد، من قتل النفوس وقيام المجرمين بالشر فرادى وجماعات، وآثار من الجرائم في المجتمع وبين أشد أنواع جرائم الفتك والاعتداء في الجماعة وهي الحرابة، ثم ذكر السرقة وهي في معنى الحرابة لأنها سطو على الأمن، وإزعاج للناس وجعلهم في اضطراب مستمر وبلبال دائم، وهم مقيم، وذكر عقوبتها الزاجرة، وآثارها الملقية بالأمن والاستقرار في النفوس.
وبعد هذا البيان من آثار الحقد، والحسد في الجرائم الحسية ونشرها ذكر سبحانه أثر الحقد والحسد في الجرائم المعنوية والاعتقادية وهي التي يجمعها جحود الحق حسدا وحقدا واستكبارا، كحسد أحد ابني آدم على أخيه إذ حقد واستكبر وذكر حقد اليهود والمنافقين على النبي صلى الله عليه وسلم وحسدهم له ولقومه على ما آتاهم الله من فضله، فأرسل في العرب رسولا يدعو إلى الحق وإلى صراط مستقيم، وقد كان سياق قصة ابني آدم مبينا استمكان الحقد والحسد في نفوس الأشرار، وإذا علم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينبغي له أن يحزن على ما يصيبه نتيجة للحقد والحسد، ولذلك قال سبحانه وتعالى :
﴿ يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ﴾ النداء إلى النبي صلى الله عليه وسلم والنداء له عليه السلام ب ﴿ يا أيها ﴾ التي تدل على نداء البعيد مع أنه من الله قريب وهو له مجيب، لبيان الشأن العظيم لما يدعوه إليه ويناديه لأجله، وللموضوع الذي ينبهه إليه، وهو حال الذين يخاطبهم وتدبير الدعوة على مقتضى حالهم، وتوقع ما يقع منهم.
وقد قال فخر الدين الرازي : إن نداء الله تعالى له عليه السلام يكون ب "يا أيها النبي" ما عدا موضعين : أحدهما هذا الموضع، والثاني في قوله تعالى :﴿ يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك ﴾. وقال إن النداء :﴿ يا أيها الرسول ﴾ فيه زيادة تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم، لأن الرسالة أخص من النبوة، والحق أن النداء بالنبوة وبالرسالة كلاهما فيه تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم بدرجة واحدة، لأن في كليهما بيان صلته بالله تعالى بها، ولكنا نرى أن النداء ب "يا أيها الرسول" ونهيه، ويبلغ رسالته التي شرفه الله تعالى بها ولكنا نرى أن النداء "يا أيها الرسول" يناسب ما يطلبه لله تعالى منه، وهو تبليغ الرسالة إذ يقتضي أن يلاقي الأخيار والأشرار، وأن يتوقع من الأشرار ما قد يثير النفس فإن لج به الألم ذهبت نفسه حسرات، ولا يتفق ذلك مع العزمة الواجبة لأداء الرسالة.
وقد كان النهي منصبا لا على ذات الحزن بل قال سبحانه :﴿ لا يحزنك ﴾ أي لا تجعلهم يدخلون الحزن على نفسك باستعظام ما يفعلون، وبذلك يندفع الاعتراض القائل أن الحزن ألم نفسي يدخل على النفس إجبارا من غير استئذان، والنهي عنه ليس نهيا عن أمر للنفس فيه اختيار، بل هو نهي عن أمر للإرادة فيه سلطان بالصبر وضبط النفس، وتوقع الأمور قبل وقوعها فمن توقع النائبات قبل وقوعها يخف وقعها، ويسهل احتمالها، وأولئك الذين يسارعون في الكفر يتوقع منهم الشر فلا يحزن الرسول عند وقوعه، فمعنى النهي في قوله تعالى :﴿ لا يحزنك ﴾ يتضمن أمرين :
أولهما : قبل وقوع شر أولئك المنافقين يتوقعه، فلا يحزن إذا وقع، وثانيهما ألا يبقى أي أثر من ألم لوقوع الشر، والمعنى الضمني لهذا النص : لا تعبأ بما يصنع هؤلاء مما من شأنه أن يحزن، فلا ينبغي أن تحزن.
وقوله :﴿ الذين يسارعون في الكفر ﴾ معناه : الذين يتنقلون بحركات سريعة في دركات الكفر فينحدرون من دركة إلى دركة ويوغلون فيه إيغالا من غير مواناة ولا تدبر ولا تفكر، وهذا سر التعدية ب "في" دون "إلى"، لأن التعدية ب "إلى" تفيد الدخول فيه بعد أن لم يكن، أما التعدية ب "في" فإنها لا تفيد الدخول بعد أن لم يكن، بل تفيد الانتقال في مداخله من حال أسوأ منها في سرعة من غير تفكير.
وهذا يزكي معنى النهي عن أن يكون منهم ما يحزن النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يتوقع من الكفار الذين مردوا على النفاق إلا الإيغال فيه، والازدياد في الشر.
وقد بين سبحانه نوع هؤلاء الناس، فقال تعالت كلماته :﴿ من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ﴾. ﴿ من ﴾ هنا بيانية، فهي تدل على أن ما بعدها بيان للذين يسارعون في الكفر متنقلين في دركاته موغلين في الجحود، وقد كان أول وصف يدل على جحودهم الشديد، وإمعانهم في الضلال والتضليل هو أنهم يقولون :"آمنا" بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم وقوله تعالى بأفواههم متعلق بقوله تعالى :"قالوا".
وقدم قوله تعالى ﴿ آمنا ﴾ على قوله تعالى ﴿ بأفواههم ﴾ للإشارة إلى مسارعتهم بقول الإيمان وإعلانه وذكره، إمعانا في التضليل والنفاق، ولأن قول الله تعالى ﴿ بأفواههم ﴾، ولو أنه متعلق بكلمة ﴿ قالوا ﴾ فيه حكم على ادعائهم الإيمان والحكم يتأخر دائما عن واقعة الحكم، فالواقعة قولهم ﴿ آمنا ﴾، والحكم من الله تعالى بأنه إيمان بالأفواه، لا بالقلوب فهو إعلان عن الإذعان، ولقد أكد سبحانه وتعالى ذلك الحكم بقوله تعالى :﴿ ولم تؤمن قلوبهم ﴾ أي لم تذعن للحق وتسلم به وتخضع له قلوبهم، وليس المعنى لم تصدق قلوبهم، لأن الإيمان ليس هو المعرفة المجردة، بل إنه إذعان وخضوع لما تقتضيه المعرفة ويقينها، فإن من أولئك يهودا كانوا يعرفون محمدا كما يعرفون أبناءهم ولكن معرفتهم هذه صحبها تمرد على الحقائق، وعبث وسير في الجحود، فلا يمكن أن يتحقق الإيمان منهم، وإن كانت لديهم المعرفة بالحقائق، إذ لم يذعنوا لها، والتعبير بالأفواه بدل الألسنة، إشارة إلى تزيين كلامهم فقط حتى صار الفم كله يشترك في ادعاء الإيمان لا طرف اللسان فقط.
﴿ ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ﴾ هي داخلة في البيان الذي دلت عليه "من" الأولى، وعلى ذلك يكون هؤلاء داخلين في الذين يسارعون في الكفر، فإنهم فريقان فريق المنافقين وفريق اليهود الذين تميزوا بهذا الاسم، وإن اشتركوا معهم في معنى النفاق، ويكون قوله تعالى ﴿ من ﴾ بعد ﴿ سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين ﴾ وصفا للفريقين معا، لأنه يجمعهم المسارعة في الكفر، هذا أحد مخرجين للآية الكريمة، وهو يتفق مع إحدى القراءتين١، وهي التي لا يكون فيها الوقف عند قوله تعالى :﴿ ولم تؤمن قلوبهم ﴾ بل تكون القراءة متصلة. والقراءة الثانية أن يكون الوقف عند قوله تعال :﴿ ولم تؤمن قلوبهم ﴾ ويكون قوله تعالى :﴿ ومن الذين هادوا ﴾. استئنافا لفريق آخر، ويكون قوله تعالى ﴿ سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين ﴾، وصفا لليهود ويكون المعنى أن الذين يعاندون النبي صلى الله عليه وسلم فريقان : أحدهما : منافق يعلن الإيمان، ويبطن الكفر وسبب جحودهم أنهم مردوا إلى النفاق، وضعفت نفوسهم وانحل موضع اليقين في قلوبهم لسماع الباطل من القول، والزور من الدعاوي، حتى اختلط عندهم الحق بالباطل، وفقدوا التمييز بينهما بسوء ما يصنعون، وكلا الفريقين يلتقي عند مصب الجحود والنكران، والمسارعة في الكفر، وإن كان قوله تعالى :﴿ يسارعون في الكفر ﴾. غير متجه إلى اليهود من حيث النسق البياني على القراءة الثانية فإنه من حيث التضمن والواقع ينطبق عليهم وصف المسارعة على الكفر، والتنقل في دركاته.
وفي الحق، إن القراءتين٢ مقصودتان من حيث المعنى، والقراءة الأولى معناها مقصود بالنص، والقراءة الثانية ( كذلك ) وكلتاهما قرآن يتلى ويفهم، ويراد معنى، كلا ومنفردا.
وقوله تعالى :﴿ سماعون للكذب ﴾. هو وصف للفريقين على إحدى القراءتين، أو على مجموع القراءتين وسماع صيغة مبالغة من سامع، أي من صفاتهم التي صارت فيهم خصلة من خصالهم أنهم كثيرو سماع الكذب، قد استمرأته قلوبهم وأسماعهم، يجدون لذاذة في الاستماع، ويصل إلى قلوبهم فيفسد موضع التفكير والتدبر، كأولئك الذين يلقون بأسماعهم في الخرافات، فيتقبلونها كأنها حقائق ثابتة لا مجال للريب فيها عندهم، فهم بهذا ضالون، وتكون اللام في قوله تعالى :﴿ للكذب ﴾ للتعدية أو لتقوية التعدية، وأن السماع منصب على الكذب، وقال بعض اللغويين : إن اللام للتعليل أي سماعون لأجل أن يكذبوا وأحسب أن التخريج الأول أقرب إلى القبول لأن ذلك وصف لهم، فهو غير معلل، وهو يدل على فساد قلوبهم من داخلها، لا من أمر خارج فقط، وقد بين سبحانه الذين يستمعون إليهم، والذين يغذون قلوبهم المملوءة بالصديد والدم، فقال سبحانه وتعالى :﴿ سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ﴾ أي أنهم يكثرون سماع الباطل ويكثرون من سماع قوم آخرين لم يأتوك لهم تأثير فيهم، فاجتمع فيهم فساد الباطن الذي جعلهم لا يستمرئون إلا سماع الشر، ووجود من يستغلون فيهم ذلك الضعف القلبي، فيعملون على استهوائهم إلى الباطل، والتعبير ب "قوم آخرين"، فيه إشارة إلى أن أولئك الذين يستمعون إليهم بعيدون عن سلطان الدعوة الإسلامية، إذا كان البعد حسيا، أو بعيدون عن قبول قوله إذا كان البعد معنويا، وكلاهما يشمله القول.
وفي الجملة : إن في هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم من حيث إن الذين يسارعون الكفر من المنافقين واليهود إذا كانوا يتنقلون في دركات الجحود، ولا يستمعون إليك، فلأنهم يجيئون إليك وقلوبهم مملوءة بالباطل والإيمان الصافي يحتاج إلى آنية صافية من كدرة الهوى، وأخباث الشر وإذا كان فيها شيء من ذلك فإشراق الإيمان قد يذهب به إذا لم يكن ثمة تغذية له من كلام الآخرين، واستمراء الباطل.
وقد وصف الله الذين يمرقون عن الحق مروق السهم من الرمية ويدعون إليه بقوله تعالت كلماته :﴿ يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه ﴾ الكلم اسم جنسي جمعي لكلمة، فهو معناه كلام، والتحريف أصله من الحرف، وهو طرف الشيء، ومعناه إمالة الكلام عن معناه، وإخراجه عن أطرافه وحدوده، والتحريف يكون على ضروب شتى فيكون بتغيير الألفاظ والزيادة فيها والنقص منها، وذلك تحريف في اللفظ والمعنى، وإما أن يكون التحريف بتفسير الكلام بغير ما تدل عليه الألفاظ، وتوجيه المعاني إلى غير مقاصدها، ويكون التحريف بإدخال احتمالات في الألفاظ وهي غير قابلة لها، وقد قال الأصفهاني في هذا المعنى :"وتحريف الكلام أن تجعله على حرف من الاحتمال يمكن على الوجهين"، وقد خرج على هذا المعنى النص الكريم الذي نتكلم في معناه.
واليهود حرفوا التوراة بكل أنواع التحريفات، فزادوا فيها كلمات ليغيروا المراد فيها، ففي تحريم الربا زادوا كلمة "أخاك الإسرائيلي" ليجعلوه محرما بين الإسرائيليين فقط. وحذفوا منها عبارات، وأتوا بقصص مكذوبة كقصص ابنتي لوط، وحملوا ما بقي من عبارات من غير زيادة فيها أو نقص على غير معانيها، أو جعلوها محتملة لغيرها، ورجحوا غير الظاهر على الظاهر وحذفوا منها ما كان فيه
.
٢ أي الوقفين: والقراءات المتواترة توقيفية من عند الله تعالى..
الكلام مستمر في بيان أوصاف الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم والذين غلبت عليهم الشقوة والضلالة، حتى صاروا لا يخضعون إلا لأهواء قوم لم يشرق في قلوبهم نور الإيمان، ولم تطمئن قلوبهم ببرد اليقين للإذعان للحقيقة بعد أن يعرفوها.
وقد انتقلت الآيات من التعميم إلى التخصيص، فخصت اليهود بوصف آخر غير أنهم سماعون للكذب بأنهم أكالون للسحت
﴿ سماعون للكذب أكالون للسحت ﴾ هذا وصف للذين يسارعون في الكفر عامة وفي اليهود خاصة، وهم مرنوا على سماع الباطل واستمرءوه وأضافوا إلى ذلك وصفا من بابه، وهو أنهم يستمرئون المال الخبيث الذي ينبت من باطل، وإذا كانت آذانهم تستمرئ باطل القوة وزوره، فأفواههم وذممهم تستمرئ أكل أموال الناس بالباطل، والسحت كما يفهم من مصادر اللغة وآثار التابعين والصحابة، كل كسب يكون بطريق آثم، ومن ذلك الرشوة والربا، وأخذ الأجور في الشفاعات، وقد سئل عبد الله بن مسعود عن السحت، فقال : الرجل يطلب الحاجة للرجل فيقضيها فيهدي إليه هدية فيقبلها١، وإذا كانت الهدية في مقابل قضاء الحاجات سحتا، فماذا يكون كسب الجاه والمال والمناصب، وما تدر عليه من مال بطريق النفاق والفتاوى الباطلة في الدين، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به"٢.
وذكر الطبري الأصل اللغوي لكلمة سحت، فقال :"وأصل السحت٣ كلب الجوع، يقال : فلان مسحوت المعدة، إذا كان أكولا، لا يلفى أبدا إلا جائعا، و إنما قيل للرشوة السحت تشبيها بذلك، كأن بالمسترشي من الشره إلى أخذ ما يعطاه من ذلك – مثل الذي بالمسحوت – المعدة من الشره إلى الطعام، يقال منه : سحته، وأسحته لغتان محكيتان عن العرب... ومنه قوله تعالى :﴿... فيسحتكم بعذاب... ( ٦١ ) ﴾( طه ). وتقول العرب للحالق :"اسحت الشعر، أي استأصله".
ونرى أن ابن جرير ذكر الرشوة فقط هنا، وإن كان السحت يشمل أكل مال الناس بالباطل، ولو كان هدية في نظير مسعى حميد كما ذكرنا عن ابن مسعود، وقد روي عن مسروق التابعي أنه شفع لرجل في حاجة، فأهدى إليه جارية فغضب غضبا شديدا، وقال : لو علمت أنك تفعل هذا ما كلمت في حاجتك ولا أكلم فيما بقي من حاجتك، سمعت ابن مسعود يقول :"من شفع شفاعة ليرد بها حقا، ويرفع بها ظلما فأهدي له فقبل فهو سحت".
وإن هذا الكلام المروي يبدو منه أمران : أحدهما أن كل أكل لمال الغير بالباطل يعد سحتا سواء أكان برضاه أم كان بغير رضاه. وثانيهما أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان كانوا لفرط إيمانهم بالحق ووجوب نصرته يرون أن نصرة الحق ودفع الباطل يجب أن تكون لله، وأنه لا يصح أخذ أجر في نظيرها، ولو كان هدية تعطى في مسمحة ومحبة، حتى لا يرنق قول الحق بغرض من أغراض الدنيا وحتى لا يستغل الجاه، ولكي تعلو معنويات الأمور ولا تسيطر مادياتها.
وإن اليهود قد اشتهروا بالسحت وخصوصا في الحكم، وقد أرادوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بشرعته رجاء أن يكون في حكمه ما هو أخف من حكم ما عندهم، لا طاعة لحكمه، وخصوصا للحق عنده ولذا قال سبحانه :
﴿... فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ﴾ يومئ هذا النص الكريم إلى أنهم سيتحاكمون إليه، وقد تحاكموا إليه بالفعل لا طلبا للحق والعدل، ولكن رجاء التخفيف عمن أرادوا التخفيف عنه، وروي في موضوع التحاكم الذي ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحكم فيه عدة روايات تنتهي إلى خبرين :
أولهما : أنهم كانوا يقيمون حد الزنا، إلى أن زنا منهم شاب ذو شرف، فقال بعضهم لبعض، لا يدعكم قومه ترجمونه، ولكن اجلدوه فجلدوه، وحملوه على إكاف حمار ( برذعة ) وجعلوا وجهه قبل ذنب الحمار، ثم زنا بعد ذلك وضيع ليس له شرف وليس له من يحامي عليه، فقالوا : ارجموه ثم وجد من بينهم من استنكر تلك التفرقة، فقالوا : كيف لم ترجموا الذي قبله، ولكن اصنعوا بهذا مثل ما صنعتم بسابقه، ثم قالوا : سلوه لعلكم تجدون عنده رخصة.
وكأنهم استثقلوا إقامة الحد، وأرادوا أن يترخصوا ويقبلوا حكم النبي صلى الله ليه وسلم فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه حكم توراتهم يجب أن ينفذ، وأنه لا يصح الفرار من هذا الحكم، وإن ذل الأمم يكون إذا غيرت الأحكام فيها لأجل الأقوياء، وبدلت على حسب الأهواء.
ثانيها : أن اليهود ما كانوا يعدلون فيما بينهم ولا تتكافأ دماءهم في نظرهم، فكانت قريظة إذا قتلت قتيلا من بني النضير كانت تجب الدية كاملة في حال وجوب الدية، وإذا قتلت النضير من قريظة كانت نصف الدية لشرف في الأولى ونقص في الثانية، ويروى أنهم كانوا إذا قتل رجل من بني النضير قرظيا لا يقتل به ووجبت الدية، وإذا كان المقتول نضيريا قتل به، فكانت في عصر النبي صلى الله عليه وهو بينهم دماء، فتحاكموا فحكم بالتسوية لأن ذلك هو العدل وهو حكم التوراة.
وقد خير الله تعالى نبيه في أن يحكم بينهم أو يعرض عنهم، ولماذا كان ذلك التخيير، وإقامة العدل واجبة وقد مكن من إقامته بتحكيمهم ؟ والحقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخيرا ذلك التخيير، ليتعرف أمرهم، فإن كانوا يريدون الحق ويطلبونه ويذعنون له استجاب للأمر وحكم، وإن كان يعلم أنهم جاءوا مغرضين في قلوبهم مرض، لا ينفذون إلا ما يتفق مع أهوائهم وليسوا خاضعين لسلطانه ينفذ فيهم الحق الذي يراه، أما الذين يكونون تحت سلطانه وينفذ الحق فيهم، فإنه لا تخيير بل يقضي بينهم، وكذلك الأمر من بعده صلى الله عليه وسلم، ولذلك قرر الفقهاء أن الذميين في المعاملات المالية والزواجر الاجتماعية خاضعون للأحكام الشرعية، ولا يجيز الحاكم في الحكم بينهم بشرع الله تعالى، لأن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، أما رعايا الدول الأخرى الذين يقيمون في ديارهم ويربطهم بالمسلمين الجوار وميثاق عدم الاعتداء، كما كان الشأن في يهود المدينة في أول أمرهم، قبل أن تظهر خيانتهم ويضطر النبي صلى الله عليه وسلم إلى إجلائهم.
وهنا ملاحظة لفظية، وهي في قوله تعالى :﴿ فإن جاءوك فاحكم بينهم ﴾. لماذا كان التعبير ب "إن" الدالة على الشك ولم يكن التعبير ب "إذا" الدالة على التحقيق، مع أنهم جاءوا إليه فعلا ؟ والجواب عن ذلك أن الشك كان بالنسبة لحالهم، فهم كانوا مترددين في التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهم بعد الحكم لم ينفذوا، فحالهم حال شك ابتداء وحال شك انتهاء، وعدم إذعان في الحالين، لأن في قلوبهم كما قال تعالى في أشباههم :﴿ أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله...( ٥٠ ) ﴾( النور ).
ولقد زعم بعض العلماء أن الحكم الشرعي كان هو التخيير عند تحاكم غير المسلمين ثم نسخ وصار الحكم لازما، والحق أن التخيير لا يزال قائما بالنسبة لغير المسلمين الذين يطلبون حكم الإسلام من الحاكم المسلم لينفذوه في ديارهم، والتخيير ليتعرف الحاكم حالهم، فيحكم حتما إن كانوا طلاب حق، وله أن يرفض إن كان في قلوبهم مرض، ولا ضرر من الإعراض ولذلك قال سبحانه :﴿ وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا ﴾.
وإنه في حال الإعراض يصاب أولئك الذين يريدون الحكم لهواهم لا للحق في ذاته بخيبة أمل قد تحرك فيهم عناصر الضغينة والمقاومة، وإشاعة قالة السوء عن النبي صلى الله عليه وسلم فبين الله سبحانه وتعالى في ذكره الحكيم أنه لا تضره هذه الأفعال، وقد نفى سبحانه وتعالى الضرر نفيا مؤكدا ب "لن"، لبيان أنهم لا طاقة عندهم في أن يضروه، وكان نفي الضرر في هذا المقام له مغزاه، لأن احتكامهم إليه صلى الله عليه وسلم فيه نوع من المسالمة والإذعان في الظاهر لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إعلان للتصديق، فإذا أعرض، فقد يكون ثمة احتمال الضرر الذي ينال الدعوة الإسلامية، وشدة لجاجتهم في الباطل، فنفي الله سبحانه وتعالى ذلك الضرر لأن الإعراض يكون حيث يدرك النبي عليه الصلاة والسلام أنه لا مجال لأن ينفذوا ما يحكم به، وأنهم يريدون أن يطوعوا أحكامه لأهوائهم، أو يتأولوها بغير المقصود منها، فيكون أكرم للدعوة وأكرم لمقامه عليه الصلاة والسلام أن يذرهم في غيهم يعمهون، والله سبحانه وتعالى غالب على أمرهم.
﴿ وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ﴾ القسط هو : النصيب بالعدل الذي لا وكس فيه ولا شطط، وتوصف به الأعمال الطيبة فقد قال تعالى :﴿... ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط...( ٤ ) ﴾( يونس ). وقال تعالى :﴿ وأقيموا الوزن بالقسط...( ٩ ) ﴾ ( الرحمان ).
والقسط أخذ نصيب غيره، والإقساط إعطاء غيره نصيبه غير منقوص، ولذلك قال العلماء : إن القاسط هو الظالم، ولذا قال تعالى :﴿ وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا( ١٥ ) ﴾( الجن ). والمقسط هو العادل، ومنه قوله تعالى :﴿ إن الله يحب المقسطين ﴾. والمعنى الجملي للنص الكريم : إن اخترت أن تحكم بينهم لرجاء أن ينفذوا الحكم ويذعنوا له، فلا تتبع أهواءهم واحكم بالعدل والقسطاس المستقيم، وذلك العدل بين الله تعالى حكمه، وشرع لزومه في كتبه المقدسة فإذا كان هناك زنا فالقسط أن يحكم بالحد، لا فرق بين شريف وضعيف وقادر وغير قادر، بل الجميع أمام الحق على سواء، فالقسط هو إعطاء كل ذي حق حقه، وتنفيذ حدود الله تعالى بالمساواة، فلا يعفى منها شريف دون ضعيف، فإن في هذا هلاك الأمم، وذل الشعوب.
وقد ذيل النص الكريم بقضية عامة شاملة، وهي قوله تعالى :﴿ إن الله يحب المقسطين ﴾. وفي ذلك تزكية للعدل وتأكيد لطلبه فقد أكد الكلام بالجملة الاسمية و ب "إن" المأكدة، وبتصدير الكلام بلفظ الجلالة، وببيان أن محبة الله تعالى لا تكون إلا للعادلين المقسطين الذين لا يجورون، وكان التعبير ب "إن" في قوله تعالى :﴿ وإن حكمت فاحكم بينهم ﴾ وهي تفيد الشك في اختياره عليه الصلاة والسلام الحكم بينهم لأنهم ليسوا طلاب حق وإنصاف بل يريدون الحكم كما يهوون، والدليل على أن اليهود ليسوا طلاب حق أن التوراة التي بأيديهم فيها الحكم صريح في الموضوع الذي تحاكموا فيه.
٢ سبق تخريجه..
٣ كما في جامع البيان ج٦، ص١٤٠.
.
الكلام مستمر في بيان أوصاف الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم والذين غلبت عليهم الشقوة والضلالة، حتى صاروا لا يخضعون إلا لأهواء قوم لم يشرق في قلوبهم نور الإيمان، ولم تطمئن قلوبهم ببرد اليقين للإذعان للحقيقة بعد أن يعرفوها.
وقد انتقلت الآيات من التعميم إلى التخصيص، فخصت اليهود بوصف آخر غير أنهم سماعون للكذب بأنهم أكالون للسحت
الاستفهام هنا للتعجب واستنكار حالهم، أي أن حالهم حال مستنكرة. عندهم النص الصريح في القضية التي يتحاكمون فيها، ومع ذلك يلتمسون الحكم في غير ما عندهم رجاء أن يكون على ما يهوون ويبتغون، وإن كان غير ما يؤمنون فهم ممن اتخذ إلهه هواه، وممن يريدون أن يتبع الحق أهواءهم، لا أن تكون أهواءهم تابعة للحق تسير في مداره، ولا تخرج عن إطاره والتعجب والاستنكار يتجهان إلى أمرين :
أولهما أنهم يتحاكمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أن الحكم عندهم في التوراة صريح لا مجال للريب، فلماذا يعدلون عن تنفيذ ما عندهم إلى طلب شيء عند النبي عليه الصلاة والسلام، إلا أن يكونوا مؤمنين بصدق ما جاء به، وذلك لم يكن منهم.
والأمر التالي الذي هو موضوع الاستنكار والعجب أنهم يطلبون من النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يعرضون من بعد بيانه لهم. فهم متناقضون في جملة أحوالهم يطلبون الحكم ممن لا يؤمنون بدعوته، مع أن الحكم صريح فيما يؤمنون ثم يعرضون عن الحكم الذي يتلاءم مع ما عندهم.
ويلاحظ أن القرآن الكريم يقرر أن التوراة فيها حكم الله في المسألة التي يختصمون إلى النبي عليه الصلاة والسلام في أمرها، فهي تصديق للتوراة في تلك الجزئية، وهي إقامة حد الزنا دون غيرها، فليس لأحد أن يحتج بأن القرآن يقر أحكام التوراة التي كانت بأيدي اليهود في عصر النبي عليه الصلاة والسلام والتي بأيديهم في هذه الأيام، فإن تصديق ما بأيديهم في جزئية من الجزئيات لا يقتضي تصديقها في كل ما جاء بها مما في أيديهم، فقد نسوا حظا مما ذكروا به، وحرفوا الكلم عن مواضعه ولا شك أن التحريف لم يتناول الجميع، بل لا تزال فيها أثارة مما نزل على موسى.
ومن المباحث اللفظية في النص الكريم التعبير ب "ثم"، وبقوله تعالى "من بعد ذلك"، في قوله تعالى :﴿ ثم يتولون من بعد ذلك ﴾.
فإن التعبير ب "ثم"، والبعدية والإشارة للبعيد للتفاوت النفسي المنطقي الكبير والتراخي المعنوي بعد الاحتكام إلى النبي عليه الصلاة والسلام والإعراض عن قوله بعد أن بين حكم التوراة فيما يحتكمون، ولكن المنافق المبطل في مفارقات مستمرة بينه وبين الحق، والمنطق السليم والعقل المستقيم.
﴿ وما أولئك بالمؤمنين ﴾ في هذا النص الكريم نفي لصفة الإيمان المطلق عن اليهود وأشباههم ممن يجعلون الحق تبعا لأهوائهم، والله سبحانه وتعالى ينفي صفة الإيمان بأي عقيدة أو مذهب، لأن الإيمان يقتضي طلب الحق وإدراكه والإذعان له وهذه ليست صفات هؤلاء، فهم لا يطلبون حكم الحق بل يطلبون حكم الهوى، وأركسوا في الأهواء فلا يدركون، وبعدوا عن المنهاج المستقيم فلا يذعنون، فهم لا يؤمنون بالتوراة وإلا أذعنوا لحكمها، ولا يؤمنون بما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام لأنهم جحدوا قوله وناوءوه، وناصبوه العداء فهم لا يؤمنون بشيء.
والإشارة في قوله تعالى :﴿ وما أولئك بالمؤمنين ﴾ إليهم بأوصافهم كلها من أنهم لا تستمرئ أسماعهم إلا الكذب. ويأكلون أموال الناس بالباطل ويتميلون بالحق، ويفرقون في الحكم بين القوي والضعيف ومن كان هذا شأنهم لا يمكن أن يدخل شيء من الإيمان قلوبهم.. اللهم احفظ الناس من شرهم، وهبنا الإيمان الصادق والإذعان للحق.
ذكر سبحانه في الآيات السابقة ما عليه اليهود من أنهم كانوا سماعين للكذب، وأنهم يأكلون السحت، وأنهم لا يتبعون الحق في أحكامهم بل يجعلون الحكم تبعا لأهوائهم يفرقون في الأحكام بين الشريف والضعيف، والغني والفقير، والقوي المستعلي، والضعيف المستخذي، وأنهم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بعض قضاياهم راجين أن يكون عنده ما يرضي أهواءهم، فكشف الله سبحانه وتعالى خبيئة نفوسهم، وبين أن الحكم عندهم ثابت فيها، وأن الإسلام لم ينسخه، وقضى عليه الصلاة والسلام به أو أشار عليهم بإتباع ما عندهم في هذه المسألة إن كانوا طلاب حق، ثم بين سبحانه أن التوراة التي بأيديهم لا يزال بها ذلك لم يغيروه.
وقد بين سبحانه وتعالى من بعد ذلك مقام التوراة في الأحكام التي قررتها لليهود، وتململوا بها وخرجوا عليها وكان ذلك من أسباب ضياعهم، وقساوة قلوبهم. فقال سبحانه :﴿ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ﴾.
في هذا النص الكريم بيان لشرف التوراة قبل أن يحرفوها ومكانها من الحق، فبين سبحانه شرفها الذاتي، وشرفها الإضافي بين أنها منزلة من عند الله تعالى، فقال تعالت كلماته :﴿ إنا أنزلنا التوراة ﴾ هو سبحانه وتعالى المنزل لها، وأكد ذلك الشرف ب ﴿ إنا ﴾، وبإضافة ذلك التنزيل إليه تعالت كلماته وتقدست كتبه.
وبين سبحانه وتعالى شرفها الذاتي بما اشتملت عليه من هداية ونور، والهداية أو الهدى ما اشتملت عليه من بيان الأحكام في المعاملات والزواجر الاجتماعية وما يرشد إلى التطبيقات العملية، وأما النور فهو ما تشتمل عليه من مواعظ مبصرة، وأخلاق منيرة للحق، مقومة للسلوك مكونة للرأي العام الفاضل، وعبادات مطهرة للنفوس منيرة للقلوب، وبذلك تكون الهداية ما يتعلق بمعاملات الناس وتنظيم الجماعة والنور ما يتعلق بالعقيدة والعبادة والمواعظ، وسائر ما يتصل بالتوجيه النفسي وتطهير القلوب.
وقد فسرت الكلمتان بغير ذلك، فقد فسر الزمخشري كلمة "الهدى" بأنه : يهدي إلى الحق والعدل، و"النور" بما فيه بيان ما استبهم من الأحكام، والمؤدى على التفسيرين هو الرد على اليهود وبيان وجه العجب في قوله تعالى :﴿ وكيف يحكمونك ﴾ بأنهم لو كانوا طلاب حق فالتوراة عندهم فيها الهداية إلى العدل وهي كاملة في بيانه وتوضيحه لا تحتاج إلى مبين، ولا إلى موضح.
ويجب أن ننبه هنا إلى أن التوراة التي فيها هذه الأوصاف من أنها منزلة من عند الله، وأنها هدى ونور إنما هي التوراة التي لم يحرفوها، ولم يزيدوا عليها أو ينقصوا منها، فإنها دخلت فيها الزيادة والنقص عندما ضربت أورشليم١ بأيدي التتار والرومان، وحرقوها فلا يحتج بهذا الكلام للتوراة التي بأيدي اليهود وغيرهم في هذه الأيام، فقد نسوا حظا مما ذكروا به، وزادوا ما لم ينزل من عند الله.
﴿ يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون ﴾ التوراة الصادقة التي أنزلت من الله تعالى لم تكن شرائعها معطلة بل كانت ثابتة معمولا بها، والذين كانوا يعملون هم النبيون الذين جاءوا من بعد موسى، فقد كانت التوراة الشريعة التي ينفذون أحكامها، ولم يكن عندهم ما ينسخ شريعة التوراة أو يبدل أحكامها أو بعض هذه الأحكام، ولقد وصفهم الله تعالى بأنهم :﴿ الذين أسلموا ﴾ أي أخلصوا لله ولتنفيذ أحكامه، وأذعنوا للحق، ولا يحاولون أن يجدوا منه مناصا بتأويل أو بإرادة تخفيف لشريف وتشديد على ضعيف، وفي ذلك تعريض بما كان من اليهود من جعلهم للضعيف حكما صارما، وللشريف تهاونا ظالما، فإن خلق النبيين الإخلاص وهو الإسلام والانقياد وتنفيذ حكم الله تعالى بقلب سليم، فذكر وصف الإسلام للنبيين، لبيان ما أوتوا من شرف الإذعان وللإشارة إلى أن تنفيذ الأحكام من غير عوج ولا التواء هو خلق كل النبيين، ويقول بعض العلماء : إن ذلك تشريف لمعنى الإسلام إذ هو خلق الفضلاء وخلق النبيين الصديقين، ويقول الإمام ناصر الدين بن المنير الإسكندري في ذلك :"إن الصفة قد تذكر للعظم في نفسها، ولينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر، كما يكون تنويها بقدر موصوفها، فالحاصل أنه كما يراد إعظام الموصوف بالصفة العظيمة قد يراد إعظام الصفة بعظم موصوفها... فكذلك والله أعلم جرى وصف الأنبياء في هذه الآية بالإسلام تنويها به، ولقد أحسن الناظم في مدحه عليه الصلاة والسلام، إذ قال :
فلئن مدحت محمدا بقصيدتي* *فلقد مدحت قصيدتي بمحمد
فيقرر ذلك العالم الجليل أن وصف النبيين بالإسلام تنويه بشأنه، وإعلاء لقدره، إذ إن النبيين هم المصطفون الأخيار، فالصفات تعلو بهم، وهم قد علوا باختيار الله تعالى لهم.
وحكم هؤلاء الأنبياء الذين جاءوا من بعد موسى بالتوراة التي نزلت عليهم كان لليهود، فكانت فاصلا بينهم مقيمة الحق فيهم، فما بال اليهود يتململون من حكمها، ويخرجون عن سمتها، ويطبقونها على الضعفاء، ويعفون من أحكامها الزاجرة الأقوياء، إنما أهلكهم ذلك الجور، وهم لا يعيشون إلا في أزمان الجور، وحيث كان العدل أذلتهم أخلاقهم وأركستهم أهواءهم.
﴿ والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ﴾ وهذا النص يبين أن التوراة ما كان يطبق أحكامها النبيون فقط، حتى لا يقال لسنا كالنبيين، وإن تطبيقها مقصور عليهم، ولكن الذين يطبقونها من غير النبيين يتصفون بصفتين : الإخلاص والاتصال الروحي بالله، حتى يكون سمعهم الذي يسمعون به، وبصرهم الذي يبصرون به، والصفة الثانية : العلم الدقيق العميق، والإحاطة الكاملة بعلم الكتاب، بحيث لا يكونون ممن يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض وهؤلاء هم الربانيون والأحبار.
والربانيون هم المنسوبون إلى الرب، وقد قال في تفسير هذا اللفظ الأصفهاني في مفرداته :"والرباني قيل منسوب إلى الربان، لفظ فعلان من فعل يبنى، نحو عطشان، وسكران قلما يبنى من فعل، وقد جاء نعسان وقيل هو منسوب إلى الرب الذي هو المصدر وهو الذي يرب العلم كالحكيم، وقيل منسوب إليه، ومعناه رب نفسه بالعلم، وهما متلازمان لأن من رب نفسه بالعلم فقد رب العلم، ومن رب العلم فقد رب نفسه، وقيل هو منسوب إلى الرب أي الله تعالى، فالرباني كقولهم إلهي، وزيادة النون كزيادته في قولهم لحياني وجسماني، قال علي رضي الله عنه :"أنا رباني هذه الأمة".
وخلاصة ذلك الكلام : أن كلمة رباني إما منسوبة إلى الرب بمعنى تربية النفس وتهذيبها، وجعلها خاضعة لله تعالى ولمقتضى العلم والتهذيب، فهو قد صفى نفسه من أدران الهوى، وإما منسوبة إلى الرب الخالق المبدع المتصرف، أي أن الشخص قد جعل نفسه خالصا لله تعالى كإلهي، أي أنه عابد عبادة جعلت لكل شيء في نفسه لله تعالى، والمعنيان وإن افترقا في التصريف والاشتقاق متلاقيان في المؤدى، إذ المؤدى أن الربانيين هم الذين صفوا نفوسهم، حتى كانت لله تعالى خالصة لا تزيفها الأهواء ولا الشهوات، فالحق ملء قلوبهم، ولا يشغلها غيره٢، والأحبار هم العلماء جمع حبر أو حبر وهما لغتان، وهو مأخوذ من معنى التزيين والتحسين، لأن الحبر هو الأثر الحسن ذو الرونق، ويكون المعنى : الذين يجمعون العلم ويدرسونه ويزينونه بالقول الحسن والتطبيق الجيد، أو هو مأخوذ من الحبر مادة الكتابة لعنايتهم بتدوين علمهم وعرضه للناس، وإبقائه أثرا خالدا من بعدهم، والمفسرون على أن الربانيين والأحبار نوعان قد طبقوا حكم التوراة فالأولون صفت نفوسهم وربوها بالعلم والعبادة، والآخرون جمعوا العلم ورتبوه وعرضوه، وعلى هذا التفسير الذي يجعلهم نوعين متغايرين، نوجه القول فيه بأن الذين قاموا على التوراة صنفان : أحدهما جمع علمها واستخرج ينابيعها، وأحاط بها، وآخرون طبقوها في الأقضية أي أن الفقهاء وهم الأحبار قدموا خلاصة ما علموا نقيا محبرا تحبيرا جيدا، والآخرون وهم الربانيون طبقوه مجردين أنفسهم من كل شهوة وهوى، فالضعيف عندهم قوي، حتى يأخذوا الحق له والقوي منهم ضعيف حتى يأخذوا الحق منه، كما يفعل الربانيون من أمة محمد أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم رضي الله عنهم، وقدم الربانيون على الأحبار، لأنهم الذين يطبقون العلم على العمل، والمقام في الآية هو مقام التطبيق، فالعمل الواضح هو عمل الربانيين لأنهم الذين يحكمون بحكم التوراة، وقد خص الله تعالى الفريقين بقوله تعالت كلماته :﴿ بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ﴾.
"الباء" هنا متعلقة ب "يحكم"، أي أن النبيين والربانيين والأحبار يحكمون بما في التوراة لأنهم حملوا أمانة حفظ كتاب الله، بحيث لا يضيعونه، ولا يهملون أحكامه، وقد يقال إنها متعلقة بالربانيين والأحبار، على معنى أنهم أوتوا هاتين المنزلتين منزلة الربانية والعلم بسبب أنهم حملوا أمانة الكتابة وقاموا، و"استحفظوا" بالبناء المجهول فيه بيان أنهم بمقتضى ما منحوا من صفات عهد إليهم أمر المحافظة على كتاب الله المنزل على نبيه، والمراد بكتاب الله هنا التوراة، وعبر عنها بكتاب الله تعالى للإشارة إلى منزلتها إبان نزولها قبل تحريفها، وإلى شرف من يقومون بحفظها، وإلى مكان التكليفات والأحكام التي اشتملت عليها، والاستحفاظ هو الحفظ المطلوب، إذ إن السين والتاء للطلب، والمعنى : أن الربانيين والأحبار حفظوا كتاب الله تعالى بإلهامهم طلب الحق والعدل وتوجيههم نحو الخير، وكان حفظهم مؤكدا، لأنه استجابة لطلب الله تعالى الخبير، وحفظ الكتاب بعلم ما اشتمل عليه، ومنعه من الضياع والتحريف وتنفيذ الأحكام التي يأمر بها، وطاعته فيما ينهى.
وكان أولئك الربانيون والأحبار شهداء، أي رقباء يحافظون على نصوصه كاملة، ويشهدون بصدق ما نزل من عند الله، ويردون المحرف، وكانوا أيضا رقباء على تنفيذه، بحيث ينفذ من غير عوج.
﴿ فلا تخشوا الناس واخشون و لا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ﴾ الخشية هي الخوف مع تعظيم المخشي ومحبته، فليست مرادفة لمعنى الخوف، لأن الخوف أعم من أن يكون من مرهوب معظم محبوب أو مرهوب مبغض ذميم، أو فيه مهانة لا عظمة فيه، ولذلك عبر عن الأخيار بالنسبة لله تعالى بالخشية دون الخوف، ومن ذلك قوله تعالى :﴿... إنما يخشى الله من عباده العلماء... ( ٢٨ ) ﴾( فاطر ). وقوله تعالى :﴿... وخشي الرحمن بالغيب... ( ١١ ) ﴾( يس ). وقال سبحانه :﴿... ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ( ٢١ ) ﴾( الرعد ).
و"الفاء" في قوله تعالى :﴿ فلا تخشوا الناس واخشون ﴾هي للإفصاح، والمعنى : إذا كان الكتاب قائما وثابتا، ونفذه السلف والخلف إلى ما بعد عصر النبيين، فلا تخشوا الناس، والتعبير عن خوف الناس وملامتهم بالخشية من قبيل المشاكلة اللفظية، في مقابل قوله تعالى :﴿ واخشون ﴾ أي أن الله تعالى هو وحده الجدير بأن يخشى، كما قال تعالى :﴿ الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله... ( ٣٩ ) ﴾( الأحزاب ).
والخطاب موجه إلى اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم وعلمائهم، وفي الكلام يكون التفات إذ ا
.
٢ أي لا يشغل قلوبهم غير الحق..
هذا وصل لما ابتدأه الله سبحانه وتعالى من بيان مكانة التوراة التي أنزلت على موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، إذ قد بين سبحانه وتعالى أن التوراة فيها هدى ونور، وأنها قد طبقت أزمانا، وأن الذين طبقوها أنبياء موحى إليهم، وفقهاء استخلصوا أحكامها وأرشدوا الناس إلى معانيها مؤمنين بها، ونفذها ربانيون يحكمون بالحق مبتغين مرضاة الله تعالى، ولا يبغون عن الحق حولا.
وفي هذه الآيات يبين الله تعالى من شريعة القصاص، فقد قال تعالت كلماته :﴿ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين ﴾.
ومعنى النص الكريم أننا فرضنا وقررنا حكما مكتوبا خالدا غير قابل للمحو في أي عصر من العصور أن النفس مقابلة بالنفس تؤخذ بها، وتكون بدلا، النفس مأخوذة بالنفس أو أن النفس عنها فالباء هنا للمقابلة كمقابلة بين الثمن والبيع، فكما أن المقابلة تكون في البيوع تكون في النفوس إذا اعتدت وتصير نفس الجاني كأنها شيء من الأشياء وهو الذي أهانها.
وقوله تعالى :﴿ النفس بالنفس ﴾ يبين أن النفس بعمومها من غير تخصيص مقابلة بالنفس بعمومها من غير تخصيص، فالعبرة بالتساوي في الإنسانية، وفي النفس الآدمية، فلا تفاضل بين نفس غني وفقير، ولا نفس أمير وخفير، فالنفس بالنفس إن كان اعتداء، ونفس المرأة كنفس الرجل على سواء، ولا التفات لقول الشذاذ الذين قالوا : إن نفس المرأة دون نفس الرجل، وبمثل هؤلاء الشذاذ كان يقول بعض الطوائف من اليهود، كما أخبر ابن عباس رضي الله عنه، وكان ذلك النص الكريم للرد عليهم، وبيان الحق الذي جاءت به التوراة التي أنزلت على موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة و أتم التسليم.
وإن نفس الحر كنفس العبد بمقتضى ظاهر هذا النص الكريم، لأن كليهما يشترك في وصف الآدمية، وبذلك جاء الحديث النبوي الكريم :"من جوع عبده جوعناه، ومن قتله قتلناه"١ فإن هذا الحديث صريح في المساواة بين نفس الحر ونفس العبد، ولو كان القاتل له مالكه الذي يملكه.
وإن هذا غير رأي جمهور الفقهاء إذ أنهم ينظرون إلى مالية العبد، ولا ينظرون إلى آدميته، وأما الذين قرروا أن السيد يقتل في نظير العبد، وأن العبيد يقتص لهم من الأحرار بمقدار ما أجرموا، فإنهم نظروا إلى آدميته والمساواة في النفس الإنسانية من غير نظر إلى كونه مملوكا أو مالكا، ومن غير نظر إلى كونه رقيقا أو حرا.
ولنا أن نقرر أن المساواة في الدماء بين الأحرار والعبيد هي الأمر الذي يتناسب مع مقاصد الإسلام إذ إن مصادر الإسلام وموارده تقرر منع ظلم العباد الذين كتب عليهم الرق، ولا شك أن أبلغ الظلم أن يقتلوا، والنبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة أوصى بالرحمة بهم، ولا شك أنه من الرحمة بهم احترام نفوسهم وصيانة دمائهم، وأن الرق أمر عارض بالنسبة للعبيد ولا يصح أن يكون الأمر العارض مزيلا للمعنى الإنساني الأصيل بل هو ثابت فيهم لا يزول.
والنصوص العامة المتضافرة مثبتة وجوب القصاص في الأنفس من غير تفرقة بين نفس حر ونفس عبد، فالله تعالى يقول :﴿ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب... ( ١٧٩ ) ﴾ ( البقرة ). ويقول تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى...( ١٧٨ ) ﴾( البقرة ).
والمقابلات التي جاءت في الآية من بعد، إنما هي لبيان اتحاد الأنفس ولنفي ما كان عليه أهل الجاهلية من تفرقة بين النفوس، بدليل تضافر الفقهاء على قتل الأنثى بالرجل، والرجل بالأنثى خلافا لبعض الشذاذ.
وقد قال عليه الصلاة والسلام :"المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم"٢. ومن التكافؤ في الدماء أن يقتل الحر بالعبد المسلم، وقال عليه الصلاة والسلام :"دماؤكم وأموالكم حرام عليكم"٣، ولم يفرق بين عبد وحر، ولو كان الحر لا يقتل بالعبد، يكون ذلك في معنى إباحة دماء بعض المسلمين، وفوق ذلك ما ورد بالنص على أن المالك يقتل إذا قتل مملوكه الذي رويناه من قبل، والذي قرر أن العبد إذا قتله مولاه قتل به.
وقد استدل جمهور الفقهاء بما روي من أن علي بن أبي طالب قال :"إن رجلا قتل عبده عمدا متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة ونفاه عاما ومحا سهمه من المسلمين"٤، وما روي من أن عمر رضي الله عنه قال : لو لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :"لا يقاد المملوك من مولاه، ولا الوالد من ولده"٥. لأقدته منك يخاطب من قتل عبده.
وما روي من أبى بكر وعمر قالا : من قتل عبده جلد مائة، وحرم من سهم المسلمين. هذا ما استدل به جمهور الفقهاء، ونرى أنه لا يقف أمام عموم النص وأمام النص الخاص الذي رويناه، وفوق ذلك هو وارد في قتل المالك المملوك، وقد عارضه النص الصريح.
ولهذا نرى الأخذ بالمبدأ الإسلامي العام الذي يقرر حقوق العبيد على مواليهم ويحدد حقوق الموالي وليس منها إباحة دمائهم.
﴿ والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن ﴾ هذا النص فيه القصاص بين الأطراف، فالعين تفقأ بالعين، أي أنها في مقابل العين أيضا، ف "الباء" هنا باء المقابلة التي تدل على أن شيئا في مقابل شيء، وهي تدخل على المتروك، فالنفس المجني عليها تؤخذ بها النفس الجانية، والعين المجني عليها تؤخذ بها عين الجاني، وكذلك أنف الجاني تؤخذ بالجدع في نظير أنف المجني عليه، وكذلك أذن الجاني تصلم٦، في نظير أذن المجني عليه، وكذلك سنه بسنه، ومثل هذه في الحكم اليد باليد والرجل بالرجل والإصبع بالإصبع وهكذا كل طرف من الأطراف يمكن أن يجري فيه القصاص، فالقصاص ليس مقصورا على ما اشتمل عليه النص من العين والأنف والأذن والسن، بل يشمل هذا وغيره مما يمكن أن يتحقق فيه معنى القصاص، وقد أيدت ذلك النصوص القرآنية، فالله تعالى يقول :﴿... فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم...( ١٩٤ ) ﴾( البقرة ).
وهنا يجري القول في تساوي الأعضاء بالنسبة للأشخاص، فأشخاص النساء كالرجال والأحرار كالعبيد على النحو الذي بينا من حيث قاعدة المساواة المطلقة في الإنسانية المعتدى عليها، وقد خالفنا بذلك النظر جمهور الفقهاء بالنسبة للمساواة بين الأحرار والعبيد، ووافقنا جمهورهم في المساواة بين الذكر والأنثى، وقررنا أن الذين خالفوا في ذلك من الشذاذ، كالطائفة التي قالت ذلك من بني إسرائيل، بل جاء النص الكريم الذي نتصدى الآن للكلام في معناه يرد الحق إلى نصابه، ويبين أصل الحكم في التوراة التي نزلت على موسى.
وجمهور الفقهاء على أن من يجري القصاص فيه في النفس يجري القصاص في الأطراف بالنسبة له، فأطراف المرأة كأطراف الرجل على سواء بينهما فإذا فقأ عين امرأة تفقأ عينه، وإذا كسر ثنية امرأ ة تكسر ثنيته.
وقد خالف فقهاء الحنيفة جمهور الفقهاء، فلم يقرروا المساواة بين أطراف الرجل وأطراف المرأة وبنو ذلك على قياس عندهم قرروا فيه، أنه يلاحظ في الأطراف المنافع، ولا شك عندهم في منافع الأطراف عند النساء دون منافع الأطراف عند الرجال.
وفي الحق أن رأي الحنفية بنوه على قياس في معان ارتأوها، فقالوا : إن العبرة في الأطراف بمنافعها، ومنافع أطراف المرأة دون منافع أطراف الرجل، وإن الرأي لا يقف أمام عموم النصوص والنصوص العامة لا تخصص بالقياس، على أن القياس في ذاته غير سليم، لأن من المنافع المؤكدة ألا يكون الجسم شائها، والتشويه أضر بالمرأة من الرجل.
وقبل أن نترك الكلام في القصاص في النفس والأطراف لا بد أن نشير إلى أمور ثلاثة :
أولها : أن جمهور الفقهاء قرروا أن الجماعة تقتل بالواحد، وقد يقول قائل : إن ذلك لا يتفق مع معنى القصاص الذي أساسه التساوي فلا تساوي بين الواحد والجماعة، وبذلك قال بعض الفقهاء، والحق ما عليه الجمهور، لأن كل واحد من الجماعة قد اشترك في القتل، فيسمى قاتلا وقد أزهق نفسا فتؤخذ بها نفسه، ولأنه اعتدى على حق الحياة، فكان الجزاء أن تؤخذ حياته، ولأن من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا، وقد قال سبحانه :﴿ أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا... ( ٣٢ ) ﴾ ( المائدة ).
وإن القصاص شرع للزجر العام، ولحفظ الدماء، ولو أعفي الشركاء في القتل من القصاص لكان من السهل على من يريد قتل إنسان أن يشرك معه غيره، فلا يكون قصاص من أحدهما، ولذلك شدد عمر وغيره من الصحابة في ضرورة قتل الجماعة بالواحد، وقد روي أن رجلا قتله جماعة بصنعاء فاقتص عمر رضي الله عنه منهم، وقال رضي الله عنه :"لو تمالأ أهل صنعاء عليه لقتلتهم به".
ثانيها : أن المساواة في الأطراف من حيث السلامة لازمة للقصاص، فلا تقطع السليمة في مقابل المعيبة ولكن لا يشترط التساوي من حيث القصر والطول، ولا من حيث الضعف والقوة، مادام كلتا الجارحتين سليمة.
وحيث يتعذر التساوي لا يكون القصاص بل تكون الدية، ويجب مع ذلك التعزير شفاء لغيظ المجني عليه.
ثالثها : أن بعض الذين لا يدركون الأمور على وجهها يقولون : إن القصاص في الأطراف يكثر المشوهين ويقلل المنافع ويضعف إنتاج الأمة، والجواب عن ذلك أن القصاص في الأطراف من شأنه أن يقلل التشويه ويكثر النفع، لأنه إذا علم المعتدي أنه سيقطع طرفه إن قطع طرف غيره، وأنه ستفقأ عينه إذا فقأ عين غيره، فإنه سيكف عن الاعتداء وبذلك تصان الجوارح جميعا، فلا يكون إيذاء، وبذلك يقلل عدد المشوهين ولا يكثر، ويكثر النفع ولا يقل.
﴿ والجروح قصاص ﴾ والجروح غير قطع الأطراف المتميزة التي يجري فيها التماثل مثل الشجاج بكل مراتبها، ومثل الجروح في أجزاء الجسم، وفصل بعضها عن بعض، والقصاص المقاصة أي العقوبة بما يساوي الجريمة وما أنزلت من أذى، والمعنى هنا أن الجروح ذات قصاص أي يجري فيها القصاص بالمساواة بين الجريمة وعقوبتها على أن تكون من جنسها وفي الموضع الذي كان فيه الجرح فإن تعذر التساوي فإنه تكون دية الجريمة ويعبر الفقهاء عن العويض بالأرش.
والتعزير مع هذا ثابت شفاء لغيظ المجني عليه، ومنعا لإهدار الدماء بالثارات وتبادل الأذى.
والقصاص يجري في الجروح إذا أمكنت المساواة على ما أسلفنا، ومهما يكن فالقصاص متى أمكن ولو بالتقارب أولى، فإن المساواة من كل الوجوه غير ممكنة فإن الأجسام متفاوتة وآثار الجروح فيها متفاوتة والأذى فيها غير ثابت المقدار حتى يقاس بالأشبار.
ولا شك أن القصاص الممكن، والتعزير مع الأرش٧، إن لم يكن هو أقرب إلى العدالة وإلى حقن الدماء، واحترام الأنفس والمحافظة على الكرامة الإنسانية والمساواة هو الأردع للجناة فإن من يعرف أنه ستشج رأسه إذا شج رأس غيره لا يقدم على الأذى، بل يتردد، وأنه كلما كانت العقوبة من جنس الجريمة كان ذلك مع عدالته أشد زجرا وتأثيرا وإنه من يوم أن تغيرت العقوبة عن الجريمة استهين بالأنفس والأطراف وأهدرت الدماء.
وهناك أمر اختلف فيه الفقهاء : أيجري القصاص في الضرب كما يجري في الجروح ؟ الظاهر ذلك من روح الشريعة وما تومئ إليه نصوصها وهو ما كان يسير عليه السلف الصالح رضي الله عنهم، وقد قاله بعض الحنابلة
٢ سبق تخريجه..
٣ جزء من حديث رواه البخاري: العلم- رب مبلغ (٦٧)، ومسلم: القسامة والمحاربين تغليظ تحريم الدماء والأموال والأعراض (١٦٧٩)..
٤ عن علي وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "قتل رجل عبده عمدا متعمدا فجلده رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين"، رواه ابن ماجه: الديات- هل يقتل الحر بالعبد (٢٦٦٤). والسهم النصيب من الغنيمة.
.
٥ روى أحمد: مسند العشرة (٩٩) عن مجاهد قال: حذف رجل ابنا له بسيف فقتله، فرفع إلى عمر فقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقاد الوالد من ولده لقتلتك قبل أن تبرح".
.
٦ أي تقطع أذنه، والصلم الاستئصال والأصلم: مقطوع الأذن وهي صلماء، والجمع: صلم (الوسيط- صلم).
.
٧ الأرش: ما يؤخذ عوضا عن كسر أو جرح. روى البخاري: الصلح- الصلح في الدية (٢٧٠٣) عن أنس أن الربيع وهي ابنة النضر كسرت ثنية جارية وطلبوا العفو فأبوا فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالقصاص فقال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع يا رسول الله لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال: "يا أنس كتاب الله القصاص"، فرضي القوم وعفوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" زاد الفزاري عن حميد عن أنس: فرضي القوم وقبلوا الأرش..
ذكر الله سبحانه وتعالى ما يتعلق بالتوراة من وجوب التزام أحكامها وتنفيذها وأنه قد نفذت تلك الأحكام على يد النبيين، وطبقوها على أكمل وجوه التطبيق، وجاء من بعدهم العلماء الذين فقهوا معانيها ودونوا فقهها، والقضاة الذين خلصوا أنفسهم من أدران الهوى، وسلطان الشهوات حتى صاروا ربانيين يقومون على الحق والقسط، ويشهدون الله على ما يفعلون فهم شهداء الله تعالى، لا يخضعون لغيره، ولا يريدون إلا رضاه ولا يبتغون غير سبيله سبيلا.
وفي هذا النص الكريم يذكر سبحانه أن عيسى عليه السلام جاء من بعدهم يصدق ما بين يديه من التوراة، وأتى معه بالإنجيل وفيه أحكام مقررة للتوراة، أو ناسخة أو مبينة وأن على أهل الإنجيل الذين نزل عليهم وخوطبوا به أن يطبقوه، حتى تأتي الأحكام الخالدة المقررة الثابتة إلى يوم القيامة التي نزلت بها شريعة القرآن كما ستدل على ذلك النصوص القرآنية التالية
﴿ وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة ﴾ أي أرسلنا من بعد الذين حكموا بالتوراة من النبيين كداود وسليمان ومن قبلهما ومن بعدهما بعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام مقتفيا آثارهم مصدقا لما بين يديه من التوراة... وهنا بحوث لفظية تتبين من ذكرها معاني النص الكريم :
أولها : في معنى "قفينا"، فقد قال علماء اللغة ومفسرون البيان : إن "قفى" معناه عقب، ويقال قفتيه بكذا أي أتبعته به، وهنا نجد المفعول محذوفا، فلم يكن النص قفيناهم بعيسى ابن مريم، و حذف لأن كلمة ﴿ على آثارهم ﴾ تدل على المحذوف، إذ إن المحذوف هو النبيون السابقون الذي يحكمون بالتوراة، وكلمة "على آثارهم" تدل على أنهم هم الذين اقتفيت آثارهم.
وذكر كلمة "على آثارهم" تدل على أن عيسى عليه السلام لم يكن بدعا من الرسل، بل سبقه آخرون سلك مسلكهم في إقامة التوراة وما بقي منها غير منسوخ بحكم ما جاء في الإنجيل، وآثار أولئك النبيين هي الحكم الخالص لله الذي اتبعوه في تنفيذ أحكام التوراة فآثارهم معنوية وليست مادية.
وقال علماء الاشتقاق في اللغة : إن كلمة قفى مأخوذة من القفا، وهو مؤخر الرقبة، يقال : قفا أثره إذا جاء من ورائه واتبعه في سيره حسا، ثم صار يطلق على السير وراءه معنى، كالشأن في كثير من الألفاظ التي تدل على معان حسية فإنها تنتقل من بعد إلى مدلولات معنوية.
ثاني الأمور البيانية : هو في ذكر عيسى في القرآن الكريم مقرونا بكلمة "ابن مريم"، لأن ذلك يتضمن ولادته الحسية منها، وأنه قد تكون جسمه من جسمها كسائر كل المولودين من أمهاتهم، وفي ذلك إشارة إلى أنه محدث ككل المحدثات وأنه كان من بعد أن لم يكن، وأنه لا نسب له إلا من جهة أمه البتول عليها وعليه السلام، فليس له أب، وليس ابن الله تعالى، بل هو ابنها وحدها، ولا نسب له إلا إليها.
ثالثها : قوله تعالى :﴿ مصدقا لما بين يديه من التوراة ﴾. وتصديق سيدنا عيسى للتوراة، لأنها كتاب في أصلها منزل من عند الله تعالى، فعيسى عليه السلام يصدق أصل نزولها، وينفذ أحكامها إلا ما جاء نسخه في الإنجيل منها، ولو سايرنا الواقع عند النصارى في هذه الأيام لكان لذكر كلمة التصديق في هذا المقام معنى أعمق من مجرد التصديق بأصل النزول بل بالتنفيذ لأن الإنجيل ليس فيه أحكام عملية كثيرة، فأحكام الأسرة كلها مأخوذة عند النصارى من التوراة وليس ثمة نص قاطع في الأناجيل التي بين أيدينا يغاير ما جاء في التوراة من أحكام تتعلق بالأسرة، ولا بأحكام العقوبات من حدود وقصاص، ولقد رويت عبارات عندهم منسوبة للمسيح عليه السلام، تدل على العمل بأحكام التوراة، مثل عليه الصلاة والسلام :"ما جئت لأنقض الناموس" وهو التوراة، ولعل التعبير بآثارهم يدل من بعد أو قرب على معنى هذا التصديق العملي، فضلا عن التصديق الاعتقادي والقولي.
وكلمة "بين يديه" تعبير قرآني، للدلالة على أن التوراة كانت حاضرة قائمة وقت مجيء عيسى عليه السلام وعلمها عنده، وهو علم خال من التحريف والتبديل أوحى الله تعالى به إليه، ولفظ بين يديه في دلالته على الأمر المهيأ القائم من الاستعارات الرائعة، ومضمونها أن الأمر معلوم علما يقينا لعيسى ابن مريم عليه السلام كعلم المحسوس يكون موضوعا بين يديه.
ومن الفروق الدقيقة أن الله تعالى عبر عن مجيء عيسى بالإنجيل بقوله تعالت كلماته :﴿ وقفينا على آثارهم ﴾. وعندما أخبر عن مجيء محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن قال تعالت كلماته :﴿ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه... ( ٤٨ ) ﴾( المائدة ). فهو ليس منفذا ولكن هو مسيطر وحاكم على ما سبق من كتب.
﴿ وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة ﴾ عقب السيد المسيح عليه السلام الأنبياء الذين نفذوا أحكام التوراة وطبقوها تطبيقا دقيقا من غير هوادة، ولا ظلم، ولا شطط مع الضعفاء ومحاباة للأقوياء وقد أعطاه الله تعالى قوة في رسالته، فأعطاه كتابا هو الإنجيل وهو البشارة برحمة الله تعالى، والبشارة بمجيء نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم والتعبير ب "آتيناه الإنجيل" فيه إشارة إلى تقوية ما جاء به، وإشارة إلى أنه ليس كل ما في التوراة نافذا وإن كان جله نافذا، وخصوصا ما يتعلق منه بتنظيم المجتمع في كل درجاته من الأسرة الصغرى إلى الأسرة الكبرى، وهي الإنسانية في أقاليم الأرض، فالإنجيل قد جاء بشريعة متممة لما جاء في التوراة من غير نقض لها.
وقد وصف الله سبحانه الإنجيل بأوصاف ثلاثة وبين أنه مشتمل على أمرين، وجملة ما ذكر القرآن الكريم تعالت كلمات الله أن فيه خواص خمسا، وهي أن فيه هدى، وأن فيه نورا، وأنه مصدق للتوراة وأنه هو ذاته هدى وأنه موعظة للمتقين.
ولنتكلم بكلمات موجزات في معاني كل خاصة من هذه الخواص، لتتبين المغايرة بينها، ولتتميز كل خاصة عن أخواتها وإن كانت متقاربة في معانيها، ومتلاقية في غايتها :
والخاصة الأولى : أن فيه هدى، أي أنه اشتمل على الهدى، وهو الدلالة الحق على تنزيه الله تعالى ووحدانيته وأنه المستحق للعبادة وحده، وأنه ليس بوالد ولا ولد، وأن عيسى هو ابن مريم وحدها، ونسبه إليها، وليس له لله تعالى نسبة، إلا أنه خلقه بكلمة كن فيكون، فهو بهذا المعنى كلمة الله تعالى، وقد ألقاها إلى مريم وروح القدس وهو جبريل الذي بلغها، وفيه بيان أن عيسى عليه السلام رسول الله تعالى وقد خلت من قبله الرسل.
وهذه الهداية تقرير للحقيقة الثابتة من مبدأ الوجود، لأنها تدل على صفات منشئ هذا الوجود.
أما الخاصة الثانية : فهي أنه مشتمل على نور مرشد موجه هاد، فإذا كانت الخاصة الأولى مقررة لأمر ثابت قد وقع، فالخاصة الثانية مثبتة لأمر آخر يتعلق بالمستقبل، وهو أنه يضيء وينير لتمييز الحق من الباطل، وبين ما جاءت به رسالة المسيح من دعوة البشر إلى الخير وإلى صراط مستقيم فالإنجيل بإضافة هذه الخاصة إلى سابقتها يكون مشتملا على أمرين : أولهما تقرير للحقيقة الثابتة الخالدة، وهي وحدانية الله تعالى في الإنشاء والتكوين والذات والعبادة، وثانيهما : أنه مرشد إلى مكارم الأخلاق ومنير العقول لإدراك المستقبل ويدخل في ذلك بشارته بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو "البارقليط" كما جاء في نسخة متى، وكما قال تعالى على لسان عيسى عليه السلام :﴿... ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد...( ٦ ) ﴾ ( الصف ).
والخاصة الثالثة : وهي وصف لذات الإنجيل، وقد ذكرها سبحانه بقوله تعالى :﴿ مصدقا لما بين يديه من التوراة ﴾ أي أن الإنجيل قد كان بذاته مصدقا للتوراة من حيث صدق نسبتها إلى الله تعالى قبل تحريفها، وقبل أن ينسوا حظا منها. ولا تكرار في وصف التصديق لأن ما ذكر أولا كان وصفا لعيسى عليه السلام إذ قال سبحانه :﴿ وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا ﴾. وأما ما ذكر هنا فهو وصف للإنجيل نفسه، وكأن التصديق من جانب عيسى عليه السلام للتوراة جاء من ناحيتين، من عيسى ومن الإنجيل ذاته، وتلاقي التصديقين يفيد إقرار أكثر أحكام التوراة الاجتماعية والقانونية، ويفيد أن رسالة الرسل متصلة موصولة، حتى يختمها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو خاتم النبيين، وآخر لبنة في صرح الرسالات الإلهية.
والخاصة الرابعة : وهي من صفاته الذاتية أنه هو ذاته هدى، وسبب وصفه بهذا الوصف بعد ذكر أنه قد اشتمل على هدى ونور هو استمرار الهدى له، وللإشارة إلى أنه منزل من عند الله تعالى، وهو بهذا الوصف يكون فيه دلالة ذاتية على الحق، ولأنه بشارة بنبي يرسل من بعد عيسى اسمه أحمد، وكان الهدى في هذا المقام وصفا ذاتيا، لأنه مأخوذ من اسمه إذ إن الإنجيل معناه البشارة ولعله سمي إنجيلا لأنه الكتاب المنزل الذي كان فيه البشارة المباشرة بمحمد صلى الله عليه سلم بعبارات إن لم تكن صريحة فهي واضحة كالصريحة.
والخاصة الخامسة : أنه "موعظة للمتقين" والموعظة هي التذكير بما يرق له القلب، وتصفو به النفس ويستقيم به العمل، فقد قال الخليل بن أحمد في تفسير الوعظ :"هو التذكير بما يرق له القلب ) والإنجيل كان كذلك، لأنه توجيه بني إسرائيل ومن كان على شاكلتهم من الماديين الذين أركستهم المادة واستولت على قلوبهم، إلى الحياة الروحية والتهذيب النفسي وجعل الروح هي المسيطرة من غير ترك لحظوظ الدنيا المباحة التي لا تستغرق النفس.
ومن أجل ذلك وصف بأنه موعظة ولكن لا يستفيد منه إلا الذين امتلأت نفوسهم بالخوف ورجاء ما عند الله، وهم طالبو الحق المهتدون، لأنهم هم الذين يستفيدون من العلم الذي يلقى، فالنفوس أقسام ثلاثة : قسم يطلب الحق، ويثمر فيه بيانه، وقسم يجمد على ما عنده، ويكون صلدا لا ينفذ العلم إلى قلبه إذ تحول بينه وبينه غشاوة من الباطل فهو أغلف، وقسم متردد حائر، تسيره الأجواء التي تحكمه وتسيطر عليه، ولا شك أن الذي يستفيد من المواعظ هو طالبها المتقبل لها، الذي تتشبع نفسه منها، وأولئك هم المتقون، وأما القسم الثالث، فإنه ترجى له الهداية رجاء غير محقق، وإن مثل العلم النافع لمثل الغيث لا ينتفع منه إلا الأرض الطيبة التي تخرج نباتها بإذن ربها، والعلم لا ينتفع به إلا القلوب الطاهرة التي لم ترنقها أغراض الدنيا وأهواؤها.
ذكر الله سبحانه وتعالى ما يتعلق بالتوراة من وجوب التزام أحكامها وتنفيذها وأنه قد نفذت تلك الأحكام على يد النبيين، وطبقوها على أكمل وجوه التطبيق، وجاء من بعدهم العلماء الذين فقهوا معانيها ودونوا فقهها، والقضاة الذين خلصوا أنفسهم من أدران الهوى، وسلطان الشهوات حتى صاروا ربانيين يقومون على الحق والقسط، ويشهدون الله على ما يفعلون فهم شهداء الله تعالى، لا يخضعون لغيره، ولا يريدون إلا رضاه ولا يبتغون غير سبيله سبيلا.
وفي هذا النص الكريم يذكر سبحانه أن عيسى عليه السلام جاء من بعدهم يصدق ما بين يديه من التوراة، وأتى معه بالإنجيل وفيه أحكام مقررة للتوراة، أو ناسخة أو مبينة وأن على أهل الإنجيل الذين نزل عليهم وخوطبوا به أن يطبقوه، حتى تأتي الأحكام الخالدة المقررة الثابتة إلى يوم القيامة التي نزلت بها شريعة القرآن كما ستدل على ذلك النصوص القرآنية التالية
في هذا النص الكريم قراءات نذكر منها قراءتين في قوله :"وليحكم" : أولاهما : قراءة حمزة بكسر اللام وفتح الميم١، وتكون اللام للتعليل، ويكون في مقام العطف على ما سبق، لأنه في معنى التعليل ويكون المعنى على هذه القراءة :( وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين. وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل فيه )، وأهل الإنجيل هم من عاصروا المسيح عليه السلام، ومن جاءوا بعدهم حتى بعث محمد صلى الله عليه وسلم، إذ يجب العمل بشريعته حتى يجيء ما ينسخها، فالعمل واجب بشريعة الإنجيل من أهل الإنجيل فلما جاءت شريعة محمد عليه الصلاة والسلام صاروا أهل شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
والقراءة الثانية بسكون اللام، وسكون الميم على أن اللام للأمر٢، وسياق الكلام على هذا يوجب تقدير محذوف، وهو ( قلنا ) مثلا ليكون متقابلا مع أهل التوراة الذين قال تعالى فيهم :﴿ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس...( ٤٥ ) ﴾( المائدة ). فالمعنى : وقلنا ليحكم أهل الإنجيل. وعلى هذا التقدير يكون العمل بالإنجيل سابقا على نزول القرآن.
وإذا لم تقدر كلمة قلنا، فإن الكلام لا يدل على بقاء شريعة الإنجيل للنصارى، وذلك لأنه بعد بعث محمد صلى الله عليه وسلم صاروا هم أهل القرآن لأنهم هم الذين يخاطبون برسالته ومعهم غيرهم من الخليقة، فكل الذين يدركون نبيا هم أهل رسالته التي يخاطبون بها، لا فرق بين قريب دان، وبعيد قاص، وأيضا فإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم قد نسخت ما يخالفها مما سبقها، إذ شريعة القرآن هي المهيمنة على ما عداها، كما قال تعالى :﴿ وأنزلناك إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ﴾. وهذه الهيمنة توجب العمل بما أقره من الكتب السابقة، وبطلان العمل بما نسخه منها الإنجيل الذي له تلك الأوصاف السابقة هو الذي لم يجر فيه التحريف، وهو خاص بالحكم فيما قبل البعث المحمدي.
﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ﴾ في هذا النص الكريم الحكم على من لم يحكم بما أنزل الله تعالى بالفسق، أي الخروج عن جادة الحق، والسنن المستقيم والخلق الكريم، وكان الحكم بالفسق هنا مناسبا لمواعظ الإنجيل الذي نزل على عيسى وهدايته، لأن تعريف القرآن الكريم له فيه إشارة إلى ما اشتمل من أخلاق روحانية قويمة، وهداية سليمة والمناسب لمن لم يحكم به أن يكون فاسقا خارجا شاذا تاركا لمعاني الإنسانية الروحانية العالية، وهنا بحث لفظي يتكون من عناصر ثلاثة :
أولها : أن التعبير ب "من" يدل على الجمع هنا بدليل قوله تعالى :﴿ فأولئك هم الفاسقون ﴾ لأن أولئك إشارة إلى الجمع، وهم ضمير الجمع، وكأن التعبير بالموصول للدلالة على أن الحكم الفردي كالحكم الجماعي، فكل من تتحقق فيه الصلة، وهو ألا يحكم بما أنزل الله تعالى يكون فاسقا آحادا أو جماعات.
ثانيها : أن المراد بالحكم يشمل حكم القضاء وحكم العمل، فمن لم يعمل بما جاء في الإنجيل، وهو من أهله فقد فسق عن أمر ربه.
ثالثها : أن النص يفيد أن علة استحقاقه لوصف الفسق هو أنه لا يحكم بما أنزل الله تعالى.
والحكم بالفسق شرطه ألا يكون ثمة جحود لما أمر الله وإلا كان كفرا.. اللهم ثبتنا على قول الحق والعمل به، واكتبنا في عبادك الصالحين.
٢ السابق.
.
هذا تتميم لما ذكره سبحانه وتعالى من كتب، وبيان تعاقب الرسل المعروفين ذوي الشرائع التي سنت الأحكام وعبدت المناهج، فقد ذكر سبحانه وتعالى أنه أنزل التوراة وشرع ما فيها من أحكام، وأن على أهل التوراة أن يحكموا بها، ثم أعقب الإنجيل التوراة، وأتى بأحكام يجب تنفيذها، وأكد ما اشتملت عليه التوراة مما لم يجيء نسخ بها، وأتم الله سبحانه وتعالى البيان بذكر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وبه تمت الرسالة الإلهية وكملت شرائع الله تعالى وقد قال تعالت كلماته :
﴿ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ﴾ في هذا النص السامي نجد بعض إشارات بيانية تشير إلى مكانة القرآن بين الكتب السماوية وتبدو هذه الإشارات في ثلاث نواح :
الناحية الأولى : أنه سبحانه لم يقل وقفينا على آثارهم بمحمد أو نحو ذلك، بل بين سبحانه أنه أنزل الكتاب، وفي ذلك إشارة إلى معنى استقلاله، وأنه لم يكن فيه تبعية لغيره من الكتب، بل هو مستقل بالمكانة منفرد بها من غير تبعية، أيا كان نوعها، وأيا كان مقدارها، وذكر الكتاب دون ذكر النبي صلى الله عليه وسلم صراحة للإشارة إلى مكانة الشريعة الإسلامية وكتابها الكريم الباقي والخالد إلى يوم القيامة، وهو معجزة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا ذكرها سبحانه في مقام الإكبار والتفخيم يكون بيانا لمكانة الرسالة المحمدية، وبيان أن حجتها أقوى الحجج، وأشدها تثبيتا، وأبقاها في هذا الوجود، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الكتاب من غير تعريف سوى ذلك، و"أل" كما قال علماء اللغة للعهد، وفي ذلك إشارة إلى كماله، أي أنه "الكتاب" الذي هو جدير باسم الكتاب، بحيث إذا أطلق اسم الكتاب لا ينصرف إلا إليه، لأنه الفرد الكامل من بين الكتب في هذا الوجود.
وقد زاده الله تعالى شرفا فنسب الإنزال إليه سبحانه، وفي ذلك تأكيد لمنزلته العالية السامية.
الناحية الثانية : من الإشارات البيانية المبينة لمكان القرآن هو بيان أنه سجل الرسالات السابقة، والشاهد بصدقها فهو مصدق لكل الكتب السابقة، المنزلة قبل تحريفها، وفيه دلائل نبوة الأنبياء السابقين، ومعجزاتهم والكتاب الآخر في قوله تعالى :﴿ مصدقا لما بين يديه من الكتاب ﴾ هو جنس الكتب السماوية السابقة، ف ( أل ) فيه للجنس، أي أنه في القرآن الكريم الدلائل المثبتة لصدق ما يصح أن يسمى كتابا سماويا من الكتب السابقة بما فيها الإنجيل والتوراة والزبور، ويصح أن يكون ( أل ) للعهد أيضا، وهو العهد الذكرى إذ ذكر من قبل كتابان من الكتب السماوية وهما التوراة والإنجيل، وعبر عنهما بالكتاب باعتبار الجنس، ولأن كليهما متمم للآخر فهما في معنى كتاب واحد.
والناحية الثانية : مما يدل على مكانة القرآن هو أنه يهيمن على الكتب السابقة، فقد قال تعالى في مقامه بالنسبة لغيره من كتب السماء :﴿ ومهيمنا عليه ﴾. والمعنى أنه حاكم بصحة ما فيه، وشاهد بصدقه ومقرر لمعانيه الباقية التي لم يعتريها نسخ، وفق ذلك يتبين الصحيح الذي نزل، ويشير إلى المحذوف الذي حذفه الأخلاف، إذ نسوا حظا مما ذكروا به، وهناك قراءة بفتح الميم، ذكرها الزمخشري في الكشاف١، ويكون المعنى أنه ( مهيمن ) عليه أي مراقب محفوظ، كما قال تعالى :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ( ٩ ) ﴾( الحجر ). وقد وضح الزمخشري المعنى على هذه القراءة بقوله رضي الله تعالى عنه :"أي هومن عليه بأن حفظ من التغيير والتبديل، كما قال تعالى :﴿ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه... ( ٤٢ ) ﴾( فصلت ). والذي هيمن عليه الله عز وجل أو الحفاظ في كل بلد، لو حرف منه أو حركة أو سكون لتنبه له كل أحد، ولاشمأزوا رادين ومنكرين".
أي أن الله تعالى هيمن عليه وحفظه إلى يوم الدين والحفاظ للقرآن جيلا بعد جيل هم بتوفيق الله تعالى شاهدون مانعون لكل تغيير وتبديل، لأنهم يحفظونه في صدورهم، ولا يتركونه للقرطاس الذي قد يرد عليه المحو والإثبات والتغيير والتبديل، وبذلك اختص القرآن بالصيانة من بين الكتب السماوية، وهو قد حفظه بنصه وقراءاته، وطريق تلاوته، فالله سبحانه وتعالى هو الذي رتله ترتيلا، بتعليم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كما قال تعالى :﴿ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا( ٣٢ ) ﴾( الفرقان ).
﴿ فاحكم بينهم بما أنزل الله ﴾ الفاء هنا للإفصاح لأنها تومئ إلى شرط مقدر، والمعنى على هذا : إذا كان الكتاب قد أنزل إليك من لدن الله العلي القدير عالم غيب السماوات والأرض، وأنه يهيمن على الكتب السابقة ومحفوظ بحفظ الله تعالى إلى يوم الدين، فاحكم بين اليهود والنصارى ومن يعاصرونك من الناس بهذا الذي جاء به، لأنه نزل لتحكم به أنت ومن يتولى الحكم من بعدك، ولم يقل سبحانه وتعالى لتحكم به، بل ترك الضمير وعبر بالموصول للإشارة إلى أن السبب الموجب للحكم أنه منزل من عند الله، إذ إن الموصول إذا كان في ضمن حكم تكون الصلة هي علة الحكم، والسبب فيه وعلى ذلك يكون حكم القرآن وهو حكم الله تعالى الذي لا يختلف باختلاف العصور، ولا يتغير بتغير الأوقات، لأنه شريعة الله الذي هو بكل شيء عليم، يعلم الناس وما يصلح لهم في ماضيهم وقابلهم، وهذا يفيد أن اليهود الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم ومن جاءوا بعدهم مخاطبون بشريعة القرآن، وأنه نسخ ما قبله من الشرائع، إلا ما جاء النص بوجوب العمل به كالقصاص، أو ما لم يثبت النسخ والمعول في الحالين هو القرآن و ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، ولقد روي أنه عليه السلام ذكر أن موسى لو كان حيا ما وسعه إلا الإيمان به عليه الصلاة والسلام. ﴿ ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ﴾ الضمير في قوله تعالى :﴿ أهواءهم ﴾ يعود إلى اليهود الذين تحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأرادوا أن يحكموا بما لم ينزل من عند الله، مع أن الحكم عندهم في التوراة التي بأيديهم منصوص عليه، ولم ينسخه القرآن الكريم، وكان مما بقي وهو القصاص العادل.
وقوله تعالى :﴿ ولا تتبع أهواءهم ﴾ فيه إشارات بيانية نتكلم فيها، وذكرها فيه بيان معنى النص الكريم.
أولاها : قوله تعالى :﴿ ولا تتبع أهواءهم ﴾ أكثر العلماء قالوا : إن قوله تعالى :﴿ ولا تتبع أهواءهم ﴾ متضمن معنى لا تنحرف، بدليل أنه تعدى بعن في قوله تعالى :﴿ عما جاءك من الحق ﴾. والمعنى في الجملة لا تتبع أهواءهم منحرفا عما جاءك من الحق، وهو ما نزل به القرآن الكريم ولذلك نرى أن قوله تعالى :﴿ ولا تتبع أهواءهم ﴾ لا تضمين فيها، بل قوله تعالى :﴿ عما جاءك من الحق ﴾. يتعلق بحال محذوفة، والمرمى من هذه الجملة السامية أن الخروج عما أنزل الله تعالى باتباع أهوائهم الفاسدة المردية فيه انحراف عن الحق، وخروج عن الجادة، المستقيمة، وبعد عن الإنصاف في ذاته وكذلك الشأن فيمن يعدل عن حكم الله تعالى إتباعا لأهواء الناس، وإرضاء للشهوات والرغبات المنحرفة.
الإشارة البيانية الثانية : في قوله تعالى :﴿ عما جاءك من الحق ﴾ فيه إشارة إلى أن الذي يبتلى بأمثال هؤلاء اليهود ومن سار على طريقهم في هذه الأرض يكون بين أمرين، إما أن يطيع الهوى والشهوة وفيهما الفساد، وإما أن يطيع ما جاء من عند الله، وفيه العدل والهدى والرشاد، وأي الطريقين أهدى للوصول إلى الصلاح الذي لا فساد يعكره.
الإشارة الثالثة : فيها بيان أن ما يحكم به النبي صلى الله عليه وسلم هو الحق والعدل في ذاته وبذلك يكون حكم النبي عليه الصلاة والسلام قد تأيد بأمرين : أحدهما أنه الحق في ذاته الذي لا مرية في أنه العدل والأمر الثابت الذي لا تجوز مخالفته في ذاته، ثانيهما : أنه جاء من عند الله الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وهو بكل شيء عليم.
﴿ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ﴾ الخطاب لليهود والنصارى والمسلمين وغيرهم من الذين أوتوا كتابا نزل بشريعة من عند الله تعالى، ويكون في الكلام التفات، فقد كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمتحدث عنهم أولئك الذين اتبعوا وحرفوا الكلم عن مواضعه، والمعنى على هذا لكل نبي من الأنبياء السابقين شرعة يسير نحوها، ويتجه إليها، ومنهاج واضح بين يسير في طريقه، ولا يلتوي عنه، ولا يخرج منه، فإن ما عداه متاهات لا يلتفت إليها، والذين يعاصرونه هم الذين يخاطبون بشرعته، ويسيرون في منهاجه، فالذين نزل فيهم القرآن مخاطبون بما جاء في القرآن وشرعته ومنهاجه لهم، لأن شرعة الأنبياء السابقين ومنهاجهم قد انتهيا بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم وبقي من شرائعهم ما يقره القرآن، وما جاء النص بإقراره.
وتفسير الشرعة قد اتفق الفقهاء على أن المراد بها الشريعة وهي ما جاء من أحكام تكليفية يجب العمل بها أمرا ونهيا وندبا وإباحة، والمنهاج على هذا هو الطريق الواضح لتنفيذها، وبيان مجملها وتفصيل أحكامها الجزئية ولذلك روي عن ابن عباس رضي الله عنها أن الشرعة هي النصوص التي تجيء في أصل الكتاب المنزل، والمنهاج هو ما يبينه النبي الذي أنزل عليه الكتاب، وفصل به الأحكام الجزئية٢.
هذا كله على أساس أن ضمير الخطاب قد وجه إلى اليهود والنصارى ممن كان لهم كتاب منزل، وقد يرد على هذا أن الرسالة الإلهية واحدة فكيف يجيء فيها الاختلاف وقد قال تعالى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه...( ١٣ ) ﴾( الشورى ).
ونقول في الإجابة عن ذلك : إن الوحدة الجامعة بين الرسالات الإلهية هو ما يتعلق بالعقيدة من إيمان بالوحدانية ونفي للوثنية، وإيمان باليوم الآخر، وما يجري فيه من حساب وعقاب، ونعيم وجنات تجري من تحتها الأنهار، وجحيم وسعير إلى آخر ما ورد في الغيبيات. أما الشرعة التي يجيء فيها الاختلاف فهو الأوامر والنواهي، وبعبارة عامة فهي التكليفات من حلال وحرام، فقد يشدد الله تعالى على بعض الأقوام لغلظ قلوبهم، ويخفف على آخرين كما قال تعالى :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ( ١٤٦ ) ﴾ ( الأنعام ).
والمنهاج يختلف، فمن الأنبياء من دعا دعوته، وكان فريسة لاعتداء أعدائه من غير أن يقاوم بالسيف، ومنهم من شرع له أن يدفع الاعتداء بالسيف، وهكذا..
هذا الكلام كله على أساس أن الخطاب موجه إلى أهل الكتاب الذين سبقوا بكتاب أنزل عليهم، ونسخته شريعة القرآن، وقد جاء بعض المفسرين فقرر أن الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أي للمسلمين في حاضر أمرهم وقابله، وقد ذكر هذا الرأي ابن كثير في تفسيره، فقد قال :"وقيل المخاطب بهذه الآية هذه الأمة ومعناها لكل جعلنا القرآن منكم أيتها الأمة شرعة ومنهاجا أي هو لكم كلكم تقتدون به"، ومؤدى هذا الكلام جع
.
٢ ذكر البخاري تعليقا: الإيمان (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس). وقال ابن عباس: ﴿شرعة ومنهاجا﴾ سبيلا وسنة.
.
في الآيات السابقة ذكر سبحانه الأحكام في الكتب السماوية وأن اتباعها واجب لمن أرسلت إليهم وقد أشار إلى أحكام خالدة، ومنها شريعة القصاص، لأنها شريعة العدل والمساواة إذ فيها أن العقوبة كفاء الجريمة وأن العقوبة من جنس الجريمة فمن أجرم فإن فعله يطوي في ثناياه استحقاقه للعقوبة على ما ارتكب، وله المثلاث فيما ارتكب.
ثم ذكر سبحانه أن التوراة لأهل التوراة وأن الإنجيل لأهل الإنجيل، ولكل شرعة ومنهاج أما القرآن فهو المهيمن على الجميع ويجب أن يسود حكمه الجميع بلا استثناء ولو كان لكل شريعة ومنهاج وقد أمر بالحكم به بين اليهود وبين جميع الناس، لا فرق بين يهود وغيره ولا بين أبيض وأسود، ولقد كرر سبحانه وتعالى الأمر بالحكم بالكتاب، فقال تعالت كلماته :﴿ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ﴾
﴿ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ﴾ وكان تكرار الأمر بالحكم لتأكيده في مقام يستدعي التأكيد، لأنه جاء في الكلام ما ربما يوهم أن لكل قوم شريعة خاصة بهم، وأن حكم القرآن وما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم ليس له صفة العموم فكان ذكر الأمر بالحكم مرة أخرى نفيا لهذا الوهم، وتأكيدا لمعنى عموم شريعة القرآن، وأن منهاج القرآن الكريم هو منهاجهم وأنهم قوم محمد عليه الصلاة والسلام وأن شريعة موسى وعيسى قد انتهت بنزول القرآن، يبقى منها ما يبقى ويشتمل عليه، ويبين ما انتهى حكمه بنزول القرآن الحكيم، وأنه لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم١.
وهنا بحث لفظي فيه تقريب لمعنى النص الكريم، ذلك هو بيان المعطوف عليه في قوله تعالى :﴿ وأن احكم ﴾ فلذلك عدة تخريجات كلها تتلاقى في تأكيد الأمر بالحكم بما أنزل الله تعالى.
أول هذه التخريجات أن تكون "وأن احكم" معطوفة على الكتاب، وتفسير الكلام على هذا التخريج أن يكون المعنى فيه وأنزلنا إليك الكتاب، وقولنا أن احكم أي أنزلنا الكتاب، وقد اقترن به الأمر بأن تحكم بين الناس به، وبما أنزلناه عليك من وحي أوحي به إليك.
ثاني هذه التخريجات أن تكون "أن" مصدرية، وقد جوز الزمخشري دخول "أن" على أي فعل، ويكون المعنى : وأنزلنا إليك مع الكتاب والحكم بما أنزل الله تعالى، فما كان كتابا معطلا لمجرد التلاوة، بل كان شرعا معلوما متبعا مأمورا بإتباعه، وكان دخول "أن" المصدرية على الفعل الأمر، للدلالة مع المصدرية على الطلب وتأكيد معناه، وهي معطوفة على :"بالحق".
ثالث هذه التخريجات هو أن تكون "أن" هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن اسمها محذوف أي الحال والشأن أن تحكم به بينهم، وتكون معطوفة على الكتاب، و"أنزلناه" بمعنى أعلمناك، لأن العلم هو الغاية.
وقد كان النهي عن إتباع أهوائهم فيه إشارة إلى أن الحكم إما أن يكون بما أنزل الله تعالى وأعلمه بحكمته وهدايته، وإما أن يكون إتباعا لأهواء الناس ورغباتهم، وذلك لأن القوانين البشرية تتبع الأعراف الاجتماعية للناس، وما تواطئوا عليه وما ارتضوه لذات أنفسهم، وقد يكون ظلما طبقيا، وقد يكون هضما لحقوق ذوي الحقوق التي اكتسبوها بما ينمي ثروة الجماعة ويزيد خيراتها، وشرع الله تعالى مخالف لحكم الهوى والشهوة وهو الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال.
﴿ واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ﴾ هذا أمر موجه للنبي صلى الله عليه وسلم وهو موجه إلى الأمة الإسلامية، ولعل توجيه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم الذي يوحى إليه، ليكون تحذيرا لغيره، إذ غيره أولى أن يغره الغرور وتفتنه الفتن، من شهوات مسيطرة وأهواء متحكمة وبذلك يكون الخطاب لجميع المخاطبين بالقرآن الكريم في كل العصور، ومختلف الدهور لأنه إذا كان النبي عليه السلام يجب أن يحذر من أن يفتن فلا ينفذ أحكام الإسلام في الحكم بين الناس، فغيره الحذر عليه أوجب وأشد إلزاما.
والفتنة هنا معناها وقوع البلاء والشدة بعدم الحكم بما أنزل الله، ولقد قال في معنى هذا النص وما يشبهه الأصفهاني في مفرداته :"وقال تعالى :﴿ واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن ﴾ أي يوقعونك في بلية وشدة في صرفهم إياك عما أوحي إليك".
فالفتنة المراد بها هنا النتيجة المترتبة عن ترك الحكم بما أنزل الله تعالى، وأنه ليسبق تلك النتيجة إغراء من جانب الذين يتبعون أهواءهم ويحاولون أن يكون الحق تبعا لما يهوون، لا أن يكون هواهم تبعا للحق، وكان إغرائهم من الفتنة لأنه يؤدي إلى وقوع الشدائد، ولأن الإغراء كيفما كانت صورته فيه اختبار للنفوس، فالهداية البالغة أقصى الحكمة ترد الإغراء كيفما كانت صورته، وضعفاء النفوس أو العقول يفترون فيقعون في البلية والشدة وفي التفسير المأثور أن بعض أحبار اليهود، قال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فأتوه، فقالوا : يا محمد، إنك عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وسادتهم وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود، ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قومنا خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل ﴿ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ﴾.
وإننا نرى في عصرنا بعضا من هذا الصنف، فلا تزال تطلع على طائفة منهم يقولون : إن التشدد في الأخذ بأحكام القرآن وما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام ينفر الناس من الإسلام، ويبعدهم منه، وإنا لنسمع كلام هؤلاء ليسوا من غير المسلمين بل المسلمون تتلوا بذلك ألسنتهم، فمنهم من ينفر من تحريم الإسلام للربا، لأنه ضد الاقتصاد، ومنهم من يمنع إقامة حدود الله ويقولون : إن ذلك يتنافى مع الحضارة وينفر الناس من الإسلام... يرددون ذلك في مجالسهم ويقولونه وهم على الأرائك متكئون، ويغمزون في القول لمن يتشدد، وجاراهم مع الأسى بعض من يتكلمون باسم العلم الإسلامي، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد حذر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم، وبالأولى المؤمنين من أن يفتنوا عن بعض ما أنزل الله تعالى، وتشديد التحذير من الفتنة في البعض، يتضمن التحذير من الفتنة في كل ما أنزل الله تعالى، إذ الفتنة في الكل أشد إيجابا للتحذير من الفتنة في البعض، هذا وإن الفتنة في بعض ما أنزل الله تعالى تؤدي إلى الفتنة في كل ما أنزل الله سبحانه، لأن ما أنزل الله سبحانه وتعالى وأوجب الأخذ به مرتبط الأجزاء متماسك، فإذا حلت عروة منه انحل سائره، كالبنيان المرصوص، وإذا تهدم جزء منه تداعت لبناته وانهار البنيان، وصار أجزاء منثورة لا تربطها رابطة.
وإن الوقائع بين أيدينا معلمة شاهدة، فمن يوم أن ترك المسلمون أمورهم لحكام يعصون، ولم يلتفتوا إلى ما يدعوهم إليه ما أنزل الله تعالى على نبيهم صلى الله عليه وسلم ذهب حكم الإسلام وتداعت أركانه وصار المسلمون مستضعفين في الأرض، ودينهم يدعوهم إلى أن يكونوا ذوي بأس شديد، أشداء على غيرهم رحماء بينهم.
ومن أجل ذلك جاء التحذير من الفتنة في البعض لكيلا يستسهل ويستصغر، فيجيء الأكبر وهو حل عرا الإسلام عروة، عروة وقد حذر الله سبحانه من عاقبة الذين يعرضون عن أن يحكموا بما أنزل الله على نبيه، فقال تعالت كلماته :
﴿ فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ﴾ ظاهر السياق أن الضمير في قوله تعالى :﴿ فإن تولوا ﴾ إلى آخره يعود على اليهود، ومن لف لفهم ممن يسيرون في الحكم على هواهم، وعاصروا النبي صلى الله عليه وسلم، وعندي أن الضمير يعم كل من يخاطبهم القرآن، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كل الأجيال، وفي كل الأزمان، وإن كان اليهود وغيرهم ممن عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم داخلين في حكم عموم الأمة ابتداء، والمعنى فإن أعرضوا عن تنفيذ حكم الله تعالى، فإنه سينزل بهم من الشدائد ما يتناسب مع جعل شرائع الله تعالى معطلة لا يقام العدل الذي تتضمنه، بل يكون حكم الهوى، وحسب ذلك فسادا٢.
وهنا يتكلم العلماء في بعض الذنوب التي سببت ما أصابهم الله تعالى وما هي هذه الإصابة التي يصيبهم الله تعالى، وقد ذكروا وجهين وأرى وجها ثالثا.
الوجه الأول : ما ذكره الزمخشري : أن هذه الذنوب التي هي بعض ذنوبهم، إهمالهم لحكم الله تعالى واختيارهم حكما جاهليا يخضع للهوى، لا للعدل والإصابة التي يصيبهم بها هي هذا الذنب الذي ارتكبوه، وما يترتب عليه من ظلم يقع، وشر لا يدفع لتنفيذ حكم الله مع أنه طاعة وهو العدل، والعدل إذا ساد عاشت الجماعة كلها في أمن وسلام، ورحمة واطمئنان وعدم تنفيذ حكم الله هو الظلم والاضطراب والفساد.
الوجه الثاني : هو ما ردده أكثر المفسرين من أن الذنوب التي ارتكبوا بعضها يعاقبهم الله تعالى عليها بالشدائد تنزل بهم، ومن أعظم هذه البلايا أن يعم الفساد، وتصير أمورهم فوضى، لا ميزان يضبطها ولا قسط يقيمها، وتكون الجماعة متدابرة متنازعة.
الوجه الثالث الذي اختاره، أن عدم تنفيذ العدل أو عدم الخضوع لأحكام الشرع هو في الواقع ثمرة لمفاسق تسبقه، فالنفس تتردى في مهاوي الرذائل، وتحيط بها الخطايا، ويتحكم فيها الهوى وتصير أمة للذات والشهوات فتتمرد عن حكم الله تعالى، ويكون ذلك نتيجة لإصابتهم بذلك الذنب الكبير الخطير، وهو الإعراض عن حكم الله، وهو ذاته إصابة وكارثة، لأنه العدل والقسطاس، وأي جماعة تعرض عن العدل والقسطاس مآلها الخراب والدمار، وذهاب القوة وإصابتها بالذلة فلا عز إلا عزة الحق، ولا ذلة إلا في الظلم.
وإننا رأينا هذه الحقيقة ثابتة، فأولئك الذين يتمردون على حكم القرآن والسنة قد مست نفوسهم معاص جعلتهم يستبيحون المحرمات من زنى وشرب للخمر، وإدمان في الربا، أو بناء الاقتصاد عليه، وهذه الذنوب هي التي منعتهم من إطاعة حكم الله، وإن الله يصيبهم بنتائج ذلك وهو الخراب الناشئ من الظلم، والفساد الذي يعم وأولئك كثيرون، ولذلك قال سبحانه :﴿ وإن كثيرا من الناس لفاسقون ﴾.
هذا النص فيه عزاء للنبي صلى الله عليه وسلم من تمرد الناس على حكم العدل وحكم الحق، وعزاء لكل داع للخير من بعده، لكيلا ييئس داع، لأنه يحسب أن الخير يسير بمنطق مستقيم في النفوس، كما هو في ذات نفسه، فالله سبحانه وتعالى ينبه دعاة الخير إلى أنهم لا يتوقعون الاستجابة من الأكثرين، كما قال تعالى لنبيه :﴿ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ( ١٠٣ ) ﴾( يوسف ). وقال سبحانه :﴿ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله... ( ١١٦ ) ﴾( الأنعام ). ولأن دعوة الخير لا تجد الاستجابة بيسر، وكانت جهادا وكانت تعبا، وعلى الداعي ألا تذهب نفسه حسرات إذا لم يجد الأكثرين يجيبونه، وليعلم أن دعوة الحق لها صدى يسمع في الأجيال وإن كانت لا تسمع في زمان صاحبها.
والفسق معناه في الأصل خروج اللب عن قشرته التي تحميه من الفساد، وأطلق على الخروج عن الحق والتمرد عليه، لأن الحق هو الذي يحمي النفوس، ويكلؤها من عفن الرذيلة وفسادها، ومؤدى الكلام أن الذين ينغضون رؤوسهم عن سماع الحق ودعوته، وعن الخضوع لحكمه ليسوا عددا قليلا ولكنهم كثير، وقد أكد سبحانه وتعالى كثرتهم ب "إن"، وب "اللام" في خبرها، والله سبحانه هو الهادي إلى سواء السبيل،
.
٢ عن عبد الله بن عمر قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم". رواه ابن ماجه: الفتن- العقوبات (٤٠١٩)..
في الآيات السابقة ذكر سبحانه الأحكام في الكتب السماوية وأن اتباعها واجب لمن أرسلت إليهم وقد أشار إلى أحكام خالدة، ومنها شريعة القصاص، لأنها شريعة العدل والمساواة إذ فيها أن العقوبة كفاء الجريمة وأن العقوبة من جنس الجريمة فمن أجرم فإن فعله يطوي في ثناياه استحقاقه للعقوبة على ما ارتكب، وله المثلاث فيما ارتكب.
ثم ذكر سبحانه أن التوراة لأهل التوراة وأن الإنجيل لأهل الإنجيل، ولكل شرعة ومنهاج أما القرآن فهو المهيمن على الجميع ويجب أن يسود حكمه الجميع بلا استثناء ولو كان لكل شريعة ومنهاج وقد أمر بالحكم به بين اليهود وبين جميع الناس، لا فرق بين يهود وغيره ولا بين أبيض وأسود، ولقد كرر سبحانه وتعالى الأمر بالحكم بالكتاب، فقال تعالت كلماته :﴿ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ﴾
هذا استفهام إنكاري توبيخي، أي أنه إنكار للواقع الذي يقع من الفاسقين عن أمر ربهم، وعن الحكم الذي يحكم به الله تعالى، والفاء هنا هي التي تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كانوا يخرجون فهم يبغون حكم الجاهلية وقدمت الهمزة على الفاء، لأن الاستفهام له الصدارة في الذكر دائما، ولو كان استفهاما إنكاريا لاستنكار الواقع، وسوق الكلام بشكل الاستفهام الإنكاري فيه تأكيد لمعنى ابتغائهم حكم الجاهلية، ثمة تأكيدان آخران لارتضائهم الحكم الجاهلي : أولهما تقديم المفعول على الفعل، وفي ذلك إشارة إلى أنهم بإعراضهم عن حكم القرآن لا يبتغون ولا يريدون إلا الحكم الجاهلي، أي أنه لا يخضع الشخص إلا لأحد نوعين من الحكم حكم القرآن، والثاني حكم الجاهلية وقد يقال : بينهما ثالث، وهو حكم العقل والقسطاس، ونقول : إن من يبني حكم العقل والقسطاس لا يمكن أن يتولى عن حكم القرآن، إنما يتولى عن حكم القرآن من يريد حكم الهوى والشهوة، وحكم العقل وحكم الشهوة نقيضان لا يجتمعان.
والتأكيد الثاني لارتضائهم حكم الجاهلية هو التعبير عن رضاهم عنه بقوله تعالى :﴿ يبغون ﴾، لأن البغي هو الطلب بشدة تؤدي إلى الظلم.
وإنه لا وسط بين حكم الجاهلية وحكم القرآن لأن حكم القرآن هو العدل وهو النظام وهو المساواة في الحقوق والواجبات، لا يعفى من حكمه شريف، ولا حاكم وليس فيه من ذاته مصونة لا تمس، بل الجميع أمام الله تعالى على سواء، وأما حكم غير القرآن ففيه التفاوت بالطبقات، وفيه السيطرة التي لا يسوغها منطق ولا عدل، ولا نظام وفيه أكل أموال الناس بالباطل كالربا وسائر أنواع السحت، وقد قال بعض التابعين : من حكم بغير الله فهو حكم الجاهلية.
وقد جاء في التفسير الأثري لابن كثير المحدث والمؤرخ ما نصه :
"ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء، والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، كما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيزخان الذي وضع لهم "الياسق"، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى من اليهودية والنصرانية، والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله...
وما أشبه "الياسق"، الذي وضعه جنكيزخان ب "قانون نابليون" وما جاء بعده من قوانيننا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي القدير.
﴿ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ﴾ الاستفهام هنا إنكاري فيه إنكار للوقوع، أي أنه بمعنى النفي المؤكد كأنه استفهم عن أن يكون ثمة من هو أحسن حكما من الله، فأجيب بالنفي المؤكد الذي لا يتصور فيه أن يكون من هو أحسن حكما، والمعنى لا أحد أحسن حكما من الله لقوم يوقنون، وهنا يرد سؤال هو لقد ذكر أنه لا أحد أحسن حكما من الله لقوم يوقنون، مع أنه سبحانه أحسن حكما لمن يوقنون ومن لا يوقنون، إذ هو العدل والمصلحة، وبها ينتفع البر والفاجر، والسليم والسقيم فهو الخير الوارف الظلال، فلماذا القيد بقوله تعالت كلماته :﴿ لقوم يوقنون ﴾ ؟ والجواب عن ذلك يتكون من جزءين : أولهما أن أولئك هم الذين ينتفعون به، فكان الأحسن لهم والأقوم، أما غيرهم فهم قوم بور، وهم في غيهم يعمهون.
في الآيات السابقات ذكر سبحانه وتعالى كتب اليهود الأولى، وكتب النصارى الأولى التي لم يعرها تغيير وتبديل، وبين أن القرآن هو الحاكم المهيمن على ما جاء قبله من الكتب، وأنه الحاكم عليها، وأنه المتبع ولا شريعة من الله سواه، بعد أن نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الذين يتبعون غيره خارجون عن مبدئه، ويبغون حكم الجاهلية إذ فارق ما بين حكم الجاهلية وحكم العدل هو الحكم بالهوى، وإذا كان ما مضى من آي كريمة قد تعرض لعلاقات الكتب فكان من المناسب أن يبين القرآن الكريم علاقة الجماعة الإسلامية بغيرها من الجماعات اليهودية والنصرانية، فجاء قوله تعالى ناهيا :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ﴾
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ﴾ الأولياء جمع ولي، والولي يطلق بمعنى الودود المحب أو الصديق، ومن ذلك قوله تعالى :﴿... ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم( ٣٤ ) ﴾( فصلت ). ويطلق بمعنى النصير الحافظ، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور...( ٢٥٧ ) ﴾( البقرة ).
وهو في هذا النص الكريم يجمع بين النصرة والمحبة، والتوفيق والهداية ويطلق الولي بمعنى من يتولى الأمر، ومن يكون صاحب الولاية، كما قال تعالى :﴿ إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا... ( ٥٥ ) ﴾ ( المائدة ). وما المراد من اتخاذ الأولياء المنهي عنه في هذه الآية، يفسره الزمخشري بأنه الاستنصار والمودة والمحبة، ونفسره بأن يجعلوا ولايتهم لغيرهم في الانتماء والنصرة، ويقبلوا أن يكونوا هم أهل ولايتهم التي ينتمون إليها، وينضوون تحت لوائها، فهي مثل قوله تعالى :﴿ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير( ٢٨ ) ﴾( آل عمران ).
وهذا الرأي يؤيده ما جاء في سبب النزول، وتذكره كتب التفسير وهو أن بعض الأنصار كان يتولى بعض اليهود لما كان يرى فيهم من عدد كثير، وما عندهم من سلاح، فتبرأ منهم لما نهي عن أن يكون عليه أو له أولياء غير المؤمنين، واستمر على ولايتهم بعض المنافقين، فدل هذا على أن المراد بالولاية هنا الاستنصار بهم، والاندماج في ولايتهم، ولو سرا.
وهنا يرد سؤال أيجوز لنا أن نتخذ منهم بطانة و معاونين ؟ والجواب عن ذلك أنه لا يجوز، وقد ورد بذلك النص القرآني، فقد قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنت تعقلون ( ١١٨ ) ﴾ ( آل عمران ).
ولقد كان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ينهى عن أن يستخدم غير المسلمين في الدولة الإسلامية، ويروى في ذلك أن أبا موسى الأشعري كان له كاتب نصراني، فأرسل إليه أمير المؤمنين عمر ينهاه عن ذلك، وجاء في آخر كتابه :( لا تقربوهم إذ أقصاهم الله ) فرد عليه أبو موسى يقول له :( لا قوام للبصرة إلا به ). فكتب إليه عمر مرة أخرى كلمة موجزة :( مات النصراني والسلام ) وقد فسر الزمخشري تلك الكلمة الموجزة بقوله :( يعني أنه قد مات، فما كنت تكون صانعا حينئذ فاصنعه الساعة، واستغن عنه بغيره ).
والسؤال الثاني الذي يرد، أيجوز للمسلم أن تكون بينه وبين غير المسلم مودة ؟ أم يجب التباعد عنه ما أمكن ؟ ونقول في الجواب عن ذلك : إنه قد ورد في هذا نصان يبدو أنهما بادي الرأي متعارضان، أولهما قوله عليه الصلاة والسلام وأتم التسليم :"لا تراءى ناراهما١" أي لا تجمعهما نار يستدفئان بها أو يستضيئان بضوئها، أي لا يجتمعان على مودة واصلة، والثاني قوله تعالى :﴿ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ( ٨ ) ﴾ ( الممتحنة ).
والتوفيق بين النصين أن الأول جاء في الذين يشاقون الإسلام، ويتآمرون عليه، والثاني بصريحه جاء في الذين لم يأتمروا بالإسلام وأهله.
ونقول في ذلك : إن غير المسلمين أقسام ثلاثة :
القسم الأول – يعيشون مع المسلمين ويسالمونهم، ولا يعملون لحساب غيرهم، وهؤلاء لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وتصح مواداتهم، كنص الآية الكريمة :( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ).
والقسم الثاني : الذين يقاتلون المسلمين، ويدبرون لهم المكايد، وهؤلاء لا تجوز مواداتهم، وقد قال سبحانه في ذلك :( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون٢٢ ) ( المجادلة ) وقال تعالى :( إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون٩ ) ( الممتحنة ).
القسم الثالث : طائفة لم تعلن المجاهرة بالعداوة، ولكنهم في قلوبهم يتمنون في ذات أنفسهم خذلان المسلمين، ونصرة غيرهم، فظاهرهم مع المسلمين، وقلوبهم مع أعدائهم وهؤلاء نعاملهم بما عامل به النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين، نسالمهم، ولا نكشف خبيئة نفوسهم، ولكن نأخذ حذرنا منهم.
ومهما تكن أحوال المحالفين فإنه لا تجوز الاستعانة بهم في خاصة شؤون الدولة الإسلامية حتى لا يكون منهم بطانة لا تألوننا خبالا، وقد علل سبحانه النهي عن توليتهم بقوله تعالت كلماته :( بعضهم أولياء بعض ).
أي أن السبب في منع المؤمنين من أن يستنصروا بهم أو يجعلوا منهم أولياء عليهم أو لهم، أنهم لا يوالون المسلمين في ذات أنفسهم بل تكون نصرتهم فيما بينهم، فالنصارى أولياء ونصراء لإخوانهم، واليهود أولياء ونصراء لليهود، فكل طائفة تنحاز ولايتها إلى أهل دينها، فالنصارى منحازون في الولاية إلى النصارى واليهود منحازون إلى اليهود.
ويصح أن نفسر النص بأنهم يوالي بعضهم بعضا أي اليهود يوالون النصارى ضد المسلمين فكلتا الطائفتين تتولى الأخرى.
ويظهر لي أن الآية تدل على المعنيين، فالنصارى يوالي بعضهم بعضا واليهود كذلك، وهما دائما إلب على المسلمين كما نرى في عصرنا الحاضر، فالعالم المسيحي كله يؤيد اليهود في اغتصابهم أرض الإسلام ووضعها تحت أيدي اليهود ومع أنهم يدعون عدم التعصب، يتعصبون ضد المسلمين ويؤيدون قيام دولة على أساس الدين.
( ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) إن من يجعل نصرته منهم ويخضع بالولاية لهم فهو منهم. روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن النص يفيد التشبيه أي أنه مثيلهم في معاداة الإسلام وأهله.
ولكن كثيرين من المفسرين يعتبرونهم منهم حقيقية، ولا تشبيه في القول ولا تمثيل، فيقولون : إن من اتخذ منهم نصراء وحلفاء وأولياء دون أهل الإسلام، فإنه منهم في التحزب على الله تعالى، وعلى رسوله والمؤمنين وأن الله تعالى ورسوله منهم بريئان، ويقول في تقرير هذا المعنى ابن جرير :( ومن يتول اليهود والنصارى دون المؤمنين فإنه منهم، فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين، فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متول أحدا إلا وهو به وبدينه، وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضى دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه، وصار حكمه حكمه ).
وإن ذلك التولي بلا ريب ظلم للنفس. وظلم للمسلمين، ومن أركست نفسه في هذه الضلالة حتى صار لا يطيق تركها، فقد استضعف نفسه، وظلمها، ثم ظلم المؤمنين، وبعد عن هداية أهل الإيمان وارتضى حكم الطاغوت ولذلك ذيل الله سبحانه وتعالى النص بقوله تعالت كلماته :( إن الله لا يهدي القوم الظالمين ).
وهذا النص بعمومه يشير إلى أن أعداء الإسلام ظالمون مهما يكن تعدادهم، وأن من يواليهم هو من القوم الظالمين، ولا تدخل الهداية قلبه، لأنه مرد على النفاق، ولأنه استضعفت نفسه والمسلمين، ولأنه لم يعمر الإيمان قلبه فكان قلبه ظلمات متكاثفة لا يدخل من خلالها نور، ولا حق مبين، وقد صور سبحانه من يوالونهم، فقال :( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة )
وهنا نقف أمام العبارات السامية ونحاول أن نذكر بعض ما تشير إليه من بيان، ونتعرض في ذلك لأمور بيانية :
أّولها قوله تعالى :( فترى الذين في قلوبهم ).
الفاء تفصح عن شرط مقدر، مؤداه أنه كان الذين يتولونهم منهم، فإنك واجد من بين صفوف المسلمين من في قلوبهم مرض يسارعون فيهم... إلى آخره. والتعبير بقوله تعالى :( فترى ) تصوير للحال الواقعة من أولئك الضعفاء في إيمانهم والمنافقين في قلوبهم – بأنها كالمرئية الظاهرة التي لا تخفى على ذي البصيرة المدركة، وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتنبيه للحال الواقعة ليعالجها بهداية الله تعالى، وما آتى به الرسول صلى الله عليه وسلم من حكمة، وليحتاط عليه الصلاة والسلام منهم، وليهيمن على توجيه قلوب الضعفاء، وتربية من يصلح منهم للتربية على الإيمان، ممن لم يرشدوا ولم تمس بشاشة الإسلام نفوسهم ؟، ولم تشرب قلوبهم حبة.
ثانيها- التعبير بقوله سبحانه :( الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم ) وفي التعبير السامي إشارة إلى أن الذين يعطون لهم حق الولاية والنصرة دون المؤمنين سبب هذا الأمر منهم هو أن في قلوبهم مرضا، ومرض القلوب يكون إما من خور العزيمة، وعدم الإحساس بالقوة الدافعة لأن ينتصروا مما يقع عليهم من أذى وإما من النفاق.
والمسارعة : المبادرة، وتعدي الفعل هنا ب ( في ) مع أن المبادرة تتعدى ب ( إلى ) والحكمة في ذلك الإشارة إلى أنهم لا يدخلون ابتداء فيهم، بل إنهم فيهم بقلوبهم من قبل فالمسارعة انتقال من حال إلى حال في صفوفهم أي أنهم منغمرون فيهم دائما، ولا يخرجون عن دائرتهم.
ثالثها- أنهم في مسارعتهم وبقائهم على الولاء لهم والانتصار بهم يقولون بأفواههم :( نخشى أن تصيبنا دائرة ) الدائرة ما يصيب الجماعات من شدائد ونوازل بسبب أعدائهم ويقول الواحدي في أصل معناها : الدائرة من دوائر الدهر كالدولة، وهي التي تدور من قوم إلى قوم، والدائرة هي التي تخشى كالهزيمة والحوادث ومقتضى كلام الواحدى أن الدائرة كالدولة، إذ تتداول بين الناس، كما قال تعالى :(... وتلك الأيام نداولها بين الناس... ١٤٠ ) ( آل عمران ) والدائرة تدور بين الناس والجماعات، بيد أن الدولة تتداول بالقوة والسلطان والعزة، والدائرة تدور بالهزيمة والجائحات، فهي تدور بين الناس من جماعة إلى جماعة، ومن يخشى الدائرة من الجزع والهلع يتوقع الأذى والشر، ولقد قال الشاعر في معنى الدائرة :
ترد عنك القدر المقدورا ودائرات الدهر أن تدورا
وإن أولئك المتصفين بهذه الصفات من مرضى القلوب لا يثقون بنصر الله، أو على الأقل حالهم ليست حال المطمئن إلى نصر الله، لخور نفوسهم، وضعف إيمانهم أو امتلاء قلوبهم بالنفاق، وان إنهاء هذه الحال يكون بالنصر المؤزر، ولذا يقول سبحانه في توقع النصر المؤزر والفتح المبين :( فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده ) الفتح بمعنى التوسعة كما قال الله تعالى :( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض... ٩٦ ) ( الأعراف ) ويطلق بمعنى الفصل بين الحق والباطل، ومن ذلك قوله وتعالى :(... ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق... ٨٩ ) ( الأعراف ) ويطلق بمعنى الظفر والنصر، ومن ذلك قوله تعالى :( إنا فتحنا لك فتحا مبينا١ ) ( الفتح ).
والفتح هنا يراد به المعاني الثلاثة : فهو السعة بعد الضيق، والفصل بين حق صادق وباطل طاغ، والنصر والظفر.
ومعنى الرجاء من الله تعالى الوعد القاطع، لأنه من القادر على كل شيء الذي لا يصعب عليه شيء، والتعبير بالرجاء لتعليم المؤمنين ألا ييئسوا من رحمة الله ونصر المؤمنين، لأنه وليهم وناصرهم، فالله تعالى يعد المؤمنين، وهو الذي لا يعجزه شيء في السماء ولا في الأرض، فالله سبحانه وتعالى ينبه المؤمنين إلى رجاء النصر والسعة والفصل بينهم وبين أعدائهم وذلك كله من الله تعالى.
( أو أمر من عنده ) والأمر الذي يجيء من عند الله هو خضد شوكة غير المؤمنين، حتى يرجى نصره، ولا يخشى من الدوائر أو تزول دولتهم.
ومعنى النص الكريم أن الله سبحانه وتعالى سينجز وعده الذي وعد به عباده الصالحين، وعندئذ تكون العزة لله ولرسوله والمؤمنين، ويكون الندم والحسرة على ضعفاء الإيمان ولذا قال سبحانه :
( فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ) وعند الفتح، أو الأمر الذي يزيل سلطان من يستنصر بهم مرضى القلوب يفرح المؤمنون بنصر الله، ويصبح الذين أسروا في أنفسهم خذلان المؤمنين، ورجاء ما عند غيرهم نادمين على ما أسروه، وخيب الله ظنهم فيهم، إذ رجوا ما عند الناس، ولم يرجوا ما عند الله، ورضوا بنصرة الطاغوت، وتركوا نصرة الله تعالى، وهنا نتكلم في أمرين :
أولهما – معنى الندم على ما أسروه، أن الندم في هذه هو الظن الفاسد إلى الله، وإنما ندمهم كندم المغيظ المحنق الذي كان يتوقع، أمرا فتبين له غيره.
الأمر الثاني : أن الله عبر عن ندمهم بالوصف لا بالفعل للإشارة إلى أن هذا الندم حال دائمة مستمرة تتضمن الحسرة والغيظ، والألم المستمر.
( أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم ) : أي هذه حال أولئك الذين أقسموا بالله بأقصى طاقة ما عندهم من إيمان، أنهم لمعكم، أي أن هؤلاء مرضى القلوب أعلنوا مقسمين بأقصى الأيمان، بأن يكونوا مع المؤمنين والرسول في ولايتهم ونصرتهم، ومعاونتهم، وقد أكدوا ذلك بعدة تأكيدات بأقصى الطاقة في القسم وتوثيق الكلام، وأكدوه ب ( أن ) و ب ( اللام ) المؤكدة ومع هذه التوكيدات ما كانوا صادقين، بل كانوا خادعين لأنفسهم وللمؤمنين، كما قال سبحانه :( يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون٩ ) ( البقرة ) ولا يمكن أن ينجح من يكون هذا شأنه ولذا قال سبحانه :
( حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين ) تحتمل أن تكون هذه مما حكاه الله تعالى عن المؤمنين، ونميل إلى أنها من كلام الله تعالى، وهو حكم الله تعالى عليهم بثمرة ما كان من فساد قلوبهم، وهو إن ما يتوهمونه، وما يعملون على أساسه، ومن امتناعهم عن أن يكون ولاؤهم للمؤمنين وموالاة غيرهم دونهم – مآله الفشل والحبوط، وأن الله هو العزيز الذي ينصر من ينصره، ويعز من يعتز به، ومن يعتز بغيره، يذل ويهون، وبذلك أصبحوا خاسرين، ولقد قال الزمخشري : إن الجملة في معنى التعجب أي ما أعجب حبوط أعمالهم وما أعجب أن أصبحوا خاسرين وهذا الكلام على أساس أن الجملة محكية عن المؤمنين، ونميل أنها حكم الله تعالى وهو العلي الحكيم، اللهم أعزنا بعزة الإسلام وامنع عن قلوبنا الولاء لأهل الكفر والطغيان.
في الآيات السابقة نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن أن يتخذوا من اليهود والنصارى نصراء يستنصرون بهم، ويعطونهم حق الولاية عليهم، فيجعلون الولاء لهم، وهم أعداء الإيمان وأعداء المؤمنين وإن أظهروا الولاء لدولة الإيمان فهم في قلوبهم لا يألونهم خبالا، وإن ذلك موضوعه علاقة دولة الإسلام بغيرها من الدولة التي تعاديها، ولا يدخل في هذا الذميون الذين يعيشون في ظل الإسلام والمسلمين إلا إذا مالئوا الأعداء فإنهم يكونون قد نقضوا العهد الذى عاهدوا المسلمين عليه.
وفي هذه الآيات، يومئ سبحانه وتعالى كلماته، إلى أن الذين يوالون دولة معادية للإسلام وأهله يسيرون في طريق الردة، لأنهم تركوا ولاية الله والرسول والمؤمنين، وولايتهم هي الحق، وهم حزب الله وحزب الله تعالى هم الغالبون.
( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله ) الارتداد معناه الرجوع من غير هداية وإرشاد ومن ذلك قوله تعالى :( إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى... ٢٥ ) ( محمد ) ومن ذلك قوله تعالى :(... ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر... ٢١٧ ) ( البقرة ) :
فالارتداد في الآية الكريمة التي نتكلم في معانيها السامية معناه الخروج عن الدين، ويسمى ذلك ردة، لأنه انصراف عن الحق بعد أن اهتدى، ورجوع إلى الظلام بعد أن خرج إلى النور، وهو كمن يرتد على أدباره غير مبصر الطريق الضال الذي يسلكه لأنه لا يواجهه.
وفي النص إشارة إلى أمرين، أولهما، أن فيه إيماء إلى أن العرب فيهم من سيرتد بعد إيمان، وذلك قد كان، فإنه بعد أن انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ارتدت قبائل عربية ولم تبق مساجد تقام فيها الصلوات إلا مسجد المدينة ومكة وعبد القيس، وقد تصدى لهم الصديق، وأصحاب رسوله الله صلى الله عليه وسلم، حتى أزالوا شوكة الردة، وخيرهم الصديق بين سلم مخزية أو حرب مجلية، فاختاروا السلم لتوالي هزائمهم الأولى، وكان منهم من اشترك في الفتوح الإسلامية التي كانت من بعدها كلمة الله هي العليا في المشرق والمغرب، وفتح الله معها قلوب الناس، فدخلوا في الإسلام أفواجا، أفواجا.
وإن الآية الكريمة تومئ ثانيها أن تولي الكفار أعداء الإسلام واتخاذ النصرة منهم على المؤمنين، وجعل الولاية لهم دون المؤمنين طريق إلى الارتداد، لأن من يعتز بغير عزة الله تعالى ينقص من إيمانه بمقدار موالاته لأعداء الله تعالى، واستمراره في الموالاة وإعطاء الولاية، ولقد قال سبحانه :( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله... ٢٢ ) ( المجادلة ).
وهنا يسأل سائل عن أمرين : أولهما – ما الموالاة التي تجر إلى الارتداد ؟ وثانيهما – ما حقيقة الردة ؟ ونقول في الإجابة عن السؤال الأول، إن الموالاة التي تفضي إلى الارتداد مراتب أعلاها أن يستنصر بهم على أهل الإيمان، كما كان يفعل بعض الملوك في الماضي، وكما فعل بعض الوزراء الذين مالئوا التتار على المؤمنين، حتى تمكنوا من أهل بغداد وغيرها من المدائن الإسلامية تقتيلا وتذبيحا، وهذه المرتبة أحسب أنها ردة، وليست ذريعة إليها فقط.
المرتبة المتوسطة – أن يواليهم في أوطانهم، ويستنصر بهم ويجعل ولايته لهم من غير معاونة لهم على أهل الإيمان، ولا تمكين لهم من رقاب المؤمنين، وتكون هذه للمستضعفين في أرضهم على أهل الإيمان، ولا تمكين لهم من رقاب المؤمنين، وتكون هذه للمستضعفين في أرضهم وهؤلاء قد يفيض بهم الاستضعاف إلى أن يكونوا منهم، وبذلك يسيرون في طريق الخروج عن الدين.
المرتبة الأخيرة – أن نقدس تعاليمهم ونحول مجتمعنا الإسلامي بما يشبه مجتمعهم، حتى يكون ما عندهم أمرا غير قابل للمناقشة، وما عندنا ولو كان من هدى الإسلام يكون قابلا للنقض، بل للاستهانة ووضعه دبر الآذان مما نراه من بعض المثقفين الآن في الديار الإسلامية الذين لا يتبعون أعداء المسلمين ويقلدونهم في الصناعات والعلوم الكونية، بل يقلدونهم في أهوائهم وشهواتهم ومجونهم، ومعابثهم، ويحسبون ذلك تقدما، وما هو إلا ارتداد إلى الحيوانية البهيمية، والأدهى من ذلك أن يعتبروا قوانينهم محكمة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ويجعلوا شرع الله هملا مطويا في زوايا النسيان.
والجواب عن السؤال الثاني وهو تعرف حقيقة الردة، أن الردة مراتب أيضا.
أعلاها – إنكار ما جاء في كتاب الله تعالى، وإنكار الوحدانية والرسالة، وإنكار كل أمر علم من الدين بالضرورة ككون الصلوات خمسا، وكفرضية الزكاة والحج إلى آخر ما يعد إطار الإسلام، من يخرج عنه قد خرج عن الإسلام ومن ذلك أحكام الزواج والطلاق.
ووسطها- إهمال الأحكام القرآنية، واستبدال غيرها بها، وزعم صلاحية غيرها، وعدم صلاحية الأحكام القرآنية ومن ذلك قول الذين يقولون : إن أحكام القرآن خاصة بزمان نزوله دون غيره، وإن للناس أن يبدلوا فيها ما شاء لهم التبديل.
وأدناها- تقليد غير المسلمين فيما عندهم من شر وجعل القرآن وآدابه، والسنة وما اشتملت عليه أمرا مهجورا.
وإن المرتبة الأولى تبيح قتل معتنقيها، والأخريان يحبس أصحابهما، ويمنعوا من الجهر بنحلهم، وذلك لولى الأمر، وإن ذا النورين الامام عثمان – رضي الله عنه – قال :( إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن )١. وإن الله وعد.
وإن وعده لصدق أنه إذا ارتد عن الإسلام من يرتد فيكون من بعدهم من يعتز الإسلام بهم، ويرفعون شأنه، ولذا قال تعالت كلماته :( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ).
هؤلاء هم الذين وعد الله بأنهم سيزيدون عدد المؤمنين، إذا خرج من صفوفهم ا لمنافقون، والذين يوالون أعداء الله، وإن ( سوف ) هنا لتأكيد وقوع الأمر في المستقبل، والتعبير – ب ( يأتي الله بقوم ) فيه إشارة إلى أمرين : أحدهما – أن الله سبحانه الذي خلقكم، وهو ولى المؤمنين هو الذي يأتي بهؤلاء الأقوام الذين يحبهم ويحبونه... ، وثانيهما – أنهم يكونون قوما متحدة مشاعرهم وأحاسيسهم، قد كانت قوميتهم نصرة الله ورسوله بنصرة الدين الحكم، ولذا عبر عن هؤلاء بأنهم قوم، أي عنصر قوى متآزر وحدته مكونة من الإيمان، ولا يكونون تابعين لغير دين الله تعالى.
وقد وصف الله تعالى أولئك الذين يأتي بهم في المكان الذي أخلاه المرتدون بأربع صفات هي من نعم الله تعالى عليهم، أولها – أن الله تعالى يحبهم وهم يحبونه، وإن محبة الله تعالى للمؤمنين أعلى ما يصل إليه أهل الإيمان من نعمه، ومحبة المؤمنين لله أعلى درجات الطاعة والإيمان.
ومحبة الله تعالى لعباده التي تليق بذاته الكريمة المنزهة عن مشابهة الحوادث، هي أعلى درجات الرضا، فهي ليست الجزاء على النعيم وحده، ولا الغفران وحده، ولكنها مع الرضوان أكبر من ذلك، وقد قال تعالى في جزاء المؤمنين الخالصين لله تعالى :( وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيهاو مساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ٧٢ ) ( التوبة ).
وعندي أن مكافأة الله تعالى لعباده بفضل منه ثلاث مراتب : المرتبة الأولى – الغفران والنعيم المقيم، والمرتبة الثانية – رضاه سبحانه وتعالى، والمرتبة الثالثة – وهي أعلى درجات المحبة، وهي الرضوان الكامل، ومحبة الله حال تليق بذاته العلية.
هذه محبة الله تعالى ومحبة العباد له سبحانه – الإحساس بتجاه النفس إلى الله تعالى، والشعور بأنه ملء نفسه وقلبه، وأنه لا يدخل في قلبه شيء غير عظمة الله تعالى وجلاله، فلا يحس بأن في الوجود غيره، وأن تلك المحبة ثمرتها القريبة الدانية الطاعة المطلقة لله ولرسوله، فلا يكون محبا من يعصي حبيبه، ولذا قال الله تعالى :( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم٣١ ) ( آل عمران ).
فالمحبة لله وطاعته، والقيام بالتكليفات الشرعية أمران متلازمان فالطاعة لازمة للمحبة، وليس بصحيح ما يجري على ألسنة بعض مدعى التصوف، من أن المحبة لله إذا وصلت إلى أعلى درجاتها، سقط التكليف بالأعمال الظاهرة، بل إن المحبة البالغة تزيد الطاعة تثبيتا، وأحب خلق الله تعالى لله، وأكثرهم محبة له سبحانه هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قصر في تكليفه قط، ولا يتصور منه ذلك، وقد طالبه الله تعالى بأكثر مما طالب به غيره، فقد قال تعالى :( يا أيها المزمل ١ قم الليل إلا قليلا ٢ نصفه أو انقص منه قليلا ٣ أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ٤ إنا سنلقي قولا ثقيلا٥ إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا ٦ ) ( المزمل ).
الصفتان الثانية والثالثة – هما اللتان ذكرهما سبحانه وتعالى بقوله تعالت كلماته :
( أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) والمعنى السامي لهذين الوصفين الكريمين أنهم أرقاء على المؤمنين في معاملتهم يخفضون جناحهم، كما قال تعالى في رفق الولد للأبوين :( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة... ٢٣ ) :( الإسراء ) فهي ذلة حانية خفض جناح الأخ لأخيه غير المتحكم فيه هي من قبيل التآلف العاطفي، لا من قبيل الخنوع الذميم.
ومعنى قوله السامي :( أعزة على الكافرين ) أنهم ينظرون إليهم نظرة العزيز الغالب لا نظرة الذليل الخانع، فهم لا يتملقونهم، ولا يترضونهم في غير مرضاة الله، و ( عز ) في أصل معناها غلب، كما قال تعالى :(... وعزني في الخطاب٢٣ ) ( ص ) أي غلبني في الخطاب وسيطر على الخصومة.
وهنا يرد سؤال لماذا تعدت كلمة أذلة على المؤمنين ب ( على ) دون اللام، وقد أجاب الزمخشري في الكشاف عن ذلك بقوله :( فيه وجهان : أحدهما – أن يضمن الذل معنى الحنو والعطف، كأنه قيل عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع – والثاني – أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم، ونحوه قوله عز وجل :(... أشداء على الكفار رحماء بينهم... ٢٩ ) ( الفتح ).
وخلاصة القول، أن هؤلاء المؤمنين يعاملون إخوانهم برفق ومحبة وبشاشة وعطف، ويعاملون أعداء الإسلام بغلظة وخصوصا في الميدان كما قال الله سبحانه :(... جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم... ٧٣ ) ( التوبة ) وقد جاء في الآثار في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم إنه ( الضحوك القتال )٢ فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه.
الصفة الرابعة بينها سبحانه وتعالى بقوله، ( يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ).
المجاهدة المغالبة وبذل الجهد، وهو أقصى الطاقة، في سبيل الله أي : في سبيل رفعة كلمة الحق ونصر دينه وإعلاء شأنه، وكل مجاهدة في إعلاء حق وخفض باطل هي في سبيل الله، لأن طريق الله تعالى هي طريق الحق إيا كان موضعه، وأيا كان باعثه لأن شرع الله تعالى يدعو إلى الحق وإلى صراط مستقيم.
وإن الجهاد تتنوع ضروبه، وتختلف أساليبه، فقد يكون بالسيف لإعلاء كلمة الله، ورد الأعداء
٢ ذكره ابن كثير في التفسير: ج ص١٢٣ وقال في ج٤ ص٢٠٨..
( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ) الولي هنا النصير الموالي، وولى الأمر الكالئ الحامي، والأنيس الذي يرجى في الشدائد، ويرجع إليه في الكروب، والملجأ والمعاذ.
وقد قصرت الولاية على هؤلاء بأداة القصر ( إنما ) والمعنى أن الله تعالى ورسوله والمؤمنين الصادقين في إيمانهم الذين لم يعترهم زيغ ولا ضعف، ولا استخذاء واستكانة للذل، واستسلام للأعداء، ولا ولى للمؤمن غير هؤلاء، فلا يصح للمؤمن أن يطلب بأي صورة النصرة من غيرهم، لأن قلوبهم مهما يكونوا مطوية على ضغن شديد وحقد مستمكن، وهم لا يريدون بالإسلام وأهله إلا الهوان بل الفناء.
وفي هذا النص عبرة للمعتبرين الذين يرتمون في أحضان أعداء الإسلام ويوالونهم وهم الذين يؤذون المسلمين ويخرجونهم من ديارهم، ويظاهرون على إخراجهم والنبي عليه السلام يقول :( المسلم أخو المسلم لا يحقره، ولا يظلمه ولا يسلمه، ولا يخذله )١.
( الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) هذه أوصاف المؤمنين الجديرين بأن يكونوا مع الله ورسوله في ولاية المؤمنين، وقد ذكرت لهم أوصافا ثلاثة : كل واحد منها يومئ إلى معنى اجتماعي يدخل في تكوين الجماعة الربانية التي لا تعمل إلا لله، ولا تقوم إلا له، الأول إقامة الصلاة، أي أداؤها مقومة كاملة لا اعوجاج فيها، لتؤدي غايتها وهي تربية الوجدان الاجتماعي الذي يكون معه الإيثار، والسيطرة على الأهواء المردية المخزية، وهي الصلاة التي قال الله تبارك وتعالى فيها :(... إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر... ٤٥ ) ( العنكبوت ).
والوصف الثاني أنهم يؤتون الزكاة، أي يعطونها سمحة بها نفوسهم، راضية بعطائها قلوبهم يحسبون أن عطاءها مغنم لا مغرم، وذلك هو التعاون المادي المنبعث من القلب، وإذا كانت الصلاة مبعث التآلف الروحي، فالزكاة مظهر التعاون المادي الخالص.
والوصف الثالث ذكره سبحانه وتعالى بقوله :( وهم راكعون ).
لقد قال كثير من المفسرين : إن هذه الجملة حالية من قوله تعالى :( ويؤتون الزكاة ) أي : ان إعطاء الزكاة يكون في حال الركوع، ويقولون : إن سبب ذكر ذلك أن إمام الهدى عليا أعطى صدقة وهو راكع، ولا نرى ذلك، لأن ذلك قطع للصلاة وانصراف عنها، ولا يكون ذلك من على كرم الله وجهه، وثانيا – أن اللفظ، ومؤدى ذلك أنه يكون محمودا من المؤمنين أن يؤدوا زكاتهم وهم يركعون ركوع الصلاة.
والذي نراه أن الركوع هنا ليس هو ركوع الصلاة المفروضة، إنما هو الخضوع المطلق لله تعالى في كل أعمالهم، في مصانعهم، ومتاجرهم ومزارعهم، وسياستهم، بحيث يكون كل شيء لله تعالى، ويتحقق فيهم قول النبي عليه السلام :( لا يؤمن أحدكم حتى يجب الشيء لا يحبه إلا لله )٢. سبحانه في الغدوات والروحات. جاء في مفردات الأصفهاني ما نصه : والركوع يطلق بمعنى الخضوع لله.
( الركوع : الانحناء فتارة الهيئة المخصوصة في الصلاة، كما هي وتارة في التواضع والتذلل، وإما في غيرها ) والله أعلم.
٢ سبق تخريج ما في معناه من حديث صحيح..
ومعنى النص الكريم : من يجعل نصرته من الله ورسوله وولاءه لهما، وأمره إليهما فإنه سيكون حزب الله المتضافر على الخير، وسيكون هو الغالب إن شاء الله وهنا إشارتان بيانيتان ننوه عنهما :
إحداهما- أن قول الله تعالى :( فإن حزب الله هم الغالبون ) يومئ إلى مقدر محذوف من القول بين في المعنى، وهو أن الذي يتولى الله ورسوله يكون من حزب الله القوي المتضافر على الخير، وإن حزب الله وجماعته هم الغالبون.
الثانية : أنه في قوله :( فإن حزب الله ). لم يذكر اسم الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك إشارة إلى أن الرسول لا يعمل إلا بأمر من الله، فيكتفي هنا بذكر الله لأنه المسيطر الغالب القاهر فوق عباده، اللهم اجعل ولايتنا لله تعالى ولرسوله وللمؤمنين اللهم اجعلنا من حزب الله دون غيره.
وهنا مباحث لفظية في بيانها تقريب لمعنى النص السامي.
أول هذه المباحث – التفرقة بين الهزء واللعب، فهما في النص الكريم معطوف أحدهما على الآخر، وبمقتضى هذا العطف هما متغايران، وإن كانا ينتهيان إلى معنى واحد، وهو السخرية بالاستهزاء، والعبث فهم يسخرون من الدين ويسخرون من أهله، ويستهزئون بأهله، ويتعابثون به ويلعبون بحقائقه.
والهزء معناه المزح في الخفة، أو المزح في مقام الجد للسخرية بموضوعه، والعبث به، وقد يكون بالقيام بظاهر بعض الأعمال، وهو يخفى نقيضها، كما قال سبحانه وتعالى عن المنافقين ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون١٤ ) ( البقرة ).
وعلى هذا يكون معنى الاستهزاء أو الهزء مشتملا على معاني الاستخفاف والتهكم، والمزح العائب.
واللعب أصل معناه من لعاب الطفل، ويقال عن الطفل لعب بفتح العين إذا سال لعابه، ومعناه – على العموم – العمل الذي لا يقصد به نفع، ولا طلب ثمرة بل يقصد به مجرد إزجاء الفراغ والتسلية.
والمعنى الجملي للفظين : أنهم يسخرون من الدين باتخاذه موضع استهزاء ومزح، وموضع لعب وعبث لا يقصدون نحوه بشيء إلا بما يقصد به اللاعب للعبته وهذا أبعد ما تكون عليه الاستهانة، فهل يجوز لمؤمن أن يقبل موالاة هؤلاء، وهو لا يزال على صفة الإيمان.
وقد وصف عملهم بأنهم اتخذوا الدين هزوا، أي جعلوه هزوا ولعبا، أي جعلوه مستهزئا يمزحون به ولعبة يلعبون بها، وقد قدر بعض العلماء محذوفا، وهو أن يكون موضع استهزاء ولعب.
المبحث الثاني من المباحث اللفظية
– قوله تعالى :( من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء ) و ( من ) هنا بيانية فيها بيان لأولئك الذي يستهزئون ويلعبون بدين الله دين الحق، وهم اليهود والنصارى وعبر عنهم ب ( أوتوا الكتاب ) لأن أصل شرعهم ينتمي إلى كتاب منزل وإن حرفوا فيه الكلم عن مواضعه وغيروا وبدلوا ونسوا حظا مما ذكروا به، وهم كفار وليس كفر أعظم من كفر، إلا أن تكون بقية علم عندهم، وهي لا تجعل لهم مقاما أدنى في الكفر، ولو كانت في الإمكان التلاقي في بعض المعلومات الدينية التي لم يعبثوا بها.
وقد تكلم العلماء فقال الأكثرون : إن الكفار هم المشركون وأطلق عليهم الكفار دون إطلاقه على أهل الكتاب وقد علله بعضهم بأن كفرهم أشد، وعندي أنهم جميعا كفار، لقوله تعالى :( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة١ ) ( البينة ). وليس كفرهم أعظم من كفر أهل الكتاب لأن كفرهم عن جهل وكفر المشركين عن علم ولا يمكن أن يكون الجهل عنصرا مشددا والعلم عنصرا مخففا ولكن ذكروا بوصف الكفار، لأنه لا وصف لهم غيره إذا لم يؤتوا بكتاب.
على أننا نرى أن عطف الكفار على أهل الكتاب من باب عطف العام على الخاص، فكلمة كفار تشمل كل كافر بمحمد صلى الله عليه وسلم، على أنه خص أهل الكتاب بالذكر لانه الموضوع من الأصل في عدم موالاة المؤمنين لليهود والنصارى، ثم عمم الحكم على الجميع ممن كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
المبحث الثالث- في قوله تعالى :( واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ).
وكان الأمر بالتقوى في هذا المقام، للإشارة إلى أن ذلك هو الحصن الحصين الذي يغني عن طلب الأولياء لأن معنى التقوى اتخاذ الله سبحانه وتعالى وقاية دون شر الأشرار إذ إن النصرة لا تكون إلا منه، وهو المعاذ والملجأ والناصر والولي، ولأن اجتلاء النفس بتقوى الله تعالى وخشيته تجعل كل قوي مهما تكن سطوته لا يصل إلى إضعاف قلب مؤمن، ولأن اتخاذ غير الله تعالى وليا ينافي تقوى الله، واستشعار عظمته وجبروته سبحانه.
وقد بين سبحانه أن ذلك وصف أهل الإيمان ولذلك قال سبحانه :( إن كنتم مؤمنين ). وقد أخذ سبحانه يبين بعض أوقات استهزائهم، قال سبحانه :
فقد روى الإمام أحمد – رضي الله تعالى عنه – في مسنده أن عبد الله ابن محيريز وكان يتيما في حجر أبي محذورة، وقد كان أبو محذورة من مؤذنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ساله ابن محيريز عن تأذينه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : سمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون فصرخنا نحكية، ونستهزئ به فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع، فاشار القوم كلهم إلي، وصدقوا، فارسلهم، وحبسني اليه، وقال :( قم فأذن ) ثم علمه الرسول عليه السلام الأذان وقال له :( بارك الله فيك، وبارك عليه ) فهداه الله تعالى، وصار مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وهكذا ابتدأ كافرا مستهزئا بالأذان ساخرا منه، وانتهى مؤمنا صادقا مؤذنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم١.
وروى أن اليهود كانوا إذا قامت الصلاة صلوا مع المسلمين استهزاء ونفاقا ومنهم من كان يقول للرسول عندما يرى الركوع والسجود : يا محمد لقد ابتدعت شيئا لم يسمع فيما مضى، فإن كنت نبيا فلم خالفت فيما أحدثت جميع الأنبياء، وكانوا مع ذلك يتحاكون ويتخذون من شكل الصلاة الإسلامية موضوعا لسخرياتهم وعبثهم، ولقد علل الله تعالى ذلك بقوله سبحانه :
( ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ) الإشارة هنا إلى ما كان منهم من استهزاء وسخرية واتخاذ الأعمال الإسلامية لعبة يتلاعبون بها، والمعنى : أن هذا الذي كان منهم سببه أن أحلامهم قد سفهت، وصاروا لا يدركون الأمور على وجهها فلا يفكرون في الأمور تفكير العقلاء الذين يتدبرون بعقولهم، وقد قام لديهم البرهان العقلي القاطع، والدليل الساطع على أن ما جاء به محمد لا يقبل الإنكار لمن يفكر بعقله، ويتدبر في مبادئ الأمور وعواقبها.
ولماذا كان اليهود وبعض النصارى على هذه الشاكلة يتصرفون تصرف من عقل لاعنده، إذ يطمسون الحقائق، ويسخرون مما لا سخرية فيه ؟ الجواب عن ذلك أنه قد طمس على قلوبهم، والحقد قد ران على مداركهم، فأصبحوا لا يدركون ما يوجبه العقل السليم، والفكر المستقيم، ولا شيء يذهب بلب اللبيب وإدراك العقل السليم أكثر من الحقد ذلك بأن تمنى الشر، وحسد غيره على ما في يده من نعمة، وما آتاه الله تعالى من خير يلقى حجابا على عقله فلا يدرك، وعلى قلبه فلا يؤمن ولذا قال سبحانه من بعده :( قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله )
والاستفهام هنا استفهام إنكاري لنفى الواقع، فهو توبيخ مؤكد بالاستفهام، والمعنى أن الله تعالى يأمر نبيه الأمين أن يسألهم موبخا منكرا عليهم أنهم لا يعيبون عليه إلا أنه والمؤمنين معه آمنوا بالله ورسوله حق الإيمان، وأن أكثرهم فاسقون، وهنا بعض مباحث لفظية نذكرها لتقريب معنى النص السامي الكريم.
المبحث الأول : كيف يعيبون الإيمان مع أنهم كافرون، وإنما يحسد على الإيمان من يدركه، ويعرف مزاياه ويحقد على المؤمن، لأنه حرم منه، والجواب عن ذلك أن أهل الكتاب يعرفون الرسالة والرسل، ومنهم موحدون يدركون معاني التوحيد، وهم يحسدون المؤمنين على ذلك وخصوصا اليهود والمنافقين، وقد قال تعالى فيهم :( ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء... ٨٩ )( النساء ) وقال تعالى :( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير١٠٩ ) ( البقرة ).
فهؤلاء الكافرون من أهل الكتاب يستنكرون على المؤمنين إيمانهم، والباعث على ذلك أمران : أحدهما – حسد مستكن في قلوبهم، وهم يرون أن النبوة نعمة كانوا يرجونها فيهم، فكانت في غيرهم، وأن الإيمان نعمة وخير، وهم يحسدون الناس دائما على ما آتاهم من فضله، وقد قتلهم الحسد، وأفسد مداركهم.
الأمر الثاني : الذي بعثهم على النقمة على أهل الإيمان أنهم يرونهم في قوة نامية وهم في خسة هاوية، وهم كفار منزعجون وأولئك مؤمنون مطمئنون.
المبحث الثاني – إن في النص الكريم حصرا لسبب النقمة على المسلمين ولذلك كان الاستثناء في قوله تعالت كلماته :( هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل ).
المبحث الثالث – أن إيمان المؤمنين شامل للرسالات الإلهية كلها، فهم يؤمنون بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله، واليهود كانوا يأخذون على المؤمنين أنهم يؤمنون بكل الأنبياء ومنهم من قتلوهم ومنهم من حاولوا قتله ولم يستطيعوا أن ينالوا منه، وقد روى عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن بعض زعماء اليهود ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه عما يؤمن به فقال- عليه الصلاة والسلام – أومن بالله وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ) فلما ذكر عيسى – عليه السلام – جحدوا نبوته، وقالوا : لا نؤمن بمن آمن به ).
المبحث الرابع – أن الله تعالى قال :( وأن أكثرهم فاسقون ) ولم يقل سبحانه وأنتم فاسقون إنصافا للذين يقتصدون منهم، وقد قال تعالى :(... منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعلمون٦٦ ) ( المائدة ) وقال تعالى :( ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون١١٣ يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين ١١٤ وما يفعلون من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين ١١٥ ) ( آل عمران ).
وإن الأكثرين منهم فاسقون، بل إنه يكون منهم ما هو شر من الفسق في ذاته فيقعون مع الفسق في أشد مظاهر الخسة، ولذا قال سبحانه فيهم :( قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله )
والإشارة عند الأكثرين إلى ما نقمه اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه من أنهم يؤمنون بالرسالات الإلهية كلها لا فرق بين رسول ورسول، ولو كانوا هم قد قتلوه أو حاولوا قتله، والمثوبة في أصل معناها الجزاء الثابت على العمل، سواء أكان شرا أم كان خيرا، ولكن شاع استعمالها في الخير، وهي في لغة القرآن لا تكون إلا في الخير كالثواب فإنه مقابل العقاب.
وهنا يرد سؤالان : أولهما – كيف يكون الإيمان شرا، ويوجد ما هو أعظم، شرا منه ؟ وكيف يعبر عن جزاء الشر بالمثوبة ؟ والجواب عن السؤالين : إن في التعبير عن ثمرات شرهم بالمثوبة من التهكم بهم، والازدراء بتفكيرهم وإن التعبير عن الإيمان، وهو خير، بالشر من قبيل المشاكلة لتفكيرهم كأنه قيل إذا كنتم تنقمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم إيمانه وتحسبونه شرا لا خير فيه فشر منه عاقبة ومآلا ما أنتم عليه من لعن وطرد من رحمة الله، ومن وقوع في غضبه ومن مسخهم قردة وخنازير.
وقيل : إن الإشارة إلى فسقهم ومؤدى الكلام على هذا أن هناك ما هو شر من فسقهم وجحودهم وهي ثمرة فعلهم، وتلك الثمرة هي اللعن والطرد من رحمته، ومسخهم قردة وخنازير، وكأن قوله :( أكثرهم فاسقون ) فيها حكم بالفسق الدائم المستمر في اليهود الذي يتوارثونه جيلا بعد جيل، حتى صار ذلك كالجبلة فيهم والغرائز الموروثة وقوله تعالى :
( أولئك شر مكانا ) بيان لثمرة فسقهم. ولكن الظاهر هو الأول لأن المقابلة واضحة في هذا النص الأخير إذ فيه مقابلة ما عليه أهل الإيمان بما آل إليه أمرهم.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى حالهم في الدنيا والآخرة، فقال تعالت كلماته :
( من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ) المقابلة هنا بين من آمنوا بالله ورسله، وبين من أنزل بهم سبحانه ما أنزل، وقد ذكرهم مقرونين بما أنزله سبحانه ومعنى من لعنه أنه طردهم من رحمته، رحمة الإيمان وإدراك الحق والقرار والاطمئنان في الدنيا، وضرب الذلة عليهم إلا بحبل من الناس، وإن استقروا زمانا فإلى طرد مستمر، هكذا كان ماضيهم، وهكذا يكون حاضرهم إن شاء الله تعالى وإنهم في الآخرة في السعير يدوم عليهم عذابها.
والأمر الثاني – الذي ينزله تعالى بهم هو غضبه عليهم وسيعاملون في الدنيا والآخرة على مقتضى حكمته في غضبه وعدم رضاه.
والأمر الثالث – أن الله سبحانه وتعالى جعل منهم القردة والخنازير، وقد سار المفسرون على الأخذ بظاهر اللفظ، وقالوا : إن الله تعالى مسخهم قردة وخنازير حقيقة بل أفرط بعضهم فزعم أن القردة والخنازير خلفوا نسلا لهم، ولكن الحقيقة أن القردة والخنازير كانت قبلهم، وقوله تعالى :( وجعل منهم القردة والخنازير ) مبالغة في المشابهة بينهم، حتى كأنهم الأصل في هذين النوعين من الأحياء.
ومع أن المفسرين قد أخذوا بظاهر الألفاظ من غير تأويل، قد روى عن مجاهد الذي تلقى التفسير عن ترجمان القرآن ابن عباس أن المراد بمسخهم قردة وخنازير مسخ قلوبهم، فصاروا في نزواتهم، واستيلاء الشهوات على نفوسهم وعبثهم بكل مقدرات القيم الخلقية كالقردة، كما صاروا في قذارات نفوسهم، وتطلبهم للقذر من المكاسب كالخنازير إذ يطلبون القذارات يأكلونها، وتنمو أجسامهم عليها.
وقد قال ابن كثير في تفسيره ما نصه عن مجاهد :( فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين، فقال : مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة، وإنما هم مثل ضربه الله تعالى :(... كمثل الحمار يحمل أسفارا... ٥ ) ( الجمعة ) وهذا سند جيد عن مجاهد وهو قول غريب ( الجزء الأول من تفسير ابن كثير ص١٠٥ طبع التجارية ).
وعندي أنه لا غرابة وإن كان الأكثرون يستغربون وإنه قد وردت أحاديث قد تفيد هذا، فقد روى عن ابن مسعود أنه قال :( سألنا رسول الله صلى الله عن القردة والخنازير أهي من نسل اليهود ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :( إن الله لم يلعن قوما قط فمسخهم فكان لهم نسل، ولكن هذا خلق كان فلما غضب الله تعالى على اليهود فمسخهم جعلهم مثلهم١.
وإنه قد يستفاد من الحديث أن المثلية في النفوس لا في الأجساد وهذا هو الذي نميل إليه واللفظ يحتمله ولذا نختاره.
والأمر الثالث الذي منى الله تعالى به اليهود أنهم عبدوا الطاغوت، والطاغوت فعلوت من الطغيان وهم يعبدون الطغيان دائما، فهم يعبدون الحاكم الطاغي، ويكونون أدواته وهم يعبدون المال الطاغي المأخوذ من غير حله، وهم يعبدون الهوى ويتخذون هواهم إلها يعبدونه.
وقد سجل الله سبحانه وتعالى الحكم مؤكدا فقال سبحانه :
( أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل ) أي أولئك المتصفون بالفسق الذي أنزل الله تعالى عليهم سخطه، وقرر طردهم من رحمته، ومسخ قلوبهم حتى صارت قلوبهم كقلوب القردة والخنازير، وعبدوا الطغيان، ولم يؤمنوا بالحق، هؤلاء شر مكانا أي مكانهم في الدنيا شر مكان إذ يأكلون من المحرمات، كما تأكل الخنازير من القاذورات، وهم في ذلة، ولو أوتوا قوة وسلطانا بسبب اتصالهم بأشرار الأرض، فهم في ذلك بالتبعية، وهم أبعد عن الطريق السوي المستقيم، فهم في ضلال مستمر، وإن سكنوا واطمأنوا أياما فسيذيقهم الله تعالى وبال أمرهم ويحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.
ذكر سبحانه وتعالى في الآية السابقة بعض الصفات اليهود، وضعف من يواليهم ويركن إليهم، إذ يركن إلى الذين ظلموا فتمسهم النار، وذكر طبائعهم الحيوانية التي تشبه الخنازير في شراهيتها، والقرود في نزواتها، بين بعض ما يترتب على هذه الدخيلة من مظاهر في أعمالهم، وأولها النفاق في أقوالهم، وأكلهم سحت المال في معاملاتهم، ومسارعتهم إلى كل معصية وعدوان، ولذا قال سبحانه :
( وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به ) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم و ا لمؤمنين وقد كان يتكرر منهم استهزاء وسخرية أو نفاقا، ومخادعة أو الأمران معا، كان ذلك يتكرر منهم، ولم يكن مرة أو اثنين، بل كان يتكرر من غير عدد ولذلك قال سبحانه في أحوالهم :( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون ٧٦ أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ٧٧ ( البقرة ) وقال سبحانه وتعالى فيهم :( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا امنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ١٤ الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ١٥ ) ( البقرة ).
وكان الخطاب للنبي والمؤمنين ليذكرهم بصفات المنافقين واليهود، وليؤكد لهم أنهم لا يصلحون أن يكونوا أولياء لكم، لأن الولي النصير أو المحب يجب أن يفتح قلبه لك، ويخلص لك الود، ويمحض لك المحبة، واليهودي ومحبته للناس، نقيضان لا يجتمعان فلا تتخذوا منهم معشر المؤمنين أولياء، لأنه لا ولاء لمنافق، ولا محبة من حقود حاسد، وقد كان ذلك تصويرا لحالهم، في نفاقهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وقد صور ذلك سبحانه بقوله تعالت كلماته :( وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به ) أي أنهم كانوا على ما هم عليه عندما دخلوا وعندما خرجوا دخلوا كافرين وقد قال النحويون : تكون للتكثير أو للتقليل عندما تدخل على المضارع وتكون للتقريب أو التحقيق عندما تدخل على الماضي، ورأى أن أكثر استعمال القرآن الكريم لها للتحقيق لا للتقليل ولا للتكثير، ولذلك يقول سبحانه :( قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا١٨ ) ( الأحزاب ) ويقول تعالت كلماته :( قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون... ٣٣ ) ( الأنعام ) وواضح أن ( قد ) في الماضي للتحقيق في قوله تعالى حكاية عن قول سيدنا المسيح يوم القيامة :(... قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس بحق إن كنت قلته فقد علمته... ١١٦ ) ( المائدة ).
ألا ترى أن قد دخلت على علم الله تعالى وهو مؤكدا إذا حصل موضوعه.
و( قد ) هنا قال المفسرون للتقريب، أي أنها قربت الماضي من الحال القائمة والجملة الماضوية لا تكون حالا إلا إذا جاء معها قد، ليكون معنى التقريب قائما وهو تقريب الحال القائمة من الماضي المستقر، والمعنى أنهم دخلوا كافرين، وخرجوا كافرين.
وارى أن ( قد ) هنا للتحقيق وتأكيد المعنى والباء للمصاحبة، والمعنى دخلوا مصاحبين لكفرهم المؤكد وخرجوا مصاحبين للكفر المؤكد، وقد تأكدت حالهم الأولى بالتعبير بقد، وتأكدت حالهم وهي الخروج بالكفر بقد وبهم، فكان تأكيد مصاحبتهم للكفر وهم خارجون أقوى من تأكيدها وهم داخلون، وهذا للإشارة إلى أنهم ما دخلوا بقلب سليم، بل دخلوا مخادعين منافقين، ودخولهم على هذه النية المحتسبة عليهم تزيدهم كفرا ونفاقا، لأنهم كلما لاح دليل زادهم عنتا وزادهم كفرا على كفرهم، والتعبير ب ( هم ) الدالة على القصر فيه إشارة على أنهم مقصورون في خروجهم على الكفر ليس لهم حال سواه، وذلك فضل تأكيد.
( والله أعلم بما كانوا يكتمون ) صدر الله سبحانه وتعالى النص الكريم بلفظ الجلالة لتربية المهابة، ولبيان أنه الناصر والولي الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وأن تدبيره فوق كل تدبير، وعلمه فوق كل علم، وأفعل التفضيل ليس على بابه، لأنه لا يوجد من يكون علمه من جنس علمه، حتى يكون علم أكبر وأعظم بل المراد – والله سبحانه وتعالى العليم – أن الله تعالى يعلم ما يخفون علما لا يدانيه علم وليس فوقه علم، وهو أعلى ما يتصور من علم فعبر بفعل التفضيل تقريبا لا تحقيقا.
والتعبير بقوله تعالت كلماته :( بما كانوا يكتمون ) بالجمع بين الماضي والمستقبل يفيد أنه يعلم بما كتموه في الماضي، وما يكتمونه في الحاضر والقابل، فهو سبحانه يعلم ماضى أمرهم، وحاضره، ومغيبه، ولفظة كانوا على هذا المعنى تفيد العلم المستمر.
في هذا النص توجيه النبي صلى الله عليه وسلم على ما عليه كثير من اليهود من مفاسق ومفاجر وعدوان، وقد كانت عبارات التنبيه موجهة واضحة وموضوعها بين يرى بالعين أو بما يشبه العين لوضوحه، فأنت ترى الكثيرين منهم يخوضون في الشر خوضا لا يرعوون ولا يجتنبون سواءا بل يقدمون على كل حرب وشر.
وحكم الله تعالى عدل دائم، وينبه سبحانه إلى العدل في الأحكام فهو سبحانه لم ينبه النبي – عليه السلام – إلى أنهم جميعا فيهم الشر مستحكم، بل في الكثير، لا في الكل، ولا في القليل، ومعنى المسارعة في الإثم والعدوان، المعاجلة وعدم التردد، فهم لا يترددون في ارتكاب الإثم والعدوان، وربما يترددون كل التردد في الخير ونفع الناس لذات النفع، والتعدية بفي تشير إلى أنهم مغمورون في الآثام ينتقلون فيها مسارعين من حال إلى شر منه، فهم يرتعون فيها دائما.
وقد تكلم العلماء في معنى الإثم والعدوان، فقال بعضهم : الإثم هو الكذب والعدوان هو تعدي حدود الله تعالى، والاعتداء على محارمه.
ولكن ابن جرير الطبري فسر الإثم بالمعاصي، والعدوان بالتعدي، أو ما يتجه نحو ذلك.
والذي نراه أن الإثم كما هو الأصل اللغوي له في الجملة هو ما يبطئ عن الخير، والكذب إثم لأنه يبطئ عن فعل الخير، فالإثم هو ما عند اليهود
من تباطؤ عن الخير، وعصيان للأوامر التي يكون في أدائها نفع الناس، والنص يبين أن هؤلاء يعملون أعمالا من شأنها أن تبطئ عن فعل الخير، ويعوقونه، وهم مع ذلك يعتدون على غيرهم، فهم محرمون من الخير سلبا وإيجابا لا يفعلونه ويفعلون نقيضه، والله تعالى من ورائهم محيط.
وإنهم لفساد نفوسهم، واستيلاء الشر على قلوبهم فسدت مداركهم حتى أنهم يحسبون أن ما يفعلونه من آثام وعدوان هو خيرا، وهو فساد في الأرض عظيم، ولذلك عبر سبحانه عن عملهم السوء في عجلة وتسرع من غير مواناة بالمسارعة مع أن أكثر استعمال المسارعة في الخير، كما قال تعالى :( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين١٣٣ ) ( آل عمران ) وكما قال تعالى :(... ويسارعون في الخيرات... ١١٤ ) ( آل عمران )وقوله :( نسارع لهم في الخيرات... ٥٦ ) ( المؤمنون ) وذلك لأنهم يحسبونه خيرا فعبر عنه باللفظ الذي يدل على الخير، إذ إنهم لفساد قلوبهم يأثمون ويؤذون ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، وأوضح اعتداءاتهم على الناس أكلهم أموالهم بالباطل ولذلك قال سبحانه عاطفا على سوء عملهم :( وأكلهم السحت ).
السحت : ما يستأصل من قشور الأشياء وسحته معناه استأصله، والسحت والإسحات الاستئصال كما قال تعالى :(... فيسحتكم بعذاب... ٦١ ) ( طه ) وقد أطلق السحت على كل محظور لأنه يستأصل أخذه كل علاقة اجتماعية تربط الناس بعضهم ببعض وتفسد أمورهم كالربا، والرشوة، واخذ الأموال بالغش والتزوير والنصب، والاحتكار الآثم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم :( المحتكر خاطئ ) أي آثم.
وإن اليهود لانقطاعهم عن الاتصال الأدبي بالناس، والتألم لآلامهم، كانوا يعتبرون الناس وأموالهم نهبا مقسوما ما لهم دون غيرهم، فكانوا يأكلون أموال الناس، لأن من عداهم وهم المختارون فكانوا يقولون : ما علينا في الأميين.
وإن اليهود بسبب بغضهم الشديد الذي توارثوه جيلا بعد جيل، قد انفصلوا عن الناس بقلوبهم وقد عاشوا مضطهدين في وسط النصارى أذاقوهم الويل والذل أكؤسا فكونوا الجماعات السرية ليفتكوا بالوحدات الاجتماعية، وليفسدوا العلائق بينها وما من دعوة مخربة إلا كان اليهود دعامتها، وأخذوا يكتنززن الأموال بالطرق المحرمة فهم الذين نشروا الربا في الأرض وهو من أخبث انواع السحت، واتخذوا الرشوة سبيلا لبسط سلطانهم في الأرض، واتخذوا الاحتكار ذريعة لتجويع الناس، والناس جميعا في نظرهم أعداؤهم في الأرض، واتخذوا النصب والاحتيال والغش والخديعة ذريعة لأكل أموال الناس بالباطل، وإن تظاهروا بفضيلة مالية، لكي يكتسبوا من هذا المظهر وبذلك أفسدوا الضمائر وهتكوا حمى الفضائل وأزالوا أو حاولوا أن يزيلوا كل المقومات الخلقية ليفسدوا المجتمعات ويزيلوا كل القيم، وإن الذلة تلاحقهم إن شاء الله تعالى وقد حكم سبحانه على أعمالهم بقوله تعالت كلماته :( لبئس ما كانوا يعملون ).
ذلك حكم صارم قاطع يذم أعمالهم والله سبحانه وتعالى حكم ذلك الحكم القاطع على أعمالهم باستحقاقها للمذمة ؛لأنها مخالفة لأوامر الله تعالى ونواهيه، وهي شر في ذاتها، وهي مقوضة لكل مقوم للأخلاق والفضائل والعلاقات الإنسانية.
والحكم على ما كان منهم وما هم مستمرون فيه من عمل، ولذلك عبر الماضي والحاضر، فذكر كان بلفظ الماضي، و ( يعلمون ) بلفظ المضارع الدال على الحال والمستقبل ومؤدى ذلك الجمع أي أن ذلك كان منهم في الماضي وهو مذموم واستمروا عليه في الحاضر والمستقبل، وذلك أشد شرا، وأوغل فسادا.
وقد أكد سبحانه ذلك الحكم بالقسم وباللام الموطئة للقسم، وبكلمة بئس الدالة على شدة الذم.
والله سبحانه وتعالى يتولى الناس ويدفع عنهم شرهم، ويرد عنهم كيدهم وإنهم منذ أخرجوا من مصر مستنقذين على يد كليم الله تعالى موسى عليه السلام، ونفوسهم في الشر، يبدو منهم وتتوالى مقاومة الناس لهم، ولذلك قد تولد معه إحساس بالكمال دون الناس، حتى توهموا انهم الشعب المختار في هذه الأرض، ولكي يفرضوا سلطانهم لم يجدوا سبيلا إلا المال، فأكلوه سحتا، وأنفقوه سحتا وتوارثوا ذلك خلفا عن سلف، حتى إن المستقرئ لتاريخ الأمم لا يجد جماعة من الناس تشابه حاضرها بماضيها، تشابه حاضر اليهود بماضيهم، حتى عن القرآن الكريم كان يخاطب الحاضرين منهم بأعمال الماضين، لأنهم مثلهم تماما وعلى شاكلتهم وهم غير قابلين للتغير.
و ( لولا ) هنا للحض على الفعل في المستقبل والتوبيخ في الماضي على عدم فعله، وهو هنا للتوبيخ على تقصيرهم في الماضي وتخاذلهم عن أدائه، وإلا ما كان ذم حالهم، واستنكار أمرهم، والمعنى : هلا كان من هؤلاء الذين كان يتبعهم اليهود ويستمعون إليهم، ويستجيبون لهم من يرشدهم إلى الحق ليتبعوه وينهاهم عن الظلم ليجتنبوه وقد اتخذوا أولئك الأحبار والربانيين وسطاء بينهم وبين الله ليتعرفوا عن طريقهم، ولكنهم لم يفعلوا.
ولقد كان الموضع الذي كان ينبغي أن ينبهوا عنه هو قولهم الإثم وأكلهم السحت، فالنهي الواجب منصب على أمرين : أحدهما – قول الإثم أي القول المبطئ المانع من الخير، والثاني : أكل السحت، والأمران جماع الرذائل فإن الذي يدفع إلى الشر قول ذميم يحرض على الفساد ويدفع إليه، ويجرئ الناس عليه، ويتضمن ذلك ارتكاب الشهوات بكل أجزائها، لأن أول الشر استحسانه، واستحسانه يكون غالبا بالقول المشجع عليه والدافع له، ثم استمرءوا من بعد ذلك بقوله يزينه ويزكيه ويكون من بعد ذلك ممن زين له سوء عمله فرآه حسنا.
والأمر الثاني : طمع لما في أيدي الناس وحسد على ماا تاهم الله من فضله ووراء أكل المال الناس بالباطل، وشره لما في أيديهم، واتخاذ المال ذريعة لإفساد ذات البين بينهم، والتحريض على الشر، والتحكم المرذول.
ولعل ذكر نهى الأحبار للعامة عن السحت تعريض بهم، لأنهم كانوا لا يتعففون عن الرشا بكل أنواعها كما أن ذكر النهى عن القول الإثم تعريض آخر بأحوالهم فإن من قول الزور تحريف الكلم عن مواضعه، والنطق بالزور في الشرع، وكان يقع منهم، ولذلك ذم سبحانه صنيعهم وهو لا يخلو من فساد حكمهم وتغيير حكم الشرع لهوى الأقوياء منهم، فقال تعالت كلماته ( لبئس ما كانوا يصنعون ) ذم الله تعالى صنيعهم وهو علمهم الشر بدقة وإحكام، لا بمقتضى الغرائز الحيوانية من غير تفكير، وفي الماضي، وما هم عليه في الحاضر، وما يكون منهم في المستقبل.
وهنا يتكلم المفسرون في التفرقة بين ذم أعمال اليهود عامة من دهماء وغيرهم بقوله تعالى :( لبئس ما كانوا يعملون ) وذم أعمال الربانيين والأحبار بقوله تعالى :( لبئس ما كانوا يصنعون ).
وخلاصة هذه التفرقة أن العمل يكون عادة بانبعاث شهوة من طمع مال، أو لذة جسد، أما الصنيع فإنه يكون بمهارة وتدبير وتعرف للغايات والنتائج ولو كانت آثمة، وأن الصنيع يكون بالعمل وغيره، ومن أحسن من قال في التفرقة فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير، فقد قال موضحا ما ذكره الزمخشري وغيره، والمعنى أن الله تعالى استبعد من علماء أهل الكتاب أنهم ما نهوا سفلتهم وعامتهم عن المعاصي، وذلك يدل ان تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه لأنه تعالى ذم الفريقين في هذه الآية على لفظ واحد، بل نقول : إن ذم تارك النهي عن المنكر أقوى لأنه تعالى قال في المقدمين على الإثم والعدوان وأكل السحت : لبئس ما كانوا يعملون وقال في العلماء التاركين للنهي عن المنكر لبئس ما كانوا يصنعون والصنع أقوى من العمل لأن العمل إنما يسمى صناعة إذا صار مستقرا راسخا متمكنا فجعل جرم العاملين ذنبا غير راسخ وذنب التاركين للنهى ذنبا راسخا، والأمر في الحقيقة كذلك لأن ا لمعصية مرض الروح وعلاجه العلم بالله وبصفاته وبأحكامه فإذا حصل هذا العلم وما زالت المعصية كان مثل المرض الذي شرب صاحبه الدواء فما زال ).
وإن هؤلاء الرابنيين والأحبار لم يكن ما أخذ عليهم هو السكوت عن النهي فقط، بل إنهم رتعوا فيما رتع فيه غيرهم، وبذلك ضلوا وكانوا سببا في فساد الجمع كله ولعنهم وطردهم كما قال الله تعالى :( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون٧٨ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون٧٩ ) ( المائدة ).
ولقد قال ابن عباس في هذه الآية :( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار ) إنها أصعب آية في كتاب ؛ لأنها إثم الذين يقصرون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما عصام الأمر، ومانعاالا ثم، وبهما صلاح الجماعة الإنسانية روى الامام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي وهم أعز منه وأمنع، ولم يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من عنده ).
وروى يحي ابن معمر أن الإمام على ابن أبي طالب خطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :( أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم بركوبكم المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار فلما تمادوا في المعاصي أخذتهم العقوبات فأمروا بالمعروف انهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقا ولا يقرب أجلا ).
وإن ما توقعه إمام االهدى علي- كرم الله وجهه- قد وقع، فإن الذين يتخذون من المؤمنين مكان الأحبار باسم الإسلام، قد سكتوا عن النهي عن قول الإثم، بل منهم من أيد المنكر، بعد أن ارتضاه ومنهم من مالأ في دينه، يحسب أن قول الحق قد يقطع رزقا، أو يضيع أملا، وبذلك وقعت معاص من غير استنكار، وترك الواجب في استهتار، ولا منادى بالحق، اللهم وفقنا لقول الحق واعف عنا واغفر لنا وأنت خير الراحمين.
بين الله سبحانه وتعالى أحوال اليهود ومعاملتهم للمؤمنين وهي تدل على مقدار حقدهم على أهل الإيمان وتعصبهم ضدهم، ونفاقهم في ذات أنفسهم ومعاملتهم للمؤمنين بالخداع واستهزائهم بالحقائق الإسلامية واتخاذهم الدين هزوا ولعبا.
وفي هذه الآية يبين سبحانه حالهم فيجنب الله تعالى، وأنهم إن أعطوا أشروا وبطروا النعمة، وإن منعوا كفروا وقالوا قالة لا تليق بذات الله تعالى، وإن هذا ليس هو الطريق الأمثل لمن أوتوا الكتاب وبلغوا رسالات النبيين، ولذا قال سبحانه :
( وقالت اليهود يد الله مغلوبة ) أصل الغل : توسط الشيء وتدرعه، والغل ما يفيد به الشخص ويجعل الأطراف وسطه، وقيل للبخيل هو مغلول اليدين، ومن ذلك ما حكاه الله سبحانه وتعالى عن اليهود أنهم قالوا يد الله مغلولة، وهي تحتمل عدة معان متلاقية في مؤادها، وإن اختلفت فيما يقرر سبب قولهم لعنهم الله، فقد قيل : إنهم لما علموا أن كل شيء مقدر بقدر، وأنه سبحانه وتعالى قضى كل شيء فقدره تقديرا تهجموا بهذا القول غير الكريم، فقالوا : إن يد الله مغلولة أي في حكم المقيدة، وقيل : إنهم كانوا يرون المؤمنين الصادق إيمانهم في غير ثروة، وهم يعتمدون على الله، فقالوا مقالتهم وقيل : إنهم بسبب كفرهم وإيذائهم للمؤمنين وتغير الأحوال قتر عليهم في الرزق فلم ينسبوا ذلك الى أسباب واقعة، بل قالوا مقالتهم في شأن ربهم.
والذي نراه أن اليهود في هلع دائم وطمع، وحسبوا أن الفقر لا ينالهم أبدا، فان أعطوا خيرا نسبوه لأنفسهم وحيلتهم وعلمهم، وإن لم يعطوا اتهموا ربهم، وذلك غير شأن المذعنين لله المؤمنين به الذين يعلمون انه يعطي ويمنع، ويعز ويذل بحكمة وتقدير.
ولفظ :( يد الله مغلولة ) مجاز عن البخل وهو من قبيل الاستعارة التمثيلية إذ شبهت حال من قبضت يده عن العطاء فلا يعطى بحال من غلت يده، وربطت على وسطه فلا يستطيع تحريكها، وعبر باليد لأنها هي التي يكون بها العطاء ولقد قال تعالى :( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا٢٩ ) ( الإسراء ).
وليس المراد باليد الجارحة بل الكناية عن المنع والإعطاء وقد قال في ذلك الزمخشري :( غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ) ومنه قوله تعالى :( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط حتى يستعمله في قليل لا يعطى بيده عطاء قط، ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يده وبسطها وقبضها، ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا : ما أبسط يده بالنوال لأن بسط اليد وقبضها عبارتان وقعتا متعاقبتين وقد استعملوه حيث لا تصح اليد كقوله.
جاد الحمى بسط اليدين بوابل شكرت نداه تلاعه ووهاده
وقد فسرت اليد المنسوبة لله تعالى بالمعنى المجازى المناسب في كل آية في القرآن الكريم على ما اختاره الغزالي وغيره، حتى أنه قال في قوله تعالى :(... يد الله فوق أيديهم... ١٠ ) ( الفتح ) بالسلطان والقوة، كما يقال وضع الأمير يده على المدينة ولو كان مقطوع اليدين والكلام في هذه المسألة مشهور في كتب علم الكلام.
( غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ) هذه الجملة معناها الدعاء عليهم، وهذا تعليم من الله لنا بان ندعو على من فسدت قلوبهم، وذهب بهم الطمع والجشع الى نسيان ما يجب لذات الله العلية، وما ينبغي فقالوا : كلمتهم التي قالوها، وهي تدل على استهانة بالحقائق وذات الله سبحانه تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، فعلمنا الله أن ندعوا عليهم بغل اليد وبالطرد وهو دعاء مستجاب ما داموا على هذا الحال من الأثرة المردية التي تنسيهم حقائق التدين والإيمان.
والدعاء بغل الأيدي معناه الدعاء عليهم بالشح المرير الذي يجعلهم مبغضين للناس، منحرفين عن طريقهم مطرودين من المجتمع، ويصح أن يفسر قوله تعالى :( غلت أيديهم ) بالدعاء عليهم بالغل الفعلي بأيديهم بأن يمنعوا عن العمل الحر، ويعيشوا أسارى أو كالأسارى في ذل، ويكون التعبير من قبيل الجناس بالمشاكلة اللفظية، وإنا نميل إلى هذا، ويرشح له التعبير بأيديهم، لأن العرف اللغوي جرى على أن التعبير بالأيدي يفيد البطش، والتعبير بالأيادي يفيد النعمة، فيقال لفلان الأيادي على فلان ولا يقال له الأيدي عليه، والمعنى على هذا الدعاء عليهم أن تغل أيديهم الباطشة فلا يقووا، على غيرهم بل يكونون أسارى أو كالأسارى، وما ينالون من قوة ظاهرة أحيانا فليست منهم، وهي إلى حين، وما كان ذلك إلا من فساد غيرهم.
( بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) هذا رد عليهم وبسط اليد هنا مجاز عن الجود والفيض والإنعام من الله تعالى على خلقه، وعبر هنا بالمثنى، فقال سبحانه ( يداه ) للإشارة إلى كثرة الفيض والإنعام والعطاء العميم كأنه يعطي بيدين لا بيد واحدة، ولكن إذا كانوا لم يدركوا فيض نعمته، فإنهم لم يدركوا معنى حكمته فإن الله تعالى يبسط يديه بالعطاء على الطريقة التي يراها، وبالحكمة التي يريدها، ولذا قال تعالى :( ينفق كيف يشاء ).
وهذه الجملة السامية تدل على أمرين : أحدهما -عموم عطائه. وثانيهما- أن شكل العطاء يختلف فأحيانا يكون لبعض الناس عميما ليختبرهم بكثرة العطاء، وليحاسبوا عليه وتكون النعمة الكثيرة ابتلاء وأحيانا يعطي حينا ويمنع حينا ليذوقوا النعمة بعد فقدها، ويختبر صبرهم وإيمانهم كما قال تعالى :(... ونبلوكم بالشر والخير فتنة... ٣٥ ) ( الأنبياء ).
والمؤمن الصادق الإيمان يصبر في الاعطاء والحرمان، والكافر يطغى بالعطاء ويكفر في الحرمان، ولقد قال تعالى في وصف النفس البشرية :( ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور٩ ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور١٠ إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير١١ ) ( هود ).
ولقد بين سبحانه وتعالى بعد أخلاق اليهود ومن يشاكلهم من أهل الكتاب فقال :
( وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ) في هذا النص الكريم يبين سبحانه وتعالى عدم رجاء الإيمان من أكثر اليهود، ذلك أن اليهود ليسوا طلاب حق، فيهتدوا إن بدت معالمه، وظهر نوره، بل هم قوم أكل الحقد قلوبهم، واستولى الحسد على نفوسهم، فهم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فإذا جاءهم النور ممن يحسدونهم لا يزيدوهم ذلك بغيا وظلما وكفرا.
وقد أكد سبحانه وتعالى فساد قلوبهم بالقسم المطوي باللام الموطئة له، وبنون التوكيد الثقيلة لكي ينتفي الرجاء في إيمانهم، وليعاملهم النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من المؤمنين على أساس مكنون نفوسهم، وخبايا أحاسيسهم والطغيان : الظلم الذي يتجاوز كل حد معقول والذي يبعث عليه الشره وفساد النفس، وزيادة الطغيان، وسببه أن ما أنزل إلى النبي جاء على غير ما يريدون، وأنهم حاسدون، وزيادة بالكفر بالإصرار عليه، وبزيادة مقدار ما يكفرون به من آيات، وبالعناد واللجاجة التي استولت عليهم.
( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ) ( بينهم ) يعني في جمعهم لأن البين هو الفاصل الذي يكون بين شيئين ويطلق البين ويراد به ما يلقى أمام الشخص ومن ذلك قوله تعالى :(... من بين أيدهم ومن خلفهم... ١٧ ) ( الأعراف ) وقوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله... ١ ) ( الحجرات ) وقوله تعالى :(... فقدموا بين يدي نجواكم صدقة... ١٢ ) ( المجادلة ).
والعداوة هي البغضاء المعلنة التي يناوئ فيها المبغض من يبغضه جهارا، والبغضاء هي الكراهية المستكنة والمعلنة، وعندي أنهما معنيان مختلفان فالعداوة المناوأة الظاهرة والمقاومة المعلنة، والبغضاء هي الكراهية التي يكون في القلب، فهما معنيان متغايران، وإن كانا متلازمين أحيانا، فلا عداوة من غير بغضاء، ولكن قد يفترقان فتوجد البغضاء من غير إعلانها، أي من ا لمناوأة والمقاومة.
والضمير في قوله تعالى :( بينهم ) يعود على اليهود لأن الحديث عنهم، ولا يدخل فيه النصارى وقد فهم بعض المفسرين أنه يعود على اليهود والنصارى والعداوة بين الفريقين مستحكمة إلا عند الذين تحللوا من نصرانيتهم وكادوا يكونون يهودا في أعمالهم.
والواضح أن الضمير يعود على اليهود وحدهم، وقد ألقى الله تعالى بينهم العداوة والبغضاء فقد افترقوا على أكثر من سبعين فرقة، كما ورد بذلك الحديث الصحيح فمنهم الجبرية والقدرية، والمشبهة ومنهم من ينكر البعث، ومنهم الربانيون والقراءون، وبينهم العداوة مستحكمة، وهم ينكرون أن يكون اليهود من غير بني إسرائيل، حتى إنهم لا يعترفون بيهودية من يدخل في دين موسى من غيرهم، فيعادون السامرة الذين لم يكونوا من أصل إسرائيلي.
ويصح أن نفسر قوله تعالى :( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ) بأن تستقبلهم بين أيديهم العداوة والبغضاء كالبين في قوله :(... من بين أيديهم... ٩ ) ( يس ) وفي قوله تعالى :(... لا تقدموا بين يدي الله ورسوله... ١ ) ( الحجرات ).
والمعنى على هذا ألقينا بين أيديهم عداوة وبغضاء تكون منهم للناس، ومن الناس لهم ذلك بأن ما في نفوسهم من حسد لجوج، ومادية شرسة، وأثره حاقدة، جعلتهم في عداوة مستمرة مع الناس، وجعلتهم مبغضين إليهم دائما، فهم مكروهون من الناس كارهون لهم يعادونهم ويبغضونهم ولا تجد في قلب أحد محبة لهم، ولو كانوا يناصرونهم أحيانا، لأن نصرتهم لأنفسهم ليكونوا آلة ينفذون بها مآربهم، والله سبحانه وتعالى من ورائهم محيط.
( كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ) إن هؤلاء اليهود لحسدهم المستمر للناس، ولكراهيتهم لهم يثيرون الحروب بين الناس، فهم يثيرونها على غيرهم إذا كانت فيه قوة، أو أحسوا أن فيهم قوة، أو اتخذوا ذريعة للإيذاء، واذا لم يكن فيهم قوة ولم يحسوها، كان عملهم إيقاظ الأحقاد بين الشعوب، وإثارة العداوات التي تعقبها الحروب، هذا شانهم الدائم المستمر يدفعهم إلى إثارة أسباب الحروب.
والتعبير بقوله تعالى :( كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ).
يجري على ما كان عليه العرب من أنهم كانوا إذا أرادوا حربا بالاغارة على غيرهم إما انتقاما أو اعتداء أو قدوا نارا يسمونها نار الحرب، ومهما يكن ما عند العرب من عبارات في هذا، فإن التعبي
وإن خير الأقوال أن يقال : إن المراد أن بسطه بالرزق ياتيهم من كل ما يحيط بهم ويعمهم الخير، كما يعبر عن شدة العذاب بأنه يأتيهم من فوقهم ومن أسفل منهم كما قال تعالى :( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض... ٦٥ ) ( الأنعام )
وفي النص الكريم بضع إشارات :
أولها- التعبير عن القرآن ب( ما أنزل إليكم من ربكم ) ففيه إشارة إلى أنهم مخاطبون به، وأنه منزل إليهم مع غيرهم، وليسوا خارجين عن التكليف الذي دعا إليه.
الإشارة الثانية-أن ما جاء في التوراة والإنجيل حقا هو من عند الله تعالى، وأن القرآن مصدق لما جاء قبله.
الإشارة الثالثة -ان إقامة الشرع تأتي بالرزق الرغيد لمن أخذ بالأسباب واعتمد على الله تعالى حق الاعتماد ويجب أن يعلم أن الرزق الحسن لا يتنافى مع مجهود الابتلاء.
( منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ) وإن هذا النص الكريم يشير إلى أنه لا يخلو جنس من خير فهؤلاء الكتابيون الذي كان فيهم اليهود لا يخلون من خير قد يدفعهم إلى الهداية وسلوك الحق المستقيم فهؤلاء الكتابيون منهم أمة مقتصدة والأمة : الجماعة من الناس الذي يجمعهم دين أو فكر أو مكان أو جنس أو نحو ذلك ويقول الخليل ابن أحمد : وكل شيء ضم إليه سائر ما يليه، يسمى أمة والاقتصاد من القصد وهو استقامة الطريق فالاقتصاد طلب الطريق المستقيم الذي يوصل إلى الهداية والحق، والمعنى على هذا : منهم جماعة مستقيمة الإدراك تدرك الحق وتذعن إليه، وهي قليلة فيهم، وليست كثيرة، وإن هؤلاء لاستقامة طريقهم وحسن إدراكهم يصلون إلى الحق ويؤمنون ويتقون، وبجوار هؤلاء كثير منهم تسوء أعمالهم ويكون من حالهم ما يثير العجب من عظم ما فيها من سوء فإن كلمة ساء تدل على التعجب من كثرة سوئهم، اللهم اهدنا إلى الحق واجعلنا من أهل القصد والإيمان.
في الآيات السابقة ذكر سبحانه تعالى مواقف اليهود من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وامتناع أهل الكتاب عن الإيمان بما جاء به تعصب من عندهم وإن اختلفوا في معاملتهم فمنهم من نافق وكذب وغدر وألب عليه الجموع، وحرض المشركين وحالفهم ومنهم من اقتصد في المخالفة، وبعض هؤلاء أحسن المعاملة مع الاختلاف ولم يمالئ عليه الأعداء والمشركون من وراء هؤلاء وأولئك يحاربون، ويحاولون أن ينتهزوا الفرص للانقضاض على المسلمين فكان البلاء شديدا، حروب وفتن يريدون إثارتها وخبال يقصدون إليه، ولذلك أمر الله نبيه بأن يمضي في تبليغ الرسالة غير ملتفت لما يدبرون إلا بمقدار إحباطه مطرحا عدواتهم وبغضاءهم فالله تعالى عاصمة منهم ولذا قال تعالت كلماته :
( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) النداء للنبي صلى الله عليه وسلم بوصف الرسالة لتشريفه بهذا الوصف الكريم ولأنه مصطفى لها :(... الله أعلم حيث يجعل رسالته... ١٢٤ ) ( الأنعام ).
وللتمهيد لما يأمره به من التبليغ وأن يصدع بأمر الله لا يراقب أحدا ولا يخاف من عدو، لأنه يبلغ ما أنزل الله تعالى إليه، وقد زكى سبحانه وتعالى الأمر بالتبليغ ووثقه بقوله :( ما أنزل إليك من ربك ).
بما أنه منزل إليك من الله تعالى، فأنت الأولى بالتبليغ دون غيرك، والمسئول عن إعلام الناس بما أنزل الله تعالى وإنك إذ تبلغ الرسالة في حماية الله تعالى وكلماته، ولذلك قال تعالت كلماته :( من ربك ).
أي الذي خلقك ونماك وقام على رعايتك وهو الذي يحميك، ويدفع عنك السوء والشر، ويبلغك مبلغ الحق من نشر الرسالة ليؤمن من يؤمن عن بينة، ويكفر من يكفر عن بينة :(... وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا١٥ ). ( الإسراء ).
وقوله : ما أنزل إليك من ربك ).
( ما ) فيه دالة على العموم وهي بهذا العموم تدل على معنى ( جميع ) بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك أي لا تخف شيئا ولا تكتم شيئا.
ولقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله تعالى بعثني برسالته فضقت بها ذرعا وعرفت أن الناس يكذبونني، واليهود والنصارى وقريش يخوفونني فلما، أنزل الله هذه الآية :( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) زال الخوف )١.
فالرسول صلى الله عليه وسلم بلغ الشريعة كلها غير منقوصة، وما كتم شيئا، ولقد قالت أم المؤمنين عائشة – رضي الله تعالى عنها – وعن أبيها : من قال : إن محمدا كتم شيئا من رسالة الله تعالى فقد أعظم الفرية٢ ولقد قال عليه السلام :( تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله تعالى وسنتي )٣.
ولو كان قد ترك شيئا لمن بعده لكان قد ترك تبليغ الرسالة، ولكن محال لقوله تعالى :( وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ).
أي إن لم تبلغ كل ما أنزل عليك فيما بلغت الرسالة، ذلك لأن ترك بعض الرسالة ترك لها، فمن كلف تبليغ كتاب لواحد، فأسقط منه أسطرا لا يعد قد بلغ الكتاب ومن يؤمر بتبليغ كلام فيحذف بعضه لا يعد قد بلغ الرسالة لأن الرسالة فيما هو عند الناس كل لا يقبل التجزئة فكيف تقبل رسالة الله تعالى إلى خلقه، تجزئة فينقل بعضها، ويكتم بعضها، وقد عبر عن هذا المعنى الزمخشري في الكشاف فقال :( ذلك أ ن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض وإذا لم تؤد بعضهم فكأنك أغلفت أداءها جميعا، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كأن لم يؤمن بكلها، لإدلاء كل منها بما يديله غيرها، وكونها كذلك في حكم شيء واحد والشيء الواحد لا يكون مبلغا وغيرمبلغ مؤمنا به وغير مؤمن به )أي ان تبليغ بعض الرسالة وترك بعضها معناه ترك وجوب الإيمان به فترة بعد وفاة الرسول، وذلك غير معقول في ذاته وغير مقبول في هذا الشرع الشريف : لأن الله تعالى عندما تأذن بموت رسوله قال تعالت كلماته :(... اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا.. ٣ ) ( المائدة ).
وإنه يجب التنبيه إلى أمور ثلاثة :
أولها : أن النبي صلى الله عليه وسلم ما انتقل إلى الرفيق الأعلى حتى أتم الرسالة بيانا، وقد يقول قائل إن الشريعة منها ما هو ثابت بالنص، وهذا بلا ريب قد تم بيانه قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقسم قد ثبت بغير النصوص فكيف يكون قد تم بيانه ؟ ؟ والجواب عن ذلك أن تبليغ الشريعة كان ببيانها، وليس معنى البيان أن يبين حكم كل جزئي من الجزيئات بل معنى البيان أن تبين الأحكام الكلية والجزئية التي يحتاج بيانها إلى نص، والجزيئات التي لا تبين يكون من الكليات ما يدل عليها بوجود العلة أو الغاية التي يثبت أن الشارع الحكيم أرادها، ولذلك يقول الامام الشافعي في الرسالة الأصولية : البيان إما نص قائم، وإما حمل على نص قائم، ولا شك أن كل حكم لا نص عليه يثبت الحكم فيه بالحمل على نص قائم سواء أكان الحمل بطريق القياس أي بإثبات الحكم غير المنصوص عليه في موضعه بالقياس على الحكم المنصوص عليه، في موضع يشبهه، ووجه الشبه العلة المؤثرة في الحكم، أم كان الحمل بطريق وجود المصالح ودفع المضار المتفق مع مقاصد الشرع وغايات أحكامه وذلك موضع اجتهاد الفقهاء.
الامرالثانى انه يجب التنبيه الى ان الذين ياخذون ببعض احكام الشريعة مؤمنين بها ويطرحون ورائهم ظهريا يحسبون ان مااطرحوه ليس من
الشرع ينكرون تبليغ النبي عليه الصلاة والسلام للرسالة كاملة، وذلك انحراف يؤدى إلى الكفر والعياذ بالله.
الأمر الثالث في قوله تعالى :( وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) فكيف يكون الشرط والجزاء في معنى واحد، لأن الشرط ظاهر معناه أنك إن لم تقم بالتبليغ كاملا صادعا بالحق، فما بلغت الرسالة أي انك إن لم تبلغ فما بلغت، وجزاء الشرط يجب أن يكون معنى مترتبا على الشرط وذلك يقتضي المغايرة بينهما، فلا يمكن أن يكونا شيئا وظاهر النص أنهما شيء واحد.
وقد أجيب عن ذلك بجوابين :
الجواب الأول : أن المعنى أنك إن لم تقم بأداء الرسالة كلها بأن تركت بعضها فإنك ت كون كمن ترك الرسالة كلها، وقد اعترض على ذلك الفخر الرازي بان ترك بعض الرسالة لا يمكن أن يكون كترك كلها، والجرم في ترك بعضها ليس كالجرم في تركها كلها، وإني أرى أن اعتراض الإمام فخر الدين الرازي غير داود، لأن ترك جزء من الرسالة من غير تبليغ يكون تركا للرسالة ذاتها، ولذا عبر في الجزاء بقوله تعالت كلماته :( فما بلغت رسالته ) أي إن لم تفعل بتبليغها كاملة فما أديت واجب التبليغ، وجرم الجزء كجرم الكل إذا كان يتعلق بالاعتقاد فمن أنكر بعض ما يجب الإيمان به يكون كمن ينكر إذ يكون ممن يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.
الجواب الثاني : أن يكون الكلام من قبيل بيان أن الشرط ذاته يكفي أن يكون فيه كمال التخلي عن التبليغ والمعنى على هذا أنك لم تقم بالتبليغ فحسبك أنك تخيلت عما يجب عليك أن تفعله، وهو عملك كرسول – وإن التبليغ يقتضي جهودا وبلاء، وتعرضا للأذى، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى ذلك وبين أنه في حماية الله تعالى وكفالته ولذا قال سبحانه :
( والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين ) العصم : الإمساك، ويتضمن الإمساك الحماية ومنع الأذى وجاء في مفردات الأصفهاني : عصمة الأنبياء حفظه إياهم أولا بما خصهم، به من صفاء الجوهر ثم بما أولاهم من الفضائل الجسمية والنفسية ثم بالنصرة وبتثبيت أقدامهم ثم بإنزال السكينة عليهم وبحفظ قلوبهم وبالتوفيق قال تعالى :( والله يعصمك من الناس ).
ومعنى العصمة من الناس على هذا ألا يمكنوا منه – عليه السلام – ومن دعوته، ومن نفسه فأوهامهم لا تعلق بنفسه ونفاقهم لا يؤثر في دعوته، وخلافهم وعنادهم لا يمنعان الحق من أن يصل إلى قلوب أهل الهداية والإيمان ولجاجتهم في الكفر لا تثنيه عما يدعو إليه، ويستمسك به، وما يثار عليه من حروب لا تهزمه ما دام هو ومن معه آخذين في الأسباب ناصرين لله وللحق.
وليس معنى عصمة الله تعالى أن يكون الوصول إلى الحق هينا لينا سهلا، بل إنه لا بد من الجهاد، ولا بد من نزول البلاء بل بتوالي الابتلاء، كما قال تعالى :( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب٢١٤ ) ( البقرة ).
فالعصمة هي عصمة النفس والجسم من القتل، والدعوة من أن يعوق طريقها ويقضي عليها، وإن كان الأذى البدني يقع كشج رأسه وكسر ثنياته وغير ذلك مما كان يفعله المشركون واليهود معه عليه السلام.
والناس لا يختصون بالمشركين واليهود، بل المراد السلامة مع الجهاد، من كل ما يكون من الناس عامة اذ لا دليل على التخصيص، وكان ممن آذوا النبي عليه الصلاة والسلام كسرى فارس، وما كان من هؤلاء ولا هؤلاء وقد عصمه تعالى منه.
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى كلماته، ( إن الله لا يهدي القوم الكافرين ) والهداية التي ينفيها هذا النص الكريم هي الوصول إلى الحق لأن الجحود قد ران على قلوبهم بما كسبوا من شر، وما اجترحوا من سيئات وما لجت به نفوسهم من عناد وهم لا يصلون إلى النيل من الحق وتعويق الدعوة، وعبر عن الكافرين بالقوم للإشارة إلى أنهم مهما تعددت أجناسهم وتباينت عناصرهم يلتقون عند غاية واحدة، وهي معاندتك والكفر بما جئت به، فهم بذلك التآلف في الإنكار صاروا كأنهم قوم متحدون.
٢ متفق عليه رواه مسلم: الإيمان – معنى قول الله عز وجل: (ولقد رآه...) (١٧٧) والبخاري بنحوه تفسير القرآن (يا أيها الرسول...) (٤٦١٢).
٣ رواه الحاكم في المستدرك (٣٢٤) والبيهقي(٢٠٧٨٠) والدارقطني (٤٥١١) عن أبي هريرة رضي الله عنه..
كتاب ما داموا لم يؤمنوا به ولم يقيموه ولذا قال تعالى :( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ) كان أهل الكتاب في البلاد العربية يستعلون على من فيها من أهل الوثنية، لأن عندهم علما من السماء بأنه سيكون منهم نبي ينصرهم ويؤيدهم، ولأنهم يتبعون نبيا من الأنبياء، وأنه كما حكى الله سبحانه وتعالى عنهم، إذ قال تعالت كلماته :(... وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ٨٩ ) ( البقرة ).
وكانوا يسمون العرب أميين توهينا لشأنهم ولبيان شرفهم بالعلم عليهم، فأمر الله تعالى نبيه أن يبين لهم أنهم لا يمكن أن يكونوا أعلى شأنا من الوثنيين الا إذا اتبعوا الكتب التي جاءت لأنبيائهم والكتاب الذي يخاطبون به وهو القرآن لأن شرفهم وفخارهم بهذا العلم، فلا بد أن يقيموه، ويعطوه حقه، وإلا فهو حجة عليهم وليس حجة لهم، وهو موضع مؤاخذة، وليس سببا للمفاخرة.
وأمر الله تعالى نبيه بأن يتولى هو خطابهم لأن الجدل والمعاندة كانت منهم له، ومعنى قوله تعالى :( لستم على شيء حتى يقيموا ) إنكم معشر أهل الكتاب لستم على شيء مما يعلو به الإنسان من علم أو دين أو خلق أو فضل، حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل عليكم من ربكم، وهو القرآن لأنكم تعتزون بعلم الكتاب فلا شيء لكم من الاعتزاز والفضل إلا إذا أقمتم ما تعتزون به، فلتنفذوا ما جاء في التوراة والإنجيل والقرآن، وبذلك تحققون السبب، فيتحقق المسبب وهنا إشارتان بيانيتان..
إحداهما- التعبير بقوله تعالى :( لستم على شيء ) بالتعبير ب ( على ) بدل ( الباء )وذلك أن حالتهم كانت حال استعلاء على غيرهم فكان المناسب أن يعبر بحرف الاستعلاء وهو ( على ) لنفى ذلك الاستعلاء والتعدية بالباء تفيد أن النفي منصب على ذواتهم وإنما النفي منصب على استعلائهم.
الثانية- التعبير عن القرآن بما أنزل إليكم من ربكم فلم يقل حتى تقيموا التوراة والإنجيل والقرآن- كان فيه تصريح بأنهم مخاطبون به، وأنهم ممن أنزل لأجلهم وإلى ذلك يشير قوله – عليه الصلاة والسلام – ( لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يؤمن بما جئت به )١.
( وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ) قد تكلمنا في معنى هذا النص الكريم، وما فيه من توكيد، وذكرنا أن القرآن المنصف لا يحكم على الجميع بالشر، وفيهم أخيار، ولذلك كان حكمه على الكثرة لا على القلة، وإن طغيانهم هو ظلمهم للحقائق، وإفراطهم فيما يطغون به على أهل الإيمان، وأشرنا إلى علة ذلك وهي حقدهم وحسدهم وأن النعمة تجيء إلى المحسود، فتزيد الحاسد حقدا وضغنا.
ولكن لم كرر القول هنا وقد ذكر آنفا ؟ والجواب عن ذلك ا ن كلام اليهود الذي حكاه الله تعالى عنهم كان في جنب الله مما يدل على إيغالهم في الكفر والإنكار وأنهم حاقدون على النبي صلى الله عليه وسلم فلا يزيدهم ماانزل عليه إلا طغيانا وكفرا، أما هنا فقد جاءت عقب الأمر الجازم بوجوب التبليغ وتعميمه – بالنسبة للموضوع، وبالنسبة للأشخاص فيبين سبحانه لنبيه عليه السلام أنه مع التبليغ لا يرجو الإيمان :(.. إن عليك إلا البلاغ... ٤٨ ) ( الشورى ) ولذلك قال سبحانه بعد ذلك :
( فلا تأس على القوم الكافرين ) الأسى : الحزن، وحقيقته اتباع الفائت بالغم والألم والمعنى لا تأس على إصرار الكافرين على كفرهم، ونزول اللعنة والعذاب بهم لا تتأسف لذلك، لأنك قد بلغت ولأنه يجب أن تتوقع منهم الكفر والجحود لأن كثيرا منهم لا يزيدهم ما أنزل إليك الا طغيانا وكفرا، ولأن تبعة الخطيئة عليهم دون غيرهم، ولأن الإيمان والهداية كما يريد الله، لا كما تريد أنت ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين٥٦ ).
( القصص ).
اللهم اهدنا للإيمان، واهد المسلمين للإيمان فلا عزة لهم إلا به، وإنك أنت العزيز الحكيم.
في الآيات السابقة أشار سبحانه إلى استعلاء اليهود والنصارى لأنهم أهل كتاب جاءت إليهم الرسل بالتعليم والتوجيه فبين سبحانه وتعالى أن الاستعلاء بالإذعان واتباع ما جاء إليهم والإيمان به، وفي هذه الآية يبين سبحانه وتعالى أن الناس جميعا في النجاة سواء، لا فرق بين يهودي ونصراني، وعبدة للكواكب، فالإيمان يجب ما قبله، ويسوي بين المؤمنين :
( إن الذين ا منوا والذين هادوا والصابئون والنصارى في هذا يبين سبحانه أن أساس النجاة وذريعة الثواب، ومنع للعقاب الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح واستشعار خشية الله واتقاء عذابه، وإطاعة ما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر ولا ينظر في ذلك إلى سابق ما كانوا يتدينون ولا إلى ما كانوا ينتحلون من نحل فكما أنه لا تفرقة أمام الله تعالى بالجنسية لا تفرقة أيضا بالنحلة والملة إذا كانوا ينتهون إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، ولذلك أكد سبحانه وتعالى أن الذين آمنوا بما جاء به محمد والذين هادوا أي اليهود والصابئين والنصارى من كان منهم يؤمن بالله واليوم الآخر ويعملون صالحا، لا خوف عليهم من عقاب ولا مؤاخذة عليهم فيما فرط من ذنوب إذ الإيمان يجب ما قبله، ويمحوا ما سبقه مما ارتكبوا، فهذا النص الكريم كما يفيد التسوية بين النحل السابقة إن استقاموا على الجادة والتقوا عند منجاة الإيمان يفتح أيضا باب الرجاء ويقرب التوبة. وهنا أصناف أربعة هم الذين آمنوا واليهود والصابئون والنصارى.
فالذين آمنوا هم الذين أذعنوا للحق، وآمنوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه وأطاعوه واليهود هم بنو إسرائيل الذين هم شر البرية بأعمالهم إن إقلعوا عنها، فباب الرحمة مفتوح يدخله كل عباد الله تعالى.
والصابئون أو الصابئة طائفة ظهرت في بلاد المشرق، وقد قيل فيها : إنهم يعبدون الكواكب، وبعضهم قال : إنهم يقدسونها من غير عبادة، ولا يخرجهم ذلك عن الشرك لأن تقديس ما لا سبب لتقديسه نوع من العبادة وإن لم تكن بالصلاة.
وقد حدث أن ادعوا الدخول في النصرانية في عهد المأمون فإنه التقى بهم في إحدى الغزوات فسألهم من أي أهل الذمة أنتم ؟ فقالوا : صابئة فقال : لا بد أن تدخلوا في دين من الأديان السماوية أو أخرجكم من ديار الإسلام لأنه لا عقد ذمة إلا مع أهل دين سماوي، ( وذلك أحد الآراء الفقهية وأشهرها ) فاختار الأكثرون منهم أن ينتحلوا اسم النصرانية، ومنهم من بقي على عبادة الكواكب، وإن أظهروا غير ما يعتقدون، ومنهم من خلط بين النصرانية، وما بقي لهم من بقايا تقديس الكواكب وهم أكتم الناس لعقائدهم، ولا تزال بقية باقية منهم في تخوم العراق، ولا يستطيع أحد أن يجزم بحقيقة اعتقادهم.
والنصارى وهم طوائف مختلفة تجمعهم ألوهية المسيح، والتثليث، ومتفرقون فيما وراء ذلك ما بين كاثوليك أو ملكانية، وأرثوذكس أقباط، وطوائف غربية ونساطرة ومارون، وغيرهم.
والنص الكريم كما تلونا هو هكذا، ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى ) ونرى أن ( الصابئون ) مرفوعة، وظاهر السياق أن تكون بالنصب، فتكون والصابئين وهذه قراءة ابن كثير، وقراءة الآخرين بالرفع، ولذلك تكلم المفسرون في هذه القراءة التي يقرأ بها الأكثرون. وقد خاضوا في ذلك لأجل التخريج النحوي، وليس لأحد أن يخطئ القراءة من الناحية اللغوية، إلا أن يكون كجهلة بعض المستشرفين الذين يحسبون أن قواعد النحو حاكمة على القرآن، وذلك من فساد النظر لأن القرآن فوق النحو، إذ النحو يستقي منه، وهو لا يخضع لما يقرره النحويون، بل هم الذين يخضعون له، وأن القرآن قد ورد بذلك فهو قد دل على أن العطف على اسم إن بالرفع جائز ولو كان الخبر متأخرا، ولا يحتاج إلى شاهد سواه، وأنه هو الشاهد الأول على سلامة التعبير من الوجهة العربية، ومع ذلك قد جاءت شواهد من كلام العرب بوجوب رفع المعطوف على اسم ( إن ) قبل وجود الخبر فقد قال ضابئ ابن الحارث :
فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب.
وترى أن العطف بالرفع على اسم إن جاء قبل الخبر، وهو مذهب بعض النحويين ويرجحه القرآن الكريم إذ جاء فيه ذلك وهو خير شاهد.
وقد اخذ النحويون يخرجونه على مقتضى قواعدهم، المانعة عند الذين يمنعون، فقال بعض المخرجين : إن الخبر ليس هو خبر الصابئين إنما الصابئون مبتدأ خبره محذوف تقديره كذلك، وقال غيرهم : إن اسم ( إن ) أصلها مبتدأ دخلت عليه إن، فروعي معنى الابتداء فيه فرفع على هذا المعنى، وكل هذه تخريجات النص فوقها، ولا عبرة بها لأنها لا تحكم على القرآن بل إن العطف بالرفع جائز وقوله تعالى :( من آمن ) بعد ذلك خبر للجميع.
ومهما يكن من تخريجات أكثر النحويين وتجويز غيرها فإن القرآن أبلغ كلام في الوجود لا بد أن يكون في عدوله عن النصب الذي هو ظاهر السياق إلى الرفع، معنى قائم بذاته. فما هو ذلك المعنى ؟ قالوا : إن الصابئين أشد إيغالا في الكفر من اليهود والنصارى فكان لا بد من تنبيه خاص بهم ليكون ذلك تأكيدا لمعنى قبول التوبة والغفران لأنهم إذا كانوا يغفر لهم وهم على هذه الحال من عبادة الكواكب وعدم وجود كتاب وكتمانهم اعتقاداتهم فأولى ثم أولى أن يغفر لمن دونهم من ذلك الجحود، وهم اليهود والنصارى، ولأن الصابئين يشير بيان الغفران لهم إلى قبول توبة المشركين إذا آمنوا بعد شرك كما قال تعالى :( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين٣٨ ). ( الأنفال ).
وقد بين سبحانه خبر إن وهو جزاء الإيمان بعد كفر فقال سبحانه :( من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ).
هذا هو الخبر، وفيه جزاء الإيمان وما تطلبه حقيقته، فذكر سبحانه أمورا ثلاثة هي الإيمان بالله تعالى وذلك يتضمن الإيمان بوحدانيته وأسمائه الحسنى، وأنه الخالق وحده، والمهيمن على الوجود و حده، وأنه الأزلي الذي ليس له ابتداء، والباقي الذي لا يعروه الفناء، وأنه لا يشبه أحدا من خلقه، وليس كالأشياء، لا يحس ولا يحتويه مكان، وهو منزه عما تتصف به الحوادث إلى آخر كل ما يقتضيه التنزيه وليس بوالد ولا ولد، وليس له كفوا أحدا، والإيمان باليوم الآخر، هو الإيمان بالبعث والنشور، والحساب والعقاب والثواب وإنها جنة أبدا، أو نار أبدا، وأن الإنسان مجزى بعمله، وإن خيرا فخير أو شرا فشر :( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ٧ ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ٨ ) ( الزلزلة ). وذكر النص القرآني، أمرا ثالثا، وهو العمل الصالح الذي يلقى الله تعالى وهو قائم به، مستمرا عليه، وهذا وإن لم يكن ركنا من أركان الإيمان، ولكنه شرط لما جاء بعد ذلك من عدم الخوف والحزن، فإن المرتكب لا يمكن أ ن يكون في امن من غضب الله، بل يكون حزينا على ما ارتكب، وإن قوى الإيمان إن عمل يكون عنده برد اليقين، والمؤمن الصادق يغلب الخوف على الرجاء، ولو كان طاهرا مطهرا فكيف لو كان مرتكبا.
وقد يقول قائل : لماذا لم يذكر الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه ركن من أركان الإيمان فشهادة أن لا إلاه إلا الله وأن محمدا رسول الله تعالى هي لب الإيمان.
والجواب عن ذلك، أن الإيمان بالرسالة المحمدية التي قامت عليها الأدلة من المعجزات الباهرة ثمرة الإيمان بالله ولازمة له، فلا يمكن أن يكون مؤمنا بالله من يكذب رسوله الذي قامت الشواهد والأمارات على صدق رسالته، والإيمان بالله يقتضي الإيمان بصدق كل ما جاء في كتابه المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهكذا فإن الإيمان بالله تعالى يقتضي الإيمان بالرسالة والرسل والإيمان بما جاءت به الكتب المنزلة.
وجزاء هذا الإيمان الصادق والعمل الصالح ألا يكون المؤمن في خوف من قابل حياته في الآخرة، فلا يخاف عذاب يوم القيامة، لأن الإيمان هو الحصن الذي يلوذ به الخائفون ولا يحزن على ما كان منه في كفره، وإنه في الجنة لا هم، ولا حزن ولا عذاب.
وقد تكلم العلماء في أمرين لا بد أن نتكلم فيهما :
أولهما : أن الله تعالى ابتدأ طوائف الذين يغفر لهم أن آمنوا بالمؤمنين فقال سبحانه :( إن الذين آمنوا ) وجاء الخبر من بعد :( من آمن بالله واليوم الآخر )، فكيف ينطبق هذا الخبر على الذين آمنوا وهم قد سبق إيمانهم فلا يحتاج إلى تجديد، ولو كان الخبر مقصورا على الذين هادوا والصابئين والنصارى لكان له موضعه ظاهرا لأنهم غير مؤمنين.
وقد أجاب العلماء عن ذلك بجوابين : أحدهما – أن الذين آمنوا قد يراد بهم الذين أعلنوا الدخول في الإسلام وإن لم تذعن قلوبهم، ولكن هذا الجواب لا نرتضيه لأن المنافقين ومن لم يذعنوا للحقائق الإسلامية لا يسمون مؤمنين، اقرأ قوله تعالى :( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم.. ١٤ ) ( الحجرات ).
الجواب الثاني- أن معنى آمن بالنسبة لهم استمرار الإيمان وبالنسبة لغيرهم إنشاؤه ونرى في هذا الجواب نوعا من دلالة اللفظ على معنيين متقاربين في موضع واحد، إذ يراد الإذعان، والاستمرار عليه، وإني أرى أن الخبر ليس للحكم بقبول الإيمان فقط، بل إنه خبر في معنى الشرط والجزاء فيه إثبات أن الايمان مناط النجاة والثواب، وذلك ينطبق على المؤمنين ومن يدخلون في الإيمان.
الأمر الثاني : هو دخول الفاء في قوله تعالى :( فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) وقد قيل في ذلك إن الموصول في ( من آمن ) في معنى الشرط،
والفاء تدخل في خبر الموصول كما تدخل في جواب الشرط.
والميثاق عقد موثق مشدد فيه، كما يشد الوثاق، وهو مؤكد بيمين الله تعالى، والله تعالى قد أخذ هذا الميثاق على بني إسرائيل بأن يقوموا بالتكليفات التي يكلفهم إياها، ولم يذكر هنا موضوع الميثاق وقد ذكره في مواضع كثيرة من كتاب الله تعالى، فترك هنا بيانه حملا عليها، ومن نصوص ميثاق الله تعالى على بني إسرائيل قوله تعالى :
( لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون ) وقد أكد الله سبحانه في الآية الكريمة التي نتكلم في معانيها ( أخذ ) باللام و ب ( قد ) وبإضافة الأخذ إليه فقال سبحانه :( لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل ).
ومع أخذ الميثاق المؤكد، لم يتركهم هملا، بل أرسل إليهم الرسل من عنده ليؤكدوا الميثاق، ويبينوه ويعاونوهم على تنفيذه، وقد جاءت كلمة ( رسلا ) بالتنكير وهو هنا للتكثير، أي أرسلنا إليهم رسلا كثيرة، ولم تكن نتيجة الميثاق وإرسال الرسل محمودة لهم، بل كانت منهم نكرا ولذا قال سبحانه :
( كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون ) لقد كان الحكم الذي ارتضوا حكومته هواهم وشهواتهم فما يوافق هواهم اتبعوه، وما لا يوافق هواهم ردوه، فاتخذوا بذلك إلههم هواهم وضلوا عن علم، ووقعوا في الشر، فلم يجعلوا العقل والميزان هو الحكم الذي يقبلون ما يقبله، ويردون ما يرده، وإنه ترتب على تحكيم الهوى وسيطرته عليهم أن كذبوا فريقا واكتفوا بالتكذيب وأن قتلوا فريقا.
وهنا بعض مباحث لفظية تبين منها معنى النص الكريم :
أولها- عدم وجود جواب الشرط، وهو ( كلما ) فقال الزمخشري : قام مقامه فريقا كذبوا وفريقا يقتلون، أو هو في الحقيقة جواب الشرط، لأن المعنى كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقا قتلوه، وبعضهم قال : إن الجواب محذوف تقديره، و ( استكبرتم ) وأخذه من قوله تعالى في آية أخرى :(... أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ٨٧ ) ( البقرة ).
وإن الأوضح هو ما قرره الزمخشري لأن قوله ( فريقا كذبوا وفريقا يقتلون ) تصلح جوابا فلا حاجة إلى تقدير وأما الآية الأخرى فقد جاءت الفاء في قوله :( ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ) فكانت الجملة غير صالحة لأن تكون جواب شرط، فكان لا بد من التصريح بجواب الشرط.
المبحث الثاني- أن الله سبحانه وتعالى قسمهم فريقين كذبوه وفريقا قتلوه، ولا شك أنه مع القتل والتكذيب، ويكون المعنى على هذا أن هناك فريقا اكتفوا بتكذيب الرسول وفريقا آخر ذهبت بهم اللجاجة في العناد وعداوة الهادين إلى أن يقتلوه.
والمبحث الثالث : التعبير عن التكذيب بالفعل الماضي فقال :( فريقا كذبوا ) وعن القتل بالمضارع :( وفريقا يقتلون ) وقد علل ذلك الزمخشري بأن المضارع يدل على استحضار الجريمة البشعة التي ارتكبوها، وهي أن يقتلوا هاديهم ومرشدهم، وهناك تعليل آخر أنهم على استعداد لأن يقتلوا خاتم الهداة محمدا صلى الله عليه وسلم وقد هموا ولم ينالوا.
واليهود لما أنعم الله تعالى به عليهم إذ أخرجهم من قسوة فرعون، ونجاهم بفلق البحر، حتى مروا وغلقه على فرعون وقومه، حتى غرقوا، وهم ينظرون وأعطاهم من بعد ذلك المن والسلوى وغير ذلك ما أجزله تعالى عليهم من خير، حسبوا أن الإيمان جلب لا سلب فيه، وهناءة لا يرنقها تعب، ولذلك حسبوا ألا تكون فتنة تنزل بهم، ولكن الله أنزل عليهم هزائم تتلوها هزائم واختبرهم بقحط ينزل بهم حتى يصقل إيمانهم وكان ذلك الحسبان منهم لانغمار نفوسهم بالشهوات، لأنها تعمى وتصم، وترين على البصر بغشاوة فلا يرى، وتضع على الآذان وقرا فلا تسمع. ولذلك رتب الله تعالى على حسبانهم ألا فتنة تنزل أن عموا عن إدراك الحق فلم يصلوا إليه، وأن صموا عن سماع الهادي فلم ينصتوا إليه، وبذلك سدت عليهم منافذ الإدراك، فلا عقل يدركون به إذ غشيته الشهوات حتى أعمته وجعلت عليه غشاوة ولا وعى يستمعون به إلى صوت الهداية.
وقد نزلت بهم شدائد صقلت نفوسهم كالشدائد التي أنزلها التتار بهم، فاستيقظت مداركهم، وسمعت الحق آذانهم، وجاء الأنبياء أمثال داود وسليمان فأنقذوهم، ولكن ما إن أحسوا ببحبوحة النعمة حتى استولت عليهم الشهوات فعموا وصموا ولكن كانت بقية صالحة، وهنا مباحث لفظية نذكرها، لأنها تقرب إلينا معنى النص الكريم.
الأول- أن قوله تعالى :( الا تكون فتنة ) بنصب النون في تكون، وقرئ بضمها١ والقراءة الأولى على أساس أن( حسب ) بمعنى الظن الغالب، والثانية- على أساس أن ( حسب ) بمعنى علم، والقراءتان متواترتان، وهما تنتهيان إلى أنهم ظنوا ثم لغلبة الشهوات وسيطرتها تحول الظن إلى يقين أو كاليقين.
الثاني – أن معنى :( عموا وصموا ) فيه تشبيه حالهم في غلف قلوبهم واستيلاء الشهوات عليهم وعدم إدراكهم الحق بأنفسهم وعدم استماعهم للداعية بحال الأعمى الذي لا يبصر، ولا يستمع إلى من يدعوه ليسير في الطريق القويم.
الثالث – أن المفسرين أرادوا أن يفسروا متى كانت التوبة التي يسترشدون فيها ثم الصمم الذي يلي الرشاد وقالوا في ذلك أقوالا كثيرة، وعندي أن توبتهم بشديدة تنزل بهم، يخرجهم الله منها، ثم عودتهم على ما كانوا عليه متكررا.
الرابع، أن قوله تعالى :( ثم عموا وصموا كثيرا منهم ) فيه معنى التراخي المعنوي لبعد ما بين التوبة والعمى والصمم. وكثير منهم بدل من الضمير وفي هذا إشارة إلى تأصل الصمم والعمى حتى صاروا أهلا لأن يحكم على الجميع بسببهم ولكن عدل الله أخرج المهديين منهم.
بهذا ختمت الآية وهي تدل على أن الله جل جلاله عليم بما كان منهم علم من يبصر وهو مجازيهم بأعمالهم وهو فوقهم وهو بكل شيء محيط
بين سبحانه ضلال اليهود وما كان ضلال فكر، بل ضلال قلب، ذلك أنهم عرفوا الحق، ولكن حقد قلوبهم وحسد نفوسهم منعهم من الإذعان للحق الذي تبين لهم، وأدركوه، وطمس الله عليهم فجعل قلوبهم غلفا لا ينفذ الحق إليها، وبعد ذلك ذكر ضلال النصارى وكان ضلالهم ضلال العقل الذي انحرفوا به تحت تأثير وثنية قديمة، أو فلسفة واهمة سيطرت في زمانهم. فكان الضلال ضلال فكر انحرف فاعتنقوا غير المعقول، وآمنوا بما هو مستحيل، ولا عجب في ذلك إذا استهوت العقول أفكار منحرفة شردتهم عن الجادة المستقيمة، وقد أخذ سبحانه يصور كفرهم فقال تعالت كلماته.
( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ) أكد الله سبحانه وتعالى كفر الذين قالوا إن الله - تعالى الله عما يقولون هو المسيح ابن مريم، ويظهر أنه كان من هؤلاء الذين انحرفت عقولهم من زعم أن الله تعالى حل في جسم فكان هو المسيح، مع أنهم يقرون أن مريم ولدته، وأن منهم وهم الأكثرون من يقولون : إنه ابن الله قد حلت فيه الألوهية وهم بهذا الاعتبار قد قالوا : إن الله هو المسيح باعتبار أن الألوهية حلت فيه، وأنه الاله أو ابن الإله.
وحقيقة هذه النصرانية التي انحرفت عن أصل الديانة، المسيحية التي جاء بها المسيح، أنه بعد أن ترك المسيح هذه الدنيا تعرض المسيحيون لاضطهادات شديدة استمرت نحو ثلاثة قرون كانوا فيها يفرون بدينهم ويختفون وتحرق كتبهم، حتى صار أصل العقيدة معرضا لمنازع مختلفة، ولكن التوحيد هو السائد الغالب وما أن رفع الاضطهاد عنهم، حتى تعرضوا لفتنة أشد من الأذى البدني، فتعرضوا لا ذى في العقيدة ذاتها، وهو أشد وأنكى، إذ أدخلت الوثنية في النصرانية بتأثير قسطنطين ملك الرومان، ولنترك الكلمة لابن البطريق النصراني يتكلم عن الأهواء التي دخلت في عقول المسيحية فقد قال عن ( مجمع نيقية ) الذي أعلن ألوهية المسيح، والذي انعقد لمنع دعاية الوحدانية التي حملها أسقف اسمه أريوس، ويتبعه في فكرته أكثر المسيحيين قال ذلك النصراني :
( بعث الملك قسطنطين إلى جميع البلدان فجمع البطارقة والأساقفة، فاجتمع في مدينة نيقية ثمانية وأربعون وألفان من الأساقفة مختلفين في الآراء والأديان فمنهم من كان يقول إن المسيح وأمه إلهان من دون الله وهم البربرانية، ومنهم من كان يقول إن المسيح من الآب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار، فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية عنها، وهي مقالة سابليوس وشيعته، ومنهم من كان يقول لم تحمل به مريم تسعة أشهر وإنما مر في بطنها، كما يمر الماء في الميزاب لأن الكلمة دخلت في أذنها وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها وهي مقالة إليان وأشياعه. ومنهم من كان يقول : إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره، وعن ابتداء الابن من مريم، وإنه اصطفى ليكون مخلصا للجوهر الإنسي صحبته النعمة الإلهية، وحلت فيه بالمجد والمشيئة ولذلك سمى ابن الله، ويقولون إن الله جوهر قديم وأقنوم واحد، ويسمونه بثلاثة أسماء، ولا يؤمنون بالكلمة ولا بروح القدس، وهي مقالة بولس الشمشاطي بطريرك أنطاكية وأشياعه، ومنهم من كان يقول إنهم ثلاثة آلهة لم تزل صالح وطالح وعدل بينهما وهي مقالة مرقيون اللعين، وأصحابه، وقد زعموا أن مرقيون هو رئيس الحواريين وأنكروا بطرس. ومنهم من كان يقول بألوهية المسيح وهي مقالة بولس الرسول ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا.
هذه هي الأهواء والآراء التي كانت تذكر في الجماعات المسيحية وظهرت عندما زال الاضطهاد وحل محله الأمن، ولم يذكر ما كان يقرره أريوس الذي انعقد المجمع لإنهاء دعوته، والحق أن دعوة أريوس كانت هي البقاء على الوحدانية، فقد قرر كتاب تاريخ الأمة القبطية أن دعوة أريوس كانت منتشرة وكانت عامة وكان السائد عند الكثيرين إنكار ألوهية المسيح. فقد كانت كنيسة أسيوط على هذا الرأي وكان للرأي الأصيل رأى أريوس مشايعون في فلسطين ومقدونية والقسطنطينة.
ولكن أريد تحويل المسيحية من التوحيد إلى الوثنية قبل أن يدخل فيها قسطنطين فانتقل للرأى الذي يتفق معها وهو الوهية المسيح، فأعلن موافقته على رأى ٣١٨ ( ثمانية عشر وثلاثمائة ) من جمع عددهم ثمانية وأربعون وألفان، واضطهد من عداهم، وقامت منازعات بين الوحدانية والوثنية حتى اختفت أصوات الوحدانية في الأوساط النصرانية.
( وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم ) فبهذا النص الكريم بيان لحقيقة الدعوة التي دعا إليها عيسى عليه السلام، ونفى نفيا مطلقا ادعاءاتهم الألوهية له فقد كانت دعوته التي كان موطنها بني إسرائيل، وانبثق نورها، من أوساطهم إلى غيرهم من الناس، هي إلى التوحيد في العبادة إذ لا ألوهية سواه، وزكى التوحيد بقوله :( ربي وربكم ) فإن هذا النص يمنع الألوهية من نواح ثلاث : الناحية الأولى – إثبات أن الله هو ربه الذي خلقه ونماه وأنشاه كما أنشأ غيره والناحية الثانية التسوية بينه وبين غيره من الخلق في التكوين والإنشاء والتربية فهو في هذا لا يفترق عن أحد من البشر، والناحية الثالثة أنه لا يمكن، أن يكون فيه عنصر الألوهية، لأن الله تعالى رباه ونماه، كما كان بالنسبة لغيره، وليس مما يسوغ للإله أن يأكل ويشرب وينمو كسائر البشر. فذاته العلية منزهة عن الأحداث ولا يليق بها الاحتياج.
وفي النص الكريم إشارة إلى جريمة من جرائم بني إسرائيل، وهي أنهم كذبوا المسيح عليه السلام – وناوءوه كما ناوءوا محمدا، إذ كفروا بالمسيح مع أنه رسول إليهم وهموا بقتله، وادعى النصارى أنهم قتلوه، وإن هذه الدعوة التي نادى بها المسيح بين ظهرانيهم وفي قوم لم تجد أرضا خصبة في أوساطهم، وحرضوا على المسيح عليه السلام واستمر الاضطهاد للنصارى، حتى غيرت وبدلت لهم في ذلك يد فعالة، وعليهم من وزرها قسط كبير.
وقد حذر المسيح من الشرك فقال ناهيا محذرا :
( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ) ظاهر السياق أنه من كلام السيد المسيح عليه السلام لبني إسرائيل الذين كانوا أول من وجه إليهم دعوته، ويصح أن يكون ذلك الكلام مستقلا عن كلام السيد المسيح و أنه تقرير لمقام الوحدانية في العبادة، وأنه لا عبادة من غير وحدانيته وأن الشرك ينفي العبادة بل تكون ضلالا والإشراك بالله يتناول ثلاث شعب، إشراك في الذات فيجعل ذات الله تعالى كذات الحوادث وإشراك في الخلق فيحسب المشرك أن لغير الله تعالى أثرا في الخلق والتكوين وإشراك في العبادة.
والنصارى قد أشركوا في هذه النواحي كلها فحسبوا أن الله تعالى ليس منزها حتى يتصف بصفات الحوادث، زعموا أن الله تعالى يكون له ولد، كما يكون لغيره ولد، وأن هذا الولد شاركه في الخلق والتكوين وأنه يعبد معه، بل لا تكاد تجد ذكرا لعبادة الله تعالى من غير إشراك غيره...(... إن الشرك لظلم عظيم١٣ ) ( لقمان ).
وجزاء ذلك الشرك أن الله تعالى يحرم به الجنة بمنعه منها فلا يدخلها وهذه عقوبة سلبية فالحرمان عقاب ومنع النعيم عقاب، وهناك عقوبة إيجابية وهي دخول النار، وإذا كانت الجنة محرمة فمكان إيوائه النار يدخلها ويخلد فيها أبدا وإنها للجنة أبدا وللنار أبدا.
ولا يمكن أن ينجيهم من العذاب أحد ولذلك قال تعالى :( وما للظالمين من أنصار ) أي أنه ليس لظالم من الظالمين نصير قط فالتعبير بقوله :( من أنصار ) أي إنه لا نصير قط لا من كبير يخاف. ولا من صغير يرجى.
يلاحظ في مجمع القسطنطينة أمران احدهما أن الذين حضروا ذلك المجمع ١٥٠ من رجال دينهم، وما كان هذا ليمثل النصارى أجمعين ولكن فرض رأى أولئك الذين سموهم أساقفة على النصارى جميعا، وأسكت كل صوت يخالفه، ولقد كان ذلك المجمع كسابقه مفاجأة لعامة النصارى، لأنه ليس بإله عندهم وقد أعلن ذلك مقدنيوس وكانت مقالته ليست هي الشائعة بين النصارى حتى جاء المجمع القسطنطيني فأتم التثليث.
ثانيهما – أن الذي دعا الى عقده بطريق الإسكندرية، كما انه هو الذي كان رئيس مجمع نيقية وإن لم تكن له الرياسة في المجمع الأخير، وأن الذي دعا الى تقرير الوهية روح القدس هو هذا البطريق، وقال كما نقل كتاب تاريخ البطارقة لابن البطريق :
( ليس روح القدس عندنا بمعنى غير روح الله، وليس روح الله شيئا غير حياته، فإذا قلنا إن روح الله مخلوق، فقد قلنا إن حياته مخلوقة، وإذا قلنا إن حياته مخلوقة، فقد زعمنا أنه غير حي، وإذا زعمنا أنه غير حي فقد كفرنا به.
وأن هذه السلسلة التي ساقها تنقض لبناتها إذا قلنا روح القدس ليست روح الله، ولكنها جبريل الأمين الذي خلقه، وبذلك تنقطع حلقات السلسلة حلقة حلقة.
وروح القدس في زعمهم هي الروح العامة التي تنشر الحياة بين الأحياء، ومما يسترعي النظر، أن الذي قاد فكرة ألوهية المسيح وروح القدس هو بطريق الإسكندرية التي كانت تسودها في ذلك الإبان الافلاطونية الحديثة التي كانت خلاصتها أن الإله الأكبر هو العقل الأول، وقد نشأ عنه العقل الثاني، نشوء المعلول عن علته، أي أن وجودها متصل، وعرفوا روح القدس بالتعريف النصراني الذي ذكرناه وبذلك تلتقي نصرانية النصارى مع فلسفة الإسكندرانية الواهمة وقائد الدعوة لألوهية المسيح والوهية روح القدس هو بطريق الإسكندرنية فليعرف النصارى زمان ابتعادهم عن اتباع المسيح عليه السلام وسببه والمصدر الذي انحرفوا إليه ومن أوردهم موروده غير العذاب.
هناك إذن عند النصارى تثليث، وأن الله تعالى ثالث ثلاثة، وان الله تعالى قد حكم بأنهم كافرون، فقد قال سبحانه مؤكدا القول :( لقد كفر الذين قالوا ان الله ثالث ثلاثة ) فمن الخطأ الفاحش ما يقال إن الله تعالى عبر عن النصارى واليهود أنهم أهل الكتاب، فليسوا كفارا، فقد أكد سبحانه وتعالى كفرهم أولا بتكفيرهم لانهم زعموا أن المسيح هو الله، ويقرون أن الله ثالث ثلاثة، وأكد كفرهم في الحالتين باللام وبقد، فكيف يسوغ المؤمن أن يقول إنهم غير كافرين.
والنصان الكريمان واردان على موضوع واحد، وهو النصارى، فالنص الأول هو :( لقد كفر الذين قالوا ان الله هو المسيح ) موضوعه هو ذات موضوع النص الآخر :( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ) وكل آية من الآيتين تبين ناحية من نواحي اعتقادهم، واكتفى في الآية بزعمهم في المسيح عليه السلام، لبيان مقدار افترائهم عليه ومناقضتهم لمن ينتسبون إليه، وأنهم لا يصح أن يسموا مسيحيين لأنه برئ منهم، وذكرت الثانية لبيان حقيقة اعتقادهم.
( وما من إله إلا إله واحد ).
بعد ان بين سبحانه وتعالى كفر من يقول بالتثليث بين سبحانه وتعالى العقيدة الصحيحة فقال سبحانه ذلك النص الحكيم، ومؤاده نفى الألوهية نفيا مطلقا عن غير إله واحد، والصيغة تفيد استحالة أن يكون الإله غير واحد لأنه لا ينتظم الكون والسماء والأرض ومن فيهما كما جاء في قوله تعالى :( لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ٢٢ ) ( الأنبياء ).
وكما أن في النص تقريرا لعقيدة التوحيد المستقيمة، فيه أيضا توبيخ موجه إليهم على مخالفتهم المعقول، ومجانبتهم ما يقره أهل العقول، ولذلك حذرهم سبحانه عن أن يسيروا في طريق الغي وأن يعودوا إلى الحق فقال سبحانه :
( وان لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب اليم ) هذا تحذير من الله سبحانه لهم عن أن يستمروا في هذا القول الكاذب على الله تعالى وعلى رسوله المسيح عليه السلام ومعنى الانتهاء يتضمن أمرين : أن يعدلوا عن ذلك القول وألا يعتقدوه ولا يؤمنوا به ولم يكتف بالانتهاء عن العقيدة ولكن الله سبحانه ذكر انتهاء عن القول للإشارة إلى أن هذا كلام يقولونه، ولا يمكن أن يكون عقيدة يعتنقونها، لأنه كلام لا يتفق مع العقل وقد كذبهم عيسى عليه السلام بما قرره في دعوته وبين أن الشرك ظلم عظيم وأن من يشرك بالله مأواه جهنم، وحرم الله تعالى عليه الجنة.
والخلاصة أن هذا الادعاء قول يرددونه معا فيلحدون به وهو باطل، إذ كيف يولد ويكون إلها، وقد هددهم بالعذاب الشديد يمسهم، وهنا إشارات بيانية :
الأولى : التعبير ( يمسهم ) إذ المراد أنه يصيب جلدهم وهو موضع الإحساس فيهم، أي أن العذاب المؤلم مستمر، إذ يمس جلدهم ويصيب موضع الإحساس فيهم.
الثانية، أن من هنا بيانية أي يمسهم ذلك العذاب ما داموا مصرين على قولهم وكذبهم، وقال ( الذين ) وعبر بالظاهر دون الضمير للإشارة إلى سبب العذاب وهو كفرهم لأن التعبير بالموصول يشير إلى أن الصلة هي سبب الحكم.
الثالثة، أن الله سبحانه وتعالى أكد العذاب الشديد ينزل بهم القسم المطوي الذي دلت عليه اللام، والنون المؤكدة، وتنكير عذاب، ووصفه بالألم الشديد لأن التنكير هنا للتعظيم والتكثير.
وقوله تعالى :( أفلا يتوبون ) الاستفهام للدلالة على أمور ثلاثة : أولها، توبيخهم على ما كان منهم وأنه يستحق التوبة والاستغفار، وثانيها، فيه تعجب من بقائهم على حالهم من الإفك والإصرار عليه من أنه لا يقبله عقل، ولا يذعن له مصدق، بل لا يتصوره متصور. ويدل ثالثا، على تحريضهم على التوبة، أي الرجوع الى الله تعالى وما تقره العقول ولا تنبو عنه الأفهام، وعلى طلب الغفران عما سلف منهم من قول، وإن باب الغفران مفتوح، ولذلك ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت كلماته :( والله غفور رحيم ) والله جل جلاله المعبود ولا معبود بحق سواه يغفر لمن تاب ورجع إليه وهو رحيم بعباده، لا يرضيه أن يشقوا وأن رحمته سبقت عذابه وأنه سبحانه ليفرح بتوبة عبده أكثر من فرح العبد بقبولها، لأن الله تعالى يريد بعبده الصلاح والإصلاح، ولا يريد له الفساد والإفساد وإذا تاب العبد انقلب من الفساد الى الإصلاح.
وأن النص الكريم الذي نحن بصدد ذكر معانيه، فيه بيان أن عيسى وأمه ليس فيهما ما يجعلهما مختصين بصفات ليست في غيرهما فعيسى عليه السلام ليس الا رسولا وقد خلت أي مضت من قبله الرسل فإبراهيم كان رسولا، ومن قبله كان نوح رسولا، وهؤلاء مضوا ولم يدع الالوهية لهم أحد كما نحلتموها يا معشر النصارى للمسيح عليه السلام، وإذا كان له معجزة خارقة للعادة بإحياء الموتى، فأولئك كانت لهم معجزات لا تقل عنها تأثيرا، ولا تقل عنها في ذاتها.
وقد قال الزمخشري في ذلك وتبعه من بعده، ( ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله جاء بآيات من الله تعالى كما جاءوا بأمثالها أن ابرا الله الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى على يده، فقد أحيا سبحانه وتعالى العصا وجعلها حية تسعى وفلق بها البحر وشق على يد موسى، وإن خلقه من غير ذكر فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى.
ونزيد على ما قاله الزمخشري أن معجزة كل نبي بما يناسب عصره، فعصر سيدنا عيسى كان عصرا يؤمن بالأسباب المادية وكان في عهده الفلاسفة الطبيعيون الذين لا يؤمنون بغير الأسباب التي يرونها، فكانت معجزات عيسى عليه السلام خرقا حسيا صارخا لهذه الأسباب، فولادته كانت بغير السبب المعروف إذ كان من غير أب، وما كانوا يحسبون أن الأكمه الذي ولد أعمى يبصر، وما كانوا يعملون أن البرص يشفى منه، فشفاه الله تعالى على يديه، وما كانوا يرون الحياة ترد بعد الوفاة فأحياها الله تعالى على يديه كما أجاب لإبراهيم عندما دعا ربه قائلا :( وإذ قال إبراهيم رب ارني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم٢٦٠ ).
جاء عيسى عليه السلام فكانت حياته وآياته كلها داعية لبطلان ذلك الاعتقاد بأنه لا شيء إلا الأسباب والمسببات. ولكنهم تمكنوا من اتباعه من بعده بثلاثة قرون، فأخرجوهم من اتباعه وأعادوهم إلى الأسباب والمسببات، وأخرجوه من البشر، وزعموا أنه إله.
وأمه لا تخرج عن انها مخلصة صادقة تابعة للنبيين من قبله وله عليه السلام، والصديق هو الذي لا يقول إلا صدقا، ولا يكذب، ويصدق الحق ويدعو اليه، ويستمر عليه فالصديق هو الصادق في قوله وعمله والمصدق للحق المذعن له إذا جاءه وقال الأصفهاني في مفرداته :( الصديقون هم قوم دون الأنبياء في الفضيلة ) فهم المرتبة الأولى بعد الأنبياء ).
ويلاحظ أنه عند ذكر عيسى في القرآن يذكر أنه ( المسيح ابن مريم ) تأكيدا لبشريته، لأنه يرى بالحس مولودا بعد أن لم يكن، وأن ولادته من مريم البتول فكيف يتركون المحسوس إلى أوهام، وحياتهما تدل على البشرية ولذا قال سبحانه :
( كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون ) ذكر الله تعالى هنا بيان خواصهما الآدمية الحيوانية بعد بيان منزلتهما عند الله تعالى إذ إن الأول رسول، والثانية صديقة، ولا تتجاوز منزلتهما عند الله تعالى ذلك، وهما في الحياة المادية كسائر الأحياء من الأناسي يأكلان الطعام ويعملان على ذلك، وهما لهذا محتاجان إلى غيرهما والإله لا يحتاج لغيره، ويقول الزمخشري في ذلك، ( إن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام، وما يتبعه من الهضم، والنقض لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة مع شهوة وقرم وغير ذلك مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من البشر ؟ ولكنهم مع كل هذا تركوا الأعراض التي تدل على الآدمية وأماراتها، ولذلك قال تعالى :( ا نظر كيف نبين لهم الآيات ) أي انظر يا محمد إلى الأدلة على آدميته التي هي قائمة وكيف بيناها، وصرفنا لهم القول الذي يدل على الحقيقة ولكنهم ماديون يؤمنون بالمادة وأسبابها ولذلك انصرفوا عن الحق وعن الإيمان وخضعوا لأوهام و لذا قال تعالى :( ثم انظر أنى يؤفكون ) وقد عبر ب ( ثم ) للدلالة على بعد بين ما تدل عليه الآيات وحالهم، ثم على بعد ما يقولون عن الحق إذ يرون بالحس إنسانا يولد، ثم يفرضونه الها بزعمهم، والإفك الصرف عن الحق يقال : أفكه يأفكه إذا صرفه عن الأمر أو الحق، ولذلك يقال للكذب إفك، لأنه صرف عن الحقيقة والمعنى الجملى انظر كيف ينصرفون عن الحق لأوهام لا يعقلونها مع قيام الأدلة الحسية على بعضها ولكن ذرهم في غيهم يعمهون. اللهم لا تصرفنا عن الحق بأوهامنا إنك سميع الدعاء.
الكلام موصول بما قبله، لأن أولئك النصارى يعبدون عيسى عليه السلام ومنهم من يعبد معه أمه، ويقولون هما إلهان من دون الله ومنهم من يعبد ثلاثة ويجعل الله تبارك وتعالى ثالثهم، تعالى الله سبحانه وتعالى عن ذلك الوهم الباطل، والكذب الفاحش، وقد بين سبحانه وتعالى أن عيسى عليه السلام وأمه الصديقة بشر كسائر البشر، يحتاجون الى غيرهم، وهما آدميان يأكلان ويفعلان كل ما هو من مقتضيات الإنسانية ومظاهرها.
وقد بين مع ذلك كيف يعبدون مع هذه الحال، فقال لنبيه،
قل لهم :( أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعل ) الاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع، والتعجب مما وقع منهم، وإنكار الواقع، توبيخ على سوء الفعل وسوء التقدير، فهم يعبدون بشرا أو حجرا ويتركون عبادة الله تعالى كما في قوله تعالى :( ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا ) للعموم، وهي بهذا العموم تشتمل على ما يعبد من حجر وغيره، ولعدم اقتصار على عيسى وأمه ذكر بلفظ ( ما ) الدال على العموم، لا بلفظ ( من ) الدال على العقلاء. ومعنى لا يملك ضرا ولا نفعا : أنه لا يملك المرض والسقم، ولا البلاء ولا الشدائد، كما لا يملك النفع بدفع الضر، ولا جلب الخير، ولا إنزال الغيث، ولا إرسال الرياح مبشرات بين يدي رحمته، ولا غير ذلك مما ينفع الوجود كله.
وهنا لا بد أن نتعرض لأمرين : أولهما – كيف يقال إنهم يعبدون من دون الله مع أن المشركين يقولون :(... ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى... ٣ ) ( الزمر ).
والنصارى يعبدون ثلاثة أو اثنين على اختلاف طوائفهم ولم يتركوا عبادة الله ونقول : أن من يشرك العبادة مع الله تعالى لا يقال إنه عبد الله، لأن عبادة الله تعالى تقتضي أن تخلص العبادة له سبحانه وألا يعبد سواه بأن يفرده بالعبادة وحده إذ لا يستحق العبادة معه أحد، ويقال حينئذ إنه عبد ما دون الله تعالى، إذ كانت عبادته ضد عبادة الله تعالى.
ثانيهما : أنه قد يقول بعض الجاهلين إن من الناس من يضر ومن ينفع، ونقول : إنه نفع جزئي وضرر جزئي، ولا يكون إلا بإرادة الله سبحانه وتعالى، ولو اجتمع أهل الأرض على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله تعالى عليك، لم يضروك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك، لم ينفعوك، وقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت كلماته :( والله هو السميع العليم ).
أي أنهم يتركون عبادة الله تعالى وحده وهو العالم بكل شيء الذي لا يغيب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو العالم على من يسمع ويرى، وهو بهذا العلم المحيط الدقيق الذي أحاط بكل الوجود يكون هو وحده الذي يضرهم وينفعهم، ويتركونه ليعبدوا ما لا ينفع ولا يضر، ولكنه ضلال العقول.
وإن هذا النوع من الغلو، وإن كان غير محمود ولا مستحسن في الإسلام، لا يمكننا أن نعده غير حق في أصله، لأن أساسه حق، وان غالوا فيه وربما يقول كثيرون إنه غير الحق.
ونعود إلى النص الكريم. أمر الله تعالى نبيه أن ينادي أهل الكتاب، ويخاطبهم بقوله :( لا تغلوا في دينكم غير الحق ) والمعنى لا تتجاوزوا الحد. وتشددوا في دينكم غلوا غير الحق، فكلمة غير الحق وصف لمحذوف والوصف كاشف لأن الغلو دائما غير الحق عندهم لأنه مجاوز للحد، وكل مجاوزة للحد لا يمكن أن تكون حقا، وقد قال الزمخشري أن من الغلو ما هو حق، كالغلو في التنزيه، ومنها ما هو غير حق كالغلو الذي وقع فيه النصارى من الإفراط في تقديس عيسى وأمه، يصح أن يكون ( غير الحق ) منصوبا على أنه حال من الدين نفسه أي لا تغلوا وتشددوا في التمسك بدينكم، وتمنعوا أنفسكم عن أن يدخلها النور حال أن دينكم هو غير الحق.
وفي الجملة النص لمنع تشدد النصارى واليهود والتمسك بدينهم غير الحق والامتناع عن قبول الهداية التي جاءت إليهم، وهم في هذا التشدد يتبعون الأهواء ولا يتبعون الحق، وهم مقلدون لمن ضلوا وأضلوا.
( ولا تتبعوا أهواء قوم ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ) الهوى معناه الميل على ما فيه شهوة ولذة، وخير الناس من كان هواه ولذته في طاعة الله تعالى، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى في الصحاح :( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به )٣ ولكن كلمة الهوى لا تكاد تستعمل في القرآن الا في مقام الذم في الاتباع، جاء في تفسير فخر الدين الرازي ما نصه : قال الشعبي : ما ذكر الله تعالى لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه قال تعالى :(... ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله... ٢٦ ) ( ص ) و (... واتبع هواه فتردى ١٦ ) ( طه ) ( وما ينطق عن الهوى٣ ) ( النجم ) ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه... ٢٣ ) ( الجاثية ) وقال ابو عبيدة : لن نجد الهوى الا في موضع الشر، لا يقال : فلان يهوى الخير، إنما يقال يريد الخير ويحبه.. وقيل سمى اليهود هوى، لأنه يهوى بصاحبه في النار، وانشد في ذم الهوى :
إن الهوى لهو الهوان بعينه فإذا هويت فقد لقيت هوانا.
جملة القول أن ذلك أن الهوى يطلق ويراد به تجنب حكم العقل، والاتجاه إلى حكم الشهوة والإحساس من غير نظر إلى منطق العقل، وما يدعو إليه الدليل، وسواء السبيل : وسط الطريق، والمراد أنهم ضلوا عن الحق، وهو دائما بين الإفراط والتفريط، فهم ضلوا عن القصد والحق والاعتدال.
ولنتكلم في معنى النص الكريم، أن الله تعالى في علمه وحكمته ينهى أهل الكتاب عن الاستمرار في الاتباع لقوم قد ثبت ضلالهم قديما، وكانوا من قبل في ضلال بعيد، وهم عبدة الأوثان، ومن كان على شاكلتهم ممن اخترعوا آلها على هواهم لا على منطق استقاموا عليه، ولا على نور من السماء اهتدوا بهديه، وقد سلكوا مسلكهم، فادخلوا الوثنية في دينهم واتبعوا فلسفة ضالة مضلة.
وهؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم، وضلوا بسبب ذلك أضلوا خلقا كثيرا، حتى شاع بينهم الانحراف عن الطريق، فكانت وثنية اليونان والرومان والفلاسفة هي التي أضلت خلقا كثيرا، فالضلال الاول هوضلال الوثنية من قبل وهي التي اضلت النصارى، والاضلال هو سيطرة ذلك على من سيطروا عليهم، والضلال الأخير هو عدم خضوعهم لحكم النبي صلى الله عليه وسلم وتركهم سبيل المؤمنين الذي كان فيه القصد والاعتدال فتأثرهم بأهواء من ضلوا من قبل وأضلوا جعلهم يأخذون طريق الضلال الأخير، وهو عدم الأخذ بهداية الرسول صلى الله عليه وسلم :
٢ رواه أحمد: باقي مسند المكثرين باقي المسند السابق (١٣١٢٢) ورواه البخاري بنحوه النكاح الترغيب في النكاح (٥٠٦٣ ومسلم: النكاح استحباب النكاح لمن تاقت إليه نفسه (١٤٠١).
٣ سبق تخريجه..
الأولى، لماذا بنى ( لعن ) الفعل للمجهول ولم يذكر الفاعل ؟ والجواب ذلك أن الفاعل معلوم، وهو الله تعالى لأن داود وعيسى نبيان يتكلمان عن الله تعالى، فما ينطقان عن الهوى، وهما لا يملكان الطرد من رحمة الله تعالى، وأن في البناء للمجهول فوق ذلك إشعارا بأن اللعن يستحقونه من سوء أعمالهم، ثم إن البناء للمجهول فيه إشارة إلى عموم اللاعنين مع الله سبحانه وتعالى إذ يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا.
الثانية : أن اللعنة منصبة على الذين كفروا وليست على عمومهم وذلك من إنصاف الله في أحكامه، وإن كان الذين آمنوا بنسبتهم للذين كفروا عددا قليلا كما قال تعالى :(... منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون٦٦ ) ( المائدة ). وأنه واضح أن من أسباب لعنتهم كفرهم مع عصيانهم لأن التعبير بالموصول يفيد أن الصلة من اسباب الحكم.
والثالثة : أن الله ذكر أن اللعن جاءهم على لسان داود وعيسى ابن مريم وهما نبيان جاءا بعد موسى عليه السلام، واحدهما كان نبيا مجاهدا محاربا، قادهم على مواطن الظفر، ومع ذلك لعنهم الله على لسانه، والثاني كان رسولا مسالما ومع ذلك لعنهم بأمر الله تعالى، فهم ملعونون في الحرب والسلم على سواء.
ولقد جاء في بعض كتب التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن أهل إيليا عندما كان اليهود بها ودنسوها لما اعتدوا يوم السبت، قال داود عليه السلام : اللهم ألبسهم اللعن مثل الرداء ومثل المنطقة على الحقوين، ولما طلبوا المائدة، وقال الله تعالى ك (... إني منزلها عليكم... ١١٥ ) ( المائدة ) قال عيسى عليه السلام، اللهم عذب من كذب بعد ما أكل من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين.
وإن الذي يبدو لنا أن هذا بيان لما نزل بهم من لعن مستمر جاء هذا اللعن على لسان داود ومن جاء بعد حتى كان عيسى فكان لعن الكافرين عاما، يستوي في ذلك من كان يجاهد بالسيف والحرب، ومن كان يجاهد بالسلم، فلعنهم الله إلا أن يتوبوا.
( ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) هذا بيان لسبب اللعن والطرد من رحمة الله تعالى يوم القيامة، فلم يكن لعنهم لذواتهم، وغنما لأعمالهم وإيذائهم، فجملة أعمال أولئك كفروا من أهل الكتاب عصيان الله سبحانه وتعالى، أمرهم بعبادة الله وحده، فكان منهم إشراك وأمرهم بالإيمان باليوم الآخر فكان منهم من أنكره وأمرهم بإطاعة النبيين ففريقا كذبوا وفريقا يقتلون وأمرهم بالا يعتدوا يوم السبت فاعتدوا وأمرهم بالا يأكلوا الربا فأكلوه، وهكذا كانت أعمالهم نكرا وعصيانا، وكان أشد عصيانهم أن اعتدوا على خلق الله تعالى، فكانوا حاقدين على كل مخلوق سواهم، وبالغوا في إعنات الناس أن اشتدوا بمعونة غيرهم، وبالغوا في الإفساد وإيقاد الفتن إن ضعفوا عن المقاومة الظاهرة.
والعصيان لله وأخصه الاعتداء هو سبب الطرد من رحمة الله. وعموم العصيان يدخل فيه كل سبب الطرد واللعن فلا يوجد سبب غيرهما.
وقد عبر عن العصيان بالماضي للإشارة إلى قرار العصيان في طبائعهم ونفوسهم وثباته، فيها وعبر عن الاعتداء بالمضارع لأنه مستمر قائم، وبذلك كان الجمع بين الماضي والمضارع للدلالة على الثبات والقرار والاستمرار، ونسب العصيان إليهم جميعا، والاعتداء إليهم جميعا، لأنه كان من بعضهم واقره سائرهم أو سكت عنه باقيهم، فكان منهم وقوعا ورضا ولذا قال سبحانه :( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون )
والإطلاق الثاني لمعنى التناهي بعضهم بعضا إذا وقع المنكر فيهم وهو الظاهر والتناهي عن المنكر يشتمل على ثلاثة معان كلها داخل فيه :
أولها، أن يوجد فيهم ناه عن الشر يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر سواء أكان الناهي عددا كبيرا أو كان عددا قليلا، فليست الكثرة مطلوبة انما المراد الوقوع منه.
ثانيها، أن يمنع الفعل قبل وقوعه أو يقلله بدفع الكثير منه.
ثالثها : أن يستنكره، لأن السكوت عنه رضا، وبذلك الاعتراض الذي أورده بعض المفسرين وهو كيف يتصور النهي عن الفعل بعده، فنقول : إن النهي عن المنكر بعد وقوعه إنما هو استنكاره، لأنه يمنع الفعل في المستقبل.
وقد نسب الفعل إليهم أجمعين إذ وقع من بعضهم وسكت عنه سائرهم ولذا قال سبحانه :( لبئس ما كانوا يفعلون ) وقد أكد سبحانه وتعالى نسبة الفعل إليهم باللام والقسم المطوي، وذمهم مؤكدا فالفعل بئس يدل على الذم، والذم كان منصبا على الفعل رجاء إيمانهم وقد روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من رضى عمل قوم فهو منهم، ومن كثر سواد قوم فهو منهم )١.
والآية تدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوام الأمم، ولا صلاح لهم إلا إذا قاموا بحقه، فالأمم تصلح بالمعروف، وتفسد بتركه، ولذلك اعتبره القرآن خاصة الأمة الإسلامية، وبه خيرها، قال تعالى :( كنتم خير أمة أخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله... ١١٠ ) ( آل عمران ).
وقد قال عليه الصلاة والسلام :( والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم )٢. ويقول عليه الصلاة والسلام :( إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه )٣. ولقد تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ضياع المسلمين عندما يختفي فيهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد روى أنس ابن مالك، أن بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه قائلين يا رسول الله : متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ قال صلى الله عليه وسلم :( اذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم ) قالوا : يا رسول الله، وما ظهر في الأمم قبلنا ؟ قال صلى الله عليه وسلم :( إذا كان الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم والعلم في رذالكم )٤.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو عصام الأمة وهو مكون الرأى العام الفاضل، ويقال : إن الأمة كلها تعصى إذا ظهر العصيان ولم يستنكره.
٢ رواه أحمد: باقي مسند الأنصار حديث حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه (٢٢٧٩٠).
٣ رواه أحمد مسند الشاميين حديث عدي ابن عميرة الكندي (١٧٢٦٧).
٤ تفسير معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والعلم في رذالتكم) إذا كان العلم في الفساق والحديث رواه ابن ماجه، الفتن قوله تعالى: (عليكم أنفسكم) (٤٠ ١٥) وبنحوه رواه أحمد باقي مسند المكثرين (١٢٥٣١) عن أنس ابن مالك رضي الله عنه..
وفسر بعض العلماء الذين كفروا بالجبابرة من الملوك الكافرين فهم يتولون كل ذي قوة، ولو كان جبارا عاتيا، وينسب ذلك الرأي على محمد الباقر ابن علي زين العابدين وفيه غرابة وان كان معناه سليما :
( لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ) ( بئس ) كما ذكرنا تدل على الذم و ( ما قدمت ) أيديهم هو ما قدموه من عصيان وعدم التناهي عن المنكر، والاعتداء وتولي المشركين والجبابرة، وقد أكد سبحانه وتعالى الذم بالقسم واللام، والتعبير بما قدمت أنفسهم يشمل الفعل والقول والحقد والحسد والمظهر في هذا الذم ينالهم أمران خطيران، أحدهما سخط الله تعالى وحسب ذلك شرا في مآلهم، وأنهم مخلدون في العذاب، وقد أكد سبحانه عذابهم بكلمة، هم وتقديم ( في العذاب ) وتخليده، وقد بين سبحانه ان ولاية المشركين والجبابرة أمر مذموم لأنه ضد الخير، فقال :( ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما تخذوهم أولياء )
( ولكن كثيرا منهم فاسقون ) استدراك فيه بيان لحالهم، وسبب تركهم موالاة المؤمنين، فذكر أن كثيرا منهم خارجون متمردون على الحق بسبب ما في قلوبهم من حقد وحسد، ونرى إنصاف القرآن بينا واضحا إذ لم يرمهم جميعا بالفسوق عن أمره وقد أكد فسوق الأكثرين بوصفهم بالفسق، وكأنه وصف مستمر لهم، وليس حالا عارضا، اللهم اهدنا فيمن هديت، واشف قلوبنا من الغل والحسد.
كان ما تقدم من آيات من قوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أوليا بعض... ٥١ ) ( المائدة ) في شان المؤمنين في معاملتهم لأهل الكتاب وقد ذكر أحوالهم مع المؤمنين وخص اليهود بالذكر لأن عداوتهم لأهل الإيمان كانت مستحكمة وإيذاءهم للمؤمنين كان مستمرا، ولقد كان القرآن الكريم منصفا للحقيقة كشأنه دائما، عندما فرق بين النصارى من جانب واليهود والمشركين من جانب،
ولذلك قال سبحانه ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة ).
في هذا النص الكريم يؤكد سبحانه وتعالى بالقسم وبنون التوكيد أن أشد الناس عداوة للمؤمنين اليهود والذين أشركوا، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وإذا كان الخطاب له عليه الصلاة والسلام : فإن كلمة :( لتجدن ) فيها معنى توكيد العداوة لأن النبي عليه السلام يجدها محسوسة واضح في المعاملات التي تقع بينه وبين اليهود وبينه وبين المشركين، وما كان من النصارى معه، ويكون من شدة العداوة وقرب المودة هو ما كان من معاصري النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والذين اشركوا، والذين قالوا إنا نصارى.
ويصح أن يكون الخطاب لكل أهل القرآن الذين يقرءونه ويخاطبون باحكامه واياته من الذين آمنوا ويلاحظ هنا عدة أمور :
أولها انه سبحانه ذكر اليهود قبل الذين أشركوا لأن عداوة اليهود منشؤها الحقد والحسد واللذان قد يرسخان في النفس اليهودية، وهما دائما فيها ما دام اليهود على هذه الحال التي أركسوا أنفسهم فيها، وقد عبر عنهم بالوصف ولم يقل الذين هادوا للاشارة الى ان العداوة حال دائمة مستمرة مستحكمة، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول :( ما خلا يهودي بمسلم الا هم بقتله ) ومع أن اليهود اقرب في الاعتقاد من النصارى تجد النصارى في الماضي كانوا أقرب، والقرب في الاعتقاد سببه الشائع بينهم هو الوحدانية، أما النصارى فإن الشائع بينهم هو التثليث ولكن العداوة لا تتبع القرب أو البعد في الاعتقاد بل تتبع مقدار الحسد والبغض وفوق ذلك فإنه من المقررات في علم الآراء والمعتقدات أنه كلما تقاربت العقيدتان تنازعتا وكان التناحر أشد لطمع كل طائفة في أن تأخذ الأخرى إليها، وقد عبر سبحانه عن المشركين ب ( الذين أشركوا ) للإشارة إلى أن الشرك قريب الزوال منهم وهو السبب، أما اليهود فالسبب هو الحقد وليس قريب الزوال، إذ استكن في قلوبهم أن كل مخالف لهم في دينهم عدو لهم يحقدون عليه، و لانهم كانوا يريدون أن تكون النبوة دائما فيهم لا تخرج عنهم.
الأمر الثاني : أن العداوة مقابلة بالمودة فالأمر ليس خلافا في الاعتقاد بل هو المودة أو العداوة فليس لقرب الاعتقاد أو بعده أثر في العداوة، وعلى هذا كان اليهود أشد عداوة من النصارى، والنص يومئ إلى أنهم أكثر عداوة من الذين أشركوا بتقديم اليهود لأن المودة لم تقطع من كل الوجوه بين النبي عليه السلام والمشركين من قريش بل إن ما كان يفرقه الاعتقاد يقابله مودة الرحم، وإن كانت حروب.
الأمر الثالث : لماذا عبر عن النصارى بقوله تعالى :( الذين قالوا إن نصارى ) وقد أجاب عن ذلك بعض المفسرين بأنه تشريف للنصارى لأن عيسى عليه السلام عندما قال :(... من أنصاري الى الله قال الحواريون نحن أنصار الله... ١٤ ) ( الصف ) فقوله تعالى :( الذين قالوا إنا نصارى ) تذكير بهذا الموقف الكريم في مقابل قول اليهود عندما دعاهم موسى إلى دخول الأرض المقدسة فقد قالوا :(... فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ٢٤ ) ( المائدة ).
هذا كلام بعض المفسرين ولكن يلاحظ أن الذين قالوا نحن أنصار الله هم الحواريون، والذين كانت بينهم مودة المسلمين ليسوا هم أن أولئك هم الحواريون الذين سلمت عقيدتهم، أما الذين يتحدث عنهم فهم كانوا من أهل التثليث ثم تاب الله تعالى عليهم، ولقد ذكرهم بهذا العنوان :( الذين قالوا إنا نصارى ) في مقام الذم فقد قال تعالى :( ومن الذين قالوا انا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به... ١٤ ) ( المائدة ).
ولاجل هذا لا نقول إن التعبير بقالوا إنا النصارى فيه تشريف، إنما هو بيان أن هؤلاء يقولون أنهم نصارى ولكنهم ليسوا نصارى عيسى عليه السلام وإن كانوا من بعد ذلك قد اهتدوا.
الأمر الرابع من هم اليهود الذين هم أشد عداوة ومن هم النصارى الذين كانوا أقرب مودة ؟ قال بعض المفسرين : إن المراد منهم الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم وقد كانوا كذلك حقا، ولكن قال ابن جرير : إن الوصف عام، فاختار أن هذا الكلام ينطبق على كل أقوام كانوا بهذه المثابة.
وعندى النصارى ليسوا النصارى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقط، بل كل من ينطبق عليهم وصف المودة في كل عصر، ومن لا ينطبق عليهم، فهم إلى اليهودية أقرب واليها أدنى، وقد قال سبحانه :( ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ). في هذا الكلام بيان السبب، في قرب المودة الذي كان بين المؤمنين والنصارى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن توافرت الأسباب، ولم يكن القسس والرهبان دعاة عداء وبغضاء، والقسيس هم عالم النصارى باحكام دينهم والمتفحص أحوالهم والمرشد لهم، وأصله من ( قس ) بمعنى تتبع، فالقسيس لا يترك الإرشاد والرهبان جمع راهب كركبان جمع راكب، وتطلق كلمة رهبان على المفرد كما تطلق على الجمع، وهو الرجل الزاهد المتبتل المنصرف للعبادة في زعمهم وهو يقوم بعمل القسيس في العبادة بيد أنه ينفرد عنه بالانصراف الكلي عن الدنيا ويتخصص للعبادة والإرشاد والتوجيه.
ولا شك أن حال القسيسين والرهبان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كانوا كذلك وكانوا القائدين للاهتداء بهدى الإسلام، فقد أخذوا بالكثيرين من نصارى الجزيرة العربية واتبعوا الإسلام، واستمعوا إلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وأن هذا النص ينطبق على كل قسيس يدعو بدعاية الحق، ويكون ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وفي ذلك الكلام تعريض باليهود الذين تركهم أحبارهم وعلماؤهم في غيهم يعمهون فكانوا لا ينتاهون عن المنكر فعلوه، ولم ينههم الربانيون والأحبار عما ارتكبوا من جرائم وما امتلأت به قلوبهم من غل وحقد.
وهناك مع ما كان القسيسون والرهبان عليه وصف آخر هو السبب في إيمان الكثيرين منهم في الجزيرة العربية، ثم الشام ومصر من بعد ذلك وهو انهم :( لا يستكبرون ) وقد جعل ذلك سببا قائما بذاته، وأكد سبحانه وتعالى سببيته ب ( أن ) وبالجملة الاسمية، وعبر سبحانه في خبر الجملة الاسمية بالفعل المضارع لتصوير حالهم في عدم الاستكبار وأن الاستكبار هو داء اليهود الدوي وهو داء المشركين فاليهود يحسبون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم من صنف فوق الناس، وان الجميع دونهم، فذهب بهم غلواؤهم على الكفر والضلال، وقتل الأنبياء وتكذيبهم والمشركون ما كفروا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم الا انهم رأوا العبيد والفقراء والضعفاء هم الذين يتبعونه، فذهب بهم اعتزازهم بالباطل ألا يتبعوه، وقالوا مقالة قوم نوح له :(... وما نراك اتبعك الا الذين هم أراذلنا بادي الراي... ٢٧ ) ( هود ) ونصارى الجزيرة العربية ومن شاكلهم تجانبوا الكبر، فقربوا من الحق وقد بين سبحانه حالهم في اتباع الحق.
ومعنى قوله :( ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ) أن الدمع ينزل من عيونهم فائضا عما تمتلئ به بسبب الحق الذي عرفوه، ومقتضى الكلام أنهم كانوا في حيرة حتى وجدوه، وأثلجت نفوسهم به، وقد قال الزمخشري في توجيه الكلام من الناحية البلاغية ( معناه تمتلئ عيونهم من الدمع حتى تفيض لان الفيض أن يمتلئ الإناء أو غيره، حتى يطلع ما فيه من جوانبه فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء وهو من إقامة المسبب مقام السبب أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء ). فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها أي تسيل من الدمع من أجل البكاء ). هذا كلام الزمخشري في التحرير البلاغي لمعنى تفيض أعينهم وعندي أن الكلام مبالغة في تأثرهم بدعوةالنبي صلى الله عليه وسلم واستقامة قلوبهم وعقولهم نحو الحق وسرورهم به، ومن السرور ما يكون مظهره انبثاق الدموع من العين.
وقد أكد الكلام بأنه لم يعبر عنه بالإخبار، بل عبر عنه بالرؤية المبصرة التي هي اقوي أسباب العلم الحسي، وصور حالهم في التعبير بالمضارع، وقوله تعالى :( مما عرفوا من الحق ).
معناه أن سبب البكاء هو ما عرفوه من الحق، وهذا يدل على أمرين : أولهما : انه تحقق لديهم ما وجدوه من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم. ثانيهما : أنهم كانوا لنفاذ بصائرهم وعظم مداركهم يحسون بانهم كانوا في ضلال فعرفوا الطريق، وكانوا في ظلام فاستناروا وكانوا في حيرة فاطمأنوا.
وإن هذا ينطبق على كل نصراني طالب للحق، لم يطمس الله على بصيرته.
وبعد أن بين سبحانه حالهم المرئية ذكر قولهم بعد اهتدائهم فقال تعالت كلماته :
( يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع السشاهدين ) حكى الله سبحانه وتعالى قولهم وقد اتجهوا فيه إلى الله تعالى معترفين بربوبيته وحده، وأنه على كل شيء قدير، ومقرين بالإيمان الصادق المنبعث من قلوبهم وطلبوا من الله تعالى أن يكتبهم من الذين شهدوا بالحق، وشهدوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى :( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا... ١٤٣ ) ( البقرة ).
وكما قال تعالى :( وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتنابكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة واتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير٧٨ ) ( الحج ).
الاستفهام هنا انكاري فيه معنى التعجب وهو انكار للوقوع فهو بمعنى نفى أن يحدث منهم عدم الايمان لأن موجب الإيمان قد وجد، وهو الإيمان لله تعالى جل جلاله، والحق الذي جاء إليهم وخوطبوا به، ولا يوجد أي مانع يمنعهم من الإيمان، فالسبب قد تحقق ولا مانع، والاستفهام بمعنى النفي، وهو داخل على نفى، ونفى النفى اثبات، فمعناه إصرار على الإيمان وقوله تعالى لا نؤمن بالله حال مما دخل عليه النفى وصاحب الحال هو ( نا ).
والكلام يومئ على أنه كان هناك اعتراض وكان كلامهم للرد على هذا الاعتراض والتاريخ يثبت أنه كان اعتراض على من آمنوا من هؤلاء النصارى والمنطق النفسي للجماعات في قديمها وحديثها أن تستنكر من يغير دينه إلى دين الحق الذي ارتآه وهؤلاء من الذي قال تعالى فيهم :( وان من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما انزل إليهم خاشعين... ١٩٩ ) ( آل عمران ) وقال فيهم سبحانه :( الذين آتياناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ٥٢ ) و إذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ٥٣ ) ( القصص ). ( و إذا سمعوا اللغو اعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ٥٥ ) ( القصص ).
وان إيمانهم هذا وإذعانهم للحق في وسط إنكارهم لم يجعلهم يجزمون بالجزاء في الآخرة بل كانوا حقا كصادقى الإيمان يطمعون لا في الجزاء وحده بل يطمعون في أن يكونوا مع أهل الإيمان الذين يجمعهم الصلاح في الأعمال، ولذا قال سبحانه عنهم :( ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ) فهم لقوة إيمانهم يستصغرون ما عملوا ويطمعون في أن يدخلهم ربهم الذي خلقهم وإنما هم وكفلهم برحمته وعنايته أن يدخلوا في ضمن الذين اختارهم الله تعالى واصطفاهم وهم قوم الله وحزبه، وهم الصالحون المصلحون، والمؤمن المخلص يستقل عمله بجوار أنعم الله تعالى عليه فهو لا يستكثر بتقواه، ولا يمن بعبادته، وليس حالهم كحال الذين يمنون على الله تعالى إذ قال تعالى :( يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين ١٧ ) ( الحجرات ).
في هذا النص الكريم إجابتهم إلى ما طلبوا وهو إجابة الله العزيز الكريم وهو اكبر مما طلبوا لقد كانوا يطمعون أن يكونوا من القوم الصالحين وأن يكتبوا مع الشاهدين فأجابهم بالجزاء الأوفى وهو ما أعد الله تعالى لعباده المتقين كانوا يطمعون ويرجون فسمى سبحانه ما أعطاهم جزاء وفاقا، وكانوا يطلبون أن يكونوا مع الصالحين فسماهم الله تعالى محسنين أي مجيدين متقين مخلصين.
فكان الجواب هو جواب الحكيم الكريم الذي يقول تعالت كلماته :( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ٦٠ ) ( الرحمان ) والثواب الرجوع بالشيء على حالته الأولى وكان ثواب العمل من قبيل الرجوع على أصل العمل أي أن ما ينالهم من جنات النعيم، أي من المقام الذي ينعمون وإنما عاد إليهم من أعمالهم، وذلك حرم الله تعالى إذ جعل جزاءهم من العمل ذاته وهو ذو الفضل العظيم، وذلك هو الجزاء لمن يحسن.
وجعل سبحانه وتعالى الثواب على القول، لأنه يدل على الإخلاص وعلى الإيمان الصادق والعمل الطيب، فالجزاء على هذا كله الذي دل عليه القول الطيب.
ذكر سبحانه وتعالى جزاء الذين استمروا على كفرهم في مقابل جزاء الذين آمنوا وطمعوا في رحمة الله تعالى، وأدركوا الحق فاذعنوا له، وكان جزاء الكافرين أنهم صاروا أصحاب الجحيم أي الملازمين لها الذين لا يفارقونها، والجحيم هي النار المتأججة التي لا تنطفئ وقد استحق ذلك العقاب بسببين :
أولهما، كفرهم وجحودهم بالحقائق الثابتة التي جاءتهم والتي تدركها العقول السليمة فهم قد استحقوا بكفرهم بها مع ان النفس السليمة تذعن لها من غير تردد لانها هي التي تتفق مع العقل والفطرة المستقيمة.
الثاني : أنهم كذبوا بآيات الله تعالى أي الأدلة والمعجزات التي ساقها رب العالمين لتأييد النبي المرسل الذي أرسل إليهم، فهم لم يؤمنوا بهذه المعجزات ولم يصدقوها.
فكانوا حائرين بائرين، إذ لم يدركوا الحق في ذلته وهو متفق مع العقل المستقيم ولم يتقبلوا الأدلة القاطعة، التي سيقت إليهم للدلالة على الحق الذي لم يدركوه.
وهذان السببان هما اللذان من أجلهما كان العقاب ولذلك عبر بالموصل الذي يدل على أن الصلة هي سبب الحكم وعبر بالإشارة وهي تدل على أن المشار إليه هو سبب الحكم.
وكلمة الذين كفروا تشمل من كانوا من أهل الكتاب ومن كانوا من غيرهم لأن السبب في ذلك الجزاء الأليم يتحقق في النوعين : إذ كلاهما كفر بالحق لما جاءه، وكلاهما كذب آيات الله تعالى التي ساقها للدلالة على رسالة الرسول وحيث تحقق السبب تحقق المسبب لا محالة وهو العذاب الأليم الدائم.
هدانا الله إلى الحق، وإلى صراط الله العزيز الحميد.
اعتبر القرآن الذين قالوا انا نصارى اقرب مودة للذين آمنوا وزاد أن السبب في ذلك أن فيهم قسيسين ورهبانا، وذكر في نص آخر أن فيهم رأفة ورهبانية ابتدعوها والرهبانية تقتضي التقشف والحرمان من أكثر طيبات الحياة والإسلام لم يأت بهذا بل جاء شريعة وسطا بين المادية الشرسة العنيفة والروحانية المتخلصة من حاجات الجسم تخلصا، بل الإسلام أباح الطيبات وحرم الخبائث ولم يقرر أن تعذيب الجسم من القربات وقرر أن المشقات تحتمل إذا كان من الممكن الاستمرار عليها، ولذلك جاء النص الكريم بإباحة الطيبات بعد الإشارة إلى الرهبانية فقال :
( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين ) النداء موجه للذين آمنوا بوصف أنهم مؤمنون، أي أنه ليس من الإيمان أن تحرموا الطيبات التي أحلها الله تعالى من لحم طري، وسمك شهي، وشراب سائغ، وزوجات هي زهرات هذا الوجود فالطيبات هي المشتهيات الحلال، التي تستطيبها النفس ولا تمجها، فإنها بناء الجسم ومصدر قوته على الجهاد، وتطلق الطيبات على ما كان طريق كسبها حلالا لا خبث فيه، وكلمة ( ما احل الله لكم ) إشارة على أن الله تعالى أحلها فتحريمها معاندة لله، ويدخل فاعل ذلك ضمن من يشملهم قوله تعالى :( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب... ١١٦ ) ( النحل ).
ومعنى تحريمها أن يأخذوا على أنفسهم ميثاقا بالا يتناولوها، فليس التحريم في معنى الترك المجرد فقد يتركها لأنه لا يستسيغها، أو يتركها لمرض أو يتركها عفوا من غير سبب، أما تركها بعهد يعهده وميثاق ياخذ نفسه به، فهذا هو التحريم.
وروى في سبب نزول هذه الآية حديث نبوي شريف نذكره مع طوله نسبيا لأنه يبين معنى هذه الشريعة السمحة.
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوما فذكر الناس ووصف القيامة، فرق الناس، وبكوا واجتمع عشرة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، في بيت عثمان ابن مظعون الجمحي، وهم على أكرم الله وجهه، وأبو بكر رضي الله عنه، وعبد الله ابن مسعود وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة وعبد الله ابن عمر والمقداد ابن الأسود، وسلمان الفارسي، ومعقل ابن مقرن، وصاحب البيت واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل، ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك، ولا يقربوا النساء والطيب ويلبسوا المسوح، ويرفضوا الدنيا، ويسيحوا في الأرض وهم بعضهم أن يجب مذاكيره، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى دار عثمان ابن مظعون فلم يصادفه فقال لامرأته أم حكيم : أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه، فكرهت أن تنكر، إذ سألها وكرهت أن تبدي على زوجها فقالت : يا رسول الله ان كان قد بلغك عثمان فقد صدقك، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دخل عثمان أخبرته بذلك فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه فقال عليه الصلاة والسلام أنبئت أنكم اتفقتم على كذا وكذا، قال : نعم يا رسول الله، وما أردنا الا الخير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ان لأنفسكم عليكم حقا، فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا، فاني أقوم وأنام وأصوم وافطر، وآكل اللحم الدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ) ثم جمع الناس وخطبهم فقال :( ما بال أقوام حرموا النساءو الطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا، أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين رهبانا فانه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع، وأن سياحة أمتي الصوم، ورهبانيتهم الجهاد اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة وصوموا رمضان، واستقيموا فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع١ وإن هذا الحديث يدل على أمرين :
أحدهما : أن التشدد في الدين يعجز صاحبه عن الاستمرار عليه، ولو كان الناس جميعا رهبانا يزهدون فماذا يكون المآل أتبقى الدنيا أم تنتهي إلى الانقراض.
الثاني : أن هذا الدين هو دين الحياة لا يقطع العابد عن الحياة ولكن يجعله يعيش عاملا فيها غير منقطع عنها، وان التفاضل بين المؤمنين باستقامة النفس، وسلامة العبادة وكثرة النفع للناس كما قال عليه السلام :( خير الناس أنفعهم للناس )٢ ولقد قال في هذا المعنى الحسن البصري واعظ العراق، إن الله تعالى أدب عباده فأحسن تأديبهم قال الله تعالى :( لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله... ٧ ) ( الطلاق ).
ما عاب الله قوما وسع عليهم الدنيا، فتنعموا وأطاعوا، ولا عذر قوما زواها عنهم فعصوه، وإن شرط إباحة الحلال، ومنع تحريمه ألا يكون ثمة اعتداء، ولذا قال تعالى :
( ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) والاعتداء له شعبتان إحداهما – تكون بالإسراف في البذخ والتعالي والتفاخر فإن ذلك يؤدي على استيلاء الشهوات على نفسه، وذلك يؤدي إلى الضلال إذ يكون عبد شهوته وتنماع إرادته ولذلك قال تعالى في آية أخرى :(... وكلوا واشربوا ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين ٣١ ) ( الأعراف ) وقد قال صلى الله عليه وسلم :( كلوا واشربوا والبسوا في غير سرف ومخيلة ) ٣
والشعبة الثانية : أن ينحرف فيتعدى على حقوق الناس ويتناول المحرم ويتجاوز ما شرعه الله تعالى على ما لم يشرعه.
وإن هذا النص كان سلبيا بمنع أن يحرموا على أنفسهم، والنص الثاني إيجابي.
٢ عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن إلف مألوف، ولا خير في من لا يألف، وخير الناس أنفعهم للناس) (رواه القضاعي في مسند الشهاب (١٢٩) ج١ ص ١٠٨)..
٣ سبق تخريجه..
أولها، أنه جعله مما رزقه الله سبحانه وتعالى وان الله لا يرزق إلا ما يكون في تناوله خير، ولقد كان بعض التابعين يحرم على نفسه الفالوذج فرد الحسن ذلك بأن الله تعالى رزقه إذ قال رضي الله تبارك وتعالى عنه :( لعاب النحل بلباب البر مع سمن البقر هل يعيبه مسلم ).
الأمر الثاني : أن الله وصفه بأن يكون حلالا قد أحله الله تعالى ولم يحرمه فإن إحلال الله تعالى نوع من ضيافته سبحانه وتعالى على رزقه وأنى يسوغ لمؤمن أن يرفض ضيافة الله سبحانه وتعالى، فإذا رزقك الله ثوبا حسنا وأباحه لك لأنه كسب طيب لا خبث فيه، فاعلم أنه هدية الله تعالى أهدها إليك فإن اخترت خشن الثياب بدلا منه فقد رفضت هدية الله تعالى، وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكبر وذكر أنه لا يدخل الجنة متكبر، فقال بعض الصحابة : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، فهل هذا من التكبر فقال صلى الله عليه وسلم :( ان الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس ) ٢.
الأمر الثالث : أن الله تعالى وصف الرزق بأن يكون طيبا، والطيب يشمل وصفين أحدهما، أن يكون طريق كسبه طيبا، لا خبث فيه، فقد يكون الشيء في ذاته لم يحرمه الله تعالى، ولم يمنع استعماله، ولكن طريق الحصول عليه كان خبيثا، فالمال اشتراه به كان كسبه خبيثا، كان يكون من ربا أو سحت أو نحو ذلك من أسباب الكسب الخبيث والوصف الثاني : الذي تشمله كلمة الطيب أن يكون مرغوبا فيه، فإن كان طعاما يكون بحيث لا تعافه نفس المتناول فإن كان كذلك لا يطلب منه أكله لأن ما تأكله وأنت تشتهيه فقد أكلته وما تأكله وأنت لا تشتهيه فقد أكلك.
الأمر الرابع : هو أمره سبحانه وتعالى بتقوى الله تعالى : وقد زكى طلب التقوى بارتباطه بالإيمان بالله تعالى إذ قال تعالت كلماته :( واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ). وجه التزكية ذكر لفظ الجلالة الذي يربي المهابة بالقلوب، وبيان أن الإيمان يقتضي التقوى، وأكد الإيمان بالله بالجملة الاسمية. والتقوى أن يلاحظ الشخص حق الله تعالى وحق الناس فيما يتناوله من طيبات وألا يدفعه ذلك إلى الغرور والتعالي، والتفاخر والاستطالة على الناس، وألا يدفعه طلب الحلال إلى نسيان الحمد والشكر، في كل ما يتناوله، ويناله، وأن يقوم بحق الله تعالى وحق الناس وأن ينعم بالنعمة، ويصبر إذا أزالها، ويكون من المتقين الصابرين المذكورين في قوله تعالى :( ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه ليئوس كفور ٩ ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور١٠ ) ( هود ).
فالنعم تحتاج إلى صبر وإعطائها حقها من الشكر، والنقم تحتاج صبر.
٢ رواه مسلم: تحريم الكبر وبيانه (٩١) عن ابن مسعود رضي الله عنه. وبطر الحق، كفعه وإنكاره والغمط: الاحتقار والتعالي..
اللغو هو من لغا العصفور وهو صوته، أطلق على كلام من لا يتعد به ولا يلتفت إليه كما قال تعالى في أوصاف المؤمنين :(... وإذا مروا باللغو مروا كراما ٧٢ ) ( الفرقان ) (... وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ٦٣ ) ( الفرقان ).
ولغو اليمين الذي لا مؤاخذة عليه بنص القرآن قال بعض الفقهاء ومنهم الشافعي : أنه ما لا يقصد به الحلف بل يجيء في مجرى الكلام، مثل لا والله بلى والله وروى ذلك عن عائشة رضي الله عنها ويزكى ذلك التفسير قوله تعالى في آية أخرى :( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن ويؤاخذكم بما كسبت قلوبكم... ٢٢٥ ) ( البقرة ).
والذي يقابل ما كسبت القلوب هو ما لا تكسبه القلوب، وقال الحنفية : هو أن يحلف على شيء مضى على أنه كما قال ثم يتبين أنه غيره، فعلى حسب اعتقاد لا يكون عليه شيء وهذا التفسير مأثور عن مجاهد رضي الله عنه، وعلى ذلك تكون المعقدة مقابلة للغو.
وظاهر الآية الكريمة أن معقدة الإيمان هي الحلف على الامتناع عن فعل في المستقبل أو الإصرار على فعل، لأن ذلك هو الذي يسير مع السياق من التحريم على النفس واصلها من العقد وهو في الحسيات جمع أطراف الشيء وفي المعنويات جمع أطراف الكلام وصيغة التفعيل تدل على توثيق الكلام وتأكيده وقرئ بالتخفيف٢ وهو في معنى التضعيف.
والذي يظهر لنا وسط اختلاف الفقهاء في التفسير أن اللغو ما لا يقصد به اليمين وما لا تكسبه القلوب، ولا يوثق به الكلام بالامتناع عن الفعل أو توكيد إيقاع الفعل في المستقبل، لا مؤاخذة على ما تكسبه القلوب إذا حنث في يمينه فعدل عما اعتزم، كمن يعدل عن تحريم ما أحل الله، ولذا قال سبحانه :
( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ) الكفارة من الكفر وهو الستر، فالكفارة ستر الخطيئة وستر الخطيئة عند الله تعالى إزالة الاعتداء، والضمير يعود على الحنث المقدر في القول، فكفارته أي كفارة خبثه ولا مانع من أن يعود على الحالف إذا حنث ويظهر لنا ذلك لأن التكفير يكون عن الشخص ولا يكون على اليمين ولا على الحنث فيه إلا على اعتبار أنه محو لسيئة الحالف في الحنث وعدم البر بيمينه.
وقد خير الحالف إذا حنث بين أمور ثلاثة يختار إحداها، وهو سيختار الأيسر عليه اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم إذ قالت عائشة في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم :( ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما )٣ فالواجب هو واجب مميز بين ثلاثة وليس واحدا منهم بأولى من الباقين إلا أن يكون أيسرهما عليه، فإن كان من تجار الأقمشة كانت الثياب أيسر عليه.
والأمر الأول المميز فيه الطعام وقد عبر سبحانه بإطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم، فما المراد بالأوسط وما نوع الواجب أهو الإطعام بالفعل ؟ أم يشمل التمليك الذي يكون به الإطعام، وهل العدد مقصود لذاته، أي لا بد أن يكون المطعومون عشرة لا ينقصون ؟.
أما كلمة أوسط ففيها رأيان : أحدهما رأى كثيرين من المتقدمين.
أن المراد أمثل ما يطعمون به أهليهم لأن الأوسط في كثير من الاستعمالات هو الأمثل قال تعالى :( قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون٢٨ ) ( القلم ).
أي قال أمثلهم فكرا ونظرا، ويزكي هذا عن إطعام عشرة مساكين يقابل بالكسوة وعتق الرقبة ولا يتصور المقاربة إلا إذا كان أمثل الطعام لديهم، ومؤدى ذلك التصوير أن يكون أولئك الفقراء في ضيافة من حنث في يمينه، يستضيفهم لأن رب البيت يقدم لضيفة أمثل ما يستطيعه من طعام.
وقال آخرون : إن الأوسط هو المتوسط الذي يعد المتوسط في طعامه، فليس هو أقل ما يأكله أهله ولا أكثر بل يكون بين ذلك قواما، وقد اختار هذا الرأي ابن جرير والأكثرون من الفقهاء.
وإن الإطعام يكون بالتمكين من ذلك وهو الأصل وخصوصا عند من يفسر الأمثل بالأوسط، وفي هذه الحال يقدم لهم وجبتين من الطعام ليستطيعوا الاعتماد عليها طوال اليوم، وإذا لم يكن الإطعام متيسرا، ملكهم من أنواع القوت ما يقابل ذلك، والأكثرون على أنه يقدم نصف صاع من بر، واختلافهم في مقدار الصاع، لاى في أصل التقدير.
والأكثرون من الفقهاء على أنه لا بد من إطعام عشرة وقال الحنيفة : إذا أطعم واحدا عشر مرات يغني عن إطعام العشر لأن القصد إمداد الفقراء بحاجات تغنيهم وليست العبرة بمغاير الأشخاص ولا بالعدد في ذاته والكسوة يلاحظ فيها أن تكون سابغة في الجملة ولقد قال مالك وأحمد : لا بد أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصح أن يصلي فيه رجلا أو امرأة كل بحسبه.
وعندي أنه يترك تقدير الكسوة إلى ما يليق بالمعطى مع ملاحظة أن يكون سابغا.
والرقبة أيشترط فيها أن تكون مؤمنة ؟ لقد ورد عتق الرقبة موصوفا بان تكون مؤمنة في كفارة القتل خطأ فالأكثرون من الفقهاء جعلوه وصفا في كل تكليف بعتق الرقبة لأنه قد اتخذ الموضوع واتحاد الموضوع يكفي في حمل المطلق على المقيد ولان المعنى فيه تحرير رقاب المؤمنين، ولأن الصدقات تكون للمؤمنين وقال الحنفية : لا يحمل المطلق على المقيد إلا إذا اتحد الموضوع والسبب وعتق الرقاب في ذاته قربة إلى الله تعالى، والرأى عندي أنه لا يعتق غير مؤمنة إذا كان يملك مؤمنة.
( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ) الفاء هنا تفصح عن شرط مقدر، والمعنى إذا لم يكن عنده ويريد أن يحنث ولم يجد فصيامه ثلاثة أيام، وثلاثة اأيام يصومها تطهيرا لنفسه، ولتقوى إرادته وتشتد عزيمته فالصوم طهرة للنفس ويزكى العزيمة الصادقة والتجرد الروحي ولكن أيشترط أن تكون الأيام الثلاثة متتابعة، قال كثيرون : لا يشترط أن تكون متتابعة لأن النص لم يشترط ذلك ولأن التيسير يتحقق بعدم شرط التتابع والنبي عليه السلام يقول ( يسروا ولا تعسروا ) ٤ وقال ابو حنيفة رضي الله عنه : إن التتابع شرط وذلك لأنه لا يمكن تحقق أنها ثلاثة أيام إلا متتابعة ولا يتصور أن يكون قد كفر عن يمينه إذا كان يصوم في كل عام يوما، ولأن ذلك رأى كثير من الصحابة منهم عبد الله ابن مسعود. ونحن نختار ذلك الرأى وقبل أن ننتهي من الكفارة لا بد من أن نتعرض لأمرين :
أولهما أيسبق الحنث الكفارةولا كفارة إلا بعد الحنث أم تجوز الكفارة قبل الحنث ؟ قال الأكثرون بالأول لأن السبب هو الحنث وما دام لم يتحقق فإنه لا كفارة وقال آخرون : يجوز أن تتقدم الكفارة عند نية الحنث وتقوم النية مقام الحنث بالفعل.
ثانيهما : إذا حلف على شيء فرأى خيرا منها يجب عليه أن يحنث قال الظاهرية ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( من حلف على يمين فرأى خيرا منه فليحنث وليكفر ) ٥ وقال غيرهم : لا يجب ونحن نرى أن يوازن بين مقدار الضرر الذي سيترتب على الاستمرار والخير الذي يجلبه الحنث فإن رجح الثاني وجب الحنث.
( ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ) ذلك الذي تقدم هو سائر أيمانكم أي ماحى إثمها شرعه الله تعالى لكم رجاء أن تشكروه اذ خفف عليكم وسهل لكم فعل الخير إذا امتنعتم عنه ووثقتموه، بيمين، فسهل لكم سبيل الخروج بكفارة سهلة ميسرة فقوله تعالى :( لعلكم تشكرون ) متصل بقوله :( ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ) فسهل لكم الحنث بذلك التفكير السهل.
وحفظ الإيمان يتحقق بألا يكثر منها، ولا يكون مهينا ينطبق عليه قول الله تعالى :( ولا تطع كل حلاف مهين ١٠ ) ( القلم ) وألا يمتنع عن الخير بالحلف فلا يجعل الله تعالى عرضة ليمينه وان يصون يمينه فلا يحلف إلا لإرادة الخير والله المستعان.
٢ (عقدتم) بالتخفيف قرا بها عاصم (غير حفص والمفضل) وحمزة والكسائي، وخلف وقرا ابن ذكوان بالألف (عاقدتم) وقرأ الباقون بالتشديد غاية الاختصار – برقم (٨١٣)..
٣ متفق عليه: رواه مسلم الفضائل مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام واختياره (٣٣٢٧) والبخاري بنحوه وفيه زيادة الحدود إقامة الحدود (٦٧٨٦)..
٤ متفق عليه رواه البخاري: العلم ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم (٦٩) ومسلم بلفظ (وسكنوا ولا تنفروا) الجهاد والسير الأمر بالتيسير وترك التنفير (١٧٣٤).
٥ سبق تخريجه..
بين سبحانه أنه لا يصح تحريم الحلال وطالب بتناوله وأنه ليس من الإسلام تعذيب الجسم في سبيل تطهير الروح بل إن الروح القوى لا يكون إلا في الجسم السليم الذي يستوفي حاجة الحياة اليومية الطيبة التي لا إثم فيها، وان ا لمحللات لا تحصى عددا والمحرمات من الأطعمة تحصى، وهي محصورة.
والمحرمات تكون لأحد أمرين إما لخبيث في ذاتها، كالخمر والخنزير والميتة، وإما لاقترانها بما يمس العقيدة مما يدعو إلى الإشراك ومن الأشياء ما تكون محرمة لأن الفعل الذي قارنها كان محرما كالذي يكسب بالميسر فيحرم سدا للذريعة وقد ذكر سبحانه بعض المحرمات من الصنفين فقال تعالت كلماته :
( يا أيها الذين آمنوا انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان ) الخمر بمعنى المصدر هو الستر، ولذلك يقال لما يستر به الرأس عند النساء، خمار، والخمر بمعنى الاسم ما يخمر العقل ويستره، ويمنعه من التقدير الصحيح. والفقهاء اختلفوا في تعريف الخمر ا لذي جاء في القرآن تحريمها بالنص فقال بعضهم : إنها ما يتحقق فيها المعنى اللغوي الأصيل، فهي تكون لكل مسكر يخمر العقل ويستره وبعض الفقهاء قال : إنها اسم المسكر المتخذ من ماء العنب والتمر لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم –الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة ) ١ وقال بعض الفقهاء إنها لا تكون للمطبوخ بل تكون للنيء.
وقال الحنيفة : إن الخمر المذكور تحريمها بالنص في القرآن الكريم هي النيء من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد فهذه هي الخمر الذي جاء بتحريمها النص القرآني.
وما جاء من الأشربة المحرمة، فقد ثبت تحريمها بالقياس لأنها تشترك مع الخمر المحرمة بالنص في علة التحريم وهي الإسكار فحرمت لإسكارها لا لورود النص بها.
هذه هي الخمر الواردة في القرآن وكلام الناس فيها، والميسر هو القمار، وهو يشمل كل كسب بطريق الحظ المبني على المصادفة من كل الوجوه، وهو يكون للعب على المال، فالنرد على مال للكسب قمار، والشطرنج على مال قمار، وهكذا : وتحريم الميسر لذات الفعل، فالفعل في ذاته حرام والكسب عن طريقه حرام لأنه سحت وأكل لمال الناس بالباطل.
والأنصاب تطلق عند العرب الجاهلية بإطلاقين : أحدهما نصب من الحجارة كانت تعبد أو تقدس.
والإطلاق الثاني : حجارة مقدسة كانت تخصص للذبح تقربا للأصنام.
والازلام جمع زلم، وهي السهام التي كانوا يتقاسمون بها الجزور أو البقرة إذا ذبحت فسهم عليه واحد، وسهم اثنان وهكذا على عشرة وقد حرم القرآن القسمة بذلك لأنها من الميسر.
وقد جمعت هذه الأمور كلها مع تحريم الخمر، لأنها متجهة جميعها إلى الخبائث فالخمر ومعها الميسر كانا مقترنين في التحريم لأنهما عادة كانا مقترنين في الواقع فينذر أن يلعب الميسر من لا يشرب الخمر وشارب الخمر المدمن عليها يمتد به الاثم حتى يتناول الميسر أيضا.
والازلام كلمة تتخذ لقسمة الذبائح بالميسر فيسحب الشخص الزلم، ويكون له من اللحم بمقدار ما يعلمه السهم، فان كان واحدا أخذه وإن أكثر أخذه بمقدار ما يعلمه.
والنصب كلمة جمعت مع هذه، لأنها أصنام وهى الاصل فساد في العقيدة، أو لأنها مقدسة لا تؤكل الذبيحة إلا إذا ذبحت عليها فكان جمعها مع الخمر والميسر لصلتها بالميسر ولأنها نوع من تحريم ما أحل الله تعالى لغير سبب معقول لا من الشرع ولا من العقل، فهي ذات، صلة وثيقة بالآية التي قبلها.
وكان جمع هذه الأشياء مع ما سبق لأن لها مصدر من الطبع واحدا، وحكما من الشرع واحدا، وهو أنها رجس ومن عمل الشيطان، والرجس كل ما استقذر وهو يطلق أولا على الأشياء القذرة التي تعافها ولا تستطيبها النفس أو أن عواقبها وبيئة، وتطلق بالإطلاق الثاني على الأعمال السيئة التي لا يقبلها العقلاء، ولا مبرر لها عند أهل البصرة والإدراك والخمر مستقذرة في ذاتها لان النفس لا تستطيبها شرابا، ولولا العادة ما تعودها الناس لعدم مساغها ونتيجتها مستقذرة لأنها تفقد الشخص الإدراك يكون قذر العمل يأتي بما لا يستحسنه العقلاء وهي مستقذرة لأنها ضارة بالجسم أبلغ الضرر وأشده فهي تفسد الكبد وتضل العقل، ولقد حرمها بعض الجاهلين على نفسه ولما قدمت له قال :( لا أتناول ضلالي بنفسي ) وهي تثير النزوات والشهوات ويروي أن أعراابية جاءت إلى مكة، فاسقيت الخمر، فلما ثملت قالت : أنساؤكم يشربن الخمر، فلما قيل لها : نعم : قالت : إن نساءكم لزوان.
والخمر أم الخبائث لأنها تسهل كل الخبائث فما من شر يريد أن يقدم عليه الشخص ويتردد في ارتكابه إلا سهلته الخمرفهي تميت النفس اللوامة، أو على الأقل تضعف صوتها، وتخدر الوجدان وهو الإحساس بما في العمل الذي يعمله من خطر، ومن أجل ذلك كله حرمت.
ولا يقال إنها حرمت للإسكار فقط، حتى لا يزعم ناس أنها حلال له، لأنه لم يسكر فذلك قول باطل أولا، لأن النص قاطع في التحريم وكل اجتهاد مع النص اجتهاد فاسد وثانيا، لأن كون الشيء مسكرا لا ينظر فيه إلى الجزئيات بل النظر فيه على شأنه ولا تخرم القاعدة الكلية بشذوذ جزئي وثالثا لأنها تميت الضمير والوجدان أو تخفت الصوت اللائم وتذهب بالحياء وهو عصام الأخلاق والمجتمع السليم.
والميسر مستقذر، لأنه يؤدي إلى الشحناء واكل أموال الناس بالباطل واتخاذ الأنصاب مستقذر لأنه لا يتفق مع العقل ولا يدعو إليه الفكر المستقيم وهو من ضلال العقول وفساد النفوس والازلام لون من ألوان الميسر وشكل من أشكاله وهو قذر بكل صوره وبكل أشكاله.
وإذا كان ذلك كله رجسا فلماذا يتناوله العقلاء ؟ فأجيب بأنه من عمل الشيطان الذي يحسن القبيح ويقبح الحسن.
( فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) الضمير في :( فاجتنبوه ) يعود على كلمة رجس، والفاء للإفصاح عن شروط مقدر، وتقديره الكلام هكذا : إذا كان تناول هذه الأشياء رجسا ومن عمل الشيطان فاجتنبوه لتنالوا الفوز والفلاح فلا فوز لقوم يضلون عقولهم بأنفسهم ويفرون من واجباتهم بالخمر يشربونها، وبالموبقات يتسلون بها وبإضلال عقولهم وضياع تفكيرهم.
( واجتنبوه ) معناه اجعلوه في جانب وأنتم في جانب وهو أقوى من ( لا تشربوها ) في الدلالة على التحريم لان ( اجتنبوها ) لا تدل فقط على تحريم الشرب، بل تدل على تحريم الشرب مع جعلها في جانب، وابتعاد وهي تتضمن النهي عن الشرب ومجالسة الشاربين لان مجالسة الشاربين لا يتحقق فيها الأمر بالاجتناب بل إن الاجتناب يتضمن النهي من المرور على الحانات أو غشيانها.
البغضاء : البغض الشديد، وهو يقطع الصلات، ويثير الأحقاد ويجعل الناس قلوبهم شتى، وإذا أعلنت البغضاء كانت العداوة المستحكمة والمنابذة والشحناء فالعداوة أخص من البغضاء لأنها بغضاء معلنة متنابذة، أما البغضاء المجردة مستكنة لا تظهر، وإن كانت آثارها عنيفة مثيرة للنفور مربية للأحقاد والأضغان.
وقوله تعالى :( إنما يريد الشيطان ) فيه قصر أي قصر إرادة الشيطان في الخمر والميسر على إثارة العداوة والبغضاء وإلقائهما في الأنفس، والعلاقات الاجتماعية بين الناس بعضهم مع بعض، وهذا يفيد أمرين : أولهما، أن الخمر والميسر لا يدفع إليهما عقل مدرك مدبر، ولكن يدفع إليهما شهوة نفسية جامحة هي من تحريكات النفس الأمارة بالسوء.
وثانيهما، انه يترتب عليهما الفرقة المادية بين الناس بالعداوة التي تقام بينهم وبالبغضاء التي تولد فيهم الإحن المستمرة.
وليست العداوة والبغضاء هما فقط عمل الشيطان بل له عمل آخر أشد وهو أنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة وفي الواقع أن كلا الأمرين متلازمان فحيث كان الصد أي الأبعاد عن ذكر الله وعن الصلاة كان إلقاء العداوة والبغضاء في القلوب، لأنه إذا وجد الإعراض عن ذكر الله وعن الصلاة كانت الأنانية ولا شيء يقطع ما بين الناس، ويثير العداوة والبغضاء أكثر من الأثرة ومجانبة الإيثار.
فالخمر والميسر تناولهما يؤدى إلى أمرين أولهما العداوة والبغضاء، وثانيهما الصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة أما أداؤها الى العداوة فلأن الخمر إذا شربت غاب العقل الظاهر، وظهر العقل الباطن، وكشف السكران كل مستور وبين كل ما في الأنفس وانطلقت الألسنة بما لا يصح الكشف عنه، وقد يبادله الآخر مثل قوله فتكون الشحناء وتكشف الأستار، وينبش المقبور من الأمور، ووراءه تولد الإحن ونزول المحن، وان الرجل ليكون كاتما لنفسه لا يتكلم فإذا سكر انطلق لسانه بكل شيء وقد يفتري على الحرائر ويكشف ما في السرائر وتنزل بالجماعة المحن.
وأما الميسر فإنه يولد حقد القلوب، وإحساس كل بأن الآخر له متربص ومتحفز ولأمواله طالب متوثب، وهذه الأمور بارزة للعيان غير محتاجة إلى بيان
وأما صدهما عن ذكر الله تعالى فلان الخمر تميت النفس اللوامة وتخدر الوجدان، تربط الإنسان بأعلاق الأرض وتكون النفس الأمارة بالسوء وتوجد في النفس انشراحا وهميا، وسرورا كاذبا تجعله في لهو، واللهو وذكر الله نقيضان لا يجتمعان وكل لهو باطل الا ما يكون تمهيدا للاستجابة لأمر الله تعالى ونهيه، وما يصد عن ذكر الله تعالى يصد عن الصلاة لأنها ذكر الله تعالى واستحضار لعظمته تعالت قدرته.
والميسر لا يشغل عن الله وعن الصلاة فقط بل يشغله عن أهله وعن أولاده وعن عمله الذي يكسب منه بل عن ثيابه التي يكسو نفسه بها فهو غمرة طاغية لا ينقذه منها غاا إطاعته أمر الله تعالى ونهيه.
( فهل أنتم منتهون ) الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، مؤاده إذا كنتم قد علمتم ما في الخمر والميسر من مضار وصوارف عن الله تعالى. وما يؤديان إليه من شحناء وبغضاء وما يفسدان به الجماعات فأنتم بعد ذلك منتهون عنهما تاركون لهما أم أنكم ما زلتم في غيكم تعمهون : سادرين عن امر الله تعالى فالاستفهام هنا للإنكار ومؤاده : انتهوا عما أنتم فيه، ولقد أجاب الكثيرون من أصحاب رسول الله : انتهينا.
وفي التعبير بالانتهاء والأمر به إشارة على تمهيدات سابقة للتحريم، فقد استنكرها القرآن الكريم من أول نزوله، فلم يعتبرها رزقا حسنا، كما قال تعالى :( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا... ٦٧ ) ( النحل ) فجعل السكر وهو الخمر مقابلا للرزق الحسن، ثم جاء التحريم غير الحاسم في قوله تعالى :( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس... ٢١٩ ) ( البقرة ).
والنتيجة تنتهي إلى التحريم لأن ما كثر ضرره وقل نفعه يكون حراما ثم حرمت في أثناء النهارو طرفا من الليل، وذلك في قوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون... ٤٣ ) ( النساء ).
وهكذا كان الإشعار بالتحريم ولكن لم يكن انتهاء حتى جاء التحريم الحاسم الخالي من كل ظن فكان لا بد من الانتهاء.
وجاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة : العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل ) ١ وترى الرسول عدد خمسة ثم عمم : وهي ما خامر العقل.
وأمر سبحانه بإطاعة الله، ثم امر بإطاعة الرسول مع أن إطاعتهما واحدة.
لقوله تعالى :( من يطع الرسول فقد أطاع الله... ٨٠ ) ( النساء ) ولأن النبي يتكلم عن الله سبحانه وتعالى فقد قال تعالى :( وما ينطق عن الهوى٣ إن هو إلا وحي يوحى٤ ) ( النجم ) وكرر سبحانه الأمر بالطاعة لتأكيد الدعوة إلى الطاعة وتشريف الرسول، وتاكيد رسالته بذكر طاعته بجوار طاعة الله تعالى :
( فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ) نبههم الله سبحانه وتعالى على وجوب طاعة الله وطاعة الرسول وأن يحذروا غضب الله تعالى وعذابه، واقتران الحذر بوجوب الطاعة فيه تنبيه على ضرورة اجتناب الخمر التي تصد عن ذكر الله وتميت الضمير، وتخفت صوت الوجدان، وتسهل الاندفاع وتمنع الحذر.
وفي هذا النص الكريم تأكيد لمعنى التحذير السابق، وتنبيه إلى سوء العاقبة، والمعنى : أن أعرضتم عن الطاعة وتجنبتم الحذر، ووقعتم في المحظور وغفلهم عن المأمور به فقد وقعتم في الخطيئة وستحاسبون عليها حسابا عسيرا، واعلموا إنه على رسولنا البلاغ الواضح المبين للحقائق والواجبات فقوله تعالى :( -فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ) مبنى عن جواب شرط مقدر ينبئ عن تحملهم وحدهم لتبعة إجرامهم ومعاندتهم لربهم مثل قوله تعالى :( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله... ٩٧ ) ( البقرة ) أي فإنه عدو لله لأنه نزل على قلبك بإذن الله، فالرسول مبين للحق، وليس مسئولا عن إيمان من يبين لهم كقوله تعالى :(... إنما أنت منذر ولكل قوم هاد٧ ( الرعد ) وكقوله :( إنما أنت مذكر٢١ لست عليهم بمسيطر ٢٢ ) ( الغاشية ) وفي إضافة الرسول إليه في قوله :( على رسولنا ) تشريف للرسول وتوكيد لإقراره سبحانه وبيان أن الرسول ما ينطق إلا عنه، وان عصيانه عصيان لله تعالى، وفي التعبير بقوله تعالى :( فعلموا ) تنبيه بصيغة الأمر ليتعظوا ويتحملوا تبعة أعمالكم ويكونوا في حذر مستمر والله الهادي.
والاكثرون من المفسرين على ان سبب نزولها انه لما نزل تحريم الخمر المشدد فيه، والتحذير منها، وقد كانت من قبل في مرتبة العفو، وقد كان هناك من المؤمنين من يشربها حتى كان منهم من استشهد في الجهاد وفي بطنه خمر فتساءل بعض المؤمنين عمن شربها ومات وعمن كان يشربها من الأحياء كما تساءل بعض الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس عن صلاتهم قبل تغيير القبلة إلى الكعبة فنزلت هذه الآية :( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) كما نزل هنالك قوله تعالى :(... وما كان الله ليضيع ايمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم ١٤٣ ) ( البقرة ) وقد وصف الله سبحانه وتعالى الذين لا جناح عليهم في شربهم في الماضي بانهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وكلمة :( طعموا ) معناها ذاقوا وهي تطلق على المشروب والمأكول كما قال تعالى في شأن النهر الذي حرم القائد شربه :(... ومن لم يطعمه فإنه مني... ٢٤٩ ) ( البقرة ) وقد ذكر سبحانه وتعالى بعد نفى الإثم قوله تعالى :( إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ) ففهم بعض الناس أن ذلك شرط لنفى الإثم أي لا إثم بالشرب مع التقوى وعمل الصالحات ونقول في الجواب عن ذلك :
أولا إن المراد بتقوى الله تعالى امتلاء القلب بخشيته وقد ذكر سبحانه وتعالى في أوصاف الخمر والميسر أنهما يلقيان بالعداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله تعالى فإذا كان الإثم قد رفع عن التناول لأنه كان قبل التحريم، فهل يرفع الإثم عن العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة ؟ إنه لا تقوى مع التناول.
وثانيا إن في هذاالشرط تحريضا على الإيمان وتقوى الله تعالى، والامتلاء بهيبته. وكرر الله تعالى التقوى فقال تعالت كلماته :( ثم اتقوا وآمنوا ) لبيان أنه يجب استمرارهم على التقوى وحث غيرهم عليها، وكان التعبير ب ( ثم ) لتأكيد معنى الاستمرار على التراخي وهناك معنى يفيده التكرار وهو تأكيد أن الماضي مهما يكن لا يؤثر في الحاضر إذا كان نقيا وقد تأكد هذا بقوله سبحانه :( ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ) العطف ب ( ثم ) هنا هو أيضا لتأكيد معنى الاستمرار مع الزمن والتقوى كما قلنا هي امتلاء القلب بالخشية، وهذا للحث عليها، ولتشريف الذين يستمرون عليها، والإحسان إن اعتبرناه متعديا يكون مؤاده الإحسان الى غيرهم بالمعاونة وفعل الخير واسدائه والجود بالمال وغيره، ويصح ان يكون لازما والمراد الإحسان في ذات انفسهم كما قال النبي عليه السلام :( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك ) ١ وهذا أعلى مراتب التقوى وهو ما نراه والله جل جلاله يحب المحسنين لأنهم قريبون منه.
( ذكر سبحانه وتعالى أشياء محرمة لذاتها لأنها مستقذرة خبيثة في ذاتها، وفي نتائجها، وهناك محرمات لمكانها وحال التناول لها، وليست في ذاتها حراما، ومن ذلك المحرمات في الحج أو في الإحرام بشكل عام، سواء اكان للحج أم كان للعمرة أم كان لهما وبعد أن أشار إلى بعض المحرمات لخبثها ولذاتها وهي، الخمر ذكر سبحانه وتعالى المحرمات لمكانها وحال التناول لها،
فقال سبحانه وتعالى :( يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب ) البيت الحرام في واد غير ذي زرع كما قال إبراهيم، عليه السلام فيما حكاه الله تعالى عنه إذ قال :( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي اليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ٣٧ ) ( إبراهيم ).
وكان على المسلمين أن يعملوا على توفير الطعام لهم، حتى تتحقق إجابة ذلك الدعاء إذ فرض الله سبحانه وتعالى الحج على ذلك البيت المطهر، ففرض الحج إليه كما قال تعالى :(... ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا... ٩٧ ) ( آل عمران ).
فكان الناس يذهبون اليه من كل فج عميق وإذا كان من مقاصد الحج التوسعة على المقيمين في هذا البيت، لا يصح أن يكون وجودهم سببا للتضييق عليهم ولو كان الصيد مباحا، وهم يسكنون البادية، ومن موردهم الصيد، ولو فتح باب الإباحة للمحرمين لكان من المتصور أن يستنفذوا كل عام أكثر الصيد الذي يكون حول مكة فيجيئوا بالحرمان بدل التوسعة وبالضيق عليهم بدل الترفيه، فكان لا بد من منع المحرمين من قتل الصيد حتى لا يكون أهل مكة في ضيق فوق ضيق المكان، وبعده عن الزرع والثمار.
النداء في النص القرآني الكريم الذين آمنوا، لأنه من مقتضيات الإيمان ذلك الخطاب ولم يكن تحريم الصيد للمحرمين لهذا فقط، بل لاختبار النفس المؤمنة ولتعويدها الصبر، ولتربية العزيمة إن العزيمة تتربى في صغار الأمور كما تتربى في كبارها وإن كبارها تحتاج إلى قوة جسمية وارادة نفسية أما الأمور الهينة اللينة فإنها تحتاج إلى عزيمة روحية ولذا قال تعالى :( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة غلا على الخاشعين٤٥ ) ( البقرة ) وإنه يكفي المنع من شيء ليطلبه الممنوع منه وفي الأمثال : كل ممنوع متبوع وجاء في ذريعة الأصفهاني أنه ورد في بعض الآثار ان الناس لو منعوا من البعر لفتوه، وقالوا ما حرم علينا إلا لشيء فيه.
والكلام في قوله تعالى :( ليبلونكم ) اللام هي التي تدل على القسم، والنون هي المؤكدة والمعنى لنعاملنكم معاملة المختبر، الكاشف لحقيقة نفوسكم وعزائمها، وإراداتكم وتصميمكم، وصبركم النفسي، وكان ذلك الاختبار النفسي الكاشف لعزائمكم في أمر صغير في واقعه، كبير في معناه، فموضوع الاختبار عبر عنه سبحانه وتعالى بقوله تعالت كلماته :
( بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ) وهذا الموضوع للاختبار يتسم بأمور ثلاثة : أولها أنه شيء قليل لأن التنكير هنا للتقليل كما يدل عليه ما بعده والثاني انه بعض الصيد والثالث أنه قريب منكم يغري النفس ويحرضها على فعل المنهى عنه، اذ عن أيديكم تستطيع تناوله اذ كان قريبا صغيرا وتستطيع رماحكم أن تناله إذا كان كبيرا او بعيدا بعدا نسبيا. وإن الاختبار الذي يجعل النفس في مشقة هو في هذا القرب، فالاختبار ليس في أمر يشق على الأجسام كالجهاد إذ يحتاج الى قوة جسم ومهارة وفن عقلى ولكن الاختبار في أمر هين لين، ولكن فيه مشقة على النفس، وجهاد النفس عن شوقها وعن شهوتها يقل عن جهاد الجسم المرن، والعقل المدرب الماهر، ولعل ذلك جهاد أكبر.
وان الذي ينجح في ذلك البلاء يكون ممن يخاف الله تعالى في غيبه عنه، وفي مشهده له، بل إنه يحس دائما بمقام المشاهدة١ فلا يحس بأنه غيب عن الله تعالى قط، ولذلك قال تعالت كلماته :( ليعلم الله من يخافه بالغيب ) أي ليظهر الله تعالى فيمن يخافه بالغيب ولكن ما الغيب وما حال من يخافه، قال بعض المفسرين : إن المراد غيب يوم القيامة أي أن من يحرم الصيد وأشباهه على نفسه ويعقد عزيمته على ذلك يظهر إيمانه بالآخرة وهي مغيبة عنه، ويخافها لأن نفسه تكون من النفوس الصابرة المبتعدة عن أهواء الدنيا، فلا تغمرها شهواتها فتنفذ طيبة إلى الآخرة وقال بعض المفسرين : عن المراد غيب الله تعالى أي أن من تكون له تلك العزيمة القوية فيكون ممن يراقب الله تعالى دائما، فيعبد الله كأنه يراه فالله في قلبه دائما يخافه ويتقيه ولا مانع من الجمع بين المعنيين.
( فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ) الاعتداء تجاوز الحد ومخالفة أوامر الله تعالى، كما قال تعالى :(... وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه... ١ ) ( الطلاق ).
ومعنى النص الكريم : ومن تجاوز ما أمر الله تعالى بعد إعلامه بأنه اختبار من الله لتربية نفسه وتهذيبها وإشعار بمخافة الله تعالى، وهو غائب بأن يمتلئ قلبه بالإيمان به، ويطيع الله كأنه يراه، من اعتدى بعد هذا فهو يعاند الله تعالى ويكابره، ومن يكون قلبه ممتلئا بالمكابرة والمعاندة فان الإيمان لا يسكن قلبه، ويكون له عذاب أليم.
وقد يقول قائل : إن الله تعالى ذكر جزاء من قتل الصيد متعمدا فقال تعالى على ما سنتلوه إن شاء الله تعالى، ( ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم ) وذلك ليس عذابا أليما ويجاب عن ذلك، بأن ذلك ليس مجرد جزاء للذنب الذي ارتكبه كله، ولكنه جزاء دنيوي يعود به على الذين في بيت الله، أما الجزاء الأخروي، فان الله مستقبله به يوم القيامة وفوق ذلك أن ما ذكره تعالى في جزاء القتل للصيد، غنما هو جزاء الفعل والعذاب الأليم جزاء المكابرة والمكابرة التي تدل على نقص الإيمان بل تدل على عدم الاستسلام لله تعالى
والنهي منصب على قتل الصيد فما هو الصيد المحرم، وهو بلا ريب صيد البر، كما خصصت ذلك الآية من بعد فقد قال تعالى من بعد ذلك :( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما )
والنهي منصب على الصيد نفسه لا على قتله لأن التحريم يتجه إلى محاولة صيد الحيوان لا الى قتله فقط وقد دل على ذلك قوله تعالى من قبله :(... غير محلي الصيد وأنتم حرم... ١ ) ( المائدة ).
وقوله تعالى :( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ).
وأجيب عن ذلك بان الغاية هو القتل للأكل غالبا، فعبر عن السبب وأريد المسبب، والقتل منهي عنه بالذات.
ولكن ما هو صيد المحرم أيقع على كل حيوان بري فيحرم صيده من غير قيد يقيده ؟ لقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استثنى من تحريم الصيد الفواسق فقال : عليه السلام فيما رواه الصحيحان ( خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح الغراب والحداة والعقرب، والفأرة، والكلب العقور ) ١ وهذه رواية مالك عن نافع عن ابن عمر ورواية عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الغراب والحداة والعقرب والفأرة والكلب العقور... ) ٢.
وقد اتفق الفقهاء على أن قتل هذه غير ممنوع.
وقد جرى الخلاف فيما وراى ذلك وكان أساس الخلاف هو أن النص معلل واختلفوا في تعليله، ففريق قال : ليست ثمة علة الا الأذى وعلى ذلك يكون محرما صيد ما عدا هؤلاء، الا إذا كان مؤذيا بالفعل فيحرم الوحش الا إذا كان قد ساور المحرم، وقال بعض الفقهاء : ان كل حيوان لا يؤكل ومن شانه مساورة الإنسان لإيذائه كالنمر والأسد وغيرهما يباح صيده واختلفت الروايات والأقوال في المذاهب فقيل : لا يباح أي حيوان الا ما جاء النص بإباحته، وما يساور الإنسان فعلا ليؤذيه، وقيل : يباح ما من شانه المساورة وقيل : إنه يباح صيد كل ما لا يؤكل وهو قول الشافعي، وإنا نميل الى هذا القول لأن التحريم معلل وليس تعبديا خالصا، والحكمة واضحة وهي منع التضييق على أهل الحرمين الشريفين ولأن الصيد في غالب أحواله لا يتجه إلا الى ما يؤكل فيندر من يصطاد ثعلبا أو ضبعا، ولأن القياس على الغراب والحدأة فهي حيوان لا يؤكل وهذا هو الذي نراه معقولا، وهل يباح لحم ما يصطاد للمحرم إذا اصطاده غير محرم ؟ لقد اختلف الفقهاء في ذلك وأساس الاختلاف، الاختلاف في ذات الممنوع أهواء الأكل أم الصيد ؟
قال كثيرون من الصحابة والتابعين منهم ابن عباس : إنه يحرم على كل حال، لأن الصيد ذريعة إلى الأكل وليس تحريم الصيد لذاته ولكن لكيلا يكون أهل مكة في ضيق.
وقال آخرون : يحل ما دام لم يتول الاصطياد وقد قال ذلك على ابن أبي طالب، وعثمان وجمع من الفقهاء.
القول الثالث : انه إذا صيد لأجل المحرم كضيافته ونحوه فإنه يحرم، لا يكون كاصطياده.
القول الرابع : انه إذا لم يعاون المحرم في الصيد ولو بالإشارة فهو حلال.
وهذا الذي نميل اليه، لأنه إذا كان قد عاون في الاصطياد ولو بالرأي فقد اصطاد وإذا لم يكن شيء من ذلك، فهو حلال، وإلا امتنعت الضيافات وكان الناس في حرج وضيق السبيل الى تبادل المودة وهي مطلوبة في الإسلام.
( ومن قتله منكم فجزاء مثل ما قتل من النعم ) المتعمد أن يكون عالما بالتحريم أو ان يكون من شأنه العلم بالتحريم، إذ يكون مقيما في دار الإسلام، وأن يكون قد قصد القتل ولم يقصد سواه والا فلا، كأن يساوره سبع يريد قتله، فيضربه فيصيد أو يرى عن بعد سبعا مفترسا ثم يرى شبحا يظنه هو فيتبين أنه غيره فلا يعد في هذه الحال متعمدا الصيد ويكون فعله خطأ.
وعلى ذلك يكون ما عدا من اشتملت عليه هذه القيود خطأ ويكون الخطأ قسمين : خطأ في الفعل بألا يريد الصيد فيقع الصيد كالصورة السابقة، أو خطأ في القصد بأن يكون القصد ذاته غير سليم إذ يصوب سهمه على شبح فتبين أنه صيد.
وعلى ذلك يكون الجزاء لأجل التعمد ولا جزاء في الخطأ.
ولكن الفقهاء اتفقوا على أن محظورات الصوم خطؤها كعمدها يوجب الفداء فكيف يعتبر الخطأ ؟ ولقد أجاب عن ذلك ابن جرير، بان جزاء الصيد ثبت بالكتاب وجزاء الخطأ ثبت بالسنة، وقد أخرج الشافعي وغيره عن عمرو ابن دينار أنه قال : رأيت الناس جميعا يغرمون في الخطأ، وبعض الفقهاء قال : ان جزاء العمد ثبت بالنص وجزاء الخطأ ثبت بالقياس أي انه ثبت قياس الخطأ على العمد.
وعندي أن النص الظاهر في أن الجزاء مقيد بأن يكون القتل عمدا، وكل جزاء في حال الخطأ البحث فيه يكون إهمالا لقيد العمدية، ولذلك تقيد العمدية، بما يشمل الخطأ في القصد وغيره، فالعمدية القصد إلى الصيد ولو كان ناسيا لأنه محرم، أو جاهلا أنه محرم، وبذلك يكون سريان النص مع ما ورد من آثار فان الأثر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم كان فيه الصائد ناسيا إحرامه فقد روى أنهم وهم في الحج عن عير ( حمار وحشي ) فحمل عليه ابو اليسر فطعنه برمحه فقتله فقيل له قتلته وأنت محرم، فأتى الرسول صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فنزلت الآية٣ وعلى ذلك اعتبر أبو اليسر قاتلا عمدا وقد كان ناسيا أنه محرم وذلك لمجرد أنه قصد القتل من غير نظر إلى أي ناحية نفسية أخرى، وبذلك يكون التوفيق بين الكتاب والسنة، وانهما لمتوافقان، فالناسي عامدا، وقاصد غير الصيد يكون مخطئا.
وقد ذ كر سبحانه وتعالى أن الجزاء يكون بالمماثلة بين الصيد وحيوان يقاربه في الحجم من النعم، وهي الإبل والبقر والغنم، وهكذا فسر بعض الفقهاء المماثلة وقصرها على ذلك أكثر الفقهاء، وهو ظاهر النصوص لأن الله تعالى قرر انه يحكم بالمماثلة ذوا عدل من المؤمنين ولأنه قرر احتمال العجز عن المثل، فجعل بدله كفارة إطعام مساكين، فإن لم يجد يكون عدل ذلك صياما، ولأنه قرر انه إذا وجده يرسله هديا إلى الكعبة.
وقال ابو حنيفة : إن المثل يكون بالقيمة، ولا شك أن ذلك القول قد يشكل ظاهرا مع ما ورد من نصوص إلا أن يقوم الصيد، ويشترى بالقيمة هديا، فقد جزى بمثل ما قتل من النعم، والخلاصة أن القيمة تكون تعويضا يخير فيه بين أن يشتري هديا أو طعاما فإن لم يستطع فالصوم.
وقد بين سبحانه طريق معرفة الجزاء ومآله وأنواعه فقال سبحانه :
( يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ) الهدى اسم لما يذبح في الحج مهدى إلى فقراء مكة، والنص صريح في أن الهدى يبلغ الى الكعبة، وكونه يكون هديا يصل إلى الكعبة يشير إلى حكمة منع الصيد في البيت الحرام وهو أن الحجيج الكثيرين إذا أبيح لهم الصيد قطعوه عن أهل مكة وجعلوهم في ضيق وحرج.
وذوو العدل من المسلمين هم أهل الشهادة ذوو الخبرة الدقيقة في تقدير الحيوان بحيث يكونون ممن يصفقون في أسواق النعم، أو من أهل المعرفة بها الذين يعلمون الأسعار بملاحظة مكانها وزمانها.
وهذان الحكمان يعنيان المماثلة سواء أكانت المماثلة بتوسط القيمة، أو كانت بالمماثلة في الهيئة والحجم ونحو ذلك، وذلك لأن الحنفية يقرون أنه في القيميات، أي التي لا تتعلق وحدتها تكون المماثلة بتعرف القيمة، ولا سبيل غير ذلك فلا يمكن أن يكون الحيوان مماثلا للحيوان إلا بتعرف قيمتهما.
وإذا قدرت القيمة اشترى بها هديا وبلغ الكعبة وذبح هنالك تعويضا، واذا تعذ ر شراء الهدى أو تعذر الوصول إلى الكعبة تصدق به على المساكين، بحيث يكون لكل مسكين نصف صاع من بر، أو صاع من الذرة أو الشعير أو قيمة ذلك، فإن تعذر على المعتدى شيء من هذا لفقره كان عليه أن يصوم يوما لكل إطعام المساكين، ولا شك أن التخيير هنا ليس على حقيقته إنما هو ترتيب، مراتب على حسب القدرة على كل رتبة، فالأصل بلا ريب، شراء هدى وذبحه عند الكعبة فإذا تعذر ذلك كان الطعام، فان تعذر كان الصيام وقوله تعالى :( او عدل ذلك ) أي ما يساويه من الصيام على أساس أن يكون لطعام المساكين وجبتين صوم يوم، وقدرت الوجبتان بنصف صاع من بر أو قيمته أو صاع من غيره أو قيمته.
هذا هو الظاهر عند الحنفية، وروى عنهم أنهم قالوا بالتخيير إذا عرفت القيمة بين الذبح عند الكعبة وبين إطعام المساكين وبين الصوم، وعندي أن الترتيب حسب القدرة أوضح وذلك هو رأى أحمد وزفر.
والمذاهب الأخرى تتلاقى في الجملة مع المذهب الحنفي بيد أنها تعتبر المماثلة في الأوصاف وعندى أن المذهب الحنفي أوضح وأسهل تطبيقا، وأدق في تعرف المثل وقد اضطروا اليه عند استبدال الطعام بالذبح، إذ لا يعرف مقدار الطعام إلا بمعرفة القيمة.
( ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه ) الوبال. العاقبة السيئة، ومعنى ليذوق أي ليدرك عاقبة الأمر الذي وقع فيه إدراك من يحسه ويذوقه وذلك لانه عمل علىحرما ن ناس من ان يذوقوا طعاما شهيا كانوا ينالونه، فعليه لأنه عمل على حرمان ناس من أن يذوقوا طعاما شهيا، كانوا ينالونه فعليه أن يغرم نفسه مثله من طعام يذوقه في نظير ما حرمهم منه، فالعقاب من جنس الاعتداء :(... فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم... ١٩٤ ) ( البقرة : ١٩٤ ) وأن ما كان منهم من قبل فإنه موضع عفو، لا يحاسب الله تعالى عليه في الدنيا ولا في الآخرة فمعنى قوله تعالى :( عفا الله عما سلف ) أي انه سبحانه لا يطالب بتعويضه منهم، لأنه سلف ومضى منهم قبل التحريم، ولا يطبق القانون الا على ما يجيء بعده، ولذلك قرر مؤكدا أن العقاب يكون لما يقع بعده وللعائدين، وقال سبحانه ( ومن عاد فينتقم الله منه ).
أي من عاد بعد تحريم الله للصيد فان الله تعالى ينتقم، ونرى أن ( الفاء ) وقعت في جواب الشرط في غير ما سوغ فيه دخول الفاء، وأولوا لذلك وقدروا محذوفا يجعل الجملة الاسمية وبعضهم جعل ( من ) اسما موصولا والفاء تدخل في خبر الموصول والحق ان القرآن فوق قواعد النحويين وقد ورد دخول الفاء في شرط من، فقد قال تعالى :( ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما١١٢ ) ( طه ).
وقواعد النحويين غالبة تلزم الناس، ولا تلزم القرآن. والعود هو تكرار قتل الصيد وذلك يدل على الاستهانة بامر الله ونهيه، فيستحق صاحبه النقمة ونقمة الله تعالى اشد النقم ولذا قال تعالى :( والله عزيز ذو انتقام ) أي والله تعالى غالب فوق العباد لا يترك الأشرار يرتعون فهو ذو انتقام كما انه الرحيم، بل إن انتقامه من رحمته، لأن الرأفة بالأشرار ليست من الرحمة ولذلك قال بعض العلماء إن القاصد إلى الصيد معاندا لا تقبل منه الكفارة ويكون عذابه يوم القيامة لاستهانته بأمر الله ونهيه.
( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) في هذا النص الكريم نجد الله تعالى بين فيه ما حرم، وما حلل للمحرم، فأحل صيد البحر، وطعام صيد البحر الذي يجوز أكله، وحرم عليهم صيد البر ما داموا محرمين مستمرين على الإحرام فالحلال في كل الأوقات والأماكن، والحرام في حال معينة محدودة فهو ذكر لنعمة الله تعالى وفيه إشارة على حكمته، فيما حرم، وأباح سبحانه أن يصطاد الصائد من البحر، وأن يطعم منه، فأبيح الفعل والأكل لكم، والمتاع الانتفاع، ومعنى السيارة : المسافرون السائرون الذين لا يستقرون في مكان معلوم، فلكم أن تأكلوا
٢ رواه مالك المناسك ما يقتل المحرم في إحرامه (٧٩٨ عن ابن عمر ويروي عن عائشة كما صرحت بذلك رواية البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها..
٣ ذكره الآلوسي في التفسير ج٧ ص٢٣..
كانت الآيات السابقة تقرر منع الصيد وتؤكد المنع وذكرنا أن ذلك ليس تعبديا فقط بل فيه حكمة ومعنى ذلك أن الذين حول الكعبة يسكنون واديا غير ذي زرع عند بيت الله المحرم، وكانت دعوة إبراهيم عليه السلام أن يجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وقد استجاب الله تعالى دعاءه، ولكي يتحقق لهم الرخاء منع الصيد عن أولئك الذين جاءوا اليهم حاجين أو معتمرين، حتى لا تستنفذ كثرتهم ما حول مكة من صيد يمدهم باللحم طول العام، وفي هذا النص الكريم الذي نتكلم الآن في معناه إشارة بينة إلى هذا المعنى، فقد قال تعالت كلماته :
( جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ) نتقدم قبل الكلام في معنى النص إلى بعض نواح لفظية تمهد للكلام في المعنى :
أولهما أن ( جعل ) إما أن نفسرها بمعنى خلق أو شرع الأحكام أو بمعنى صير، وعلى الأولين تكون متعدية إلى مفعول واحد، ويكون المعنى على هذا خلق الله تعالى الكعبة، وهي البيت الحرام وشرع لها تلك الأحكام التي تصونها، وتصون شجرها وحيوانها لتكون قواما للناس في معاشهم ومعادهم، ويكون فيها نهوض لمقاصدهم وغاياتهم، وتروية لمتاجرهم، وليرزقوا بين الناس، وعلى أن ( جعل ) بمعنى صير يكون قوله تعالى ( البيت الحرام ) مفعولا ثانيا، ويكون المعنى الله تعالى الكعبة بيتا محرما، لتكون قياما للناس.
الثاني : من النواحي اللفظية هو في كلمة ( الناس ) أيراد بهم العرب الذين يعيشون حول الكعبة، ويتحقق بذلك الاستجابة لدعوة إبراهيم أو يراد بهم الناس عامة الذين من شانهم أن يحجوا إلى ذلك البيت ؟ ويكون المعنى على الثاني، جعل الله الكعبة لها تلك المكانة لتكون قياما لكل الناس الذين يفدون إليها وهم المسلمون عامة إذ يتعارفون فيها، ويتبادلون المودة الإسلامية الرابطة ويوثقون، الصلات الانسانية والدينية والخلقية، يتراحمون فيما بينهم، ويحسون بالتجرد الروحي، والضيافة الربانية، وفي ذلك كله قياما لهم، وليس القيام هو القوام المادي فقط، بل المادي والروحي والخلقي.
الثالث في قوله تعالى :( والشهر الحرام والهدي والقلائد ) الشهر الحرام قيل ذو الحجة، ونرجح أن المراد أربعة الأشهر الحرام، والهدى ما يساق وأخصها ذات القلائد وهو ما يوضع عليها من شعارات من قلادة من بعض الأشجار تدل على أنها للبيت الحرام كما قال تعالى :( والبدن جعلناها لكم من شعائر الله... ٣٦ ) ( الحج ).
ويكون معنى القلائد على هذا ذوات القلائد ويذكر بعض العلماء أن معنى القلائد هي ذات القلائد التي قرر الشارع أن توضع إشعارا لها، بأنها للحج، وفي ذلك تكريم للبيت وإعلاء وإشعار لمكانته القدسية وذلك عائد على الناس عامة وعلى أهل مكة خاصة، وسيقت هذه الكلمات :( والشهر الحرام والهدي والقلائد ) لبيان أنها قيام للناس.
وعلى ذلك تكون نعم الله تعالى بالبيت الحرام أربع :
أولها البيت ذاته، وما منح من قدسية، وكان الناس يحسون بالأمن، حيث يتخطف الناس في كل مكان كما قال تعالى :( أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون٦٧ ) ( العنكبوت ) وفي ذلك الوقت الذي لم يكن بالبلاد العربية حكومة تفرض سلطانها في أي مكان، قد ألقى الله تعالى في قلوب العرب بمهابة البيت حتى كان الرجل يلقى قاتل أخيه أو قاتل أبيه فلا يمسه بسوء، وحرم على المحرم الصيد حتى يتوافر الخير طول العام لأهلها.
الثانية : الشهر الحرام، والمعنى فيه هو الجنس على رأى كثيرين، وهو ما نختاره إذ كان الناس يقاتلون فإذا جاء ذلك الشهر امتنعوا عن القتال، فتعود القضب على أجفانها وتهدأ النفوس بعد ثورتها، وتقر بعد اضطرابها، والأشهر الحرم هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان، فيتمكن الناس من زيارة الحرام آمنين مطمئنين حتى يتحللوا.
الثالثة : نعمة الهدى يساق إلى الكعبة من حيث الحجيج يحرمون وقد يكون ذلك من أماكن بعيدة فخير الأرض يصل إليهم موفورا، وخيرهم لا تمتد إليه يد مجرم.
الرابعة : نعمة القلائد : وقد جاء في تفسير فخر الدين الرازي في بيان وجه النعمة فيها :( والوجه في كونها نعمة أن من قصد البيت في الشهر الحرام لم يتعرض له أحد، ومن قصده في غير الشهر الحرام ومعه هدى وقد قلده وقلد نفسه من لحاء شجرة الحرم لم يتعرض له أحد، حتى أن الواحد من العرب يلقى الهدى مقلدا أو يموت جوعا فلا يتعرض له البتة.
( ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم ) الإشارة للقيام جعل الله تعالى ما شرعه للكعبة والحج من محرمات وشعائر ومن تحريم الصيد ومن الهدى جعل كل هذا لتعلموا أن الله تعالى يعلم ما في السماوات وما في الأرض... وهنا توجد عدة أمور تثير النظر.
أولها لماذا كانت تلك الشرائع المتعلقة سبيلا لمعرفة علم الله لما في السماوات وما في الأرض ؟
وثانيهما عند عطف الأرض على السماوات كرر ما في المعطوف والمعطوف عليه.
وثالثهما لماذا قرن علم الله تعالى بما في السماوات والأرض بعلمه تعالى بكل شيء، ولماذا تكون أحكام الحج والكعبة سبيلا لمعرفة علم الله تعالى العام المحيط بكل شيء.
والجواب عن هذه الأمور هو أن ما شرعه الله تعالى لمكة وما حولها وما فيها من دليل على أن الله تعالى يعلم ما في السماوات وما في الأرض لأن مكة في أرض جدبة لا ماء فيها ولا شجر وأنها جبال لا ثمرة فيها، وأنه لا خير يرجى من طبعها كما قال إبراهيم عليه السلام، ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم... ٣٧ ) ( إبراهيم ) فالسماء لا تجود عليها بغيثها منتظما والأرض لا تجود عليها بإخراج إنزالها من معادن وفلزات سائلة وغير سائلة فجعل الله سبحانه وتعالى الحج إليها، وحرم على المحرمين ما حرم من صيد ليبقى لهم ما عندهم من وفرفي الحيوان المتأبد، ولتحمل من الأراضي الخصبة والغنية والتي فيها الثروات إلى تلك الأرض الجدبة فينقل سبحانه من الفيض إلى الغيض ليعم الخير، وكانت بمكة كعبة للمسلمين، لأنها أرض لا ترام من غاصب ولا تراد من ظالم ثم هي في وسط حتى قال علماء الأرضين : إن بيت الله تعالى الحرام في وسط أرض الله الواسعة فهي نقطة الارتكاز في قطرها.
وقد يقال إن أرض العرب فيها البترول وفيها الزرع، ونقول إن ذلك بعيد عنها بمئات الأميال بل ربما تجاوزت الحسبة الألف، فبينها وبين البترول البيداء الجرداء فكان المتفهم لذلك التشريع لا بد أن يؤمن بعلم الله بما في الأرض والسماء.
والجواب عن السؤال الثاني : هو أن تكرار ( ما في ) في قوله تعالى :( ما في السموات والأرض ) فيه إشارة إلى دقة العلم، وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وتقديم السموات على الأرض لأن السموات فيها مصدر الرزق كما قال تعالى :( وفي السماء رزقكم وما توعدون٢٢ ) ( الذاريات ).
والجواب عن السؤال الثالث، في كل جزء من شرع الله تعالى فيما شرعه يدل على أنه صادر عن العليم الخبير، فشريعة الله تعالى في الميراث تدل على أنه من عند الله تعالى العليم، وشريعته في تكريم البيت الحرام وما حرم فيه من صيد البر، وما أبيح من صيد البحر وطعامه وتحريمه القتال في الشهر الحرام، وإيجابه سوق الهدى وغير ذلك من شعائر الحج، ومباحاته ومحظوراته دليل على علم الله تعالى العزيز الحكيم الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
والغفران ستر الذنوب، والرحمة الثواب، وأن ذلك عدل الله تعالى فلا يستو من يحسن ومن يسيء
والخبيث هو الأمر المستقذر إما لأنه في ذاته قذر تعافه النفوس والطبائع السليمة وإما لأن سبب الحصول عليه خبيث فجاءه من سببه إذ انسحب السبب على المسبب فلوثه وإما لأنه مخل بالمروءة فالمستقذر هو الخبيث، وهو حسي، وأدبي، والطيب ما يكون حسنا في ذاته وفي طريق كسبه، وترضاه النفوس المستقيمة والعقول المدركة وتأتي الشرائع بإباحته. واذا
كانت تلك هي القاعدة الإنسانية العالية والعادلة فإنه لا بد من عقاب ا لمسيء وثواب المحسن ولكن الباطل له لجاجة وفيه كثرة، لأنه مجاوبة للذائذ الشهوات وما يستلذ يكثر، وما يطاوع الهوى يزيد وما يكون فيه صبر وضبط نفس يقل، وان كان طيبا ومهما يكثر الشر لن يتساوى مع الخير، ولذا قال سبحانه :( ولو اعجبك كثرة الخبيث ) أي ولو أثار نفسك وعجبك واسترعى نظرك كون الخبيث كثيرا إن الشر مهما يكثر لا يمكن أن يستحسن شرعا أو ترضى به الأخلاق ولا يمكن أن ينقلب بالكثرة مساويا للخير بل إنه كلما كثر، وجبت مقاومته بشدة وبمقدار كثرته تكون شدة المقاومة، وذلك فرق ما بين شريعة الله تعالى وقوانين العباد، فإن قوانين العباد تستمد قوتها من الكثرة وعرف الناس، ولو كان فاسدا، أما شريعة الله، فهي للخير المحض وإذا كثر الشر لا تتبعه، بل تقومه، ولا ترضى به، لأنها جاءت لنشر الخير ولا يمكن أن ترضى، وإلا ما كانت رسالات الرسل، ولا جهاد الأنبياء والصديقين والشهداء الصالحين ولذلك أمر سبحانه بمقاومة الشر مهما كثر فقال تعالت كلماته.
( فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون ) قال الله تعالى في الآية السابقة :( لا يستوي الخبيث والطيب ) وأن هذه الجملة السامية تصلح الكبرى لقياس طويت صغراه، وهي مفهومة من قوله تعالى :( اعلموا ان الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم ) إذ الكلام يكون هكذا ولكلام الله تعالى المثل الأعلى الذي لا يصل إلى مثله البشر... لا مساواة بين الخير والشر، والله يعاقب على الشر، ويثيب على الخير، والنتيجة لهاتين المقدمتين أن الأشرار سيعاقبون والأخبار سيثابون لا محالة ولازم هذه النتيجة أن يحذر الناس فيرجوا ثواب الله ويخافوا عقابه وذلك الحذر يكون بتقوى الله تعالى بامتلاء القلب بخشيته، والعمل على اتقاء عذابه ولذا قال :( فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون ) أي إذا كان كل امرئ مجزيا بعلمه إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فاملأوا قلوبكم بتقوى الله وخشيته وملاحظة أنه يعلم ما تبدون وما تكتمون فاعبدوه كأنكم ترونه فان لم تكونوا ترونه، فاعلموا أنه يراكم، وهو يعلم سركم وجهركم فإن خشية الله تعالى في أعمالكم على هذا النحو يرجى منها الفلاح والفوز لأنها سبب لذلك فالرجاء في :( لعلكم ) من العبيد لا من الله، لأنه سبحانه يرجى ولا يرجو إنه بكل شيء عليم.
في الآيات السابقة بين الله تبارك وتعالى أنه لا يصح أن نحرم ما أحل وإذا حرمنا بأيمان أقسمنا بها بين سبحانه وتعالى تحلة أيماننا ثم أشار من بعد إلى ما حرمه وهو ما يكون مستقذرا في ذاته أو يكون تحريمه مؤقتا بزمان ومكان وليس تحريمه على التأبيد ولكن العرب كانوا يحرمون على أنفسهم حلالا من الطيبات بأوهام يتوهمونها من غير تنزيل جاء بتحريمها وليس في ذاتها ما يستقذر وجنسها يحللونه ولا يحرمونه ثم كان من المؤمنين من يسأل عن هذه الأمور فبين سبحانه أنه لا أمر ولا نهى إلا ما جاء به القرآن وأنه لا يجوز أن يتقدموا بأسئلتهم حتى يبينه القرآن فكل حكم يكون في وقته المعلوم لتستأنس فيه القلوب بأحكام الشرع جزءا جزءا حتى يتمه الله تعالى قبل أن يقبض رسوله إليه ولذلك قال سبحانه :
( يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) كان المسلمون الأولون كثير السؤال للنبي صلى الله عليه وسلم عن أحكام يسألونه عن أمور يشددون بها على أنفسهم، ويسألونه عن أمور تتجافى عن مبادئ الإسلام ولكن لم يئن وقت تحريمها لأن الإسلام شريعة عامة خالدة وقد ابتدأ مخاطبا العرب بهذه الأحكام ومنها من لم يكن عندهم أنس بتحريمها فاحتجوا على التدرج، حتى يشربوا روح الإسلام، فينزل عليهم التحريم، وقد استأنست قلوبهم ببعض معالي الإسلام ولقد كان منهم مخلصون يطلبون الحق في الأمور ولا يلتفتون إلى مبادئ التدرج في الشرع ومنهم غير مخلصين يريدون الإعنات ومنهم بين أولئك وهؤلاء من يظهرون بألسنتهم التفقه والذين طلبوا التشديد. وقد سكت النبي صلى الله عليه وسلم ليطلب الناس ما يتيسر لهم، وما يمكن أن يكون أقواهم قادرا على أشده ويروى أنه عندما فرض الحج في القرآن الكريم إذ قال تعالى :(... ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا... ٩٧ ) ( آل عمران ) وقال عليه الصلاة والسلام :( عن الله كتب الحج فحجوا ) فسأله عندئذ أعرابي قائلا ( أكل عام يا رسول الله ) فقال عليه السلام، ( ويحك، ماذا يؤمنك أن أقول نعم، ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لكفرتم إلا إنما أهلك الذين من قبلكم اثمة الحرج والله لو أنى أحللت لكم جميع ما في الأرض وحرمت عليكم منها موضع خف لوقعتم١.
كانت هذه الأسئلة تقع من المسلمين الأولين، والذي نراه خاصا بالآية التي نتكلم في معناها الأسمى ما كان يجري على الألسنة من أسئلة خاصة بأمر الشرع الذي لم ينزل فيه إباحة ولا تحريم كالخمر التي حرمت تحريما قاطعا بعد أن أشرب المؤمنون حب الإسلام، ونبذوا عادات الجاهلية التي لا تتفق مع مبادئه، ونحسب أن هذه هي موضوع الآية الكريمة.
( يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) والمعنى على هذا السياق لا تسألوا عن أحكام أمور لم يجيء حكمها المبتوت في الإسلام، وشرع الله تعالى فيما كتب في علم الله العلي الحكيم أنها محرمة ولو ابدي سبحانه هذا التحريم لهم لساءهم ذلك البيان لعدم الفهم، ولأنهم لا يزالون متأثرين ببعض أحكام الجاهلية، كالخمر فإن الشرع الإسلامي كرهها، ولو سئل عنها فإنه لا يمكن أن يصرح بإباحتها ولا يمكن إلا أن يكون بتحريمها، والتحريم القاطع قبل خلع الربقة الجاهليةتماما يسوء بعض النفوس، وهذا معنى قوله تعالى :
( إن تبد لكم تسوءكم ) ولو أنهم تركوا السؤال حتى نزل القرآن بالحكم في ميقاته الذي وقته الله تعالى ما كان في الحكم مفاجأة تسوء لأنه يكون بعد إشراب القلوب بأخلاق الإسلام ولذا قال سبحانه :
( وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا ) والمعنى الظاهر من هذا أن القرآن عندما ينزل بها تحريما ومنعا أو اجازة واباحة تكون النفس المؤمنة قد استعدت لتلقيها كما تهيأ الأرض الخصبة للزراعة فيجيء البذر والماء في ابانهما فتنبت نباتا حسنا باذن ربها، وإن نزلت في القرآن كان السؤال في وقته وفي موضعها استفساراتها، ويكون بيان النبي صلى الله عليه وسلم تفسيرا، وعبر في حرف الشرط ب ( إن ) للإشارة بقلة السؤال لأن البيان يكون كاملا من كلامه تعالى ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى :( عفا الله عنها ) الضمير في عنها قال اكثر المفسرين : إنه عائد على الأسئلة التي تضمنها قوله تعالى :( لا تسألوا ) ولكن ذلك التضمين ليس بواضح والأولى عندي أن نقول : إن الضمير يعود على الأشياء نفسها لأن الضمير في ( عنها ) يعود إلى الأشياء وبمقتضى النسق البياني لن يعود الضمير إلى شيء، ولذلك العفو عن الأشياء مغزاه الشرعي، لأن الناس قد يتساءلون عن هذه المحرمات قبل تحريمها فيتساءلون عن الخمر قبل تحريمها، ويتساءلون عن تحريم زواج المؤمنة من الكافر قبل التحريم، وعن التبني قبل التحريم، وعن زواج امرأة الأب قبل التحريم، وقد أجيب عن كل هذا، عفا الله عما سلف، فالمعنى عفا الله عن هذه الأشياء قبل التحريم، وبهذا يتحقق معنى العفو وهو رتبة المباح والمطلوب، وان الأشياء التي كان مسكوتا عنها أمدا طال أو قصر في الإسلام ثم حرمت بعد ذلك لا يمكن أن تكون مباحة لأنه لا تنطبق عليها حقيقة المباح اذ إن حقيقة المباح أنه يكون متساوي الضرر والنفع بالنسبة للمتناول ويرجح أحدهما التناول أو الحاجات الشخصية ولا يقال عن شيء حرمه الشارع تحريما قاطعا لا شبهة فيه إنه متساوي النفع والضرر وما دام لم يوجد ما يثبت طلب الكف عنه، فإنه يكون في فترة السكوت مع كونه ضارا قد عفا الله تعالى عنه.
( والله غفور حليم ) هذا ختام ذلك النص، ختم بهذين الوصفين للذات الكريمة لإشارة على أن جعل هذه الأشياء القبيحة في ذاتها كالخمر والتبني وزواج امرأة الأب في موضع العفو، ما دام لم ينزل شرع بتحريمها لا يكون إلا من غفور يغفر الذنوب ولا يحاسب إلا أن يكون نذير يمنع وينذر بالعقاب كما قال سبحانه :(... وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا١٥ ) ( الإسراء ).
وكان وصفه سبحانه وتعالى بالحلم، وهو فيما يتعلق بالعباد التأني وأخذ الأمور بالتؤدة والرؤية، وبالنسبة لله تعالى علم الحكيم الذي يقدر لكل وقت ما يقتضيه وللناس ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم فهو يؤخر التحريم حتى تسأنس القلوب ويستمكن الإيمان، وهو لا يأخذ بالهوادة ما يتعلق بأصل الإيمان كالتوحيد وترك الشرك بل يبتدئ به من غير مواناة، ويقول لنبيه :( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ٩٤ ) ( الحجر ) لأنه لب الدين ليس فيه هوادة ولا لأحد فيه ارادة.
والضمير في قوله تعالى ( سألها ) يعود على الأشياء على تقدير السؤال عن حكمها، وسأل تتعدى بنفسها كما تتعدى، ب ( عن ) وقد كان سؤالهم قبل الميقات الذي عينه الله تعالى، ثم لما حان الميعاد جاء التحريم مع أنهم كانوا يسالون قبل الميقات جحدوه وكفروا به، وفي الكلام مقدر محذوف دل عليه السياق وهو أنهم سألوا في غير الموعد، ثم نزل الحكم في الموعد فأصبحوا كافرين وفي الكلام بعض إشارات بيانية يتقاضانا البحث ذكرها.
الأولى حذف إنزال التحريم، وحذفه لأنه ليس العبرة فيه إنما العبر في أنهم سألوا ولجوا في السؤال ثم لما جاء التحريم كفروا.
الثانية التعبير ب ( ثم ) الدالة على التراخي لأنه يدل على التباعد المعنوي بين اللجاجة في السؤال ثم الجحود والكفر بعد ذلك كأنهم كانوا يريدون حكما على هواهم، فلما جاء بما لا يهوون كفروا.
الثالثة : التعبير بقوله تعالى :( ثم أصبحوا بها كافرين ) فكلمة أصبحوا تدل على أنهم كانوا مؤمنين والتحريم حولهم من الإيمان إلى أشد الجحود، إذ صاروا كافرين أي أن الكفر صار وصفا لهم، ولم يكن حالا عارضة لهم والله الهادي إلى سواء السبيل.
كان العرب يحرمون على أنفسهم أنواعا من النعم، ويحسون ذلك دينا يتبع ويتقرب على منشئ الخلق من غير دليل، ولكنه وهم سيطر عليهم، واستمكن في قبائل مختلفة منهم، فبين الله تعالت كلماته أن هذا ليس من شرع الله في شيء ولا سبب له إلا وهم مسيطر، ونسبوه إلى الله تعالى افتراء عليه، ولأنهم لا يعقلون ما ينبغي في التحريم والتحليل لان التحليل لذات الشيء وقد خلقها الله تعالى طيبة، وكان كسبها طيبا، والتحريم إما لأذى في ذات الشيء أو أن فيه أذى لغيره كتحريم الصيد في ميقات الحج.
وقوله تعالى :( ما جعل الله من بحيرة ) معنى ( جعل ) هنا أنشأ وشرع والمعنى ما أنشأ الله تعالى شرعا في التحريم في شيء من البحيرة والوصيلة والسائبة والحام، أي هذه الأشياء ما شرع الله تعالى إحكاما خاصة بنعم متصفة بهذه الأوصاف بل هي وسائر النعم سواء والتفرقة بينها وبين غيرها من وهم كان عندهم لا من حقيقة ثابتة تدركها العقول، ويظهر أن العرب كانوا متفقين في الجملة على تحريم هذه الأنواع فلا يأكلونها أو لا يأكلوها العامة منهم، إذ تنذر للكهنة وذلك على اختلاف القبائل في أماكن بلاد العرب، ومع اتفاقهم على أصل التحريم بالنسبة لهذه الأشياء قد اختلفت الروايات في حقيقتها واختلف اللغويون باختلاف الروايات في حقيقة معناها.
ويظهر أنه ليس اختلاف رواية أو اختلاف روايات متعارضة إنما هو اختلاف قبائل العرب، وليس لنا أن نحصى الروايات عدا ونراجح بينها، فنحن نميل إلى تصديقها جميعا، على أنها اختلاف بين القبائل، والمهم في القضية أنهم يحرمون بأوهامهم ويفرقون بين النعم بأخيلة وأوهام من غير أي أصل ديني ثابت.
ولنكتف في تقريب هذه الأصناف برواية واحدة بلغوي واحد، وهو الراغب الأصفهاني، فالبحيرة عنده هي الناقة التي تلد عشرة أبطن فتبحر أذنها أي تشق وتترك ويسيبونها فلا تركب ولا يحمل عليها، وقد قال تعالى في ذلك :
( ما جعل الله من بحيرة ) وذلك ما كانوا يجعلونه بالناقة إذا ولدت عشرة أبطن شقوا أذنها، فيسيبونها فلا تركب ولا يحمل عليها، والسائبة عندهم هي أبطن وواضح أن الفرق بينها وبين البحيرة في المزايا أن ركوبها والحمل عليها لا يمنع بينما يمنع في البحيرة.
والوصيلة هي : الشاة التي تلد توأمين ذكرااوأنثى قالوا وصلت أخاها، فلا يذبحونه من أجلها كما لا يذبحونه والحام هو كما قيل الفحل إذا ضرب عشرة أبطن يقال حمى ظهره فلا يركب.
هذه تعريفات موجزة من بين الروايات المختلفة ذكرنا هذه الرواية لنقرب معناها وكان تقديسها أو تكريمها لمعنى الولاد فيها، وأن بعضهم كان ينذرها نذرا لآلهتهم وبعضهم كان يبيحها للكبراء دون الضعفاء ويحسبون ذلك دينا وما هو إلا افتراء على الدين ولذا قال سبحانه :
( وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُون ) أصل الفرى معناه : القطع، والافتراء، في القرآن الكذب القاطع فمعنى افتروا على الله الكذب قالوا كذبا مقطوعا بأنه كذب وما ذكر الافتراء إلا مقترنا بالكذب للإشارة إلى أنه كذب مقطوع بأنه كذب ومعنى النص الكريم أن الله تعالى لم ينشئ في شرعه شيئا من البحيرة والوصيلة ولكن الذين كفروا بسبب كفرهم وضلالهم قد قالوا بهتانا فحرموا على أنفسهم ما أحل الله، ونسبوا التحريم بهتانا على الله تعالى، وما دفعهم إلى ذلك إلا أوهام مسيطرة على أكثرهم فلا يعملون عقولهم ولا يكفرون في أمورهم تفكير العقلاء بل أوهامهم هي المتحكمة فيهم ولذا ختم سبحانه وتعالى النص بقوله تعالت كلماته ( وأكثرهم لا يعقلون ).
ولم يذكر الفاعل في قوله تعالى :( وإذا قيل لهم تعالوا ) وذلك لكثرة الدعاة وتكرار الدعوة، فالله يدعوهم إلى الحق والنبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم والمؤمنون بأقوالهم ولسان حالهم يدعونهم والدعوة لهم مكررة ليست واحدة حتى يذكر قائلها ويندد الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله :
( أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ) والمعنى أيقولون حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ويقلدونهم ويتبعونهم ويغلقون باب الهداية عليهم ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا من الدين ولا من الحلال والحرام ولا يهتدون إذا بين لهم الطريق أي ولو كانوا حائرين بائرين لا يدركون الحق في ذاته ولا يهتدون إليه إذا أرشدوا وبين لهم.
وكان كذلك المؤمنون فبين الله أنهم غير مسئولين عن إيمانهم بعد أن يرشدوهم فقال تعالت كلماته :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ).
كانوا المؤمنون يعجبون من حال الكفار كيف يتبعون آباءهم على غير بينة وكيف يستمرون في غيهم ومنهم ذوو القربى فكانوا يرشدونهم ويجزعون لاصرارهم فبين الله تعالى في هذا النص الكريم أنهم بعد البيان ليس عليهم إثمهم بل عليهم أن يلزموا بعد التوجيه أنفسهم ومعنى قوله تعالى :( عليكم أنفسكم لا يضروكم من ضل إذا اهتديتم ) احفظوا أنفسكم وصونها عن الاتباع من غير تفكير فلا تقلدوا آباءكم من غير بينة، واهتدوا بهدى الله، ولا يضركم ضلال من ضل واستمر على غيه بعد ان أرشد إلى وجه الحق ولكن لم يدخل قلبه بل استمر على ضلاله القديم فهذا النص الكريم يفيد أمرين : أولهما أن يحفظوا أنفسهم ويقوها شر التقليد المردى ويعلموا على أن تبقى الهداية منيرة سبيلهم عامرة قلوبهم بها. وثانيهما أنه لا يضرهم ضلال الضالين ما داموا قد تجنبوا طريق الغواية هم، وأرشدوهم إلى الحق.
ولعل ظاهر الآية يوهم أنه لا يضر ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مادام لا يضر المؤمن ضلال من ضل، وقد ظهر ذلك الفهم الخطأ في عهد صديق هذه الأمة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فقال : إنكم تقرءون هذه الآية :( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضروكم من ضل إذا اهتديتم ) وتضعونها في غير موضعها واني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن الناس إذا رأوا المنكر فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب١ والآية ليس فيها دليل ناه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والآيات الآمرة بهما، والأحاديث الواردة فيهما لا تزال قائمة ولا ينسخها وهم يسبق إلى ذوي الأوهام من غير نص يدل عليه، ولقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن مقام هذه الآية بالنسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال عليه الصلاة والسلام ( بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شرا مطاعا وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأى برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع العوام، فإن من ورائكم أيام الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم )٢ وروى عن بعض التابعين أنه قال : كنت في حلقة فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقلت أنا : أليس الله تعالى قال في كتابه :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) فاقبلوا على بلسان واحد وإني لأصغرهم سنا، وقالوا : أتنزع آية من القرآن لا تعرفها، ولا تدري ما تأويلها ؟ فتمنيت أني لم أكن تكلمت وأقبلوا يتحدثون فلما حضر قيامهم قالوا : إنك غلام حديث السن، وإنك نزعت آية ولا تدري ما هي وعسى أن تدرك ذلك الزمان إذا رأيت شرا مطاعا وهوى متبعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك لا يضركم من ضل إذا اهتديت.
وخلاصة المروى عن آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوهم بإحسان أن الآية لا تمنع القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل القيام به واجب محكم وانه لا يتم الاهتداء المنصوص عليه في الآية إلا بالقيام بهذا الواجب الخطير وإنه لا يترك إلا بحقه وذلك إذا كان النداء بالحق يورث الفتن عندما يكون الهوى مطاعا والشر متبعا ولا يستطيع منادى الحق، أن يجد مصيخا٣ وقوله يزيد حدة الخلاف ولا يكون سماع لذوي الكيس والرشد ولقد قال عبد الله ابن المبارك : ان هذه الآية أوكد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الخطاب لجماعة المؤمنين ومؤداها احفظوا أنفسكم معشر جماعة المؤمنين، ولا يهمكم ضلال غيركم من الأمم ولا يجعلكم تغيرون أموركم إلى فساد ولا شك أن من حفظ جماعة المؤمنين القيام بذلك الواجب العظيم.
وفي الحق إن القيام بهذا الواجب هو خاصة الأمة الإسلامية كما قال تعالى :( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون١١٠ ) ( آل عمران ) ولا يصح أن يتخلى عنه، وليس في مصادر الشريعة ولا في مواردها ما يسوغ التخلي وأن ترك القول في أيام الفتن الطحياء٤ التي يكون القول مؤديا إلى زيادة في الفتن والاتهام فلا يجدي قول، ولا يهدي فكر إلى الرشاد فيكون السكوت أولى من الكلام، حتى تهدأ عجاجة الفتنة، وتعود القلوب إلى جنوبها ويوجد السميع ولكن في هذا الحال يكون الإنكار القلبي وإرشاد القابلين للإرشاد في غير ضجيج ولا عجيج والله سبحانه وتعالى راد الحق إلى نصابه والقضب إلى أجفانها وهو بكل شيء عليم.
٢ رواه الترمذي تفسير القرآن ومن سورة المائدة (٣٠٨٥) وقال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب كما رواه أبو دود الملاحم الأمر والنهي (٤٣٤١) وابن ماجه الفتن: (٤٠ ١٤) وفيه زيادة ورأيت أمرا لا يدان لك به) أي لا قدرة به..
٣ ؟؟؟؟؟.
٤ من الطيح وهو الهلاك كما في (العين) وطوحت به: حملت على ركوب مفازة يخاف هلاكه فيها: قال أبو النجم يطوح الهادي به تطويحا..
في الآيات السابقة ذكر سبحانه وتعالى احكام الطيبات وأنه لا يجوز تحريمها وأن المشركين يحرمون على أنفسهم ما أحل الله تعالى، ويدعون أن تحريم ذلك دين متبع وقد بين سبحانه وتعالى بطلان ذلك، وبين سبحانه وتعالى أن على المؤمنين أن يحفظوا أنفسهم ويلتزموا الهدى، وألا ينحرفوا عن الحق، وفي هذه الآيات المقبلة بيان طريق من طرق الإثبات وهو الإثبات بالشهادة والجملة السابقة كانت لبيان الحق في عامة صوره وأحواله وهذه الآيات في صورة منه وهي أدق الصور، وهي التي تكون بعد الوفاة لقد قال تعالى :
( يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ ) قال فخر الدين الرازي في الربط بين هذه الآية وما قبلها :( اعلم أنه تعالى لما أمر بحفظ النفس في قوله تعالى :( عليكم أنفسكم ) أمر بحفظ المال في قوله تعالى :( يا ايها الذين آمنوا شهادة بينكم ) وموضوع هذه الآية أدق الموضوعات في باب الإثبات وقد قرر علماء القانون الوضعي دقة الإثبات في موضوعها وهو الوصية التي تكون في سفر ويموت صاحبها في هذا السفر، وانهم قد تساهلوا في طرق الإثبات فيها تحققا من صحة الوصية والأموال ومآلها حتى لقد قال بعض القانونيين إنه تثبت الوصية بالكتابة على الرمل لمن حضرته الوفاة وهو نائم على ذلك الرمل، وذلك لأن الإثبات في هذه الحال التي مات فيها صاحب الوصية من غير أن يتمكن من أن يكتب وصيته صعب.
ولهذا شدد الإسلام في ضرورة كتابة الوصية، والشخص قوى معافى، حتى لا يدركه الموت قبل أن يتمكن حتى أن عبد الله ابن عمر ليقول :( لا يحل لمؤمن إلا أن يبيت ووصيته مكتوبة قد وضعها تحت وسادته ).
الخطاب في قوله تعالى للمؤمنين بقوله تعالت كلماته :( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ) للإشارة على أنه من مقتضيات الإيمان العناية بالوصية ونقلها وتنفيذها بالعدل : كما قال تعالى :( فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه... ١٨٢ ) ( البقرة ).
والشهادة على الوصية نصابها اثنان ذوا عدل منكم والعدالة هي الصدق في القول والأمانة على المال والقيام بأوامر الدين والانتهاء عن منهياته بحيث لا يجاهر بمعصية ولا يرتكب منكرا إلا اللمم كما قال تعالى :( الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلا اللمم... ٣٢ ) ( النجم ) والقيام على الوصية يكون بتنفيذها كاملة موفورة والمحافظة على الأموال ونقل إرادة صاحب تلك الأموال.
وانه لا يتوافر العدل في كل الأحوال في الوصية، فإنه قد يكون الموت في سفر، ولا يتوافر العدل من المؤمنين فقد يكون المصاحب للمتوفى من غير المؤمنين أو من غير العدول ففي هذه الحال يتساهل وتقبل شهادة غير المسلمين ولذا قال سبحانه :
( أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ ).
قوله تعالى :( أو آخران من غيركم ) ما المراد بهذا المغاير ؟ وذلك يستدعي بلا ريب تفسير ( منكم ) فقد قال بعض العلماء : إن منكم معناها من قبيلتكم أو من أقاربكم ويكون من غيركم معناه من غير قبيلكم أو من غير ذوى قرابتكم، والجميع في دائرة أهل الإيمان ويتمسك هذا الفريق بأنه لا تقبل شهادة غير المؤمن فلا يمكن أن يكون المراد من غيركم الكافرين لأن الكافر لا تقبل شهادته على المؤمن عندهم.
وقد قال آخرون : إن المراد بقوله تعالى ( منكم ) هو أن يكون الخطاب للمؤمنين لأن النداء في الذين آمنوا لا في قبيل منهم إذ النداء لهم قاطبة لا لفريق منهم ولذلك يكون الاثنان اللذان من غيرالمؤمنين ومقتضى هذا التخريج أن تقبل شهادة غير المسلمين في هذه الحال، وقد أجازها جمع من التابعين منهم سعيد ابن المسيب وابن سيرين ويحيى ابن يعمر، وعكرمة، ومجاهد، وسعيد ابن جبير والشعبي، وإبراهيم النخعي وقتادة وشريح القاضي، وهذا رواية عن احمد ابن حنبل وقد قرروا ان شهادة غير المسلم على المسلم تقبل في حال السفر، وعلى أن تكون الشهادة في وصية كما نص القرآن الكريم وذلك لمقام الضرورة ولمنع ضياع الحقوق ما أمكن ولأن ذلك يشبه التحري ويكون المراد من العدالة الاشتهار بالصدق والأمانة ومنهم من يكون كذلك وإن أصاب الضلال اعتقاده وثانيا، لأن قبول شهادتهم استثناء فيقتصر على موضع الوصية فيقتصر على مورد النص وهي تقييد الحال بحال السفر وتقييد الموضوع بأن يكون في الوصية.
وهناك إشارات غير لفظية :
الأولى، قوله تعالى :( ان أنتم ضربتم في الأرض ) المراد به إذا سافرتم، لأن المسافر يضرب في الأرض وقد اشرنا الى ذلك من قبل.
الثانية قوله تعالى :( فإصابتكم مصيبة الموت ) أي نزل بكم، وسماه سبحانه وتعالى مصيبة لأنه بطبيعته يؤلم أو يصحبه أو يقارنه أو يسبقه آلام نفسية، و لأنه حق ليس بمحبوب وخصوصا لمن يموتون حتف أنفسهم ولا يموتون استشهاد في سبيل الله تعالى، ورجاء لقائه ولأنهم يفدون بموتهم جماعة المؤمنين فالثمن الذي أخذوه أغلى من الموت الذي قدموه.
الثالثة أنه عندما ذكر سبحانه الاثنين من غير المؤمنين لم يذكر العدالة ولكن المفروض أن يكونا صادقين اشتهرا بالأمانة ولكن لم تذكر العدالة لأنه لا يمكن أن يكون غير المؤمن عدلا عدالة مطلقة بل تكون مقيدة.
هذا يلاحظ أن الأئمة الثلاثة مالكا والشافعي وأبا حنيفة وأصحابه لا يقبلون شهادة غير المسلم مطلقا في سفر أو حضر في وصية أو غير وصية ويظهر أنهم يسيرون على التخريج الأول.
وقد بين سبحانه طريق أداء الشهادة فقال :( تحسبونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم ) الضمير في قوله تعالى :( تحسبونهما من بعد الصلاة ) يعود على الشاهدين ذوي العدل من المسلمين أو من غيرهما، والحبس الامساك لأداء الشهادة اللازمة حتى تؤدى، والصلاة كما يفسر التابعون الذين تلقوا تفسير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يراد بها صلاة العصر إذ يكون وقت استجمام النفس، واستحضار عظمة الله تعالى، وطيب الجو، والفقهاء يعتبرون من السنة سماع الشهادة بعد صلاة العصر حيث تكون النفوس قارة مطمئنة وإذا كانا غير مسلمين فانهما يسمعان بعد صلاتهم.
وهذا حكم عام، ويلاحظ أن شهود الوصية لهم صفتان : احداهما صفة الشاهد العدل المخبر عن الواقع الناطق بالصدق فيه الذي يشهد على مثل الشمس عيانا، الصفة الثانية انهما وصيان للميت أمينان على ماله، يحافظان عليه، حتى يصل الى أهله، ويسلم إليهم موفورا غير منقوص، ولذلك كان حقا عليهما أمانة الله تعالى ولذلك كان أي ريب فيهما يؤدي الى ضياع المال وحق المتوفي، وحق ذويه، ولذلك شرع القسم إن كانت ريبة أي ريبة كانت، ولو كانت نفسية ليس لها مظاهر مادية، ولذا قال :( فيقسمان بالله إن ارتبتم ) وهذا النص الكريم يفيد أن الحبس بعد الصلاة والقسم على صدق القول لا يكون إلا حال الارتياب وبهذا يرد قول الذين يقولون إن الشهود لا يستقسمون أولا لأن هؤلاء ليسوا شهودا من كل الوجوه لأن لهم صفة أنه أوصياء والأوصياء يحلفون إن كان ثمة ريبة في تصرفهم وثانيا لأن الحال حال استثنائية فيجب ما أمكن الاحتياط والحلف عند الارتياب فلا بد من توثيق القول بالوثائق لكي يكون الاطمئنان بدل الشك والارتياب وبين سبحانه تتميما للاستيثاق صيغة اليمين : فقال :( لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ) الشراء يطلق بمعنى البيع، والمعنى لا نبيع يمين الله تعالى الذي أقسمنا به، ولا عهدنا الذي عاهدناه بهذه اليمين بأي ثمن كائنا ما كان وبأي قدر كان فالضمير يعود على القسم بالله المفهوم من قوله تعالى :( فيقسمان بالله إن ارتبتم ) وقال تعالى :( ولو كان ذا قربى ) أي ولو كان الذي يستفيد من شهادتنا ذا قرابة قريبة، فكلمة قربى لا تطلق إلا على القرابة التي تحمل غير الأتقياء على الكذب في الشهادة ومن موضوع القسم، والتغليظ فيه عدم كتمان الشهادة وكتمانها هنا يشمل ثلاث صور من الكتمان أولاها أن يخفى بعض الحق وثانيها أن يخفى بعض الموصى به فلا يذكره كله، والصورة الثالثة لمن لا ينقل كلاما للموصى يحرر إرادته. ومن مؤكدات القسم أن يقولوا مع قولهم في القسم ( لا نكتم ) :( انا إذا لمن الآثمين ).
وذلك بأن يقروا على أنفسهم بالإثم إن حادوا أو كذبوا في يمين الله، أو قالوا غير الحق الذي كانوا أوصياء عليه، وقد أكدوا الإثم على أنفسهم في إيمانهم بمؤكدات أربعة : أولها : التعبير بالجملة الاسمية ثانيها التوكيد ب ( إنا ) ثالثها اعتبار الحكم على أنفسهم بالإثم نتيجة منطقية لأعمالهم ولإخفائهم الحق، ورابعها أن يخرجوا من زمرة الأبرار الأطهار ويدخلوا في زمرة الآثمين الأشرار، وأن الأمر بالنسبة للذي غيب في التراب، وهو لا ينطق بما يريد ويبين ما عليه حاله وماله يوجب الاحتياط فيهما قبل الشهادة والتحري على أمره بعد وفاته، فعسى أن يكون حق قد ضاع شيء، وقد تبين سبحانه حال العثور عليه، فقال :( فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ )
والأمر في هذه الحال الذي يموت فيها الموروث يكون محل جهل إذ يموت في لا طريق للعلم إلا عن طريق هذين الشاهدين اللذين لهما مع الشهادة صفة الوصية والعثور يكون بمثل الاطلاع على شيء من ماله عندهما لم يكن قد جرى ذكره على لسانهما ومعروف عند ورثته أنه كان يملكه أو يظهر عليهما يسار مفاجئ ويتبين من قرائن الأحوال أنه كان من ماله أو يظهر من كتب أرسلها المتوفي قبيل وفاته تدل على ما كان يملكه عند الوفاة ولم يذكرا في شهادتهما وهكذا يكون العثور على شيء لم يكونوا يعلمونه.
ومعنى قوله تعالى استحقا إثما، أي أنهما خانا في الأمانة فلم يقوما بحق الوصاية وكذبا في الشهادة فلم يصدقا، وحلفا يمينا غموسا تغمس صاحبها في النار، فاستحقاقهما للإثم بسبب ذلك الكذب وتلك الخيانة والحلف الكذب وقوله تعالى :( استحقا إثما ) تتضمن كل هذه المعاني وغيرها، والإثم هو هذه المعاني كلها والعثور على ما يتضمن ضياع حقوق الورثة وذهاب أموالهم وما قالوه فيه بخس لما يستحقونه وضياع لما يملكون إذ قوله تعالى حين الوصية أي حين إخبار المتوفي بأمواله وإيصائهم بالمحافظة عليها، وتوزيعها بين مستحقيها وإذا كانت جناية هؤلاء على المستحقين للتركة، فالقول قول المستحقين يدلون به، ولذا قال سبحانه :( فآخران يقومان مقامهما ) أي فشاهدان آخران يقومان في إحقاق الحق وإظهار الحقيقة وبيان ما خفى من إرادة المتوفى وأمواله وما له من حقوق وعليه من واجبات مقام الأولين وهذا التعبير من ألطف التعابير بعد ظهور الإثم، إذا إنه ينبئ عن التعاون بين هؤلاء الآثمين والأبرياء في إظهار الحق إذ إن المجنى عليهم يقومان مقام من جنوا.
وقد بين سبحانه من الذين يختار منهم الآخران اللذان يقومان فقال سبحانه :( من الذين استحق عليهم الأوليان ) في هذا النص السامي بيان من يختار منهم وكيف يختاران والضمير في قوله تعالى ( استحق عليهم ) يعود على الإثم المذكور في من استحقا إثما وهو الفاعل ؟ والمعنى أن الذي يكون منهم الآخران الذين استحقا الإثم عليهم أي حقت آثاره ومغيبته عليهم وهم الورثة وهذا على قراءة الفعل بالبناء للمعلوم، ومعناها – كما رأيت – الذين حقت عليهم الإثم ونتائجه وهم المستحقون للمال بعد وفاة المتوفي بوصية المورث أو بوصية الله تعالى بالميراث وهناك قراءة بالبناء للمجهول١ ومعناها الذي استحق عليهم أي اخذ منهم بمقتضى الشهادة الباطلة والمؤدى في القراءتين واحد.
ذكرالنص انهما الاوليان بالنطق بالحق لاجل الورثة اما لانهم اقرب الورثةاو لانهما ارشدهم او الحق بمحبتهم
ومعنى النص الكريم على هذا أن اللذين شهدا المتوفي عند وفاته هما أولى الناس بذكر الحقيقة وان كان ارتياب يحبسان بعد الصلاة ويستقسمان قسما موثقا فإن ظهر ما يدعو الى تكذيب شهادتهما في كلها أو في بعضها كان للمستحقين للتركة حق الشهادة ويختار أولاهما بالتحدث عن المتوفي وهذا معنى ( أوليان ) وهي خبر لمبتدأ محذوف وتدل على طريقة الاختيار وان هؤلاء لأن المال يئول إليهم لا يقبل قولهم إلا بيمين لأنهم بمنزلة المدعى عليه بكلام الأوصياء الذين يكذبونهم ولذا قال سبحانه :
( فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِين ).
الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، وتقديره إذا كانا يتقدمان لإحقاق الحق قلا بد أن يقسما بالله، وهنا إيجاز معجز، إذ يقسمان بالله تعالى على الختل٢ في الأمانة وعلى ما يريان أنه الحق، ثم يقسمان مع ذلك على أمرين أولهما أن شهادتهما أحق بالقبول من شهادة الآخرين لصدقها ولظهور الخيانة في قولهم، ولأنه فقدت قوتها لعدم الأمانة وثانيهما أن يقسما على أنهما ما اعتديا بأخذ ما ليس بحقهما وكان التعبير بنفى الاعتداء لأنهما مطالبان والمطالب يخشى اعتداؤه لأنه كذبه يتضمن اليمين الغموس، ويتضمن الأخذ بغير حق، فيكون اعتداء ولقد أكد الله سبحانه وتعالى عليهم عدم الاعتداء بان يقولوا :( إنا إذا لمن الظالمين ) وذلك فيه تأكيد لعدم الاعتداء وبيان أن شهادتهما أحق من شهادة الأولين إذ لو لم يكونوا صادقين لكانوا ظالمين وقد أكدوا ظلمهم بأربعة مؤكدات : أولها، الجملة الاسمية وثانيها بأن المؤكدة وثالثها بثبات أن الحكم بالظلم له مقدماته فيكون منطقيا ورابعها : دخولهم في زمرة الظالمين وخروجهم من طائفة الابرار الأخيار.
وغن ذلك كله تقريب للحق، وبعد عن الباطل ولا يمكن أن يكون الحق مؤكدا من كل الوجوه بل لا بد من التقريب دون التحديد ولذلك قال سبحانه:( ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ).
٢ فيقسمان على (عدم) الختل. والختل: الخديعة، من ختله يختله ختلا وختلانا خدعه كما في القموس: ختل..
الإشارة في ذلك الى النظام كله الذي نظمه القرآن الكريم، والنسق الحكيم من الشهادة التي تقوم بها الوصيان تكون ابتداء من أهل التقوى ويعتمد على تقواهم وعدالتهم فان أمسكا بعد الصلاة وأخذت عليهما الأيمان المغلظة ويتعرف الأمر من ورائهما ولا يترك من غير تحريات كاشفة، فإن عثر على أن الشهادة فيها إثم أو غير حق استشهد غيرهما من الذين ينقص حقهم بشهادتهما واختير أولى الناس من المستحقين بالقول ذلك النظام كله أقرب إلى أن يؤدي الشاهد الشهادة على وجهها إما لأنه يريد الحق لذات الحق أو لأنه يخاف أن الأيمان الشاهدة الجارية على لسان غيره بعد يمينه تعلن كذبه على الأشهاد وخيانته بين الجموع والآحاد فمعنى ترد أي تترك أيمانهم وتطرح ويعاد القول إلى غيرهم بعد تكذيبهم.
والنص يومئ إلى أنه إذا عثر على كذب بعد شهادة الأقربين ترد الشهادة على من يليهم حتى لا يضيع حق قط.
ولقد يروي الرواة قصة في هذا الموضوع ويذكرونها على أنها سبب النزول وانا نذكرها لأنها موضحة للوقائع جاء في تفسير ابن كثير ( عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية :( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ) قال : برئ الناس منها غيري وغير عدى ابن بدار وكانا نصرانيين يختلفان على الشام قبل الإسلام ( أي إسلامهما ) فأتيا الشام لتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل ابن مريم بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك وهو أعظم تجارته فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله قال تميم : فلما أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم واقتسمناه أنا وعدى فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إلى أهله ما كان معنا، وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا، ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر، ودفعت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فوثبوا عليه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل المدينة فنزلت :( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ).
إلى قوله ( فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ) فقام عمرو ابن العاص، ورجل آخر منهم فحلفا، نزعت خمسمائة من عدى ابن بداء )١ وهكذا... وقد ختم الله تعالى بيان ذلك الحكم الشرعي بقوله تعالت كلماته.
( واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين ) ختم الله تعالى بيان ذلك الحكم الشرعي الدقيق بأمرين وذكر أمر كلي أما الأمر الأول فهو الأمر بالتقوى بأن يملأوا قلوبهم بخشية الله تعالى ومهابته واتقاء عصيانه وجعل وقاية بينهم وبين عذابه وذلك أمر لازم لكل مؤمن وخصوصا لمن يودعون أسرار الناس، الذين لا يستطيعون دفع الكذب والباطل عنهم.
والأمر الثاني، هو ما قرره بقوله سبحانه :( واسمعوا ) أي اسمعوا قول الحق وعوه، واعلموا به ولا تيئسوا، ولا يأخذكم السام عن أن تسمعوا كل قول حتى تصلوا إلى الحق الذي تبتغوه.
وأما الأمر الكلي فهو أن الله سبحانه وتعالى لا يهدي القوم الفاسقين، ومعنى عدم هدايتهم أنهم بسبب ما اكتسبوا من سيئات الفسق وما أحاطت به خطيئاتهم أصبح الحق لا يدخل إلى قلوبهم فلا يهتدون لأن الفسق صار شأنا شئونهم ولا يمكن أن تلتقي الهداية مع الفسق في قلب من فسق عن أمر ربه.
اللهم جنبنا الباطل وأهله، إنك سميع مجيب.
.
الكلام من قوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء... ٥١ ) ( المائدة ) كان في اهل الكتاب، ومعاندة اليهود وتحريف النصارى عقيدة المسيح عليه السلام، ثم بين سبحانه علاقة المسلمين بالمشركين واليهود ومن جاورهم من النصارى وبين أن الأخيرين كانت علاقتهم بالمسلمين مودة، وذكر الرهبان عندهم، وبين بهذه المناسبة إباحة القرآن للطيبات، وأشار إلى تحريمه للخبائث في ذاتها بتحريم الخمر، ثم اشار إلى ما حرم من مكان معلوم ووقت معلوم ثم ذكر مكانة الكعبة وما حرمه المشركون على أنفسهم من غير حجة ولا سلطان مبين، ثم تكلم عن شهادة أوصياء الميت إذا مات غريبا وكان المناسب بعد ذلك أن يتكلم عن حال الناس بعد أن يجمعوا يوم القيامة ومقالة الرسل لمن يبعثوا إليهم، وأخصمهم عيسى عليه السلام الذي ادعيت أولوهيته فقال تعالت كلماته :
( يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ). قال كثيرون من المفسرين وعلى رأسهم إمام البلاغة الزمخشري : ان هذه الآية غير مقطوعة عن سابقتها من ناحية السياق اللغوي لأن ( يوم ) متعلق بقوله سبحانه وتعالى ( واتقوا الله واسمعوا ) أي اتقوا الله تعالى واسمعوا الحق وأنصتوا إليه يوم القيامة يوم يجمع الله الرسل ويسألهم عن إجابة أقوامهم لدعواتهم الحق، ويصح أن تكون متعلقة بقوله تعالى :( والله لا يهدي القوم الفاسقين ). والمعنى والله سبحانه وتعالى لا يهدي القوم الفاسقين على ما فيه نعيم يوم القيامة يوم يجمع الله الرسل ويسألهم لأن اليوم ليس بيوم تكليف ولكنه يوم جزاء ويكون الفسق شاملا للكفر، لأن الكافر فاسق عن أمر ربه.
وبعض المفسرين قطع الايةعما قبلها واعتبرها إنذارا مبتدءا وقالوا إن قوله سبحانه :( يوم يجمع الله الرسل ) متعلق بمحذوف مقدر هو ( اذكر ) لأهل الكتاب يوم يجمع الله الرسل... في هذا اليوم المشهود يقول الله تعالى مخاطبا رسله الأكرمين بالتجلي عليهم :
( ماذا أجبتم ) والمعنى أي إجابة أجبتموها ؟ وذكر بالبناء للمفعول ولم يذكر أقوامهم فلم يقل ولله المثل الأعلى أي إجابة أجاب أقوامكم تحقيرا لأولئك الأقوام اذ جهلوا مع أسباب العلم وكفروا مع قيام ذرائع الإيمان ولأن الصلة بينهم وبين رسلهم قد قطعت يوم القيامة فلا ينالون شرف الاتصال بهم، اذ الاتصال كان للهداية وقد حرموها.
وكانت إجابة الرسل :( لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ) أي إنك أنت وحدك العالم
ليس فوقه علم لأن التعبير بصيغة التعبير المبالغة :( علام الغيوب )أي لكل مايغيب عن الناس اجمعين وما يغيب عنهم.
ولكن لماذا نفوا عن أنفسهم العلم مع أن عندهم بعض العلم ؟ وقد أجيب عن ذلك بأنهم علموا أن المقصود استنكار حال من بعثوا إليهم وتوبيخهم فساروا على مقتضى السياق وقالوا : لا علم لنا في هذا بل أنت الأعلم وقيل في الجواب عن هذا : إنهم كانوا في حال ذهول فنفوا عن أنفسهم العلم في حال ذهولهم وقيل في الجواب أيضا : إنهم استحقروا علمهم بجوار علم الله تعالى، وقيل : إن علمهم كان بمن عاصروهم لا بمن جاء بعدهم وقد جاء في الكشاف في توضيح الجواب الأول ما لا يغنى عنه التلخيص، فقال – أي الزمخشري – رضي الله عنه.
( فإن قلت كيف تقولون لا علم لنا، وقد علموا بما أجيبوا ؟ قلت : يعلمون أن الغرض من السؤال توبيخ أعدائهم، فيكلون الأمر على علمه وإحاطته بما امنوا به منهم وكابدوا من سوء إجابتهم إظهارا للتشكي، واللجا إلى ربهم في الانتقام منهم وذلك أعظم على الكفرة وأفت في أعضادهم وأجلب لحرستهم وسقوطهم في أيديهم إذا اجتمع توبيخ الله تعالى وتشكى أنبيائه عليهم، ومثاله أن ينكب بعض الخوارج على السلطان وخاصة من خواصه نكبة قد عرفها السلطان، واطلع على كنهها وعزم على الانتصار له منه، فيجمع بينها، ويقول : ما فعل بك هذا الخارجي وهو عالم بما فعل به يريد توبيخه وتبكيته فيقول له : أنت أعلم بما فعل بي تفويضا للأمر إلى علم سلطانه واتكالا عليه وإظهارا للشكاية وتعظيما لما حل منه، وقيل : من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب، ثم يجيبون بعد ما يثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أنفسهم وقيل معناه : ساقط مع علمك ومغمور لأنك علام الغيوب ومن علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر التي فيها إجابة الأمم لرسلهم وقيل : لا علم لنا ما كان منهم بعدنا، وإنما الحكم للخاتمة وكيف يخفى عليهم أمرهم وقد رأوهم سود الوجوه موبخين ).
وقد ذكر سبحانه وتعالى عيسى عليه السلام في ذلك اليوم المحشود وما كان التذكير الا للمبطلين الذين افتروا عليه، وهو سرد لنعم الله تعالى على عيسى وامه وأنه مخلوق من فضل الله، وما أعطى من خواص فبفضل من الله تعالى، وهو مانحها ومعطيها، وما دام هو المانح وهو المعطى فلا فضل لعيسى على أحد الا بفضل من أعطى، ولا يمكن أن يكون له ولدا أو قرينا.
وابتدأ سبحانه بتذكير نعمته عليه وعلى أمه ونعمته على والدته مشهورة في القرآن قد ذكرها سبحانه وتعالى في سورة آل عمران فقال :
( إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ٣٣ ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ٣٤ إذ قالت امرأت عمران ربي إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ٣٥ فلما وضعتها قالت ربي إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيدها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ٣٦ فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب٣٧ ) ( آل عمران : ٣٣ – ٣٧ ) إلى أن قال سبحانه :( وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ٤٢ يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ٤٣ ) ( آل عمران ).
كانت السيدة مريم على هذا النسق المتلو مصطفاة من قوم مصطفين أخيار أطهار وكفلها نبي وخاطبته الملائكة حتى قال الأكثرون إن فيها نبوة ولا يعلم أن أنثى كانت من الأنبياء غيرها.
ونعمة الله تعالى على سيدنا عيسى ذكرها الله تعالى بقوله تعالى :
( إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا ) نعمتان ذاتيتان كانتا مع شخص المسيح عليه السلام وليس فيهما أمر كسبي بل فيهما خلق روحاني أما الأولى وهي التأييد بروح القدس فلها تخريجان أو هما معا، أولهما أن الله تعالى ايده بطبيعة روحانية مطهرة في وقت سادت فيه المادية وسيطرت فخلق الله تعالى فيه تلك الطبيعة الروحانية فمعنى قوله روح القدس روح الطهارة والنزاهة والكمال الذي اتسم به، وأي نعمة أجل من هذه النعمة والتخريج الثاني أن معنى أيدناه بروح القدس أيدناه بجبريل عليه السلام فقد عبر في القرآن بروح القدس وأريد به جبريل كما قال تعالى :( قل نزله روح القدس... ١٠٢ ) ( النحل )وعندي الأمران يجوز جمعهما وكلاهما صادق فعيسى عليه السلام كان روحانيا مطهرا وكان مملوءا بالروح المطهرة وايده جبريل هو وأمه كما قال تعالى، في تبشيرها بالمسيح عليه السلام وولادته :( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ١٦فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ١٧قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا ١٨قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ١٩قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ٢٠قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا ٢١فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ٢٢فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا ٢٣ فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ٢٤وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ٢٥فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا ٢٦ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ٢٧يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ٢٨فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ٢٩قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ٣٠ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ٣١وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ٣٢وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ٣٣ ). ( مريم ).
هذه نعمة التأييد وهناك نعمة أخرى هي في ذاتها نعمة ولذا ذكرت منفصلة مقرونة بكلمة ( إذا ) أي اذكر وهي أنه تكلم في المهد أي تكلم وهو مولود فالمهد مكان تربية الطفل عقب ولادته وذلك تأييد لبراءة مريم البتول وذكر كلامه وهو كهل، عندما استوى رجلا مكتملا للإشارة على أن كلامه وهو في المهد يشبه كلامه وهو رجل مكتمل وتلك حكمة الله وبيان الأسباب لا تتقيد بها إرادةالله تعالى.
( وإذا علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ) كان ما سبق هداية ربانية صرفة، وتأييدا لصدق أمه وبراءتها، وإرهاصا بنبوته، وهو منحة ليس لكسب العبد فيه إرادة وهذه النعمة الأخيرة التي جاء بها ذلك النص الحكيم هي نعمة للعبد فيها كسب، وللإرادة البشرية فيها مكان فوق أنها جميعا لله تعالى، ولذلك أضاف سبحانه التعليم اليه، فالتعليم منه سبحانه والتعلم من عيسى عليه السلام والكتاب يفسره بعض العلماء بالكتابة فلم يكن عيسى عليه السلام أميا بل كان قارئا لأن معجزاته الكبرى لم يكن كتابا منزلا من عند الله يتحدى به البشر أن يأتوا بمثله ولأنه لم يكن في قوم أميين بل كان في قوم فيهم علم الكتابة وفيهم الدراسة والبحث ولهم فلسفة.
وفسر الكتاب بعض العلماء بما سبقه من كتب النبيين كزبور داود وما جاء عن أخبار سليمان وإبراهيم عليه السلام وإسحاق ويعقوب والأسباط.
ويصح أن يراد الأمران وهو ما نختاره فالله سبحانه وتعالى قد ألهمه تعلم الكتابة وقرأ بها كتب النبيين وأخبار من سبقوه.
والحكمة هي في العرف الأدبي العام العلوم النافعة والكلام المحكم الدقيق العميق الذي يكشف للناس عن أسرار هذا الوجود ونفوس الناس، ويوجهها إلى الخير، ويدخل في الحكمة على هذا كل التعليمات المرشدة الهادية على مكارم الأخلاق وقد كان سيدنا عيسىعليه السلام نبيا حكيما مرشدا أمينا.
وعلم الله تعالى رسوله الأمين التوراة التي نزلت على موسى والإنجيل الذي نزل عليه صلوات الله تعالى وسلامه عليه، ولماذا ذكر سبحانه وتعالى التوراة مع أنها قد تكون داخلة في ضمن الكتاب الذي علمه أولا ونقول في الجواب عن ذلك بأن التوراة تحتمل الدخول في الكتب المذكورة أولا، وتحتمل أن يقصد بالكتاب الثقافة العامة الدينية وما كان شائعا من أفكار مدونة في عصره وبذلك لا تشتمل التوراة، وتحتمل اشتمال كلمة الكتاب الذي يراد به الجنس على التوراة، ويكون تخصيصا بالذكر مقترنة بالإنجيل للإشارة إلى أنهما متلازمان وأن الإنجيل الذي جاء به عيسى عليه السلام متمم للتوراة التي جاء بها موسى عليه السلام، وانه منفذ لأحكامها الا ما جاء به الإنجيل ناسخا لها.
بعد هذا التعليم الذي علمه لعيسى عليه السلام، اخذ سبحانه وتعالى يذكر بعض معجزاته وهي كبراها فقال :
( وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني ) كل معجزاته، عليه السلام كانت من جنس طبيعته التي فطره الله تعالى عليها، لقد كانت ولادته خارقة للعادة، إذ خلقه الله سبحانه وتعالى من غير أب يلقى النطفة في رحم، بل ولد من أم من غير أب لبيان أن الله تعالى لا تحكمه الأسباب التي تجري في مجرى العادات إنما هو سبحانه خالق للأسباب والمسببات فعال لما يريد لا تخضع إرادته لسلطان سبحانه وتعالى، فمعجزات عيسى كلها بيان لأن الله تعالى فوق قاعدة السببية التي كانت مسيطرة في ذلك العصر المادي الذي كان لا يذعن إلا للأسباب والمسببات المادية.
وهذه المعجزات باهرة قاطعة في أن الخالق لهذا الكون لا تحكمه الأسباب، إذ إن الناس يجدون أسباب الخلق هو التوالد بأن تحمل الأنثى من ذكر وتلد ثم يكون الحي من بعد ذلك، فيكون من خرق الأسباب أن يكون الحي بإجراء الحياة على يد مخلوق لله تعالى، فقد أذن لعيسى عليه السلام أن يصور من الطين كهيئة الطير فمعنى ( خلق ) هنا هو تصويره جسدا من الطين وجعله على شكل طائر ثم نفخ فيه باذنه سبحانه فيكون طيرا باذن الله تعالى.
وذكرت كلمة ( بإذني ) عند تصوير شكل الطير وعندما صار طيرا للإشارة إلى أن كل ذلك من عند الله، وأنه الخالق وليس عيسى هو الخالق ولكنه سبحانه وتعالى أجرى الخلق على يديه.
( وتبرئ الاكمه والأبرص بإذني واذا تخرج الموتى بإذني ) الاكمه هو المولود أعمى، ويقال لمن طمست عينه بفقء او نحوه كمهت عيناه، والبرص داء إلى الآن لم يوجد له دواء يشفيه وقد يوجد دواء يجعله أسهل احتمالا مع بقائه.
وقد كان سيدنا عيسى يبرئ الأكمه بإذن الله تعالى فيجعله مبصرا وذلك، يشبه إيجاد الحياة في غير الحي لأن إيجاد البصر في غير المبصر والمولود غير مبصر وغير قابل للإبصار بحكم الاسباب الطبيعية يعد إنشاء وإيجادا ويقاربه علاج البرص لأنه بدوامه الذي يكون جبلة واذا كانوا لا يعرفون سببا للشفاء فالله تعالى خالق الأسباب أجرى الشفاء على يدي عيسى عليه السلام، لأنه سبحانه وتعالى فعال لما يريد وكان معجزة لعيسى عليه السلام.
وهناك معجزة رابعة وهي إحياء الموتى وقد ذكرت هذه المعجزة في سورة آل عمران على لسان عيسى عليه ال
قوله تعالى :( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي ) والوحي معناه الإلهام ويكون على أقسام : وحي بمعنى إرسال جبريل إلى الرسل عليهم السلام. ووحي بمعنى الإلهام كما في هذه الآية أي الهمتهم وقذفت في قلوبهم ومنه قوله تعالى :( وأوحينا إلى أم موسى... ٧ ) ( القصص ) ووحي بمعنى الإعلام في اليقظة والمنام. قال أبو عبيدة : أوحيت بمعنى أمرت، ( وإلى ) صلة يقال : وحي وأوحى بمعنى، قال الله تعالى :( بان ربك وأوحى لها٥ ) ( الزلزلة ).
وهذا فيه نظر لأن الحواريين خلصان الأنبياء ودخلاءهم وأنصارهم كما قال :( من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله ) ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جاءوا بمعرفة الله تعالى وما يجب له وما يجوزو ما يستحيل عليه وأن يبلغوا ذلك أممهم فكيف يخفى ذلك على من باطنهم واختص بهم حتى يجهلوا قدرة الله تعالى ؟ إلا أنه يجوز أنه يقال : إن ذلك صدر ممن كان معهم، كما قال بعض جهال الأعراب للنبي صلى الله عليه وسلم : اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط١ وقيل : عن القوم لم يشكوا في استطاعة البارئ سبحانه لأنهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين، وإنما هو كقولك للرجل، هل يستطيع فلان أن ياتي وقد علمت أنه يستطيع فالمعنى هل يفعل ذلك ؟ وهل يجيبني إلى ذلك أم لا ؟ وقد كانوا عالمين باستطاعة الله تعالى لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر فأرادوا علم معاينة كذلك كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم (... رب أريني كيف تحيي الموتى... ٢٦٠ ) ( البقرة ) على ما تقدم وقد كان إبراهيم علم بذلك علم خبر ونظر، ولكن أراد المعاينة التي لا يخلها ريب ولا شبهة، لأن علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات وعلم المعاينة لا يدخله شيء من ذلك ولذلك قال الحواريون :( ولا تطمئن قلوبنا ) كما قال إبراهيم :(... ولكن ليطمئن قلبي.. ٢٦٠ ) ( البقرة ).
( قال اتقوا الله ) أي اتقوا مغاضبة وكثرة السؤال فإنكم لا تدرون ما يحل بكم عند اقتراح الآيات إذ كان الله عز وجل إنما يفعل الأصلح لعباده. ( إن كنتم مؤمنين ) أي ان كنتم مؤمنين به وبما جئت به، فقد جاءكم من الآيات ما فيه غنى.
( عيدا لأولنا وآخرنا ) أي لأول أمتنا وآخرها فقيل : إن المائدة نزلت عليهم يومك الأحد غدوة وعشية فلذلك جعلوا الأحد عيدا. والعيد واحد الأعياد وإنما جمع بالياء وأصله الواو للزومها في الواحد ويقال : للفرق بينه وبين أعواد الخشب وقد عيدوا أي شهدوا العيد. وقيل : أصله من عاد يعود أي رجع فهو عود بالواو فقلبت ياء لإنكسار ما قبلها، مثل الميزان والميقات والميعاد فقيل ليوم الفطر والأضحى : عيدا لانهما يعودان كل سنة. وقيل : سمى عيدا للعود في المرح والفرح فهو يوم سرور الخلق كلهم وقيل : سمى عيدا لأن كل إنسان يعود إلى قدر منزلته ألا ترى إلى اختلاف ملابسهم وهيئاتهم ومآكلهم فمنهم من يضيف ومنهم من يضاف ومنهم من يرحم ومنهم من يرحم. وقيل : سمى بذبك لأنه يوم شريف تشبيها بالعيد : وهو فحل كريم مشهور عند العرب وينسبون إليه فيقال : إبل عيدية قال :( عيدية أرهنت فيها الدنانير ).
وقرأ زيد ابن ثابت ( لأولنا وآخرنا ) على الجمع. قال ابن عباس : يأكل منها آخر الناس كما يأكل ( منها ) أولهم.
وعن ابن عباس وأبي عبد الرحمان السلمي كان إطعام المائدة خبزا وسمكا. وخرج الترمذي في أبواب التفسير عن عمار ابن ياسر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما وأمروا ألا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا لغد فمسخوا قردة وخنازير١.
الكلام الى الآن في محاسبة الناس يوم القيامة ومجاوبتهم بشان عيسى ابن مريم من حيث إنهم نحلوه ما ليس فيه، وادعوا فيه وادعوا ما لم يقله، فادعوا عليه الألوهية هو وأمه فكانت المجاوبة حول هذه الفرية التي افتروها وذلك الوهم الذي توهموه وادعوا على المسيح عليه السلام.
( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ ) العطف هنا على قوله تعالى :( يوم يجمع الله الرسل... ١٠٩ ) ( المائدة ) فان هذا كله صورة للمجاوبة التي تكون يوم القيامة بين الرسل، وأقوامهم ومن بعثوا إليهم بشكل عام، وخص عيسى عليه السلام في هذا المقام بالمجاوبة لأنه كان أكثر الرسل افتراء على شخصه النبوي الكريم، إذا ادعوا عليه الألوهية وكان نداؤه بذكر :( يا عيسى ابن مريم ) للإشارة إلى الولادة الطبيعية التي تنفى أن يكون إلها أو ابن إله أو فيه عنصر الألوهية بأي وضع من الأوضاع لأن الألوهية والبشرية نقيضان لا يجتمعان فلا يمكن أن يكون البشر فيه ألوهية ولا الإله فيه بشرية ومعنى ( اتخذوني ) اجعلوني والتعبير اتخذوني أو اجعلوني يدل على أنه ليس له حقيقة بل هو في ذاته اتخاذ بما لا أصل له.
والاستفهام للتقرير، أي ليقر عيسى عليه السلام بخلافه ذكر الحقيقة في ذلك اليوم الذي لا تجزى نفس عن نفس شيئا يتقرر الجزاء وليس وقت العمل فيه توبيخ لهم، وتكبير لذنوبهم وبيان لافترائهم وعظمة وهو من قبيل إحضار أعمالهم وأقوالهم وبذلك يرد الاعتراض الذي يورده العلماء إذ يقال كيف يسأل الله تعالى عيسى وهو سبحانه وتعالى يعلم أنه لم يقل شيئا من هذا ولا يمكن أن يدعى لنفسه ما ادعوه له ؟ فالسؤال ليقر في المشهد العظيم بكذبهم وافترائهم على الله سبحانه وتعالى، وفي ذلك أبلغ توبيخ وتجسيم لذنبهم وأوهامهم وافترائهم على الله سبحانه وتعالى. والذين قالوا : إن عيسى وأمه إلاهان هم البربرانية من طوائف النصارى، ولم يستنكره غيرهم فكأنهم أقروه، والذين لم يقروه قالوا : إن الله ثالث ثلاثة الأب والابن وروح القدس.
والذين قالوا : إن عيسى وأمه آلهان من دون الله لم ينفوا ألوهية الله إذ لم يعرف عنهم أنهم نفوها، حتى يقال عنهم : إنهم قالوا : إن عيسى ابن مريم وأمه إلهان من دون الله أي غيره، والجواب عن ذلك أن من لم يؤمن بوحدانية الله تعالى بل أشرك غيره معه لا يقال : إنه آمن بالله، واعتراف بألوهية الله سبحانه وتعالى لأنه لا يعبد إلا الله وحده، أو نفسر ( من دون الله ) أي خلاف الله فكأنهم قالوا : إن هناك اثنين مع الله تعالى : الله عما يقولون علوا كبيرا.
وقد بين الله تعالى إجابة عيسى عليه السلام بقوله :
( قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ) سبحانك معناها تنزيها وتصدير عن هذا القول وتقديسا وهي منصوبة على أنها مصدر لفعل محذوف، وتصدير سيدنا عيسى في ذلك اليوم المشهود كلامه بذلك للدلالة على أنه أمر لا يليق في ذاته فلا يمكن أن يصدر عن عاقل يعي ما يقول ويدركه ففيه نفى مطلق للشرك وبيان للنزاهة والتقديس وأنه هو الذي يسبح له وحده ثم بعد هذا التنزيه المطلق الذي كان نفيا مطلقا أخذ ينفي عن نفسه هذا الكلام المحال فنفى عنه بأنه ليس من شانه أن يقول مثل هذا القول بل ذكر استحالة أن يصدر عنه، وقال :( ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ) وفي هذا تأكيد للنفي من وجوه ثلاثة :
أولها : أنه نفى أن يكون شأنه ذلك القول فلا يمكن أن يصدر عنه، فهو لم ينف القول فقط، بل نفى احتمال أن يقول ونفى احتمال القول أقوى في الدلالة من نفى المقولة.
ثانيهما : أن كلامه يدل على أن ذلك غير معقول في ذاته فكيف يقول.
ثالثهما : أنه أثبت أنه مستحيل قوله لأنه ليس بحق :( إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ )
هذه الجملة تأكيد لنفى ما سئل عنه وهو أنه قال :( اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ).
إذ أنه لو كان قد حصل لعلمه الله تعالى وما دام لم يعلمه فهو لم يقع، ولا يمكن أن يقع لأن الله لا يغيب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، وفي هذا النص فوق دلالته على عدم الوقوع ابلغ تعبير إثبات شمول علم الله تعالى : وإنه بكل شيء محيط وقد زكى هذا المعنى الجليل بقوله :( نعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ) ففي هذا النص إثبات قصور علم الإنسان بجوار علم الله تعالى وإثبات أن علم الله تعالى شامل لمطويات القلوب، وعلم الإنسان مقصور على ما يظهر من الجوارح فالله يعلم ما يخفى في الصدور والإنسان لا يعلم إلا ما هو ظاهر محسوس أو ما يكشف عنه الظاهر المحسوس فلا يعلم ما الخفى إلا ما يظهره الجلى والنص يدل على نفى الألوهية من جهة ثالثة، لأن علم الله شامل لكل شيء لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وعلم عيسى من النوع القاصر الذي لا يحيط إلا بالمحسوس أو ما ينبئ عنه المحسوس، فهو نفى للألوهية من طريق العلم، ثم هو موازنة من جهة ثانية بين نفس الإنسان المكشوفة لخالقه وذات الله تعالى التي لا يعلم البشر عنها، إلا وحدانيتها وما يعلمه للإنسان منها.
وقد أكد عيسى عليه السلام علم الله تعالى المحيط الذي يعلو عن الصفات البشر بقوله :
( إنك أنت علام الغيوب ) أي انك يا صاحب الجلالة تقدست أسماؤك تعلم الأمور المغيبة عن حسنا والمكنونة في المستقبل علما دقيقا لا يخفى منه شيء عليك، ولذلك عبر بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة وعلى الدقة وعلى الإحاطة التامة الكاملة وانه سبحانه وتعالى يعلم ما بطن كعلمه بما ظهر فإن ما ظهر وما بطن هو بالنسبة لنا نحن بني الإنسان وأما بالنسبة لله تعالى فإن الجميع مكشوف غير مستور.
وقد أكد علم الله تعالى للغيب بأربعة مؤكدات : أولها ب ( إن ) المؤكدة.
ثانيها بالضمير المؤكد في قوله تعالى :( أنت ).
وثالثها بصيغة المبالغة التي تعد بالنسبة للعبيد ولكنها حقيقة فوق ما نتصور بالنسبة لله تعالى العليم الحكيم، وإن هذا اقصى ما تتسع له لغتنا القاصرة عن التعبير عن الحقائق الإلهية.
رابعها جمع الغيوب فلم يفرد الغيب، بل قال الغيوب بكل أنواعها ما وقع في الماضي وما يقع في المستقبل وما يتعلق بالكائنات كلها الروحاني منها والمادي والكل خلقه سبحانه، من طيور في الهواء واسماك في الماء، وملائكة وجن وإنس وهكذا كل ما هو غيب في ذاته، أو بالنسبة للبشر أو لطواف منهم.
والجملة السامية السابقة فيها إثبات استحالة أن يكون قد قال ( اتخذوني وأمي آلهين ) فهي تفي بالدليل، وهي هذه الجملة السامية فيها نفى وإثبات فيها نفى القول الذي نسبوه بهتانا إليه وفيه ثبات ما قاله ولم يقل سواه ولذلك كان فيه قصر بالنفي والإثبات فهو يذكر أنه دعا إلى التوحيد المطلق وفيه إثبات أنه لا يمكن أن يدعو إلى التوحيد المطلق وذلك لثلاث أمور :
اولها أنه هو الذي أمر ربه ولم يؤمر بغيره وهو رسول من عند الله ولا يمكن أن يكون الرسول قد ادى الرسالة على وجهها إلا إذا بلغ ما أمر به دون سواه ولذا قال عليه السلام :( ما قلت لهم إلا ما أمرتني به ).
ما أمرتني أن أقول وأبلغه وإلا أكن غير مؤد للرسالة.
ثانيها : أنه لم يكتف ببيان انه أدى ما أمر به إجمالا بل ذكر حقيقة ما دعا مفسرا غير مجملا اذ قال :( ان اعبدوا الله ) فإن هي المفسرة فهو يفسر ما أمر به وهو بين لا إبهام فيه.
وثالثها أنه أقام الدليل على استحقاقة وحده لعباده سبحانه :( ربي وربكم ) أي أنه هو المستحق للعبادة لأنه هو وحده الذي خلقني فأنا مخلوق فكيف أكون إلها وهو الذي خلقكم وحده فكيف تعبدون غيره ؟ وفي هذا التعبير أثبت وحدانية الخلق والتكوين ووحدانية الذات كما أثبت تصريح اللفظ وحدانية العباد.
وقد اكد عليه السلام أنه بلغهم تلك الحقائق فقال كما حكى عنه ربه :( وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم ) أي كنت مشاهدا لهم رقيبا عليهم تعلم ما حاوله من الزيغ والتحريف مدة بقائي فيهم، فما تركت تنبيههم إلى التوحيد في العبادة والذات والصفات والتكوين مدة إقامتي بينهم، ولما تركت الدنيا كنت أنت الرقيب.
( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) في النص الكريم السابق ذكر عليه السلام شهادته عليهم وهو حي قائم برسالته مؤد لها على وجهها وفي هذا النص يذكر انتهاء مهمته بوفاته ويفوض أمرهم إلى ربهم في ألطف تعبير وأدق إشارة.
والفاء للتفصيل كما تدل على الحالية والبعد به، والمعنى عند حد وفاتي ومن قبلها، ومن بعد كنت أنت وحدك الرقيب عليهم العالم بحالهم وأنت على كل شيء عالم بحالهم تعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.
وفقنا الله لما يحب ويرضى.
الكلام العظيم موصول في حديث السيد المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام يوم يجمع الله تعالى الرسل يوم القيامة.
ولقد كان من المجاوبة بين الله تعالى وبين السيد المسيح عليه السلام في شان الأوهام التي توهمها من يدعون النسبة إليه وذكرت هذه الأوهام كأنها واقعة في زمن المسيح عليه السلام وهي قد وقعت من بعده ولم يحضرها ثم المجاوبة تكون من بعد ذلك إذ أنها تكون يوم القيامة يوم يجمع الله تعالى الرسل ويسألهم عما يكون من شأن إجابات أقوامهم واختص سبحانه وتعالى بالذكر عيسى لما ذكرناه من انه أشد الأنبياء افتراء عليه إذا ادعوا أنه ابن الله وان الله ثالث ثلاثة وذكرت أخبار يوم القيامة كأنها حاضرة لتحضر بين يدي النصارى الذين ادعوا ما ادعوا بالصيغة التي تكون من المسيح عليه السلام يوم ليتبينوا أن المسيح عليه السلام برئ منهم ومما يتكلمون به حول ذاته النبوية البشرية.
وخلاصة تلك المجاوبة :
أن العلي القدير سأله العالم بالجواب ( اانت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) وكان الجواب بالنفي لأن الله تعالى يعلم أنه لم يقع وما كان لهم أن يعتقدوه في السيد المسيح عليه السلام أو أمه ألوهية لأنهما كانا يأكلان الطعام ويمشيان في الأسواق وذلك شان البشرية لا شأن من يكون إلها.
وقد تضمن الجواب تأكيد النفى بأنه ليس من شانه ولا يحق له لأنه بشر مخلوق لله سبحانه وتعالى، فالبشرية لا تتخلى عنه، وأنه لا يمكن أن يكون إلها يشارك الله تعالى في خلقه فالله خالقه، ولا يمكن أن يكون المخلوق كالخالق ولأن الله تعالى هو الذي يربه بعد خلقه وهو الذي علمه الحكمة وهو الذي جعله يتكلم كما يتكلم الراشدون في المهد فكان كلامه في المهد ككلامه وهو كهل أي رشيد قد اكتملت رجولته واستوى خلقه وهذا يدل على أن السيد المسيح عليه السلام عاش إلى أن بلغ سن الكهولة فقد بلغ أشده وبلغ أربعين وإن كانت كتب النصارى الحاضرين تومئ إلى أنه لم يصل إلى الأربعين.
وقد ذكر سيدنا عيسى عليه السلام أنهم في رقابة الله تعالى من بعده، يعلم حالهم ومآل أمرهم وانحرافهم على الجادة التي أرشدهم إليها الله تعالى على لسان نبيه الأمين عيسى عليه السلام.
وانه هو تعالى الذي شاهد أعمالهم وأنه محاسبهم بها ومجازيهم عليها، والأمر في شأنهم إليه وأمورهم مفوضة إليه وهو العزيز الحكيم والغفور الرحيم، فإن شاء أخذهم بذنوبهم كاملة وإن شاء عفا عن بعضها وإن شاء تغمدهم برحمته وغفرانه إن تابوا وآمنوا بالله وحده وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ولذلك قال تعالى حكاية عن بقية كلام عيسى في ذلك المشهد العظيم :
( إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ).
وإنا نجد في هذا النص الذي يذكر الحال يوم القيامة ينبئ عن رافة المسيح عليه السلام ورفقه ورغبته في الا يكون الناس في عذاب إلا ان تكون تلك إرادة الله تعالى فالنص تفويض لله تعالى، وهو يشبه في هذا طلب إبراهيم الأنبياء عليهم السلام الغفران لأبيه كما حكى الله سبحانه وتعالى عنه بقوله تعالى :( واغفر لأبي نه كان من الظالمين ٨٦ ) ( الشعراء ).
فالمسيح عليه السلام يحكي الله تعالى عنه في ذلك اليوم المشهود
قوله :( إن تعذبهم فإنهم عبادك ) أي ان تعاقبهم العقاب الشديد فهم عبادك تملكهم، ولا حق لهم عندك، وهم قد اذنبوا، فبحكمتك وعزتك كان عقابهم، وإن تغفر لهم وتستر سيئاتهم وتصفح عنهم فان ذلك جائز منك، وهو صفح الغالب القاهر الذي يضع الأمور في موضعها وأفعاله في دائرة الحكمة والتدبير المصون عن العبث.
وهنا قال العلماء : كيف يسوغ أن يطلب عيسى عليه السلام في المشهد العظيم الغفران للكفار الذين أشركوا بالله تعالى فجعلوا عيسى وأمه إلهين وقالوا إن الله ثالث ثلاثة وقالوا عن المسيح إن المسيح ابن الله ؟ وقد أجابوا عن ذلك بإجابات مختلفة أدقها ما قيل من أن الغفران للكفار جائز عقلا، وليس مستحيلا ولقد كان طلب عيسى عليه السلام الغفران لهم من قبيل طلب إبراهيم عليه السلام الغفران لأبيه فهو ناتج من فرط الشفقة والرأفة على أن عيسى عليه السلام ما طلب الغفران بل فوض الأمر لرب العالمين تعالت حكمته، وإذا كان ما يناقش في هذا المقام فهو أنه فرض جواز الغفران، ونحن نرى أن ذلك الفرض يتفق مع النسق التاريخي الذي وقع وذلك بأن نفرض أن المسيحيين الذين أشركوا منهم من كان على ضلاله القديم بعد أن بلغته الدعوة المحمدية ومنهم من استمر على غيه بعد أن بلغته الدعوة المحمدية إلى التوحيد وتبين حقيقة الدعوة المسيحية كما جاء بها الإسلام وهؤلاء الأخيرون لا مساغ لفرض الغفران لهم شرعا لأنهم أشركوا الأولون فقد كانوا على فترة من الرسل وكانوا على جهالة عمياء لا تسمح لهم أن يعرفوا حقيقة دعوة المسيح عليه الصلاة والسلام وذلك أنه قد نزل بهم بعد المسيح عليه السلام من الاضطهادات والشدائد والكوارث ما جعلهم يستخفون بدينهم ويفرون بها، ولا شوكة لهم، وقد قارنت هذه الشدائد المسيحية في نشأتها من بعده وفي تكونها وليدا وفي تدرجها واستمرت هذه الشدائد نحوا من ثلاثة قرون نزل فيها أشد ما ينزله الإنسان بأخيه الإنسان حتى أنه كان يتخذ منهم مشاعل تسير في موكب الإمبراطور الروماني نيرون إذ تطلي أجسامهم بالقار وتشعل فيها النيران ويسار بهم في موكبه.
ولم يكشف عنهم البلاء إلا بعد أن اختفت المصادر الحقيقية لدينهم وادعى التثليث تدريجيا وما كان عندهم من علم يعلمونه ويحاسبون به، وهؤلاء أحسب أن فرض عيسى غفران الله تعالى كان فرضا سليما يتفق مع عزة الله تعالى وحكمته وشمول علمه.
وان الصدق ذو شعب ثلاث أقربها الصدق في القول فلا ينطق الا بالحق ولا ينطق الا بما يجول بصدره، ولا يماري ولا يداهن ولا يرفث في قول، والثانية صدق النفس فلا يغش نفسه، ولا يخدعها، بل يحاول أن يطلع على عيوبها ويعالج هذه العيوب ولا يخدع نفسه ليكذب عليها، والثالثة، صدق الإنصاف فلا يغمط غيره ولا يحقد ولا يحسد ولا يضغن وينصف أعداءه من نفسه.
ومن كانت هذه حاله ينفعه صدقه، لأنه صدق القول والنفس والعمل له جزاؤه في الجنة جنات تجري من تحتها الأنهار وفي ذلك النعيم خالد خلودا أبديا لا نهاية له، وفوق هذا الجزاء المادي الحسي، هناك جزاء معنوي وهو رضوان من الله، وهو أكبر من كل جزاء ولذلك رضي الله عن الصادقين فهم مقربون إليه زلفى وهم لا يرضون بربهم بديلا ولا شريكا في عبادة أو قربى أو استعانة أو استجابة فالله ملء قلوبهم يعبدونه كأنهم يرونه.
وإن ذلك هو الفوز العظيم الذي لا فوز يماثله أو يقاربه.
٢ رواه مسلم: البر واصلة قبح الكذب وحسن الصدق (٢٦٠٧) والبخاري: (الادب (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) (٦٠٩٤)..
الأولى : إثبات أن الله وحده هو الجدير بالألوهية والمستحق للعبادة لأنه ذو السلطان الكامل المالك لكل شيء.
الثانية : أن تقديم لفظ الجلالة يفيد وحدة سلطانه وملكه وقدرته أي أنه وحده المالك لكل شيء.
الثالثة : ذكر السماوات والأرض والتصريح بما فيهن للإشارة إلى أن كل شيء فيهن مخلوق له سبحانه وليس فوقه أحد فلا يقال : إن أحدا له سلطان بجوار سلطانه وإن المعجزات التي تجري على أيدي بعض النبيين من خلقه هو الذي خلقه على يديه وليس النبي خالقها.
الرابعة : إثبات أنه قادر على كل شيء لا يتقيد بالأسباب والمسببات لأنه على كل شيء قدير، وهو خالق الأسباب.
الخامسة : تقديم الجار والمجرور يفيد كمال قدرة الله تعالى على الأشياء إنه حميد مجيد سميع بصير عزيز حكيم.