إلى جانب هذه الأحكام الشرعية المتنوعة يجيء الأمر بالطاعة والتقيد بما شرعه الله وما أمر به، والنهي عن التحريم والتحليل إلا بإذنه، ويأتي النص الواضح على أن الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله للناس بعد أن أكمله وأتم به نعمته.
ثم بعد ذلك كله يجيء بيان ملك الله سبحانه للسماوات والأرض وكمال قدرته. والقرآن الكريم له هدف كبير في بناء المجتمع الإسلامي، ولذلك يخوض دائما معارك مع أعداء الإسلام، وفي مقدمتهم اليهود والمشركون والمنافقون، ولذلك نراه في هذه السورة يقرر بحسم في التعبير، سواء في ذلك الأحكام الشرعية التي تقتضي بطبيعتها التقرير والحسم في القرآن كله، أو المبادئ والتوجيهات التي قد تتخذ في غير هذه السورة صورا أخرى، ولكنها هنا في هذه السورة تقرر في حسم وصرامة. وأسلوب التقرير الدقيق، هو الطابع العام المميز لشخصية سورة المائدة هذه من بدئها إلى منتهاها.
ﰡ
العقد كل اتفاق بين اثنين فأكثر.
البهيمة : ما لا ينطق من الحيوان.
الأنعام : البقر والإبل والغنم وما أُحل من الحيوان البريّ.
حُرم : جمع حرام وهو المحرم بالحجّ أو لِعمرة.
يا أيها المؤمنون، حافِظوا على الوفاء بالعقود التي بينكم وبين الله، والعقود المشروعة التي بينكم وبين الناس. فعلى كل مؤمن أن يفي بما عقده وارتبط به من قول أو فعل. وكل عقد، وكل وعد، وكل عهد، وكل ميثاق إنما هو عقد بين طرفين اللهُ ثالثهما، فمن نقضَه فقد أخل بالوفاء مع ربه.
فالزواج عقد، الوفاء به حُسن المعاشرة وتركُ المضارة. والبيع عقد، والوفاء به عدم الغش وحُسن المعاملة. والوعد عقد، والوفاء به إنجازه.. وهكذا سائر الاتفاقات التي تحمل بين طياتها حقوقها والتزامات.
إن هذا القرآن الكريم نُزّل على محمد لينشئ أمة، وليقيم دولة، وليربّي ضمائر وأخلاقاً وعقولا، ولينظم مجتمعاً ويحدّد روابطه مع غيره من المجتمعات والأمم. ذلك هو الدين كما هو في حقيقته عند الله، وكما عرفه المسلمون أيامَ كانوا مسلمين.
وقد أحلّ الله لكم أكل لحوم الأنعام من الإبل والبقر والغنم وجميع الحيوانات الوحشية إلا ما ورد النص بتحريمه.
ولا يجوز لكم صيدُ البّر إذا كنتم محرِمين بالحج أو العمرِِة، أو كنتم داخل حدود الحرم. إن الله يستنّ ما يريد من الأحكام، فهي تصلح شئونكم وتناسب مصالحكم.
الهَدي : ما يُهدى إلى الحرم من الأنعام ليُذبح فيه.
القلائد : ذات القلائد من الهَدي، والقلادة ما يعلَّق في عنق الحيوان علامةً على أنه هَدي للحج.
آمين : قاصدين.
لا يَجْرِمنّكُم : لا يحملنكم. شنئان : شدة البغض.
يا أيها المؤمنون : لا تستبيحوا حرمة شعائر الله فتتصرفوا بها كما تشاؤون. إن مناسكَ الحج من هذه الشعائر، فحافِظوا عليها، ولا تتهاونوا في تعدّي حدودها.
كذلك الشهرُ الحرام.. لا تنتهكوا حرمة هذه الأشهر، وهي : ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، فلا تحاربوا فيها.
ولا تعترضوا الهَدي باغتصابه أو منع بلوغه محلَّه، ولا تنزِعوا القلائد من أعناق الأنعام المهداة للحج ولو كانت لأعدائكم.
وكذلك لا تعترِضوا الذين يقصدون بيت الله، يبتغون فضلاً منه ورضا. وإياكم أن تصطادوا وأنتم في الحرم. ليس ذلك لكم. فإذا تحللتم من الإحرام فاصطادوا إن شئتم. ولا يجوز أن يدفعكم بغضكم الشديد لقومٍ سبق أن صدّوكم عن المسجد الحرام إلى أن تعتدوا عليهم. وتعاونوا أيها المؤمنون على عمل الخير والطاعات، لا على المعاصي والاعتداء على الناس. واتقوا الله بالسير على سُننه التي بيّنها لكم في كتابه حتى لا يصيبكم عقابه، إنه شديد العقاب.
قراءات :
قرأ ابن عامر، وإسماعيل، عن نافع، وابن عياش عن عاصم «شنئان » بسكون النون، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «إن صدوكم » بكسر الهمزة.
المترديّة : التي سقطت من مكان عالٍ، أو في بئر، وماتت.
النطيحة : التي نطحها حيوانٌ آخر فقتلها.
مخمصمة : جوع. متجانِف : منحرف، مائل.
يبين لنا هنا عشرة أنواع أكلُها محرَّم : لحم الميتة : وهي الحيوان الذي مات من غير ذبح شرعي. ولا يموت الحيوان إلا من مرض، وهذا المرض يجعل لحمه مضرّاً، والله تعالى لا يحب لنا الضرر. وكان العرب يأكلون لحم الميتة ويقولون : لِمَ تأكلون ما قتلتُم ولا تأكلون ما قتل الله ! ؟.
الدم : وكان العرب يأكلونه.
لحم الخنزير.
ما أُهل لغير الله : ويعني ما ذُكر اسمُ غير الله عند ذبحه. كلّ حيوان مات خنقا.
الموقوذة : وهي التي ضُربت حتى ماتت. وما سقط من مكان عال فمات. وما نطحه آخر فمات. وكل حيوان افترسه السبع فمات. إلا ما أدركتموه قبل أن يموت، فذبحتموه، فهو حلال لكم بالذبح. وكل حيوان ذبح للنُصُب والأصنام.
ويحرم عليكم أن تستقسِموا بالأزلام، وهي أعواد ثلاثة كان الجاهليّون يطلبون بواسطتها معرفة المغيبات. كان يُكتَب على أحدها «أمرني ربي » وعلى الثاني «نهاني ربّي » ويُترك الثالث دون كتابة. فكان من أراد سفَراً، أو زواجاً أو غير ذلك يأتي سادنَ الكعبة ويقول له : استقسِم لي، أي اعرِف لي ما قسم الله لي. فيُخرج السادن هذه الأعواد ويحرّكها في كيس أو جراب ثم يسحب واحداً. فإذا خَرج الذي عليه «أمرني ربي » أقدم الرجل على ما نوى، وإذا خرج الذي عليه «نهاني ربي » امتنع عن العمل. وإن خرج الثالث واسمه الغُفْل، أعاد السحبَ من جديد.
وهذا وما شابه من الخرافات والأوهام لا يركن إليها إلا ضعيف العقل والإيمان. وقد حرّمها الإسلام «ذلكم فِسْق »، فهي خروج عن طاعة الله، فامتنِعوا عنه.
﴿ اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ ﴾
انقطع رجاؤهم في القضاء عليكم، فلا تخافوا أن ينقلبوا عليكم واتّقوا مخالفة أوامري.
﴿ اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.. ﴾
نزلت هذه الآية يوم الجمعة، بعرفة، في حجة الوداع، «وأتممتُ عليكم نعمتي » بإعزازكم وتثبيت أقدامكم، «واخترت لكم الإسلام دينا ».
روى الطبري في تفسيره أن النبي عليه السلام لم يعشْ بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام، فكانت آخر ما نزل من القرآن.
ونعود الآن إلى عطف على آية التحريم، لنجد ترخيصاً فيه منطق وتيسير. إنه يقول : لقد عددتُ المحرّمات، لكن من ألجأته الضرورة إلى تناول شيء منها ففعَل، لدفع الهلاك عن نفسه، غير متعدٍّ ذلك الحد، ولا منحرف عن أوامر الله فلا إثم عليه أن يأكل. إن الله يغفر له، فالضرورات تبيح المحذورات.
مكلبين : من التكليب، وهو تعليم الكلاب الصيد، وصار يستعمل في تعليم الجوارح.
يسألك المؤمنون أيها الرسول : ماذا أُحل لنا من الطعام ؟ فقل لهم : أُحِلّ لكم كل طيب تستطيبه النفوس السليمة، وأُحل لكم صيدُ الجوارح التي علّمتموها الصيدَ بالتدريب. مستمدِّين ذلك مما علّمكم الله، فكلوا ما تمسكه هذه الجوارح عليكم وتصيده لكم. واذكروا اسم الله عند إرسالها كما روي ذلك عن ابن عباس «إذا أرسلتَ كلبَك وسمَّيْتَ فأخذَ، فقتَل، فكُل ». واتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فإنه سريع الحساب.
الأجور : المهور.
محصنِين : أعفّاء.
مسافحين : مجاهرين بالزنا.
أخدان : عشاق.
حبط عمله : بطل ثواب عمله.
اليوم، بعد نزول هذه الآية، أُحلت لكم الطّيبات وصار حكمها مستقراً ثابتاً. وأُحلّّ لكم طعامُ اليهود والنصارى وذبائحهم مما لم يرد نص بتحريمه، كما أُحلّ طعامكم لهم. ومن النساء أَحلَّ الله لكم نكاح الحرائر العفيفات من المؤمنات، ومن نساء أهل الكتاب، إذا أدّيتم لهن مهورهن بقصد الزواج، لا لإنشاء علاقات غير شرعية، أو اتخاذ عشّاق. كل هذا حلال لكم. ومن ينكر شرائع الإسلام التي من جملتها ما بينّا هنا فقد بطَل ثواب عمله وخاب، وهو في الآخرة من الهالكين.
إذا أردتم أن تقوموا إلى الصلاة، أيها المؤمنون، ولم تكونوا متوضئين، فابدأوا بغسل وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا رؤوسكم كلَّها أو بعضها، واغسِلوا أرجلكم إلى الكعبين.
هذه هي فروض الوضوء، أما سُننه ومستحباته فهي مفصّلة في كتب الفقه. وعند الشيعة الإمامية يجب مسح ظاهر القدمين إلى الكعبين فقط. وقد قال بعض علماء السلَف بالمسح، لكنْ مسح القدمين بكاملهما إلى الكعبين.
أما إذا كنتم جنُباً وتودون الصلاة فعليكم أن تتطهروا بغسل جميع جسدكم بالماء. وإن كنتم مرضى مرضاً يضر معه استعمال الماء فتيمّموا. فإن كنتم مسافرين ولم تجدوا ماء فتيمّموا. وإذا ذهبتم لقضاء الحاجة، أو لامستم النساء ولم تجدوا ماء فتيمموا أيضاً، ففي ذلك كفاية.
وكيفية التيمُّم أن يضربَ بكفّيه على التراب ويمسح بهما وجهه، ثم يضرب ضربةً أخرى يمسح بها كفّيه إلى الرسغين.
الترخيص تيسيرٌ من فضل الله، فهو لا يريد أن يُحرجنا، بل أن يطهّرنا ظاهراً وباطناً وأن يُتم نِعمَه علينا بالهداية والبيان والتيسير، حتى نشكره على ذلك بالمداومة على طاعته. انظر الآية ( ٤٣ ) من سورة النساء.
قراءات :
قرأ ابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب «وأرجلكم » بنصبه، وقرأ حمزة والكسائي «وأرجلكم » بجره، عطفاً على «رؤوسكم ». وقرأ حمزة والكسائي «لمستم » دون ألف، والباقون «لامستم ».
شهداء بالقسط : بالعدل.
لا يجرمنكم : لا يحملنكم. الشنئان : البغض الشديد.
بعد أن أمر الله عباده بالوفاء بالعقود عامة، ثم امتنّ عليهم بإباحة كثير من الطيبات وأمرهم بالطهارة مع رفع الحرج عنهم- دعاهم إلى العدالة المطلقة مع الأولياء والأعداء على السواء.
يا أيها المؤمنون، حافِظوا على أداء حقوق الله دائماً، وأدّوا الشهادة بين الناس بالعدل، فالعدل ميزان الحقوق. وحين يسود الجور والظلم في أمةٍ تزول الثقة في الناس. لذا انتشرت المفاسد وتقطّعت روابط المجتمع في هذه الأيام.
ولا تسمحوا لأنفسكم أن تنساق وراء مشاعركم الخاصة، فلا يجوز أن يدفعكم بُغضكم الشديد لقوم أن تُجانِبوا العدلَ معهم. إن العدل منكم أقربُ للتقوى وخشية الله، فاخشوا الله في كل أموركم، إنه عليم بها، وسيجازيكم على أساسها. فالعدالة في الإسلام أساس عظيم ترتكز عليه هذه العقيدة المتينة التي ترتقي بها النفوس إلى أعلى مستوى في هذه الحياة.
وقد كثرت أوامر الله في القيام بالعدل، فأمر به عاماً وخاصاً، مع المخالفين في الدين، وفي الحكم والقضاء، وبين الأولاد والزوجات، بل أمر به المؤمنَ مع نفسه.
وهكذا يأتي القرآن بصور متقابلة في كثير من آياته حتى يظهر الفرق بين المؤمن والكافر، وما ينتظر كلاً منهما.
وهناك عدة روايات أخرى.. والمهمّ أن الله تعالى يمنّ على المؤمنين ويذكّرهم بنعمه عليهم.
يا أيها الذين آمنوا، تذكّروا نعمة الله عليكم وقت الشدّة حين همَّ قوم من المشركين أن يغدِروا بكُم وبنبيّكم، فأحبط الله كيدهم وكفّ أذاهم. فاتّقوا الله الذي أراكم قدرته على أعدائكم، وتوكّلوا عليه وحده في جميع أموركم، إنه خير كافل وأعظم معين.
عزرتموهم : نصرتموهم.. التعزير يأتي بمعنى النصر والتعظيم.
لقد أخذ الله عهداً على بني إسرائيل أن يعملوا بما في التوراة، شريعتهم التي اختارها لهم، ولا يزال هذا الميثاق في آخر الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى. يومذاك أقام عليهم اثني عشر رئيساً منهم لتنفيذ العهد، ووعَدَهم أن يكون معهم ويمُدّهم بالعون والنصر إن أقاموا الصلاة على حقيقتها، وأدوا الزكاة المفروضة عليهم، وصدّقوا بجميع رسله ونصروهم، ثم بذلوا المال نافلةً منهم في سبيل الخير. إذا فعلوا كل ذلك، تجاوزَ عن ذنوبهم، وأدخلهم جناتٍ في الآخرة تجري من تحتِها الأنهار. أما من جحد ونقض العهد فقد حاد عن الطريق السويّ، فله جزاءٌ آخر.
وقد كُتب الكثير في هذا الموضوع في الغرب والشرق. والأقوال في المسيح كثيرة، عُقدت لتصفية الخلافات فيها عدة مجامع. منها :«مجمع نيقية » عام ٣٢٥ ميلادية، و «مجمع القسطنطينية » عام٣٨١م. و «مجمع إفسس » عام ٤٣٠م. و «مجمعُ خلقيدونية » عام ٤٥١م، وغير ذلك. ومن أحبَّ التفصيل فليراجع كتاب «محاضرات في النصرانية » للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة.
والله تعالى هنا يكذّب الجميع ويقول : لقد كفر الذين زعموا باطلاً أن الله هو المسيح ابنُ مريم. اسألهم يا محمد : هل يقدر أحد على دفع الهلاك والموت عن المسيح وأمه، بل عن سائر الخلق جميعاً، إن أراد
الله أن يهلكهم ؟ إن هناك فرقاً مطلقاً بين ذات الله سبحانَه وطبيعتِه ومشيئته وسلطانه، وبين ذات عيسى وذاتِ أمه وكلّ ذاتٍ أخرى. فذاتُ الله واحدة، ومشيئته طليقة، وسلطانه منفرد. فإذا كان المسيح لا يستطيع أن يدفع عن نفسه أو أمه الهلاك، كما لا يستطيع أن يدفعه عن غيره، فكيف يكون هو الله ؟ ! إن لله وحدَه، لا لعيسى، مُلك السماوات والأرض وما بينهما، يخلق ما يشاء على أي مثال أراد، والله على كل شيء قدير.
والتفسير :
قالت اليهود والنصارى : نحن المفضَّلون، لأننا أبناء الله والمحَبَّبُون لديه. فقل لهم أيها الرسول : لماذا يعذّبكم بذنوبكم إذن ؟ ولماذا يُدخلكم نار جهنم بأعمالكم ؟ إنكم في قولكم هذا لكاذبون، فما أنتم إلا بشر كسائر الناس. والله تعالى بيده كل شيء، يغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء. هو ربّ السماوات والأرض وإليه مَردُّ كل مخلوقاته.
وإذا نظرنا لحالنا اليوم وجدنا أنفسنا أتعس من أولئك اليهود.. لقعودنا عن الجهاد وجُبننا عنه، وضعفنا وتشتُّت كلمتنا. لقد تخلَّفنا عن الجهاد في سبيل وطننا السليب، وصار بعضُ حكامنا ينتظرون من أميركا وبريطانيا، حلفاءِ عدوّنا وشركائه في الجريمة، أن يساعدونا على حل مشكلتنا. والحق، أننا طوال ما ظلننا على هذه الحال فسنظل مشرّدين معذّبين، يضل اليهود يحتلّون أرضنا وينتهكون حرمة مقدّساتنا. ولعلنا نستفيدُ من هذه العِبر ونتدّبر قرآننا ونعتبر بهذا التأديب الإلَهي.
النبأ : الخبر.
القربان : ما يُتقرّب به من الذبائح والصدقات.
بسَط يده : مدّها ليقتله.
تبوء بإثمي : تلتزم بجريرتي.
في هذه الآية والتي تليها بيان بعض الأحكام التشريعية الأساسية في الحياة البشرية، وهي التي تتعلق بحماية النفس والحياة، والنظام العام، والسلطة التي تقوم عليه، في ظل شريعة الله. وقد بدأها سبحانه بقصة ابني آدم، وهي قصةٌ تكشف عن طبيعة الجريمة وبواعثها في النفس البشرية.
اتلُ يا محمد، على الناس ذلك النبأ العظيم، وهو خبر ابنَي آدم : هابيل وقابيل. لقد قدّم كل واحد منهما قرباناً إلى الله. كان هابيل صاحبَ غنَم فقدّم أكرم غنمِه وأسمنها ( وهذا يمثّل طور البداوة والرعي ). وكان قابيل صاحَب زرعٍ فقدم شرَّ ما عنده ( وهذا يمثل طور الزراعة والاستقرار ). فتقبّل الله قربان هابيل ( الراعي ) ولم يتقبَّل قربان قابيل ( المزارع )، ( وكانت علامة القبول أن تأتَي نار وتحرقَ القربان المقبول ). فحسد قابيلُ أخاه وتوعّده بالقتل حقداً عليه، فرد عليه الأخير أن الله لا يتقبّل العمل إلا من الأتقياء المخلصين.
لم تنفع معه المواعظ التي قدّمها أخوه، ولم يخشَ بشاعة الجريمة وما يترتب عليها من إثم وعقاب. وظلّت نفسه الأمارة بالسوء تشجّعه حتى قتل أخاه، فأصبح من الخاسرين : خسر نفسه فأوردها موارد الهلاك، وخسر أخاه ففقد الناصر والرفيق.
لقد خسر دنياه فلم تعد تهنأ له حياة، وخسر آخرته بدخوله النار. كذلك أصبح حائراً لا يدري ماذا يصنع، بعد أن رأى جثة أخيه وقد بدأ يسري فيها العفن.
وفي الحديث الصحيح «لا تُقتل نفسٌ ظلماً إلا كان على ابنِ آدم كفلٌ من دمها، لأنه أولُ من سنّ القتل ».
بسبب هذا الجرم الفظيع الذي ارتكبه ابن آدم أوجبنا قتْل المعتدي، لأن من قتل نفساً واحدة ظلماً وعدواناً بغير سبب موجب للقصاص، ولا فسادٍ يخلّ بالأمن، مثل ( قتْل الأنفس ونهب الأموال وقطْع الطرق ) فكأنما قتل الناس جميعاً.
هذا دليل على تعظيم أمر القتل العمد، وبشاعة هذا الجرم الكبير. فقتلُ النفس الواحدة كقتل جميع الناس عند الله. لأن القاتل هتك حرمة دمائهم، وجرّأ غيره عليها.
ومن كان سببا في إنقاذ نفس من الموت وإحيائها فكأنّما أحيا الناس كلهم، لصيانته دماء البشر، فهو يستحق الثواب العظيم من الله.
والآن.. ما جزاء من يقتل المئات والألوف بأمرٍ منه ! سواء كان القتل بوسائل الحرب أم بالتجويع أم بقتل حرّيتهم عن طريق تجريدهم منها، فهو قتلٌ على كل حال ؟ فانظروا أيها المسلمون، إلى واقعكم وتدبّروا أمركم، والله في عونكم حين تؤوبون إلى صراطه. فالاعتداء على الفرد اعتداءٌ على المجتمع، لذلك قال الفقهاء : إن القصاص حق لولي الدم، إن شاء عفا وأخذ الدية، وان شاء طلب القصاص.
وفي الآية إرشاد إلى ما يجب من وحدة البشر وحرص كل منهم على حياة الجميع. وكثيراً ما يشير القرآن إلى وحدة الأمة ووجوب تكافلها وتضامنها، كما يؤكد وجوب تآزرها لرفع الضّيم عن حقوقها المهدورة.
ولقد بعث الله الرسل بالآيات الواضحة إلي البشر. فلم تغنِ عن الكثير منهم شيئا، إذ لم تهذب نفوسهم ولم تطهر أخلاقهم، فكانوا رغم كل ذلك يسرفون في الأرض فساداً.
والحكمة في عدم التعيين والتفصيل أن المفاسد كثيرة تختلف باختلاف الزمان والمكان، فيختلف ضررها كذلك فللإمام الّذي يختاره المسلمون أن يقتلهم إن قتلوا، أو يصلبهم إن جمعوا بين أخذ المال والقتل، أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على أخذ المال، أو أن يُنْفَوا من الأرض إن أخافوا الناس وقطعوا عليهم الطرق ولم يقتلوا.
إن ذلك العقاب ذلّ لهم وفضيحة في الدنيا ليكونوا عبرة لغيرهم من الناس، وجزاؤهم عذاب عظيم في الآخرة.
وفي هذا الحكم بيانُ أن الشريعة الإسلامية تنظر إلى آثار الجريمة التي فيها اعتداء مباشر على المجتمع، وتجعل العقوبة بقدر ما تحدثه الجريمة من اضطراب فيه، لا بقدر ذات الجرائم المرتكبة فقط.
ويُروى في سبب نزول هاتين الآيتين أن نفراً من قبيلة عُكل وعرينة قدموا المدينة، وأعلنوا الإسلام، فأمر لهم النبيّ بعدد من الإبل وراعٍ، وأمرهم أن يقيموا خارج المدينة، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحَرَّة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا الراعي وهربوا بالإبل. وحين بلغ ذلك النبيَّ بعث بعض أصحابه فأدركوهم، وأحضروهم إلى المدينة. فعاقبهم الرسول الكريم أشد عقاب وقُتلوا جميعاً.
وعلى كل حال فإن العبرة بعموم اللفظ. وقد احتج بعموم هذه الآيات جمهور العلماءِ وقالوا : إن حكْم الذين يحاربون الله قائم، في أي مكان حصل منهم الاعتداء، في المدن والقرى، أم خارجها، لقوله تعالى :﴿ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً ﴾. وهذا مذهب مالك والأوزاعي واللّيث بن سعد، والشافعي وأحمد بن حنبل. وزاد مالك فقال : إن الذي يحتال على الرجل حتى يُدخله بيتاً فيقتله ويأخذ ما معه إنما قد حارب الله، دمُه مهدور، يقتله السلطان، حتى لو عفا عنه أولياء المقتول. وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا تكون إلا في الطرق وخارج المدن.
الوسيلة : ما يتوسل به الإنسان إلى ثواب الله، والفعل ( وسل ) بمعنى تقرَّب، واسمٌ لأعلى منزلة في الجنة.
الجهاد : من الجهد والمشقة.
سبيل الله : كل عمل في طريق الخير والفضيلة وفي الدفاع عن العقيدة والوطن، فكل عمل في هذه الأمور هو جهاد في سبيل الله.
بعد أن ذكَر الله تعالى أن اليهود قد هموا ببسْط أيديهم إلى الرسول الكريم حسداً منهم لقوله، وغروراً بدينهم وأنفسهم أمر المؤمنين أن يتّقوا ربهم. وذلك باجتناب نواهيه، والتقرب إلى ثوابه ومرضاته بالإيمان والعمل الصالح. ثم أمرهم أن يجاهدوا في سبيله بإعلاء كلمته، ومحاربة أعدائه، كل ذلك للفوز بالفلاح.
أما الوسيلة التي هي منزلة من أعلى منازل الجنة فقد وردت في الأحاديث الصحيحة عن عدد من الصحابة الكرام.
روى البخاري وأحمد وأصحاب السنن عن جابر بن عبد الله أن النبي عليه الصلاة والسلام قال :«من قال حين يسمع الأذان : اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، حلّت له شفاعتي يوم القيامة ».
روى مسلم والنسائي عن أنس بن مالك أن رسول الله قال :«يؤتى بالرجل من أهل النار فيقال له : يا ابن آدم، كيف وجدت مضجعك ؟ فيقول : شر مضجع. فيقال : هل تفتدي بتراب الأرض ذهباً ؟ فيقول : نعم يا رب، فيقول الله تعالى : كذبتَ، سألتُك أقلَّ من ذلك فلم تفعل، فيؤمر به إلى النار ».
بعد أن بيّن سبحانه عقاب الذين «يحاربون الله ورسوله »، وأمر بتقوى الله، وابتغاء الوسيلة والجهاد في سبيله، ذكّرنا بعقاب اللصوص السارقين. وقد جمع في هذه الآيات الكريمة بين الوازع الداخلي وهو الإيمان والصلاح، والوازع الخارجي وهو الخوف من العقاب والنكال.
يا ولاة الأمور، اقطعوا يد من يسرق مِن الكف إلى الرسغ. وذلك لأن السرقة تحصل بالكف مباشرة. وتُقطع اليد اليمنى أولاً لأن التناول يكون بها في الغالب.
والسرقة هي أخذُ مال الغير المحرَزِ خفيةً، فلا بد أن يكون المسروق مالاً مقوَّما. والمبلغ المتفق بينَ فقهاء المسلمين على عقوبة سرقته هو ربعُ دينار. ولا بد أن يكون هذا المالُ محفوظاً في دار أو مخزن وأن يأخذه السارق من هناك. فلا قطع مثلاً على المؤتمن على مالٍ إذا سرقه أو أنكره. وكذلك الخادم المأذون له بدخول البيت لا يُقطع فيما يسرق. ولا على المستعير إذا جَحَد العارية. ولا على سارق الثمار في الحقل. ولا على المال خارج البيت أو الصندوق المعد لصيانته.
ولا قطْع حين يسرق الشريكُ من مال شريكه، ولا على الذي يسرق من بيت مال المسلمين. وعقوبة هؤلاء هي التعزير أو الحبس أو ما يراه القاضي.
والشُبهة تَدرأ الحدَّ، فشبهة الجوع والحاجة تدرأه، وشبهة الشركة في المال تدرأه، ورجوع المعترف وتوبته تدرأ. وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام «إدرأوا الحُدودَ بالشُبُهات » وفي ذلك يقول سيدنا عمر بن الخطاب :«لأَنْ أَعطِّلَ الحدودَ بالشُبهاتِ أحبُّ إليَّ من أن أقيمَها بالشُبُهات ».
والعقوبة هنا على السرقة الصريحة، أمّا السرقة الضمنية، كالالتواء في التجارة وسرقة أقوات الشعب بتهريب الأموال إلى خارج دار الإسلام، فلها أحكام أخرى.
والإسلام يكفل حق كل فرد في الحصول على ضرورات الحياة، فمن حق كل فرد ( حتى غير المسلم ) الحصولُ على ضرورات الحياة، أن يأكل ويشرب ويلبس ويكون له بيت يؤويه، وأن يوفَّر له العمل ما دام قادراً. فإذا تعطَّل لعدم وجود العمل، أو لعدم قدرته على العمل، فله الحق بأن تؤمِّن له الدولة الضروري من العيش. فإذا سرق وهو مكفيّ الحاجة، فإنه لا يُعذر، ولا ينبغي لأحد أن يرأف به.
فأما حين توجد شُبهة من حاجة أو غيرها، فالمبدأ العام في الإسلام هو درءُ الحدود بالشُبهات. ولذلك لم يوجِب سيدنا عمر القطعَ في عام الرّمادَة حيث عمَتِ المجاعة. كذلك لم يقطع عندما سرق غلمانُ حاطبٍ بن أَبي بلتعة ناقةً رجل من مزينة ثم تبين للخليفة أن سيِّدهم يتركهم جياعاً.
هكذا يجب أن نفهم الحدودَ في الإسلام : يضع الضمانات للجميع، ويتخذ أسباب الوقاية قبل العقوبة.
﴿ والله عزيز حكيم ﴾ عزيز في انتقامه من السارق وغيره من أهل المعاصي، حكيم في وضعه الحدود والعقوبات بما تقتضي المصلحة.
قال الأصمعي : كنت أقرأ سورة المائدة ومعي أعرابي، فقرأ هذه الآية فقلت «والله غفور رحيم » سهواً. فقال الأعرابي : كلام من هذا ؟ قلت : كلام الله. قال : أعِد، فأعدت. ثم تنبّهت فقلت «والله عزيز حيكم ». فقال : الآن أصبت، فقلت : كيف عرفت ؟ قال : يا هذا «عزيز حكيم » فأمَرَ بالقطع، ولو غفر ورحم لما أمر به. فقد فهم الأعرابي أن مقتضى العزة والحكمة غير مقتضى المغفرة والرحمة.
ولا يسقط الحد عن التائب، ولا تصحّ التوبة إلا بإعادة المال المسروق بعينه إن كان باقيا أو دفعٍ قيمته إن هلك.
سارعَ في كذا : أسرع فيه وهو داخل فيه، وهنا الكفّار داخلين في الكفر. الفتنة : الاختبار، كما يُفتن الذهب بالنار.
يا أيها الرسول : خطاب للنبي، وقد ورد الخطاب في جميع القرآن الكريم بعبارة «يا أيّها النبي » إلا هنا في هذه الآية، والآية ٦٧ من هذه السورة ﴿ يا أيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ﴾. هذا الخطاب للتشريف والتعظيم، وتعليمٌ للمؤمنين أن يخاطبوه بهذا الوصف العظيم.
أيها الرسول، لا تهتم بهؤلاء المنافقين الذين يتنقلون في مراتب الكفر من أدناها إلى أَعلاها، ويسارعون في التحيز إلى أعداء المؤمنين عندما يرون الفرصة سانحة، فالله يكفيك شرّهم، وينصرك عليهم وعلى من ناصرهم.
﴿ مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ... ﴾.. أي الذين ادَّعوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم.
﴿ وَمِنَ الذين هِادُواْ.. ﴾. ومن اليهود الذي يُكثرون الاستماعَ إلى ما يقوله رؤساؤهم وأحبارهم في النبي صلى الله عليه وسلم والاستجابة لطائفة منهم، لم يحضروا مجلسَك تكبُّراً وبغضاً. فهم جواسيس بين المسلمين يبلّغون رؤساءَهم أعداءَ الإسلام كل ما يقفون عليه من أخبار، ويحرّفون ما يحرفون، ثم ينقلون تلك الأكاذيب إلى الأحبار المتخلّفين عن الحضور.
﴿ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ.. ﴾. أي يحرّفون كلام التوراة بعد أن ثبّته الله في مواضعه المعّينة إما تحريفاً لفظياً بإبدال كلماته، أو بإخفائه وكتمانه تسهيلاً لزيادةٍ فيه أو النقص منه، وإما تحريفاً معنوياً بالالتواء في التفسير.
روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن عمر رضي الله عنه قال :«أن اليهود أتوا النبي صلى لله عليه وسلم برجلٍ منهم وامرأةٍ قد زنيا فقال : ما تجدون في كتابكم ؟ قالوا : نُسَخِّم وجوههما ويخزيان، قال : كذبتم إن فيها الرجم، فأْتُوا بالتّوراة فاتلوها إن كنتُم صادقين. فجاؤوا بالتوراة مع قارئ لهم أعور يقال له ابن صوريا. فقرأ، حتى إذا أتى إلى موضع منها وضع يده عليه، فقيل له : ارفع يدك. فرفع يده، فإذا هي تلوح يعني «آية الرجم »، فقالوا : يا محمد، إن فيها الرجم، ولكنّا كنّا نتكاتمه بيننا. فأمر بهما رسول الله فرُجما ».
ومن قبيل ذلك ما قاله مارتن لوثر في كتابه : اليهود وأكاذيبهم. «هؤلاء هم الكاذبون الحقيقيون مصّاصو الدماء، الذين لم يكتفوا بتحريف الكتاب المقدّس وإفساده، من الدفة إلى الدفة، بل ما فتئوا يفسّرون محتوياته حسب أهوائهم وشهواتهم... الخ » وهي كلمة طويلة.
﴿ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ... ﴾ يقول أولئك الرؤساء لأتباعهم الذين أرسلوهم ليسألوا النبيّ عن حكم الرجل والمرأة الزانين إن أعطاكم محمد رخصة بالجَلد عوضاً عن الرجّم فخُذوها، وارضوا بها، وإن حكَمَ بالرَّجم فارفضوا ذلك.
﴿ وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ... ﴾ ومن يُرد الله اختباره في دينه فيُظهر الاختبارُ ضلالَه وكفره، فلن تملِك له يا محمد شيئاً من الهداية. هؤلاء المنافقون والجاحدون من اليهود.. قد أظهرت فتنةُ الله لهم مقدارَ فسادهم، فهم يقبلون الكذب ويحرفون كلام الله، اتباعاً لأهوائهم ومرضاة رؤسائهم. لا تحزن البتةَ على مسارعتهم في الكفر، ولا تطمع في جذبهم إلى الإيمان، ولا تخفْ عاقبة نفاقهم فإنما العاقبة للمتقين.
﴿ أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله... ﴾ إنّ الذين بلغت منهم الفتنة ذلك المبلغ هم الذين لم يرد الله تطهير قلوبهم من الكفر والنفاق، فلن تستطيع أن تهديهم، لهم في الدنيا خِزي وذلّ ولهم في الآخرة عذاب شديد.
المقسِط : العادل.
أعاد الله وصفهم بكثرة السماع للكذب، للتأكيد، وبيان أن أمرهم كلَّه مبنيٌّ على الكذب. كما وصفهم بأنهم أكالون للسحت، أي الحرام، لأنه انتشر بينهم، كالرشوة والربا واختلاس الأموال. وكل ذلك شائع في مجتمعنا نحن الآن مع الأسف.
فإن جاؤوك لِتحكم بينهم فأنت مخيَّر بين الحكم بينهم والإعراض عنهم. فإن اخترتَ الإعراض عنهم فلن يضروك بأي شيء، لأن الله عاصمُك من الناس.
وإن اخترتَ أن تحكم بينهم فاحكم بالعدل الذي أمَر الله به، وهو ما تضمّنه القرآن واشتملت عليه شريعة الإسلام. إن الله يحب العادلين. قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب السُّحُت بضمتين، وهما لغتان.
الذين هادوا : اليهود.
الربانيون : المنسوبون إلى الرب.
الأحبار : جمع حَبر، وهو العالِم.
بما استحفظوا من كتاب الله : بما طُلب إليهم حفظه منه.
شهود : رقباء على الكتاب وعلى من يريد العبث به.
بعد أن ذكر سبحانه حال اليهود من تَرْكِهم حكم التوراة، وطلبِهم من النبي أن يحكم بينهم، ثم رفضهم الحكم لمّا خالف أهواءهم بيّن لنا سبحانه وتعالى صفة التوراة التي يرفضونها فقال :
التوراة هداية أُنزلت على موسى لبني إسرائيل، لكنهم أعرضوا عن العمل بها، لما عَرَض لهم من الفساد. وفي ذلك من العبرة أن الانتماء إلى الدين لا ينفع أهلَه إذا لم يقيموه ويهتدوا بهديه، وأن إيثار اليهود أهواءهم هو الذي أعماهم عن نور القرآن والاهتداء به.
إنا أنزلنا التوراة على موسى مشتملة على الهدى والإرشاد.
وبهذا الهدى والنور خرج بنو إسرائيل من وثنية الفراعنة إلى طريق التوحيد..
بموجب التوراة هذه كان يحكم النبيّون الذي أخلصوا في دينهم، موسى ومن بعده من أنبياء بني إسرائيل إلى وقت عيسى عليه السلام. كذلك كان يحكم بها الربانيون والأحبار في الأزمنة التي لم يكن فيها أنبياء، أو بإذنهم حالَ وجودهم. وكانوا شهودا رقباء على ذلك الكتاب وعلى من تحدثه نفسه العبث به.
وقبل أن ينتهي السياق من الحديث عن التوراة يتجه الحديث إلى المؤمنين عامة، فيدعوهم إلى الحكم بكتاب الله، ويذكّرهم أن من واجب كل من استُحفظ على كتاب الله أن يحفظه.
﴿ فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون... ﴾ فلا تخافوا الناس في أحكامهم، وخافوني أنا ربكم ربّ العالمين. ولا تجروا وراء طمعكم فتبدّلوا بآياتي التي أنزلتها ثمناً قليلا من متاع الدنيا كالرشوة والجاه وغيرها. إن كل من رغب عن الحكم بما أنزل الله أو أخفاه وحكَم بغيره لهو كافر، يستر الحق ويبدي الباطل. فأين يقع حكّامنا هذه الأيام !
فالأصلُ القصاصُ : النفسُ بالنفس الخ.... ثم جاء التسامح الإسلامي بأنَّ من تصدَّق بما ثَبَتَ له من حق القصاص، وعفا عن الجاني، كان عفُوه كفّارةً له، ويكفّر الله بها ذنوبه. وقد تميز الإسلام بتسامحه، وورد ذلك في كثير من الآيات والأحاديث وسِير الصحابة الكرام.
ويقول النبي عليه الصلاة السلام :«أيعجِز أحدكُم أن يكون كأبي ضمضم ؟ كان إذا خرج من بيته تصدَّق بعرضه على الناس » ( أي آلى أن يسامح من قد يشتمونه ). وأبو ضمضم هذا مّمن كان قبلَنا من الأمم السابقة، كما جاء في رواية أبي داود.
وروى الإمام أحمد، قال :«كسرَ رجُل من قريش سنَّ رجل من الأنصار، فاستعدى عليه معاوية، فقال : معاوية : استَرضِه. فألحَ الأنصاري، فقال معاوية : شأنك بصاحبك، كان أبو الدرداء جالساً فقال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«ما مِن مسلم يصابُ بشيء من جسدِه فيتصدَّق به إلا شرفه اللهُ به درجة، أو حطَّ به عنه خطيئة » فقال الأنصاري : فإني قد عفوت.
هكذا يعلّمنا الله ورسوله أن نكون متسامحين في أمورنا جميعها، وأن نطلب العوض من الله. وبعد هذا العرض يعقّب بالحكم الصارم بقوله تعالى :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون ﴾.
إن كل من كان بصدد الحكم في شيء من هذه الجنايات، فأعرضَ عما أنزل اللهُ من القصاص المبنيّ على قاعدة العدل والمساواة بين الناس، وحكم بهواه، فلْيعتبر نفسَه من الظالمين. وجزاء هؤلاء معروف.
في الآية التي قبلها كان الوصف هو «الكافرون » وهنا «الظالمون »، لكن هذا لا يعني أن الحالة الثانية غير التي سبق الوصف فيها بالكفر، وإنما يعني الإضافة. فمن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون الظالمون.
قراءات :
قرأ نافع : والأذْن بالأذْن، بإسكان الذال حيث وقع. وقرأ الكسائي وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : والجروحُ، بضم الحاء.
الفاسق : الخارج عن حظيرة الدين.
وبعثنا عيسى بن مريم بعد أولئك النبيّين الذين كانوا يحكمون بالتوراة متّبعاً أَثَرهم جارياً على سُننهم، مصدّقاً للتوراة التي تَقَدَّمتْه بقوله وعمله. فشريعة عيسى عليه السلام هي التوراة التي لم تحرَّف. وقد ورد في الأناجيل أنه قال :«ما جئت لأنقُض الناموس، وإنما جئت لأتمِّم »، يعني لأزيد عليها ما شاء الله من الأحكام والمواعظ.
وقد أعطيناه الإنجيل، مشتملاً على الهدى، ومنقذا من الضلال في العقائد والأعمال : كالتوحيد، والتنزيه النافي للوثنية. وقد جعل الله في الإنجيل هدى ونوراً وموعظة للمتقين كما جعله منهج حياة وشريعةَ حكمٍ لأهل الإنجيل، وليس رسالة عامّة للبشر، شأنه في هذا شأنَ التوراة، لا شأن القرآن الكريم.
﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون ﴾إن كل من لم يتقيد بالأحكام بشرائع الله لهو من الخارجين عن حكم الله، المتمردين عليه. والنص هنا عام. وصفة الفسق تضاف إلى صفتي الكفر والظلم من قبل. فالكفر برفض ألوهية الله ممثِّلاً ذلك في رفض شريعته، والظلم بحمل الناس على غير شريعة الله، والفسق بالخروج عن منهج حكم الله واتباع طريق غير طريقه.
فالله سبحانه وتعالى يعرض هذه المسألة بأنها إيمان أو كفر، لا وسَط في هذا الأمر، فالمؤمنون هم الذين يحكمون بما أنزل الله، والكافرون الظالمون الفاسقون هم الذين لا يحكمون بما أنزل الله. فإما أن يكون الحكّام قائمين على شريعة الله كاملة فهم من أهل الإيمان، وإما أن يكونوا قائمين على شريعة أخرى فهم من أهل الكفر والظلم والفسق. وكذلك الديانات.
قراءات :
قرأ حمزة : وليحكم، بكسر اللام ونصب الميم، والباقون بجزم الميم كما هو هنا في قراءة المصحف.
المنهاج : السبيل والسنّة.
الابتلاء : الاختبار.
استبِقوا : ابتدروا وسارعوا.
بعد أن بين الله تعالى أنه أنزل التوراة ثم الإنجيل، وذكر ما أودعه فيهما من فروض وواجبات وأحكام ألزم بها بني إسرائيل، جاء البيان هنا إلى الرسالة الأخيرة، الرسالة التي تعرض الإسلامَ في صورته النهائية، ليكون دين البشرية كلّها حتى يرث الأرض ومن عليها.
وأنزلنا إليك أيها النبي الكتاب الكامل، وهو القرآن، الذي أكملنا به دين الله. وقد جاءك مصدّقاً لما تقدَّمه من الكتب السماوية، وشاهداً لها بالصحة ورقيباً عليها، لأننا سنحفظه من التغيير. لذا احكُم بين أهل الكتاب، إذا تحاكموا إليك، بما في هذا القرآن. لا تتّبع أيها الرسول، في حكمك شهواتهم ولا تخضع لأهوائهم ورغباتهم. فبسببٍ من ذلك حرّفوا كثيرا من كتبهم.
روي أن اليهود عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا برسالته إذا تصالح معهم على التسامح في أحكام معينة، منها حكم الرجم وغير ذلك، فنزل هذا التحذير.
﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ... ﴾ لكل أُمة منكم أيها الناس، جعل الله منهاجاً لبيان الحق، وطريقاً واضحا في الدين تسيرون عليه، ولو شاء لجعلكم جماعة واحدة متفقة، لا تختلف مناهج حياتها وإرشادها في جميع العصور. لقد جعلكم شرائع ليختبركم فيما أتاكم، فيتبين المطيعَ والعاصي. انتهزوا الفرص أيها الناس، وسارِعوا إلى عمل الخيرات، فإنكم إلى الله ترجعون. يومئذ ينبئكم بحقيقة ما كنتم تختلفون فيه من أمور الدين، ويجازي كلاً منكم بعمله.
نحن نأمرك أيها الرسول، أن تحكم بينهم وفق شريعتك التي أنزلناها عليك، فلا تتبع رغباتهم أبداً، ولو لمصحلة في ذلك، كتأليف قلوبهم وجذبهم إلى الإسلام. فالحق لا يوصل إليه بطريق الباطل. واحذَرهم أن يميلوا بك من الحق إلى الباطل، كأن يصرفوك عما أُنزل إليك لتحكم بغيره.
أَخرج ابن جرير والبيهقي عن ابن عباس قال : قال كعب بن أسد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس من زعماء اليهود : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه. فأتوه فقالوا : يا محمد، إنك عرفت أنّا أحبار اليهود وأشرافهم وساداتهم، وأنّا إن اتّبعناك اتبَعنا اليهودَ ولم يخالفونا. وأن بيننا وبين قومنا خصومةً، فنخاصمهم إليك فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدّقك. فأبى الرسول ذلك، فأنزل الله عز وجل فيهم ﴿ وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله.... ﴾ الآية.
فإن أعرضوا عن حكمك يا محمد، بعد تحاكُمهم إليك، فاعلم أن الله إنما يريد أن يصيبهم بفساد أمورهم، لفسادِ نفوسهم، بسبب ذنوبهم التي ارتكبوها، ثم يجازيهم على أعمالهم في الآخرة.
وهذا النص يسمو بالشرع الإسلامي عن غيره، في الحكم بين الناس :
أولا- لأنه يسمو بالأحكام العادلة عن أن تكون تابعة لأوضاع الناس، فهي حاكمة على أوضاع الناس بالخير والشر.
وثانيا : لأنه جعل باب القانون في الدولة واحداً لكل الناس ولكل الطبقات.
أيريد أولئك الخارجون عن أمر الله ونهيه أن يحكموا بأحكام الجاهلية التي لا عدل فيها ولا هدى، بل الحِيل والمداهنة ! !
روي أن بني النَّضِير، من اليهود، تحاكموا إلى الرسول الكريم في خصومة كانت بينهم وبين بني قُريظة. وقد طلب بعضُهم أن يجري الحكم وفق ما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل وجعل دية القرظي ضعفَي دية النضيري. فقال عليه الصلاة والسلام : القتلى براء، يعنى سواء. فقالوا : نحن لا نرضى بذلك. فأنزل الله تعالى هذه الآية توبيخاً لهم. إذ كيف لهم وهم أهل كتاب وعلم أن يبغوا حكم الجاهلية ؟
قراءات :
قرأ ابن عامر «تبغون » بالتاء.
ومن يتولهم منكم : من يتخذهم أنصاراً وحلفاء.
لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صار الكفّار معه ثلاثة أقسام.
قسم صالحهم ووادعهم على أن لا يحاربوه ولا يظاهروا عليه أحدا ولا يوالوا عليه عدوه، وهم على دينهم آمنون على دمائهم وأموالهم.
وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة.
وقسم تركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا إلامَ يؤول أمره وأمر أعدائه.
وقد عامل الرسول كل طائفة من هؤلاء بما أمره الله به. فصالَح يهودَ المدينة، وكتب بينه وبينهم عهداً بكتاب. وكانوا ثلاثة طوائف هم : بنو قينقاع، وبنو النُضير، وبنو قريظة. فحاربه بنو قينقاع بعد معركة بدْرٍ وأظهروا البغي والحسد. ثم نقض العهدَ بنو النُّضير بعد ذلك بستة أشهر. ثم نقض بنو قُريظة العهدَ لما خرج إلى غزوة الخندق، وكانوا أشد اليهود عداوة للنبي والإسلام.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير في تفسيره عن عطية بن سعد قال :«جاء الصحابي عبادة ابن الصامت، من الخزرج، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، إن لي موالي من اليهود كثيرٌ عددُهم، وإني أبرأُ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله. وكان عبد الله بن أبي- رأس المنافقين- حاضراً، فقال : إني رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من مولاة مواليّ. فقال له رسول الله : يا أبا الحباب، أرأيتَ الذي نفِستَ به من ولاء يهود على عُبادة، فهو لك دونه » قال : إذنْ : أقبَل. فأنزل الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى ﴾
يا أيها الّذين آمنوا، لا يحِلُّ لكم أن تتّخذوا اليهودَ ولا النصارى نُصراءَ لكم على أهل الإيمان بالله ورسوله، فمن اتخذَهم كذلك فهو منهم، واللهُ ورسوله بريئان منه.
﴿ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾ إن اليهود بعضُهم أنصار بعض، والنصارى بعضهم أنصار بعض، وقد يتحالف اليهود والنصارى معاً، أما أن يتحالفوا أو يصدُقوا مع المسلمين فلا. وفي واقعنا الحاضر شاهد على ذلك.. ولقد نقض اليهود ما عقَده الرسول الكريم معهم من العهد من غير أن يبدأهم بقتال. وكذلك فعلت أوروبا في الحروب الصليبية، وتفعل أمريكا اليوم مع كل من يطلب الحرية لشعبه، والمسلمين خاصة.
﴿ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين ﴾ إن الله لا يهدي الذين يظلمون أنفسهم منكم بموالاة أعداء المؤمنين.
فإن اليهود بتدبير من النصارى، وبقوة سلاحهم أيضاً جاؤوا واغتصبوا فلسطين وأجواء من سورية ومصر، بمعونة أمريكا وسلاحها ومالها، ولا يزالون في حماية أمريكا. وحتى أوروبا والدول الغربية جميعاً فإنهم يعطِفون على اليهود أعداء العالم أجمع ونحن بحكم جهلنا، لا نزال نستنصر أمريكا وغيرها ونطلب المعونة منها، مع أننا لو اجتمعت كلمتُنا ووحّدنا صفوفنا، لما احتجنا إلى شيء من ذلك. ولكنّنا تفرّقنا، وبعُدنا عن ديننا ومزّقتنا الأهواء وحب المناصب. بذلك قوي اليهود من ضعفنا، فهم يهدّدوننا، ويهاجمون بلداننا وقرانا، ويعيثون في الأرض فسادا. هذا وكلُّ منّا يود المحافظة على منصبه ويبيع في سبيله كل ما عداه.
هذا تصويرٌ لحال المنافقين وبعضِ ضعاف الإيمان في المدنية. لم يكونوا واثقين من نجاح دعوة الإسلام، فكانوا يوالون اليهود ويسارعون إلى ذلك كلّما سنحت لهم فرصة. لذا ورد قوله تعالى ﴿ يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ ﴾ بمعنى أننا نخاف أن نتعرض لكارثة عامة فلا يساعدوننا. عسى الله يا محمد، أن يحقق النصر لرسوله وللمسلمين على أعدائهم، أو يُظهر نفاق أولئك المنافقين، فيصبحوا نادمين آسفين على ما كتموا في نفوسهم من كفر وشك. وقد تحقق وعد الله بالنصر للمؤمنين.
كان هذا النداء موجهاً في الأصل إلى المسلمين في المدينة المنورة، لكنه جاء في الوقت ذاته موجّها لكل المسلمين في جميع أركان الأرض، وفي كل زمان ومكان. وقد أثبت التاريخ والواقع أن عِداء النصارى لهذا الدين وأهله في معظم بقاع الأرض، لم يكن أقلَّ من عداء اليهود. وأكبر شاهدٍ هو ما يجري اليوم من دَعم أمريكا وأوروبا جميعها لليهود وتثبيتهم في فلسطين بكل ما يستطيعون من قوة ومال. فالنصارى بدافعٍ من تعصبهم قد حملوا للإسلام منذ ظهوره كلَّ عداوة وضغنٍ ولا يزالون. ولا نزال نعاني من الحروب الصليبية التي لم تنته إلى الآن. ولذلك فإن قوله تعالى :﴿ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾ حقيقةٌ قائمة.
أما النصارى العرب الذين يعيشون معنا ولا يمالئون الأعداء ضدّنا فإنهم مواطنون في ديار الإسلام، لهم ما لنا وعليهم ما علينا. والمعاملة التي يلقَونها أكبر شاهد على ذلك. بل إنهم في كثير من الحالات قد أخذوا أكثرَ مما لهم. وحتى اليهودُ الذين يعيشون في البلاد العربية، فإنهم معزَّزون مكرمون ما داموا يخدمون المجتمع الذي يعيشون فيه ضمن القانون، ونحن عندما نطلق كلمة نصارى أو يهود نقصد بذلك أولئك المعتدين من الغربيين وغيرهم.
حبطت أعمالهم : بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها نفاقاً كالصلاة والصيام، فخسروا أجرها وثوابها.
ويقول المؤمنون الصادقون متعجبين من حال المنافقين إذ أقسموا بأغلظ الأيمان لهم أنهم معهم، وأنهم مناصروهم على أعدائهم اليهود، أهؤلاء الذين بالغوا في حلْفهم بالله أنهم معكم في الدين مؤمنون مثلكم ؟ لقد كذبوا فبطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها نفاقاً. بذلك خسروا ما كانوا يرجون من الله. لقد صدق الله وعدَه مع المؤمنين المخلصين وخذَل الكافرين.
قراءات :
قرأ عاصم وحمزة والكسائي «ويقول » بالواو، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «يقول » بدون واو، وقرأ أبو عمرو «ويقول » بنصب اللام.
أعزّة على الكافرين : أشداء على الكافرين. كما قال تعالى في سورة الفتح ﴿ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ﴾.
بعد أن ذكر سبحانه أن من يتولّى الكافرين من دون الله يُعَدّ منهم، بيّن هنا حقيقةً دعّمها بخبر من الغيب أظهرَهُ الزمن يومذاك، وهي : أن بعض الذين آمنوا نفاقاً سيرتدّون عن الإسلام جهراً.
يا أيها الذين آمنوا : إن من يرجع منكم عن الإيمان إلى الكفر، لن يضر الله قليلاً ولا كثيراً. فالله سوف يأتي بَدَلَهم بقومٍ خير منهم، يحبّهم الله لأنهم يحبّونه، فيوفقهم للهدى والطاعة.
وسيكون هؤلاء ذوي تواضعٍ ورحمة بإخوانهم المؤمنين، وفيهم شدةٌ على أعدائهم الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخشون في الله لومة لائم. وذلك فضلُ الله يمنحه لمن يشاء ممن يستحقونه، والله كثير الفضل، عليم بمن هو أهل له.
في هذه الآية إخبار من الغيب، فإنه لما قُبض الرسول صلّى الله عليه وسلم ارتدّ كثير من العرب. وكان المرتدّون فريقين : فريقاً ارتدّ عن الإسلام، وفريقاً منع الزكاة. وكان قد ارتد في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، بنو مدلج ورئيسُهم ذو الخمار، وهو الأَسود العنسي. وكان كاهناً تنبّأ باليمَن، فأهلكه الله على يد فيروز الديلمي، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله فسُرّ به، وقُبض عليه السلام من الغد.
وارتدّ مُسَيلمة ومعه بنو حنيفة، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«من مسليمة رسولِ الله إلى محمد رسولِ اللهِ، سلام عليك : أما بعدُ فإني قد أُشْرِكتُ في الأمر معك، وإنّ لنا نصفَ الأرض ولقُريش نصف الأرض، ولكن قريشاً قوم يعتدون ».
فكتب إليه النبي :«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذّاب. السلامُ على من اتبع الهدى. أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ».
وحاربتْه جيوش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد، وقتله وحشيُّ قاتلُ حمزة، وكان يقول :«قتلتُ في جاهليتي خير الناس، وفي إسلامي شرَّ الناس ».
وتنبأ طُليحة بن خويلد الأسدي، وتبعه جمع غفير، فهزمه خالد بن الوليد. وهرب طليحة إلى الشام ثم أسلم فحسُن إسلامه.
وتنبأت سَجاحُ بِنت المنذِر، الكاهنة، وزوَّجت نفسها من مسيلمة، ولها قَصَص طويل في التاريخ، ثم أسلمت بعد ذلك وحسُن إسلامها.
وارتدّت سبع قبائل في عهد أبي بكر منهم : فَزارة، وغطفان، وبنو سليم، وبنو يربوع، وبعض بن تميم، وكِندة، وبنو بكر. وهؤلاء كلهم حاربهم أبو بكر يُناصره المهاجرون والأنصار، وهزمهم جميعاً، وهكذا ثبّت أبو بكر رضي الله عنه الإسلام بعزيمة صادقة، وإيمان قويّ راسخ. وقد وصف الله هؤلاء المؤمنين بستّ صفات : بأن الله يحبّهم وهم يحبّونه. وأنهم أشدّاء على الكفار رحماء بينهم. وأنهم يجاهدون في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم. وأنهم صادقون لا يخافون في الله لومة لائم.
قراءات :
قرأ نافع وابن عامر وأهل المدينة «من يرتدد » بدالين، والباقون «من يرتد » بإدغام الدالين.
راكعون : خاضعون.
يتولّ الله ورسوله : يتخذهما أولياء وناصرين.
إنما ولايتكم أيها المؤمنون، لله ورسوله، فلا ناصر ينصركم غيره، ورسوله، والمؤمنون الصادقون الذين يقيمون الصلاة ويحسنون أداءها، ويؤدون الزكاة وهم خاضعون.
قال الزمخشري في : الأساس «العربُ تسمِّي من آمن بالله ولم يعبد الأوثان، راكعاً ».
خافوا أيها المؤمنون في موالاة هؤلاء إن كنتم صادقين في إيمانكم. قراءات :
قرأ أبو عمرو ونافع والكسائي ﴿ من قبلكم والكفار ﴾ بالجر، والباقون «والكفار » بالنصب.
الإسلام يأمر بالسماحة وحسن المعاملة لأهل الكتاب عامة وللنصارى خاصة إذا كانوا غير محاربين لنا، وللمواطنين بيننا، وأما المعادون لنا، الذين يساعدون إسرائيل فهم أعداء لا يجوز موالاتهم، فمن ولاهم فقد عصى الله.
نقم منه كذا : أنكره عليه وعابه بالقول أو الفعل.
بعد النداءات الثلاثة التي مرت ﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى... ﴾ و ﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ... ﴾ و ﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً... ﴾ يتوجّه الخِطاب إلى الرسول أن يواجه أهلَ الكتاب فيسألهم ماذا ينقمون من المسلمين ؟ قل لهم يا محمد : أنتم يا أهل الكتاب، هل تعيبون علينا شيئا غير إيماننا الصادق بالله وتوحيدِه، وإيماننا بما أَنزل الله إلينا وسابقينا من رُسُله، واعتقادنا الجازم أن أكثركم خارجون عن حظيرة الإيمان الصحيح ؟
روى ابن جرير عن ابن عبّاس قال : أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نفرٌ من اليهود منهم أبو ياسر أخطب، ورافع بن أبي رافع في جماعة، فسألوه عمَّن يؤمن به من الرسل فقال :«أومن بالله وما أُنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيّون من ربهم، لا نفرّق بين أحدٍ منهم ونحنُ له مسلمون ».
الطاغوت : الطغيان، وهو مجاوزة الحد المشروع.
قل لهم : ألا أخبرُكم بأعظمِ شرّ في الجزاء عند الله. إنه إذا انصبّ على موقعٍ لعَنَهم الله وسخط عليهم، وطمس على قلوبهم، فكانوا كالقِردة والخنازير، وعبدوا الشيطان أولئك الذين اتّصفوا بما ذُكر من المخازي وشنيع الأمور، ولا مكانَ لهم في الآخرة إلا النار، لأنهم أبعدُ الناس عن طريق الحق.
القراءات : قرأ حمزة «عبد الطاغوت » بكسر التاء، والباقون «عبد الطاغوت » بفتح التاء.
ثم ذكر في شئونهم ما هو شر مما سلف فقال :﴿ وترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثم والعدوان وَأَكْلِهِمُ السحت ﴾.
وترى أيها الرسول، كثيراً من هؤلاء يسارعون في المعاصي والاعتداء عل الناس، وفي أكْلِ الحرام كالرِشوة والربا.
ثم بالغ في تقبيح هذه الأعمال، فقال ﴿ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أي واللهِ، ما أقبح هذا العملَ الذي يعمله هؤلاء من مسارعتهم في كل ما يفسد النفوس ويقوّض نظم المجتمع !
والى هذا أشار الله تعالى بقوله :﴿ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون والأحبار عَن قَوْلِهِمُ الإثم ﴾... الآية
هلاّ ينهى الربانيّون، والأحبار هؤلاء الذين يسارعون فيما ذُكر من المعاصي ! !، لبئس ما يصنع أولئك الأحبار حين يرضون أن تُقترف هذه الأوزار والخطايا ويتركون فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
روي عن ابن عباس أنه قال : ما في القرآن أشدّ توبيخاً من هذه الآية للعلماء إذا قصّروا في الهداية والإرشاد، وتركوا النهي عن الشرور والآثام. وعلى العلماء والحكّام وأولي الأمر أن يعتبروا بهذا السخط على اليهود، ويعلموا أن هذه موعظةٌ وذكرى لهم.
غُلَّت أيديهم : أمسكت وانقبضت عن العطاء، وهو دعاء عليهم بالبخل. يداه مبسوطتان : يعني هو كثير العطاء.
الحرب : ضد السلم، فهي كل ما يهيج الفتن والقلاقل، ولو بغير قتل.
بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السالفة بعض مخازيهم الّتي أدت إلى اختلال نظُم مجتمعهم ذكر هنا أفظع مخازيهم وأقبحَها، وهي جرأتُهم على ربهم، ووصفُهم إياه بما ليس من صفته، وإنكار نعمته عليهم. والذي يطالع التلمود ويقرأ ما فيه من جُرأة على الله ومن كلام تقشعرّ له الأبدان، يعلم خُبثهم وقباحتهم.
وقالت اليهود : اللهُ بخيل لا تنبسط يده بالعطاء، بل كذبوا إنهم هم البخلاء، لعنهم الله وأبعدهم من رحمته. إن الله غني سخيّ ينفق كما يشاء، فهو الجواد المتصرف وفق حكمته. أما تقتير الرزق على بعض العباد فإنه لا ينافي سعة الجود، فهو سبحانه له الإرادة والمشيئة في تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق.
إن كثيرا من هؤلاء المنكرين سوف يزدادون إمعاناً في الضلال، حسداً لك يا محمد، ونقمة على ما أنزله إليك ربّك من كلامه في القرآن.
﴿ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة ﴾ والعداوة ملموسة فيما بينهم وبين النصارى وفيما بينهم أنفسهم. وإن المقام ليضيق عن سَرْد أقوال علماء النصارى وقادتِهم ورؤسائهم في شتم اليهود وإبراز مساوئهم. لذا تجدني أكتفي بذكر بعض هذه الأقوال :
يقول بنيامين فرانكلين في خطابه في المؤتمر الدستوري التأسيسي المنعقد في فيلادلفيا ( الولايات المتحدة ) سنة ١٧٨٧ م.
«في كل بلد استوطنه اليهود، انحطّت القيم الأخلاقيّة إلى الدَّرْك الأسفل وشاعت الفوضى واللامسئولية والاحتيالُ في معاملات أبنائه التجارية. هذا بينما ينعزل اليهود متقوقعين على أنفسهم في كتَلٍ وعصابات، لم نتمكّن من القضاء عليها ولا دمجها في مجتمعنا. لقد هزئ اليهودُ من قِيم ديانتنا المسيحية التي تقوم دولتنا عليها وتعيش بها، متجاهلين كلَّ أنظمِتنا ومحظوراتِنا، فمكّنهم ذلك من إقامة دولة لهم داخل دولتنا » إلى أن يقول :
«إنكم إن لم تطردوهم عن ديارنا فلن يمضي أكثرُ من مائتي سنة حتى يصبح أحفادُنا خَدَماً في حقولهم يمدّونهم بثروات بلادنا... إن اليهود يشكّلون خطراً عظيماً على هذه البلاد، وإنني أؤكد على ضرورة طردِهم منها ومنعِهم من الدخول إليها أو الإقامة فيها، بموجب نصوص دستورية صريحة ».
وقد تحققت نبوءته، فاليهود هم حكّام الولايات المتحدة الأمريكية دون جدال، وبأصواتهم في الانتخابات على الأقلّ. هذا سيرينغ، السفير البريطاني في أمريكا، يقول في تقريره المؤرخ في ١٣ تشرين الثاني سنة ١٩١٤ من كتاب ادموندسون «أنا أشهد » ص ١٩٣ ما يأتي :«يعتبر بول م. واربورغ الألمانيُّ المولد، اليهودي الأصل، المسيِّر الوحيدَ لسياسة الولايات المتحدة الاقتصادية والمالية، إبّان عهد الرئيس ويلسون. ومنذ وفاة ج. ب. مورغن الأب، قفز أصحاب المصارف اليهودُ في أمريكا إلى أرفع المراكز في السلطة وأعلى مقامات النفوذ ؟.
ويقول ويليام دادلي بالي، في الصفحة ٩ من كتاب «الإمبراطورية الخفية » ما يأتي «كان للرئيس فرانكلين روزفلت ٧٢ مستشاراً، منهم ٥٢ من اليهود المهاجرين إلى الولايات المتحدة. والأَهمُّ من ذلك، أن الإحصاءات الرسمية تدل على أن اليهود يملكون ٨٠ بالمائة من عقارات الولايات المتحدة وأبنيتها ومواردها الطبيعية. كما يشكّل اليهود نسبة ٨٦ بالمائة من مجموع الموظفين في واشنطن ».
هذا إلى كتب كثيرة أُلّفت في هذا الموضوع، لكن الأمريكان مخدَّرون تحت وطأة رشوة اليهود للمسئولين في البلاد والضغط عليهم بشتّى الوسائل المغرية.
أما الأوربيّون فإنهم تكلّموا عن اليهود وحذّروا منهم كثيراً وانتقدوهم. فهل هناك إلا قَبْضَ الريح من أمل لبعض الحكام، لا الشعوب العربية، في أمريكا ! لكن كل ذلك ذهب إدراج الرياح.
﴿ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله ﴾ كلّما همّوا بالكيْد للرسول وللمؤمنين خذلهم الله ونصر رسوله والمؤمنين عليهم. وقد كان اليهود يُغرون المشركين بمحاربة النبيّ والمؤمنين، بل إن منهم من سعى لتحريض الروم على مهاجمتهم. ومنهم من كان يؤوي أعداء المسلمين ويساعدهم مثل كعب بن الأشرف أحد كبار زعمائهم. وكان هذا عربياً من نبهان من طيّ، أُمه يهودية، فاتّخذ اليهودية ديناً له. وكان شاعراً، فآذى النبيَّ عليه السلام والمسلمين كثيرا إلى أن قُتل.
وما سببُ هذا الكيد وإثارة الفتن إلا الحَسد والعصبيّة من قِبل اليهود، وخوف الأحبار أن يزيل الإسلام امتيازاتهم العلميّة والدينية التي كانوا يعيشون عن طريق استغلالها في الارتشاء والدجَل على صغار العقول.
﴿ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً ﴾، إن ما يأتونه من عداوة الرسول الكريم والمؤمنين، بنشْر الفساد في الأرض وإثارة الحروب ليس إلا الفساد بعينه. فهم يخافون اجتماع كلمة العرب، حيث تقوى شوكتهم. وبذلك يذهب نفوذ اليهود الذي يتمتّعون به، ﴿ والله لاَ يُحِبُّ المفسدين ﴾ بل يبغضهم ومن ثم لن ينجح سعيهم، أو يصلُح عملُهم.
لأكَلوا من فوقِهم ومن تحت أرجُلهم : أي لوسَّع الله عليهم موارد الرزق. مقتصدة : معتدلة في أمر الدين.
لو أنهم عملوا بالتوراة والإنجيل، وحفظوهما من التحريف، وآمنوا بما أَنزل إليهم ربهم، وهو القرآن الكريم، لأعطتهم السماءُ مطرها وبركتها، والأرضُ نباتها وخيراتها، وهذا معنى : لأكلوا من فوقِهم ومن تحتِ أرجلهم. وكما قال تعالى ﴿ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض ﴾ [ الأعراف : ٩٥ ]
ثم بيّن الله تعالى أنهم ليسوا سواءً في أفعالهم وأقوالهم، فهناك فيهم جماعة معتدلة في أمر دينها، وهم الذين آمنوا بمحمّد والقرآن. بيد أن الكثير من جمهورهم متعصّبون مغرورون ساء ما يعملون.
أخرج الإمام أحمد وابنُ ماجة عن زياد بن لبيد، وهو أحد الصحابة الكرام ممن شهد بدراً قال :«ذكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم شيئاً، فقال : وذلك عند ذهاب العِلم. قلنا : يا رسول الله : وكيف يذهب العِلم نحن نقرأ القرآن ونُقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ قال : ثكلتْك أمك يا ابن أُم لبيد، إن كنتُ لأراك من أفقهِ رجل في المدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرأون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء ».
ومغزى هذا أن العبرة في الأديان هو العمل بها، فإذا لم نعمل نحن بالقرآن الكريم، بل اكتفينا بلوْك الألسن فقط، فإن مصيرنا معروف نسأله تعالى أن يلهمنا الصواب.
يا أيها الرسول، بلّغْ الناس جميعاً بكل ما أوحي الله إليك، ولا تخشَ في ذلك أحداً ولا تخفْ مكروهاً، فإن لم تقم بالتبليغ تكن قد خالفت أمر ربك. إن الله يحفظك من مكائد الناس ويمنعك من أذاهم وفتكهم.
وهذه الآية مكيَّة نزلت في مكة، ولكنها وضعت في السورة المدنية لحكمة دوام التبليغ. فقد روى الترمذي وأبو الشيخ والحاكم وأبو نعيم والبيهقي عن عدد من الصحابة. «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُحرَس في مكة قبل نزول هذه الآية، وكان العبّاس ممن يحرسه، فلمّا نزلت ترك رسول الله الحرس ».
وروي أن أبا طالب كان يبعث مع رسول الله من يحرسه إذا خرج حتى نزل قوله تعالى ﴿ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس ﴾ فذهب ليبعث معه، فقال الرسول : يا عم، إن الله حفظني، لا حاجةَ بي إلى من تبعث ».
وقد صدَعَ رسولُ الله عليه الصلاة والسلام بالأمر وبلّغ الرسالة جميعها، وبيّن للناس كلّ شيء ولم يخصَّ أحداً بشيء من علم الدّين، فلا مجال لرأي بعض الفرق الإسلامية بصدد ذلك.
قال ابن أبي حاتم أن هارون بن عنترة الشيباني أخبره أن أباه قال : كنت عند ابن عباس، فجاء رجل فقال له : إن ناساً يأتوننا فيخبروننا أن عندكم شيئاً لم يُبدِه رسولُ الله للناس. فقال ابن عباس : ألم تعلم أن الله تعالى قال ﴿ يا أيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ﴾ واللهِ ما ورّثنا رسولُ الله سوداء في بيضاء.
وفي صحيح البخاري عن أبي جحيفة قال : قلت لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن ؟ فقال : لا والذي فَلَق الحبّة وبَرأَ النَّسمة، إلاّ فَهْماً يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة. قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العَقْلُ، وفكاكُ الأسير، وأن لا يقتَل مُسلم بكافر.
هذا كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله قال في خطبة الوداع «أيها الناس، إنكم مسئولون عَنّي، فما أنتم قائلون ؟ قالوا نشهد أنك قد بلّغت وأدّيت ونصحت. فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكسها إليهم ويقول : اللهم هل بلّغت ».
﴿ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين ﴾، إن الله تعالى لا يهدي الكافرين الذي هم بصدد إيذائك يا محمد، بل سيظلون خائبين، وتتم كلماتُ الله تعالى حتى يكمُل بها الدين.
قراءات :
قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر «رسالاته » بالجمع، والباقون «رسالته ».
لا تأس : لا تحزن.
بيّن الله تعالى هنا أن الانتساب إلى الأديان لا ينفع أهلها إلا إذا عملوا بها، فقلْ أيها الرسول، لليهود والنصارى : إنكم لن تكونوا على دين صحيح، إلا إذا أعلنتم جميع الأحكام التي أنزلت في التوراة والإنجيل وعملتم بها وآمنتم بما بشَّر به الكتابان من بعثةِ نبيٍّ يجيء من وَلَدِ إسماعيل الذي سمّاه المسيحُ روح الحق والبارقليط. وأُقسم بأن الكثيرين من أهل الكتاب لا يزيده القرآن إلا غلواً في تكذيبهم وكفراً على كفرهم، فلا تحزن عليهم. ويجب أن نأخذ نحن من هذه عبرا، ونتمسك بالقرآن الكريم وسنة رسوله حتى لا نكون مثل السابقين من أهل الكتاب.
وقد سبق تفسير باقي الآية الكريمة من قبلُ.
والصابئة فرقتان : جماعة المندائيّين أتباعِ يوحنّا المعمدان، وصابئةُ حرّان الّذين عاشوا زمناً في كنف الإسلام، ولهم عقائدهم وعلماؤهم، ومن أشهرهم إبراهيم من هلال الصابي الأديبُ الكبير، والعالِم بالفلك والفلسفة الرياضية.
ورد ذكرهم في القرآن ثلاث مرات بجانب اليهود والنصارى، مما يؤْذِن بأنهم من أهل الكتاب. وكتب عنهم المؤرخون المسلمون. وخاصة الشهرستاني في «المِلل والنِّحل »، والدمشقي في «نخبة الدهر في عجائب البحر ». وهم يُعَدّون بين الروحانيين، الّذين يقولون بوسائط بين الله والعالم، ويحرصون على تطهير أنفسهم من دنَسِ الشهوات والارتقاء بها إلى عالم الروحانيات. للقوم طقوس ثابتة، منها أنهم يتطهرون بالماء إذا لمسوا جسداً، ويحرّمون الختان كما يحرّمون الطلاق إلا بأمر من القاضي، ويمنعون تعدُّد الزوجات، ويؤدون ثلاث صلوات كل يوم بالسريانية. أما قِبلتهم فهي القطب الشمالي. وقد خدموا الإسلام في مجالات العلم والسياسة والترجمة. ولا يزال منهم بضعة آلاف في العراق إلى الآن، كتب عنهم السيد عبد الرزاق الحسن رسالةً مطبوعة بمصر، وقال إنهم أربع فِرق.
وتفسير الآية الكريمة
إن الذين صدقوا الله ورسوله، واليهود، والصابئين، والنصارى وغيرهم كل أولئك إذا أخلصوا في الإيمان بالله، وصدّقوا بالبعث والجزاء، وأتوا الأعمال الصالحة التي جاء بها الإسلام، فيسكونون في مأمن من العذاب، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
الفتنة : الاختبار، ما يسّبب التخريب والقتل.
لقد أخذ الله العهد على بني إسرائيل في التوراة أن يتّبعوا أحكامها، لكنهم نقضوا هذا الميثاق ( كما تقدم في أول السورة )، وعاملوا الرسل أسوأ معاملة، فكانوا كلّما جاءهم رسول لم يوافق هواهم كذّبوه أو قتلوه. وقد أوغلوا في الضلال، حتى لم يعد يؤثّر في قلوبهم وعظ الرسل ولا هدايتهم.
لقد غزاهم بختنصّر، فأهلكهم واستباهم وسقاهم إلى بابل. ثم رحمهم الله وأعاد إليهم مُلكهم على يد كورش، أحد ملوك الفرس، فرجع عدد كبير منهم إلى القدس. لكنهم ما لبثوا أن عَمُوا وصمّوا مرة أخرى، وعادوا إلى ظلمهم وفسادهم في الأرض، فقتلوا زكريّا وأشعيا، وأرادوا قتل عيسى عليه السلام، فسلّط الله عليهم الفُرس ثم الرومان فأزالوا ملكهم.
وفي قوله تعالى :﴿ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ ﴾ إشارةٌ إلى أنه فيهم أناسٌ خيرون أتقياء. لكن الله سبحانه يعاقب الأمم بذنوبها إذا كثرت وشاعت فيها، ولو كان فيهم قلة من الصالحين. لذلك يقول تعالى في آية أخرى ﴿ واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ﴾ [ الأنفال : ٢٥ ].
﴿ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾
الله مطلع عليهم مشاهدٌ لأعمالهم، ومجازيهم عليها.
قراءات :
قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ﴿ أَلاَّ تَكُونَ ﴾ بالرفع والباقون بالنصب.
إن الذين ادّعوا أن الله هو المسيح بن مريم قد كفروا وضلُّوا ضلالا بعيدا. والحق أن عيسى بريء من هذه الدعوى، فقد قال لهم عكس ما ينسبون إليه. لقد أمرهم بعبادة الله وحده، معترفاً بأنه ربه وربهم.. وجاء هذا صريحاً في الأناجيل، ففي إنجيل يوحنا ( هذه هي الحياةُ الأبدية أن يعرِفوك أنت الإله الحقيقيَّ وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلتَه ). وبعد أن أمرهم عليه السلام بالتوحيد الخالص، أتبعه بالتحذير من الشرك والوعيد عليه :﴿ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة وَمَأْوَاهُ النار وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ﴾، إن اللهَ هو الذي خلقني وخلقكم جميعاً، وهو مالك أمرِنَا جميعا، وإن كل من يدّعي لله شريكاً، فإن جزاءه أن لا يدخل الجنة أبدا، وليس لمن يتعدى حدوده ويظلم ناصرٌ يدفع عنه العذاب يوم القيامة.
كَيف تتركون عبادة الله، وهو الإله القادر على كل شيء، السميع العالم بكل شيء ! !
الأهواء : الآراء التي تدعو إليها الشهوة.
سواء السبيل : وسطه.
يا أيها اليهود والنصارى، إن الله ينهاكم عن الإفراط في معتقداتكم، فتتجاوزوا حدود الحق إلى الباطل. ولا تتّبعوا أهواء أسلافكم الذين ضلّوا عن الحق من قبل، وأضلّوا خلقاً كثيراً معهم. لقد حادوا عن الصراط المستقيم، وهو دين الإسلام، فلا تقتفوا آثارهم.
يأتي هذا التقرير في موقف النبي داود وعيسى عليهما السلام من اليهود على مدى التاريخ، وكلاهما لعن كفار بني إسرائيل لعصيانهم وعدوانهم. وقد استجاب الله له جزاء سكوتهم عن المنكر يفشو فيما بينهم.
لعن الله الذين كفروا من بني إسرائيل في الزبور والإنجيل، من جرّاء تماديهم في العصيان وتمرّدهم على الأنبياء، وهذا معنى ﴿ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴾.
هذا ما يحدثنا به إخواننا من الشعب الفلسطيني عن مجتمع اليهود. إنه موبوء فاجر.
روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن أولَ ما دخل النقصُ على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فقول : يا هذا، اتقِ الله ودعْ ما تصنع، فإنه لا يحِلّ لك. ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقَعيده. فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوبَ بعضهم ببعض. ثم قال ﴿ لُعِنَ الذين كَفَرُواْ.. - ﴾ إلى قوله ﴿ فَاسِقُونَ.. ﴾ الآيات. ثم قال صلى الله عليه وسلم : كَلاّ واللهِ لتأمُرنّ بالمعروف، ولتنهَوُن عن المنكر، ثم لتأخذُن على يد الظالم ولتأطِرُنَّه على الحق، أو لتقسُرُنّه على الحق قسراً، أو ليضربنّ اللهُ قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم ».
تأطِرنّه : تردُّونه، والقسر : القهر.
والأحاديث في ذلك كثيرة وصحيحة. وأظن كثيراً من أحوالنا تسير إلى السوء، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معطّل. نسأله تعالى أن يردنا إلى ديننا.
هذا من الأمور التي كانت تقع منهم، فقد كان اليهود يتحالفون مع مشركي قريش والعربِ ضدّ النبي والإسلام. وقد ذهبَ كعبُ بن الأشرف مع جماعة منهم إلى مكة يحرّض كفّار قريش على قتال الرسول الكريم، كما حالف بنو قريظة المشركين في وقعة الخندق. وحوادثهم كثيرة.
﴿ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ وَفِي العذاب هُمْ خَالِدُونَ ﴾
إن هذه الشرور عمل ادّخرته لهم أنفسُهم الشريرة حتى غضب الله عليهم، وسيخلَّدون في جهنم وبئس المصير.
المودة : المحبة.
القَس : جمعه قُسوس، والقسيس : جمعه قسيسون، الذي يكون بين الشمّاس، والكاهن.
الراهب : العابد المنقطع عن الناس في دير أو صومعة حرم نفسه فيها من التنعم بالزواج ولَذَّات الطعام.
نزلت هذه الآية في نجاشي الحبَشَة وأصحابه، حين هاجر فريق من المسلمين إلى هناك. قالت أم سَلَمة وكانت من المهاجرات إلى الحبشة قبل أن يتزوجها الرسول الكريم : لما نزلنا بأرض الحبشة جاوَرَنا بها خيرٌ جارٍ، النجاشي.. أمِنّا على ديننا وعبدْنا الله تعالى، لا نؤذَى ولا نسمع شيئاً نكرهه.
وقد بقي المهاجرون فيها إلى أن هاجر الرسول الكريم إلى المدينة، ولم يقدِروا الوصول إليه، فقد حالت بينهم وبينه الحرب.
فلما كانت وقعة بدر وقُتل فيها صناديد قريش، قال كفار قريش : إن ثأركم بأرض الحبشة، فابعثوا إلى سيّدها رجلين من ذوي الرأي فيكم مع هدايا له ولرجاله لعلّه يعطيكم مَن عنده فتقتلونهم بقتلى بدر. فبعث كفار قريش عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة بهدايا. فخرجا حتى قدما على النجاشي، فأهَدوا إلى البطارقة مما معهما من الهدايا، وطلبوا منهم أن يساعدوهما عند الملك بأن يسلّمهما أولئك المهاجرين. ثم قابلا النجاشي وقدّما له هداياهما فقبلها منهما. ثم كلماه فقالا له : أيها الملك، قد جاء إلى بلدك غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدينٍ ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت. وقد بعثنا من آبائهم وأعمامهم أشرافُ قومه لتردهم إليهم. فقالت بطارقته حوله : صدَقا أيها الملك، فأسلمْهُم إليهما. فغضب النجاشي ثم قال : لا واللهِ لا أُسلمهم حتى أدعوَهم، فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم. ثم أرسَل إليهم. فلما جاؤوا، قال لهم النجاشي وأساقفته : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد ؟
فقام جعفر بن أبي طالب، فقال : أيها الملك، كنا قوماً أهلَ جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف. وظللنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منّا، نعرف نسبه وصدقه وعفافه، فدعانا إلى الله، أن نوحّده ونعبده، ونخلع ما كنّا نعبد قبله من الحجارة والأوثان. ولقد أمرَنا بصِدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء. كما نهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكلِ مال اليتيم، وقذف المحصنات. أمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. فصدّقناه وآمّنا به، واتّبعناه على ما جاء به من الله...
فعدا علينا قومُنا فعذّبونا، وفتنونا عن ديننا لنرتدّ إلى عبادة الأوثان... فلمّا قهرونا وضيقوا علينا، خرجنا إلى بلادك، ورغبنا في جوارك.
فقال النجاشي : هل معك مما جاء به من الله من شيء ؟ قال جعفر : نعم أول سورة مريم. قالت أم سلمة : فبكى والله النجاشي، حتى اخضلّت لحيته. وبكت أساقفته حين سمعوا ما تلا جعفر. ثم قال النجاشي : إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. انطلِقا، فوالله لا أسلّمهم إليكما. الخ القصة.
فهذه القصة من أسباب نزول هذه الآيات. فبعد أن حاجّ اللهُ تعالى أهل الكتاب، وذكر مخالفتهم لكتبهم وأنبيائهم، وأنهم اتخذوا الإسلام هزواً ولعبا، وبلغت الجرأة باليهود أن يتطاولوا على الله بقولهم ﴿ يَدُ الله مَغْلُولَةٌ ﴾، وأن النصارى اعتقدوا بأن المسيح ابن الله، ذكر هنا أحوالهم في عداوتهم للمؤمنين، أو محبتهم لهم. ومقدار تلك العداوة أو المحبة :
﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ ﴾
قسَمَاً أيها الرسول، لسوف تجد أشد الناس عداوة لك وللمؤمنين معك، اليهودَ والمشركين من عبدة الأصنام. وقد وقع ذلك. فإن أشد إيذاء واجهه النبي عليه السلام إنما كان من اليهود في المدينة وما حولها، ومن مشركي العرب، ولا سيما قريش.
ويشترك اليهود والمشركون في بعض الصفات والأخلاق، كالتكبّر والغرور، وحب المادّة، والقسوة. والمعروف عن اليهود أنهم يعتبرون كل من عداهم لا حرمة له ولا قيمة، فكل مَن كان غير يهودي مباح لهم دمه وماله وعرضه، هذا مقرَّر في تلمودهم.
﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى ﴾
أما أقرب الناس محبة للذين آمنوا بك وصدّقوك فهم النصارى. رأى النبي من نصارى الحبشة أحسن المودة. ولما أرسل كتبه إلى الملوك ورؤساء الدول كان النصارى منهم أحسنَ ردا، واستقبالاً للرسل. والواقع أن مودة النصارى للمسلمين في عصر النبي الكريم كانت ظاهرة ملموسة.
﴿ ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً... ﴾
وسببُ تلك المودّة أن فيهم قسيسين يعلّمون دينهم، ورهبانا يخشون ربهم. هذا كما أنهم لا يستكبرون عن سماع الحق واتّباعه.
مع الشاهدين : الذين شهدوا وصدّقوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وفيهم من إذا سمعوا القرآن وتأثروا به، فتفيض أعينهم بالدمع. إنهم يعرفون أن ما سمعوه حق، فتميل إليه قلوبهم وتنطلق ألسنتهم بالدعاء إلى الله قائلين : ربنا آمنا بك وبرسُلك، وبالحق الذي أنزلته عليهم، فتقبّل منا إيماننا، واجلعنا مع الشاهدين من أمة محمد الذين جعلتهم حجة على الناس يوم القيامة.
لذا كتب الله لهم ثواباً، جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدون فيها إلى الأبد.
هذا جزاء المحسنين من ربهم.
ويجب أن نوضح هنا موضوعاً مهما، وهو أن النصارى الذين تعنيهم الآية إنما هم أصحاب النجاشي الذين عاصروا النبيّ، وقد جاء بعضهم مع جعفر بن أبي طالب إلى المدينة وأسلم.
أما إذا استعرضنا النصارى الأوروبيين، وما كادوا للإسلام والمسلمين، وما شنّوه من حروب صليبيّة مجرمة في المشرق الإسلامي كما في الأندلس، وما قاموا به من مذابح يسعّرها التعصب والحقد فإننا لا نجدهم يختلفون عن اليهود. بل إن أحقادهم مستمرة في مؤازرة الصهيونية. وقد قلنا سابقا، ونكرر هنا أن هذا لا يشمل النصارى العرب، الذين لم يقصروا في واجبهم نحو وطنهم وإخوانهم.
ذلك ما يرويه كثير من المحدّثين. فقد روى الطبري : أن عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود والمقداد بن الأَسْود، وسالماً مولى أبي حذيفة، وقدامة بن مظعون تبتّلوا فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح وحرّموا طيبات الطعام واللباس، وهمّوا بالاختصاء وأجمعوا على القيام بالليل وصيام النهار، فنزلت هذه الآية. فلما نزلت، بعثَ إليهم رسول الله فقال :«إن لأنفسكم حقاً، وإن لأعينكم حقاً، وإن لأهلكم حقا، فصلّوا وناموا، وصوموا وأفطِروا، فليس منا من ترك سنّتنا » فقالوا : اللهمّ صدّقْنا واتبعنا ما أنزلت مع الرسول.
والمعنى : يا أيها الذين آمنوا، لا تحرّموا على أنفسكم ما أحلّ الله لكم من الطيبات، ولا تتجاوزو الحدود التي شرعها الله لكم من التوسط في الأمور، إن الله لا يحب ذلك.
من محاسن شرعنا أنه يميل دائما إلى التوسط في الأمور، وعلينا أن نقتدي بالرسول الكريم عليه صلوات الله، فإنه كان يأكل أطيب الطعام، إذا وجد، وتارة يأكل أخشنه، وحينا يجوع، وأخرى يشبع، ويحمد الله على الحالين.
بما عقدتم : بما قصدتموه.
الكفّارة : الستر والتغطية، لأنها تمحو الذنوب وتسترها.
الأوسط : الطعام العادي، ليس بالرديء، ولا الفاخر.
تحرير رقبة : عتقها.
روى ابن جرير عن ابن عباس، قال : لما نزلت ﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ ﴾ قالوا يا رسول الله، كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا ؟ فأنزل الله تعالى :﴿ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ﴾.
لا يؤاخذكم الله بالأيمان التي تحلفونها بلا قصد، ولا يعاقبكم عليها، وإنما يعاقبكم إذا أنتم حنثتم باليمين فيما قصدتم به.
فلو قال رجل : واللهِ لا أفعل كذا، وفَعَلَه، فعليه الكفّارة. وهذه الكفارة هي إطعام عشرة مساكين وجبةً واحدة، مما جرت العادة أن تأكلوا في بيوتكم من غير إسراف ولا تقتير. أو كِسوة عشرة مساكين كسوةً معتادة. أو أن تحرروا إنسانا من الرق. فإذا لم يستطع الحالف القيام بأي من هذه الأمور فعليه أن يصوم ثلاثة أيام. إن كل واحد من هذه الأمور كفارة كافية، لكنّ عليكم أن تحفظوا أيمانكم فلا تحلفوا على أتفه الأشياء. لا تُكثروا من الأيمان سواء أكانت صادقة أم كاذبة، فالأحسن تجنُّب الحلف.
﴿ كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ على هذا النحو الشافي الوافي يبين الله أحكامه ويشرحها لكم، لتشكروا نعمته بعد معرفتها بالقيام بحقها.
والأيمان ثلاثة أقسام :
( ١ ) قسم ليس من أيمان المسلمين، مثل الحلف بالمخلوقات، نحو الكعبة والملائكة والمشايخ والملوك والآباء وغير ذلك.. وهذه من اللغو في الأيمان، غير منعقدة، ولا كفارة فيها، ولا يجوز الحلف بها.
( ٢ ) أيمان بالله تعالى، كقول الحالف : واللهِ لأفعلنّ كذا، وهذه يمين منعقدة فيها الكفّارة عند الحلف.
( ٣ ) أيمان بمعنى الحلف بالله، يريد بها الحالف تعظيم الخالق، كالحلف بالنِّذْر، والحرام والطلاق، كقوله : إن فعلتُ كذا فعليّ صيام شهر، أو الحج إلى بيت الله، أو الطلاقُ يلزمني، أو عليّ الطلاق لا أفعل كذا، أو إن فعلته فنسائي طوالق، أو كل صدقة أو نحو ذلك، فهذا كله فيه كفّارة اليمين.
وهناك نوع من الأيمان تسمى اليمين الغموس، وهي كما جاء في صحيح البخاري عند عبد الله بن عمرو قال :«جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ما الكبائر ؟ قال : الإشراك بالله، قال : ثم ماذا ؟ قال عقوق الوالدين، قال : ثم ماذا ؟ قال : اليمين الغموس ». قال : وما اليمين الغموس ؟ قال :«التي يُقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب ».
فهذه اليمين لا كفّارة فيها لأنها جرم لا يُغتفر. ولأنها تغمس صاحبها في النار، ولا يكفّرها عتق ولا صيام ولا صدقة، بل لا بدّ من التوبة ورد الحقوق.
ويلاحظ أن الكفّارات وردت كثيراً في عتق العبيد، فإن الإسلام رغّب كثيراً في عتقه، والعتق يدخل في أكثر الكفّارات للذنوب.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وأبو كبر عن عاصم «عقدتم » بالتخفيف، وقرأ ابن عامر «عاقدتم » وقرأ الباقون «عقدتم ».
الميسر : القمار.
الأنصاب : الأصنام التي نصبت للعبادة، وكانوا يذبحون قرابينهم عندها. الأزلام : قِداح أعواد من الخشب بهيئة السهام كانوا يستقسمون بها في الجاهلية.
الرجس : المستقذَر حساً أو معنى.
بعد أن نهى سبحانه عن تحريم الحلال من الطيبات، وأمر بأكل الطيّب من الرزق، نظر إلى الخمر والميسر والأزلام. وكانت هذه من الطيبات في الجاهلية، وكان العرب يشربون الخمر بإسراف، بل يجعلونها من المفاخر التي يتسابقون في مجالسها. وكان يصاحب مجلسَ الشراب نحرُ الذبائح، واتخاذ الشواء منها للشاربين، والمقامرة عليها بالأزلام. كذلك كانوا يذبحون قرابينهم عند الأنصاب.. فنهى الله تعالى عن هذه المفاسد كلها نهياً قاطعاً، بعد أن مهد لتحريم الخمر مرتين من قبل هذه الآية.
وأول ما ذُكرت الخمر في سورة النحل، وهي مكيّة، في قوله تعالى ﴿ وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً.... ﴾ الآية.
ثم نزل في المدينة وفي سورة البقرة :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا.... ﴾ الآية فالمنافع في الربح والتجارة، والإثم في الشر والمفاسد التي تنجم عنهما. وقد تركها بعضُ الصحابة، واستمر آخرون.
ثم نزل قوله تعالى في سورة النساء :﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ... ﴾ الآية كذلك تركها البعضُ واستمرّ عليها آخرون. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه دائما يقول : اللهم بَيّن لنا في الخمر. وقد حدثت حوادث بين بعض الأنصار ونفرٍ من قريش، وهم على الشراب، وكان من جملة الذي لحقهم أذى سعد بن أبي وقّاص حيث ضربه أحد الأنصار ففَزَر له أنفه. وحين نزلت ﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب... ﴾ الآية كانت الحاسمة في تحريم الخمر تحريماً قاطعاً.
يا أيها الذين صدَّقوا بالله ورسوله : إن الخمر التي تشربونها، والميسر الذي تقامرون به، والأصنام التي تذبحون عندها قرابينكم، والأزلام التي تستقسمون بها، كل ذلك رِجسٌ قذِر من إغواء الشيطان لكم، وقد كرهه الله لكم ولذلك حرّمها، فاجتنبوها نهايئاً، رجاء أن تفلحوا وتفوزوا برضاه.
وأسمعُ بعض الناس يقولون : إن الخمر غير محرّمة، لأنه لم يقل الله أنها حرام صراحةً بل قال : اجتنبوه.
وقولهم هذا كلام فيه الهوى والتذرّع بالتلاعب بالألفاظ لتعليل الأمور التي يحبونها، فالقرآن ليس كتاب فقه حتى ينصّ على كل شيء بأنه حرام أو حلال، وإنما هو قرآن كريم له أسلوب عربي فريد لا يدانيه أسلوب. وأكبر دليل على تحريم الخمر تحريما نهائياً أن الله تعالى قرن الخمر بالميسر الذي هو القمار، وبالأزلام والأنصاب، وقد جاء تحريم الأزلام والأنصاب صريحاً بقوله تعالى في أول هذه السورة ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام ذلكم فِسْقٌ... ﴾ الآية ولما نزلت ﴿ إِنَّمَا الخمر والميسر... ﴾ الآية قال سيدُنا عمر : أُقرِنْتِ بالميسِر والأنصابِ والأزلام، بعداً لكِ وسحُقا.
فإذا كانت عبادة الأصنام والذبحُ عندها تقرّباً لها حلالا، فإن الخمر تكون حلالا، وإذا كانت الأزلام والاستقسام بها حلالا، فإن الخمر تكون كذلك، وإذا كان الميسر والمقامرة حلالاً فإن الخمر كذلك تكون حلالا.. فالذين يقولون بتحليلها أناس يتّبعون أهواءهم، ولا يخشَون الله فيما يقولون.
والأزلام : هي سهام من خشب، وهي ثلاثة أقسام. ( ١ ) قِداح الميسر وهي عشرة وأسماؤها كما يلي : الفَذّ والتوأم والرقيب والحِلْسُ والنافِس والمُسيل والمعلَّى والمَنِيح والسَّفِيح والوغد، ولكل واحدٍ من هذه نصيبٌ إذا فاز، وإذا خاب عليه ذلك النصيب. وأعلاها المعلَّى له سبعة أجزاء. ( ٢ ) والقسم الثاني : ثلاثة أزلام : مكتوب على أحدها : أمرني ربي، وعلى الثاني نهاني ربي، والثالث غُفل ليس عليه كتابة. ( ٣ ) وهذا القسم للأحكام.
وكانت العرب في الجاهلية إذا أراد أحدهم سفراً أو تجارة أو نكاحاً أو اختلفوا في نسب، أو أمر قتيل أو تحمُّل دية مقتول أو غير ذلك من الأمور، جاء إلى هُبَل، أعظم صنم في الكعبة لقريش، وقدّم مائة درهم إلى السادن، فيخرج له القداح ويسحب واحداً منها من الكيس التي هي فيه. فإذا خرج أمرني ربي، أمضى عمله، وإلا تركه.
ولقد حرم الإسلام هذه الأمور لأنها تشتمل على مفاسد، والإسلام يريد أن يبني مجتمعاً نقيا طاهرا.
جناح : إثم أو جُرم.
ليس على الذين آمنوا وصدّقوا بالله ورسوله، وأتوا بصالح الأعمال إثمٌ فيما يأكلون من الطيبات ولا فيما سبق أن أكلوه من المحرّمات قبل علمهم بتحريمها، شرط أن يبتعدوا عنها بعد الآن، وأن يستمروا على خوفهم من الله وتصديقهم بما شرعه لهم من أحكام. والله يحب المتقربين إليه بنوافل الأعمال التي يرضاها.
والاتقاء الأول في هذه الآية : هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق. والاتقاء الثاني : الاتقاء بالثبات على التصديق، وترك التبديل والتغيير. والاتقاء الثالث : هو الاتقاء بالإحسان، والتقرب بنوافل الأعمال.
الصيد : كل صيد من حيوان البر والبحر.
تناله أيديكم : تصيدونه.
كان الصيد أحد معايش الناس في ذلك الزمان، وكان كثير من الصحابة لا مورد لهم إلا ما يصيدون، وقد نزلت هذه الآية عام الحديبية، وفيها تحريم الصيد للمحرم بالحج أو بالعمرة.
النعم : الحيوان من البقر والضأن والإبل.
العدل : بفتح العين، المُساوي للشيء.
الوبال : الشدة، وسوء العاقبة.
يا أيها الذين آمنوا، إن الله يختبركم في الحج بتحريم صيد الحيوان البريّ بأيديكم أو برماحكم، ليُظهر الذين يراقبونه منكم في غيبية من أعين الخلق ويعلم إطاعتكم لأوامره. وما ذلك إلا تربية لكم وتزكية لنفوسكم، فمن اعتدى بأن أخذ شيئاً من ذلك الصيد بعد هذا التحريم فله عذاب شديد في الآخرة.
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن هذا البلدَ حرام، لا يُعضَد شجره، ولا يُختلى خلاه، ولا يُنفَّر صيده، ولا تُلتقط لُقطتُه إلا لمعرّف ».
يُعضد شجرة : يقطع. الخلا : الرطب من النبات، ويختلى : يُحَشّ.
ولا يجوز قتل أو صيد أي حيوان أو طير ما عدا «الغراب والحَدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور والحيّة » كما ورد في الأحاديث الصحيحة.
وفي الصحيحين، أن رسول الله عليه السلام قال :«إن إبراهيم حرَّم مكةَ ودعا لها، وإنّي حرّمتُ المدينة كما حرّم إبراهيمُ مكة »، كما قال :«المدينةُ حَرَمٌ ما بين عِيرَ إلى ثَور ».
عير : جبل كبير في القسم الجنوبي من المدينة. ثور : جبل صغير خلف جبل أحُد.
يا أيها الذين آمنوا، لا تقتلوا الصيد وقد نويتم الحج والعمرة. ومن فعله منكم قاصداً فعليه أن يؤدي نظير الصيد الذي قتله، يُخرجه من الإبل والبقر والغنم، بمعرفة رجلَين عادلين منكم يحكمان به، ويقدّم ذلك هدية للفقراء عند الكعبة.. أو يدفع بدله إليهم.. أو يُخرج بقيمة المِثْل طعاماً للفقراء، لكل فقير ما يكفيه يومه. هذه كفّارة مسقطة لذنب تعدّيه على الصيد في الوقت الممنوع. فإذا عجز عن الثلاثة السابقات، فإن عليه أن يصوم أياماً بعدد الفقراء الذين كانوا يستحقّون الطعام لو أخرجه.
وقد شُرع ذلك ليحس المعتدي بنتائج جرمه. لقد عفا الله عما سبق قبل التحريم، أما من عاد إلى قتل الصيد وهو محرم بعد النهي فإن الله سيعاقبه، والله غالب على أمره، ذو انتقام شديد ممن يصر على الذنب.
والآية صريحة في أن الجزاء الدنيوي يمنع عقاب الآخرة إذا لم يتكرر الذنب، فإن تكرر استُحق.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال : إذا قتل المحرِم شيئاً من الصيد فعليه الجزاء، فإن قتل ظبياً أو نحوه فعليه ذبحُ شاة في مكة، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام.
أما إن قتل أيّلاً «من بقر الوحش » فعليه بقرة، فإن لم يجد صام عشرين يوما. وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو نحو ذلك فعليه بُدنة من الإبل، فان لم يجد أطعم ثلاثين مسكينا، فإن لم يجد صام ثلاثين يوما، والطعام مدُّ يشبعهم.
قراءات :
قرأ الكوفيون ويعقوب « فجزاءُ مثلُ » برفع جزاء ومثل، وقرأ الباقون «فجزاءُ مثلٍ » برفع جزاء والإضافة. وقرأ نافع وابن عامر «كفَارةَ طعامٍ » بالإضافة والباقون «كفارةً » بالتنوين.
تُحشرون : تجمعون وتساقون إليه.
وقد أُحل الله لكم صيد حيوان البحر، تأكلون منه وينتفع به المقيمون منكم والمسافرون، وحرم عليكم صيد البر ما دمتم محرمين بالحج أو العمرة، سواء صاده غيركم، أو أنتم قبل إحرامكم. واتقوا الله بطاعته فيما أمركم به وما نهاكم عنه، فإن إليه مرجعكم، فيجازيكم على ما تعملون.
يشيع على ألسنة بعض الناس خطأ ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البرو البحر ﴾ ولا يوجد في القرآن آية بهذا النصّ، وإنما ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً... ﴾.
قياما : ما يقوم به أمر الناس.
الشهر الحرام : ذو الحجة.
الهَدي : ما يُهدى إلى الحرم من الأنعام.
القلائد : الأنعام التي كانوا يزينونها بقلائد إذا ساقوها هَديا، وخصها بالذكر لعظم شأنها.
جاءت هذه الآية استكمالاً للسياق السابق، فلقد حرّم الله في الآية المتقدمة الصيد على المحرِم، باعتبار الحرم موطن أمنٍ للوحش والطير، فالأَولى إذن أن يكون موطن أمن للناس من الآفات والمخاوف، وسبباً لحصول الخير والسعادة للناس في الدنيا الآخرة.
إن الله جعل الكعبة التي هي البيت الحرام مانعاً وحاجزاً تؤمّن الناس، أرواحَهم ومصالحهم ومنافعهم في معاشهم، بها يلوذ الخائف، ويأمن فيه الضعيف، ويربح التاجر، ويتوجه إليها الحجاج والمعتمرون.
فمعنى «قياما » المانع الذي به يكون صلاح الناس، كالحكومة التي بها قوام الرعية، ترعاهم وتحجز ظالمهم، وتدفع عنهم المكروه. كذلك هي الكعبة والشهر الحرام والهَدي والقلائد قوام العرب الذي كان به صلاحهم في الجاهلية.
فقد كان الرجل لو فعل أكبر جريمة ثم لجأ إلى الحرم لم يُتناول، ولو لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يَعرِض له أو يقربه، ولو لقي الهديَ مقلَّدا، وهو يأكل العصَب من الجوع لم يقربْه. كان الرجل إذا أراد البيت تقلّد قلادة من شَعر فَحَمَتْه من الناس، وإذا عاد من الحج تقلد قلادة من الأُذْخر أو السَمُر فمنعته من الناس حتى يأتيَ أهله.
الأذخِر : نبات طيب الريح : السَّمُر : مفردها سَمُرة، شجر الطَّلح.
وهي في الإسلام معالم حجَ الناس، ومناسكهم، فهم في ضيافة الله إذ ذاك، فليعملوا على جمع شملهم، ويتجهوا إليه في صلاتهم.
أما الهدي فقد جعله تعالى سبباً لقيام الناس، لأنه يُهدى إلى البيت ويُذبح ويفرَّق لحمه على الفقراء.. بذلك يكون نسكا للمُهدي، وقياماً لمعيشة الفقراء.
﴿ ذلك لتعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ.... وَأَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾
إن ذلك التدبير اللطيف من الله تعالى إنما جعله كي توقنوا أن علمه محيط بما في السماوات وما في الأرض، فهو يشرّع لمن فيهما بما يحفظهم ويقوم بمصالحهم. فإذا أحست قلوب الناس رحمةَ الله في شريعته، وتذوقت جمال هذا التطابق بينها وبين فطرتهم، أدركوا يقيناً أن الله بكل شيء عليم.
قراءات :
قرأ ابن عامر «قِيَما » وقرأ الباقون «قياما » كما هو هنا في المصحف.
١- لا يستوي الرديء والجيد من الأشياء والأعمال، لا من حيث صلاح أمور الحياة بهما، ولا في حكمهما عند الله. فبالظلم لا تستقيم الحياة ولا يرضى الله عنه. وذلك بخلاف العدل والصلاح.
٢- إن الخبيث غرّار في الظاهر، لكن الطيّب أفضلُ وأبقى. فالقليل من الحلال خير من الكثير الحرام، كما أنه أدوَم وأطهر.
وما دام الأمر كذلك يا ذوي العقول المدركة، فسارعوا إلى طاعة الله وقاية لكم من عذابه، باختيار الطيبات واجتناب الخبائث. بذلك تفوزون في الدنيا والآخرة.
يا أيها المؤمنون، لا تسألوا عن أشياء من أمور الدين ودقائق التكاليف ولا من أمور الغيب، مما يُحتمل أن يكون إظهارها سبباً لإرهاقكم، إما بشدة التكاليف وكثرتها، أو بظهور حقائق تفضح أهلها، وإن تسألوا النبي عنها في حياته إذ ينزل عليه القرآن يُبّينها الله لكم. ولقد فعلتم ذلك، لكن الله عفا عن مسألتكم، وهو حكيم بكم رؤوف في معاملتكم. عفا الله عنكم في هذه الأشياء، فلا يعاقبكم عليها.
والله سبحانه وتعالى يريد بنا اليسر لا العسر، وقد أنزل هذا القرآن ليربي الرسول على هَديه، وينشئ مجتمعا متكاملا، فمن الأدب مع الله والرسول أن يترك الناس لحكمة الله تعالى تفصيل تلك الشريعة وإجمالها.
وفي الحديث الصحيح عن أبي ثعلبة الخشني قال، قال رسول الله عليه السلام :«إن الله فرض فروضا فلا تضيّعوها، وحدَّ حدودا فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياءَ رحمةً بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها » رواه الدارقطني وغيره.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« ذَرُوني ما تركتُكم، فإذا أمرتُكم بشيء فأتُوا منه ما استطعتُم، وإذا نهيتكم عن شيء فدَعُوه، فإنما أُهلِكَ مَن كان قبلَكم بكثرة سؤالهم واختلافِهم على أنبيائهم ».
وذكر عن الزهري قال :«بلغنا أن زيد بن ثابت الأنصاري- وهو من علماء الصحابة الكرام- كان يقول إذا سئل عن الأمر : أكان هذا ؟ فإن قالوا : نعم قد كان، حدّث فيه بالذي يعلم، وإن قالوا : لم يكن، قال : ذروه حتى يكون ».
السائبة : كان الرجل يقول إذا شُفيت من مرضي فناقتي سائبة، ويجعلها مثل البحيرة.
الوصيلة : إذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكرا فهو لآلهتهم، وإذا ولدت توءماً ذكرا وأنثى قالوا : وصلتْ أخاها فلا يُذبح الذكر. الحامي : كان من عادتهم إذا نَتُج من صلب الفحل عشرة أبطن حرّموا ظهره، ولم يمنعوه من ماءٍ ولا مرعى وقالوا حَمى ظَهْرَه.
بعد أن نهى الله تعالى في الآية السابقة عن السؤال عما لا لزوم له من الأمور، ناسَبَ أن يبيَن هنا ضلال أهل الجاهلية وخرافاتهم فيما حرموه على أنفسهم، فقال :﴿ مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ ﴾ بالمعنى المشروح أعلاه. فهذه الأمور كلها من بدع الجاهلية، ﴿ ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب ﴾، أي يضعون من عندهم تقاليد وعادات، ينسبونها إلى الله كذبا وزوراً.
قال ابن الكَلْبي في كتاب «الأصنام » :«كان أول من غيّر دين إسماعيل عليه السلام، فنصب الأوثان وسيّب السائبة، ووصَل الوصيلة، وبحرَ البحيرة، وحمى الحامي، عمرو بن لِحْي الخُزاعي. فقد مرض مرضاً شديدا فقيل له إن بالبلقاء من الشام حَمّةً إنْ أتيتهَا بَرِئتَ. فأتاها، فاستحمّ بها فبرئ. ووجد أهلَها يعبُدون الأصنام، فقال : ما هذه ؟ فقالوا نستقي بها المطر ونستنصر بها على العدو. فسألهم أن يعطوه منها، ففعلوا، فقدم بها مكّة ونصَبَها حول الكعبة.
وقد روى ابن جرير عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون الخُزاعي :«يا أكثم، رأيت عمرو بن لِحْي يجر قُصْبَهُ- يعني أمعاءه- في النار، فما رأيتُ من رجلٍ أشبه برجُل منك به، ولا به منك. فقال أكثم : أيضرني شَبَهُه يا نبي الله. قال : لا، لأنك مؤمن وهو كافر، وإنه أول من غيّر دينَ إسماعيل، ونصب الأوثان وسيّب السوائب، فيهم » أي في أهل الجاهلية.
وإذا قيل لهؤلاء الجاحدين : تعالوا إلى ما أنزل الله من القرآن، وما بيّنه الرسول من الشريعة لنهتدي به قالوا : لا نبغي زيادة، بل يكفينا ما وجدْنا عليه آباءَنا، فهم لنا أئمة وقادَة. بذلك يصرّون على التقليد الأعمى حتى لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا من الشرائع، ولا يهتدون سبيلا إلى الصواب.
بعد أن نَعَى الله تعالى على المشركين ما هم عليه من جهل وعناد في اتباع القديم المتوارَث رغم عماه، دون إخضاعه لنقد ولا تمحيص، أمر المؤمنين أن يهتموا بإصلاح أنفسِهم، فإذا أصلحوها وقاموا بما أوجب الله عليهم، لن يضرّهم بعد ذلك ضلالُ غيرهم.
روى ابن جرير عن قيس بن أبي حازم قال : سمعت أبا بكر يقول وهو يخطب الناس : يا أيها الناس، إنكم تقرأون ﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ... ﴾ الآية ولا تدرون ما هي. وإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إن الناس إذا رأوا منكَرا فلم يُغَيِّروه عَمَّهُم الله بِعقاب ».
ومعنى ذلك أن الأمة يجب ألا تتخلَّى عن واجباتها في دعوة الناس إلى الهدى، ولا في كفاح الشر، ومقاومة الضلال، فإذا ضل أناسٌ من غير ديننا، ولم يستجيبوا لهدايتنا، فلا يضرُّونا ذلك. أما إذا قصّرنا في الدعوة، فقد يعمُّنا العقاب.
اعملوا أيها المؤمنون بما أمرتكم به، وانتهوا عما نهيتكم عنه، ومروا من حاد عن سبيلي، بالمعروف، وانهوهم عن المنكر، فإن إليّ مرجعكم، وأَنَا العالِم بما تعملون من خير وشر، فأُخبركم يوم الحساب بكل ذلك ثم أجازي كل فرد على ما قدّم.
ضربتم في الأرض : سافرتم.
تحبسونهما : تمسكونهما وتمنعونهما من الهروب.
ارتبتم : شككتم في صدقهما فيما يُقِرَّانِ به.
يرشدنا الله تعالى هنا إلى أداء الشهادة بحقها، بالوصية، حتى لا يضيع حق من الحقوق على أصحابها، فيقول :
يا أيها الذين آمنوا : حينما تظهر على أحد منكم علامة الموت، ويريد أن يوصي بشيء، فالشهادة بينكم على الوصية : أن يشهد اثنان عادلان من أقاربكم، أو آخران من غيركم إذا كنتم في سفر. وعليكم أن تجمعوا هذين الشاهدين بعد أداء الصلاة التي يجتمع عليها الناس، فيحلفان بالله قائلين : لا نستبدل باليمين عِوضاً ولو كان فيه نفع لنا أو لأحد من أقاربنا، ولا نخفي الشهادة التي أمرنا الله بأدائها.. فإذا أخفينا الشهادة أو قلنا باطلاً حقَّ علينا عذابُ الله لأننا ظالمان.
روى القرطبي في تفسيره قال : كان تميم الداري وعديّ بن بَداء رجُلين نصرانيّين يتّجران إلى مكة في الجاهلية، فلما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم حوّلا تجارتهما إلى المدينة. فخرج بُدليل مولى عمرو بن العاص تاجراً حتى قدم المدينة، فخرجوا تجاراً إلى الشام. حتى إذا كانوا ببعض الطريق اشتكى بُديل، فكتب وصية بيده ثم دسها في متاعه وأوصى إليهما. فلما مات فتحا متاعه، فأخذا منه جاماً من فضة عليه خيوط من ذهب، وقدِما على أهله فدفعا إليهم متاعه. ففتح أهله متاعه فوجدوا كتابه وعهده. وفقدوا الجام فسألوهما عنه فقالوا : هذا الذي قبضنا منه، فقالوا : هذا كتابه بيده. قالوا : ما كتمنا له شيئا. فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية. فأمر رسول الله أن يستحلفوهما في دُبُر صلاة العصر. فحلفا، ثم بعد ذلك ظهر الجام معهما، فقال أهل بُديل : هذا من متاعه، قالا : نعم، لكنّنا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفْنا فكرهْنا أن نكذّب نفوسنا. فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية ﴿ فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقآ إِثْماً ﴾ فأمر النبي رجلَين من أهل الميت أن يحلفا على ما كتما وغيّبا ويستحقانه.
قال تميم الداري : فلما أسملتُ، تأثّمت من ذلك، فأتيت أهل بُديل وأخبرتهم الخبر، وأديتُ إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها. فأتوا به إلى رسول الله، فسألهم البيّنة، فلم يجدوا. فأمرَهم أن يستحلفوه بما يقطع به على أهل دينه. فحلَف، فأنزل الله عز وجلّ ﴿ يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ... ﴾ الآيات فقام عمرو بن العاص ورجلٌ آخر منهم فحلّفا، فنُزعت خمسمائةُ درهمٍ من يد عدي بن بداء.
وكان تميم يقول : صدق الله ورسوله، أنا أخذت الإناء. ثم قال : يا رسول الله، إن الله يُظهرك على أهل الأرض كلِّها فهَبْ لي قريةَ عَيْنون من بيت لحم. وهي القرية التي وُلد فيها عيسى، فكتب له بها كتاباً، فلمّا قدِم عمرَ الشامَ ِأتاه تميم بكتاب رسول الله. فقال عمر : أنا حاضِرٌ ذلك، فدفعها إليه.
قراءات :
قرأ حفص والكسائي «استحق » بفتح التاء الحاء، الباقون «استحق » بضم التاء وكسر الحاء، وقرأ حمزة وأبو بكر «الأوّلين » بفتح الواو المشدَّدة وفتح النون، والباقون «الأوليان » بالتثنية.
الكتاب : كل ما يُكتب.
الحكمة : العلم الصحيح الذي يبعث الإنسانَ على العمل النافع مع معرفة لأسرار ما يعمل.
الأكمه : الذي وُلد أعمى.
البرص : داء بشكل بياضٍ يظهر على الجلد.
السِّحر : تمويه وتخييل يرى الإنسان به الشيء على غير حقيقته. بعد أن وجّه السؤال إلى جميع الرسل، وأعلنوا أن العلم الحقيقي لله وحده، ﴿ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب ﴾ يلتفت الخطاب إلى عيسى بن مريم ويذكّره بنعمة الله عليه وعلى والدته، وبالمعجزات التي أيّده بها، فيناديه من بين الرسل، ويقول له : اذكر ما أنعمتُ به عليك وعلى أمك في الدنيا، حينما ثبتُّك بالوحي، وأنطقتُك في المهد بما يبرّئ أمَّك مما اتُّهمتْ به، كما أنطقتك وأنت كبير بما قد أوحيتُ إليك. لقد علّمتُك الكتابة، وآتَيْتُك الحكمة وعلّمتُك توراة موسى، والإنجيلَ الذي أنزلته عليك. كما أيّدتُك بمعجزات تخرج عن طوق البشر، فصرتَ تتخذ من الطين صورةَ الطير، فتنفخ فتصبح طائراً حياً بقدرة الله لا بقُدرتِك. كذلك تشفي من وُلِد أعمى، وتبرئ الأبرصَ من برصه بإذن الله. كذلك تمّ لك إحياء الموتى بقدرته تعالى.
ففي إنجيل يوحنا أن عازر مات في بيت عنيا ووُضع في مغارة، فجاء المسيح وكان للميت أربعة أيام. فرفع المسيح عينيه إلى فوق وقال :«أيها الآب، أشكرك لأنك سمعت لي، وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي، ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا أنك أرسلتَني » ولما قال هذا : صرخ بصوت عظيم لعازر هلّم خارجاً، فخرج الميت الخ.. وفي هذا النص يصرح المسيح أنه رسول وليس إلهاً، ويطلب من الله أن يعينه. واذكر أيضاً يا عيسى.. حينما منعتُ اليهود من قَتْلِك وصَلْبك عندما أتيتَهم بهذه المعجزات ليؤمنوا بالله، فأعرضَ فريق منهم، وادّعوا أن ما أظهرتَه من المعجزات ما هو إلا من قبيل السحر الواضح.
قراءات
قرأ حمزة والكسائي «ساحر مبين ». وقرأ الباقون «سحر مبين » كما هو هنا في المصحف.
الوحي : الإشارة الخفيّة السريعة، والإلهام، ﴿ وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى ﴾، ﴿ وأوحى رَبُّكَ إلى النحل ﴾.
لا يزال الكلام عن سيدنا عيسى وأُمه، وهذا عرضٌ لشيء من نعمة الله على قومه، ومن معجزاته التي أيّده الله بها وشهد بها الحواريون، وعدد كبير من قومه.
إذ قال الحواريون : يا عيسى : هل يجيبك ربك لو سألته أن يُنزل علينا مائدة من السماء ؟ فأجابهم : يا قوم، خافوا الله من أمثال هذا السؤال إن كنتم تؤمنون به، ولا تطلبوا حُججاً غير التي قدمتها لكم.
قراءات
قرأ الكسائي «هل تستطيع ربك ».
آية منك : علامة.
فاستجاب لهم عيسى وقال : يا ربّنا ومالِكَ أمرِنا، أَنزلْ علينا مائدة من السماء يكون يوم نزولها عيداً للمؤمنين منا، ولتكون معجزة نؤيّد بها دعوتك، وارزُقنا رزقاً طيبا، وأنت خير الرازقين.
وبين لنا هذا الحوار بين المسيح والحواريّين، ذلك الفرق الكبير بين الحواريّين وأصحابِ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فلقد شاهد الحواريون كذلك من المعجزات التي أظهرها الله على يد رسولهم، ومع ذلك فهاهم يطلبون معجزة جديدة لتطمئن نفوسهم. أما أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فإنهم لم يطلبوا أية معجزة بعد إسلامهم.. لقد اطمأنت قلوبهم منذ خالطتها بشاشة الإيمان، وصدّقوا رسولهم، ومضوا في سبيل الله يعملون في نشر الإسلام، ولم يطلبوا على ذلك دليلا.
ولقد تكلم المفسرون كثيراً في موضوع المائدة، هل نزلت فعلاً أم ورد ذلك لضرب المثل، كما تكلم بعضهم في ألوان طعامها، وأطلقوا لخيالهم العنان في كل ذلك. ونحن لا نرى فائدة في ذكر كل ذلك، بل نضرب عنه صفحا، ولكنّنا نشير إلى أنه قد ورد عن الحسن البصري، ومجاهد المفسّر الكبير وقَتادة أحد كبار المحدّثين أنها لم تنزل. وقالوا في تأويل قوله تعالى ﴿ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ... ﴾ إلى آخر الآية. إن الحواريّين لمّا سمعوا هذا الوعيد قالوا : إننا نستغفر الله ولا نريدها.
هذا وقد استدل بعض الكاتبين على عدم نزولها بأن قال : إن النصارى لا يعرفونها وليس لها ذكر في كتبهم. ونحن نقول : إن كتب النصارى التي بين أيديهم كتب ناقصة، فليست هي كل ما جاء به عيسى. أما الأناجيل الأربعة المتداولة فلا تعدو كونها تراجم سيرةٍ لحياة المسيح كتبها أُناس مجهولين بعد المسيح بمدة طويلة.
وقد كتبت هذه الأناجيل من الذاكرة، وهي ليست إلا قصصاً منقّحاً للأناجيل التي بلغ عددها فوق الخمسين إنجيلا. وقد قرر مجمع نيقية المنعقد في سنة ٣٢٥ ميلادية برئاسة الإمبراطور قسطنطين البيزنطي اعتماد هذه الأناجيل الأربعة، وإعدام ما عداها. فالأمر انتقائي وافق هوى نفس الحاكم. ويعلّمنا التاريخ في مثل هذه الحال أن الحاكم لا ينتقي إلا ما يتفق ومصلحته في السيطرة والحكم، دون النظر إلى الصدق أو غيره.
وقد ذكر القرآن الكريم هذه الحقيقة، ولا يلزم أن يكون كل ما قصّه الله تعالى في القرآن قد قصّه في غيره من الكتب المتقدمة، فليس الأمر تجميل طبعات الكتاب الواحد، كما لا يلزم أن يكون أصحاب الأناجيل المارون عدم ذكرهم لقصة المائدة دليلا على عدم ورودها.
يقول الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فيما يختص بنسبة القصص القرآني عامة إلى كتب العهد القديم :«وإذا ورد في كتب أهل المِلل أو المؤرخين ما يخالف بعض هذه القصص، فعلينا أن نجزم بأن ما أوحاه الله إلى نبيه ونُقل إلينا بالتواتر هو الحق، وخَبَره الصادق، وما خالفه هو الباطل، وناقله مخطئ أو كاذب، فلا نعدّه شُبهة على القرآن، ولا نكلف أنفسنا الجواب عنه. فإن حال التاريخ قبل الإسلام كانت مشتبهة الأعلام، حالكة الظلام، فلا رواية يوثق بها في معرفة رجال سندِها. وقد انتقل العالَم بعد نزول القرآن من حال إلى حال، فكان بداية تاريخ جديد للبشر، كان يجب عليهم لو أنصفوا أن يؤرخوا به أجمعين ».
هذا ونحن نؤمن بما قصه القرآن الكريم من أن الحوارين قد سألوا عيسى أن يُنزل عليهم الله المائدة، فسأل عيسى ربه ذلك، وأجاب الله سؤاله على كيفيةٍ أقنعتهم.
لا يفوتنا هنا أن نشير إلى أنه قد ورد في الأناجيل خبر يشبه خبر المائدة. ففي إنجيل متّى، نهاية الإصحاح الخامس عشر :«وأما يسوع فدعا تلاميذه، وقال إني أُشفق على الجميع، لأن لهم الآن ثلاثة أيام يمشون معي، وليس لهم ما يأكلون، ولست أريد أن أصرفهم صائمين لئلا يخوروا في الطريق، فقال له تلاميذه : من أين لنا في البرية خُبز بهذا المقدار حتى يُشبع جمعاً هذا عدده ؟ فقال لهم يسوع : كم عندكم من الخبز ؟ فقالوا : سبعة وقليل من صغار السمك. فأمر الجموع أن يتكئوا على الأرض، وأخذ السبع خبزات والسمك وشكَر وكسَر. وأعطى تلاميذه. والتلاميذ أعطوا الجمع. فأكل الجمع وشبعوا. ثم رفعوا ما فضُل من الكِسر سبع سلال مملوءة، والآكلون كانوا أربعة آلاف ما عدا النساء والأولاد ». فإذا سلّمنا جَدَلاً، بصحة هذا الخبر وأمثاله مما ورد في الأناجيل التي كتبت بعد المسيح بأجيال، فإن خبر المائدة أحق بالتسليم وأصوب. ولماذا لا يكون هذا الخبر نفسه هو حديث المائدة، لكنّه جاء محرَّفاً لأنه كُتب من الذاكرة بعد سنين عديدة ! !
القراءات : وقرأ نافع وعاصم وابن عامر «إني منزلها » بالتشديد. والباقون «منزلها ».
أُذكر أيها النبي، ما سيحدث يوم القيامة، حين يقول الله مخاطبا عيسى ابن مريم على رؤوس الأشهاد : أأنتَ يا عيسى قلتَ للناس اجعلوني أنا وأمي إلَهين، من دون الله ؟ فيقول عيسى : سبحانك. إنني أنزّهك تنزيهاً تاماً عن أن يكون لك شريك، ولا يصح لي أن أطلب طلبا ليس لي أدنى حق فيه. ولو كنتُ يا ربّي قلتُ ذلك لعلمتَه سبحانك، فأنت تعلم خفايا نفسي، ولا أعلم مايحيط بكل شيء، أما أنا فلا أعلم شيئاً.
ما قلتُ لهم إلا ما أمرتَني بتبليغه لهم. قلتُ لهم : اعبدوا الله وحده مالك َ أمري وأمركم، وأنك ربي وربهم، وأنني عبد من عبادك مثلهم.
﴿ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ﴾ كنت قائما عليهم أراقبُهم وأشهد على ما يقولون ويفعلون مدة وجودي بينهم.
﴿ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾
فلمّا انتهى أجل إقامتي الذي قدّرتَه لي بينهم، وقبضتني إليك، ظللتَ أنت وحدك المطلع عليهم، لأني إما شهِدت من أعمالهم ما عملوه وأنا بين أظهُرهم، فكل شيء غيّروه بعدي لا عِلم لي به، وأنت تشهَد
على ذلك كله.
وظاهر النصوص القرآنية يفيد أن الله تعالى قد توفّى عيسى ابنَ مريم ثم رفعه إليه، فيما تفيد بعض الآثار أنّه حيّ عند الله. وليس هناك أي تعارض، فإن الله تعالى قد توفّاه من حياة الأرض، لكنّه حيٌّ عنده، مثل بقيّة الشهداء.. فهم يموتون في الأرض وهم عند الله أحياء. أما صورة حياتهم عند ربهم فشيء لا نعرف كيفَه.
وقد جاء في إنجيل يوحنا نص صريح بأن المسيح رسول :«وهذه هِي الحياةُ الأبدية، أن يعرفوك أنت الإلَه الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته ». فالتبديل في العقيدة والتغيير، إنما حدث بعد غياب المسيح.
وقد تكلم المفسّرون والعلماء في موضوع الرفع الذي نطرقه وأطالوا في ذلك، وقد بحث أستاذنا المرحوم الشيخ محمود شلتوت هذا الموضوع مستفيضا في فتاواه، وخلاصة ما قال :«والمعنى أن الله توفى عيسى ورفعه إليه وطهره من الذين كفروا.
وقد فسّر الألوسي قوله تعالى ﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ﴾ بمعنى : إني مُسْتوفٍ أجَلَك ومميتُك حتفَ أنفك لا أسلِّط عليك من يقتُلُك، وهو كنايةٌ عن عصمته من الأعداء وما كانوا بصدَدِه من الفتك به عليه السلام.
وظاهرٌ أن الرفع- الذي يكون بعد استيفاء الأجَل هو رفْع المكانةٍ لا رفع الجسد، خصوصاً وقد جاء بجانبه قولُه :﴿ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ ﴾ مما يدل على أن الأمر أمرُ تشريفٍ وتكريم.
وقد جاء الرفع في القرآن كثير بهذا المعنى، ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ ﴾، ﴿ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ ﴾، ﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾، ﴿ وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً ﴾، ﴿ يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ ﴾. إلى أن يقول ﴿ وبعد ﴾، فما عيسى إلا رسولٌ قد خلَتْ من قبلِه الرسل، ناصَبَه قومُه العداء، وظهرت على وجوههم بوادرُ الشر بالنسبة إليه، فالتجأ إلى الله، فأنقذه الله بعزته وحكمته وخيّب مكر أعدائه. هذا هو ما تضمنته الآيات ﴿ فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر قَالَ مَنْ أنصاري إِلَى الله ﴾ إلى آخرها، بين الله فيه قوة مَكره بالنسبة إلى مكرهم، وأن مكرهم في اغتيال عيسى قد ضاع إذ قال :﴿ يا عيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ ﴾، فهو يبشِّرُه بإنجائه من مكرِهم وردِّ كيدهم في نحورهم، وأنه سَيَستوفي أجَله حتى يموت من غير قتل ولا صلب، ثم يرفعه الله إليه. الخ.
إن تعذِّبهم بما فعلوا من تبديل وتغيير فإنهم عِبادُك، تتصرف فيهم كما تريد، وإن تعفُ عنهم فإنك وحدك مالكُ أمرِهم، والقاهر الذي لا يُغلَب. ومهما تدفعه من عذاب فلا دافع له من دونك، ومهما تمنحهم من مغفرة فلا يستطيع أحد حرمانهم منها بحَوْلِك وقوّتك، لأنك أنت العزيز الذي لا يُغلب، والحكيم الذي يضع كل شيء موضعه.
﴿ قَالَ الله هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ ﴾، أي أن هذا اليوم هو يومُ القيامة، اليوم الّذي ينفع فيه الصادقين صدقُهم في إيمانهم، وفي سائر أقوالهم وأحوالهم.
فهؤلاء الصادقون أعَدّ الله لهم جناتٍ يعجز عنها الوصف تجري من تحت أشجارها الأنهار، ثواباً من عند الله. وهم مقيمون فيها لا يخرجون منها أبدا.
قراءات :
قرأ نافع «هذا يوم » بالنصب، والباقون «هذا يوم » بالرفع.
أي أن الملك كله والقدرة كلها لله وحده فلا يجوز لإنسان أن يتوجه إلا إليه.
وقد روى الإمام أحمد والنّسائي والحاكم والبيهقي عن جُبير بن نفير الحضرمي الشامي، ( أحد المخضرمين، أسلم في زمن أبي بكر ) قال : حججتْ فدخلت على عائشة، فقالت : يا جبير، تقرأ المائدة ؟ قلت : نعم. فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه، وما وجدتم من حرام فحرموه.