تفسير سورة المائدة

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة المائدة
مدنية إلا قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (الآية)، فقد روى في الصحيحين عن عمر أن هذه الآية نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع، وآياتها مائة وعشرون آية.
وهي كسورة النساء كلاهما مشتمل على عدة عهود وأحكام، وفيهما ذكر لأهل الكتاب والمنافقين، وقد مهدت سورة النساء لتحريم الخمر ثم جاء تحريمها قاطعا في المائدة،
وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأ سورة المائدة في حجة الوداع وقال: «يا أيها الناس إن سورة المائدة آخر ما نزل فأحلوا حلالها وحرموا حرامها».
الوفاء بالعهود [سورة المائدة (٥) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)
473
المفردات:
أَوْفُوا الوفاء: الإتيان بالشيء وافيا كاملا لا نقص فيه. بِالْعُقُودِ: بالعهود المؤكدة الموثقة، وهي تشمل عقود الشرع فيما أحل وحرم وفرض، وعقود الناس بعضهم مع بعض في البيع والشراء والمناكحة وغير ذلك. بَهِيمَةُ: وهي ما لا عقل لها، سميت بذلك لإبهام أمرها من جهة نقص نطقها وفهمها وعدم تمييزها وعقلها، وخصها العرف بذوات الأربع من حيوان البر والبحر. الْأَنْعامِ: هي الإبل، والبقر، الشامل للعراب الجواميس، والضأن الشامل للخراف والمعز، وألحق بها الظباء وبقر الوحش وحمره. شَعائِرَ: جمع شعيرة، مأخوذ من الشعور والإعلام، والمراد معالم دينه، وخصت بمناسك الحج. الْهَدْيَ: ما يهدى إلى الحرم ويذبح فيه للفقراء. الْقَلائِدَ: جمع قلادة، وهو ما يعلق في العنق. آمِّينَ:
قاصدين. لا يَجْرِمَنَّكُمْ: لا يحملنكم ولا يكسبنكم. شَنَآنُ: بغضهم بغضا شديدا. الْبِرِّ: ما اطمأن إليه القلب. الْإِثْمِ: كل ذنب ومعصية، وهو ما حاك في الصدر وخفت أن يطلع عليه الغير.
المعنى:
هذا بيان للناس من الله ورسوله، فيا من اتصفتم بالإيمان وتطهرت قلوبكم من دنس الشيطان أوفوا بالعقود التي عقدتموها بينكم وبين الله أو بينكم وبين أنفسكم، أو بينكم وبين الناس. ومن كل ما أمر به الشرع ونهى، أو تعاقدتم عليها كالبيع والشراء والنكاح... إلخ،
فالنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «المسلمون عند شروطهم»
وقال: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل»
وقال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»
فإذا يجب الوفاء بالعقود والعهود، بشرط أن توافق الشرع الشريف.
ولقد أخذ القرآن الكريم يفصل تلك العهود المأخوذة علينا من قبله، مع أن فيها بيانا لنعمه التي تحملنا على الوفاء بالعهود.
أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها إلا ما يتلى عليكم من المحرمات العشر الآتية، والأنعام
474
لا تشمل ذوات الحافر من الخيل والبغال والحمير، وكذلك السباع وكل ما له ناب يعتمد عليه في الاعتداء على غيره.
حالة كونكم غير محلى الصيد في الإحرام، فالذي يجلس في الحرم ولو لم يحرم أو من أحرم بالحج والعمرة ولو لم يكن في الحرم. يحرم عليه الاصطياد والأكل منه.
إن الله يحكم بما يريده من الخير لكم أيها المؤمنون، فانظروا مواقع أحكامه تجدوها عين الخير والصواب.
وانظر- رعاك الله ووفقك- تجد الآية اشتملت على أمر بالوفاء بالعهد ونهى عن نقض الوعد، وإحلال الأنعام، واستثناء بعد استثناء، وإخبارا عن قدرته وحكمته، كل ذلك في سطرين، وتبارك الله أحسن الخالقين.
يا أيها الذين آمنوا: لا تحلوا شعائر الله ولا تتهاونوا في معالم الدين مطلقا خصوصا مناسك الحج ومشاعره، على معنى: لا تتعدوا حدود الله، ومكنوا المسلمين جميعا من أداء مناسك الحج.
ولا تتهاونوا في حرمة الشهر الحرام وهو جنس يشمل الأربعة الحرم (ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب) تلك الأشهر الحرم لا تقاتلوا فيها المشركين كما روى عن ابن عباس وقتادة، ولا تبدلوها بغيرها ولا تعترضوا الهدى الذي أهدى للحرم بالأخذ أو التعرض له حتى لا يصل إلى الكعبة، ولا ذوات القلائد من الأنعام، وخصت بالذكر مع اندراجها في الهدى تشريفا لها واعتناء، وقيل: المراد أصحاب القلائد من الكفار، ولا تعترضوا الآمّين البيت الحرام والقاصدين له، فالمعنى: أن الله يوجب على المسلمين أن يكون زمان الحج ومكانه وقت أمان واطمئنان، لا خوف ولا قلق للحاج حتى يكون آمنا على نفسه وماله فالحجاج يبتغون فضلا من الله ورضوانا، ومن كان كذلك وجبت المحافظة عليه.
وإذا تحللتم وخرجتم من الإحرام وأنتم في غير أرض الحرم فاصطادوا كما تشاءون، فإن المحّرم الصيد وأنتم محرمون أو أنتم في أرض الحرم وإن لم تكونوا محرمين، فإذا تحللتم من هذين فلا إثم عليكم في الصيد وأكله.
475
ولا يحملنكم بغض قوم لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام عام الحديبية، لا يحملنكم هذا على الاعتداء عليهم بغير حق، فالعفو والصفح خير.
وتعاونوا على البر وهو ما تطمئن إليه القلوب وتسكن من كل خير وطلب الشرع الشريف على سبيل الأمر والنهى، ولا تتعاونوا على الإثم وهو ما حاك في الصدر وخفت أن يطلع عليه غيرك من كل ذنب ومعصية لله، ولا تتعاونوا على العدوان على حق الغير، وهذا من جوامع الكلم الشامل لكل معروف ومنكر وكل خير وشر.
فالقرآن يأمرنا بالتعاون على كل ما ينفع الأمة في دينها ودنياها، ولا شك أن هذا مبدأ اجتماعي خير، فالأمم وقد تكاثرت أفرادها وتشعبت اتجاهاتها، وتعددت مصالحها، أصبح لا يؤثر فيها مجهود الفرد مهما كان قويا، بل لا بد من تعاون غيره وتسانده معه، ومن ثم كانت الجمعيات الدينية والتكتل للخير، من أقوى دعائم النجاح والفلاح في هذا العصر.
وقد كان المسلمون في العصر الأول يتعاونون على البر والتقوى بدون حاجة إلى تكتل وارتباط لأن الكل مرتبط بعهد الله وميثاقه، أما نحن اليوم ففي أشد الحاجة إلى توحيد الاتجاهات حتى تأتى الدعوة إلى الله بثمرها الطيب، واتقوا الله أيها الناس إن الله شديد العقاب فاحذروه. وإياكم ومخالفة أمره.
المحرمات من المطعومات [سورة المائدة (٥) : آية ٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)
476
المعنى:
إن الله تعالى أحل لنا أكل بهيمة الأنعام وسائر الطيبات من الحيوان الذي يعيش في البر والبحر والجو يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ.
أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ وإنما حرم علينا أربعة أنواع بالإجمال: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [سورة النحل آية ١١٥].
وفي هذه الآية ذكر المحرم وهو عشرة:
الميتة: وهي ما ماتت وحدها بدون فعل فاعل، وفي الشرع: هي التي لم تذكّ ذكاة شرعية، وقد حرمت لما فيها من الضرر إذ الغالب أنها ماتت من مرض، وبقي فيها مكروبه وجراثيمه التي تعيش في الدم بعد الوفاة، أما إذا ذكيت فإن الدم الذي يحمل الجراثيم أو أغلبه ينزل منها، على أنها مما تعافها النفوس الطيبة وتأنف من أكلها الطباع السليمة.
الدم: والمراد به المسفوح لا المتجمد كالكبد والطحال، إذ هو مباءة للجراثيم الفتاكة، على أنه مستقذر عند الطبع السليم، مما يعسر هضمه وهو من فضلات الجسم الضار، كالبراز، فدل ذلك على أنه لا يحل أكله أبدا.
ولحم الخنزير: وهو ثالثة الأثافى، والمراد لحمه وعظمه ودهنه، وهو حيوان قذر لا يأكل إلا القاذورات والمواد العفنة، وقد أثبت الطب الحديث أن أكله يولد الدودة الشريطية، والدودة الوحيدة، والحلزونية، على أنه عسير الهضم، ضار بالمعدة ضررا بالغا، ولولا ما يستعين به بعض الغربيين من الأدوية ما أكلوه، على أن أكثر الدول حرمت ذبحه، وهل تقبل النفوس الطيبة على أكل حيوان كهذا؟ والإسلام حينما حرم
477
الكلب والخنزير لم يكن متعديا ولا متجنيا، بل لما فيهما من الضرر والخطورة، وإنما ينظر الشرع للجماهير والشعب لا لبعض أفراد يعنون بكلابهم مثلا فلا يطعمونهم إلا شهى اللحم!!! ما أهل لغير الله به: والإهلال رفع الصوت، وقد كانوا يرفعون صوتهم عند الذبح في الجاهلية بقولهم: باسم اللات والعزى... إلخ. فما ذبح وقد ذكر عليه اسم غير الله كان حراما أكله، إذ أكله مشاركة لأهله في عبادة غير الله، وهذا مما يجب إنكاره لا المشاركة فيه.
المنخنقة: هي ما ماتت خنقا بأى شكل كان، وهي نوع من الميتة التي لم تذك ذكاة شرعية، وإنما خصها القرآن بالذكر مع اندراجها في الميتة لئلا يظن أنها ماتت حتف أنفها بل بفعل فاعل فتحل، ولكن الشرع شرط الذكاة ليتأكد الإنسان مما يأكل ويثق من أن ما يتغذى به سليما من هذا الدم الفاسد الذي يراق بالذبح.
الموقوذة: هي التي ماتت بعصا أو بحجر بلا ذكاة شرعية وكانوا يأكلونها في الجاهلية، والوقذ يحرم في الإسلام لأنه تعذيب للحيوان شديد، وليست معه ذكاة ومن هنا حرمت.
ويدخل في الموقوذة ما رمى بعصا أو حجر ليس له حد، وما رمى بالبندق «وهو كرة من الطين تجفف ويرمى بها بعد يبسها» وكذا الحصاة فإن هذا كله لا يفقأ عينا ولا ينكى عدوا ولا يحرز صيدا وليس سببا للقتل غالبا أما الرصاص المستعمل الآن في سلاح الصيد فجائز شرعا على الصحيح.
المتردية: هي ما سقطت من مكان عال كجبال، أو هوت في بئر بسبب ذلك هي كالميتة لا يحل أكلها بدون تذكية، ويجوز عقرها في أى مكان للضرورة فتحل.
النطيحة: وهي ما نطحتها بهيمة أخرى فماتت، وهي حرام كالميتة.
ما أكل السبع: وهي ما قتلت بافتراس حيوان كالسبع والذئب والنمر مثلا، والمراد ما بقي منها بعد السبع لا ما أكلت كلها، وكانوا في الجاهلية يأكلون ما بقي من السباع والوحوش.
478
إلا ما ذكيتم: أى: إلا ما أدركتموه حيا مما سبق فذكيتموه من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، وما أكل السبع جزءا منه، وما أهل لغير الله به. فإذا كانت فيه حياة ولو بسيطة بأن يطرف عينا أو يضرب برجل أو يد ثم ذكيتموه ذكاة شرعية صار حلالا، وإلا فلا.
أما الميتة والدم ولحم الخنزير فلا تحل أصلا ذكيت أم لا.
ما ذبح على النصب: وهو آخر المحرمات العشر، والنصب: حجارة حول الكعبة، قيل: كان عددها ثلاثمائة وستون حجرا، وكان أهل الجاهلية يذبحون عليها تقربا للأصنام، وهو نوع مما ذكر عليه اسم غير الله فحرم أكله لهذا.
وقد أضاف القرآن الكريم إلى محرمات الطعام التي كان الجاهليون يستحلونها خرافة أخرى كانوا يعملونها وهي:
الاستقسام بالأزلام: أى معرفة ما قسم له بواسطة الأزلام وكانت ثلاثة أنواع في الجاهلية، نوع كان مع الشخص وعدده ثلاثة مكتوب على واحد (افعل) والثاني (لا تفعل) والثالث غفل.
النوع الثاني سبعة قداح، واحدها قدح، وكانت عند هبل في جوف الكعبة، مكتوب عليها ما يدور بين الناس من النوازل.
النوع الثالث قداح الميسر، وعددها عشرة، سبعة منها فيها حظوظ وثلاثة غفل...
إلخ، ما هو معروف.
أى: حرم عليكم معرفة ما قسم لكم بالأزلام، والحكمة في هذا أنه من الخرافات والأوهام التي تعوق نشاط الفرد والأمة ومدعاة للكسل والسير على غير بصيرة وهدى، على أنها تجعل الناس ألعوبة في يد الكهان، والإسلام برىء من هذا كله.
وفي هذه الأيام شاعت معرفة الحظ والاستقسام بأوراق (الكوتشينة) و (الودع) و (الفنجان) وهذا كله منكر شرعا لا يليق بعقل المسلم.
على أن معرفة الحظ والنصيب بواسطة المسبحة أو المصحف شيء لا يعرفه الشرع ولا القرآن.
479
والاستخارة الواردة شرعا: أن يصلى الإنسان ركعتين نفلا للاستخارة ثم يدعو الله بدعاء يشرح به صدره لما يريده إن كان خيرا له في دينه ودنياه، وللنبي صلّى الله عليه وسلّم دعاء في الاستخارة موجود في كتب الحديث.
كل المحرمات التي ذكرت لكم فسق وخروج عن الدين والمألوف من الحكمة والعقل.
اليوم وهو يوم عرفة في حجة الوداع يئس الكفار من التغلب على دينكم ويئس الشيطان من أن يعبد غير الله في أرضكم، وعلى ذلك فلا تخشوا أحدا إلا الله، ولا يهمنكم أمر الكافرين فقد عصمكم الله منهم، واخشوا الله واتقوه ولا تخالفوه في شيء أبدا.
اليوم أكملت لكم دينكم بإحلال الحلال وتحريم الحرام حتى صار كل شيء بينا واضحا لا لبس فيه ولا غموض، وكفيتكم أمر عدوكم وجعلت اليد العليا لكم، وأتممت عليكم نعمتي فلم يحج معكم مشرك أبدا، وقد تحقق الوعد، وفتحت مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وجاءكم النصر ورضيت لكم الإسلام دينا، واخترته لكم وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ «١».
كل ما ذكر من المحرمات العشر حرام على المسلمين جميعا إلا المضطر الذي حمل قهرا على تناول ما يضره كأن يكون في مخمصة تخمص لها البطون، أى: تضمر، فمن اضطر إلى أكل شيء مما ذكر من المحرمات بشرط أن يكون غير مائل إليه لذاته ولا جائر فيه ولا متجاوز قدر الضرورة، فإن الله غفور له ولمثله رحيم بخلقه.
(١) سورة آل عمران آية ٨٥.
480
الحلال من المطعومات [سورة المائدة (٥) : الآيات ٤ الى ٥]
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)
المفردات:
الطَّيِّباتُ: جمع طيب، وهو ضد الخبيث. الْجَوارِحِ: جمع جارحة، وهي الصائدة من الكلاب والفهود والطيور. مُكَلِّبِينَ: من التكليب وهو: تعليم الكلاب ثم استعمل في تعليم الجوارح مطلقا. وَالْمُحْصَناتُ قيل: هن الحرائر، وقيل: العفيفات عن الزنا. مُسافِحِينَ: مجاهرين بالزنا. مُتَّخِذِي أَخْدانٍ:
مسرين بالزنا، والخدن: الصديق. حَبِطَ عَمَلُهُ: بطل ثواب عمله.
سبب النزول:
روى أن عدى بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين سألا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالا: يا رسول الله قد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا؟ فنزلت
وروى أن عدى بن حاتم الطائي أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسأله عن صيد الكلاب فلم يدر ما يقول حتى أنزل الله هذه الآية.
481
المعنى:
الله- سبحانه وتعالى- سخر لنا ما في السموات والأرض لننتفع به في وجوه النفع من الأكل والشرب واللباس والزينة... إلخ. ولذا كان الأصل في الأشياء الحل إلا أن هناك نفوسا حرمت الطيب وأحلت المحرم وخاصة في المطعومات فبين الله لنا ما حرم وما أحل لا سيما بعد سؤال الناس عن هذا.
يسألك المؤمنون أيها الرسول: ماذا أحل لهم من الطعام واللحوم؟ قل: أحل لكم الطيبات، أى: غير الخبيثات، وصيد ما علمتم من الجوارح المعلمة، وما هي الطيبات؟ هي: كل ما لم يرد نص بتحريمه واستطابته النفوس الطيبة المعتدلة المزاج، والمتوسطة في المعيشة.
فقد ورد نص بتحريم المحرمات العشر الماضية في القرآن، وورد عن ابن عباس (نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير) والسبع عند الشافعى ما يعدو على الناس والحيوان، وعند أبى حنيفة كل ما أكل اللحم ويمكن أن يقال: ما لم يرد فيه نص قسمان: حلال طيب، وحرام خبيث. وهل العبرة في التميز ذوق أصحاب الطباع السليمة من العرب أو يعمل كل أناس وجماعة بحسب أذواقهم؟
قولان.
وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم عاف أكل الضب وأجاز أكله لمن سأله كما في حديث خالد ابن الوليد في الصحيحين وغيرهما.
هذا في صيد البر وحيوانه، أما حيوان البحر فكله حلال أكل العشب أو أكل اللحم، أما ما يعيش في البر والبحر كالضفدع والتمساح فلا يحل أكله، وكذا الثعبان والسلحفاة للاستخباث والسم الذي في الثعبان.
أما صيد الجوارح فقد اشترط أن تكون الجارحة معلمة ومرسلة من الصائد حتى يكون قتل الجارح للصيد ذكاة شرعية. وإن أتى به حيا ذكاه صاحبه، وضابط التعليم أن تكون الجارحة إذا أغراها صاحبها بالصيد ذهبت إليه، وإذا كفها انكفت وتمسك عليه الصيد فلا تأكل منه شيئا.
482
فإن أكلت منه فالجمهور على أنه لا يحل لأنه مثل فريسة السبع المحرمة سابقا، وذلك
لحديث عدى بن حاتم: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل، فإنى أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه»
وفي رواية أخرى: «وإذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه وإن أدركته قد قتله ولم يأكل منه فكله، فإن أخذ الكلب ذكاة».
وبعضهم يرى حل ما بقي من الكلب لظاهر الآية
ولحديث أبى ثعلبة الخشني: «فكل وإن أكل منه»
وبعضهم لا يأكل بقية الكلب ويأكل بقية الطائر.
وفي رواية: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن صيد القوس فقال: «ما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل»
وفي رواية أخرى: ذكى أو لم يذك
(ذبح أو لم يذبح) وصيد البندقية كالقوس، وبعضهم يشترط في حله الذبح إن أدرك حيا. وما علمتم من الجوارح مكلبين، تعلمونهن مما علمكم الله من أنواع الحيل والتأديب فكلوا مما أمسكن عليكم، واذكروا اسم الله عليه، أى: عند إرسال الكلب، وقيل: عند الأكل، وعلى ذلك فهل التسمية في الآية سنة إن نسيها الشخص فلا حرج؟ روى ذلك عن ابن عباس، وبعضهم يرى أنها واجبة.
واتقوا الله في هذه الحدود، وقفوا عندها: إن الله سريع الحساب، لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض.
روى أنه يحاسب الناس جميعا في مقدار نصف يوم.
أحل لكم الطيبات على سبيل التفضيل، وذبائح الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى حلال لكم دون ذبائح المشركين عبدة الأصنام والأوثان، والتسمية عند الذبح قيل:
لا بد منها، والأرجح إن ذكر اسم غير الله فلا تأكل من المذبوح، هذا إن سمعته، فإن لم تسمعه يذكر شيئا فكل وهو حلال.
وطعامكم أيها المؤمنون حل لهم، فلا جناح عليكم أن تطعموهم أو تبيعوهم شيئا.
والمحصنات، أى: الحرائر العفيفات من المؤمنات، والذين أوتوا الكتاب من قبلكم حلال لكم، بشرط أن تؤتوهن مهورهن بقصد الإحصان والإعفاف، لا سفح الماء على طريق الزنا العلنى، ولا عن طريق الزنا السرى وهو اتخاذ الأخدان.
483
ومن يكفر بالإيمان وفروعه وأصوله، وأحكامه وقوانينه، فقد حبط عمله وبطل أجره وهو في الآخرة من الخاسرين.
وعلى العموم: للصيد والذبائح باب واسع في كتب الفقه والحديث يحسن الرجوع إليه لمن أراد المزيد.
الوضوء والغسل والتيمم [سورة المائدة (٥) : الآيات ٦ الى ٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
المفردات:
وُجُوهَكُمْ: جمع وجه، وهو ما تقع به المواجهة، وحدّه طولا ما بين منبت
484
شعر الرأس إلى منتهى اللحيين، وعرضا ما بين الأذنين. الْمَرافِقِ: جمع مرفق، وهو أعلى الذراع وأسفل العضد. الْكَعْبَيْنِ: العظمين الناتئين عند اتصال الساق بالقدم من الجانبيين. جُنُباً أى: أصابتكم جنابة بمجامعة النساء، أو إنزال المنى.
بِذاتِ الصُّدُورِ: بصاحبة الصدور، والمراد بها: السر الذي لم يبارح الصدور.
المناسبة:
بعد أن بين الله- سبحانه وتعالى- عهوده الخاصة بالحلال والحرام في الطعام والنكاح، أخذ يبين ما يقتضيه هذا من الشكر لله والصلاة، ومفتاحها الوضوء والغسل والتيمم، وختم الآية ببيان الحكمة في الطهارة وتذكيرنا بالعهود والمواثيق التي التزمناها،
روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الطهور».
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا: إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون وهذا التقيد بالحدث أتى من السنة الشريفة، فعليكم بالوضوء، فالوضوء واجب عند كل صلاة على المحدث حدثنا أصغر، وإنما يستحب على غير المحدث عند كل صلاة.
فقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ»
وروى البخاري عن عمر ابن عامر الأنصارى: سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ عند كل صلاة، قال: قلت: فأنتم كيف تصنعون؟ قال: كنا نصلى الصلوات بوضوء واحد ولم نحدث».
فرائض الوضوء:
إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم، واغسلوا أيديكم إلى المرافق، فالمرافق تغسل من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وامسحوا برءوسكم، امسحوا ولو شعرة واحدة عند الشافعى- رضى الله عنه- وربع الرأس عند الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان، وعلى كل الرأس عند مالك للاحتياط وقد فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم
485
هذا كله، والآية تحتمل كل هذا. إذ الباء في قوله تعالى: بِرُؤُسِكُمْ هل هي للإلصاق أو للتبعيض أو زائدة صلة؟؟ ولا تنس أن خلافهم رحمة، ومن هنا كانت دراسة الأزهر للغة دراسة حرفية أمرا واجبا حتى يتسنى استخلاص الأحكام أو فهمها فهما صحيحا! وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ أى: واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين، وهما داخلان كالمرفقين. ومن فرائض الوضوء النية عند الشافعى، واستدل بقوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ
وبحديث «إنما الأعمال بالنيات»
والترتيب كذلك
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أبدأ بما بدأ الله به»
وتوسط مسح الرأس بين غسل اليدين والرجلين يدل على الترتيب، وعلى ذلك فتكون فروض الوضوء: النية، وغسل الوجه، وغسل اليدين، ومسح بعض الرأس، وغسل الرجلين، والترتيب، وله سنن كثيرة مذكورة في كتب الفقه.
روى الترمذي وغيره عن بعض الصحابة قال: رأيت عليا توضأ فغسل كفيه حتى أنقاهما، ثم مضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، وذراعه ثلاثا، ومسح رأسه مرة ثم غسل قدميه إلى الكعبين ثم قال: «أحببت أن أريكم كيف كان طهور رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» أى: وضوءه.
وفي هذا الحديث فروض الوضوء وبعض السنن، وصح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وأما التثليث فهو السنة التي جرى عليها العمل في الكثير.
نواقض الوضوء:
ما خرج من السبيلين، النوم على غير هيئة المتمكن، وتلاقى بشرتي ذكر وأنثى، وعند الأحناف: اللمس لا ينقض مطلقا، وقيل: بالشهوة ينقض فقط، وعند الإمام مالك: اللمس ينقض إذا كان بشهوة مقصودة أو وجدها بدون قصد، فإن لم يقصد اللذة ولم يجدها، فلا ينتقض وضوؤه، ومس فرج الآدمي بباطن الكف، وخالف بعضهم في هذا، وليست نواقض الوضوء في الآية ولكن تعميما للفائدة ذكرت، وعلى العموم فللوضوء أحكام كثيرة في كتب الفقه.
486
الغسل:
هو تعميم البدن بالماء الطاهر، وله أسباب منها: الجنابة وتكون بإيلاج الحشفة أو قدرها من الذكر في فرج، أو بنزول المنى، وكذا الولادة، وكذا الحيض والنفاس، فمن كان جنبا أو عنده سبب من أسباب الغسل المتقدمة وأراد الصلاة فعليه الغسل مع النية وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا.
التيمم:
هو ضربتان للوجه واليدين بنية من تراب طاهر له غبار، وقيل: لا يشترط، وله أسباب: وهي تعذر استعمال الماء لمرض أو سفر أو أحدث الشخص حدثا أصغر أو حدثا أكبر (كما تقدم في الغسل) وطلب الماء فلم يجده أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ جامعتم فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً.
حكمة مشروعية الوضوء والغسل:
غسل البدن كله أو أطرافه مما يبعث النشاط والهمة فيقف العبد بين يدي ربه نشيطا حاضر القلب صافى الروح، وعند حصول سبب من أسباب الغسل كالجنابة أو الجماع مثلا وهو ما يسمى بالحدث الأكبر يعترى الجسم استرخاء وفتور يزولان بالغسل، على أن النظافة من الإيمان (وهي أمر لازم للمسلم من حيث كونه مسلما. ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج حيث أوجب الغسل والوضوء للصلاة وعند فقد الماء أوجب التيمم، ولكن يريد ليطهركم ماديا من الدنس والرجس، ومعنويا من الكسل والفتور ويبعث النفس صافية مشرقة لتناجى ربها، وليتم نعمته برسمه طريق العبادة لكم، بهذا تقومون بالشكر الواجب عليكم.
واذكروا نعمة الله عليكم الذي وفقكم للإسلام وهداكم للقرآن، واذكروا ميثاقه الذي أخذه عليكم وأنتم في عالم الذرة، وحين الإيمان بالرسول والشهادة لله (إذ قلتم بلسان الحال: سمعنا وأطعنا).
واتقوا الله في كل شيء ولا تنقضوا الميثاق إن الله عليم بذات الصدور.
487
إتقان العمل والشهادة بالقسط مع التذكير بنعم الله [سورة المائدة (٥) : الآيات ٨ الى ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)
المفردات:
قَوَّامِينَ: جمع قوّام، وهو المبالغ في القيام بالشيء والإتيان به مقوما تاما كاملا. بِالْقِسْطِ: بالعدل. يَجْرِمَنَّكُمْ: يحملنكم ويكسبنكم. خَبِيرٌ الخبرة: العلم الدقيق الذي يؤيده الاختبار. يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ يقال: بسط إليه لسانه: إذا شتمه، وبسط إليه يده: إذا بطش به.
488
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا: كونوا من أصحاب النفوس الطيبة والأرواح العالية الذين يتقنون أعمالهم، ويخلصون فيها إخلاصا لله ولرسوله، سواء منها الأعمال الدينية والدنيوية، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، والإتقان والإخلاص أساس النجاح، وأما الشهادة بالقسط وتحرى العدل فهي الدعامة الأولى لسعادة الأمم، وبناء المجتمع وانتشار الطمأنينة، وانصراف كل إلى عمله.
وأنت إذا لم تحاب أحدا في شهادتك، وقمت بها عادلا. لم تراع قرابة ولا صداقة ولم تخش في قول الحق لومة لائم، ولم تحملك عداوة قوم لك ولا بغضهم على الجور وعدم العدل، كنت من القوامين لله والشهداء بالقسط ولو على أنفسهم.
فالعدل العدل!!! فهو أقرب طريق إلى التقوى، والخلوص من المهالك والمعاصي، واحذروا عقاب الله فإنه بكم خبير وبعملكم بصير، وسيجازيكم عليه إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
فهذه الآية الكريمة والآية التي تقدمت في سورة النساء كلاهما يعالج داء خطيرا من أكبر الكبائر وهو كتمان الشهادة، وشهادة الزور، والله قد وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجرا عظيما لا يقدر قدره ولا يعرف كنهه إلا هو سبحانه وتعالى.
وأما الذين كفروا، وكذبوا بآيات الله الكونية، وآياته المنزلة على رسله مع العلم بأن من يؤمن بالبعض ويكفر بالبعض فقد كفر بالكل، فهؤلاء أصحاب النار الملازمون لها، وهي بئس المأوى وبئس المصير.
يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعم الله عليكم التي لا تحصى، ومن نعمه السابغة أن دفع عنكم كيد أعدائكم ورده في نحورهم، على كثرتهم وقوتهم، وضعفكم وقلتكم، وقد هموا وعزموا بل وأنفقوا جهدهم أن يمدوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء ولكن الله مؤيد رسله وناصر دينه ومتمّ نوره ولو كره الكافرون، ولقد صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده!!! وقد روى في أسباب النزول لهذه الآية روايات كثيرة كلها تدور حول رجل هم بقتل
489
النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم حفظه الله منه مع أنه مسلح. وكان النبي أعزل، ولقد منّ الله على المؤمنين عامة بحفظ النبي- عليه الصلاة والسلام- والصحابة من أعدائهم ولا شك أن ذلك حفظ للدين، وذكرهم بهذا ليقتفى المؤمنون آثار من تقدمهم والله ناصرهم ما نصروه، وحافظهم من أعدائهم إن كانوا قوامين لله شهداء بالقسط عدولا.
واتقوا الله أيها الناس وعلى الله وحده فليتوكل المؤمنون، لا على قوتهم وبأسهم، ولا يغرنهم الذين كفروا مهما كثروا وتفننوا في أساليب الخراب والدمار، فالله معهم وناصرهم ما داموا مؤمنين.
كيف نقض اليهود والنصارى المواثيق؟ [سورة المائدة (٥) : الآيات ١٢ الى ١٤]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤)
490
المفردات:
نَقِيباً نقيب القوم: كبيرهم الذي يعنى بهم وبمصالحهم ويعرف دخائلهم وهو الضامن لهم. وَعَزَّرْتُمُوهُمْ: نصرتموهم ومنعتموهم من الأعداء. لَعَنَّاهُمْ:
طردناهم من رحمتنا. قاسِيَةً: شديدة مغلقة لا تقبل خيرا. خائِنَةٍ أى:
خيانة، أو نفس خائنة. فَأَغْرَيْنا: ألزمهم وألصقنا بهم.
المناسبة:
بعد أن أمرنا بالوفاء بالعهود وذكرنا بموجب هذا الوفاء من إحلال الحلال وتحريم الحرام، وتبصيرنا بالاستعداد للصلاة وإقامة الشهادة بالعدل، وقد ذكرنا بنعمه والمواثيق التي أخذها علينا. بعد هذا كله أخذ يعرض لنا حال أهل الكتاب وقد نقضوا الميثاق.
وكيف كان جزاؤهم في الدنيا والآخرة، لعل المسلمين يتعظون بمن سبقهم من الأمم.
روى أنه لما نجا بنو إسرائيل من فرعون وصحبه، أمرهم الله بالسير إلى بيت المقدس وكان يسكنها الكنعانيون الجبابرة، وقال لهم: إنى جعلتها لكم وطنا، فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها، وإنى ناصركم، وأمر نبيه موسى- عليه السلام- أن يأخذ من كل سبط نقيبا يكون كفيلا بتنفيذ ما أمروا به، فاختار النقباء، وأخذ الميثاق على بنى إسرائيل وتكفل النقباء بما طلب وسار بهم فلما دنا من بيت المقدس بعث النقباء يتحسسون الأخبار، فرأوا أجساما قوية، وشوكة وقوة، فهابوهم ورجعوا وحدثوا
491
قومهم بما رأوا. وكان موسى قد أمرهم ألا يخبروا أحدا بما يرون فنقضوا العهد إلا نقيبين منهم
وهما اللذان قال فيهم القرآن: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ وسيأتي خبرهما بعد في الآية ٢٣.
المعنى:
ولقد أخذ الله العهود والمواثيق على بنى إسرائيل بواسطة نبيهم موسى ليعملن بالتوراة وليقبلنها بجد ونشاط خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ [سورة البقرة الآيات ٦٣ و ٩٣] ولا يزال هذا العهد موجودا في التوراة، وأمرناه أن يختار اثنى عشر نقيبا منهم، يتولون أمور الأسباط، ويقومون على رعايتهم، وبعثناهم يتحسّسون العدو ليقاتلوه، وقال الله على لسان موسى: إنى معكم وناصركم على عدوكم ومطلع عليكم ومجازيكم على أعمالكم.
ثم أعطاهم العهد الموثق: لئن أقمتم الصلاة وأديتموها تامة كاملة الأركان مستوفية الشروط، وأنفقتم بعض المال الذي به تزكو نفوسكم وتطهر. وآمنتم برسلي التي سترسل لكم بعد موسى- عليه السلام- كداود وسليمان ويحيى وزكريا وعيسى ومحمد- عليهم الصلاة والسلام- ونصرتموهم، ومنعتموهم من الأعداء، ووقفتم إلى جانبهم في السراء والضراء، وأقرضتم الله قرضا حسنا طيبة به نفوسكم، مع أنكم تقرضون ربّا له خزائن السموات والأرض قادرا كريما، يضاعف الحسنة إلى عشرة أمثالها بل إلى سبعمائة.
تالله إنكم إن فعلتم هذا (إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان بالرسل ونصرتهم والقرض الحسن) لأكفرن عنكم سيئاتكم، فإن الحسنات يذهبن السيئات، وأنتم بذلك تستحقون الرضوان ودخول الجنات التي تجرى من تحتها الأنهار، ومن يكفر بعد ذلك منكم، وينقض الميثاق فقد ضل السبيل الواضح وأخطأ الطريق المستقيم الذي رسمه الله لعباده الأبرار.
وهؤلاء اليهود- كما وصفهم القرآن غير مرة- دأبهم العناد، وديدنهم الكفر والعصيان، وجزاؤهم الطرد والحرمان، فبنقضهم الميثاق، وكفرهم بالله ورسله وعدم نصرتهم لهم وعدم تعظيمهم وتوقيرهم، استحقوا المقت والغضب واللعن والطرد من
492
رحمة الله، وكان نقضهم الميثاق مفسدا لفطرتهم مدنسا لنفوسهم، فإن الذنب الذي يرتكبه الإنسان يترك نكتة سوداء في القلب. فإذا كثرت المعاصي اسود القلب وأصبح في أكنة، لا يصل إليه النور والهدى خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ «١» ولذلك رأيناهم يقتلون الأنبياء بغير حق، ويفترون على مريم البتول وابنها عيسى الذي أرسل لهم يهديهم سواء السبيل، بل حاولوا قتله وافتخروا بذلك وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ «٢» فبسبب هذا بعدوا عن رحمة الله وطردوا منها شر طردة وأصبحت قلوبهم قاسية كالحجارة أو أشد قساوة، وصاروا يحرفون الكلم عن مواضعه فيقدمون ويؤخرون، ويحذفون منه، ويغيرون معناه ويبدلون، ليّا بألسنتهم وطعنا في الدين، وقد نسوا حظا من التوراة كبيرا.
ذلك أن موسى- عليه السلام- توفى والتوراة التي كتبها وأمر بحفظها نسخة واحدة قد فقدت باتفاق المؤرخين من اليهود والنصارى عند سبى البابليين لهم وإغارتهم عليهم، ولم يكن عندهم غيرها وما كانوا حفظوها كلها، نعم هناك أسفار خمسة تنسب إلى موسى- عليه السلام- فيها أخبار عن موته وحياته وأنه لم يقم أحد بعده مثله، كتبت بعد موته بزمن طويل، قيل: كتبها عزرا الكاهن معتمدا على ما بقي عند شيوخهم الذين بقوا بعد الأسر والقتل.
أفلا تراهم نسوا حظا كبيرا، وكما يقول القرآن في موضع آخر: أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ «٣» ومن العلماء من يرى أن معنى الآية أنهم تركوا أحكاما كثيرة من التوراة.
والله أعلم بكتابه.
ألا ترى أن هذا من أعظم المعجزات على صدق الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم حيث أخبرهم بدخائل نفوسهم!! وأما أنت يا محمد فلا تأس عليهم، ولا تعجب من عنادهم فها هم قديما قد فعلوا كل شيء، ولا تزال تطلع منهم على خيانة تصدر منهم على سبيل المبالغة، إلا قليلا منهم ممن آمن وحسن إيمانه.
وإذا كان الأمر كذلك فاعف عنهم واصفح إذا تابوا، أو بذلوا الجزية، إن الله يحب المحسنين.
(١) سورة البقرة الآية ٧. [.....]
(٢) سورة النساء الآية ١٥٧.
(٣) سورة آل عمران الآية ٢٣ والنساء ٤٤ و ٥١.
493
ولقد أخذ الله ميثاق الذين أتوا الكتاب من النصارى، فنسوا حظا عظيما مما ذكروا به ولذلك كان جزاؤهم أن الله ألزمهم العداوة والبغضاء حتى صارت صفة لازمة لهم لاصقة بهم إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون.
والمنصف للتاريخ يعرف أن المسيح توفى، ولم يكن هناك إنجيل مكتوب، وقد اضطهد اليهود أتباعه وتلاميذه وشردوهم حتى قتلوا أكثرهم فلما هدأت الأحوال ودخل الملك قسطنطين الديانة المسيحية أخذوا يكتبون الأناجيل، ولذلك كانت كثيرة ومختلفة ومتباينة.
وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون في الدنيا، ويجازيهم عليه حتما.
القرآن وما يخفيه أهل الكتاب [سورة المائدة (٥) : الآيات ١٥ الى ١٦]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)
المعنى:
يا أهل الكتاب. قد جاءكم محمد صلّى الله عليه وسلّم مؤيدا بمعجزة القرآن المعجزة الباقية الخالدة، فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله. هذا النبي قد بين لكم كثيرا من الأحكام والآيات التي كنتم تخفونها عن العوام،
فقد روى أن هذه الآية نزلت حينما كتموا
حكم الزاني المحصن وأقسم النبي صلّى الله عليه وسلّم على حبرهم ابن صوريا وناشده الله حتى اعترف به.
وقد أنكروا غير ذلك من بشارة النبي ووصفه فبينه القرآن لهم، ولقد كان بيان القرآن لما كتموه سببا في إسلام كثير من أحبارهم وعلمائهم.
يبين الله بواسطة رسوله كثيرا مما يخفون، ويعفو عن كثير مما لا تمس الحاجة إليه، ولا يفيد الدعوة في شيء، وهم يعلمون أنهم يخفون غير الذي أبداه الرسول...
يا أهل الكتاب: قد جاءكم من الله نور هو النبي محمد، أو هو القرآن، أو دينه، وجاءكم كذلك كتاب مبين بين الحق وأظهر المكنون، يهدى به الله من اتبع رضوانه طريق الخير التي تنجيه من العذاب الأليم، ويخرج من اتبعه من ظلمات الشرك والخبث والخرافة والأوهام الباطلة إلى نور الإسلام وهدى القرآن الذي أنزل بعلمه ومشيئته وتوفيقه، ويهدى من اتبعه صراطا مستقيما يوصل إلى خير الدنيا والآخرة.
مناقشة النصارى في عقائدهم [سورة المائدة (٥) : الآيات ١٧ الى ١٩]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)
495
المفردات:
يَمْلِكُ: يدفع ويمنع، وأصل الملك: الضبط والحفظ التام. يُهْلِكَ:
يميت ويعدم. فَتْرَةٍ: سكون وهدوء من الرسل، والمراد انقطاع الوحى، وعدم ظهور الرسل مدة من الزمن.
المعنى:
المسيحيون في هذا العصر طوائف أشهرها ثلاث: البروتستانت، والكاثوليك، والأرثوذكس. يقولون بألوهية المسيح وأن الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وقد كان المسيحيون القدامى لا يصرحون بهذا الرأى وإن كان لازما لأقوالهم بالحلول والاتحاد، على أن فرقة منهم هي اليعقوبية كانت تقول: إن المسيح هو الله.
والمسيحيون المعاصرون خصوصا الكاثوليك والأرثوذكس لا يعدون الموحد مسيحيا، وأساس هذه العقيدة عبارة وردت في إنجيل يوحنا (في البدء كانت الكلمة والكلمة كان عند الله: والله هو الكلمة) وقد أطلقوا لفظ الكلمة على المسيح، فصار معنى الفقرة: الله هو المسيح، كما وصفهم القرآن الكريم.
على أن الثابت أن يوحنا كتب إنجيله في آخر حياته وكتبه بإلحاح عليه. فإذا المسيح برىء منها ولم يدع إليها أبدا بل سيأتى أنه دعا إلى التوحيد وإلى تمجيد الله فقط كما نقل عنه في الإنجيل.
496
وقد ذكر الدكتور (بوست) في تاريخ الكتاب المقدس: طبيعة الله ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر: الله الأب، والله الابن، والله روح القدس، فإلى الأب الخلق، وإلى الابن الفداء، وإلى روح القدس التطهير، غير أن الثلاثة أقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء.
ولقد رد القرآن هذا الزعم الباطل، وأبطل تلك العقيدة الوثنية فقال: يا أيها الرسول قل لهؤلاء الذين تجرأوا على مقام الألوهية: من يملك من الله شيئا إذا أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه؟ من يمنع الله إذا أراد أن يميت المسيح وأمه؟ لا أحد يقدر على هذا!! فالله لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه!! بل لا يستطيع أحد أن يشفع عنده إلا بإذنه وأمره وها هو ذا المسيح وأمه قد حصل لهما ما حصل لبقية الخلق فهل منعا عن أنفسهما شيئا؟؟.
وإذا كان المسيح لم يستطع أن يدفع شيئا عن نفسه ولا عن أمه ولم يستطع أحد أن يدفع عن المسيح شيئا فهل يكون هو الله الذي بيده ملكوت كل شيء؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا!! ولنا أن نرد عليهم بكلامهم.
إذا كان المسيح إلها فكيف لم يرد عن نفسه الصلب الذي هو شر أنواع الهلاك؟ فقد قيل في الإنجيل: «ملعون كل من علق على خشبة» من إحدى رسائل بولس الرسول، وثبت أن المسيح استغاث بربه ضارعا خائفا وجلا ليصرف عنه ذلك الكأس فلم يجب إلى طلبه، في إنجيل متى: (إلهى إلهى لماذا تركتني؟). (يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس. إن لم يمكن أن تعبر عنى هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك).
فإذا عيسى- كما هو منصوص عندهم- نبي ورسول كما أنه بشر كبقية الخلق خائف وجل متضرع إلى الله- جل جلاله- شاعر بأن الصلب شر أنواع الهلاك، ولإخلاصه وصدقه نجاه الله من الذين مكروا به وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء ١٥٧].
لا أحد يمكنه أن يرفع الهلاك ويمنع الموت عن عيسى وأمه ومن في الأرض جميعا وكيف يكون غير هذا؟ ولله وحده ملك السموات والأرض وما بينهما.
ولقد كان السبب في تخبط النصارى وضلالهم كثرة المتشابه عندهم في الأناجيل،
497
وأن عيسى خلق على غير السنن المألوف، وقد عمل أعمالا غريبة لم تصدر عن عامة البشر.
ولذلك رد الله عليهم هذا بقوله: يَخْلُقُ ما يَشاءُ فهو مالك الملك، وصاحب الأمر في السماوات والأرضين يخلق ما يشاء على حسب حكمته وإرادته فقد خلق أبانا آدم بلا أب ولا أم، وحواء بدون أم، وعيسى بلا أب وأصول الحيوانات جميعا من مادة لا توصف بذكورة ولا أنوثة.
ولقد أرسل رسله مبشرين ومنذرين، وأيدهم بروح من عنده وأجرى على أيديهم المعجزات المناسبة لزمانهم، فهذا موسى وعصاه السحرية لأن السحر كان أبرز علم عندهم، وهذا عيسى وإبراؤه الأكمه والأبرص وإحياؤه الميت لأن الطب كان أبرز شيء عند قومه، وهذا خاتم النبيين محمد صلّى الله عليه وسلّم كانت معجزته القرآن لأنه بعث في العرب المعتزين بالفصاحة وكانت رسالته خاتم الرسالات فكان قرآنه باقيا كاملا في كل شيء، هذا القرآن الذي وقف وحده آلاف السنين يرد هجمات أعدائه على كثرتهم.
فلا يغرنكم أيها المسيحيون إحياء عيسى للميت.
أخوك عيسى دعا ميتا فقام له وأنت أحييت أجيالا من العدم
ولا غرابة في ذلك فالله يخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير.
وإذا كان عيسى إلها فمن كان الإله قبله؟ وعلى أى وضع كان؟
وسيأتى مزيد من الرد على ألوهية عيسى ابن مريم قريبا.
روى أن اليهود تكلموا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فدعاهم إلى التوحيد وحذرهم من عذاب يوم القيامة، فقالوا: ما تخوفنا يا محمد؟ ونحن أبناء الله وأحباؤه!! وقد قالت النصارى ذلك فنزلت هذه الآية.
والمعنى: قالت اليهود كما قالت النصارى: نحن أبناء الله وأحباؤه!! فالله يعاملنا معاملة الأب لأبنائه يعطف علينا ويرحمنا، وبعض النصارى بالغوا في ذلك فقالوا:
عيسى ابن الله حقيقة ونحن أبناء مجازا.
وقد رد الله عليهم بقوله: قل لهم يا محمد: إذا كان الأمر كذلك!! فلم يعذبكم
498
بذنوبكم في الدنيا كما ترون من تخريب دياركم وهدم الوثنيين لمسجدكم في بيت المقدس، ومن لصوق العداوة والبغضاء فيكم أيها النصارى، فأنتم تتحاربون وتتقاتلون إلى الأبد، فبعضكم رأسمالي وستظل الحرب بينكم دائما حتى تفنوا جميعا إن شاء الله.
وأما في الآخرة فيكون العذاب عسيرا عليكم أهل الكتاب، والأب لا يفعل هذا مع أبنائه والأولاد لا يعصون آباءهم كما تفعلون!! بل أنتم وغيركم من جميع الطوائف والملل بشر وخلق من خلق الله لا فضل لأحد على أحد إلا بالإيمان الصادق الخالص من شوائب الوثنية.
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً [سورة النساء آية ١٢٣].
ولله ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير في الآخرة إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً «١» وسيعذب الكافر والعاصي ويثيب الطائع والصالح.
يا أهل الكتاب لا حجة لكم، قد جاءكم رسولنا محمد صلّى الله عليه وسلّم يبين لكم ما اندثر من الأحكام، وضاع من القوانين وقد بشرت به كتبكم وهو مصدق لما معكم، جاءكم على فترة من انقطاع الرسل والوحى عليكم فيما بينه ما كنتم تخفونه وتكتمونه، ولولا أنه رسول ما أمكنه ذلك، أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، لئلا تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير، والله على كل شيء قدير.
(١) سورة مريم آية ٩٣.
499
من مواقف اليهود مع موسى عليه السلام [سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٠ الى ٢٦]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤)
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)
المفردات:
مُلُوكاً: أحرارا عندكم ما يكفيكم. الْمُقَدَّسَةَ: الطاهرة من الأوثان
500
وعبادتها. وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ: ترجعوا عما أمرتم به. جَبَّارِينَ:
جمع جبار، وهو الطويل القوى المتكبر العاتي، مأخوذ من قولهم: نخلة طويلة لا ينال ثمرها. يَتِيهُونَ التيه: الحيرة، ومنه صحراء تيهاء: إذا تحير سالكها لعدم الأعلام التي يهتدى بها.
المناسبة:
بعد أن أقام القرآن الدليل على صحة نبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وتعرض لأهل الكتاب في ذلك، ساق قصة لليهود تثبت عنادهم وكفرهم مع أنبيائهم لتكون تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتسجيلا عليهم.
وقد ذكرنا هذه القصة عند الكلام على الميثاق والنقباء في آية (١٢) من هذه السورة.
المعنى:
واذكر يا محمد لبنى إسرائيل ولسائر الناس الذين تبلغهم دعوتك وقت قول موسى لقومه: تذكروا نعمة الله عليكم واشكروه عليها، فقد جعل فيكم أنبياء كثيرة إذ غالب الأنبياء من سلالة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- عليه السلام- ولم يكن من ولد إسماعيل إلا النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وبنو إسرائيل من نسل يعقوب.
وجعلكم ملوكا أحرارا عندكم ما يكفيكم ويقيكم ذل السؤال من زوجة وخادم ودار كما ورد في ذلك الآثار.
وآتاكم ما لم يؤت أحدا من عالمي زمانكم، فالمن والسلوى. وتظليلكم بالغمام، وفرق البحر، وإنجاؤكم وغرق عدوكم... إلخ، ما هو مذكور في الجزء الأول.
يا قوم: ادخلوا الأرض الطاهرة من عبادة الأوثان لكثرة الأنبياء فيها، واختلف المفسرون فيها هل هي فلسطين أم غيرها. والظاهر أنها فلسطين المنكودة، التي كتب الله لكم فيها حق السكنى ووعد بها إبراهيم وبنيه ففي سفر التكوين من التوراة:
(لنسلك أعطى هذه الأرض) على أنها لا تكون ملكا لا يزاحم فيها أحد بل لهم السكنى
501
فقط. فاستنباط اليهود من ذلك الوعد أنهم لا بد أن يعود لهم ذلك الملك ليس بصحيح، ولعل ما هم فيه من الضيق والشدة يؤذن بضياع ملكهم الذي أسسه الانجليز والأمريكان لأمور سياسية!! وقال موسى: يا قوم: لا ترجعوا عما جئتكم به من التوحيد والعدل الإلهى، إلى الوثنية والفساد في الأرض، وقيل: لا تراجعوا عما أمرتم به مطلقا من الدخول في الأرض المقدسة وغيره فتنقلبوا خاسرين.
قال النقباء الذين أرسلوا للتجسس لموسى: إن فيها قوما طوالا جبارين، أولى بأس وقوة، وإنا لا ندخلها أبدا ما داموا فيها. وكان يسكنها في هذا الوقت بنو عناق من الكنعانيين. وقد بالغ اليهود في وصفهم بما لا يصدقه عقل ولا منطق.
ولا غرابة في إحجامهم عن الدخول فيها وقتالهم الجبارين فكل قوم تربوا في أحضان الذل والاستعمار يألفونه ولا يألفون الحرية والكرامة، ولذلك قالوا معتذرين:
لن ندخلها أبدا حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون!! قال رجلان من الذين يخافون الله وقد أنعم عليهما بالتوفيق والسداد: ادخلوا يا قوم عليهم الباب فإنكم إذا دخلتموه كان الله معكم وناصركم عليهم، وعلى الله وحده فتوكلوا إن كنتم مؤمنين.
قالوا: يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فإنهم أولو قوة وبأس. وعلى ذلك فاذهب أنت وربك الذي أمرنا أن نخرج من مصر ونأتى إلى هنا فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون ومتخلفون عن الحرب.
قال موسى وقد عرف قومه وإباءهم، وخشي أن يفتنوا الرجلين الصالحين قال: رب إنى لا أملك إلا نفسي وأخى هارون الذي عرفت فيه الامتثال والطاعة، يا رب فافصل بيننا وبين هؤلاء القوم الفاسقين، قال الرب- سبحانه وتعالى-: إذا كان الأمر كذلك فإن هذه الأرض محرمة عليهم أربعين سنة وهم في هذه المدة يتيهون في البيداء لا يعرفون لهم قرارا، وهكذا ينزل عذاب الله على كل من يخالف أمره، فهؤلاء هم اليهود وهذه أعمالهم من قديم مع أنبيائهم فلا تأس يا محمد عليهم ولا تحزن!.
502
قصة أول قتيل في الوجود [سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٧ الى ٣٢]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)
503
المفردات:
وَاتْلُ: التلاوة القراءة. نَبَأَ: هو الخبر المهم. قُرْباناً: ما يتقرب به إلى الله- سبحانه وتعالى- من الذبائح وغيرها. بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ: مددتها لتعتدى علىّ. تَبُوءَ: ترجع بعقاب يعادل الإثم ويساويه. يا وَيْلَتى:
يا فضيحتي احضرى، والويل: الشر، والويلة: الفضيحة والبلية.
يسوق الله هذه القصة ليبين طبائع النفوس الموروثة وما يفعله الحسد الكامن والداء الباطن، الذي يقضى على أقوى سبب وأمتن رابطة وهي الأخوة، وكيف كان السبب في أول قتيل في الأرض؟؟
فإذا لا تيأس يا محمد، ولا تعجب من فعل اليهود إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [سورة المائدة آية ١١] فهم قوم يحسدون الناس على ما آتاهم ربهم من فضله، على أن هذا طبع متأصل في أبناء آدم.
واتل يا محمد على قومك وعلى كل من تبلغه دعوتك، اتل عليهم نبأ هاما وخبرا متلبسا بالحق والصدق، لا مبالغة فيه ولا كذب كما يفعل اليهود في أخبارهم وكتبهم من التحريف والتبديل.
اتل خبر ابني آدم لصلبه- على الأصح- قيل: هما قابيل القاتل، وهابيل القتيل، وكانت عادتهم أن يتزوج ذكر البطن الأولى أنثى البطن الثانية، وبالعكس، فصادف أن قابيل معه توأم جميلة، ومع هابيل توأم دميمة رغب عنها قابيل، وطلب توأمه وحسد هابيل عليها، فلما احتكما إلى أبيهما آدم قال: كل منكم يقرب قربانا، والذي يقبله الله منه بالحريق يأخذ الجميلة، فقدم قابيل وكان زارعا قليلا من سنبل القمح، وقدم هابيل وكان راعيا للغنم كبشا سمينا، فتقبل الله من هابيل ولم يتقبل من قابيل، فحنق عليه أكثر، وقال: لأقتلنك، قال هابيل: ولم يا أخى؟ وما ذنبي في أن الله لم يتقبل منك؟
فأصلح نفسك، وقدم مخلصا لوجه الله، فإنما يتقبل الله من المتقين. يا أخى: لئن مددت إلىّ يدك بالسوء، أن تقتلني ظلما وعدوانا، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك أبدا.
504
وذلك لأنى أخاف الله رب العالمين، الذي تعهدنا بالعناية والرعاية، وخلقنا على أتم خلق وأكمله، فمن يتعدى على هذا الخلق السوى فقد استحق العقاب الشديد!! يا أخى: إنى لا أريد مقابلة الجريمة بالجريمة أصلا، فإنك إن فعلتها تبوء بإثم قتلى وإثمك الخاص بك الذي كان من شأنه عدم قبول قربانك، فارجع عما أنت مقدم عليه! وكيف يريد المؤمن أن يأثم أخوه. والجواب أنه أراد ذلك حينما بسط إليه يده بالقتل فعلا وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «١».
إنك يا أخى إن فعلت هذا الجرم فستكون من أصحاب النار الملازمين لها، وذلك جزاء الظالمين!!! ترى أنه نفره من القتل بثلاث: الخوف من الله، أن يبوء بإثمه وإثم نفسه، كونه من أصحاب النار... ومن الظالمين.
والقاتل مهما كانت نفسه ملوثة بحب الانتقام والقتل يرى في الإقدام على هذا العمل جرما وفظاعة فيتردد، ولا يزال كذلك حتى تشجعه نفسه الأمارة بالسوء فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ وهدم ما بناه الله وأتقنه فأصبح من الخاسرين، وأى خسارة أكبر من هذه الخسارة في الدنيا والآخرة؟!
روى أنه لما قتله، ولم يعرف كيف يوارى جثته، وتحير في ذلك، فبعث الله غرابا يبحث في الأرض منقبا في غذائه، فحفر حفرة، فرآه قابيل ففطن إلى مثل عمله، ففعل لأخيه مثلها وواراه فيها، وقال: يا ويلتى احضرى فقد حان وقتك، أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب؟
والندم الذي حصل لم يكن على القتل بل على عجزه عن مواراة أخيه.
بسبب هذا الجرم التشنيع والفعلة القبيحة، التي فعلها أبناء آدم كتبنا على بنى إسرائيل وإنما خصهم القرآن بالذكر، وإن كان القتل محرما قبلهم في الأمم السابقة، لأن التوراة أول كتاب حرم فيه القتل كتابة بسبب طغيانهم وسفكهم الدماء وقتلهم الأنبياء بسبب الحسد الكامن في نفوسهم...
(١) سورة الشورى آية ٤٠.
505
كتبنا على بنى إسرائيل ومن بعدهم: أنه من قتل نفسا بغير نفس، أى: بدون قصاص أو بدون فساد في الأرض يزلزل الأمن والطمأنينة، ويهلك الحرث والنسل، وذلك مثل قطع الطريق، من يفعل شيئا من ذلك فكأنما قتل الناس جميعا، واعتدى على المجتمع البشرى كله!! أفلا يكون هذا الجرم فظيعا؟ إنه لقطيع، ولذلك كان من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً الآية من سورة النساء. آية ٩٣.
ومن هنا تعلم أن نفس القتيل ليست ملكه، بل هي ملك للمجتمع الذي يعيش فيه، فمن اعتدى على نفس ولو كانت نفسه (بالانتحار) استحق عقاب الله الشديد يوم القيامة... ومن أحيا نفسا بأى سبب كان، فكأنما أحيا الناس جميعا إذ كل نفس عضو في المجتمع.
ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات الواضحات كالشمس أو أشد. ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون بعد هذا البيان الرائع.
وهذه الآية الكريمة تقرر بوضوح مبدأ تكافل الأمة الواحدة وتضامنها كوحدة خاصة.
حكم قطاع الطرق [سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)
506
المفردات:
يُحارِبُونَ الحرب: ضد السلم والأمن على النفس والمال. فَساداً الفساد: ضد الصلاح، وكل من أخرج شيئا عن وضعه الصالح له يقال: إنه أفسده.
يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ: ينقلوا من البلد أو القطر الذي أفسدوا فيه إلى غيره، وقيل:
المراد يسجنوا.
سبب النزول:
روى البخاري ومسلم عن أنس أن ناسا من عكل وعرينة قدموا على النبي صلّى الله عليه وسلّم وتكلموا بالإسلام، فاستوخموا المدينة- وجدوها رديئة المناخ- فأمر لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بزود من الإبل- الزود من ثلاثة إلى تسعة- وراع وأمرهم أن يخرجوا إلى الصحراء فيشربوا من «أبوالها وألبانها» فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرة كفروا بعد إسلام، وقتلوا الرعي
وفي رواية، مثّلوا به، واستاقوا الزود من الإبل. فبلغ ذلك الرسول صلّى الله عليه وسلّم فبعث في طلبهم فأتوا بهم فسملوا أعينهم (كحلوها بمسامير الحديد المحماة) وقطعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف وتركوا حتى ماتوا، فنزلت الآية.
والظاهر- والله أعلم- أن هذه الآية عامة لكل من يفعل هذا العمل الشنيع في دار الإسلام سواء كان مسلما أو غيره.
والله تعالى أنزل هذه الآية بهذا التشديد في العقاب لسد ذريعة هذه المفسدة، وهي إزالة الأمن من بين ربوع الدولة، واضطراب الناس فيها، ومع هذا حرم المثلة وتشويه الأعضاء.
المعنى:
لا جزاء للذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فسادا، إلا ما ذكره الله من التقتيل أو الصلب أو تقطيع الأيدى والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض.
ومحاربة الله ورسوله تكون بالاعتداء على شرعة الأمان والسلم والحق والعدل
507
والطمأنينة بين الناس، كما أنها تكون بالاعتداء على الحقوق الشرعية، كمنع الزكاة مثلا، كما حصل لأبى بكر فقد حارب المانعين لها بكل قواه.
هذا كله يلزمه الفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل:
وقد وضع الله للقتل والسرقة والاعتداء على المال حدودا خفيفة، فمثلا في القتل القصاص إلا إذا عفى له عن شيء، وفي السرقة قطع اليد والاعتداءات على المال بالضمان مثلا لأنها اعتداءات فردية.
أما هنا في هذه الآية فتلك حدود قطاع الطريق المجاهرين بالمعصية المجتمعين للاعتداء. لذلك شرط بعضهم شروطا ثلاثة للمحاربين:
١- أن يكون معهم سلاح يعتمدون عليه.
٢- أن يكون ذلك في صحراء أو في مكان لا تنفع فيه الاستغاثة.
٣- أن يأتوا مجاهرين معتمدين على القوة والغلب، لا على الخفية واللصوصية.
أما جزاؤهم فأخذهم بلا رحمة ولا هوادة، وإن كانوا جماعة. يشير إلى هذا قوله تعالى: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا.
وعند الجمهور أن القتل في الآية للقاتل، والصلب مع القتل لمن أخذ المال وقتل، وقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى لمن أخذ المال وأخاف.
والنفي لمن أخذ المال فقط، وليس للولي العفو في حد من هذه الحدود، فمثلا في القتل العادي يجوز للولي العفو وترك القصاص. وهنا لا بد من القصاص وإن عفا، وهذا معنى التشديد الذي يشير إليه لفظ (يقتّلوا).
ذلك لهم خزي وأى خزي بعد هذا العقاب الصارم؟، ولهم في الآخرة بعد ذلك عذاب عظيم جدا.
إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ولم يكن للإمام عليهم من سبيل فاعلموا أن حد الله يسقط عنهم، ويؤخذون بحقوق الآدميين، أى: يقتص منهم عن النفس والجراح، وكان عليهم ما أتلفوه من مال ودم، ويجوز لولى الدم العفو كسائر الجنايات
508
من غير المحاربين، يشير إلى هذا قوله: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فإن توبتهم قبل القدرة دليل على أنها توبة خالصة لوجه الله.
واعلموا أن هؤلاء المحاربين لله ولرسوله بالعصيان والفساد، واجب على الإمام قتالهم، وعلى المسلمين المعونة له وكفهم عن فعلهم.
أساس الفلاح في الآخرة [سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٥ الى ٣٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧)
المفردات:
الْوَسِيلَةَ: ما يتوصل به إلى تحصيل المقصود وهي القربة، وتطلق على أعلى منزلة في الجنة.
المعنى:
يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان، خذوا لنفسكم الوقاية من عذاب الله بامتثال أمره واجتناب نهيه، وتقربوا إليه بالطاعات والعمل بما يرضيه، فإن هذه هي الوسيلة إليه أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ «١»... وجاهدوا أنفسكم بكفها عن
(١) سورة الإسراء آية ٥٧.
509
المحرم، والتزامها الصراط المستقيم، وجاهدوا أعداء الإسلام حتى يكون الدين كله لله، وجاهدوا في سبيل الحق والحرية والخير للأمة والوطن. فكل هذا جهاد في سبيل الله.
واتقوا الله وابتغوا إليه القربى بالطاعة واجتناب المنهيات، واحتملوا الجهد والمشقة في سبيل الله، كل ذلك رجاء الفوز والفلاح في المعاش والمعاد. واعلم أن لفظ التوسل جاء بثلاث معان: القربى إلى الله بالطاعة كما مر،
دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وشفاعته كما ثبت عن عمر- رضى الله عنه-: «اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا»
فكان يدعو العباس وهم يؤمّنون عليه، ترى أنها الدعاء والشفاعة، وكانت في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم أما بعد موته فبدعاء أقرب الناس إليه كعمه العباس، ويوم القيامة تكون بشفاعته.
أما المعنى الثالث فهو: الوسيلة، أى: التوسل بالإقسام على الله بالصالحين والأولياء المقربين، وهذا لم يرد به نص صحيح، بل قال أبو حنيفة وأصحابه: إنه لا يجوز.
والتوسل بهذا المعنى ينكره العقل، ويأباه الشرع ولا دليل عليه في هذه الآية ولا في غيرها.
إن الذين كفروا بالله، وجحدوا آياته، وكذبوا رسله لو فرض أن لهم ملء ما في الأرض ذهبا بل وضعفه ليفتدوا به أنفسهم من عقاب الله وعذابه، على كفرهم وعنادهم، فافتدوا به ما تقبل الله منهم ذلك، فداء وعوضا، بل هم معذبون عذابا دائما وهذا تمثيل لحالهم يوم القيامة.
يود الواحد منهم لو يفتدى نفسه من عذاب يومئذ ببنيه، ولكن هيهات له ذلك! يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها، ولهم عذاب مقيم دائم. فانظر يا أخى في أساس الفلاح في الإسلام، وأنه محصور في التقوى والطاعة لا في شفاعة ولا في غيرها.
510
السارق وجزاؤه [سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠)
المفردات:
السَّارِقُ: من يأخذ المال خفية من حرز مثله. نَكالًا: مأخوذ من النكل، وهو القيد، ولا شك أن هذه عقوبة تمنع الناس من ارتكاب السرقة.
المعنى:
بعد أن تعرض القرآن الكريم للمحاربين الذين يسعون في الأرض فسادا وبين جزاءهم، ثم أمر الناس بعدها بالتقوى واللجوء إلى الله وحده، بين هنا جزاء من يعتدى على الناس ويسرق أموالهم خفية.
مما يتلى عليكم حكم السارق والسارقة، فمن يسرق منكم ذكرا كان أو أنثى.
فاقطعوا أيديهما جزاء لهما على ارتكاب فعلهما، وانتهاك حرمة الغير بأخذ ماله، ولأن السرقة قد تجر إلى الدفاع عن المال وإلى القتل.. ولا بد أن يكون المسروق موضوعا في مكان يحفظ فيه أمثاله (وهو حرز المثل) وهل تقطع اليد في كل سرقة ولو در هما؟ أو لا بد أن يكون المسروق ربع دينار أو ثلاثة دراهم لقول عائشة- رضى الله عنها-:
511
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقطع في دينار فصاعدا، وعند الأحناف لا قطع إلا في عشرة دراهم فصاعدا.
وتثبت السرقة بالإقرار أو الشهود، ويسقط الحد بالعفو عن السارق أو التوبة قبل رفع الأمر إلى الإمام، وأما المال المسروق فلا بد من رده إلى صاحبه بعينه أو قيمته.
حدّ الله هذا الحد، جزاء للسارق، ونكالا للغير ومنعا له، حتى لا يقع غيره في مثل ما وقع، فإن قطع اليد ميسم الذل والعار الذي لا يمحى أبدا، والله عزيز لا يغالب، حكيم في كل ما سنّه لنا من قوانين أما القوانين الوضعية فإنها تجعل من السجن مدرسة يتعلم فيها اللص أنواع الإجرام، ولذا نرى معها تعدد السرقات.
فمن تاب من بعد ظلمه بالسرقة وأصلح نفسه فإن الله يتوب عليه إنه هو الغفور الرحيم.
ألم تعلم أيها المؤمن: أن الله ملك السموات والأرض يتصرف فيهما بحكمته، وعدله وعلمه الواسع وفضله العميم فمن حكمته وعدله وضع حد للسرقة، حتى يشيع الأمن في ربوع الدولة وتطمئن النفوس لتنصرف إلى أعمالها، ومن فضله ورحمته أنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات وهو على كل شيء قدير.
يرى البعض أن في هذا القطع لليد شدة وغلظة وأن هذه شريعة الغاب والقفار، لا شريعة الحضارة والمدنية.
ولقد كذبوا فها هي ذي قوانينهم تحمى الرذيلة في كل ميادينها، وتساعد على ارتكابها والمفروض أن الحدود موانع وزواجر، ولا مانع أحكم وأعدل من حدود الله، أما ترى الدول التي تحكم بكتاب الله كيف استتب فيها الأمن واختفت منها السرقات ولكن أكثر الناس لا يعلمون!!
512
اليهود ومواقفهم من أحكام التوراة [سورة المائدة (٥) : الآيات ٤١ الى ٤٣]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣)
513
المفردات:
لا يَحْزُنْكَ: لا يؤلمك هؤلاء. يُسارِعُونَ أى: يقعون في الكفر بسرعة ورغبة، والمراد أنهم ينتقلون مسرعين من بعض فنون الكفر إلى بعض آخر.
فِتْنَتَهُ: اختباره حتى يظهر ما تنطوى عليه نفسه. لِلسُّحْتِ: الخبيث من المكاسب، وهو في اللغة: الهلاك والشدة، وسمى المال الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات والبركات، أى يذهبها.
سبب النزول:
روى أبو داود أنه زنى رجل وامرأة من اليهود، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا إلى هذا النبي فإنه بعث بالتخفيفات، فإن أفتى بفتيا دون الرجم قبلناها، واحتججنا بها عند الله، وقلنا: فتيا نبي من أنبيائك، قال: فأتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس في المسجد مع أصحابه فقالوا: يا أبا القاسم: ما ترى في رجل وامرأة زنيا، فلم يكلمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى أتى بيت مدارسهم، أى: مدارسهم فقام على الباب فقال: «أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ فقالوا: يحمم وجهه، أى: يوضع عليه السواد، ويجبه- يحمل الزانيان على حمار مع تقابل أقفيتهما ويطاف بهما- ويجلدان، قال: وسكت شاب منهم يقال له ابن صوريا، فلما رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم ألظ به النشدة- ألح في سؤاله- فقال ابن صوريا: اللهم إذ أنشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم. فقال الرسول: فإنى أحكم بما في التوراة فأمر بهما فرجما- انتهى كما في القرطبي.
ورويت روايات أخرى كلها تدور حول إنكارهم الحكم، وعبثهم بالشريعة والتوراة.
المعنى:
يرشدنا الله- سبحانه وتعالى- إلى أدب الخطاب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: يا أيها الرسول، حتى لا نناديه، كما كان يفعل بعض الأعراب، ولقد كان نداء أفاضل الصحابة،
514
يا رسول الله، وانظر إلى تكريم الله له فإنه ينادى الأنبياء بأسمائهم وما ناداه باسمه قط.
يا أيها الرسول: لا يهمنك أمر الذين يسرعون بالوقوع في الكفر، ولا تأس عليهم فالله بهم محيط، وهو ناصرك عليهم حتما، مهما أظهروا من عداوة، وتعاونوا مع المشركين وألبوهم عليك.
والمراد من النهى عن الحزن النهى عن لوازمه التي يفعلها الشخص مختارا كتذكر المصائب وتعظيم شأنها.
ومن هم المسارعون بالوقوع في الكفر، والتنقل في أساليبه وألوانه؟ هم المنافقون الذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، وبعض اليهود الذين يبلغون في سماع الكذب من أحبارهم الذين يلقون إليهم الأخبار الكاذبة في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم وقيل: سماعون للأخبار من النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم ينقلونها إلى الأحبار فيحيكون الأكاذيب على النبي صلّى الله عليه وسلّم موافقة لبعض ما يصدر عنه صلّى الله عليه وسلّم فيكون عملهم التجسس على النبي.
سماعون الكذب للأخبار، وسماعون لقوم آخرين لهم رأى خاص واتجاه آخر، موصوفون بأنهم لم يأتوك من شدة الكراهة لك، والحسد عليك، وقد كان بعض زعماء اليهود، يأبون على أنفسهم أن يجلسوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم!! وهم يحرفون الكلم من بعد مواضعه بنقل كلمة مكان أخرى، أو إخفائها وكتمانها، أو بحمل الألفاظ على غير ما وضعت له.
وهم يقولون لأتباعهم- كما ورد في سبب النزول- إن أعطاكم محمد رخصة بالجلد عوضا عن الرجم فخذوها، وإن حكم بالرجم فاحذروا قبوله، وما لك تحزن عليهم؟
والحال أنه من يرد الله أن يختبره في دينه، ويظهر أمره ويكشف سره، فلن تملك له من الله شيئا يمنع ذلك، وهؤلاء المنافقون واليهود قد أظهرت فتنة الله لهم مقدار فسادهم، فهم الذين وضعوا أنفسهم للكذب ونقله وتحريف الكلم وكتمانه اتباعا لأهوائهم، ومرضاة لرؤسائهم وذوى الجاه فيهم، فلا تحزن عليهم ولا تطمع فيهم أبدا.
أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، ويزكى نفوسهم، لأن سنة الله في خلقه
515
وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا «١» وأن النفس إذا مرنت على السوء والشر لم يعد لها طريق للخير، ولا سبيل للنور!! لهم في الدنيا خزي بفضيحتهم وهتك سترهم، وظهور الإسلام والقضاء عليهم، ولهم في الآخرة عذاب عظيم هوله شديد وقعه.
ولا غرابة في ذلك فهم قوم سماعون للكذب، مروجون له، أكالون للسحت آخذون الرشوة، سباقون للمحرم، وهكذا كل أمة في طور انحلالها ينتشر فيها الخلق الرديء خاصة الكذب والبهتان والرشوة والسحت... فإن جاءوك فاحكم بينهم بما ترى، أو أعرض عنهم، قيل: هذا الحكم نسخ بقوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ «٢» وقيل: هذا في غير أهل الذمة، أما هم فقانون الإسلام قانونهم.
وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا أبدا. وإن حكمت فاحكم بينهم بالعدل الذي لا شك فيه وهو قانون القرآن. وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ظاهر واضح، ثم هم يتولون ويعرضون من بعد ذلك. وما أولئك بالمؤمنين أبدا، ذلك أن أمرهم عجب. كيف يدّعون الإيمان بالتوراة، ولا يحكمون بها ويطلبون الحكم من غيرها؟؟ والأعجب من هذا أنهم تركوا التوراة لأنها لم توافق أهواءهم، وجاءوا يحكمون القرآن ثم تولوا وأعرضوا لأنه لم يوافق أهواءهم فهذا حالهم وديدنهم، وما أولئك بالمؤمنين أبدا.
أما نحن المسلمين فأخشى ما أخشى- وقد تركنا حكم القرآن، وجئنا نحكم أهواءنا بل وأحكام من ليسوا على ديننا وشاكلتنا- أن ينطبق علينا قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ «٣» الظالمون الفاسقون!
(١) سورة الأحزاب آية ٦٢ والفتح آية ٢٣.
(٢) سورة المائدة آية ٤٩.
(٣) سورة المائدة آية ٤٤.
516
في التوراة حكم الله وقد أعرض عنها اليهود [سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٤ الى ٤٧]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧)
517
المفردات:
التَّوْراةَ: اسم للكتاب الذي أنزل على موسى. الرَّبَّانِيُّونَ: مفردة رباني، نسبة إلى الرب، وهو الذي يسوس الناس بالعلم ويربيهم. وَالْأَحْبارُ:
جمع حبر، هو العالم بتحبير الكلام وتحسينه. بِمَا اسْتُحْفِظُوا: بما طلب إليهم حفظه منهم. شُهَداءَ: رقباء وحفاظا. وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ: جعلنا عيسى يقفو أثرهم ويتبعهم.
المناسبة:
بعد أن نعى الله على اليهود عدم رضائهم بحكم التوراة وطلب حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم إن وافق هواهم ثم إعراضهم عن حكمه صلّى الله عليه وسلّم ذكر هنا التوراة وما فيها من الهدى والنور والحكم والقانون مسجلا عليهم جرمهم.
المعنى:
إنا أنزلنا التوراة على موسى الكليم، فيها هدى يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام والحق، وفيها نور يستضاء به ويكشف ما تشابه عليهم وأظلم، هذا في التوراة المنزلة من عند الله لا في صحفهم المبدلة المحرفة التي سموها توراة.
هذه التوراة قانون يحكم بها النبيون الذين نزلوا بعد موسى حتى عيسى ابن مريم، وأسلموا وجوههم لله قانتين مخلصين، حكموا بها بين اليهود، فهي شريعتهم الخاصة بهم، حتى نزل عيسى ابن مريم، وكان آخر نبي نزل على بنى إسرائيل، وقد نقل عن عيسى- عليه السلام- في الإنجيل: (ما جئت لأنقض الناموس- شريعة موسى- وإنما جئت لأتمم..) فالإنجيل مكمل لها وقد حكم بها عيسى- عليه السلام-.
وحكم بها وحافظ عليها الربانيون والأحبار وهم الصالحون من ولد هارون في الأزمنة التي لم يكن بها أنبياء، وذلك بسبب ما أخذه الأنبياء عليهم من العهد المؤكد، وسألوهم حفظها والعناية بها، وكانوا على كتاب الله شهودا ورقباء يحمونه من التغيير والتحريف، وشاهدين عليه أنه الحق لا مرية فيه.
518
فأين أنتم أيها اليهود؟ وأين علماؤكم الآن من الربانيين والأحبار السابقين؟ فهؤلاء يحافظون عليها، وأنتم تحرفون وتكتمون!! وإذا كان الأمر كذلك فلا تخشوا الناس أيها الأحبار المعاصرون فتكتموا الحق، من صفة النبي والبشارة بها، طمعا في الدنيا وعرضها الزائل، واخشوا الله ربكم واقتدوا بالصالحين السابقين من أمتكم، واحفظوا التوراة، وإياكم والتحريف، روى عن الحسن: أخذ الله على الحكام ألا يتبعوا الهوى، وألا يخشوا الناس، وألا يشتروا بآياته ثمنا قليلا، ولا تشتروا بآياتنا ثمنا قليلا، ومنفعة حقيرة تأخذونها، من رشوة أو جاه أو رئاسة كاذبة! وكيف تستبدلون الثمن القليل والعرض الزائل بالآيات البينات التي استحفظتم عليها وكنتم عليها شهودا؟!! واعلموا أن من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وقد حكم اليهود في الزاني المحصن بالجلد وتركوا الرجم، وفي القتل بالتفريق بين بنى قريظة والنضير وتركوا العدل والقصاص.
والله في التوراة قد سوى بين الجميع لا فرق بين أمير وخفير، ولا بين شريف ووضيع.
ومن لم يحكم بما أنزل الله مستحلا له، منكرا بالقلب حكم الله، وجاحدا باللسان فهو من الكافرين، ومن لم يحكم وهو معتقد أنه مخطئ ومذنب فهو خارج عن الدين ومؤاخذ على شهادته ورضائه الحكم بغير حكم الله، وتقصيره في طلب تحكيم ما أنزل وهذا حكم عام في كل من يترك كتاب الله والحكم به.
إنا أنزلنا التوراة، وفرضنا عليهم فيها أن النفس تقتل بالنفس والعين بالعين، والسن بالسن وهكذا بقية الأعضاء بالقياس، وكذا الجروح على تفصيل فيها وبيان لحدها بالضبط. فيها القصاص، وهذا الحكم في القتل أو التعدي العمد، أما الخطأ ففيه الدية، وأن تصدقوا خيرا لكم فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ يكفر الله بها ذنوبه ويعفو عنه وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة ٢٣٧]
روى عبادة بن الصامت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تصدق من جسده بشيء كفر الله تعالى عنه بقدره من ذنوبه».
ومن لم يحكم بما أنزل الله، ويعرض عما شرعه الله من القصاص والعدل والتساوي بين الأفراد فهو من الظالمين الذين يغمطون الناس حقوقهم المشروعة.
519
وقفينا على آثار أنبياء بنى إسرائيل بعيسى بن مريم فكان آخر نبي لبنى إسرائيل، مصدقا لما بين يديه من التوراة حاكما بها. حافظا لها لم يغير منها شيئا، وإنما أتى متمما لها كما نقل عنه في الإنجيل.
وآتيناه الإنجيل الذي نزل عليه، فيه الهدى والنور. والإرشاد والوعظ الذي يهدى إلى طريق الحق، وكان مصدقا للتوراة، مؤيدا لها مع اشتماله على الهدى والموعظة الحسنة: ومن الثابت الذي لا يقبل الشك أنه كان في التوراة والإنجيل نور البشارة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ووصفه وأن شريعته تامة كاملة عامة، وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، ولكن لا ينتفع بهذا كله إلا المتقون.
وقلنا لأهل الإنجيل: احكموا بما أنزل الله فيه من الأحكام والمواعظ، ومما كان فيه اتباع التوراة وأحكامها حتى يرسل النبي العربي خاتم الأنبياء ولكن النصارى غيروا الإنجيل وحرفوا كلمه من بعد مواضعه ولم يحكموا به ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون والخارجون عن حدود الدين والعقل.
يروى أن حذيفة سئل عن هذه الآيات أهي في بنى إسرائيل؟ قال: نعم هي فيهم، ولتسلكن سبيلهم حذو النعل بالنعل، والأوصاف الثلاثة باعتبارات مختلفة: فلإنكارهم وصفوا بالكفر، ولوضعهم الحكم في غير موضعه وصفوا بالظلم، ولخروجهم عن الحق وصفوا بالفسق، وقيل في تخريج الأوصاف: إن من يترك حكم الله معتقدا أنه لا يصلح فهو الكافر، ومن يترك لسبب آخر من ضياع الحقوق فهو ظالم، وإلا فهو فاسق.
الحكم بكتاب الله ودستور القرآن [سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٨ الى ٥٠]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)
520
المفردات:
مُهَيْمِناً: رقيبا حافظا لما تقدّمه من الكتب وشاهدا عليه. شِرْعَةً الشرعة في اللغة: الطريق الذي يتوصل به إلى الماء. والطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى النجاة، وفي لسان الشرع: ما شرعه الله لعباده من الدين وأحكامه. وَمِنْهاجاً:
طريقا مستمرا واضحا. فَاسْتَبِقُوا: تسابقوا وسارعوا إلى الطاعات. أَنْ يَفْتِنُوكَ: أن يميلوا بك من الحق إلى الباطل.
المناسبة:
فيما مضى تكلم القرآن عن التوراة والإنجيل وما فيهما من نور وهدى وموعظة للمتقين، أما القرآن الكريم والدستور المبين الذي نزل على الرسول الأمين خاتم الأنبياء والمرسلين فها هو ذا.
المعنى:
وأنزلنا إليك يا محمد الكتاب الكامل، الذي يحق أن يطلق عليه اسم الكتاب فقط،
521
ذلك الكتاب، لا ريب فيه، هدى للمتقين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. أنزلناه عليك ملتبسا بالحق داعيا إليه، مؤيدا به مشتملا عليه، مقرا له، مصدقا لما بين يديه من الكتب كالتوراة والإنجيل. إذ قال: هما من عند الله، وإن موسى وعيسى رسولان من عنده، لم يفتريا على الله كذبا وبهتانا، وإنما حرفتم أنتم وآباؤكم، وكتمتم ونسيتم كثيرا مما أوتيتم. حالة كونه مهيمنا على جنس الكتاب المنزل على الرسل السابقين رقيبا عليه. حيث بين حقيقة هذه الكتب وشهد لها بالصحة وبين عمل أصحابها فيها من نسيان وتحريف، فها هو ذا قد حفظها وهيمن عليها وأظهر حقيقتها للناس.
وإذا كان هذا شأن القرآن ومنزلته. فاحكم يا محمد وكذا كل حاكم. احكم بينهم بما أنزل الله، فهو واحد لم يتغير في القرآن والإنجيل والتوراة. على أن ما في القرآن كان ناسخا للكل متمما شاملا وما قبله كان كالمقدمة.
ولذلك قال: احكم بينهم بما أنزل الله، فإنه الحق الذي لا محيص عنه. والمشتمل على جميع الأحكام الشرعية التي تصلح للعالم إلى يوم القيامة.
ولا تتبع أهواءهم فيما حرفوا وبدلوا. من حكم الرجم والقصاص في القتل، والمعنى: لا تعدل عما جاءك من الحق متبعا لأهوائهم لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً قال الآلوسي ما معناه: وهذا استئناف مسوق لحمل أهل الكتاب المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم على الانقياد لحكمه. واتباع شرعه. ذلك أنهم كلفوا بالعمل بالقرآن دون غيره من الكتب، لكل أمة منكم أيها الناس- الشاملون للموجودين أيام النبي صلّى الله عليه وسلّم والسابقين لهم أيام موسى وعيسى- وضعنا شرعة ومنهاجا خاصين بتلك الأمة لا تكاد تتخطاهما، فالأمة من بنى إسرائيل التي كانت موجودة من مبعث موسى إلى مبعث عيسى شرعتها التوراة، وهم من مبعث عيسى إلى مبعث محمد شرعتهم الإنجيل، والأمة من الناس أجمعين من مبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم القيامة شرعتها ومنهاجها القرآن لأن محمدا خاتم الأنبياء، وأرسل للناس جميعا إلى يوم القيامة ودستوره أتم دستور وكتابه أكمل كتاب، وليست هذه دعوة، وإنما الواقع يؤيد ذلك.
ولو شاء الله أن يجعلكم أمة واحدة، لها دين واحد وكتاب واحد ورسول واحد
522
لجعلكم كذلك، ولكنه لم يشأ ذلك بل شاء غيره. ليعاملكم- سبحانه وتعالى- معاملة من يبتليكم فيما آتاكم من الشرائع لحكم إلهية يقتضيها كل عصر.
إذا كان الأمر كذلك فسارعوا إلى مغفرة من ربكم وتسابقوا في عمل الطاعات، واعلموا أن المرجع إلى الله وحده وإليه المصير! فينبئكم بما كنتم تختلفون، وسيجازيكم على ذلك كله.
وأنزلنا إليك الكتاب: وأنزلنا أن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم، وقد كرر الأمر بالحكم بالقرآن لأن الاحتكام إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم كان في حادثة الرجم وحادثة القصاص في القتلى.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس: قال كعب بن أسد وعبد الله بن صوريا وشاش بن قيس من اليهود: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا: يا محمد إنك عرفت أنا أحبار يهود وأشرفهم وسادتهم، وأنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا، وأن بيننا وبين قوم خصومة، فنخاصمهم إليك، فتقضى لنا عليهم ونؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنزل الله- عز وجل- وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك... الآية.
فكانت إقرارا للنبي صلّى الله عليه وسلّم على ما فعل، وأمرا بالثبات على الحق وعدم الانخداع بأقوال هؤلاء وأمثالهم.
فإن تولوا وأعرضوا، فلا يهمنك أمرهم ولا تبال بهم، واعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، وهو التولي والإعراض. أما بقية ذنوبهم وما أكثرها فلهم عذاب أليم، والله أعلم به، وإن كثيرا منهم لفاسقون وخارجون عن حدود العقل والدين والمروءة.
عجبا لهؤلاء! أيتولون عن قبول حكمك بما أنزل الله وهو الحكم العدل والرأى الوسط الرشيد. فيبغون حكم الجاهلية؟ لعجب وأى عجب هذا؟! أهناك من يترك دستور الرحمن وهدى القرآن لرأى الجاهلية الحمقاء؟ وما كانوا عليه من التفاصيل وضياع الحقوق.
ولعمري نحن الآن وقد تركنا ديننا ونبذنا دستورنا، لأنّا أشدّ من هؤلاء! إذ هم خارجون عن الإسلام لا يعترفون به كدين إلهى أو على الأقل لا يعرف حقيقته إلا أحبارهم، أما نحن فندعى الإسلام، ونأمل في الجنة وثواب الله، ومع هذا تركنا حكم
523
القرآن إلى رأى هو كرأى الجاهلية بل أشد ميوعة ومحاباة، فالقانون الوضعي يحمى الجرائم والمجرمين! هذا الخطاب في الآية وهذا الاستفهام والتعجب والإنكار إنما هو لقوم يوقنون أنه لا أعدل من الله ولا أحسن حكما منه..!
موالاة اليهود والنصارى وعاقبتها [سورة المائدة (٥) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣)
المفردات:
مَرَضٌ: شك ونفاق. دائِرَةٌ: ما يدور به الزمان من المصائب والإحن التي تحيط بالمرء إحاطة الدائرة بما فيها. حَبِطَتْ: بطلت أعمالهم.
سبب النزول:
روى الرواة أنه جاء عبادة بن الصامت من بنى الخزرج إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:
يا رسول الله إن لي موالي من اليهود كثيرا عددهم، وإنى أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبى: إنى رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من
524
موالاة موالي. فقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله بن أبى: «يا أبا الحباب: أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة، فهو لك دونه» قال: إذن أقبل، فنزلت هذه الآية
. المعنى:
يا من اتصفتم بهذا الوصف وهو الإيمان بالله ورسوله، سواء كان هذا باللسان فقط ولا إخلاص معه. أو كان إيمانا صادقا ومعه الإخلاص. لا يليق بكم أن تفعلوا ما نهاكم الله عنه من اتخاذ اليهود والنصارى أولياء تلقون إليهم بالمودة، وتسرون إليهم بما أخفيتم وما أعلنتم، وتتحابون إليهم وتصادقونهم، إذ بعض اليهود أولياء بعض، وبعض النصارى أولياء بعض، والكل متفق على كلمة واحدة هي بغضكم بغضا شديدا.
ومن يتولهم منكم فإنه منهم، أى: من جملتهم، وحكمه حكمهم. وهذا تشديد على المنافقين الذين يتخذون صداقات، ويربطون صلات باليهود والنصارى وأعداء الدين. إن الله لا يهدى الظالمين أنفسهم بموالاة الكفار أيا كان السبب.
فترى يا محمد وكذا كل من تصح منه الرؤية. ترى الذين في قلوبهم مرض: الشك والنفاق كعبد الله بن أبى وأضرابه، يسارعون في موالاتهم، ويرغبون فيها رغبة أكيدة خاصة للشيطان، وانظر إلى تعبير القرآن (يسارعون فيهم) بدل (يسرعون إلى موالاتهم) للإشارة إلى أنهم منتقلون من بعض مراتبها إلى بعض فهم مستقرون فيها.
يقولون متعللين: نخشى أن تصيبنا دائرة تدور علينا من دوائر الدهر. ودولة من دولة، بأن ينقلب الأمر للكفار واليهود وتدول الدولة على المسلمين فنحتاج إليهم فلا يسعفوننا بالميرة والطعام- أرأيت كيف لا يثق المنافقون بوعد الله؟ وأن حزب الله هم المفلحون.
وعسى الله أن يأتى بالفتح، و (عسى) في القرآن وعد محتوم فإن الكريم متى أطمع أطعم، وإذا وعد حقق، فما ظنك بأكرم الأكرمين؟ وهو على كل شيء قدير. والمراد بالفتح: فتح مكة، أو فتح من عنده شامل لتأسيس الدولة، وانتظام شؤونها
525
واستقرارها في الوجود، أو أمر من عنده يفضح حال المنافقين، ويهتك سترهم، ويرد كيدهم في نحورهم وقد صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده فيصبح أولئك المنافقون نادمين على ما أسروا وكتموا!! ويقول الذين آمنوا تعجبا وتعريضا وشماتة بهم مخاطبين اليهود، ومشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم، وقد بدت الأمور على غير ما كانوا يرجون:
أهؤلاء (المنافقون) الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم أيها اليهود؟ حبطت أعمالهم التي كانوا ينافقون بها من صلاة وصوم... إلخ. فأصبحوا خاسرين دنيا وأخرى.
وهذا مرض خطير ينتشر في الأمم الضعيفة المستعبدة، ترى الكثير من أبنائها الذين في قلوبهم ضعف وفي نفوسهم مرض يلجئون إلى الأعداء من الأجانب يتخذون عندهم يدا لأنهم ليسوا مؤمنين بالنصر وأن الدولة لهم.
يا قوم: اسمعوا وعوا واعتبروا. فإنما يتذكر أولوا الألباب!!
المرتدون والمحاربون لهم [سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٤ الى ٥٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦)
526
المفردات:
يَرْتَدَّ الارتداد: الخروج من الإسلام والدخول في الكفر مطلقا، أو بسبب ترك ركن كالزكاة جهارا وعنادا. يُحِبُّهُمْ: يجازيهم على أعمالهم أحسن الجزاء وأتمه. وَيُحِبُّونَهُ: يخلصون له في العمل، يطيعونه في كل أمر ونهى. أَذِلَّةٍ:
جمع ذليل، بمعنى عاطفين عليهم. أَعِزَّةٍ: جمع عزيز، بمعنى أنهم متعالون عليهم.
راكِعُونَ: خاشعون وخاضعون. حِزْبَ اللَّهِ: الجماعة المجتمعة التي حزبها أمر من الأمور وألمّ بها اتجاه خاص.
روى أنه ارتد عن الدين إحدى عشرة قبيلة: ثلاث أيام النبي صلّى الله عليه وسلّم وسبع أيام أبى بكر- رضى الله عنه- وجبلة بن الأيهم أيام عمر- رضى الله عنه- فالذين ارتدوا أيام النبي صلّى الله عليه وسلّم:
(أ) بنو مدلج ورئيسهم الأسود العنسي تنبأ باليمن، وكان كاهنا وأهلكه الله على يد فيروز الديلمي.
(ب) بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب، الذي تنبأ وأرسل كتابا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيه:
أنه شريك وأن الأرض قسمان،
فكتب له النبي صلّى الله عليه وسلّم: من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، والسلام على من اتبع الهدى. أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين
، وقاتله أبو بكر- رضى الله عنه- والذي قتله وحشي قاتل حمزة.
(ج) بنو أسد وزعيمهم طلحة بن خويلد ارتد أيام النبي صلّى الله عليه وسلّم وقاتله أبو بكر في خلافته، ففر إلى الشام وأسلم وحسن إسلامه.
المرتدون أيام أبى بكر:
(١) غطفان وزعيمهم قرة بن سلمة.
(٢) فزارة قوم عيينة بن حصن.
(٣) بنو سليم قوم الفجاءة عبد ياليل.
(٤) بنو يربوع قوم مالك بن نويرة.
527
(٥) بعض بنى تميم وزعيمتهم سجاح بنت المنذر الكاهنة.
(٦) كندة قوم الأشعث بن قيس.
(٧) بنو بكر بن وائل.
وقد ارتد أيام عمر جبلة بن الأيهم من الغسانيين تنصر ولحق بالشام، وله في ذلك شعر وحوادث، وسبب ارتداده أنه كان بمكة يطوف فوطئ إزاره رجل من بنى فزارة فلطمه جبلة فهشم أنفه، فاستعدى الفزاري عليه عمر- رضى الله عنه- فحكم إما بالعفو أو القصاص، فقال جبلة:
أتقتص منى وأنا ملك وهو سوقة؟ إلخ ما هو مذكور في كتب التاريخ.
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه في المستقبل- والعياذ بالله- كالقبائل التي ذكرناها، فسوف يأتى الله بقوم هو أعلم بهم، قيل: هم من اليمن أو فارس، والظاهر أنهم أبو بكر والصحابة- رضوان الله عليهم أجمعين- وقد وصفهم القرآن بصفات:
أنهم يحبون الله باتباع أمره واجتناب نهيه، ويحبهم الله بعطفه وتوفيقه ورضوانه ومجازاتهم أحسن الجزاء.
وهم أذلة عاطفون على المؤمنين، مكانتهم عالية ولكنهم متواضعون يرأفون بالمؤمنين ويخفضون لهم جناح الذل من الرحمة، وعلى الكافرين أعزة، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، غلاظ شداد عليهم إذا حاربوهم، لا يقبلون الدنية في دينهم.
يجاهدون في سبيل الله وفي سبيل نصرة الحق والفضيلة والدين وإعلاء كلمته وفي سبيل خدمة الوطن وأهله، يجاهدون ببذل النفس والنفيس ولا يخافون في الحق وإظهاره لومة لائم. ولا يرجون ثوابا من أحد، ولا يخافون عذابا من أحد، بل تصدر أعمالهم بإخلاص لله ورسوله.
وفي هذا تعريض بالمنافقين في كل عصر وزمان.
وذلك فضل الله وتوفيقه وهدايته وإرشاده يؤتيه من يشاء من عباده الذين فيهم الاستعداد للخير والميل بطبعهم وفطرتهم.
528
وأحسن ما قيل في مثل هذا الموضوع أن القوى النفسية والبدنية التي في العبد من الله قطعا، والاتجاه بها إلى الخير أو الشر من العبد، وهذا مناط الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة.
وهب أنك تقود سيارة لشخص وقد حذرك مرارا من المخالفات وأمرك بطاعة أوامر الحكومة، وعلى كل طريق لافتة واضحة تعلن الثواب والعقاب، فقدتها مرة في الطريق السهل وحافظت على الأوامر فلم يهلك حرثا ولا نسلا، ومرة خالفت الأوامر فأهلكت الحرث والنسل، أمن العدل أن تترك في الحالتين؟ أمن العدل أن تحاسب صاحب السيارة أم قائدها؟؟ المعقول أننا نحاسب القائد ونجازيه في الحالتين، وهكذا نحن في الدنيا!! والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم، والله ذو الفضل العظيم.
وإنما وليكم الواجب الاتجاه إليه هو الله ومعه رسوله والمؤمنون الذين يقيمون الصلاة كاملة تامة ويؤتون الزكاة في ركوع وخشوع وخضوع، بلا نفاق وبلا رياء.
ومن يتول الله ورسوله والمؤمنين فإنه هو الناجي الفائز، لأن حزب الله وجماعته هم الغالبون إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ «١».
النهى عن موالاة الكفار والسبب في ذلك [سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٧ الى ٦٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١)
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣)
(١) سورة محمد آية ٧.
529
المفردات:
هُزُواً سخريا. وَلَعِباً اللعب: ضد الجد. نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ:
دعوتهم لها بالأذان والإقامة. تَنْقِمُونَ نقم ينقم: أنكر وعاب عليه قولا أو عملا.
مَثُوبَةً: جزاء وثوابا، من ثاب إليه: إذا رجع، ولا شك أن الجزاء يرجع إلى صاحبه. الطَّاغُوتَ: كل ما عبد من دون الله، وعبادته مجاز عن طاعته.
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وكذا المشركين. لا تتخذوهم أولياء أبدا فإنهم يودون عنتكم ومشقتكم، وقد بدت البغضاء من أفواههم، وما تخفى صدورهم أكبر، بعضهم أولياء بعض، مع أن موالاتهم تغضب الله ورسوله.
530
وهم الذين اتخذوا دينكم ومشاعره هزؤا وسخرية، ومظهرا من مظاهر اللعب والضحك ولا شيء أشق على النفس من استهزاء المعاند له وسخريته به وبرأيه وشعاره، واتقوا الله أيها الناس واخشوا عذابه ووعيده على الموالاة إن كنتم مؤمنين.
كرر الله نهى المؤمنين عن موالاة أعدائهم من الكفار تنفيرا لهم عنها، وتسجيلا على الكفار فعلهم.
وبعد أن أثبت الله استهزاءهم بالدين على وجه العموم وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ «١» سجل عليهم استهزاءهم بنوع خاص هو عماد الدين وأساسه: هو الصلاة.
وإذا ناديتم إلى الصلاة بالأذان والإقامة اتخذوا هذه المناداة والصلاة هزؤا ولعبا، ما ذلك الاستهجان القبيح إلا لأنهم قوم لا عقل لهم يرشدهم ولا رأى يهديهم بل هم في ضلالهم يعمهون.
إذا ما أروع هذا النداء الذي يهز القلوب ويجلوها، ويطهر النفوس ويزكيها، يا سبحان الله!! أهذا النداء يضحك؟
الله أكبر. الله أكبر. نعم، الله أكبر من كل شيء في الوجود، استفتاح يا له من استفتاح! وانظر إلى إتباعه بالشهادتين لله ورسوله وهما ركنا الإيمان ودعامته! وما أروع قول المؤذن: حي على الصلاة! أقبلوا عليها بجد ونشاط ونفس راضية مطمئنة، حي على الفلاح: وهل هناك فلاح أكثر من هذا وأعلى؟! قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [سورة الشمس الآيتان ٧ و ٨] الله أكبر، لا إله إلا الله!
روى ابن جرير عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نفر من اليهود: أبو ياسر ابن أخطب، ورافع بن أبى رافع في جماعة فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال:
آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ «٢» فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: لا نؤمن بمن آمن به، وروى أنهم قالوا: لا نعلم شرا من دينكم
، فنزلت الآيات الآتية:
(١) سورة البقرة آية ١٤.
(٢) سورة البقرة آية ١٣٦.
531
قل يا أهل الكتاب ما تنقمون منا، وما تعيبون علينا إلا إيماننا بالله ورسله إيمانا صادقا خالصا، مع وصف الله- سبحانه وتعالى- بكل كمال وتنزيهه عن كل نقص، وكذا الرسل جميعا- عليهم السلام- لا نفرق بين أحد منهم مع وصفهم بما يليق بهم شرعا، وكذا ما أنزل عليهم من الكتب.
وإن أكثركم لفاسقون وخارجون عن حدود العقل والرأى والدين الصحيح، يا عجبا كل العجب! أيكون مناط المدح عنوان الذم؟ ولله در الشاعر العربي حيث يقول:
ما نقموا من بنى أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا
قل يا محمد لهم: من أنبئكم أيها المستهزئون بديننا القائلون: لا نعلم شرا من دينكم- بما هو شر من ذلك الدين الذين تنقمون به علينا؟ دين من لعنه الله وغضب عليه بسبب سوء فعله، وهذا تبكيت لهم شديد بذكر جرائم آبائهم، وجزائهم عليها إذ اللعن والغضب نهاية العقاب والمؤاخذة من الله لهم.
ودين من جعل منهم القردة والخنازير وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [سورة البقرة آية ٦٥].
أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل، وكان التعبير ب (شر) مع أن هذا الدين خير محض مجاراة لهم في اعتقادهم ومشاكلة للفظهم.
وهاك سيئة أخرى تقتضي وحدها عدم الموالاة.
وإذا جاءوكم وحضروا مجالسكم وخاصة مجلس الرسول قالوا: آمنا باللسان فقط، والحال أنهم دخلوا متلبسين بالكفر مؤتزرين به لا يفارقهم، وهم قد خرجوا به والله أعلم بما يكتمون- حين الدخول- من النفاق وعند الخروج من العزم والكيد والمكر، وما ملئت به قلوبهم من الحسد والبغضاء لكم. فاحذروهم ولا توالوهم. وترى كثيرا منهم يسارعون في ارتكاب الإثم والعدوان ويقبلون عليهما راغبين فيهما بجد ونشاط، ويقبلون على أكل السحت والدنىء من المحرم، تالله لبئس العمل عملهم.
ويا ضلال هؤلاء أما وجدوا من يرشدهم؟ أما وجدوا من ينكر عليهم؟ لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم والكذب والبهتان في أمور الدين، وأكلهم السحت؟
تالله لبئس ما كان يصنع هؤلاء الأحبار.
532
ولعل سائلا يقول: لم يقال في جانب الشعب لبئس ما كانوا يعملون وفي جانب الأحبار والعلماء لبئس ما كانوا يصنعون؟
والجواب: أن الفعل ما يصدر عن الإنسان مطلقا، فإن قصد كان عملا، وإن صاحبه دوام ومرونة كان صنعة، وكان صاحبه صانعا.
على أن فاعل المعصية من الناس تدفعه شهوته ونفسه إليها، وأما الذي ينهاه من الأحبار والعلماء بالطبع لا شهوة معه تدفعه إلى العمل ولا إلى عدم الإنكار، أشد إثما وأعظم جرما من الفاعل نفسه.
روى عن ابن عباس: (ما في القرآن أشد توبيخا من هذه الآية) يريد أنها حجة على العلماء إذا هم قصروا في الهداية والإرشاد!!
من سيئات اليهود وطريق السعادة في الدارين [سورة المائدة (٥) : الآيات ٦٤ الى ٦٦]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦)
533
المفردات:
اليد تطلق على الجارحة وتطلق مجازا على النعمة وعلى العطاء. مَغْلُولَةٌ:
ممسكة عن الإنفاق. غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ: أمسكت عن الإنفاق والخير.
مَبْسُوطَتانِ المراد: كثيرة العطاء. أَقامُوا التَّوْراةَ: عملوا بما فيها على أتم وجه وأكمله، وكذا الإنجيل. مُقْتَصِدَةٌ: معتدلة.
سبب النزول:
روى الطبراني عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود- قيل: هو النباش بن قيس، وقيل هو فنحاص كبير بنى قينقاع- قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن ربك بخيل لا ينفق، فأنزل الله هذه الآية.
المعنى:
بعد أن عدد من سيئاتهم، وسجل عليهم بعض أعمالهم الموروثة، يذكر سيئة من أفظع سيئاتهم ألا وهي وصف الله- سبحانه- بما لا يتفق أبدا مع العقل، ولا يقول به رجل من أهل الكتاب.
وقالت اليهود- أى بعضهم-: يد الله مغلولة. وغل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود، ألا ترى إلى قوله سبحانه: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [سورة الإسراء آية ٢٩] وقول النبي: «أطولكن يدا أسر عكن لحوقا بي يوم القيامة».
والمراد بطول اليد: الجود والكرم.
قال بعضهم: هذا لما أصابتهم أزمة مالية.
غلت أيديهم، وأمسكت عن الجود والخير، فهم القوم البخلاء الأنانيون لعنهم الله بما قالوا، فهو الكريم ويحب كل كريم، ويداه مبسوطتان للعطاء، ينفق كيف يشاء، على وفق الحكمة الإلهية فهو يعطى ويمنع، ويقبض ويبسط لحكم هو أعلم بها اللَّهُ
534
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ
[سورة الرعد آية ٢٦]، وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ [سورة الشورى آية ٢٧].
وتالله ليزيدن الذي ينزل عليك من الآيات البينات التي تكشف سترهم وتطلعك على أعمالهم ونواياهم، ليزيدنهم ذلك طغيانا وظلما وجحودا وبطرا، يا سبحان الله! إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. ما كان سببا في الخير يكون عندهم سببا في الشر! ولقد حكم عليهم بأن ألقى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، فلا يهمنك أمرهم، ولا تغتر باتفاقهم في فلسطين المنكودة، فهي سحابة صيف لهم، وتنبيه من الله لنا علّنا نثوب إلى رشدنا ونرجع إلى ديننا.
وكلما أوقدوا نارا للحرب في الخارج أو الداخل كإثارة الفتن وتشتيت الكلمة وتأليب العدو، كلما فعلوا هذا أطفأ الله نارهم، وأبطل عملهم، وهم دائما يسعون في الأرض فسادا، والله لا يحب المفسدين وسيجازيهم على ذلك بأقسى أنواع العقاب.
وفي كتب التاريخ القديم والحديث ما يشهد على هذا! ثم بعد هذا وسعت رحمته كل شيء وفتح باب كرمه للتائبين الذين يقبلون عليه ولو كانوا من أهل الكتاب أو غيرهم.
ولو أن أهل الكتاب آمنوا بكتبهم وبالقرآن ولم يحرفوا ولم يركبوا رءوسهم واتقوا الله في كل أعمالهم لكفرنا عنهم سيئاتهم التي اقترفوها ومحونا عنهم أوزارها ولأدخلناهم جنات النعيم.
ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل المنزلين من عند الله بنور التوحيد والهداية ولم يسمعوا لأحبارهم ومفترياتهم، وآمنوا بما أنزل إليهم من ربهم: لا سيما القرآن الكريم، وعملوا بما فيها على خير وجه وأتمه لبسط الله الرزق لهم وأنزل عليهم الخير والتوفيق وأكلوا من كل جهة وجانب.
وفي هذا إشارة إلى أن العمل الصالح من الإيمان الكامل مدعاة لرضا الرب وسعة الرزق، والسعادة في الدنيا والآخرة مع سلوك الطرق المعروفة والنظم المألوفة في عالم الاقتصاد!
535
من أهل الكتاب وكذا كل أمة في الوجود جماعة قليلة معتدلة في الرأى، والكثير الغالب منهم فاسقون وخارجون عن أصول الدين والعقل،
وصدق رسول الله: «الناس كإبل لا تجد فيها راحلة».
تبليغ الرسول للدين [سورة المائدة (٥) : الآيات ٦٧ الى ٦٩]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩)
المفردات:
يَعْصِمُكَ: يحفظك، مأخوذ من عصام القربة، وهو ما يربط به فمها من خيط أو سير جلد. الصَّابِئُونَ الخارجون من الأديان كلها، وقيل: هم قوم عبدوا الملائكة وصلّوا إلى غير القبلة.
روى ابن مردويه عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أى آية من السماء أنزلت أشد عليك؟ فقال: كنت بمنى أيام الموسم، واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس فنزل علىّ جبريل فقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ (الآية).
536
فقلت: أيها الناس: من ينصرني على أن أبلغ رسالات ربي ولكم الجنة؟ أيها الناس لا إله إلا الله وأنا رسول الله إليكم تفلحوا وتنجوا ولكم الجنة. قال صلّى الله عليه وسلّم: «فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون علىّ بالتراب والحجارة ويقولون: كذاب صابئ» فجاء عمه العباس فأنقذه منهم وطردهم عنه.
المعنى:
نادى الله- سبحانه وتعالى- حبيبه بوصف الرسول، التي تقتضي التبليغ التام الكامل، أيها الرسول: بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك ولا تخش أحدا، ولا يهمك شيء أبدا، فإنك إن لم تبلغ الكل فما بلغت رسالته، فكأن كتمان شيء من الرسالة، ولو إلى أجل هو كتمان للكل تفظيعا لجرم الكتمان، وكيف يكتم الرسول صلّى الله عليه وسلّم شيئا من الرسالة خوفا أو خشية؟ والله يعصمك من الناس أجمعين. ويعصمك من القتل والفناء، أما العذاب والشدائد والآلام والحروب والإحن فهي الحوادث التي تخلق الرجال، والبوتقة التي صهرت الناس فظهر المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، كما بينا ذلك في العزوات.
وكيف يكون رسول الله والله لا يعصمه؟ وهو المعصوم من كل سوء!! انظر كيف يضل المسيحيون حين يعتقدون صلب المسيح وقتله؟ ولعل الحكمة في هذه الآية، أن يعرف الجميع أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رسول رب العالمين، بلغ جميع ما أنزل إليه من ربه لم يكتم شيئا، ولم يخص أحدا بشيء وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [سورة الأنعام آية ١٥٣] إن الله لا يهدى القوم الكافرين الذين يؤذونك ويعاندوك.
قل لهم: يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى لستم على شيء يعتد به من أمر الدين، ولا ينفعكم الانتساب إلى موسى وعيسى والنبيين حتى تقيموا التوراة والإنجيل، وإقامتها العمل بكل ما فيها من التوحيد الخالص والبشارة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وصفته، وحتى تقيموا ما أنزل إليكم من ربكم على لسان محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو القرآن المصدق لما تقدمه من الكتب والمكمل للرسالات السابقة، ونحن أيها المسلمون لسنا على شيء أبدا حتى نقيم القرآن ونعمل بأحكامه. ونهتدي بهديه في كل أمورنا.
537
وأقسم الله ليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك وهو القرآن طغيانا على طغيانهم وكفرا على كفرهم وذلك بسبب حسدهم الكامن حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ من ربّهم. «١»
أما القليل منهم الذين يؤمنون بالله وبكتبه فلا يزيدهم القرآن إلا هدى ورشادا وخيرا وإسعادا.
وإذا كان هذا شأن القرآن، فلا يهمنك أمرهم، ولا تأس على القوم الكافرين.
وهاك قانونا عاما وحكما شاملا للجميع على اختلاف أشكالهم وألوانهم، ولا غرابة فهي الرسالة العامة وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ «٢» إن الذين آمنوا باللسان كالمنافقين، والذين هادوا من أتباع موسى- عليه السلام- والذين صبئوا وخرجوا عن حدود الأديان، والنصارى من أتباع المسيح- عليه السلام- من آمن بالله ورسله واليوم الآخر إيمانا صادقا، وعمل عملا صالحا، فلا خوف عليهم أبدا من عذاب يوم القيامة.
ولا هم يحزنون أبدا بل هم في جنات النعيم، وعلى الأرائك ينظرون.
من قبائح اليهود أيضا [سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٠ الى ٧١]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١)
(١) سورة البقرة آية ١٠٩.
(٢) سورة سبأ آية ٢٨.
538
المعنى:
لا يزال الكلام في أهل الكتاب وتعداد سوءاتهم وقبائحهم وخاصة اليهود.
تالله لقد أخذنا العهد الموثق على بنى إسرائيل ليؤمنن بالله ورسله ولا يكتمونه أبدا، وأرسلنا إليهم رسلا، يؤكدون هذا العهد، ويحددون هذا الميثاق، حتى يكونوا على ذكر منه أبدا ولكنهم اليهود، كلما جاءهم رسول من عند الله بما لا تهواه أنفسهم لأنهم لا يهوون إلا الشر، ناصبوه العداء، وساموه سوء العذاب، وكأن سائلا سأل وقال:
ماذا كانوا يفعلون؟ فأجيب: فريقا منهم كذبوا وفريقا منهم كانوا يقتلون الأنبياء من غير ذنب ولا جريرة إلا أنهم كانوا يقولون: ربنا الله..
لعنهم الله!! قد ظنوا ظنا يكاد يكون كاليقين أنهم لا تكون لهم فتنة أبدا، ولا يختبرون بالشدائد أصلا، وكيف يكون هذا وهم (كما يعتقدون) أبناء الله وأحباؤه وهم من نسل الرسل الكرام فلا يعذبون بذنوبهم أبدا.
فعموا لهذا وصموا عن آيات الله التي أنزلها في كتبه وعموا عما يحصل لهم من الإنذارات والشدائد فلم يتعظوا بشيء أبدا، وصموا عن سماع القوارع من الحجج والآيات البينات.
ثم تابوا بعد عبادتهم العجل وقبل الله توبتهم، ثم عموا وصموا مرة ثانية حيث طلبوا رؤية الله وقتلوا الأنبياء كزكريا ويحيى وحاولوا قتل عيسى ابن مريم وخالفوا أوامر الله ورسله.
وقوله تعالى: كَثِيرٌ مِنْهُمْ يفيد أن أكثرهم العصاة وأقلهم المؤمنون الصالحون.
وأما نحن- أيها المسلمون- حذار حذار من ادعائنا وغرورنا بدون العمل، حذار حذار ألا نلتفت إلى التنبيهات والقوارع التي تصيبنا، حذار من أن ينطبق علينا هذا الكلام!!
539
الإله عند المسيحيين [سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٢ الى ٧٦]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦)
المعنى:
بعد أن عدد قبائح اليهود أخذ يذكر شيئا من عقيدة النصارى في الإله! تالله لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، وكيف لا يكفرون وقد
540
ضلوا ضلالا بعيدا جدا، عن العقل والدين إذ هم يقولون: إن الله مركب من ثلاثة أقانيم، أى: أصول: الأب، والابن، وروح القدس.
وقد حل الأب والابن واتحد وكون روح القدس، وكل واحد من هذه الثلاثة عين الآخر، والثلاثة واحد والواحد ثلاثة، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا.
على أن خلاصة أقوالهم أن الله هو المسيح والمسيح هو الله.
ولقد رد القرآن عليهم: كيف تقولون هذا البهتان وقد قال المسيح ابن مريم: يا بنى إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم، فقد أمرهم بعبادة الله وحده معترفا بأنه ربه وربهم ودعاهم إلى التوحيد الخالص من كل شرك.
وهذا هو عيسى يحذرهم عاقبة الشرك والوثنية: إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار، وما للظالمين لأنفسهم باتخاذ الشركاء والآلهة من نصير ينصرهم ولا شفيع يشفع لهم وينقذهم مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة ٢٥٥] لقد كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، أى: واحد من ثلاثة التي هي الأقانيم الثلاثة.
وما من إله في الوجود يستحق العبادة إلا إله واحد، فرد، صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، سبحانه وتعالى عما يشركون!.
وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم.
أعموا فلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه ويرجعون إليه؟ والله كتب على نفسه الرحمة وهو الغفور الرحيم.
أما حقيقة المسيح عيسى بن مريم، فهو رسول كبقية الرسل أيد بالمعجزات الخوارق للعادة كالنبيين السابقين، وكما أيد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم بالمعجزة الباقية الخالدة: القرآن.
إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ.
[سورة النساء آية ١٧١].
541
وأما أمه فهي الصديقة الطاهرة نفخ الله فيها من روحه وصدقت بكلمات ربها فكانت من القانتين.
وأما حقيقتها الشخصية والنوعية فمساوية لسائر البشر بدليل أنهما يأكلان الطعام ليقيما به أودهما، ومرت بهما ظروف خاصة وعامة كغيرهما، وهما يذهبان إلى الخلاء ليقضيا حاجتهما فهل يكون أمثال هذين آلهة تعبد؟!! انظر يا من يتأتى منك النظر! كيف نبين لهم الآيات، ثم بعد هذا يغالون في البعد عن المنطق السليم، وكيف يصرفون عن استبانة الحق كأن عقولهم فقدت- بسبب التقاليد- وظيفتها؟!!
خلاصة نظرية القرآن في المسيح
تعرض القرآن الكريم إلى المسيح عيسى ابن مريم وقد غالى فيه أهل الكتاب، فاليهود ينكرون نبوته ويفترون عليه الكذب، ويقولون عليه وعلى أمه البهتان.
والمسيحيون يغالون في رفع عيسى عن البشر، فتارة يجعلونه إلها، أو الآلهة ثلاثة والمسيح بن مريم واحد منهم، وتارة يقولون: هو ابن الله.
فقال القرآن القول الحق، والرأى الوسط في عيسى ابن مريم ذلك في الآيات ٧١، ١٧٢ من سورة النساء وقد مر تفسيرهما، وفي آية ١٧ من سورة المائدة والآيات ٧٢، ٧٣، ٧٤، ٧٥، ٧٦ من السورة نفسها (هذه الآيات كلها مفسرة في هذا الجزء).
وخلاصته أن المسيح عيسى ابن مريم نبي من الأنبياء ورسول الله إلى بنى إسرائيل، وقد خلق بكلمة الله التكوينية، ومؤيد بروح منه تعالى، وهو عبد الله وخاضع له ولن يستنكف من هذا بل ظل يدعو إليه كما في الإنجيل.
وعيسى رسول كبقية الرسل أيد بالمعجزات الموافقة لعصره كأى نبي أرسل، والله يخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير.
ولا غرابة في شأن ولادته فهذا آدم وهذه حواء، وهذه أصول الحيوانات جميعا!!! والله- سبحانه وتعالى- هو الدائم الباقي القوى القادر، لا راد لقضائه ولا معقب
542
لحكمه، إذا أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا، فهل يمنعه مانع! والمسيح نفسه يقول: يا بنى إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم، ثم يحذرهم الشرك وعاقبته، ويبين القرآن أن التثليث خطأ، وما من إله إلا إله واحد، لا إله إلا الله سبحانه وتعالى عما يشركون ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [المائدة ١١٧].
على أن المسيح وأمه بشر كبقية البشر إلا أن عيسى رسول من الله وأمه صديقة طاهرة كانا يأكلان الطعام ويذهبان إلى الخلاء، ولهما كل عوارض البشر وصفاتهم، وهما لا يملكان لأنفسهما نفعا ولا ضرا فكيف يعبدان!! هذه هي خلاصة لما في هذه الآيات القرآنية بالنسبة لعيسى ابن مريم. ولقد قرأنا الكثير من الأناجيل فوجدنا فيها آيات متشابهة جعلت النصارى يقولون بالتثليث تارة، وبأن الله هو المسيح مرة أخرى، أما الآيات المحكمة في الإنجيل فلإثبات الوحدانية لله تعالى، ولبيان حقيقة المسيح وهي كما في القرآن مع فارق بسيط جدا (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون) وكان للوثنية عند اليونان والرومان والمصريين أثر كبير في انحراف النصارى عن تعاليم المسيح المحكمة، ففي إنجيل مرقص الإصحاح السابع الآية ٧، ٨ (وباطلا يعبدونني وهم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس. لأنكم تركتم وصية الله وتتمسكون بتقليد الناس).
المتشابه في الإنجيل:
في إنجيل يوحنا الإصحاح الأول العدد ١ (في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله والكلمة الله) وعندهم أن الكلمة هي المسيح، ينتج أن الله هو المسيح كما وصفهم القرآن وكما جاء في الرسالة الأولى ليوحنا الرسول بالإصحاح الخامس والعدد ٧، ٨ (فإن الذين يشهدون في السماء هم الأب والكلمة والروح القدس، وهؤلاء الثلاثة هم واحد، والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة الروح والماء والدم والثلاثة هم الواحد) هذا صريح في عقيدة التثليث.
543
فيم يشهد الثالوث الأول والثالوث الثاني؟ وما هذا الثالوث الثاني، وما الفرق بين الاثنين؟ بأيهما نؤمن وكيف نستسيغ أن الأب والابن وروح القدس والماء والدم يشهدون؟ وما معنى أن الثلاثة هم واحد أو في الواحد أو بالعكس؟ إن هذا لشيء عجاب، ويمكننا أن نرد على دعواهم ألوهية المسيح من الإنجيل نفسه وهي الآيات المحكمة فيه.
١- في إنجيل متى الرابع والعدد ١٠: (لما جاء الشيطان للمسيح وهو يجربه وقال له:
إن خررت وسجدت لي أعطيك هذه الممالك جميعا، حينئذ قال يسوع: اذهب يا شيطان لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد).
وهذه شهادة المسيح بأن الله هو بارئ السموات والأرض وله وحده السجود والعبادة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (الفاتحة).
٢- في إنجيل يوحنا الإصحاح السابع عشر العدد ٣ يقرر المسيح بأنه رسول الله وأنه رسول الإله الحقيقي (وهذه الحياة الأبدية أن يعرفوك، إنك الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته).
وفي الآية الرابعة من الإصحاح نفسه يقول المسيح: (أنا مجدتك على الأرض، العمل الذي أعطيتنى لأعمل قد أكملته) إذا هو عبد خاضع لله قدم له العبادة والتمجيدنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
[سورة النساء آية ١٧٢].
٣- والمسيح رسول قد خلت من قبله الرسل له رسالة خاصة ومهمة خاصة إذا أتمها انتهى، يقول بولس الرسول في الرسالة الأولى لأهل كورنثوس الإصحاح الخامس عشر العدد ٢٨: (ومتى أخضع له الكل فحينئذ الابن نفسه سيخضع للذي أخضع له الكل كي يكون الله الكل في الكل).
٤- المسيح وأمه كانا يأكلان الطعام، ويذهبان إلى الخلاء ولهما أعراض البشر، وهذا هو المسيح عند إحيائه العازر بعد موته بأربعة أيام وقد ذهب إلى القرية التي مات فيها وتقابل مع أختيه مريم ومرثا ورأى مريم تبكى (فلما رآها يسوع تبكى واليهود الذين جاءوا معها يبكون انزعج بالروح واضطرب وقال: أين وضعتموه؟ قالوا له: يا سيد تعال وانظر، بكى يسوع).
544
فهل يتصور إنسان يدرك أن الإله يضطرب وينزعج، وكان يجهل الموضع الذي فيه دفن الميت، ويبكى ويضعف، وهذه كلها علامات البشرية ولا يتصور أن فيه لاهوتا وناسوتا زيادة على ما في البشر ثم يحصل منه هذا.
وفي الآية ٤٢ نرى أن المسيح يصلى إلى الله: (أيها الأب أشكرك لأنك سمعت لي، وأنا علمت أنك في كل حين تسمع ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا: إنك أرسلتنى) نرى أن منتهى الأمل الذي كان يرجوه أن يعرفوا أنه الرسول فقط.
وبعد: فهذا شيء يحار له كل إنسان عاقل!!! إذ كيف يقبل هذا ويدين به أناس يعتقدون هذه العقائد؟؟
وأختتم كلمتي بقرار اللجنة الخاصة لوضع التسابيح والتراتيل للكنائس الإنجيلية البروتستانتية فقد وضعت إحدى الترنيمات وهذا مطلعها:
للواحد الرحمن الخالق الأكوان تسبيحنا للأب بارينا- والابن فادينا- والروح محيينا نهدي الثنا
السبب في استشراء الفساد فيهم [سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٧ الى ٨١]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١)
545
المفردات:
لا تَغْلُوا الغلو: الإفراط وتجاوز الحد. أَهْواءَ: آراء قوم دعت إليها الشهوة دون الحجة والبرهان. لُعِنَ اللعن: الطرد من الرحمة.
المعنى:
يا أيها الرسول قل لهؤلاء النصارى: أتعبدون عيسى متجاوزين الله، وعيسى وكذا كل معبود من دون الله لا يملك ضرا ولا نفعا لأعدائه وأوليائه على السواء، فهذا عيسى مع أعدائه اليهود هل أمكنه أن يصيبهم بضر، لا. بل حاولوا قتله وصلبه، والصلب أحقر أنواع القتل وأشده وملعون صاحبه، هل فعل شيئا، وهل دفع عن نفسه ضرا؟
هل أوقع عذابا على أعدائه؟ كل الذي فعله التجأ إلى الله وفوض أمره إليه.
وهذا عيسى كذلك مع أنصاره وأتباعه وقد كانوا مطرودين معذبين، هل أوصل نفعا لهم؟
والله هو السميع لكل صوت بل لكل همس في القلوب، العليم بكل شيء فهو الذي يستحق العبادة وحده دون سواه.
قل لهم يا محمد: لا تغلوا يا أهل الكتاب ولا تتجاوزوا الحدود في عيسى بين إفراط
546
وتفريط، فاليهود يبالغون في إهانته هو وأمه، والنصارى يرفعونه إلى مقام الألوهية بل يعبدونه.
فالوسط الوسط. والحق الحق، في المسيح وأمه الذي ذكر في القرآن!! يا أهل الكتاب لا تتبعوا أهواء قوم وآراءهم المدفوعة بالشهوة لا بالحجة والبرهان، هؤلاء القوم ضلوا من قبل، وأضلوا كثيرا من غيرهم، وهذا خطاب لأهل الكتاب المعاصرين.
وبعد أن بيّن الله أنهم ضلوا وأضلوا كثيرا، وضلوا عن السبيل الوسط والرأى المعتدل، بين سبب ذلك فقال:
لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل في الزبور على لسان داود، وفي الإنجيل على لسان عيسى بن مريم. وذلك اللعن بسبب عصيانهم، فقد لعن داود من اعتدى منهم يوم السبت وكذلك عيسى، وما كان هذا إلا بسبب تماديهم في العصيان والمخالفة: فاحذروا أيها المعاصرون ذلك.
وقد بين الله سبب استمرارهم في المعاصي بقوله:
كان من دأبهم ألا ينهى أحد منهم أحدا عن منكر ارتكبه، وذنب اقترفه، بل العاصي منهم لا يجد من يأخذ على يديه، والظالم لا يجد من يمنعه فانتشرت الفوضى وعم سوء الخلق، وهذا نذير الفناء ودليل الهلاك، تالله لبئس الفعل فعلهم وما كانوا يعملونه.
والمنكر إذا فشا في قوم ولم يجد من ينكره. ورأى العامة ذلك زالت الهيبة من النفوس والحياة من الضمائر. وصار عادة للناس، وبالطبع زال سلطان الدين من القلوب.
والنهى عن المنكر هو حفاظ الدين وسياجه، وتركه جريمة خصوصا من رجال الدين وأهله، وفي هذا الوقت العصيب لا يدفع السوء الذي استشرى وبلغ الغاية إلا تكتل القوى، وتضافر الأفراد والجماعات حتى تستأصل شأفة الفساد.
وإنى نذير لقومي أن يطبق عليهم هذا الجزاء الطبعي لكل جماعة يموت بينهم التناهى عن المنكر والأمر بالمعروف، ولعل هذا هو السبب في سياق هذه الآيات تحذيرا وإنذارا لنا.
روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أول
547
ما دخل النقص على بنى إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوبهم بعضهم ببعض، ثم تلا قوله:
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ إلى قوله فاسِقُونَ ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: «كلا، والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذون على يد الظالم ولتأطرنه (تعطفنه) على الحق أطرا ولتقسرنه على الحق قسرا أو ليضربن قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما يلعنهم» «١».
والأحاديث في خطر ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كثيرة.
وإلى متى يا قوم؟ إلى متى نعرض عن ديننا ولا نرعوى عن غينا؟... هذه هي أحوال أسلافهم أما المعاصرون منهم فهاك حديثا عنهم: ترى كثيرا من أهل الكتاب خصوصا اليهود منهم يتولون الذين كفروا من مشركي مكة ويتحالفون معهم بل ويؤلبونهم على النبي صلّى الله عليه وسلّم.
إنه لعجب وأى عجب يتحالف أهل الكتاب مع من لا كتاب له ولا رسول على النبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه!!!
وقد روى أن كعب بن الأشرف وأصحابه ذهبوا إلى مكة واستجاشوا المشركين على الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومع هذا لم يتم لهم ما أرادوا.
لبئس شيئا قدموه لأنفسهم في الآخرة وهو الأعمال التي أوجبت سخط الله وغضبه عليهم، ولعنه لهم وهم في العذاب خالدون.
ولو كانوا، أى: اليهود يؤمنون بالله والنبي موسى كما يدعون، ويؤمنون بما أنزل إلى موسى من التوراة ما اتخذوا المشركين من قريش وغيرهم أولياء وحلفاء ضد النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ولكن كثيرا منهم فاسقون وخارجون عن حدود الدين ويريدون رئاسة كاذبة وعرضا زائلا.
وفقنا الله للخير، والاهتداء بهدى القرآن والسنة المطهرة إنه سميع الدعاء.
(١) أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم باب الأمر والنهى ٤/ ٥٠٨ رقم ٤٣٣٦ والترمذي وابن ماجة. [.....]
548
اليهود والنصارى وعلاقتهم بالمؤمنين [سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٢ الى ٨٦]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦)
المفردات:
عَداوَةً العداوة والمحبة: صفتان من صفات النفس، يظهر أثرهما في القول والعمل. قِسِّيسِينَ واحده: قسّ وقسيس، وهو رئيس من رؤساء النصارى، والأصل فيه أن يكون عالما بدينهم وكتبهم. وَرُهْباناً واحده: راهب، وهو العابد المنقطع للعبادة. تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ: تفيض دمعا حتى يتدفق من جوانبها لكثرته.
فَأَثابَهُمُ: جازاهم.
549
سبب النزول:
اختار ابن جرير أن هذه الآيات نزلت في قوم من النصارى، صفتهم كما ذكر القرآن، أما كونهم من الحبشة أو من نجران، وكون عددهم كذا أو كذا فالله ورسوله أعلم بذلك، والغرض المهم ما تشير إليه الآيات.
المناسبة:
بعد أن تعرض القرآن الكريم لليهود وأعمالهم، وللنصارى وعقائدهم، ذكر هنا أحوالهم في عداوتهم ومحبتهم للمؤمنين، وتعرض للمشركين كذا بالتبع.
المعنى:
تالله لتجدن أشد الناس عداوة للمؤمنين اليهود، وما ذلك إلا أنهم أهل عناد وجحود، وغمط للحقوق يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، خاصة أهل العلم ورجال الدين، ولذا نراهم قتلوا الأنبياء بغير حق، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس، ووقفوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم مواقفهم المشهورة. فقد هموا بقتله، وحاولوا ذلك مرارا فسمّوه، وسحروه، وألّبوا عليه القبائل، وكانوا مصدر النفاق والشغب، هذا شأنهم دائما، فهم أهل مكر وخيانة، غلبت عليهم الأنانية وحب المادة، ولؤم الطبع وسوء الصنع، ويقاربهم في هذا أهل الشرك وعبّاد الأوثان، فهم مشتركون معهم في أخص الصفات وإن فاقهم اليهود. وأشد ما لاقى النبي صلّى الله عليه وسلّم من العداوة والإيذاء كان من يهود الحجاز في المدينة وما حولها، ومن مشركي العرب ولا سيما أهل مكة وما قرب منها.
والتاريخ قديما وحديثا ملئ بالشواهد على ذلك، وإن مالأ اليهود المسلمين في بعض الظروف فلأمور سياسية عارضة دفعهم إليها حب المادة وعدل المسلمين.
ولتجدن- أيها الرسول- أقرب الناس مودة وأكثرهم محبة للذين آمنوا بك وصدقوك، الذين قالوا: إنا نصارى وهم أتباع المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، لما
550
غرست تعاليمه فيهم من الرقة والرأفة والبعد عن التعصب الديني نوعا ما بالنسبة إلى اليهود وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها «١» وفي تعاليمهم: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر». ولقد أشار القرآن الكريم إلى سبب المودة فقال:
ذلك بأن منهم قسيسين يقومون بالتعليم وتهذيب الخلق، وتربية الفضائل وغرس المثل العليا، ومنهم رهبانا يعبدون الله رهبة منه وخوفا، وطمعا وأملا في ثوابه، فهم بعلمهم هذا يعوّدون الناس الزهد والتقشف والبعد عن الدنيا وغرورها، وبأنهم متواضعون لا يستكبرون.
وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول من القرآن ترى أعينهم تفيض من الدمع حتى يتدفق من كل جانب، فيضانا مما عرفوا من الحق الذي نزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم إذ هو مصدق لما معهم من الكتاب، ومطابق لما وصف عندهم، ولم يمنعهم عن ذلك عتوّ وعناد متأصل فيهم.
هذا حالهم، أما مقالهم فيقولون: ربنا آمنا بك وبرسلك خاصة محمدا صلّى الله عليه وسلّم فاكتبنا مع الشاهدين، الذين يشهدون يوم القيامة للأنبياء والرسل وهم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم:
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «٢».
أىّ مانع يمنعنا من الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو؟ ويصدنا عن اتباع ما جاءنا من الحق على لسان ذلك الرسول المبشّر به في كتابنا إذ هو روح الحق، وإنا لنطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الذين صلحت نفوسهم، وطهرت أرواحهم بالعقائد الصحيحة والمثل العليا وهم أتباع هذا النبي الكريم.
والمعنى: لا مانع من الإيمان بعد أن ظهرت الحجة ووضح الطريق، ونحن نطمع في أن نكون في عداد الأبرار والأخيار من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم. فأثابهم الله وجازاهم بما قالوا عن عقيدة راسخة ونفس مطمئنة راضية، وآتاهم جنات تجرى من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار، هؤلاء هم المسيحيون الأحرار الذين نظروا في تعاليم المسيح الحقيقية فوقفوا على سرها وتكشفت لهم جنباتها،
(١) سورة الحديد آية ٢٧.
(٢) سورة البقرة آية ١٤٣.
551
ورزقوا فكرا حرّا وعقلا رشيدا وروحا طيبة بعيدة عن التعصب تدين بمبدأ (الحكمة ضالة المؤمن يأخذها من أى وعاء خرجت).
أما السواد الأعظم من المسيحيين الذين غرقوا في بحار التعصب، ولم ينظروا ولم يكفروا وقالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة، أو من عرفوا الحق وأعرضوا عنه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ «١» فهؤلاء وهؤلاء يقول الله فيهم:
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا الدالة على صدق نبينا أولئك هم أصحاب الجحيم الملازمون لها.
التشدد في الدّين [سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٧ الى ٨٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨)
المفردات:
طَيِّباتِ الطيب: ما تستلذه النفس ويميل إليه القلب. لا تَعْتَدُوا:
لا تتجاوزوا الحدود المرسومة لكم. طَيِّباً: غير مستقذر حسّا أو معنى.
سبب النزول:
روى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصف القيامة يوما لأصحابه فبالغ وأشبع الكلام في الإنذار، فرق فريق من الصحابة، واجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون- وكان منهم على بن أبى طالب، وابن مسعود، والمقداد بن الأسود، وسالم مولى أبى حذيفة، وقدامة- واتفقوا على أن يظلوا صائمين قائمين وألا يناموا على الفراش، وألا يأكلوا
(١) سورة البقرة آية ١٤٦ والأنعام ٢٠.
552
اللحم وألا يقربوا النساء وأن يرفضوا الدنيا ويلبسوا المسوح، وهموا بالاختصاء، وأجمعوا على قيام الليل وصيام النهار. فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال لهم:
«إنى لم أومر بذلك، إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وقوموا وأفطروا وناموا، فإني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم، وآتى النساء، فمن رغب عن سنتي فليس منى» فنزلت الآية.
وعن ابن مسعود أن رجلا قال: إنى حرمت الفراش، فتلا هذه الآية وقال: نم على فراشك وكفر عن يمينك.
كان وصف النصارى بالرهبنة ربما يفيد أنها خير، فكانت هذه الآية القول الفصل والحكم العدل.
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا ما طاب ولذ من الحلال فإنه مما تستلذه النفس ويميل إليه القلب، ولا تمنعوا أنفسكم من الطيبات منع تحريم، أو لا تقولوا: حرمنا على أنفسنا كذا وكذا مما هو حلال لكم ومباح.
لا تفعلوا هذا تنسكا وتقربا إلى الله، فإن الله لا يرضى عن ذلك بل ينهى عنه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ «١» ولا تجاوزوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرم فقد حرم عليكم الخبائث وحرم عليكم الإسراف والتقتير، وجعلكم أمة وسطا فلا إفراط ولا تفريط: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ «٢» وكلوا مما رزقكم الله حالة كونه حلالا لا إثم فيه كالربا والرشوة والسحت فإنها إثم وفسوق، وكلوا الطيب الذي ليس مستقذرا في نفسه كالمحرمات العشر السابقة في أول السورة، أو لطارئ كالفساد والتغير بطول المكث.
إن الله لا يحب المعتدين المتجاوزين حدود الشرع، على أن الأكل في الآية يراد به التمتع الشامل للشرب والأكل.
(١) سورة البقرة آية ١٧٢.
(٢) سورة الأعراف آية ٣١.
553
واتقوا الله في الأكل واللباس والنساء وغيرها فلا تحرموا ما أحل الله، ولا تحلوا ما حرم الله ظنا منكم أن هذا خير، لا بل هو تشديد في الدين لا يرضى الله ورسوله، وكذلك لا تسرفوا في التمتع، فمن جعل شهوة بطنه وفرجه أكبر همه فهو من المسرفين إخوان الشياطين، ومن أنفق أكثر من طاقته واستدان ولم يقتصد فهو من المبذرين، ومن قتّر على نفسه وبخل عليها وقد بسط الله له الرزق فهو من المعتدين المذمومين.
والناظر إلى هذه الآية الكريمة يمكنه أن يدرك أن الدين الإسلامى ينظر إلى الروح والجسد نظرة اعتبار واعتدال، «إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى»، وبذا كنا أمة وسطا عدولا، وخير الأمور أوسطها، على أن تحريم الطيبات وتعذيب النفس، وإيلام الجسد عبادة مأثورة عن قدماء الهنود واليونان، قلدهم فيها أهل الكتاب خاصة النصارى. والمعروف أن سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يأكل ما وجد، فتارة يأكل أطيب الطعام كلحوم الأنعام والطير والدجاج، وتارة يأكل أخشنه كخبز الشعير بالملح أو الزيت أو الخل، فكان صلّى الله عليه وسلّم قدوة للغنى والفقير، والصحابة والخلفاء منهم الغنى والفقير فكل ينفق على قدر حاله بلا تقتير ولا إسراف لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ [سورة الطلاق آية ٧].
الأيمان وكفارتها [سورة المائدة (٥) : آية ٨٩]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)
554
المفردات:
بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ اليمين اللغو: هو ما لا قصد فيه للحلف. عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ عقد الأيمان: توكيدها بالقصد، وتعقيدها: المبالغة في توكيدها.
فَكَفَّارَتُهُ الكفارة: من الكفر وهو الستر، وهي أعمال تكفر بعض الذنوب، أى: تغطيها وتسترها. مِنْ أَوْسَطِ: المراد الوسط في الطعام بلا مبالغة في التقتير أو الإسراف. أَوْ تَحْرِيرُ عتق رقبة.
المناسبة:
روى ابن جرير عن ابن عباس قال: لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ في القوم الذين كانوا حرموا النساء واللحم على أنفسهم قالوا: يا رسول الله: كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
المعنى:
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم التي لا يتعلق بها حكم شرعي، كلا والله وبلى والله، أى: التي تلقى بلا قصد ولكن لتأكيد الكلام، فهذه لا مؤاخذة فيها، وهذا رأى الشافعى، وعن مجاهد: هو الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك وليس كما ظن، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، ولكن قوله تعالى: عَقَّدْتُمُ يؤيد رأى الشافعى.
ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان وأكدتموها بالقصد وصممتم عليها إذا حنثتم فيها، وكانت بالله أو بصفة من صفاته، أما غير ذلك فليس بيمين:
«سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمر- رضى الله عنه- يحلف بأبيه فقال: من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت».
أما الحلف بغير الله من مخلوق كنبي أو ولى فليس بيمين بل إنه حرام.
ويحرم الحنث في اليمين إذا حلفت على فعل واجب، وإذا حلفت على فعل مندوب أو مباح يندب الوفاء ويكره الحنث، وإذا حلفت على محرم وجب الحنث في اليمين والكفارة.
فقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه».
555
أما كفارة اليمين إذا حنثت فيه:
فكفارته: إطعام عشرة مساكين طعاما وسطا بلا إسراف ولا تقتير، كما تطعم أهلك في الظروف المعتدلة، ومن زاد في الخير فلا بأس به، وقدر بنصف صاع من برّ أو صاع من غيره لكل مسكين، والصاع بالكيل المصرى قدحان وثلث. أو تغديهم وتعشيهم بخبز ولحم أو لبن، أو خضار، أو زيت، كل على قدر طاقته.
فإن لم يكن طعام لعشرة فكسوتهم لكل فقير (جلابية) متوسطة الثمن أو قميص أو سروال أو طاقية، أو تحرير رقبة مؤمنة، فهو مخير بين الإطعام والكسوة والعتق، فمن لم يجد ذلك ولم يستطع إطعام أو كسوة أو عتقا، فعليه صيام ثلاثة أيام متتالية على الصحيح، وقد فسروا الاستطاعة بأن يكون عنده ما يزيد على إطعام أهله يوما وليلة.
فإن عجز عن ذلك كله استقر الحق في ذمته حتى يستطيع، ذلك المذكور كفارة أيمانكم، إذا حلفتم حلفا شرعيّا وحنثتم، واحفظوا أيمانكم، فلا تبذلوها لأتفه الأسباب، ولا تجعلوها عرضة، وإن حنثتم فاحفظوها بالكفارة، وإن حلفتم فلا تنسوا ما حلفتم عليه، ولا تحشوا إلا لضرورة، ويكون الحنث فيها أفضل من السير مع اليمين الكاذبة. مثل هذا البيان الشافي الواضح يبيّن الله لكم آياته وأحكامه ليعدّكم ويؤهلكم لشكره على نعمه جل شأنه.
واليمين الغموس: التي يضيع بها حق المسلم، أو يقصد بها غش أو خيانة، فلا يكفرها عتق ولا صدقة ولا صيام، بل لا بد فيها من توبة ورجوع إلى الله مع أداء الحقوق لأربابها، قال رسول الله: «من حلف على يمين صبر وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان» (رواه البخاري ومسلم)، ويقول الله: وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [سورة النحل آية ٩٤].
556
الخمر والميسر وخطرهما [سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٠ الى ٩٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣)
المفردات:
الْخَمْرُ: كل شراب مسكر. الْمَيْسِرُ في أصل اللغة: القمار بالقداح في كل شيء، ثم غلب في كل مقامرة، وقد مضى الكلام عليه في آية البقرة ٢١٩.
الْأَنْصابُ: حجارة كانت حول الكعبة يذبحون قرابينهم عندها. الْأَزْلامُ:
قطع رقيقة من الخشب كالسهم كانوا يستقسمون بها، وقد مر أول هذه السورة في آية (٣) تفصيلها. رِجْسٌ: مستقذر حسا ومعنى. طَعِمُوا طعم الشيء يطعمه:
ذاق طعمه عن طريق الأكل أو الشراب.
المناسبة:
بعد أن نهى الله- سبحانه وتعالى- عن تحريم الطيبات من الرزق، وأمر بأكل
557
الحلال الطيب بلا إسراف ولا تقتير، وكانوا يستطيبون الخمر والميسر ناسب أن يتعرض القرآن لبيان حقيقتهما.
روى أن عمر كان يدعو الله تعالى قائلا: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فلما نزلت آية البقرة ظل على دعائه، ولما نزلت آية النساء ظل كذلك على دعائه، فلما نزلت آية المائدة، وسمع قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قال: انتهينا! وكانت هذه الآية هي الفاصلة القاضية.
روى أن عمر قال حين سمع إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الآية: أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام؟ بعدا لك وسحقا!!! وتركها الناس وأراقوها في الطرقات.
وروى عن ابن عباس قال: إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا، وثملوا، واعتدى بعضهم على بعض، فلما صحوا جعل يرى الرجل منهم الأثر بوجهه ولحيته، فيقول: صنع بي أخى فلان هذا، ولو كان رءوفا بي ورحيما ما صنع هذا!!! وقد وقعت بينهم ضغائن فأنزل الله هذه الآية إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ فقال ناس: هي رجس وهي في بطن فلان كحمزة مثلا وقد قتل يوم أحد، وفي بطن فلان وقد قتل يوم بدر، فأنزل الله لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ الآية.
ولعلك تسأل ما الحكمة من تحريم الخمر تدريجياّ؟؟ وما علمت أنها الحكمة العالية والدواء الناجع لهذا الداء المتأصل، الذي أدمنت العرب على شربه، فلو حرمت الخمر دفعة واحدة لكان ذلك أدعى لتنفير الناس من الدين كله.
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله: اعلموا أن هذا الوصف يوجب عليكم الامتثال لأمر الله والتزام حدود الشرع، واعلموا أنما الخمر وهي: ما خامر العقل، أى: ستره فأسكره رجس من عمل الشيطان وصنعه، وهو عدوكم اللدود، الذي لا يعمل إلا للشر ولا يزيّن إلا للهلاك!!! ولقد خطب عمر بن الخطاب يوما على منبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقال: «قد نزل تحريم
558
الخمر يوم نزل وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر:
ما خامر العقل»، وهذا أبين بيان في حقيقة الخمر، يخطب عمر بالمدينة على مرأى ومسمع من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم أهل اللسان والبيان، وأعلم الناس بلغة القرآن، فلا ينكر أحد عليه ولا يستفسر أحد عن نوع دون نوع!!! ولا تنس
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام»
فإن كل مادة مغيبة للعقل مهلكة للصحة فهي خمر وإن تعددت الأسماء، وإذا ثبت هذا بطل رأى القائلين بأن الخمر لا تكون إلا من العنب وما كان من غيره لا يسمى خمرا.
والنبيذ قديما: عبارة عن تمر أو زبيب ينقع في ماء حتى يحلو الماء فيشرب، وهذا حلال حيث لم يختمر ولم يسكر، وأقرب الأشياء به ما يسمى بالخشاف في مصر، أما النبيذ المستعمل الآن فخمر وحرام ومسكر... وفي آية ٢١٩ من سورة البقرة بيان واضح متمم لما هنا.
إنما الخمر والميسر والأنصاب المنصوبة من حجارة حول الكعبة وكانوا يعظمونها والأزلام وكانوا يستقسمون بها إنما ذلك رجس وقذارة!! وأى رجس أكبر من هذا؟
فالخمر والميسر مستقذران حسا ومعنى، من ناحية الشرع والعقل، وهما من عمل الشيطان وصنعه، فاجتنبوا هذا الرجس واتركوه، واجعلوه في جانب وأنتم في جانب، رجاء أن تفلحوا وتفوزوا بما فرض عليكم من تزكية أنفسكم وسلامة أبدانكم إذ هما من أخطر الأمراض اجتماعيا ودينياّ واقتصادياّ.
أما الخطر الاجتماعى فالشيطان يريد لكم- بشرب الخمر ولعب الميسر- أن تقع بينكم العداوة والبغضاء فيقضى على جماعتكم، ويشتت شملكم ويهدم كيانكم، والإسلام حريص جدّا على أخوتكم واتحادكم وتضامنكم وإزالة أسباب الشقاق والنزاع فيما بينكم.
والشواهد على هذا كثيرة واضحة، ولا غرابة فالخمر تذهب العقل الواعي وتستره، وهو الذي يدرك قواعد العرف والدين التي تمنعنا عن الشر والوقوع فيه، فإذا ضاع واستتر، ظهر الإنسان بشهواته وطبيعته الحيوانية يأتى الدنية، ويقوم بأحط الأعمال وأقذرها!!
559
والميسر وما فيه من ربح وخسارة، بلا عمل وتجارة، مثار العداوة والبغضاء في نفوس اللاعبين.
أما ضياع الشخصية وفناء الشباب وهلاك الصحة، والانغماس في تيار الرذيلة فشيء لا ينكره عاقل، ولا يحتاج إلى نص.
وأما الناحية المالية فحدث عنها ولا حرج، فكم من بيوت هدمت وكم من أموال بددت، على الموائد الخضراء والحمراء في الليل والنهار؟؟
وأما الخطر الديني وما أدراك ما هو؟!! فهما يصدان عن ذكر الله، الذي يجلو القلوب ويزكيها، ويطهر النفوس ويهديها، وهما يمنعان من الصلاة التي هي عماد الدين إذ السكران لا عقل له ولا قلب فكيف يهتدى إلى الخير وإلى الصلاة؟؟ ولاعب الميسر يجلس الساعة والساعات بل يواصل ليله ونهاره ولا يدرى ما حوله ولا يشعر بنفسه، قد نسى بيته وأهله وولده، وإنه ليقضى الوقت بين الأوراق والنار تشتعل في بيته فلا يغيث أهله مع الناس فكيف يفكر في الصلاة؟ على أنه إذا صلّى بلا روح وبلا قلب.
فهل أنتم يا من اتصفتم بوصف الإيمان وتحليتم به منتهون بعد هذا البيان اللاذع والقول الفاضح؟! وهذا أمر بالانتهاء جاء على أسلوب بليغ جدّا يدركه من يقف على أسرار بلاغة القرآن.
وكيف لا يكون هذا شأن الخمر والميسر؟ وقد نفر الله منهما، وأكد تحريمهما بوجوه من التأكيد أهمها.
سماهما رجسا من عمل الشيطان (الخمر أم الخبائث) بل قصرهما على الرجس لا يتعديانه إلى غيره، وقرنهما بالأنصاب والأزلام، وأنت تعرف أنهما من أعمال الشرك وخرافات الوثنية (مدمن الخمر كعابد الوثن).
وعلق الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة على اجتنابهما.
وجعلهما مثار العداوة والبغضاء، ومبعث الشقاق والشحناء.
560
وهما يصدان عن ذكر الله، والله يقول: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد ٢٨].
وكان ختام الآية بقوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ على ما فيه من البلاغة والبيان أتم صارف للمسلمين عنهما وصادّ.
وأطيعوا الله- تعالى- فيما أمركم به، وأطيعوا الرسول فيما بينه لكم، واحذروا عاقبة المخالفة وما تجر من الخيبة والندامة فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [سورة النور آية ٦٣].
فإن توليتم بعد هذا فلا تلومنّ إلا أنفسكم، واعلموا أنما على رسولنا البلاغ فقط، وعلينا الحساب والجزاء يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار ١٩].
ومن مات قبل التحريم فلا شيء عليه إذ هناك قانون عام وهو: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات كحمزة الذي استشهد قبل تحريم الخمر وغيره، ليس عليهم جناح فيما طعموه إذا ما اتقوا الله وعملوا الصالحات الباقيات التي شرعت في حياتهم كالصلاة والصيام وغيرهما، ثم اتقوا ما حرم عليهم، وآمنوا بما نزل فيه وفي غيره ثم استمروا على التقوى والإحسان وعمل الصالحات، والله يحب المحسنين المتقنين أعمالهم المخلصين فيها.
التداوى بالخمر:
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«إنه ليس بدواء ولكنه داء» «وما جعل الله شفاء أمتى فيما حرم عليها»
ولقد ناقشت طبيبا من كبار الأطباء في ذلك فقال: ليس هناك مرض يتعين علاجه بالخمر وحدها
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنه داء»
أكده رأى الطب إذ إن الخمر تولد أمراضا كثيرة يموت بها كل عام عدد لا يحصى من الناس، وفكرة التداوى بالخمر حيلة شيطانية حتى تتمكن من النفس وتصبح عادة يصعب انتزاعها.
وحكم شارب الخمر الحد أربعين جلدة، وقيل ثمانين،
فقد روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جلد أربعين
، وفعل أبو بكر مثله، فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن:
أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر. والرأى أنه لا يقل عن أربعين ولا يزيد عن ثمانين.
ومثل الميسر كل لعب على مال، أما الشطرنج والنرد والألعاب الأخرى فإن أورثت العداوة وصدت عن ذكر الله وعن الصلاة فهي كالميسر، وإلا فإنها مكروهة مطلقا.
561
ومثل الخمر كل مادة يحصل منها ضرر مالي أو جسمانى أو خطر اجتماعي أو خطر ديني كالحشيش والأفيون.
الصيد في الإحرام وجزاؤه [سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٤ الى ٩٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦)
المفردات:
لَيَبْلُوَنَّكُمُ: ليعاملنكم معاملة من يختبركم. تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ: يكون في متناول اليد. حُرُمٌ: محرمون بحج وعمرة، أو في مكان الحرم. عَدْلٍ:
مساو له. وَبالَ أَمْرِهِ: عاقبة أمره الثقيلة. لِلسَّيَّارَةِ: جمع سيار، وهو المسافر.
562
المناسبة:
أحل الله لنا أكل الطيبات من الرزق واستثنى الخمر وما شاكلها، وهنا أضاف لها الصيد في الإحرام وبيّن جزاءه.
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله: ليبلونكم الله، وليعاملنكم معاملة من يختبركم بشيء من الصيد، أى: بعض منه وهو صيد البر لا صيد البحر، اختبركم بإرساله بحيث يسهل تناول بعضه بالأيدى، وبعضه بالرماح، وكيف لا يكون هذا اختبارا وابتلاء؟
والمصيد طعامه لذيذ، واصطياده حبيب إلى النفس في الأسفار، فإذا أضيف إلى ذلك كثرته وعدم تأبّيه، كان هذا اختبارا وأى اختبار؟ يفعل الله هذا، ليعلم علم ظهور وانكشاف من يخافه بالغيب، ومن يخافه أمام الناس فقط، كالمنافقين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم والله عالم بكل شيء، ولكن يريد ليطهركم، وليتم نعمته عليكم بالامتثال.
فمن اعتدى منكم بعد ذلك البيان، فله عذاب شديد في الدنيا والآخرة.
يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان، وصدقتم الرسول، وآمنتم بالقرآن، لا تقتلوا صيد البر، وهذا النهى هو الابتلاء المذكور في الآية السابقة، لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون بحج أو عمرة أو في مكان الحرم وإن لم تحرموا، وذلك إجلالا للحج وشعائره، واحتراما للمكان وهيبته، إذ هو مباءة للناس والطير وأمن لهم، وهذا في الحرم المكي، أما الحرم المدني فلا يجوز فيه الاصطياد لأحد ولا قطع الشجر كحرم مكة فإن فعل هذا أحد أثم ولا جزاء عليه عند مالك والشافعى،
ورد عن رسول الله في الصحيح «اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإنى أحرم المدينة مثل ما حرم به مكة لا يختلى خلاها (الخلى:
النبات الرقيق ما دام رطبا، ويختلى: يقطع) ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها»
.
ومن قتله منكم عامدا قاصدا له، فعليه جزاء من النّعم مماثل له في هيئته وصورته، إن وجد المثل وإلا فقيمته، وقيل: يقوّم من أول الأمر، واعلم أن ما يجزى من الصيد شيئان دواب وطير، فيجزى ما كان من الدواب بنظيره في الخلقة والصورة ففي النعامة
563
بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، وفي الظبى شاة... إلخ على ما هو مذكور في كتب الفقه وفي الطير قيمته إلا حمام مكة فإن الحمامة شاة اتباعا للسلف في ذلك.
وقد ورد عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «في الضبع إذا أصابه المحرم كبش، وفي الظبى شاة، وفي الأرنب عناق» «١»
والعناق: الأنثى من المعز لم تبلغ سنة.
واعلم أن الآية الكريمة، أفادت أن القتل العمد فيه الجزاء، والسنة النبوية أفادت أن الخطأ كذلك، عن سعيد بن جبير: لا أرى في الخطأ شيئا. أخذا بظاهر الآية والله أعلم بكتابه.
والصيد الذي نهت عنه الآية: كل حيوان وحشي يؤكل لحمه، فلا شيء في قتل الحمار الأهلى مثلا، ولا ما لا يؤكل لحمه من السباع، والحشرات، والفواسق كالحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور، وألحق مالك بالكلب الذئب والأسد والنمر.
ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم: يحكم به اثنان ذوا عدل منكم من أهل المعرفة والعدل من المؤمنين، وإنما احتجنا للتحكيم لأن المماثلة بين النعم والصيد، ما تخفى على كثير خصوصا في هذه الأيام، وقد توالدت أشكال وأصناف من الحيوان والطيور، وما لا مثل له يحكم فيه بالقيمة.
فجزاء مثل ما قتل من النعم هديا بالغ الكعبة، وأصلا إليها، يذبح عندها ويفرق على مساكين الحرم.
نعم عليه جزاء مماثل لما قتل أو كفارة هي أن يقوّم الصيد الذي أصابه فينظركم ثمنه من الطعام؟ فيطعم لكل مسكين مدّا أو يصوم مكان كل مد يوما.
وعند أبى حنيفة يقوّم الصيد أوّلا وجد له مثل أولا والآية لا تمنع هذا. روى ابن جرير عن ابن عباس قال: إذا قتل المحرم شيئا من الصيد فعليه فيه الجزاء، فإن قتل ظبيا أو نحوه فعليه ذبح شاة تذبح بمكة، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.
أوجبنا هذا ليذوق عاقبة أمره وسوء فعله، حيث هتك حرمة الإحرام وعفا الله عما سلف قبل نزول الآية.
(١) أخرجه البيهقي ٥/ ١٨٣.
564
ومن عاد بعد هذا فينتقم الله منه أشد الانتقام في الآخرة، والله عزيز الانتقام، لا يغلبه عاص أو مذنب.
أيها المسلمون أحل لكم صيد البحر سواء كان حيا أو ميتا، قذفه البحر أو طفا على وجهه، أو انحسر عنه الماء فهو الحل ميتته، الطهور ماؤه، أحله الله متاعا لكم وللسيارة المسافرين، فمن كان مقيما فليأكل من صيده الطازج، ومن كان مسافرا فعنده السمك المحفوظ، وحرم عليكم صيد البر من الوحش والطير ما دمتم حرما، أى: فلا مانع من أكل ما صاده غيركم، أو صدتموه في غير الإحرام،
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صيد البر حلال لكم ما لم تصيدوه أو يصد لكم» «١»
واتقوا الله الذي إليه تحشرون.
البيت الحرام والشهر الحرام ومكانتهما [سورة المائدة (٥) : آية ٩٧]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧)
المفردات:
جَعَلَ يصح أن تفسر بالجعل التكويني الخلقي أو التشريعي الْكَعْبَةَ:
البيت المربع، وقيل: المرتفع، وقد غلب اسمها على البيت المقدس الذي بناه إبراهيم وإسماعيل بمكة عليهما السلام. قِياماً لِلنَّاسِ: ما به يقوم أمرهم ويصح شأنهم.
وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ تقدم تفسير ذلك أول السورة.
قال الرازي: الله تعالى حرم في هذه الآية المتقدمة الاصطياد على المحرمين، فكان الطير والوحش آمنا على نفسه وولده، وفي هذه الآية أفاد أن الحرم سبب لأمن الناس وهدايتهم لحصول الخيرات والسعادة في الدنيا والآخرة لهم.
(١) أخرجه أحمد ٣/ ٣٦٢ وأبو داود والترمذي وغيرهم.
565
المعنى:
جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس الذين يسكنونها، حيث يجلب إليهم الخيرات، ويرزقهم من الثمرات ويجعل قلوب الناس تهوى إليهم، وتعطف عليهم وبذلك يقوم أمرهم، ويصلح شأنهم، وكذا من حج إليها واعتمر يجدون فيها الخير والسعادة، والراحة والطمأنينة، وكل ذلك إجابة لدعاء إبراهيم- عليه السلام-:
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [ابراهيم ٣٧].
وجعلها الله قياما للناس في أمر دينهم المهذّب لأخلاقهم المزكّى لأنفسهم، أليست مكان الحج الذي هو ركن من أركان الدين؟ فيه يعقد المؤتمر العام للمسلمين الذين يهرعون إليه من كل فج عميق كبارهم وزعماؤهم. وأغنياؤهم، يتباحثون ويقفون على أمور دينهم، وتنبعث القوة في نفوسهم، ويتجدد الإسلام في أعماقهم، وتتأكد الرابطة بينهم إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ «١» وجعل الله الشهر الحرام قياما للناس كذلك فهو مثابة للناس وأمن في الجاهلية والإسلام، فيه يأمنون على أنفسهم وتجارتهم وأموالهم، فيه يلقى السلاح، وتهدأ النفوس، وتسكن الفتن، وتخمد نار الحرب المستعرة، ألست معى في أنه قيام للناس؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ «٢» وكان الهدى والقلائد قياما للناس فمن بذلها قوّمت له دينه، وكفرت عن ذنبه، وطهرت له نفسه، وزكّت ماله، وجعلته آمنا على نفسه وهي عند من يأخذها قوام حياته.
كل ذلك لتعلموا أن هذه الأمور لحكم، الله يعلمها، ولا يمكن أن تصدر إلا من عالم بما في السموات وما في الأرض، وأنه بكل شيء عليم.
والناظر إلى الحج يجده دعامة من أقوى الدعائم للإسلام، يعرفه الغربيون ويعرفون أثره في نفوس المسلمين، وما يحصل بسببه من تقوية أواصر الصلات، وإذكاء روح الدين بين المؤمنين.
(١) سورة الحجرات آية ١٠.
(٢) سورة العنكبوت آية ٦٧.
566
ترغيب وترهيب [سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٨ الى ١٠٠]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)
المفردات:
الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ: الحلال والحرام، والرديء والجيد. الْأَلْبابِ:
العقول.
المعنى:
الله- سبحانه- عليم بكل شيء، وعليم بما في السموات وما في الأرض. وهو القاهر فوق عباده، الرحمن الرحيم، ومقتضى هذا كله أنه لم يخلقنا عبثا ولم يتركنا هملا، بل لا بد من جزاء العاصي، وإثابة المطيع اعلموا أن الله شديد العقاب، وسريع الحساب، وقوى العذاب لمن عصى وطغى، وتجبر وبغى، وهو رءوف بالعباد غفور للسيئات، رحيم بمن عمل سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح. وأما من نشأ طائعا ولم يدنس نفسه أبدا فهنيئا له الرضوان ثم هنيئا!.
وإذا كان الأمر كذلك فاعلموا أنه ما على الرسول إلا البلاغ وعلى الله وحده الحساب وإليه المرجع والمآب، والله يعلم ما تبدون وما تكتمون، وهو الذي يعلم السر وأخفى، والغيب والشهادة فاتقوا الله واحذروا حسابه، قل لهم: يا أيها الرسول
لا يستوي الخبيث والطيب، والحلال والحرام، وهل يستوي الجيد والرديء؟ وكيف يستويان؟!! أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ «١» أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ
«٢» !!! قل لهم: لا يستوي الخبيث والطيب أبدا، ولو أعجبك كثرة الخبيث من العصاة والكفار وقلة الطيب من المسلمين والأبرار.
تعيرنا أنا قليل عديدنا فقلت لها إن الكرام قليل
فاتقوا الله يا أولى الألباب وتذكروا فإنما يتذكر أولوا العقول الصحيحة الذين يحكمون أحكاما سليمة موفقة تفرق بين النافع حقيقة وإن شابه تعب ومشقة، وبين الضار المهلك وإن ازينت له الدنيا وازّخرفت.
السؤال الضار [سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠١ الى ١٠٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢)
سبب النزول:
روى مسلم عن أبى هريرة قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم.
فأنزل الله هذه الآية.
(١) سورة ص آية ٢٨.
(٢) سورة الجاثية آية ٢١.
568
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تسألوا عن أشياء من أمور الدين ودقائقه التي تركت رحمة بكم وإشفاقا عليكم، وقيل المعنى: لا تكثروا من السؤال عما لا يعنيكم من أحوال الناس، وهذا مثل قوله تعالى: «وَلا تَجَسَّسُوا [سورة الحجرات آية ١٢].
وليس المراد النهى عن السؤال مطلقا في أمور الدين. لا، بل قد أقر الشرع سؤالهم عن توضيح أحكام العدة والخمر وغيرهما فلا حرج في مثل هذا، وإنما الحرج في التشدد في العمل وكثرة التكاليف لأن هذا قد يؤدى للإهمال وقد يؤدى إلى الخروج من الدين كما حصل في الأمم السابقة.
وقد سأل سائل منهم النبي صلّى الله عليه وسلّم عن أبيه من هو؟ وهل الحج واجب في كل سنة أم لا؟ وغير ذلك من الأسئلة المحرجة التي فيها العنت والمشقة على الناس.
وإن تسألوا عن غير هذه المسائل الشائكة مما تمس الحاجة إليه من تحريم أو تحليل أو حكم جديد تجابون إلى طلبكم فإنه خير، فالنهي إذن في شيء لم يكن بهم حاجة إلى السؤال فيه، وكان في الإجابة عنه مشقة وزيادة كلفة. وقيل: لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم تسؤكم، وعلى هذا خرج
حديث ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها»
.
قد سأل مثلها قوم قبلكم فلما أجيبوا وفرضت عليهم كفروا بها وقالوا: ليست من عند الله، وما قوم صالح وأصحاب البقرة منكم ببعيد فاعتبروا يا أولى الأبصار، ولا تشددوا فيشدد الله عليكم، فإن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه الدين فسددوا وقاربوا.
569
نوع من ضلال الجاهلية [سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٤]
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤)
المفردات:
بَحِيرَةٍ: هي الناقة يبحرون أذنها، أى: يشقونها شقّا واسعا إذا نتجت خمسة أبطن وكان الخامس أنثى، وكان يمنح درها للطواغيت فلا يحلبها أحد. سائِبَةٍ السائبة: الناقة التي تسيب لآلهتهم فترعى حيث شاءت، ولا يحمل عليها ولا يجز صوفها ولا يأخذ لبنها إلا ضيف. وَصِيلَةٍ الوصيلة: الشاة أو الناقة التي تصل أخاها. فقد كانوا إذا ولدت الشاة ذكرا كان لآلهتهم، وإذا ولدت أنثى كانت لهم، فإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر إلا لآلهتهم. وقيل في تفسيرها غير ذلك. حامٍ الحامى: الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن فيقولون: حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى.
أخرج ابن جرير عن أبى هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لأكثم بن الجون: رأيت عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار (القصب: المعى، والأقصاب: الأمعاء) فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك، فقال أكثم:
أخشى أن يضرّ بي شبهه يا رسول الله، فقال رسول الله: لا إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غير دين إسماعيل وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامى.
المعنى:
أيها المسلمون ما جعل الله في الدين الإسلامى من بحيرة، ولا سيّب سائبة، ولا وصل وصيلة، ولا حمى حاميا، أى: ما شرع ذلك ولا أمر به، فما كان يفعله الجاهليون فهو رد عليهم غير مقبول منهم.
ولكن الذين كفروا- إذ يفعلون ما يفعلون- إنما يفترون على الله الكذب، حيث قالوا أمرنا الله بهذا، وقالوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، ولا حرمنا من دونه من شيء!! قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟ إن تتبعون إلا الظن، وما تهوى الأنفس، وقد ثبت في الصحيح كما مر أن أول من سنّ هذا هو عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف ولكن أكثرهم لا يعلمون.
وإذا قيل لهم: تعالوا أيها الضالون إلى نور القرآن وإلى هدى الرسول وحكّموا عقولكم وانزعوا عنها غطاء التعامي عن آيات الله قالوا غرورا وجهلا وسفها وحمقا:
حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا فآباؤنا مصدر التشريع الصحيح!! أيتبعونهم ويتركون الدين الصحيح والتشريع القويم، ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا أبدا ولا يهتدون إلى خير أصلا، ولا غرابة فهم الذين عاشوا في العداوة والبغضاء والحروب والغارات وشرب الخمر ووأد البنات، وعمل الفحش والمنكرات!! وهل كانت هناك جاهلية جهلاء؟ وضلالة عمياء أسوأ من هذا؟
في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر [سورة المائدة (٥) : آية ١٠٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
المناسبة:
بعد أن بين الله ضلال أهل الشرك وعنادهم، وتفكيرهم السقيم في اتباع آبائهم، خفف
571
الله عن المؤمنين أوزارهم، وأمر بأن يكملوا أنفسهم بالعمل الطيب، ولا عليهم شيء بعد هذا.
المعنى:
يا أيها المؤمنون عليكم أنفسكم، كملوها بالعلم والعمل وأصلحوها بالقرآن والسنن وانظروا فيما يقربها إلى الله حتى تكون في رفقة الأنبياء الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وبعد هذا لا يضركم من ضل إذا اهتديتم.
نعم لا يضركم شيء إذا قمتم بما عليكم من واجبات وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكرات، فالله يقول: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «١» ثم إلى الله وحده المرجع والمآب وسيجازى كلا على عمله، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشر.
روى ابن كثير أن أبا بكر خطب في الناس فقال: «أيها الناس إنكم تقرءون وهذه الآية (عليكم أنفسكم... الآية) وإنكم تضعونها في غير موضعها وإنى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب»
وفي حديث أبى ثعلبة الخشني قال: «لقد سألت عنها خبيرا (أى: هذه الآية) سألت عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحّا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك العوام فإن من ورائك أياما، الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم».
وفي رواية لابن عمر: إن هذه الآية تأويلها في غير زمن النبوة بل في القرون الآتية بعد، وعن سعيد بن المسيب: إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلا يضركم من ضل إذا اهتديتم.
والخلاصة أن السلف متفقون على أن المسلم يكمل نفسه بالعمل الصالح، ويكمل غيره بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأن هذا فرض لا يسقط إلا إذا اضمحل الزمان، وفسد الناس فسادا يؤدى إلى إيذاء الواعظ إيذاء يهلكه.
والرأى- والله أعلم- أن الله يخاطب الجماعة في مقام الأمر بالمعروف والنهى عن
(١) سورة الزمر آية ٧.
572
المنكر وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ «١» وهنا لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ هذه الجماعة لا يضرها أبدا إيذاء ما دامت أمة متحدة مستمسكة بدينها.
داعية إلى الخير آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر.
فإن سقط الأمر بالمعروف أو خف عن الفرد في زمن من الأزمان- والحمد لله لم يحصل بعد- فلن يسقط ولن يخف عن الجماعة.
حقيقة إن الوعظ الفردى قد يكون عسيرا ولكن الوعظ الجماعى مع تقوية السناد بكثرة الأفراد الصالحين هو طريق الإصلاح والخير، وليس أجدى على الأمة من تكتل الدعاة واجتماع طلاب القرآن وحكمه ففيهم الخير فيما نعلم، وإليهم تتجه أنظار المسلمين.
الشهادة على الوصية حين الموت وأحكامها [سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨)
(١) سورة آل عمران آية ١٠٤.
573
المفردات:
شَهادَةُ هي: قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة. ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ: سافرتم لأن المسافر يضرب الأرض برجليه. تَحْبِسُونَهُما:
تمسكونهما. إِنِ ارْتَبْتُمْ: شككتم في صدقهما فيما يقرّان به. عُثِرَ اطّلع، وأعثر عليه: أعلمه به.
سبب النزول:
كان تميم الداري، وعدى بن بدّاء رجلين نصرانيين يتجران إلى مكة في الجاهلية.
ويطيلان الإقامة بها، فلما هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة حولا متجرهما إلى المدينة فخرج بديل مولى عمرو بن العاص تاجرا حتى قدم المدينة، فخرجوا جميعا تجارا إلى الشام حتى إذا كانوا ببعض الطريق اشتكى بديل فكتب وصية بيده ثم دسها في متاعه وأوصى إليهما أن يوصلوا متاعه إلى أهله، فلما مات فتحوا متاعه فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به، وفقدوا شيئا فسألوهما عنه، فقالا: هذا الذي قبضنا له، ودفع إلينا فقالوا لهما: هذا كتابه بيده، قالا: ما كتمنا له شيئا، فترافعوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية.. فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يستحلفوهما دبر صلاة العصر بالله الذي لا إله إلا هو.
ما قبضنا غير هذا ولا كتمنا، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا ثم ظهر معهما إناء من فضة منقوش مموه بالذهب، فقال أهله: هذا من متاعه، قالا: نعم ولكنا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفنا فكرهنا أن نكذب نفوسنا، فترافعوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت الآية فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم رجلين من أهل بيت الميت أن يحلفا على ما كتما وغيبا ويستحقانه.
ثم إن تميما أسلم وبايع النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: صدق الله ورسوله أنا أخذت الإناء مع صاحبي.
574
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا اعلموا أن الله- تعالى- أخبر أن حكمه في الشهادة على الموصى إذا حضرته مقدمات الموت، وأصابته مصيبته وهو في سفر فأوصى إلى اثنين عدول في ظنكم فإن لم يكونا فآخران من غيركم، أى: من الكفار للضرورة أو من غير عشيرتكم وقرابتكم، أى: من المسلمين الأجانب فأوصيتم إلى اثنين منهما، ودفعتم إليهما المال وذهبا إلى ورثتكم فارتابوا في أمرهما، وادعوا عليهما خيانة، فإن كانا أمينين وصدقوهما بلا يمين فلا شيء.
أما في حالة الشك فالحكم أن تحبسوهما، وتستوثقوا منهما حتى الفراغ من صلاة العصر كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم مع تميم وزميله، ولأن هذا وقت القضاء والفضل في الدعاوى، وانظر إلى اختيار الزمان والمكان وصيغة القسم ونظامه، فيقسمان بالله أنهما ما كذبا وما بدلا، وأن ما شهدا به هو الحق وما كتما من شهادتهما ولا غيّرا، ويقسمان إنا لا نشتري بيمين الله ثمنا حقيرا من متاع الدنيا الفاني. ولو كان المقسم له من أقاربنا.
إنا إذا كتمنا أو غيرنا وبدلنا لنكونن من الآثمين المستحقين عقاب الله في الدنيا والآخرة.
فإن عثر على أنهما استحقا إثما بكذبهما وخيانتهما بعد ذلك كما حصل في قصة بديل السابقة، فالواجب حينئذ أن ترد اليمين إلى الورثة بأن يقوم رجلان آخران مقامهما من أولياء الميت الوارثين له الأقربين منه الأحقين بالإرث، فيقسمان بالله لشهادتنا ويميننا أحق وأصدق من أيمان اللذين حضرا الوصية، وأنهما ما اعتديا عليهما بتهمة باطلة، إنا إذا حصل منا شيء من هذا، وتعدينا الحق وجاوزناه، فحلفنا مبطلين كاذبين لنكونن من الظالمين لأنفسنا بتعريضها لسخط الله وعقابه.
ذلك الذي شرعناه من هذا النظم جميعا أدنى الطرق وأقربها إلى أن يؤدى الشهداء الشهادة على وجهها بلا تحريف ولا تبديل، وأن يخافوا من الفضيحة التي تعقب استحقاق الإثم برد أيمان الورثة بعد أيمانهم فإنها تكون مبطلة لأيمانهم فالواجب أن يخافوا من عقاب الله أو من رد الأيمان والفضيحة.
575
واتقوا الله يا عباد الله واسمعوا وأطيعوا، والله لا يهدى القوم الظالمين الخارجين عن حدود الشرع أبدا.
من مواقف يوم القيامة [سورة المائدة (٥) : آية ١٠٩]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩)
المعنى:
يقول الله- تعالى- ما معناه: اتقوا الله واذكروا دائما يوم يجمع الله الرسل يوم القيامة، فيقول لهم على سبيل التوبيخ والتأنيب لأممهم، كما إذا سأل الموءودة والمراد من وأدها!! يقول لهم: ماذا أجبتم.
والمعنى: أى إجابة أجبتم بها؟ أإجابة إيمان وإقرار أم إجابة كفر واستكبار؟
وليوم القيامة مواقف، فتارة تشهد الرسل على أممهم، وتارة يسأل الله الأمم فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ. «١»
والله يسأل الرسل فيقولون: لا علم لنا، أى: بالنسبة إلى علمك فأنت تعلم السر وأخفى، إنك أنت علام الغيوب، وقال ابن عباس: المعنى: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا إنك أنت علام الغيوب.
ونقل أن ما يفاجئهم من هول ذلك اليوم وفزعه يذهلهم عن الجواب، إذ ينسون أكثر الأمور. لا عِلْمَ لَنا وإذا ما هدأ روعهم، وسكنت نفوسهم بعض الشيء يشهدون على أممهم، وإذا كان هذا حال الأنبياء، فكيف يكون حالنا نحن؟ حقيقة إنه يوم الفزع الأكبر يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله، ومن هنا ظهرت المناسبة بين هذه الآية والتي قبلها، فهي تخويف وبيان أن الله عالم فلا تكتموا شيئا.
(١) سورة الأعراف آية ٢٧. [.....]
معجزات عيسى عليه السلام [سورة المائدة (٥) : الآيات ١١٠ الى ١١١]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١)
المفردات:
بِرُوحِ الْقُدُسِ: جبريل- عليه السلام- الذي يؤيد به الله رسله بالتعليم والتثبيت، وقيل: روح عيسى الطاهرة القوية. فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا: في حالتي الصغر والكبر والضعف والقوة. الْكِتابَ المراد: كل ما يكتب.
وَالْحِكْمَةَ: العلم النافع. الْأَكْمَهَ من ولد أعمى. سِحْرٌ السحر: هو التمويه والتخييل بالباطل حتى يرى الإنسان الشيء على غير حقيقته.
بعد أن ذكر الله- سبحانه وتعالى- سؤال الأنبياء جملة وجوابهم، مع الإشارة إلى ما يفيده السؤال والجواب من الإحراج والتوبيخ، تعرض لعيسى خاصة، لعل قومه
577
يعرفون موقفه من الله- سبحانه وتعالى- فيرجعوا عن عقائدهم الفاسدة وكل الأمم طعنوا في نبوة أنبيائهم، أما هؤلاء فتعدى طعنهم إلى الله- سبحانه وتعالى- حيث نسبوا له الزوجة والولد.
وقد غالوا في المسيح حتى رفعوه عن درجة الأنبياء بسبب سوء فعلهم في معجزاته.
المعنى:
واذكر يا محمد وقت قول الله: يا عيسى ابن مريم: اذكر نعمتي عليك حيث اصطفيتك بالرسالة، وشرفتك بالنبوة، وكنت من غير أب، فكنت آية على قدرة الله، واذكر نعمتي على والدتك النقية الطاهرة، مريم البتول التي برأتها مما نسب إليها، وشرفتها بنسبة عيسى لها.
اذكر يا عيسى ابن مريم نعم الله عليك إذ أيدك بروح القدس جبريل، علمك وثبتك، ولقنك الحجة بأمر الله وإذنه، وأيديك بروح طاهرة قوية، فصرت بهذا تكلم الناس صبيًّا في المهد، وتكلمهم كبيرا مكتمل القوى العقلية والرجولة الكاملة، تدعو الله وتبرئ أمك فكنت مؤيدا في كل وقت فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ [سورة مريم الآيات ٢٩- ٣١].
واذكر نعمتي عليك إذا علمتك قراءة الكتاب، وعلمتك الحكمة والعلم النافع في الدنيا والآخرة. خاصة التوراة والإنجيل.
واذكر نعمتي عليك إذ تخلق من الطين صورة كصورة الطير فتنفخ فيها فتكون طيرا له روح وحركة، بإذن الله وإرادته، لا بقدرتك أنت، ولكنها المعجزة جرت على يدك بأمر الله، شأنك في هذا شأن جميع الرسل، وإذ تبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، وإذ تخرج الموتى من قبورهم فيحيون بأمر الله وإذنه.
فهذا عيسى وهذه معجزاته كلها بأمر الله وإذنه وفي الإنجيل يقول عيسى: «أيها الأب أشكرك لأنك سمعت لي وأنا أعلم أنك في كل حين تسمع لي ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت، ليؤمنوا أنك أرسلتنى».
578
واذكر يا عيسى إذ كففت ومنعت عنك بنى إسرائيل وقت أن جئتهم بالبينات الواضحات وقد حاولوا قتلك وصلبك، ومكروا ومكر الله، والله خير الماكرين، قد نجاك الله منهم، وكفهم عنك، فما قتلوك وما صلبوك ولكن توفاك ورفعك إليه وطهرك من الذين كفروا، وكل ما فعلوه قولهم: ما هذا إلا سحر مبين، وتلك حجة العاجزين.
واذكر إذ أوحيت إلى الحواريين أصحابك وألهمتهم أن يؤمنوا بي وبرسولي عيسى بن مريم، فآمنوا، وقالوا: آمنا بالله وبرسوله واشهد بأننا مسلمون ومنقادون لله في السر والعلانية.
وهكذا منّ الله على عيسى وفضّله وكرّمه، وجعل له أنصارا وأتباعا وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم.
قصة المائدة [سورة المائدة (٥) : الآيات ١١٢ الى ١١٥]
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥)
579
المفردات:
الْحَوارِيُّونَ: الأصحاب الخلّص للمسيح. مائِدَةً: هي الخوان الذي عليه الطعام أو الخوان نفسه. اللَّهُمَّ: يا الله. عِيداً: فرحا وسرورا، أو يوما يجتمع الناس فيه للعبادة كعيد الفطر مثلا يعود كل سنة.
قصة المائدة عبرة وعظة، لمن يطلب من الله آيات غير التي أنزلت، وعاقبة ذلك، وهي في الجملة تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وبيان لطبائع الناس وسيرتهم مع أنبيائهم.
المعنى:
واذكر وقت قول الحواريين لعيسى بن مريم. والمراد في مثل هذا التركيب ذكر ما حصل في الوقت لا نفس الوقت.
قال الحواريون وهم المؤمنون الخلص ردّا على عيسى حين قال: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [ال عمران آية ٥٢] ومع هذا قالوا: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ!! وهذا سؤال لا يليق بهم قطعا!! ولذا خرجه العلماء على وجوه أحسنها أنّ (يستطيع) بمعنى يطيع، كاستجاب بمعنى أجاب، أو المعنى: هل تستطيع أمر ربك أى: سؤاله، وقيل: إنه سؤال عن الاستطاعة على حسب الحكمة الإلهية، أى: هل ينافي الحكمة إنزال المائدة أم لا؟ فإن ما ينافي الحكمة لا يقع قطعا وإن كان ممكنا.
ولذا قالوا معتذرين عن إيراد السؤال بهذه الصورة: نريد أن نأكل منها فنحن في حاجة إليها، ونحن إذا أكلنا تطمئن قلوبنا وتهدأ نفوسنا، ونعلم أن قد صدقتنا في أن الله تعالى أرسلك نبيا، واختارنا أعوانا لك وقد رضى عنا بإجابة سؤالنا.
ونكون عليها من الشاهدين بالوحدانية، ولك بالرسالة والنبوة إذ هي كالدليل على ذلك.
قال عيسى ابن مريم: يا ربنا يا مالك أمرنا، ومتولّى شئوننا: أنزل علينا مائدة من السماء يراها هؤلاء، وتكون لنا معشر المؤمنين مصدر فرح وسرور، ويوم نزولها نتخذه عيدا نجتمع فيه للعبادة والشكر، ويعود علينا كل عام باليمن والإقبال
580
وجودا وآخرنا كذلك، وتكون آية منك، ودلالة وحجة ترشد القوم إلى صحة دعوتي، وصدق رسالتي، وارزقنا ما به نقيم أودنا، ونغذي أجسامنا وعقولنا فأنت خير الرازقين، ترزق من تشاء بغير حساب.
قال الله تعالى: إنى منزلها عليكم وقد نزلت إذ وعده الحق وقوله الصدق.
فمن يكفر بعد نزول الآية المقترحة فإنى أعذبه عذابا شديدا لا أعذب هذا العذاب لأحد من العالمين، إذ اقتراح آية بعد الآيات الكثيرة التي نزلت كهذه المائدة آية يشترك في إدراكها جميع الحواس، ثم بعد هذا يكفر بها ويستهزأ، فإنه يستحق من الله عذابا دونه عذاب الكفار جميعا.
وورد في قصة المائدة روايات كثيرة عن شكلها ولونها وطعمها. والظاهر- والله أعلم- أنه كان لخيال الإسرائيليين فيها نصيب، ونحن نلتزم حدود القرآن والسنة الصحيحة وفقنا الله إلى الصواب.
تخلص عيسى مما ادعته النصارى [سورة المائدة (٥) : الآيات ١١٦ الى ١٢٠]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)
581
المفردات:
ما فِي نَفْسِي المراد: تعلم سرى ولا أعلم سرك. شَهِيداً: حفيظا بما أمرتهم. الرَّقِيبَ: من المراقبة، وهي المراعاة، والمراد الحافظ لهم والعالم بهم.
هذا سؤال من الله- عز وجل- لعيسى خاصة حتى يجيب فتكون إجابته توبيخا لمن ادعى غير إجابته، ودليلا على أن قومه غيروا بعده وبدلوا وادعوا عليه كذبا وبهتانا لم يقله، وإنكاره بعد سؤاله أشد في التوبيخ وأبلغ في التكذيب.
المعنى:
واذكر يا محمد وقت قول الله لعيسى بن مريم: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمى إلهين متجاوزين بذلك توحيد الله وإفراده بالعبادة والتقديس؟! فالله يسأل للإنكار والتوبيخ، أقالوا هذا القول وافتروا هذه الفرية بأمر منك أم هو افتراء واختلاق من عند أنفسهم؟
واتخاذ الآلهة من دون الله يكون بعبادتهم، أو إشراكهم في العبادة، على معنى أن لهم تصريفا أو أنهم يقربون إلى الله زلفى ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «١».
وقد نعى الله- سبحانه وتعالى- على المسيحيين اتخاذهم المسيح إلها وكذا أمه، وعبادته وأمه معروفة في الكنائس الشرقية والغربية. نعم قد أنكرت فرقة البروتستانت عبادة أمه.
وما العقيدة الجديدة التي أثبتها بابا روما في هذه السنين ورد عليه بعض العلماء ببعيدة.
(١) سورة الزمر آية ٣.
582
ولا أدرى أظل الدين ناقصا حتى كمل في القرن العشرين؟؟
أم أن رجال الدين عند المسيحيين لهم حق المحو والإثبات في العقائد! الله أعلم بذلك، قال عيسى: سبحانك يا رب! وتنزيها لك وتقديسا! ما يكون لي، ولا ينبغي لي أن أقول ما ليس بحق أصلا وكيف يصدر هذا منى؟
وقد عصمتني وأيدتنى بروح من عندك. إن كنت قلته فقد علمته فأنت تعلم الغيب والشهادة، وتعلم سرى وضميري، وأنا لا أعلم شيئا مما استأثرت به من بحار علمك إنك أنت علام الغيوب.
يا رب ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به من التوحيد الخالص من شوائب الشرك والوثنية:
أن اعبدوا الله ربي وربكم فأنا عبد مثلكم إلا أنه قد خصنى الله بالرسالة إليكم.
وكنت يا رب قائما عليهم أراقبهم وأشهد على ما يقولون وما يفعلون فأقر الحق وأقاوم الباطل، وقد كانت هذه العقائد الخطيرة غير موجودة في حياتي، فلما توفيتني ورفعتني كنت يا رب الحفيظ عليهم دوني، ولا يخفى عليك شيء.
وقد تقدم ما يثبت أن عيسى برىء من التثليث والحلول والإشراك كما وضحنا في الجزء السادس وهذا عيسى في الإنجيل يقول: «وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته».
وقد فوض أمر هذه الأمة لله فقال: وإن تعذبهم بمعصيتهم التي لم يتوبوا عنها فهم عبادك.
وإن تغفر لهم سيئاتهم بعد توبتهم وصلاح أمرهم فهم عبادك وأنت العزيز الحكيم في كل صنع.
قال الله: هذا اليوم هو اليوم الذي ينفع الصادقين صدقهم في إيمانهم وشهاداتهم، لهم في الآخرة جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضى الله عنهم، ورضوانه أكبر من كل نعمة وفضل، ورضوا عنه، ذلك هو الفوز العظيم.
وكيف لا يكون هذا؟ ولله ملك السماوات والأرض وما فيهن من عوالم، والله أعلم بها وهو على كل شيء قدير، سبحان ربك رب العزة عما يصفون.
583
Icon