وهي مدنية غير آية نزلت عشية عرفة ﴿ اليوم أكملت لكم دينكم ﴾
حروفها أحد عشر ألفا وسبعمائة وثلاثة وثلاثون وكلماتها ألفان وثمانمائة وأربع.
ﰡ
(مائة وعشرون آية) وهي مدنية غير آية نزلت عشية عرفة اليوم أكملت لكم دينكم حروفها أحد عشر ألفا وسبعمائة وثلاثة وثلاثون وكلماتها ألفان وثمانمائة وأربع
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١ الى ١١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣) يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤)الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ بالنون الخفيفة: روي عن رويس. الباقون مثقلة.
شَنَآنُ في الموضعين بسكون النون: ابن عامر وإسماعيل وأبوبكر وحماد ويزيد من طريق ابن وردان. الباقون بالفتح. أَنْ صَدُّوكُمْ بكسر الهمز: ابن كثير أبو عمرو. الباقون بالفتح. وَلا تَعاوَنُوا بتشديد التاء: البزي وابن فليح. الْمَيْتَةُ وفَمَنِ اضْطُرَّ كما مر في البقرة. وَاخْشَوْنِي بالياء في الوقف: سهل ويعقوب. وَأَرْجُلَكُمْ بالنصب: ابن عامر ونافع وعلي والمفضل وحفص ويعقوب والأعشى في اختياره. الباقون بالجر.
الوقوف:
بِالْعُقُودِ ط لاستئناف الفعل. حُرُمٌ ط ما يُرِيدُ هـ وَرِضْواناً ط فَاصْطادُوا ط لابتداء نهي أن تعتدوا لئلّا يتوهم العطف وحذف التاء من تعاونوا.
وَالتَّقْوى ص لعطف المتفقتين. وَالْعُدْوانِ ص كذلك وَاتَّقُوا اللَّهَ ط شَدِيدُ الْعِقابِ هـ بِالْأَزْلامِ ط فِسْقٌ ط وَاخْشَوْنِي ط دِيناً ط لأنّ الشرط من تمام التحريم لا مما يليه. لِإِثْمٍ لا لأن ما بعده جزاء. رَحِيمٌ هـ أُحِلَّ لَهُمْ ط فصلا بين السؤال والجواب. الطَّيِّباتُ ط للعطف أي وصيد ما علمتم. مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ز لفاء التعقيب مع عطف المختلفين. عَلَيْهِ ص وَاتَّقُوا اللَّهَ ط الْحِسابِ هـ الطَّيِّباتُ ط لأن ما بعده مبتدأ. لَكُمُ ص لعطف المتفقتين. لَهُمْ ز لأن قوله: وَالْمُحْصَناتُ عطف على وَطَعامُ الَّذِينَ لا على ما يليه. أَخْدانٍ ط عَمَلُهُ ز لعطف المختلفين مع أن ما بعده من تمام جزاء الكفر معنى. الْخاسِرِينَ هـ الْكَعْبَيْنِ ط لابتداء حكم.
لِلتَّقْوى ز وَاتَّقُوا اللَّهَ ط بِما تَعْمَلُونَ هـ الصَّالِحاتِ لا لأن ما بعده مفعول الوعد أي أن لهم. عَظِيمٌ هـ الْجَحِيمِ هـ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ج لاعتراض الظرف بين المتفقين.
وَاتَّقُوا اللَّهَ ط الْمُؤْمِنُونَ هـ.
التفسير:
وفي بالعهد وأوفى به بمعنى. والعقد وصل الشيء بالشيء على سبيل الاستيثاق والإحكام والعهد وإلزام مع إحكام. والمقصود من الإيفاء بالعقود أداء تكاليفه فعلا وتركا. والتحقيق أن الإيمان معرفة الله بذاته وصفاته وأحكامه وأفعاله فكأنه قيل: يا أيها الذين التزمتم بأيمانكم أنواع العقود أوفوا بها. ومعنى تسمية التكاليف عقودا أنها مربوطة بالعباد كما يربط الشيء بالشيء بالحبل الموثق. قال الشافعي: إذا نذر صوم يوم العيد أو نذر ذبح الولد لغا
لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا نذر في معصية الله» «١».
وقال أبو حنيفة: يجب عليه الصوم والذبح لقوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ غايته أنه لغا هذا النذر في خصوص كون الصوم واقعا في يوم العيد وفي خصوص كون الذبح في الولد. وقال أيضا خيار المجلس غير ثابت لقوله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وخصص الشافعي عموم الآية
بقوله: صلى الله عليه وسلم: «المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا».
وقال أبو حنيفة: الجمع بين الطلقات حرام لأن النكاح من العقود بدليل: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ [البقرة: ٢٣٥] وقال: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ترك العمل به في الطلقة الواحدة بالإجماع فيبقى سائرها على الأصل. والشافعي خصص هذا العموم بالقياس وهو أنه لو حرم الجمع لما نفذ وقد نفذ فلا يحرم. ثم إنه سبحانه لما مهد القاعدة الكلية ذكر ما يندرج تحتها فقال: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ والبهيمة كل حي لا عقل له من قولهم: استبهم الأمر إذا أشكل. وهذا باب مبهم أي مسدود. ثم خص هذا الاسم بكل ذات أربع في البر والبحر. والأنعام هي: المال الراعية من الإبل والبقر والغنم. قال الواحدي: ولا يدخل في اسم الأنعام الحافر لأنه مأخوذ من نعومة الوطء، وإضافة البهيمة إلى الأنعام للبيان مثل: خاتم فضة بتقدير من. وفائدة زيادة لفظ البهيمة مع صحة ما لو قيل أحلت لكم الأنعام كما قال في سورة الحج هي فائدة
«فعيلة» بمعنى: «مفعلة». وقال ابن فارس: واحدها شعارة. ثم المفسرون اختلفوا على
وقال ابن عباس: إن الحطم واسمه شريح بن ضبيعة الكندي أتى النبي ﷺ من اليمامة إلى المدينة فخلف خيله خارج المدينة ودخل وحده على النبي ﷺ فقال له: إلام تدعو الناس؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلّا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. فقال: حسن إلّا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم، ولعلي أسلم وآتي بهم. وقد كان النبي ﷺ قال لأصحابه:
يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان ثم خرج من عنده. فلما خرج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبى غادر وما الرجل بمسلم. فمرّ بسرح المدينة فاستاقه فطلبوه فعجزوا عنه، فلما خرج رسول الله ﷺ إلى عمرة القضاء سمع تلبية حجاج اليمامة فقال لأصحابه: هذا الحطم وأصحابه وكان قد قلد ما نهب من سرح المدينة وأهداه إلى الكعبة، فلما توجهوا في طلبه أنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ
يريد ما أشعر لله وإن كانوا على غير دين الإسلام.
وقال زيد بن أسلم: كان رسول الله ﷺ وأصحابه بالحديبية حين صدهم المشركون وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم ناس من المشركين يريدون العمرة، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصد هؤلاء عن البيت كما صدنا أصحابهم؟
فأنزل الله: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ
أي قوما قاصدين إياه. والمعنى لا تعتدوا على هؤلاء العمار لأن صدكم أصحابهم فالشهر الحرام شهر الحج أعني ذا الحجة، أو المراد رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وعبر عنها بلفظ الواحد اكتفاء باسم الجنس، أي لا تحلوا القتال في هذه الأشهر. والهدي ما أهدى إلى البيت وتقرب به إلى الله من النسائك جمع هدية. والقلائد جمع قلادة وهي ما قلد به الهدي من نعل أو عروة مزادة أو لحاء شجر الحرم. والمراد لا تحلوا ذوات القلائد من الهدي أفرد للاختصاص بالفضل مثل وجبريل وميكال. ويحتمل أنه نهي عن التعرض للقلائد ليلزم النهي عن ذوات القلائد بالطريق الأولى كقوله: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور: ٣١] فإنه نهي عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها. وللمفسرين خلاف في الآية فذهب كثير منهم كابن عباس ومجاهد والحسن والشعبي وقتادة أنها منسوخة، وذلك أن المسلمين والمشركين كانوا يحجون جميعا فنهى المسلمون أن يمنعوا أحدا عن
تقول: جرم ذنبا نحو كسبه وجرمته ذنبا نحو كسبته إياه وهذا هو المذكور في الآية. الشنآن بالتحريك والتسكين مصدر شنأته أشنؤه وكلاهما شاذ فالتحريك شاذ في المعنى لأن فعلان من بناء الحركة والاضطراب كالضربان والخفقان. والتسكين شاذ في اللفظ لأنه لم يجىء شيء من المصادر عليه قاله الجوهري. ومعنى الآية لا يكسبنكم بغض قوم الاعتداء أو لا يحملنكم بغضهم على الاعتداء. وقوله: أَنْ صَدُّوكُمْ من قرأ بكسر الهمزة فهو شرط وجوابه ما يدل عليه لا يَجْرِمَنَّكُمْ، ومن قرأ بفتح «أن» فمعناه التعليل أي لأن صدوكم.
قيل: هذه القراءة أولى لأن المراد منع أهل مكة رسول الله ﷺ والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة والسورة نزلت بعد الحديبية. وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى على العفو والإغضاء أو على كل ما يعدّ برا وتقوى. وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ على الانتقام والتشفي أو على كل ما يورث الإثم والتجاوز عن الحد. والحاصل أن الباطل والإثم لا يصلح لأن يقتدى به ويعان عليه وإنما اللائق بالاقتداء به والتعاون عليه هو الخير والبر وما فيه تقوى الله سبحانه وتعالى. ثم بالغ في هذا المعنى بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ أي في استحلال محارمه.
إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. ثم شرع في تفصيل الاستثناء الموعود تلاوته في قوله: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فقال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ الآية. والمجموع المستثنى أحد عشر نوعا:
الأول الميتة كانوا يقولون إنكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله. قالت العقلاء:
الحكمة في تحريم الميتة أن الدم جوهر لطيف فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه وتعفن فيحصل من أكله مضار كثيرة. الثاني الدم كانوا يأكلون الفصيد وهو دم كان
كف خضيب، ولحية دهين، وعين كحيل. لأن الموصوف غير مذكور. تقول: مررت بامرأة قتيل فلان فإذا حذفت الموصوف قلت: بقتيلة فلان لئلّا يقع الاشتباه. التاسع ما أكل السبع وهو اسم يقع على ما له ناب ويعدو على الإنسان ويفترس الحيوان كالأسد وما دونه.
قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئا فقتله وأكل بعضه أكلوا ما بقي فحرمه الله وفي الآية حذف التقدير: وما أكل منه السبع لأن ما أكله السبع فقد نفد ولا حكم له وإنما الحكم للباقي. قوله: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ الذكاء في اللغة تمام الشيء ومنه الذكاء في الفهم وفي السن التمام فيها، والمذاكي الخيل التي قد أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان، وتذكية النار رفعها وقوّة اشتعالها، والتذكية كمال الذبح. أما المستثنى منه فعن علي وابن عباس والحسن وقتادة أنه جميع ما تقدم من قوله: وَالْمُنْخَنِقَةُ إلى قوله: وَما أَكَلَ السَّبُعُ والمعنى أنك إن أدركت ذكاته بأن وجدت له عينا تطرف أو ذنبا يتحرك أو رجلا تركض فاذبح فهو حلال لأن ذلك دليل الحياة المستقرة. وقيل: إنه مختص بقوله: وَما أَكَلَ السَّبُعُ. وقيل: إنه استثناء منقطع من المحرمات كأنه قيل: لكن ما ذكيتم من غير هذا
«نهاني ربي» وتركوا بعضها غفلا أي خاليا عن الكتابة. فإن خرج الأمر أقدم على الفعل، وإن خرج النهي أمسك، وإن خرج الغفل أعاد العمل. فمعنى الاستقسام بالأزلام طلب معرفة الخير والشر بواسطة ضرب القداح. وقال كثير من أهل اللغة: الاستقسام هاهنا هو الميسر المنهي عنه. والأزلام قداح الميسر والتركيب يدور على التسوية والإجادة. يقال: ما أحسن مازلم سهمه أي سوّاه ورجل مزلم إذا كان مخفف الهيئة وامرأة مزلمة إذا لم تكن طويلة. ذلِكُمْ فِسْقٌ إشارة إلى جميع ما تقدم من المحرمات أي تناولها فسق، ويحتمل أن يرجع إلى الاستقسام بالأزلام فقط. وكونه فسقا بمعنى الميسر ظاهر، وأما بمعنى طلب الخير والشر فوجهه أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم ويعتقدون أن ما خرج من الأمر أو النهي هو إرشاد الأصنام وإعانتها فلذلك كان فسقا وكفرا. وقال الواحدي: إنما حرم لأنه طلب معرفة الغيب وأنه تعالى مختص بمعرفته، وضعف بأن طلب الظن بالأمارات المتعارفة غير منهي كالتعبير والفأل وكما يدعيه أصحاب الكرامات والفراسات.
ثم إنه سبحانه حرض على التمسك بما شرع فقال: الْيَوْمَ يَئِسَ قيل: ليس المراد يوما بعينه وإنما أراد الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الماضية والآتية كقولك: كنت بالأمس شابا وأنت اليوم شيخ. وقيل: المراد يوم معين وذلك أنها نزلت يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر والنبي ﷺ واقف على ناقته العضباء. وعن ابن عباس أنه قرأ الآية ومعه يهودي فقال اليهودي: لو نزلت علينا في يوم لاتخذناه عيدا.
فقال ابن عباس: إنها نزلت في عيدين اتفقا في يوم واحد في يوم جمعة وافق يوم عرفة أي
وأجيب بأنه إذا كان تكليف كل مجتهد أن يعمل بمقتضى ظنه كان كل مجتهد قاطعا بأنه عامل بحكم الله.
روي أنه لما نزلت الآية على النبي ﷺ فرح الصحابة وأظهروا السرور إلّا أكابرهم كأبي بكر الصدّيق وغيره فإنهم حزنوا وقالوا: ليس بعد الكمال إلّا الزوال.
وكان كما ظنوا فإنه لم يعمر بعدها إلّا أحدا وثمانين يوما أو اثنين وثمانين يوما ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة ولا نسخ ولا نقص. قال العلماء: كان ذلك جاريا مجرى إخبار النبي ﷺ عن قرب وفاته وذلك إخبار بالغيب فيكون معجزا. واحتجت الأشاعرة بالآية على أن الدين- سواء قيل إنه العمل أو المعرفة أو مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل- لا يحصل إلّا بخلق الله وإيجاده فإنه لن يكون إكمال الدين منه إلّا وأصله منه. والمعتزلة حملوا ذلك على إكمال بيان الدين وإظهار الشرائع. ثم قال: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي أي بذلك الإكمال لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام، أو نعمتي بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين وَرَضِيتُ أي اخترت لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً
نصب على الحال أو مفعول ثان إن ضمن رضيت معنى صيرت. واعلم أن قوله: ذلِكُمْ فِسْقٌ إلى هاهنا اعتراض أكد به معنى التحريم لأنّ تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة واختيار دين الإسلام للناس
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ كأنهم حين تلي عليهم ما حرّم عليهم من خبيثات المآكل سألوا عما أحل لهم والسؤال في معنى القول. وإنما لم يقل ماذا أحل لنا على حكاية قولهم نظرا إلى ضمير الغائب في: يَسْئَلُونَكَ ومثل هذا يجوز فيه الوجهان. تقول: أقسم زيد ليفعلن أو لأفعلن. أما سبب النزول
فعن أبي رافع أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي ﷺ فاستأذن عليه فأذن له فلم يدخل، فخرج رسول الله ﷺ فقال جبريل: إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة. فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو. قال أبو رافع: فأمرني أن لا أدع بالمدينة كلبا إلّا قتلته حتى بلغت العوالي فإذا امرأة عندها كلب يحرسها فرحمتها فتركته فأتيت النبي ﷺ فأخبرته فأمرني بقتله، فرجعت إلى الكلب فقتلته، فجاء ناس فقالوا: يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي تقتلها فسكت رسول الله ﷺ إلى أن نزلت هذه الآية. فأمر بقتل الكلب الكلب والعقور وما يضر ويؤذي وأذن في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها.
وقال سعيد بن جبير: نزلت في عدي بن حاتم وزيد الخيل الذي سماه رسول الله ﷺ زيد الخير حين قالا: يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة وإنها تأخذ البقر والحمر والظباء والضب فمنه ما ندرك ذكاته ومنه ما نقتل فلا ندرك وقد حرّم الله الميتة فماذا يحل لنا منها فنزل: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ
أي ما ليس بخبيث منها وهو ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة أو قياس مجتهد، أو أحل لكم كل ما يستلذ ويشتهى عند أهل المروءة والأخلاق الجميلة، واعلم أن الأصل في الأعيان الحل لأنها خلقت لمنافع العباد هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: ٢٩] واستثنى من ذلك أصول: الأوّل: تنصيص الكتاب على تحريمه كالميتة والدم وغيرهما. الثاني: تنصيص السنة كما
روي عن جمع من الصحابة أن النبي ﷺ نهى عام خيبر عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية والبغال كالحمير.
ولا تحرم الخيل عند الشافعي لما
روي عن جابر أنه قال: نهانا رسول الله ﷺ عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل.
الثالث: ما هو في معنى المنصوص كالنبيذ فإنه مسكر كالخمر فيشاركها في التحريم. الرابع: كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور وقد مر معنى السبع عن قريب فلا يحل بموجب هذا الأصل الكلب والأسد والذئب والنمر والفهد والدب والببر والقرد والفيل لأنها تعدو بأنيابها، ولا يحل من الطيور البازي
روي أنه ﷺ قال: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والفأرة والغراب الأبقع والكلب والحدأة». «١»
السادس ما ورد النهي عن قتله فهو حرام لأنه لو كان مأكولا لجاز ذبحه ليؤكل كما
روي أنه ﷺ نهى عن قتل الخطاطيف، وكذا الصرد والنملة والنحلة والهدهد والخفاش.
السابع: الاستطابة والاستخباث لقوله تعالى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ قال العلماء: فيبعد الرجوع إلى طبقات الناس وتنزيل كل قوم على ما يستطيبون ويستخبثون لأن ذلك يوجب اختلاف الأحكام في الحل والحرمة وذلك يخالف موضوع الشرع. فالعرب أولى أمة بالاعتبار لأنّ الدين عربي وهم المخاطبون أوّلا وليس لهم ترفه وتنعم يورث تضييق المطاعم على الناس، ولكن المعتبر استطابة سكان القرى والبلاد دون أجلاف البوادي الذين لا تمييز لهم. وأيضا يعتبر أصحاب اليسار والترفه دون أصحاب الضرورات والحاجات. وأيضا المعتبر حال الخصب والرفاهية دون حال الجدب والشدة. والحشرات بأسرها مستخبثة كالذباب والخنفساء والجعلان وحمار قبان إلّا الضب
فإنه ﷺ قال: «لا آكله ولا أحرمه».
ومن الأصول أنه لا يجوز أكل الأعيان النجسة في حال الاختيار وكذا أكل الطاهر إذا نجس بملاقاة النجاسة كالدهن والسمن الذائب والدبس والخل. ومن الأصول الكسب بمخامرة النجاسة ولكن كسب الحجام حلال عند الشافعي، ومن الأصول ما يضر كالزجاج والسم والنبات المسكر أو المجنن. قوله سبحانه: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ معناه أحل لكم صيد ما علمتم على حذف المضاف لدلالة فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ويجوز أن تكون «ما» شرطية والجزاء فَكُلُوا وعلى هذا يجوز الوقف على الطَّيِّباتُ. والجوارح الكواسب من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والبازي والصقر. قال تعالى: وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الأنعام:
٦] أي كسبتم. وجوّز بعضهم أن يكون من الجراحة. وقال: ما أخذ من الصيد فلم يسل منه دم لم يحل. وانتصاب مُكَلِّبِينَ على الحال من عَلَّمْتُمْ. وفائدة هذه الحال مع الاستغناء عنها ب عَلَّمْتُمْ أن معلم الجوارح ينبغي أن يكون ماهرا في علمه مدربا فيه موصوفا بالتكليب. نقل عن ابن عمر والضحاك والسدي أن ما صادها غير الكلاب فلم يدرك
ابن ماجه في كتاب المناسك باب ٩١. الموطأ في كتاب الحج حديث ٩٠. أحمد في مسنده (٦/ ٢٣، ٨٧، ٢٦١).
والجمهور على أنّ الجوارح يدخل فيه ما يمكن الاصطياد به من السباع. قالوا: المكلب مؤدب الجوارح ورائضها لأنّ تصطاد لصاحبها وإنما اشتق من الكلب لكثرة هذا المعنى في جنسه، أو لأنّ كل سبع يسمى كلبا
كقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم سلّط عليه كلبا من كلابك فأكله الأسد».
أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة. يقال: فلان كلب بكذا إذا كان حريصا عليه. وهب أن المذكور في الآية إباحة الصيد بالكلب لكن تخصيصه بالذكر لا ينفي حل غيره لجواز الاصطياد بالرمي وبالشبكة ونحوها مع سكوت الآية عنها. تُعَلِّمُونَهُنَّ حال ثانية أو استئناف مما علمكم الله من علم التكليب لأنّ بعضه إلهام من الله أو مما عرفكم أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه وانزجاره بزجره. واعلم أنه يعتبر في صيرورة الكلب معلما أمور منها: أن ينزجر بزجر صاحبه في ابتداء الأمر وكذا إذا انطلق واشتد عدوه وحدّته، يشترط أن ينزجر بزجره أيضا على الأشبه فيه يظهر التأدب. ومنها أن يسترسل بإرسال صاحبه أي إذا أغري بالصيد هاج. ومنها أن يمسك الصيد لقوله: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وفي هذا اعتبار وصفين: أحدهما أن يحفظه ولا يخليه، والثاني أن لا يأكل منه
لقوله ﷺ لعدي بن حاتم: فإن أكل فلا تأكل منه فإنما أمسكه على نفسه.
وجوارح الطير يشترط فيها أن تهيج عند الإغراء وأن تترك الأكل ولكن لا مطمع في انزجارها بعد الطيران.
ويشترط عند الشافعي تكرر هذه الأمور بحيث يغلب على الظن تأدب الجارحة بها وأقله ثلاث مرات. ولم يقدر الأكثرون عدد المرات كأنهم رأوا العرف مضطربا، وطباع الجوارح مختلفة فيرجع إلى أهل الخبرة بطباعها. وعن سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبي هريرة أنه يحل وإن أكل فعندهم الإمساك هو أن يحفظه ولا يتركه. ومعنى الآية كلوا مما تبقي لكم الجوارح وإن كان بعد أكلها منه. و «من» في مِمَّا أَمْسَكْنَ قيل زائدة نحو كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ [الأنعام: ١٤١] وقيل مفيدة وذلك أن بعض الصيد لا يؤكل كالعظم والدم والريش. وقال سعيد بن جبير وأبو حنيفة والمزني: يؤكل ما بقي من جوارح الطير ولا يؤكل ما بقي من الكلب. والفرق أن تأديب الكلب بالضرب على الأكل ممكن وتأديب الطير غير ممكن. ولا خلاف أنه إذا كانت الجارحة معلمة ثم تصيد صيدا وجرحته وقتلته وأدركه الصائد ميتا فهو حلال، وجرح الجارحة كالذبح وإن قتلته بالفم من غير جرح ففي حله خلاف. أما قوله سبحانه: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فالضمير إما أن يعود إلى مِمَّا أَمْسَكْنَ أي سموا عليه إذا أدركتم ذكاته، أو إلى ما عَلَّمْتُمْ أي سموا عليه عند إرساله أو إلى الأكل، وعلى هذا فلا كلام. وعلى الأول فالتسمية محمولة على الندب عند الشافعي، وعلى الوجوب عند أبي حنيفة وسيجيء تمام المسألة في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى.
مِنْ قَبْلِكُمْ ينافي من دان بهما بعد نزوله. وكان ابن عمر لا يرى نكاح الكتابيات أصلا متمسكا بقوله تعالى وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: ٢٢١] ويقول: لا أعلم شركا أعظم من قولها إن ربها عيسى. وأوّل الآية بأنّ المراد التي آمنت منهن. فمن المحتمل أن يخطر ببال أحد أن الكتابية، إذا آمنت هل يحل للمسلم التزوج بها أم لا؟ وعن عطاء أن الرخصة كانت مختصة بذلك الوقت لأنه كان في المسلمات قلة ولأن الاحتراز عن مخالطة الكفار واجب. لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران: ١١٨] وأي خلطة أشد من الزوجية وقد يحدث ولد ويميل إلى دين الأم. وقال سعيد بن المسيب والحسن: الكتابيات تشمل الذميات والحربيات فيجوز التزوج بكلهن. وأكثر الفقهاء على أنّ ذلك مخصوص بالذمية فقط وهو مذهب ابن عباس فإنه قال: من أعطى الجزية حل ومن لم يعط لم يحل لقوله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ [التوبة: ٢٩] واتفقوا على أن المجوس قد سنّ بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم. إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فيه أن من تزوج امرأة وعزم على أن لا يعطيها صداقا كان كالزاني. والزنا
ونبني تفسير الآية على مسائل: الأولى ليس المراد بقوله: إِذا قُمْتُمْ نفس القيام وإلّا لزم تأخير الوضوء عن الصلاة وهو بالإجماع باطل، وأيضا لو غسل الأعضاء قبل الصلاة قاعدا أو مضطجعا لخرج عن العهدة بالإجماع، فالمراد إذا شمرتم للقيام إلى الصلاة وأردتم ذلك.
ووجه هذا المجاز أنّ الإرادة الجازمة سبب لحصول الفعل وإطلاق اسم المسبب على السبب مجاز مستفيض. الثانية: ذهب قوم إلى أنّ الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة وليس تكليفا مستقلا لأنه شرط القيام إلى الصلاة. والأصح أنه عبادة برأسها لأن قوله: فَاغْسِلُوا أمر ظاهره الوجوب غاية ذلك أنه مقيد بوقت التهيّؤ للصلاة. وأيضا إنه طهارة وقد قال تعالى في آخر الآية: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ
وقال صلى الله عليه وسلم: «بني الدين على النظافة»
وقال: «أمّتي غر محجلون من آثار الوضوء يوم القيامة» «١»
والأخبار الواردة في كون الوضوء سببا لغفران
الموطأ في كتاب الطهارة حديث ٢٨. أحمد في مسنده (١/ ٢٨٢).
ويروى أنّ النبي ﷺ كان يتوضأ لكل صلاة إلّا يوم الفتح فإنه ﷺ صلّى الصلوات كلها بوضوء واحد.
قال عمر: فقلت له في ذلك فقال: عمدا فعلت ذلك يا عمر. أجاب داود بأنّ خبر الواحد لا ينسخ القرآن. وأيضا في الخبر معنيان: أحدهما: وجوب التجديد لكل صلاة لا أقل من استحباب ذلك. الثاني أنه ترك ذلك يوم الفتح والأوّل يوجب المتابعة والثاني مرجوع لأنّ الفتح يقتضي زيادة الطاعة لا نقصانها. وأيضا التجديد أحوط، وأيضا دلالة ظاهر القرآن قولية ودلالة الخبر فعلية والقولية أقوى. ولناصر المذهب المشهور أن يقول: التيمم على المتغوّط والمجامع واجب إذا لم يجد الماء لقوله: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ الآية.
وذلك يدل على أنّ وجوب الوضوء قد يكون بسبب آخر سوى القيام إلى الصلاة فلم يكن هو مؤثرا وحده، وإذا لم يكن مؤثرا مستقلا جاز تخلف الأثر عنه. نعم التجديد مستحب لأنّ رسول الله ﷺ والخلفاء بعده كانوا يتوضؤن لكل صلاة
وقال صلى الله عليه وسلم: «من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات»
وقيل: كان الوضوء لكل صلاة واجبا أوّل ما فرض ثم نسخ. الرابعة:
الأصح أن في الآية دلالة على أنّ الوضوء شرط لصحة الصلاة لأنه علق فعل الصلاة بالطهور، ثم بيّن أنه متى عدم الماء لم تصح الصلاة إلّا بالتيمم، فلو لم يكن شرطا لم يكن كذلك. وأيضا إنه أمر بالصلاة مع الوضوء فالآتي بها بدون الوضوء تارك للمأمور به فيستحق العقاب وهذا معنى البقاء في عهدة التكليف. الخامسة: قال أبو حنيفة: النية ليست شرطا في الوضوء لأنها غير مذكورة في الآية والزيادة على النص نسخ ونسخ القرآن بخبر الواحد وبالقياس غير جائز. وعند الشافعي هي شرط فيه لأنّ الوضوء مأمور به لقوله: فَاغْسِلُوا وَامْسَحُوا وكل مأمور به يجب أن يكون منويا لقوله تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ [البينة: ٥] والإخلاص النية الخالصة، فأصل النية يجب أن يكون معتبرا. وغاية ما في الباب أنها مخصوصة في بعض الصور فتبقى حجة في غير محل التخصيص.
السادسة: قال مالك وأبو حنيفة: الترتيب غير مشروط في الوضوء لأن الواو لا تفيد الترتيب، فلو قلنا بوجوبه كان من الزيادة على النص وهو نسخ غير جائز. وقال الشافعي:
وقال ﷺ في حديث الصفا: «ابدءوا بما بدأ الله به» «١».
وأيضا الترتيب المعتبر في الحس هو الابتداء من الرأس إلى القدم أو بالعكس، والترتيب العقلي إفراد العضو المغسول عن الممسوح. ثم إنه تعالى أدرج الممسوح في المغسول فذل هذا على أن الترتيب المذكور في الآية واجب لأن إهمال الترتيب في الكلام مستقبح فوجب تنزيه كلام الله تعالى عنه. وأيضا إيجاب الوضوء غير معقول المعنى لأن الحدث يخرج من موضع والغسل يجب في موضع آخر ولأن أعضاء المحدث طاهرة
لقوله: المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا «٢»
وتطهير الطاهر محال ولأن الشرع أقام التيمم مقام الوضوء وليس في التيمم نظافة، وأقام المسح على الخفين مقام الغسل ولا يفيد في نفس العضو نظافة والماء الكدر العفن يفيد الطهارة وماء الورد لا يفيدها فإذن الاعتماد على مورد النص. ولعل في الترتيب حكما خفية لا نعرفها أو هو محض التعبد. وقد أوجبنا رعاية الترتيب في الصلاة مع أن أركان الصلاة غير مذكورة في القرآن مرتبة فرعاية الترتيب في الوضوء مع أن القرآن ناطق به أولى. السابعة: قال الشافعي وأبو حنيفة: الموالاة في أفعال الوضوء غير واجبة لأن إيجاب هذه الأفعال قدر مشترك بين إيجابها على سبيل الموالاة وإيجابها على سبيل التراخي، وهذا القدر معلوم من الآية ومفيد للطهارة والزائد لا دليل عليه. وأيضا
روي أنه ﷺ رأى رجلا توضأ وترك لمعة من عقبه فأمره بغسلها ولم يأمره بالاستئناف ولم يبحث عن المدة الفاصلة،
وعند غيرهما شرط كيلا يتخلل بين أجزاء العبادة ما ليس منها. وحدّ التفريق المخل بالموالاة أن يمضي من الزمان ما يجف فيه المغسول مع اعتدال الهواء ومزاج الشخص. الثامنة: قال أبو حنيفة: الخارج من غير السبيلين ينقض الوضوء لأن ظاهر الآية يقتضي الإتيان بالوضوء لكل صلاة لما مر ترك العمل به عند ما لم يخرج الخارج النجس من البدن فيبقى معمولا به عند خروج الخارج النجس. وخالفه الشافعي تعويلا على ما
روي أنه ﷺ احتجم وصلى ولم يزد على غسل أثر محاجمه.
التاسعة: قال مالك: لا وضوء في الخارج من السبيلين إذا كان غير معتاد وسلم في دم الاستحاضة لنا التمسك بعموم الآية.
الموطأ في كتاب الحج حديث ١٢٦.
(٢) رواه البخاري في كتاب الغسل باب ٢٣، ٢٤. مسلم في كتاب الحيض حديث ١١٥، ١١٦. أبو داود في كتاب الطهارة باب ٩١. الترمذي في كتاب الطهارة باب ٨٩. النسائي في كتاب الطهارة باب ١٧١. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب ٨٠. أحمد في مسنده (٢/ ٢٣٥، ٣٨٢).
إذا غسل أعضاء الوضوء ثم كشط جلده فالأظهر وجوب غسله لتحصيل الامتثال فإن ذلك الوضع غير مغسول. الخامسة عشرة: لو رطب الأعضاء من غير سيلان الماء عليها لم يكف لأنه مأمور بالغسل وهذا ليس بغسل، وفي الجنابة يكفي لأنه هناك مأمور بالتطهير لقوله:
وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ والتطهير يحصل بالترطيب. السادسة عشرة: لو أمر الثلج على العضو فإن ذاب وسال جاز وإلّا فلا خلافا لمالك والأوزاعي لنا فاغسلوا وهذا ليس بغسل.
السابعة عشرة: التثليث سنة لأن ماهية الغسل تحصل بالمرة. الثامنة عشرة: السواك سنة لا واجب لأن الآية ساكتة عنه وكذا القول في التسمية خلافا لأحمد وإسحاق، وكذا في تقديم غسل اليدين على الوضوء خلافا لبعضهم. التاسعة عشرة: قال الشافعي: لا تجب المضمضة والاستنشاق في الوضوء والغسل، وأحمد وإسحاق يجب فيهما. أبو حنيفة:
يجب في الغسل لا في الوضوء. حجة الشافعي أنه أوجب غسل الوجه والوجه هو الذي يكون مواجها وحده من مبتدأ تسطيح الجهة إلى منتهى الذقن طولا، ومن الأذن إلى الأذن عرضا، وداخل الفم والأنف غير مواجه. العشرون: ابن عباس: يجب إيصال الماء إلى داخل العين لأن العين جزء من الوجه. الباقون: لا يجب لقوله في آخر الآية: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ
وإدخال الماء في العين حرج. الحادية والعشرون: غسل البياض الذي بين العذار والأذن واجب عند الشافعي وأبي حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف. لنا أنه واجب قبل نبات الشعر بالإجماع فكذا بعده ولأنه من الوجه والوجه يجب غسله كله. الثانية والعشرون: أبو حنيفة: لا يجب إيصال الماء إلى ما تحت اللحية الخفيفة. الشافعي: يجب لقوله: فَاغْسِلُوا ترك العمل عند كثافة اللحية دفعا للحرج فيبقى عند كثافتها على الأصل.
الخامسة والعشرون: يجب إيصال الماء إلى ما تحت الشعر الكثيف في خمسة مواضع:
العنفقة والحاجب والشارب والعذار والهدب لأن قوله: فَاغْسِلُوا يدل على وجوب غسل كل جلدة الوجه، ترك العمل به في اللحية الكثيفة دفعا للحرج وهذه الشعور خفيفة غالبا فتبقى على الأصل. السادسة والعشرون: الشعبي: ما أقبل من الأذن فهو من الوجه فيغسل، وما أدبر فمن الرأس فيمسح وردّ بأن الأذن غير مواجه أصلا. السابعة والعشرون: الجمهور على أن المرفقين يجب غسلهما مع اليدين وخالف مالك وزفر وكذا، الخلاف في قوله:
وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ والتحقيق أن «إلى» تفيد معنى الغاية مطلقا، والمراد بالغاية جميع المسافة أو حقيقة النهاية. ثم إنّ حد الشيء قد يكون منفصلا عن المحدود حسا انفصال الظلمة عن النور في قوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: ١٨٧] فيكون الحد خارجا عن المحدود. وقد لا يكون كذلك نحو حفظت القرآن من أوّله إلى آخره وبعتك هذا الثوب من هذا الطرف إلى ذلك الطرف فيدخل الحد في المحدود. ولا شك أن المرفق وهو موصل الذراع في العضد سمي بذلك لارتفاق صاحبها بها غير متميزة في الحس عن محدودها فلا يكون إيجاب الغسل إلى جزء أولى من إيجابه إلى جزء آخر فوجب غسلها جميعا. وإن سلم أن المرفق لا يجب غسلها لكنها اسم لما جاوز طرف العظم، ولا نزاع في أن ما وراء طرف العظم لا يجب غسله. وهذا الجواب اختيار الزجاج. وعلى هذا فمقطوع اليد من المرفق يجب عليه إمساس الماء بطرف العظم وإن كان أقطع مما فوق المرفقين لم يجب عليه شيء لأن محل هذا التكليف لم يبق أصلا. الثامنة والعشرون: تقديم اليمنى على اليسرى مندوب وليس بواجب خلافا لأحمد. لنا أنه ذكر الأيدي والأرجل في الآية من غير تقديم لإحدى اليدين أو الرجلين. التاسعة والعشرون: ذهب بعضهم إلى أن مبتدأ الغسل يجب أن يكون الكف بحيث يسيل الماء من الكف إلى المرافق لأن المرافق جعلت في الآية نهاية الغسل.
وجمهور الفقهاء على أن عكس هذا الترتيب لا يخل بصحة الوضوء لأن المراد في الآية بيان جملة الغسل لا بيان ترتيب أجزاء الغسل. الثلاثون: لو نبت من المرفق ساعدان وكفان وجب غسل الكل لعموم قوله: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ كما لو نبت على الكف أصبع
ورد في الأخبار أن تطويل الغرة سنة مؤكدة.
الثانية والثلاثون: مالك: يجب مسح كل الرأس.
أبو حنيفة: يتقدر بالربع لأنه ﷺ مسح على ناصيته وأنها ربع الرأس.
الشافعي: الواجب أقل ما ينطلق عليه اسم المسح لأنه إذا قيل مسحت المنديل فهذا لا يصدق إلّا عند مسحه بالكلية، أما لو قال مسحت يدي بالمنديل كفى في صدقه مسح اليد بجزء من أجزاء المنديل فهكذا في الآية وإلّا احتيج في تعيين المقدّر إلى دليل منفصل وتصير الآية مجملة وهو خلاف الأصل. الثالثة والثلاثون: لا يجوز الاكتفاء بالمسح على العمامة لأن ذلك ليس مسحا للرأس. وقال الأوزاعي والثوري وأحمد: يجوز لما
روي أنه ﷺ مسح على العمامة.
وأجيب بأنه لعله مسح قدر الفرض على الرأس والبقية على العمامة. الرابعة والثلاثون:
اختلف الناس في مسح الرجلين وفي غسلهما فنقل القفال في تفسيره
عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر رضي الله عنه أن الواجب فيهما المسح
وهو مذهب الإمامية. وجمهور الفقهاء والمفسرين على أن فرضهما الغسل.
وقال داود: يجب الجمع بينهما وهو قول الناصر للحق من أئمة الزيدية. وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري: المكلف مخير بين المسح والغسل. حجة من أوجب المسح قراءة الجر في: وَأَرْجُلَكُمْ عطفا على: بِرُؤُسِكُمْ ولا يمكن أن يقال إنه كسر على الجوار كما في
قوله: «حجر ضب خرب»
لأن ذلك لم يجىء في كلام الفصحاء وفي السعة، وأيضا إنه جاء حيث لا لبس ولا عطف بخلاف الآية. وأما القراءة بالنصب فيكون للعطف على محل بِرُؤُسِكُمْ. حجة الجمهور أخبار وردت بالغسل وأن فرض الرجلين محدود إلى الكعبين والتحديد إنما جاء في الغسل لا في المسح. والقوم أجابوا بأن أخبار الآحاد لا تعارض القرآن ولا تنسخه وبالمنع في محل النزاع فزعم الجمهور أن قراءة النصب ظاهرة في العطف على مفعول: فَاغْسِلُوا وإن كان أبعد من: امْسَحُوا وقراءة الجر تنبيه على وجوب الاقتصاد في صب الماء لأن الأرجل تغسل بالصب فكانت مظنة للإسراف. الخامسة والثلاثون: جمهور الفقهاء على أن الكعبين هما العظمان الناتئان من جانبي الساق. وقالت الإمامية وكل من قال بالمسح: إن الكعب عظم مستدير موضوع تحت عظم الساق حيث يكون مفصل الساق والقدم كما في أرجل جميع الحيوانات. والمفصل يسمى كعبا ومنه كعوب الرمح لمفاصله. حجة الجمهور أنه لو كان الكعب ما ذكره الإمامية لكان الحاصل في كل رجل كعبا واحدا وكان ينبغي أن يقال: وأرجلكم إلى الكعاب كما أنه لما كان الحاصل في كل يد مرفقا واحدا لا جرم قال: إِلَى الْمَرافِقِ. وأيضا العظم
روي أنه ﷺ قال: «ألصقوا الكعاب بالكعاب».
السادسة والثلاثون: الجمهور على جواز مسح الخفين خلافا للشيعة والخوارج. حجة الجمهور الأحاديث، وحجة الشيعة الآية، وأن جواز المسح على الخفين حاجة عامة فلو كانت ثابتة لبلغت مبلغ التواتر.
السابعة والثلاثون: رجل مقطوع اليدين والرجلين سقط عنه هذان الفرضان وبقي عليه غسل الوجه ومسح الرأس، فإن لم يكن معه من يوضئه أو ييممه سقط عنه ذلك أيضا لأن قوله:
فَاغْسِلُوا وَامْسَحُوا مشروط بالقدرة عليه فإذا فاتت القدرة سقط التكليف. الثامنة والثلاثون: قوله سبحانه: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا الأصل «تطهروا» أدغم التاء في الطاء فاجتلبت همزة الوصل. وللجنابة سببان: نزول المني
لقوله صلى الله عليه وسلم: «الماء من الماء» «١»
والثاني التقاء الختانين خلافا لزيد بن ثابت ومعاذ وأبي سعيد الخدري لما
روي أنه ﷺ قال: «إذا التقى الختانان وجب الغسل» «٢»
وختان الرجل هو الموضع الذي يقطع منه جلدة القلفة، وأما ختان المرأة فإن شفريها يحيطان بثلاثة أشياء: ثقبة في أسفل الفرج وهي مدخل الذكر ومخرج الحيض والولد، وثقبة أخرى فوق هذه مثل إحليل الذكر وهي مخرج البول لا غير، والثالث جلدة رقيقة قائمة مثل عرف الديك فوق ثقبة البول، وقطع هذه الجلدة هو ختانها فإذا غابت الحشفة حاذى ختانه ختانها. التاسعة والثلاثون: لا يجوز للجنب مس المصحف خلافا لداود. لنا قوله: فَاطَّهَّرُوا يدل على أن الطهارة غير حاصلة وإلّا لكان أمرا بتطهير الطاهر وحينئذ لا يجوز له مس المصحف لقوله: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: ٧٩] ولإطلاق قوله: فَاطَّهَّرُوا علم أنه أمر بتحصيل الطهارة في كل البدن وإلّا خصت تلك الأعضاء بالذكر كما في الطهارة الصغرى، وعلم أنه لا يجب تقديم الوضوء على الغسل خلافا لأبي ثور وداود، وعلم أن الترتيب غير واجب خلافا إسحق فإنه أوجب البداءة بأعلى البدن، وعلم أن الدلك غير واجب خلافا لمالك.
الدارمي في كتاب الوضوء باب ٧٤. أحمد في مسنده (٣/ ٢٩)، (٥/ ١١٥).
(٢) رواه مسلم في كتاب الحيض حديث ٨٨. البخاري في كتاب الغسل باب ٢٨. أبو داود في كتاب الطهارة باب ٨٣. الترمذي في كتاب الطهارة باب ٨٠. النسائي في كتاب الطهارة باب ١٢٨. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب ١١١، الدارمي في كتاب الوضوء باب ٧٥. الموطأ في كتاب الطهارة حديث ٧١- ٧٣. أحمد في مسنده. (٢/ ١٧٨)، (٥/ ١١٥). [.....]
لقوله صلى الله عليه وسلم: «أما أنا فأحثى على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت» «١»
أبو حنيفة: هما واجبان لقوله تعالى:
فَاطَّهَّرُوا والتطهير لا يحصل إلّا بطهارة جميع الأعضاء. ترك العمل به في الأعضاء الباطنة للتعذر وداخل الفم والأنف يمكن تطهيرهما فيبقى داخلا في النص ولأن
قوله صلى الله عليه وسلم: «بلوا الشعر» «٢»
يدخل فيه الأنف لأن في داخله شعرا:
«وأنقوا البشرة» «٣»
يدخل فيه جلدة داخل الفم. الحادية والأربعون: لا يجب نقض الشعر إن لم يمنع عن وصول الماء إلى منابته لأن المقصود التطهير وإن منع وجب خلافا للنخعي. الثانية والأربعون: إن كان المرض المانع من استعمال الماء حاصلا في بعض جسده دون بعض فقال الشافعي: يغسل ما لا ضرر عليه ثم يتيمم للاحتياط. وقال أبو حنيفة: إن كان أكثر البدن صحيحا غسل الصحيح دون التيمم وإن كان أكثره جريحا يكفيه التيمم لأن المرض إذا كان حالا في بعض أعضائه فهو مريض. الثالثة والأربعون: لو ألصق على موضع التيمم لصوقا منع وصول الماء إلى البشرة ولا يخاف من نزع ذلك اللصوق التلف. قال الشافعي: يلزم نزع اللصوق حتى يصل التراب إليه أخذا بالأحوط. وقال الأكثرون: لا يجب دفعا للحرج. الرابعة والأربعون:
قال الشافعي: الاستنجاء واجب إما بالماء أو بالأحجار
لقوله صلى الله عليه وسلم: «فليستنج بثلاثة أحجار» «٤»
وقال أبو حنيفة: واجب عند المجيء من الغائط إما الوضوء أو التيمم ولم يوجب غسل موضع الحدث فدل على أنه غير واجب. الخامسة والأربعون: لمس المرأة ينقض الوضوء عند الشافعي ولا ينقضه عند أبي حنيفة وقد مرت المسألة في سورة النساء. السادسة والأربعون: لا يكره الوضوء بالماء المسخن لقوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً وهاهنا قد وجد ماء وخالف مجاهد. السابعة والأربعون: أبو حنيفة وأحمد: لا يكره المشمس لقوله تعالى:
فَلَمْ تَجِدُوا ماءً وهذا قد وجد ماء. الشافعي يكره للحديث. الثامنة والأربعون: لا يكره الوضوء بفضل ماء المشرك وبالماء في آنية المشرك لأنه واجد للماء فلا يتيمم، وقد توضأ النبي ﷺ من مزادة مشرك وتوضأ عمر من ماء في جرة نصرانية. وقال أحمد وإسحق: لا يجوز. التاسعة والأربعون: يجوز الوضوء بماء البحر لأنه واجد الماء خلافا لعبد الله بن
(٢، ٣)
رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب ٩٧. الترمذي في كتاب الطهارة باب ٧٨. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب ١٠٦ بلفظ «فاغسلوا» بدل «بلّوا».
(٤) رواه الترمذي في كتاب الطهارة باب ١٢. أبو داود في كتاب الطهارة باب ٤. أحمد في مسنده (٥/ ٤٣٩).
حجتهما: فَاغْسِلُوا أمر بمطلق الغسل وإمرار المائع على العضو غسل قال الشاعر: فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها. لنا: أنه عند عدم الماء أوجب التيمم. الثانية والخمسون:
الشافعي: الماء المتغير بالزعفران تغيرا فاحشا لا يجوز الوضوء به لأن واجده يصدق عليه أنه غير واجد للماء. وخالف أبو حنيفة لأن أصل الماء موجود بصفة زائدة كما لو تغير وتعفن بطول المكث أو بتساقط الأوراق بالاتفاق. الثالثة والخمسون: مالك وداود: الماء المستعمل في الوضوء بقي طاهرا طهورا لأن واجده واجد للماء وهو قول قديم للشافعي.
والقول الجديد إنه طاهر غير طهور، ووافقه محمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة في أكثر الروايات: إنه نجس لأن النجاسة الحكمية كالعينية. الرابعة والخمسون: مالك: إذا وقع في الماء نجاسة ولم يتغير بقي طاهرا طهورا قليلا كان أو كثيرا وهو قول أكثر الصحابة والتابعين. وقال الشافعي: إن كان أقل من القلتين ينجس. وقال أبو حنيفة: إن كان أقل من عشرة في عشرة ينجس. حجة مالك أنه واجد للماء ترك العمل بهذا العموم في الماء القليل المتغير فيبقى حجة في الباقي ويؤيده
قوله صلى الله عليه وسلم: «خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلّا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه» «١»
حجة الشافعي مفهوم
قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا» «٢».
الخامسة والخمسون: يجوز الوضوء بفضل ماء الجنب لأن واجده واجد للماء، وقال أحمد وإسحاق: لا يجوز الوضوء بفضل ماء المرأة إذا خلت به وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب. السادسة والخمسون: أسار السباع، طاهرة مطهرة وكذا سؤر الحمار لأنه واجد للماء. وقال أبو حنيفة: نجسة. السابعة والخمسون: قال الشافعي وأبو حنيفة والأكثرون: لا بد في التيمم من النية لأنه قال: فَتَيَمَّمُوا والتيمم عبارة عن القصد وهو النية. وقال زفر: لا يجب. الثامنة والخمسون: الشافعي: لا يجوز التيمم إلّا بعد دخول الصلاة لأنه طهارة ضرورة ولا ضرورة قبل الوقت. أبو حنيفة: يجوز قياسا على الوضوء ولظاهر قوله: إِذا قُمْتُمْ والقيام إلى الصلاة يكون بعد دخول وقتها. التاسعة والخمسون:
(٢) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب ٣٣. الترمذي في كتاب الطهارة باب ٥٠. النسائي في كتاب الطهارة باب ٤٣. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب ٧٥. الدارمي في كتاب الوضوء باب ٥٥. أحمد في مسنده (٢/ ٢٣، ٢٧).
أما التيمم بدل غسل الجنابة فعن علي رضي الله عنه وابن عباس جوازه
وهو قول أكثر الفقهاء، وعن عمر وابن مسعود أنه لا يجوز. لنا قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ إما يختص بالجماع أو يدخل الجماع فيه. الحادية والستون: الشافعي: لا يجوز أن يجمع بتيمم واحد بين صلاتي فرضين لأن ظاهر قوله: إِذا قُمْتُمْ يقتضي إعادة الوضوء لكل صلاة ترك العمل به في الوضوء لفعل رسول الله ﷺ فيبقى في التيمم على ظاهره. أبو حنيفة: يجوز أداء الفرائض به كالوضوء. أحمد: يجمع بين الفوائت ولا يجمع بين صلاتي وقتين. الثانية والستون: الشافعي: إذا لم يجد الماء في أول الوقت وتوقع في آخره جاز له التيمم لأن قوله: إِذا قُمْتُمْ يدل على أنه عند دخول الوقت إن لم يجد الماء جاز له التيمم. وقال أبو حنيفة: يؤخر الصلاة إلى آخره.
الثالثة والستون: إذا وجد الماء بعد التيمم وقبل الشروع في الصلاة بطل تيممه لأنه وجد الماء فلا يجوز له الشروع في الصلاة بالتيمم. وخالف أبو موسى الأشعري والشعبي. الرابعة والستون: لو فرغ من الصلاة ثم وجد الماء لا يلزمه إعادة الصلاة لأنه خرج عن عهدة التكليف خلافا لطاوس. الخامسة والستون: ولو وجد الماء في أثناء الصلاة لا يلزمه الخروج منها- وبه قال مالك وأحمد-، لأنه انعقدت صلاته صحيحة بحكم التيمم فما لم تبطل صلاته لا يصير قادرا على استعمال الماء، وما لم يصر قادرا على استعمال الماء لم تبطل صلاته فيدور. وقال أبو حنيفة والثوري والمزني: يلزمه الخروج لأنه واجد للماء.
السادسة والستون: لو نسي الماء في رحله وتيمم وصلى ثم علم وجود الماء لزمه الإعادة على أحد قولي الشافعي وهو قول أحمد وأبي يوسف. والثاني لا يلزمه وهو قول مالك وأبي حنيفة ومحمد لأن النسيان في حكم العجز وكذا إذا ضل رحله في الرحال بالطريق الأولى لأن مخيم الرفقة أوسع من رحله. ولو تيقن الماء في رحله واستقصى في الطلب فلم يجده وتيمم وصلى ثم وجد فالأكثرون على أنه يلزمه الإعادة لأن العذر ضعيف. وقيل: لا لأن حكمه حكم العاجز. السابعة والستون: لو صلى بالتيمم ثم وجد ماء في بئر بجنبه يمكنه استعمال ذلك الماء فإن كان قد علمه أوّلا ثم نسيه فهو كما لو نسي الماء في رحله، وإن لم يكن عالما فإن كان عليها علامة ظاهرة فالإعادة وإلّا فلا لأنه كالعاجز. الثامنة والستون: إذا لم يكن معه ماء ولا يمكنه أن يشتري إلّا بالغبن الفاحش جاز التيمم لقوله: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ولو وهب منه الماء لزمه القبول لأن المنة فيه سهل، ولو وهب منه ثمنه لم يلزمه القبول لثقل المنة ووجود الحرج، ولمثل هذا يجب قبول إعارة الدلو لاهبته فهذه جملة المسائل الفقهية المستنبطة من الآية سوى ما مرت في سورة النساء.
إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: ٢٨]
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن لا ينجس لا حيا ولا ميتا» «١»
وبأنه لو كان رطبا فأصابه ثوب لم ينجس، ولو حمله إنسان وصلى لم تفسد صلاته بالاتفاق، وبأن الحدث لو كان يوجب نجاسة الأعضاء ثم كان تطهير الأعضاء الأربعة يوجب طهارة كل عضو لوجب أن لا يختلف ذلك باختلاف الشرائع، وبأن خروج النجاسة من موضع كيف يوجب تنجس موضع آخر، وبأن التيمم زيادة في التكدير فكيف يوجب النظافة والتطهير، وبأن المسح على الخفين كيف يقوم مقام غسل الرجلين، وبأن الذي يراد إزالته ليس من الأجسام ولا كان محسوسا ولا من الأعراض لأن انتقال الأعراض محال. التفسير الثاني أن المراد طهارة القلب عن صفة التمرد عن طاعة الله تعالى لأن إيصال الماء أو التراب إلى هذه الأعضاء المخصوصة ليس فيه فائدة يعقلها المكلف، فالانقياد لمثل هذا التكليف تعبد محض يزيل آثار التمرد وتؤكده الأخبار في أن المؤمن إذا غسل وجهه خرت خطاياه من وجهه وكذا القول في يديه ورأسه ورجليه. وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بإباحة الطيبات الدنيوية من المطاعم والمناكح بهذه النعمة الدينية وهي كيفية فرض الوضوء، أو ليتم برخصه كالتيمم ونحوه إنعامه عليكم بعزائمه. ثم ذكر ما يوجب عليهم قبول تكاليفه وذلك من وجهين:
الأول تذكر نعمته يعني التأمل في هذا النوع الذي لا يقدر عليه غيره لأن هذا النوع وهو إعطاء نعمة الحياة والصحة والعقل والهداية والصون عن الآفات والإيصال إلى الخيرات في الدنيا والآخرة حيث إنه يمتاز عن نعمة غيره وأنه لا يقدر عليه غيره يجب تلقيه بالتشكر وهو الإذعان لأوامره والانقياد لنواهيه. فإن قيل: اذكروا مشعر بسبق النسيان وكيف يعقل
ابن ماجه في كتاب الطهارة باب ٨٠. أحمد في مسنده (٢/ ٢٢٥، ٣٨٢).
إنه إشارة إلى قوله للذرية: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف: ١٧٢] وقال السدي: هو ما ركز في العقول من حسن هذه الشريعة وهو اختيار أكثر المتكلمين.
واعلم أن التكاليف وإن كثرت إلّا أنها منحصرة في نوعين: التعظيم لأمر الله وإليه الإشارة بقوله: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ والشفقة على خلق الله وحث عليها بقوله: شُهَداءَ بِالْقِسْطِ قال عطاء: يقول لا تحاب في شهادتك أهل ودّك وقرابتك ولا تمنع شهادتك أعداءك وأضدادك. وقال الزجاج: بينوا دين الله لأن الشاهد يبين ما يشهد عليه. ثم أمر جميع الخلق بأن لا يعاملوا أحدا إلّا على سبيل العدل والإنصاف ويتركوا الظلم والاعتساف فقال وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ أي لا يحملنكم بغض قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا أي فيهم فحذف للعلم. ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيدا فقال: اعْدِلُوا ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل فقال: هُوَ أي العدل الذي دل عليه اعدلوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي إلى الاتقاء من عذاب الله أو من معاصيه. وقيل: المراد سلوك سبيل العدالة مع الكفار الذين صدوا المسلمين عن البيت بأن لا يقتلوهم إذا أظهروا الإسلام، أو لا يرتكبوا ما لا يحل من مثلة، أو قذف أو قتل أولاد أو نساء أو نقض عهد أو نحو ذلك. وفي هذا تنبيه على أن العدل مع أعداء الله إذا كان بهذه المكانة فكيف يكون مع أوليائه وأحبائه؟ ثم ختم الكلام بوعد المؤمنين ووعيد الكافرين وقوله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ بيان للوعد قدم لهم وعدا، ثم كأنه قيل: أي شيء ذلك؟ فقيل: لهم مغفرة أو يكون على إرادة القول أي وعدهم وقال لهم مغفرة، أو يكون وعد مضمنا معنى قال، أو يجعل وعد واقعا على هذا القول وإذا وعدهم هذا القول من هو قادر على كل المقدورات عالم بجميع المعلومات غني عن كل الحاجات فقد امتنع الخلف في وعده لأن سبب الخلف إما جهل أو عجز أو بخل أو حاجة وهو منزه عن الكل. وهذا الوعد يصل إليه قبل الموت فيفيده السرور عند سكرات الموت فيسهل عليه الشدائد وفي ظلمة القبر فيفيده نورا وفي عرصة القيامة فيزيده حبورا. والجحيم اسم من أسماء النار وهي كل نار عظيمة في مهواة كقوله: قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ
عن جابر أن النبي ﷺ نزل منزلا وتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها، فعلق النبي ﷺ سلاحه على شجرة فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله ﷺ فسله ثم أقبل عليه فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله- قالها ثلاثا- والنبي ﷺ يقول: الله. فأغمد الأعرابي السيف فدعا النبي ﷺ أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه.
وقال مجاهد والكلبي وعكرمة: قتل رجلان من أصحاب النبي ﷺ رجلين من بني سليم- وبين النبي ﷺ وبين قومهما موادعة- فجاء قومهما يطلبون الدية فأتى النبي ﷺ ومعه أبوبكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم فدخلوا على كعب بن الأشرف وبني النضير يستقرضهم في عقلهما فقالوا: نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة، اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا. فجلس هو وأصحابه فخلا بعضهم ببعض وقالوا: إنكم لن تجدوا محمدا أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب: أنا. فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله يده، فجاء جبريل عليه السلام وأخبره بذلك فخرج النبي ﷺ وأنزل الله هذه الآية.
وقيل: نزلت في قصة عسفان حين هم الأعداء أن يواقعوهم فنزلت صلاة الخوف. وقيل: إنها لم تنزل في واقعة خاصة ولكن المراد أن الكفار أبدا كانوا يريدون إيقاع البلاء والنهب والقتل بالمسلمين فأعز الله المسلمين وفل شوكة الكفار وقوى دين الإسلام وأظهره على الأديان.
التأويل:
سماع اسم الله وهو من صفات الهيبة يوجب الفناء والغيبة، وسماع الرحمن الرحيم وهما من صفات اللطف يورث البقاء والقربة أَوْفُوا أيها العشاق بِالْعُقُودِ التي جرت بيننا يوم الميثاق ليوم التلاق. فمن صبر على عهوده فقد فاز بمقصوده عند بذل وجوده أُحِلَّتْ لَكُمْ ذبح بَهِيمَةُ النفس التي كالأنعام في طلب المرام إلا النفس المطمئنة التي تليت عليها ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: ٢٨] فتنفرت من الدنيا بما فيها فهي كالصيد في الحرم وَأَنْتُمْ حُرُمٌ بالتوجه إلى كعبة الوصال وإحرام الشوق إلى حضرة الجمال والجلال إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ لمن يريد فيأمر بذبح النفس إذا كانت متصفة بصفة البهيمية وبترك ذبحها إذا كانت مطمئنة بذكر الحق ومتسمة بسمات الملك. ثم أخبر عن تعظيم الشعائر من صدق الضمائر فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بشهود القلوب فقصدوا زيارة المحبوب وخرجوا عن أوطان الأوطار وسافروا عن ديار الأغيار لا تُحِلُّوا معالم الدين والشريعة ومراسم آداب الطريقة والحقيقة، وعظموا الزمان والمكان والإخوان والقاصدين كعبة الوصول إلى الرحمن الذين أهدوا للقربان نفوسهم وقلدوها بلحاء الشجرة الطيبة ليأمنوا عن مكر الأعداء
الْيَوْمَ أي في الأزل أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ولكن ظهر الأمر في حجة الوداع يوم عرفة.
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وهي أسباب تحصيل الكمال ببعثة النبي ﷺ فَمَنِ اضْطُرَّ فمن ابتلى بالتفات لشيء من الدنيا والآخرة غير مائل إليه للإعراض عن الحق ولكن من فترة للطالبين أو وقفة للسالكين. يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لأرباب السلوك إذ الدنيا حرام على أهل الآخرة والآخرة حرام على أهل الدنيا وهما حرام على أهل الله الطيبات كل مأكول ومشروب وملبوس يكون سببا للقيام بأداء الحقوق. فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ تناولوا ما اصطادت النفوس المطمئنة المعلمة بعلوم الشريعة المؤدبة بآداب الطريقة المنوّرة بأنوار الحقيقة.
وَاذْكُرُوا عند تناول كل ما ورد عليكم من الأمور الدنيوية والأخروية اسْمَ اللَّهِ أي لا تتصرفوا فيه إلّا لله بالله في الله الْيَوْمَ يعني الذي فيه ظهر كمالية الدين الأزلية وهو يوم عرفة. وهذه فائدة التكرار أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ التي تتعلق بسعادة الدارين بل أحل لكم التخلق بالأخلاق الطيبات وهي أخلاق الله المنزهات عن الكميات والكيفيات وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وهم الأنبياء حِلٌّ لَكُمْ أي غذيتم بلبان الولاية كما غذوا بلبان النبوة وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أي منبع لبن النبوة والولاية واحد وإن كان الثدي اثنين قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة: ٦٠] وللنبي وراء ذلك كله مشرب
«أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني»
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وهي أبكار حقائق القرآن
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٢ الى ١٩]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)
قاسِيَةً حمزة وعلي والمفضل. الباقون قاسِيَةً.
الوقوف:
بَنِي إِسْرائِيلَ ج للعدول عن الإخبار إلى الحكاية مع اتحاد القصة.
نَقِيباً ج للعدول عن الحكاية إلى الإخبار. مَعَكُمْ ط لأن ما بعده ابتداء قسم محذوف جوابه لَأُكَفِّرَنَّ. الْأَنْهارُ ج السَّبِيلِ هـ قاسِيَةً ج لاحتمال الاستئناف والحال أي لعناهم محرفين. مَواضِعِهِ ط لأنا ما يتلوه حال أي وقد نسوا. ذُكِّرُوا بِهِ ج للعدول عن الماضي إلى المستقبل مع الواو. وَاصْفَحْ ط الْمُحْسِنِينَ هـ ذُكِّرُوا بِهِ ص لعطف المتفقتين. يَوْمِ الْقِيامَةِ ط يَصْنَعُونَ هـ عَنْ كَثِيرٍ هـ مُبِينٌ هـ لا لأن قوله:
يَهْدِي وصف الكتاب إلى آخر الآية. مُسْتَقِيمٍ هـ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ الأول ط جَمِيعاً ط وَما بَيْنَهُما ط ما يَشاءُ ط قَدِيرٌ هـ وَأَحِبَّاؤُهُ ط بِذُنُوبِكُمْ ط لتناهي الاستفهام إلى الأخبار. مِمَّنْ خَلَقَ ط مَنْ يَشاءُ ط وَما بَيْنَهُما ز للفصل بين ذكر الحال والمال. الْمَصِيرُ هـ وَلا نَذِيرٍ ر للعطف مع وقوع العارض. وَنَذِيرٌ ط قَدِيرٌ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه لما خاطب المؤمنين بذكر نعمته وميثاقه أردفه ذكر ميثاق بني إسرائيل ونقضهم إياه ثم لعنهم بسبب ذلك تحذيرا لهذه الأمة من مثل ما فعلوا وفعل بهم.
وبوجه آخر لما ذكر غدر اليهود وأنهم أرادوا إيقاع الشر بالنبي ﷺ لولا دفع الله تعالى، أردفه بذكر سائر فضائحهم ليعلم أن ذلك لم يزل هجيراهم. والنقيب العريف «فعيل» بمعنى «فاعل» لأنه ينقب عن أحوال القوم فيكون شاهدهم وضمينهم. وقال أبو مسلم: بمعنى «مفعول» يعني اختارهم على علم بهم. وأصل النقب الطريق في الجبل. ونقب البيطار سرة الدابة ليخرج منها ماء أصفر. والمناقب الفضائل لأنها لا تظهر إلّا بالنقب عنها. ويقال:
كلب نقيب وهو أن ينقب حنجرته لئلا يرفع صوت نباحه، وإنما يفعل ذلك البخلاء من العرب لئلا يطرقهم ضيف. قال مجاهد والكلبي والسدي: إن الله تعالى اختار من كل سبط
ثم ذكر بعدها جملة شرطية مقدمها مركب من خمسة أمور والجزاء هو قوله: لَأُكَفِّرَنَّ وهو إشارة إلى إزالة العقاب. وقوله: وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ وهو إشارة إلى إيصال الثواب.
واللام في لَئِنْ أَقَمْتُمُ موطئة للقسم وفي لَأُكَفِّرَنَّ جواب له ولكنه سد مسد جواب الشرط أيضا. والعزر في اللغة الرد ومنه التعزير التأديب لأنه يرده عن القبيح ولهذا قال الأكثرون: معنى عَزَّرْتُمُوهُمْ نصرتموهم لأن نصر الإنسان رد أعدائه عنه. ولو كان التعزير هو التوقير لكان قوله: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: ٩] تكرارا. وهاهنا أسئلة: لم أخر الإيمان بالرسل عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع أن الإيمان مقدم على الأعمال؟
وأجيب بعد تسليم أن الواو للترتيب بأن اليهود كانوا معترفين بأن النجاة مربوطة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إلّا أنهم كانوا مصرين على تكذيب بعض الرسل فذكر أنه لا بد بعد الصلاة والزكاة من الإيمان بجميع الرسل وإلّا لم يكن لتلك الأعمال أثر. قلت: يحتمل أن يكون التقدير وقد آمنتم أو أخر الإيمان عن العمل تنبيها على أن الإيمان إنما يقع معتدا به إذا اقترن به العمل كقوله وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى [طه: ٨٢] أو هو من القلب الذي يشجع عليه أمن الإلباس، أو لعل اليهود كانوا مقصرين في الصلاة والزكاة فكان ذكرهما أهم. سؤال آخر ما الفائدة في قوله: وَأَقْرَضْتُمُ بعد قوله: وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ؟
وأجيب بأن الإقراض أريد به الصدقات المندوبة. قال الفراء: ولو قال وأقرضتم الله إقراضا حسنا لكان صوابا أيضا إلّا أنه أقيم الاسم مقام المصدر مثل وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً [آل عمران:
٣٧]. آخر لم قال: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ فإن من كفر قبل ذلك أيضا فقد أخطأ الطريق المستقيم الذي شرعه الله لهم؟ والجواب أجل، ولكن الضلال بعد الشرط المؤكد المعلق به الوعيد العظيم أشنع فلهذا خص بالذكر. فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ بتكذيب الرسل وقتلهم أو بكتمانهم صفة محمد ﷺ أو بإخلال جملة الشروط المذكورة لَعَنَّاهُمْ قال عطاء: أخرجناهم من رحمتنا. وقال الحسن ومقاتل: مسخناهم حتى صاروا قردة وخنازير. قال ابن عباس: ضربنا الجزية عليهم. وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً من قرأ قاسِيَةً
معنى الجعل هاهنا أنه أخبر عنها بأنها صارت قاسية كما يقال جعلت فلانا فاسقا أو عدلا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ بيان لقسوة قلوبهم لأنه لا قسوة أشد من الافتراء على الله وتغيير كلامه وَنَسُوا حَظًّا تركوا نصيبا وافرا أو قسطا وافيا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ من التوراة يريد أن تركهم التوراة وإعراضهم عن العمل بها إغفال حظ عظيم، أو فسدت نياتهم فحرفوا التوراة وزالت علوم منها عن حفظهم كما روي عن ابن مسعود: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية.
وقال ابن عباس: تركوا نصيبا مما أمروا به في كتابهم وهو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم. ثم بيّن أن نكث العهود والغدر لم يزل عادتهم خلفا عن سلف فقال: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ أي خيانة كالعافية والحادثة أو صفة لمحذوف مؤنث أي على فعلة ذات خيانة أو على نفس أو فرقة خائنة أو التاء للمبالغة مثل «رجل راوية للشعر» إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم الذين آمنوا منهم كعبد الله بن سلام وأمثاله، أو هم الذين بقوا على الكفر من غير غدر ونقض لعهودهم فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ بعث على حسن العشرة معهم. فقيل منسوخ بآية الجهاد يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التحريم: ٩] وقيل: المراد فاعف عن مؤمنهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم. وقيل: بناء على أن القليل هم الباقون على العهد منهم أن المراد لا تؤاخذهم بالصغائر ما داموا باقين على العهد وهذا قول أبي مسلم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال ابن عباس: معناه إذا عفوت فأنت محسن، وإذا كنت محسنا فقد أحبك الله. وعلى قول أبي مسلم فالمراد بهؤلاء المحسنين هم القليلون الذين ما نقضوا عهد الله وفي هذا التفسير بعد والله أعلم.
ثم قال: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ولم يقل ومن النصارى لأنهم إنما سموا أنفسهم بهذا الاسم ادعاء لنصرة الله، وهم الذين قالوا لعيسى عليه السلام نحن أنصار الله وكانوا بالحقيقة أنصار الشيطان حيث اختلفوا وخالفوا الحق أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ إن كان الضمير عائدا إلى الذين قالوا فالمعنى ظاهر، وإن عاد إلى اليهود فالمعنى أخذنا منهم مثل ميثاق اليهود في أفعال الخير والإيمان بالرسل فَأَغْرَيْنا ألصقنا وألزمنا ومنه الغراء الذي يلصق به وغرى بالشيء لزمه ولصق به بَيْنَهُمُ بين فرق النصارى أو بينهم وبين اليهود. ثم دعا اليهود والنصارى إلى الإيمان بمحمد ﷺ فقال: يا أَهْلَ الْكِتابِ ووحد الكتاب لأنه أخرج مخرج الجنس مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ كصفة رسول الله ﷺ وكصفة الرجم
والمراد بعطف من في الأرض على المسيح وأمه أنهما من جنسهم وشكلهم في الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وسائر الأعراض. فلما سلمتم كونه تعالى خالقا لغيرهما وجب أن يكون خالقا لهما ومتصرفا فيهما. وإنما قال: وَما بَيْنَهُما بعد ذكر السموات والأرض ولم يقل «بينهن» لأنه أراد الصنفين أو النوعين. وفي قوله: يَخْلُقُ ما يَشاءُ وجهان:
أحدهما يخلق تارة من ذكر وأنثى، وتارة من أنثى فقط كما في حق عيسى، وتارة من غير ذكر وأنثى كآدم عليه السلام. وثانيهما أن عيسى إذا قدر صورة الطير من الطين فإن الله تعالى يخلق فيها اللحمية والحياة معجزة لعيسى، وكذا إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قيل: عليه أن اليهود لا يقولون ذلك فكيف يجوز نقل ذلك عنهم؟
وأما النصارى فلا يقولون ذلك في حق أنفسهم. وأجيب بأن المضاف محذوف أي نحن أبناء رسل الله أو أريد إن عناية الله تعالى بحالهم أكمل وأشد من اعتناء الأب بالابن، أو اليهود زعموا أن عزيرا ابن الله، والنصارى أن المسيح ابن الله. وقد يقول أقارب الملوك وحشمه نحن الملوك وغرضهم كونهم مختصين بذلك الشخص الذي هو الملك.
عن ابن عباس أن النبي ﷺ دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوفهم بعقاب الله فقالوا: كيف تخوفنا بعقاب الله ونحن أبناء الله وأحباؤه؟
ومما يتلو النصارى في الإنجيل الذي لهم أن المسيح قال لهم: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم. ثم إنه سبحانه أبطل عليهم دعواهم بقوله: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ فسئل أن موضع الإلزام هو عذاب الدنيا فحينئذ تمكن المعارضة بوقعة أحد وبقتل أحباء الله كالحسن والحسين عليهما السلام أو عذاب الآخرة. فالقوم ينكرون
التأويل:
جعل في أمة موسى عليه السلام اثني عشر نقيبا، وجعل في هذه الأمة من النجباء البدلاء أربعين رجلا كما
قال صلى الله عليه وسلم: «يكون في هذه الأمة أربعون على خلق إبراهيم وسبعة على خلق موسى وثلاثة على خلق عيسى عليه السلام وواحد على خلق محمد صلى الله عليه وسلم»
وقال أبو عثمان المغربي: البدلاء أربعون، والأمناء سبعة، والخلفاء ثلاثة، والواحد هو القطب، والقطب عارف بهم جميعا ويشرف عليهم ولا يعرفه أحد ولا يشرف عليه وهو إمام
قال صلى الله عليه وسلم: «اعبد الله كأنك تراه».
وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ بأن تصرف ما زاد من روحانيتك بتعلق القالب في سبيل الله وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي استسلمتم بالكلية لتصرفات النبوّة والرسالة وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ بالوجود كله قَرْضاً حَسَناً وهو أن يأخذ منكم وجودا مجازيا فانيا ويعطيكم وجودا حقيقيا باقيا كما يقول. لَأُكَفِّرَنَّ لأسترن بالوجود الحقيقي عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ الوجود المجازي وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ الوصلة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أنهار العناية وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ لأنّ العصيان يجر إلى العصيان فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ حيث نسوا حظ الميثاق وأبطلوا الاستعداد الفطري صاروا كالسباع يتهارشون ويتجاذبون يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ يجعل أقواما مظهر لطفه وفضله وآخرين مظهر قهره وعدله وهو أعلم بعباده.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٠ الى ٢٦]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤)
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)
جَبَّارِينَ بالإمالة: قتيبة ونصير وأبو عمرو حيث كان. فَلا تَأْسَ بغير همزة حيث وقعت: أبو عمرو ويزيد والأعشى وورش وحمزة في الوقف.
الوقوف:
مُلُوكاً ز جَبَّارِينَ ق قد قيل لشبهة الابتداء بأن ولكن كسر ألف «إن» بمجيئه بعد القول معطوفا على الأول. حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب. داخِلُونَ هـ الْبابَ ج لذلك. غالِبُونَ هـ مُؤْمِنِينَ هـ قاعِدُونَ هـ الْفاسِقِينَ هـ سَنَةً ج لأنها تصلح ظرفا للتيه بعده والتحريم قبله الْفاسِقِينَ هـ.
التفسير:
وجه النظم أنه سبحانه كأنه قال: أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وذكرهم موسى نعم الله وأمرهم بمحاربة الجبارين فخالفوا في الكل. منّ الله عليهم بأمور ثلاثة: أوّلها قوله:
إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وذلك أنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء.
وثانيها قوله: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً قال السدي: أي جعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعد ما استعبدكم القبط. وقال الضحاك: كانت منازلهم واسعة وفيها مياه جارية وكان لهم أموال كثيرة وخدم يقومون بأمرهم ومن كان كذلك كان ملكا. وقال الزجاج: الملك من لا يدخل عليه أحد إلّا بإذنه. وقيل: الملك هو الصحة والإسلام والأمن والفوز وقهر النفس. وقيل:
من كان مستقلا بأمر نفسه ومعيشته ولم يكن محتاجا في مصالحه إلى أحد فهو ملك. وقيل:
كان في أسلافهم وأخلافهم ملوك وعظماء، وقد يقال لمن حصل فيهم ملوك إنهم ملوك مجازا. وقيل: كل نبي ملك لأنه يملك أمر أمته ينفذ فيهم حكمه. وثالثها: وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من فلق البحر وإغراق العدوّ وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك من الخوارق والعظائم. وقيل: أراد عالمي زمانهم.
روي أن إبراهيم عليه السلام لما صعد جبل لبنان قال الله تعالى له: انظر فما أدرك بصرك فهو مقدّس وميراث لذريتك.
وقيل: لما خرج قوم موسى من مصر وعدهم الله إسكان أرض الشام، فكان بنو إسرائيل يسمون أرض الشام أرض المواعيد. ثم بعث موسى عليه السلام اثني عشر نقيبا من الأمناء ليتجسسوا لهم عن أحوال تلك الأراضي، فلما دخلوا تلك البلاد رأوا أجساما عظيمة هائلة.
قال المفسرون: لما بعث موسى النقباء لأجل التجسس رآهم واحد من أولئك الجبارين فأخذهم وجعلهم في كمه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وأتى بهم الملك فنثرهم بين يديه وقال متعجبا للملك: هؤلاء يريدون قتالنا. فقال الملك: ارجعوا إلى صاحبكم
ومعنى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وهبها لكم أو خط في اللوح المحفوظ أنها لكم أو أمركم بدخولها.
قال ابن عباس: كانت هبة ثم حرمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم. وقيل: المراد خاص أي مكتوب لبعضهم وحرام على بعضهم. وقيل: إن الوعد كان مشروطا بالطاعة فلما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط. وقيل: حرمها عليهم أربعين سنة فلما مضى الأربعون حصل ما كتب. وفي قوله: كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ تقوية القلوب وأنّ الله سينصرهم مع ضعفهم على الجبارين مع قوّتهم. وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ لا ترجعوا عن الدين الصحيح إلى الشك في نبوّة موسى عليه السلام وإخباره بهذه النصرة، أو لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها إلى التي خرجتم عنها. فقد روي أن القوم كانوا قد عزموا على الرجوع إلى مصر فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ في الآخرة بفوت الثواب ولحوق العقاب، أو فترجعوا إلى الذل أو تموتوا في التيه غير واصلين إلى شيء من مطالب الدنيا ومنافع الآخرة. والجبار «فعال» من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد وهو اختيار الفراء والزجاج. قال الفراء: لم أسمع «فعالا» من «أفعل» إلّا في حرفين: جبار من أجبر، ودراك من أدرك. ويقال: نخلة جبارة إذا كانت طويلة مرتفعة لا تصل الأيدي إليها. والقوم كانوا في غاية القوّة ونهاية العظم فجبن قوم موسى عنهم حتى قالوا على سبيل المبالغة في الاستبعاد إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ كقوله تعالى:
وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف: ٤٠] قالَ رَجُلانِ هما يوشع وكالب مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا أي بالهداية والثقة بقوله والاعتماد على نصره ومحل أَنْعَمَ اللَّهُ مرفوع صفة لرجلان. ويحتمل أن يكون جملة معترضة. قال القفال: يجوز أن يكون الضمير في يَخافُونَ لبني إسرائيل والعائد إلى الموصول محذوف تقديره من الذين يخافهم بنو إسرائيل وهم الجبارون فعلى هذا الرجلان من الجبارين.
واعلم أن المفسرين اختلفوا في أنّ موسى وهارون هل بقيا في التيه أم لا؟ فقال قوم:
إنهما ما كانا في التيه لأنه دعا أن يفرق بينه وبينهم وكل نبي مجاب، ولأن التيه عذاب
التأويل:
أشار موسى الروح إلى القوى البدنية ادخلوا أرض القلب المقدسة التي كتبها الله تعالى للإنسان المستعد في الفطرة، فهابوا تحمل أعباء المجاهدات ولزوم المخالفات والرياضات فقال لهم رجلان- النفسان اللوّامة والمطمئنة- إنكم غالبون إذا دخلتم باب الجدّ والطلب تستبدل الراحة بالتعب، فلم يعتدّوا بقولهما فحرّم الله تعالى ذلك عليهم أربعين سنة هي مدة استيفاء حظوظ النفس الأمارة وانكسار سورة قواها في الأغلب كقوله: حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الأحقاف: ١٥]. وفي الآية نكتة هي أنّ موسى عليه السلام لما ظن أنه يملك نفسه ونفس أخيه ابتلاه الله في الحال بالدعاء على أمته لأنّ المرء إنما يملك نفسه إذا ملكها عند الغضب فشتان بينه وبين من قال حين شج رأسه وكسرت رباعيته
«اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون»
اللهم صلّ عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وآل كل بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين. قول الله عزّ وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٧ الى ٤٠]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢) إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦)
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠)
القراآت:
لَأَقْتُلَنَّكَ بالنون الخفيفة. روى المعدّل عن زيد يَدِيَ إِلَيْكَ بفتح ياء المتكلم: أبو جعفر ونافع. مِنْ أَجْلِ بكسر النون: يزيد وقرأ ورش بفتح النون موصولة رُسُلُنا بسكون السين حيث كان: أبو عمرو.
الوقوف:
بِالْحَقِّ م على أن «إذ» معمول اذكر محذوفا ولو وصل لأوهم أنه معمول اتْلُ وهو محال مِنَ الْآخَرِ ط لَأَقْتُلَنَّكَ ط الْمُتَّقِينَ هـ لِأَقْتُلَكَ ج لاحتمال إضمار اللام أو الفاء. الْعالَمِينَ هـ النَّارِ ج لاختلاف الجملتين. الظَّالِمِينَ هـ ج لأجل الفاء. الْخاسِرِينَ هـ سَوْأَةَ أَخِيهِ ط أَخِي ج لطول ما اعترض من المعطوف
التفسير:
في النظم وجوه منها: أنه راجع إلى قوله: إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ [المائدة: ١١] فكأنه تعالى ذكر لأجل تسلية نبيّه ﷺ قصصا كثيرة كقصة النقباء وما انجرّ إليه الكلام من إصرار أهل الكتاب وتعنتهم بعد ظهور الدلائل القاطعة، ثم ختمها بقصة ابني آدم وأنّ أحدهما قتل الآخر حسدا وبغيا ليعلم أنّ الفضل كان محسودا بكل أوان. ومنها أنه عائد إلى قوله: يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ [المائدة: ١٥] فإنّ هذه القصة وكيفية إيجاب القصاص بسببها كانت من أسرار التوراة. ومنها أنه من تمام قوله:
نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: ١٨] أي لا ينفعهم كونهم من أولاد الأنبياء مع كفرهم كما لم ينفع قابيل. والمراد اتل على الناس أو على أهل الكتاب خبر ابني آدم من صلبه- هابيل وقابيل- تلاوة ملتبسة بالحق والصحة من عند الله تعالى، أو ملتبسة بالصدق موافقة لما في التوراة والإنجيل أو بالغرض الصحيح وهو تقبيح الحسد والتحذير من سوء عاقبة الحاسد. أو اتل عليهم وأنت محق صادق لا مبطل هازل كالأقاصيص التي لا غناء فيها إِذْ قَرَّبا قال في الكشاف: نصب بالنبا أي قصتهم في ذلك الوقت أو بدل من النبا أي نبأ ذلك الوقت على حذف المضاف، والمقصود إذ قرب كل واحد منهما قربانا إلّا أنه جمعهما في الفعل اتكالا على قرينة الحكاية، أو لأنّ القربان في الأصل مصدر، ثم سمي به ما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو صدقة.
يروى أنّ آدم عليه السلام كان يولد له في كل سنة بطن غلام وجارية، فكان يزوّج البنت من بطن بالغلام من بطن آخر فولد قابيل وتوأمته إقليما وبعدهما هابيل وتوأمته لبودا. وكانت توأمة قابيل أحسن وأجمل فأراد آدم أن يزوّجها من هابيل فأبى قابيل وقال: أنا أحق بها وليس هذا من الله وإنما هو رأيك. فقال آدم لهما: قرّبا قربانا فمن أيكما قبل قربانه زوّجتها منه. فقبل الله قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته فازداد قابيل سخطا وقتل أخاه حسدا.
هذا ما عليه أكثر المفسرين وأصحاب الأخبار. وقال الحسن والضحاك: إنهما ما كانا ابني آدم لصلبه وإنما كانا رجلين من بني إسرائيل لقوله عزّ من
قال مجاهد: كان أقوى من القاتل وأبطش منه ولكنه تحرّج عن قتل أخيه واستسلم له خوفا من الله لأنّ الدفع لم يكن مباحا في ذلك الوقت وهذا وجه قوله: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ وقيل: المعنى لا أبسط يدي إليك لغرض قتلك وإنما أبسط يدي إليك لغرض الدفع. قال أهل العلم: الدافع عن نفسه يجب عليه أن يدفع بالأيسر فالأيسر وليس له أن يقصد القتل بل يجب عليه أن يقصد الدفع، ثم إن لم يندفع إلّا بالقتل جاز له ذلك. ثم قال:
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فسئل أنه كيف يعقل أن يرجع القاتل مع إثم المقتول وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: ١٦٤] ؟ فقال ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة: أي تحمل إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي. وقال الزجاج: ترجع إلى الله بإثم قتلي وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك. وقال في الكشاف: إنه يتحمل مثل الإثم المقدر كأنه قال إني أريد أن تبوء بمثل إثمي لو بسطت إليك يدي. سؤال آخر: كيف جاز أن يريد معصية أخيه وكونه من أهل النار؟ والجواب أن هذا الكلام إنما دار بينهما عند ما غلب على ظن المقتول أنه يريد قتله وكان ذلك قبل إقدام القاتل على إيقاع القتل فكأنه لما وعظه
وروي أنّ الظالم إذا لم يجد يوم القيامة ما يرضي خصمه أخذ من سيئات المظلوم وحمل على الظالم،
فعلى هذا يجوز أن يقال: إني أريد أن تبوء بإثمي الذي يحمل عليك يوم القيامة إذا لم تجد ما يرضيني، وبإثمك في قتلك إياي وهذا يصلح جوابا عن السؤال الأوّل أيضا. فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ وسعته ورخصته وسهلت من طاع له المرتع وأطاع إذا اتسع وله لأجل زيادة الربط كقول القائل: حفظت لزيد ماله. ومنهم من قال: شجعته فقتله. والتحقيق أن الإنسان يعلم أن القتل العمد العدوان من أعظم الذنوب فهذا الاعتقاد يكون صارفا له عن فعله فلا يطاوع النفس الأمارة حتى إذا كثرت وساوسها انقاد لها وخضع. وإضافة التطويع والتمرين إلى النفس لا ينافي كون الكل مضافا إلى قضاء الله فتنبه. يحكى أنّ قابيل لم يدر كيف يقتل هابيل فظهر له إبليس وأخذ طيرا وضرب رأسه بحجر فتعلّم قابيل ذلك منه. ثم إنه وجد هابيل يوما نائما فضرب رأسه بصخرة فمات.
وعن النبي ﷺ أنه قال: «لا تقتل نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها» «١»
وذلك أنه أوّل من سن القتل فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ دنياه وآخرته لأنه أسخط والديه وبقي مذموما إلى يوم القيامة ثم يلقى في النار خالدا. قيل: لما قتل أخاه هرب من أرض اليمن إلى عدن فأتاه إبليس وقال له: إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدم النار ويعبدها. فبنى بيت نار وهو أوّل من عبد النار.
وروي أن هابيل قتل وهو ابن عشرين سنة، وكان قتله عند عقبة حراء.
وقيل: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم.
وروي أنه لما قتله اسودّ جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال: ما كنت عليه وكيلا. فقال: بل قتلته ولذلك اسودّ جسدك.
ومكث آدم بعده مائة سنة لم يضحك وإنه رثاه بشعر هو هذا:
تغيرت البلاد ومن عليها | فوجه الأرض مغبر قبيح |
الترمذي في كتاب العلم باب ١٤. النسائي في كتاب التحريم باب ١. ابن ماجه في كتاب الديات باب ١. أحمد في مسنده (١/ ٣٨٣، ٤٣٠).
تغير كل ذي طعم ولون | وقل بشاشة الوجه المليح. |
الأصم: لما قتله وتركه بعث الله غرابا يحثى على المقتول فلما رأى القاتل أنّ الله تعالى كيف يكرمه بعد موته ندم. وقال أبو مسلم: عادة الغراب دفن الأشياء فجاء غراب فدفن شيئا فتعلم ذلك منه لِيُرِيَهُ أي الله أو الغراب أي ليعلمه وذلك أنه كان سبب تعليمه كَيْفَ يُوارِي محله نصب على الحال من ضمير يُوارِي والجملة منصوبة بيرى مفعولا ثانيا أي ليريه كيفية مواراة سوأة أخيه أي عورته وهو ما لا يجوز أن ينكشف من جسده. وقيل: أي جيفة أخيه. والسوأة السوء الخلة القبيحة يا وَيْلَتى كلمة عذاب. يقال: ويل له وويله ومعناه الدعاء بالإهلاك وقد يقال في معرض الترحم. وإنما طلب إقبال الويل هاهنا على سبيل التعجب والندبة أي احضر حتى يتعجب منك ومن فظاعتك أو احضر فهذا أوان حضورك.
والألف بدل من ياء المتكلم. أَعَجَزْتُ استفهام بطريق الإنكار أَنْ أَكُونَ أي عن أن أكون مِثْلَ هذَا الْغُرابِ أي في الفعلة المذكورة ولهذا قال: فَأُوارِيَ بالنصب على جواب الاستفهام مِنَ النَّادِمِينَ الندم وضع للزوم ومنه النديم لملازمته المجلس. وإنما لم يكن ندمه توبة لأنه لما تعلم الدفن من الغراب صار من النادمين على أنّ حمله على ظهره سنة، أو ندم على قتل أخيه لأنه لم ينتفع بقتله بل سخط عليه أبواه وإخوته، أو ندم لأنه تركه بالعراء استخفافا وتهاونا وكان دون الغراب في الشفقة على مقتوله حتى صار الغراب دليلا وقد قيل:
إذا كان الغراب دليل قوم مِنْ أَجْلِ ذلِكَ القتل قيل: هو من أجل شرا يأجله أجلا إذا جناه كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ إن كان القاتل والمقتول من بني إسرائيل فالمناسبة بين الواقعة وبين وجوب القصاص عليهم ظاهرة، وإن كانا ابني آدم من صلبه فالوجه أن يكون
ومعنى «ثم» تراخي الرتبة.
ثم إنه سبحانه بين أن الفساد في الأرض الموجب للقتل ما هو فقال: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ استدل بالآية من جوز إرادة الحقيقة والمجاز معا من لفظ واحد
جاء في الخبر «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» «١».
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً نصب على الحال أي مفسدين، أو على العلة أي للفساد، أو على المصدر الخاص نحو: رجع القهقرى. لأنّ الفساد نوع من السعي.
عن قتادة عن أنس أن الآية نزلت في العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله ﷺ واستاقوا الذود، فبعث رسول الله ﷺ في آثارهم وأمر بقطع أيديهم وأرجلهم ثم سمل أعينهم وتركهم حتى ماتوا
فكانت الآية ناسخة لتلك السنة. وعند الشافعي لما لم يجز نسخ السنة بالقرآن كان الناسخ لتلك السنة سنة أخرى ونزل هذا القرآن مطابقا للسنة الناسخة. وقيل: نزلت في قوم أبي برزة الأسلمي- وكان بينه وبين رسول الله ﷺ عهد- فمرّ بهم قوم من كنانة يريدون الإسلام وأبو برزة غائب فقتلوهم وأخذوا أموالهم. وقيل: إنها في بني إسرائيل الذين حكى الله عنهم أنهم مسرفون في القتل.
وقيل: في قطّاع الطريق من المسلمين وهذا قول أكثر الفقهاء. قالوا: ولا يجوز حمل الآية على المرتدين لأنّ قتل المرتد لا يتوقف على المحاربة وإظهار الفساد في الأرض، ولأنه لا يجوز الاقتصار في المرتد على قطع اليد أو النفي، ولأن حدّه يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه وبعدها، ولأنّ الصلب غير مشروع في حقه، ولأن اللفظ عام. وشرطوا في هذا المحارب بعد كونه مسلما مكلفا أن يكون معتمد القوة في المغالبة مع البعد عن الغوث فيخرج الكفار والمراهقون والمعتمد على الهرب، وكذا المتعرض للقادر على الاستعانة بمن يغيثه. واتفقوا على أنّ هذه الحالة إذا حصلت في الصحراء كان قاطع الطريق، فأما في نفس البلد فكذلك عند الشافعي لعموم النص. وخالف أبو حنيفة ومحمد لأنه يلحقه الغوث في الغالب فحكمه حكم السارق. وللعلماء في لفظ «أو» في الآية خلاف. فعن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة وقول الحسن وسعيد بن المسيب ومجاهد أنها للتخيير إن شاء الإمام قتل وإن شاء صلب وإن شاء قطع الأيدي والأرجل وإن شاء نفى. وعنه في رواية عطاء أنّ الأحكام تختلف بحسب الجنايات، فمن اقتصر على القتل قتل، ومن قتل وأخذ المال قدر نصاب السرقة قتل وصلب، ومن اقتصر على أخذ المال قطع يده ورجله من خلاف، ومن أخاف السبيل ولم يأخذ المال نفي من الأرض، وإليه ذهب الشافعي والأكثرون. والذي يدل على
وإن جمعوا بين القتل والأخذ يجمع بين القتل والصلب، لأنّ بقاءه مصلوبا في ممر الطريق أشهر وأزجر. وإن اقتصروا على مجرد الإخافة اقتصر الشرع على عقوبة خفيفة هي النفي.
قال أبو حنيفة: إذا قتل وأخذ المال فالإمام مخيّر بين أن يقتل فقط أو يقطع ثم يقتل ويصلب. وعند الشافعي لا بد من الصلب لأجل النص. وكيفية الصلب أن يقتل ويصلّى عليه ثم يصلب مكفنا ثلاثة أيام. وقيل: يترك حتى يتهرى ويسيل صديده أي صليبه وهو الودك. وعند أبي حنيفة يصلب حيا ثم يمزق بطنه برمح حتى يموت أو يترك بلا طعام وشراب حتى يموت جوعا، ثم إن أنزل غسل وكفن وصلّي عليه ودفن، وإن ترك حتى يتهرى فلا غسل ولا صلاة. أما النفي فإنّ الشافعي حمله على معنيين: أحدهما أنهم إذا قتلوا وأخذوا المال فالإمام إن ظفر بهم أقام عليهم الحد، وإن لم يظفر بهم طلبهم أبدا.
فكونهم خائفين من الإمام هاربين من بلد إلى بلد هو المراد من النفي. والثاني الذين يحضرون الواقعة ويعينونهم بتكثير السواد وإخافة المسلمين ولكنهم ما قتلوا وما أخذوا المال، فالإمام يأخذهم ويعزرهم ويحبسهم، فيكون المراد بنفيهم هو هذا الحبس. وقال أبو حنيفة وأحمد وإسحق: النفي هو الحبس لأنّ الطرد عن جميع الأرض غير ممكن، وإلى بلدة أخرى استضرار بالغير، وإلى دار الكفر تعريض للمسلم بالردة، فلم يبق إلّا أن يكون المراد الحبس لأنّ المحبوس لا ينتفع بشيء من طيبات الدنيا فكأنه خارج منها ولهذا قال صالح بن عبد القدوس حين حبسوه على تهمة الزندقة وطال لبثه:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها | فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا |
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة | عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا. |
والأصح أنه لا بدّ مع التوبة من إصلاح العمل لقوله تعالى في الزنا فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما [النساء: ١٦] وفي السرقة فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ ولعل الفائدة في هذا الشرط أنه إن ظهر ما يخالف التوبة أقيم عليه الحد، وإنما يسقط بتوبة قاطع الطريق قبل القدرة عليه تحتم القتل. فالولي يقتص أو يعفو بناء على أن عقوبة قاطع الطريق لا تتمحض حدا بل يتعلق بها القصاص وهو الأظهر، أما إذا محضناه حدا فلا شيء عليه، وإن كان قد أخذ المال وقتل سقط الصلب وتحتم القتل. وفي القصاص وضمان المال ما ذكرنا وإن كان قد أخذ المال سقط عنه قطع الرجل. وفي قطع اليد وجهان: الأظهر السقوط أيضا بناء على أنه جزء من الحد الواجب فإذا لم يقم الكل لم يقم شيء من أجزائه بالاتفاق.
والثاني أنه ليس من خواص قطع الطريق لأنه يجب بالسرقة ففي سقوطه الخلاف في سائر الحدود.
ثم إنه سبحانه لما بيّن كمال جسارة اليهود على المعاصي وغاية بعدهم عن الوسائل إلى الله وآل الكلام إلى ما آل عاد إلى إرشاد المؤمنين ليكونوا بالضدّ منهم فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وأيضا فإنهم قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه أي نحن أبناء الأنبياء وكان افتخارهم بأعمال آبائهم فقيل للمؤمنين: لتكن مفاخرتكم بأعمالكم لا بأسلافكم فقوله: اتَّقُوا اللَّهَ إشارة إلى ترك المنهيات وقوله: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ عبارة عن فعل المأمورات وإن كان ترك المناهي أيضا من جملة الوسائل إلّا أن هذا التقرير مناسب، والفعل والترك أيضا يعتبران في الأخلاق الفاضلة والذميمة وفي الأفكار الصائبة والخاطئة، وأهل التحقيق يسمون الترك والفعل بالتخلية والتحلية أو بالمحو والحضور أو بالنفي والإثبات أو بالفناء والبقاء، والأول مقدّم على الثاني، فما لم يفن عما سوى الله لم يرزق البقاء بالله. والوسيلة «فعيلة» وهي كل ما يتوسل به إلى المقصود ولهذا قد تسمى السرقة توسلا والواسل الراغب إلى الله قال لبيد:
ألا كل ذي لب إلى الله واسل والتوسيل والتوسل واحد يقال: وسل إلى ربه وسيلة وتوسل إليه بوسيلة إذا تقرب إليه
وأجيب بأن الأمر بالابتغاء مؤخر عن الإيمان لقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فعلمنا أن المراد بالوسائل هي العبادات والطاعات. ثم إن ترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي لما كان شاقا على النفس ثقيلا على الطبع لأن العقل يدعو إلى خدمة الله والنفس تدعو إلى اللذات الحسيات والجمع بينهما كالجمع بين الضرتين والضدّين أردف التكليف المذكور بقوله: وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ والمراد بهذا القيد أن تكون العبادة لأجله لا لغرض سواه وهذه مرتبة السابقين.
ثم قال: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ والفلاح اسم جامع للخلاص من المكروه والفوز بالمحبوب وهذه دون الأولى لأن غرضه الرغبة في الجنة أو الرهبة من النار وكلتا المرتبتين مرضية. ثم أشار إلى مرتبة الناقصين بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وخبر «إن» مجموع الجملة الشرطية وهي قوله: لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ أي بالمذكور أو الواو بمعنى «مع» والعامل في المفعول معه وهو المثل ما في «إن» من معنى الفعل أي لو ثبت:
مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ والغرض التمثيل وأن العذاب لازم لهم وقد مر مثله في سورة آل عمران.
وعن النبي ﷺ «يقال للكافر يوم القيامة أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم. فيقال له: قد سئلت أيسر من ذلك» «١».
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا أي يتمنون الخروج من النار أو يقصدون ذلك. قيل: إذا رفعهم لهب النار إلى فوق فهناك يتمنون الخروج. وقيل: يكادون يخرجون منها لقوتها ورفعها إياهم. عمم المعتزلة هذا الوعيد في الكفار وفي الفساق، وخصصه الأشاعرة بالكفار لدلالة الآية المتقدمة. ثم إنه تعالى عاد إلى تتميم حكم أخذ المال من غير استحقاق وهو المأخوذ على سبيل الخفية لا المحاربة فقال: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ وهما مرفوعان على الابتداء والخبر محذوف عند سيبويه والأخفش والتقدير فيما فرض أو فيما يتلى عليكم السارق والسارقة أي حكمها.
وعند الفراء- وهو اختيار الزجاج- أن الألف واللام فيهما بمعنى الذي والتي وخبرهما:
فَاقْطَعُوا ودخول الفاء لتضمنها معنى الشرط كأنه قيل: الذي سرق والتي سرقت فاقطعوا أيديهما. وقراءة عيسى بن عمر بالنصب وفضلها سيبويه على القراءة المشهورة لأن الإنشاء لا يحسن أن يقع خبرا إلّا بتأويل وأما إذا نصبت فإنه يكون من باب الإضمار على شريطة التفسير والفاء يكون مؤذنا بتلازم ما قبلها وما بعدها مثل: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: ٣] وضعف قول سيبويه بأنه طعن في قراءة واظب عليها رسول الله ﷺ وترجيح للقراءة الشاذة
مقتضى الآية ولا سيما في تقدير الفراء عموم القطع بعموم السرقة إلّا أن السنة خصصته بالنصاب. أو نقول: إن أهل اللغة لا يقولون لمن أخذ حبة بر إنه سارق. والمراد بالأيدي اليدان مثل: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم: ٤] وقد انعقد الإجماع على أنه لا يجب قطعهما معا ولا الابتداء باليسرى. واليد اسم موضوع لهذا العضو إلى المنكب ولهذا قيد في قوله: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ [المائدة: ٦] وقد ذهب الخوارج إلى وجوب قطع اليدين إلى المنكبين لظاهر الآية إلّا أن السنة خصصته بالكوع. والحاصل أن الآية عامة لكنها خصصت بدلائل منفصلة فتبقى حجة في الباقي، وهذا أولى من جعلها مجملة غير مفيدة أصلا. ثم إن جمهور الصحابة والفقهاء ذهبوا إلى أن القطع لا يجب إلّا عند شروط كالنصاب والحرز، وخالف ابن عباس وابن الزبير والحسن وداود الأصفهاني والخوارج تمسكا بعموم الآية، ولأن مقادير القلة والكثرة غير مضبوطة، فالذي يستقله الملك يستكثره الفقير. وقد قال الشافعي: لو قال لفلان عليّ مال عظيم ثم فسره بالحبة يقبل لاحتمال أن يريد أنه عظيم في الحل أو عظيم عنده لشدة فقره. ولما طعنت الملحدة في الشريعة بأن اليد كيف ينبغي أن تقطع في قليل مع أن قيمتها خمسمائة دينار من الذهب، أجيب عنه بأن ذلك عقوبة من الشارع له على دناءته. وإذا كان هذا الجواب مقبولا من الكل فليكن مقبولا منا في إيجاب القطع على القليل والكثير. وأيضا اختلاف المجتهدين في قدر النصاب كما يجيء يدل على أن الأخبار المخصصة عندهم متعارضة فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن. ودعوى الإجماع على أن القطع مخصوص بمقدار معين غير مسموعة لخلاف بعض الصحابة والتابعين كما قلنا. واعلم أن الكلام في السرقة يتعلق بأطراف المسروق ونفس السرقة والسارق. وأما المسروق فمن شروطه عند الأكثرين أن يكون نصابا. ثم قال الشافعي: إنه ربع دينار من الذهب الخالص وما سواه يقوم به وهو مذهب الإمامية لما
روي أنه ﷺ قال: «لا
وقال أبو حنيفة: النصاب عشرة دراهم لما
روي أنه ﷺ قال: «لا قطع إلا في ثمن المجن» «٢»
والظاهر أن ثمن المجن لا يكون أقل من عشرة دراهم، وقال مالك: ربع دينار أو ثلاثة دراهم. وعن أحمد روايتان كالشافعي وكمالك. وقال ابن أبي ليلى: خمسة دراهم. وعن الحسن: درهم. وفي مواعظه: «احذر من قطع يدك في درهم».
ومنها أن يكون المسروق ملك غير السارق لدى الإخراج من الحرز. فلو سرق مال نفسه من يد غيره كيد المرتهن والمستأجر أو طرأ ملكه في المسروق قل إخراجه من الحرز بأن ورثه السارق أو اتهبه وهو فيه سقط القطع. ومنها أن يكون محترما لا كخمر وخنزير. ومنها أن يكون الملك تاما قويا. والمراد بالتمام أن لا يكون السارق فيه شركة أو حق كمال بيت المال، وبالقوّة أن لا يكون ضعيفا كالمستولدة والوقف. ومنها كون المال خارجا عن شبهة استحقاق السارق، فلو سرق رب الدين من مال المديون فإن أخذه لا على قصد استيفاء الحق أو على قصده والمديون غير جاحد ولا مماطل قطع، وإن أخذه على قصد استيفاء الحق وهو جاحد أو مماطل فلا يقطع سواء أخذ من جنس حقه أو لا من جنسه. وإذا سرق أحد الزوجين من مال الآخر وكان المال محرزا عنه فعند أبي حنيفة لا يجب القطع. وعند الشافعي ومالك وأحمد يجب. ومنها كون المال محرزا
لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن» «٣»
وحرز كل شيء على حسب حاله. فالإصطبل حرز الدواب وإن كانت نفيسة وليس حرزا للثياب والنقود. والصفة في الدار وعرصتها حرزان للأواني وثياب البذلة دون الحلي والنقود فإن العادة فيها الإحراز في الصناديق والمخازن. وعن أبي حنيفة أن ما هو حرز لمال فهو حرز لكل مال. وأما السرقة فهي إخراج المال عن أن يكون محرزا ولا بد من شرط الخفية فلا قطع على المختلس والمنتهب والمعتمد على القوة، ولا على المودع إذا جحد خلافا لأحمد. وأما السارق فيشترط فيه التكليف والتزام الأحكام والاختيار فيقطع الذمي والمعاهد ولا يقطع المكره. وإنما تثبت السرقة بثلاث حجج: باليمين المردودة أو بالإقرار أو بشهادة رجلين. ويتعلق بها حكمان: الضمان والقطع. وقال أبو حنيفة: القطع والغرم لا
(٢) رواه النسائي في كتاب السارق باب ٩، ١٠.
(٣) رواه النسائي في كتاب السارق باب ١١.
قوله صلى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى تؤدى» «١»
يوجب الضمان.
وقد اجتمع في هذه السرقة أمران، وحق الله لا يمنع حق العباد ولهذا يجتمع الجزاء والقيمة في الصيد المملوك، ولو كان المسروق باقيا وجب رده بالاتفاق. حجة أبي حنيفة قوله تعالى: جَزاءً بِما كَسَبا والجزاء هو الكافي، فهذا القطع كاف في جناية السرقة. ورد بلزوم رد المسروق عند كونه قائما. أما كيفية القطع
فقد روي أنه ﷺ أتى بسارق فقطع يمينه.
قال الشافعي: فإن سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى، فإن سرق ثالثا فيده اليسرى، فإن سرق رابعا فرجله اليمنى، وبه قال مالك. وروي ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
وعند أبي حنيفة وأحمد لا يقطع في الثانية وما بعدها لما
روي عن ابن مسعود أنه قرأ فاقطعوا أيمانهما،
وضعفه الشافعي بأن القراءة الشاذة لا تعارض ظاهر القرآن المقتضي لتكرر القطع بتكرر السرقة. واتفقوا على أنه يقطع اليد من الكوع، والرجل من المفصل بين الساق والقدم. والسيد يملك إقامة الحد على مماليكه لعموم قوله: فَاقْطَعُوا ولم يجوّزه أبو حنيفة. واحتج المتكلمون بالآية في أنه يجب على الأمة نصب الإمام لأن هذا التكليف لا يتم إلّا به وما لا يتم الواجب إلّا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب. وانتصاب جَزاءً ونَكالًا على أنه مفعول لهما، والعامل فَاقْطَعُوا وإن شئت فعلى المصدر من الفعل الذي دل عليه: فَاقْطَعُوا أي جازوهم ونكلوا بهم جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ.
فَمَنْ تابَ من السراق مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ أي سرقته وَأَصْلَحَ أي يتوب بنية صالحة وعزيمة صحيحة خالية عن الأغراض الفاسدة فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ وعند بعض الأئمة تسقط العقوبة أيضا. وعند الجمهور لا تسقط. وباقي الآيات قد مر تفسيره. وإنما قدم التعذيب على المغفرة طباقا لتقدم السرقة على التوبة.
التأويل:
إن آدم الروح بازدواجه مع حواء القالب ولد قابيل النفس وتوأمته إقليما الهوى، ثم هابيل القلب وتوأمته ليوذا العقل، فكان الهوى في غاية الحسن في نظر النفس فبه تميل إلى الدنيا ولذاتها. وكان في نظر القلب أيضا في غاية الحسن فبه يميل إلى طلب المولى، وكان العقل في نظر النفس في غاية القبح لأنها به تنزجر عن طلب الدنيا، وكذا في نظر القلب لأنه بالعقل يمتنع عن طلب الحق والفناء في الله ولهذا قيل: العقل عقيله الرجال، فحرم الله تعالى الازدواج بين التوأمين لأن الهوى إذا كان قرين النفس أنزلها أسفل سافلين الطبيعة، وإذا كان قرين القلب كان عشقا فيوصله إلى أعلى فراديس القرب، وإذا
فوضعا قربانهما على جبل البشرية ثم دعا آدم الروح فنزلت نار المحبة من سماء الجبروت فحملت الصفة البهيمية لأنها حطب هذه النار ولم تأكل من قربان قابيل النفس شيئا لأنها ليست من حطبها بل هي حطب نار الحيوانية تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ أي إثم وجودي وإثم وجودك، فإن الوجود حجاب بيني وبين محبوبي. فقتل قابيل النفس هابيل القلب والنفس أعدى عدو القلب فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ أما في الدنيا فبالحرمان عن الواردات والكشوف، وأما في الآخرة فبالبعد عن جنات الوصول فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً هو الحرص في الدنيا ليشغل بذلك عن فعلتها. وفي تعليم الغراب إشارة إلى أنه تعالى قادر على تعليم العباد بأي طريق شاء فيزول تعجب الملائكة والرسل باختصاصهم بتعليم الخلق فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ أي في أرض البشرية إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ أولياء الله أَنْ يُقَتَّلُوا بسكين الخذلان أَوْ يُصَلَّبُوا بحبل الهجران على جذع الحرمان أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ عن أذيال الوصال وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ عن الاختلاف أَوْ يُنْفَوْا من أرض القربة والائتلاف يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ جعل الفلاح الحقيقي في أربعة أشياء: في الإيمان وهو إصابة رشاش النور في بدو الخلقة وبه يخلص العبد من ظلمة الكفر، وفي التقوى وهو منشأ الأخلاق المرضية ومنبع الأعمال الشرعية وبه الخلاص عن ظلمة المعاصي، وفي ابتغاء الوسيلة وهو إفناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية وبه يخلص من ظلمه أوصاف الوجود، وفي الجهاد في سبيله وهو محو الأنانية في إثبات الهوية وبه يخلص من ظلمة أوصاف الوجود ويظفر بنور الشهود وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها لأنهم خلقوا مظاهر القهر السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ كانا مقطوعي الأيدي عن قبول رشاش النور فكان تطاول أيديهما اليوم إلى أسباب الشقاوة من نتائج قصر أيديهما عن قبول تلك السعادة. جَزاءً بِما كَسَبا الآن في عالم الصورة نَكالًا مِنَ اللَّهِ تقديرا منه في الأزل.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤١ الى ٤٧]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧)
القراآت:
لِلسُّحْتِ بضمتين: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد وعلي.
الباقون بسكون العين. واخشوني بالياء في الحالين: سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل وَالْعَيْنَ وما بعده بالرفع علي وافق أبو عمرو وابن كثير وابن عامر ويزيد في وَالْجُرُوحَ بالرفع. وَالْأُذُنَ وبابه بسكون العين: نافع.
وَلْيَحْكُمْ بالنصب: حمزة. الباقون بالجزم.
الوقوف:
قُلُوبُهُمْ ج أي ومن الذين هادوا قوم سماعون، وإن شئت عطفت وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا على مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا ووقفت على هادُوا واستأنفت بقوله سَمَّاعُونَ راجعا إلى الفئتين، والأول أجود لأن التحريف محكي عنهم وهو مختص باليهود آخَرِينَ لا لأن ما بعده صفة لهم. لَمْ يَأْتُوكَ ط مَواضِعِهِ ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف. فَاحْذَرُوا ط شَيْئاً ط قُلُوبُهُمْ ط عَظِيمٌ هـ لِلسُّحْتِ ط لأن المشروط غير مخصوص بما يليه أَعْرِضْ عَنْهُمْ ج شَيْئاً ط بِالْقِسْطِ ط الْمُقْسِطِينَ هـ ذلِكَ ط لتناهي الاستفهام بِالْمُؤْمِنِينَ هـ وَنُورٌ ج لاحتمال ما بعده
لِلْمُتَّقِينَ ط لمن قرأ وَلْيَحْكُمْ بالنصب فِيهِ ط الْفاسِقُونَ هـ.
التفسير:
خاطب محمدا ﷺ بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ في مواضع ولم يخاطبه بقوله:
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ إلا هاهنا وفي قوله: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [المائدة: ٦٧] ولا شك أنه خطاب تشريف وتعظيم شرف به في هذه السورة التي هي آخر السور نزولا حيث تحققت رسالته في الواقع. أما وجه النظم فهو أنه سبحانه لما بين بعض التكاليف والشرائع وكان قد علم مسارعة بعض الناس إلى الكفر فلا جرم صبر رسول الله ﷺ على تحمل ذلك ووعده أن ينصره عليهم ويكفيه شرهم. والمراد بمسارعتهم في الكفر تهافتهم فيه وحرصهم عليه حتى إذا وجدوا فرصة لم يخطؤها. آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ فيه تقديم وتأخير أي قالوا بأفواههم آمنا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ قابلون لما يفتعله أحبارهم من الكذب على الله وتحريف كتابه والطعن في نبوة محمد ﷺ من قولك: الملك يسمع كلام فلان أي يقبله سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ أي قابلون من الأحبار ومن الذين لم يصلوا إلى مجلسك من شدة البغضاء وإفراط العداوة، ويحتمل أن يراد نفس السماع. واللام في لِلْكَذِبِ لام التعليل أي يسمعون كلامك لكي يكذبوا عليك يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مبدلين ومغيرين سماعون لأجل قوم آخرين وجوههم عيونا وجواسيس مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي التي وضعها الله فيها من أمكنة الحل والحظر والفرض والندب وغير ذلك، أو من وجوه الترتيب والنظم فيهملوها بغير مواضع بعد أن كانت ذات موضع إِنْ أُوتِيتُمْ هذا المحرّف المزال عن موضعه فَخُذُوهُ واعلموا أنه الحق واعملوا به وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ وأفتاكم محمد ﷺ بخلافه فَاحْذَرُوا فهو الباطل.
عن البراء بن عازب قال: مرّ على النبي ﷺ بيهودي محمم مجلود فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم. فدعا رجلا من علمائهم فقال صلى الله عليه وسلم:
أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولولا أنك نشدتني لم أخبرك. نجد حد الزاني في كتابنا الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الوضيع أقمنا عليه الحد فقلنا: تعالوا نجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه به فرجم فأنزل الله الآية إلى قوله: إِنْ أُوتِيتُمْ هذا
وفي رواية أخرى أن شريفا من خيبر زنى بشريفة وهما محصنان وحدهما الرجم في التوراة، فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا رهطا منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله ﷺ عن ذلك وقالوا:
إن أمركم محمد ﷺ بالجلد والتحميم فاقبلوا، وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا وأرسلوا الزانيين معهم، فأمرهم بالرجم فأبوا أن يأخذوا به فقال له جبريل عليه السلام: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا فقال: هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا؟ قالوا.
نعم وهو أعلم يهودي على وجه الأرض ورضوا به حكما. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنشدك الله الذي لا إله إلّا هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه، هل تجدون فيه الرجم على من أحصن؟ قال:
نعم. فوثب عليه سفلة اليهود فقال: خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب. ثم سأل رسول الله ﷺ عن أشياء كان يعرفها من أعلامه فقال: أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنك رسول الله النبي الأمي العربي الذي بشر به المرسلون. وأمر رسول الله ﷺ بالزانيين فرجما عند باب مسجده.
قال العلماء القائلون برجم الثيب الذمي ومنهم الشافعي: إن كان الأمر برجم الثيب الذمي من دين الرسول ﷺ فهو المقصود، وإن كان مما ثبت في شريعة موسى عليه السلام فالأصل بقاؤه إلى طريان الناسخ، ولم يوجد في شرعنا ما يدل على نسخه، وبهذا الطريق أجمع العلماء على أن قوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ حكمه باق في شرعنا. وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ ظاهر الآية أن المراد بالفتنة أنواع الكفر التي حكاها عن اليهود وغيرهم. والمعنى ومن يرد الله كفره وضلالته فلن يقدر أحد على دفع ذلك. ثم أكد هذا بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ وفيه دليل على أنه تعالى لا يريد إسلام الكافر وأنه لم يطهر قلبه من الشك والشرك ولو فعل لآمن. والمعتزلة فسروا الفتنة بالعذاب كقوله: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات: ١٣] أو بالفضيحة أو بالإضلال أي تسميته ضالا، أو المراد ومن يرد الله اختباره فيما يبتليه من التكاليف ثم إنه يتركها ولا يقوم بأدائها فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ ثوابا ولا نفعا. ثم قال: أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ بالألطاف لأنه تعالى علم أنه لا فائدة في تلك الألطاف لأنها لا تنجع في قلوبهم، أو يطهر قلوبهم من الحرج والغم والوحشة الدالة على كفره، أو هو استعارة عن سقوط وقعه عند الله تعالى وأنه غير ملتفت إليه بسبب قبح أفعاله وسوء أعماله.
ثم وصف اليهود بقوله: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وهو الحرام وكل ما لا يحل كسبه من سحته وأسحته أي استأصله لأنه مسحوت البركة، ومال مسحوت أي مذهب. قال
والسحت الرشوة في الحكم ومهر البغي وعسب الفحل وكسب الحجام وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستكساب في المعصية روي ذلك عن علي رضي الله عنه وعمر وعثمان وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد،
وزاد بعضهم ونقص بعضهم وكل ذلك يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا يكون فيه بركة ويكون فيه عار بحيث يخفيه صاحبه لا محالة. قال الحسن: كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه من كان مبطلا في دعواه برشوة سمع كلامه ولا يلتفت إلى خصمه فكان يسمع الكذب ويأكل السحت. وقيل:
كان فقراؤهم يأخذون من أغنيائهم مالا ليقيموا على ما هم عليه من اليهودية فكانوا يسمعون أكاذيب الأغنياء ويأكلون السحت. وقيل: سماعون للأكاذيب التي كانوا ينسبونها إلى التوراة، أكالون للربا لقوله تعالى: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا [النساء: ١٦١]. فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ خيره الله تعالى بين الحكم والإعراض. فقيل: إن هذا الخبر مختص بالمعاهدين الذين لا ذمة لهم. وقيل: إنه في أمر خاص وهو رجم المحصن قاله ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري. وقيل: في قتيل قتل من اليهود في بني قريظة والنضير وكان في بني النضير شرف وكانت ديتهم كاملة وفي قريظة نصف دية، فتحاكموا إلى النبي ﷺ فجعل الدية سواء. وعن النخعي والشعبي وقتادة وعطاء وأبي بكر الأصم وأبي مسلم أن الآية عامة في كل ما جاء من الكفار، وأن الحكم ثابت في سائر الأحكام غير منسوخ. وعن ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وهو مذهب الشافعي أن هذا التخيير منسوخ في حق غير المعاهدين بقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة: ٤٩] فيجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغارا لهم. وأهل الحجاز بعضهم لا يرون إقامة الحدود عليهم يذهبون إلى أنهم قد صولحوا على شركهم وهو أعظم من الحدود ويقولون: إن النبي ﷺ رجم اليهوديين قبل نزول الجزية، ثم إنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلّا لطلب الأسهل والأخف كالجلد مكان الرجم، فإذا أعرض ﷺ عنهم وأبي الحكومة بينهم شق عليهم وعادوا فآمنه الله بقوله:
وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ بالعدل والاحتياط كما حكمت في الرجم. وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ تعجيب من الله لرسوله ﷺ من تحكيمهم لوجوه منها: عدولهم عن حكم كتابهم، ومنها رجوعهم إلى حكم من كانوا يعتقدونه مبطلا، ومنها إعراضهم عن حكمه بعد أن حكموه وهذا غاية الجهالة ونهاية العناد. والواو
فِيها حُكْمُ اللَّهِ فإما أن ينتصب حالا من التوراة على ضعف وهي مبتدأ خبره عِنْدَهُمُ وإما أن يرتفع خبرا عنها والتقدير وعندهم التوراة ناطقة بحكم الله فيكون عِنْدَهُمُ متعلق بالخبر، وإما أن لا يكون له محل ويكون جملة مبينة لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم كقولك: عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب فما تصنع بغيره. وأنثت التوراة لما فيها من صورة تاء التأنيث. ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ عطف على يُحَكِّمُونَكَ و «ثم» لتراخي الرتبة أي ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم. وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إخبار بأنهم لا يؤمنون أبدا، أو المراد أنهم غير مؤمنين بكتابهم كما يدعون، أو المراد أنهم غير كاملين في الإيمان على سبيل التهكم بهم.
ثم رغب اليهود في أن يكونوا كمتقدميهم من أنبيائهم ومسلمي أحبارهم فقال: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً ونور العطف يقتضي التغاير فقيل: الهدى بيان الأحكام والشرائع والنور بيان التوحيد والنبوة والمعاد. وقال الزجاج: الهدى بيان الحكم الذي جاؤوا يستفتون فيه، والنور بيان أن أمر النبي ﷺ حق. وقيل: فيها هدى يهدي للحق والعدل، ونور يبين ما استبهم من الأحكام، فهما عبارتان عن معبر واحد، وقد يستدل بالآية على أن شرع من قبلنا يلزمنا لأن الهدى والنور لا بد أن يكون أحدهما يتعلق بالفروع والآخر بالأصول وإلا كان تكرارا. وأيضا إنها نزلت في الرجم ومورد الآية لا بد أن يكون داخلا فيها سواء قلنا إن غيره داخل أو خارج. ويمكن أن يجاب بأن التكرار بعبارتين غير محذور أو بأن في الكلام تقديما وتأخيرا والمراد فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون. أما قوله: الَّذِينَ أَسْلَمُوا فأورد عليه أن كل نبي مسلم فما الفائدة في هذا الوصف؟ وأجيب بأنها صفة جارية على سبيل المدح لا التوضيح والكشف، وفيه تعريض باليهود أنهم بعداء عن ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء قديما وحديثا لأن غرض الأنبياء الانقياد لتكاليف الله وغرضكم من ادعاء الحكم بالتوراة أخذ الرشا من العوام، فالفريقان متباينان ولهذا أردفه بقوله: لِلَّذِينَ هادُوا أي يحكمون لأجلهم. قال في الكشاف: قوله تعالى: الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا مناد على أن اليهود بمعزل عن الإسلام. قلت: هذا بناء على أن صفة الحاكمين يلزم أن تكون مغايرة لصفة المحكومين. ولقائل أن يقول: بعد تسليم ذلك إنه لم لا يكفي مغايرة العام للخاص؟ وقال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي: المراد بالنبيين هو محمد ﷺ كقوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: ١٢٠] لأنه اجتمع فيه من الخصال ما كانت مفرقة في الأنبياء: وقيل: أسلموا أي انقادوا لحكم التوراة. فمن الأنبياء من لم تكن
وفي الحديث: «يخرج رجل من النار قد ذهب حبره وسبره»
أي جماله وبهاؤه. وتحبير الخط والشعر تحسينه أو من هذا الحبر الذي يكتب به لكون العالم صاحب كتب. قاله الفراء والكسائي وأبو عبيدة. ثم إن ذكر الربانيين بعد النبيين يدل على أنهم أعلى حالا من الأحبار فيشبه أن يكون الربانيون كالمجتهدين والأحبار كآحاد العلماء. وقوله: بِمَا اسْتُحْفِظُوا إما أن يكون من صلة يَحْكُمُ أي يحكم بها الربانيون والأحبار بسبب ما استحفظوا، أو يكون من صلة الأحبار أي العلماء بما استحفظوا بما سألهم أنبياؤهم حفظه. و «من» في مِنْ كِتابِ اللَّهِ للتبيين. وقد أخذ الله تعالى على العلماء أن يحفظوا كتابه من وجهين: أحدهما أن يحفظوه في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم، والثاني أن لا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه. وكانوا أي هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار عليه على أن كل ما جاء في التوراة حق من عند الله شهداء رقباء لئلا يبدل، ويحتمل أن يعود ضمير اسْتُحْفِظُوا إلى النبيين وغيرهم جميعا.
والاستحفاظ من الله أي كلفهم الله حفظه وأن يكونوا عليه شهداء. ثم نهى اليهود المعاصرين عن التحريف لرهبة فقال: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وعن التغيير لرغبة فقال: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وهو الرشوة وابتغاء الجاه. ثم عمم الحكم فقال: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ احتجت الخوارج بالآية على أن كل من عصى الله فهو كافر.
وللمفسرين في جوابهم وجوه: الأول أنها مختصة باليهود وردّ بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولا ريب أن لفظ «من» في معرض الشرط للعموم فلا وجه لتقدير ومن لم يحكم من هؤلاء المذكورين الذين هم اليهود لأنه زيادة في النص. وقال عطاء: هو كفر دون كفر. وقال طاوس: ليس بكفر الملة ولا كمن يكفر بالله واليوم الآخر. فلعلهما أرادا كفران النعمة، وضعف بأن الكافر إذا أطلق يراد به الكافر في الدين. وقال ابن الأنباري: المراد أنه يضاهي الكافر لأنه فعل فعلا مثل فعل الكافر وزيف بأنه عدول عن الظاهر. وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني: معناه من أتى بضد حكم الله تعالى في كل ما أنزل فيخرج الفاسق لأنه في الاعتقاد والإقرار موافق وإن كان في العمل مخالفا. واعترض بأن سبب النزول يخرج حينئذ لأنه نزل في مخالفة اليهود في الرجم فقط، ويمكن أن يقال: المحرّف داخل في الكل. وقال عكرمة: إنما تتناول الآية من أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أما العارف المقر إذا أخل بالعمل فهو حاكم بما أنزل الله تعالى ولكنه تارك فلا تتناوله الآية.
ثم إنه سبحانه لما بيّن أن حكم الزاني المحصن في التوراة هو الرجم واليهود غيروه
روى عبادة بن الصامت أن رسول الله ﷺ قال: «من تصدق من جسده بشيء كفر الله تعالى عنه بقدره من ذنوبه» «١»
وعن عبد الله بن عمرو «يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به»
والثاني أنه يعود إلى الجاني المعفو عنه أي لا يؤاخذه الله تعالى بعد ذلك العفو، وأما العافي فأجره على الله تعالى وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ أي على آثار النبيين بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي عقبناهم به، فتعديته إلى المفعول الثاني بالباء. وقوله: عَلى آثارِهِمْ يسدّ مسد الأول لأنه إذا قفي به على أثره فقد قفي به إياه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي مقرا بأن التوراة كتاب منزل من عند الله تعالى وأنه كان حقا واجب العمل به قبل ورود ناسخه وهو الإنجيل المصدق أيضا لكونه مبشرا بمبعث محمد ﷺ كالتوراة. وأما النور فبيان الأحكام الشرعية وتفاصيل التكاليف، والهدى الأول أصول الديانات كالتوحيد والنبوات والمعاد، والهدى الثاني اشتماله على البشارة بمجيء محمد ﷺ لأن ذلك سبب اهتداء الناس إلى نبوته، واشتمال الإنجيل على المواعظ والنصائح والزواجر ظاهر وخص الجميع بالمتقين لأنهم هم المنتفعون بذلك. ومن قرأ وَلْيَحْكُمْ بالجزم فإما إخبار عما قيل لهم في ذلك الوقت من الحكم بما تضمنه الإنجيل أي قلنا لهم ليحكموا بما فيه، وإما أمر مستأنف للنصارى بالحكم
أما قوله: الْكافِرُونَ الظَّالِمُونَ الْفاسِقُونَ فللمفسرين فيه خلاف. قال القفال: هو كقولك من أطاع الله فهو المؤمن من أطاع الله فهو المتقي، لأن كل ذلك أوصاف مختلفة حاصلة لموصوف واحد، فهذه كلها نزلت في الكفار. وقال آخرون: الأول في الجاحد، والثاني والثالث في المقر التارك. وقال الأصم: الأول والثاني في اليهود، والثالث في النصارى.
التأويل:
سماعون لكذبات الشيطان في وساوسه والنفس في هواجسها سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ يسنون السنة السيئة لغيرهم يُحَرِّفُونَ يغيرون قوانين الشريعة بتمويهات الطبيعة وهذه حال مؤوّلي القرآن والأحاديث على وفق أهوائهم سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ لأن الأخلاق الردية أورثتهم الأعمال الدنية. فالأخلاق نتائج الأعمال والأعمال نتائج الأخلاق وكلها من نتائج الاستعداد الفطري فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ مداويا لدائهم إن رأيت التداوي سببا لشفائهم أو أعرض عنهم إن تيقنت إعواز الشفاء لشقائهم وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ داوهم على ما يستحقون من دائهم بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ الفرق بين بني إسرائيل وبين هذه الأمة أنهم استحفظوا التوراة فضيعوها وحرفوها، وقال في حقنا: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: ٩] وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ كما أن في إهلاك النفس هلاك نفس المهلك ففي إحياء نفس الطالب بحياة الدين حياة نفس محييها، وفي معالجة عين قلبه وأنف قلبه وأذن قلبه وسن قلبه معالجة هذه الأعضاء بمزيد الإدراك.
فَمَنْ تَصَدَّقَ بهذا الإحياء فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ فيما فرط من إحياء نفسه ومعالجة قلبه طرفة عين. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ على نفسه بِما أَنْزَلَ اللَّهُ في تزكيتها وتحليتها فأولئك الذين ظلموا أنفسهم بوضع الحظوظ مقام الحقوق والله أعلم.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٨ الى ٥٨]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧)
وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨)
تبغون بتاء الخطاب: ابن عامر والخراز عن هبيرة. الباقون بالياء.
وَيَقُولُ بالواو وبالرفع: عاصم وحمزة وعلي وخلف، وقرأ أبو عمرو وسهل ويعقوب بالنصب. عياش: مخير. الباقون يَقُولُ بدون واو العطف. مَنْ يَرْتَدَّ بالإظهار: أبو جعفر ونافع وابن عامر. الباقون بالإدغام. وَالْكُفَّارَ بالجر: أبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي. الباقون بالنصب عطفا على محل. الَّذِينَ اتَّخَذُوا وقرأ أبو عمرو وعلي غير ليث وأبي حمدون وحمدويه وابن رستم الطبري عن نصير طريق ابن مهران بالإمالة.
الوقوف:
بِالْحَقِّ ط وَمِنْهاجاً ط الْخَيْراتِ ط تَخْتَلِفُونَ هـ لا لعطف وَأَنِ احْكُمْ على ما قبله. ومن وقف فلأنه رأس آية. أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ط ذُنُوبِهِمْ ط لَفاسِقُونَ هـ يَبْغُونَ ط يُوقِنُونَ هـ أَوْلِياءَ هـ ليلزم النهي عن اتخاذ الأولياء مطلقا. أَوْلِياءُ بَعْضٍ ط مِنْهُمْ ط الظَّالِمِينَ هـ دائِرَةٌ ط لتمام المقول.
نادِمِينَ هـ لا لمن قرأ وَيَقُولُ بالنصب عطفا على أَنْ يَأْتِيَ. جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا لأن قوله: إِنَّهُمْ جواب القسم. لَمَعَكُمْ ط خاسِرِينَ هـ وَيُحِبُّونَهُ لا لأن ما بعده صفة قوم الْكافِرِينَ هـ لشبه الآية. لائِمٍ ط مَنْ يَشاءُ ط عَلِيمٌ هـ راكِعُونَ هـ الْغالِبُونَ هـ أَوْلِياءَ ج للعطف ولطول الكلام. مُؤْمِنِينَ وَلَعِباً ط لا يَعْقِلُونَ هـ.
منّ الله تعالى على نبينا ﷺ بإنزال القرآن إليه مصدقا لما بين يديه من الكتاب أي جنسه وهو كل كتاب سوى القرآن نازل من السماء. وفي المهيمن قولان: قال الخليل وأبو عبيدة: هيمن على الشيء يهيمن إذا كان رقيبا على الشيء وشاهدا ومصدقا. وقال الجوهري: أصله أأمن بهمزتين قلبت الثانية ياء لكراهة اجتماع الهمزتين، ثم الأولى هاء كما في هرقت وهياك. والمعنى إنه أمين على الكتب التي قبله لأنه لا ينسخ البتة ولا يحرف لقوله: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: ٩] ومن هنا قرىء: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فتح الميم أي هو من عليه بأن حوفظ من التغيير والتبديل، والذي هيمن عليه عز وجل كما قلنا، أو الحفاظ في كل بلد والقراء المشهود لهم بالإجادة فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بين اليهود بالقرآن وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ منحرفا عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ أو ضمن لا تتبع معنى لا تحزن. قيل: لولا جواز المعصية على الأنبياء لم يجز هذا النهي. والجواب أن ذلك مقدور له ولكن لا يفعله لمكان النهي. أو الخطاب له والمراد غيره لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ أيها الناس أو الأمم أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد ﷺ لتقدم ذكر الثلاث شِرْعَةً وَمِنْهاجاً قال ابن السكيت:
الشرع مصدر شرعت الإهاب إذا شققته وملحته. وقيل: إنه من الشروع في الشيء الدخول فيه، والشرعة مصدر للهيئة بمعنى الشريعة «فعلة» بمعنى «مفعولة» وهي الأمور التي أوجب الله تعالى على المكلفين أن يشرعوا فيها والمنهاج الطريق الواضح وهما عبارتان عن معبر واحد هو الدين والتكرير للتأكيد. ويحتمل أن يقال: الشريعة عامة والمنهاج مكارم الشريعة، فالأولى أقدم وهذه تتلوها وهي الطريقة. وقال المبرد: الشريعة ابتداء الطريق والطريقة المنهاج المستمر. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً جماعة متفقة على شريعة واحدة أو ذوي أمة واحدة أي دين واحد لا خلاف فيه. وفيه دليل على أن الكل بمشيئة الله تعالى. والمعتزلة حملوه على مشيئة الإلجاء وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ أي جعلكم مختلفين متخالفين ليعاملكم معاملة المختبر هل تعملون بالنواميس الإلهية وتذعنون للعقائد الحقة أم تقصرون في العمل وتتبعون الشبه ولذلك قال فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ سارعوا إليها وتسابقوا نحوها. ويعني بالخيرات هاهنا ما هو الحق من الاعتقادات والمحقق من التكاليف. ثم علّل الاستئناف بقوله: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين المحق والمبطل والعام والمقصر. والمراد أن الأمر سيؤل إلى ما يحصل معه اليقين من مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته وَأَنِ احْكُمْ قيل معطوف على الْكِتابَ أي وأنزلنا إليك أن احكم على أن «أن» المصدرية وصلت بالأمر لأنه فعل كسائر الأفعال، أو على قوله: بِالْحَقِّ أي أنزلناه بالحق وبأن احكم. وأقول: يحتمل أن تكون «أن» مفسرة وفعل الأمر محذوف أي وأمرناك أن احكم. وتكرار الأمر بالحكم إما للتأكيد
وزعم بعض الأئمة أن هذه الآية ناسخة للتخيير في قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ
وعن ابن عباس أن جماعة من اليهود منهم كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشماس بن قيس من أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد ﷺ لعلنا نفتنه عن دينه. فأتوه فقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وأنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قوم خصومة ونحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله ﷺ وأنزل فيهم: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ
محله نصب على أنه مفعول له أي مخافة أن يفتنوك، أو على أنه بدل اشتمال من مفعول احذر. والمراد بالفتنة رده إلى أهوائهم فكل من صرف من الحق إلى الباطل فقد فتن. قال بعض أهل العلم: في الآية دليل على أن الخطأ والنسيان جائزان على النبي صلى الله عليه وسلم، لأن التعمد في مثل هذا غير جائز فلم يبق إلّا الخطأ والنسيان فلو لم يكونا جائزين أيضا لم يكن للحذر فائدة، فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الحكم المنزل أي فإن لم يقبلوا حكمك فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ أما الإصابة فالمراد بها قتلهم وإجلاؤهم، وأما ذكر بعض الذنوب فلأن مجازاتهم ببعض الذنوب كافية في إهلاكهم وتدميرهم، أو أراد بالبعض ذنب التولي عن حكم الله. وفيه أن لهم ذنوبا جمة وأن هذا الذنب عظيم جدا كقول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها. | أو يرتبط بعض النفوس حمامها. |
ثم استفهم منكرا لرأيهم فقال: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وفيه تعيير لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم ومع ذلك يطلبون حكم الملّة الجاهلية التي هي محض الجهل وصريح الهوى.
وقال مقاتل: إن قريظة والنضير طلبوا إليه أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القتلى بواء أي سواء. فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بذلك فنزلت.
وعن الحسن هو عام في كل من يبتغي غير حكم الله. وسئل طاوس عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض فتلا هذه الآية. واللام في قوله: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ للبيان كاللام في: هَيْتَ لَكَ [يوسف: ٢٣] أي هذا لخطاب وهذا الاستفهام لهم لأنهم الذين يعرفون أنه لا أحد أعدل من الله حكما ولا أحسن منه بيانا.
قال عطية العوفي: جاء عبادة بن الصامت فقال: يا رسول الله إن لي موالي من اليهود كثيرا عددهم حاضرا نصرهم
إني رجل أخاف الدوائر ولا أبرأ من ولاية اليهود. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا الحباب ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه. قال: قد قبلت فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ
تعاشرونهم معاشرة المؤمنين. ثم علل النهي بقوله: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ لأن الجنسية علة الضم. ثم أكد ذلك بقوله: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ من جملتهم وحكمه حكمهم ولذلك قال ابن عباس: يريد أنه كافر مثلهم وفيه من التغليظ والتشديد ما فيه. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفرة فوضعوا الولاء في غير موضعه. عن أبي موسى الأشعري قال: قلت لعمر بن الخطاب: إن لي كاتبا نصرانيا فقال: ما لك قاتلك الله ألا اتخذت حنيفا؟ أما سمعت هذه الآية؟ قلت: له دينه ولي كتابته. فقال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أبعدهم الله. قلت: لا قوام بالبصرة إلّا به. قال: مات النصراني والسلام يعني هب أنه قد مات فما كنت تكون صانعا حينئذ فاصنعه الآن. فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعني أمثال عبد الله بن أبي. يُسارِعُونَ فِيهِمْ في موالاة اليهود والنصارى يهود بني قينقاع ونصارى نجران لأنهم كانوا أهل ثروة وكانوا يعينونهم على مهامهم ويقرضونهم يَقُولُونَ يعتذرون عن الموالاة بقولهم: نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ قال الواحدي: هي الدولة ومثلها صروف الزمان ونوائبه. وقال الزجاج: نخشى أن لا يتم الأمر لمحمد فيدور الأمر كما كان قبل ذلك. ثم سلى رسوله والمؤمنين بقوله:
فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فعسى من الله الكريم إطماع واجب. والفتح إما فتح مكة أو مطلق دولة الإسلام وغلبة ذويه. وقوله: أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ المراد به فعل لا يكون للناس فيه مدخل البتة كقذف الرعب في قلوب بني النضير وغيرهم من الكفار. وقيل: هو أن يؤمر النبي ﷺ بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم. فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ من النفاق والشك في أن أمر الرسول ﷺ يتم نادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا قال الواحدي:
حذف الواو هاهنا كإثباتها فلهذا جاء في مصاحف أهل الحجاز والشام بغير واو، وفي مصاحف أهل العراق بالواو، وذلك أن في الجملة المعطوفة ذكرا من المعطوف عليها، فإن قوله: أَهؤُلاءِ إشارة إلى الذين يسارعون، فلما حصل في كل من الجملتين ذكر من الأخرى حسن الوجهان. ووجه العطف مع النصب ظاهر ووجه ذلك مع الرفع على أنه كلام مبتدأ أي ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت. ووجه الفصل هو أن يكون جواب سائل يسأل فماذا يقول المؤمنون حينئذ وإنما يقولون هذا القول فيما بينهم تعجبا من حالهم وفرحا بما
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي بأغلاظ الأيمان نصب على الحال أي يجتهدون جهد أيمانهم أو على المصدر من غير لفظه. حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ من قول الله تعالى أو من جملة قول المؤمنين أي بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها رياء. وفيه معنى التعجب أي ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم حيث بقي عليهم التعب في الدنيا والعذاب في العقبى مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ أي من يتولّ الكفار منكم فيرتد فليعلم أن الله تعالى يأتي بقوم آخرين ينصرون هذا الدين على أبلغ الوجوه. وقال الحسن: علم الله تعالى أن قوما يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم فأخبرهم أنه سبحانه سيأتي بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ فتكون الآية إخبارا عن الغيب وقد وقع فيكون معجزا.
روي في الكشاف أن أهل الردّة كانوا إحدى عشرة فرقة، ثلاث في عهد رسول الله ﷺ بنو مدلج ورئيسهم ذو الحمار الأسود العنسي وكان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده وأخرج عمال رسول الله ﷺ فكتب رسول الله ﷺ إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن فأهلكه الله على يدي فيروز الديلمي، بيته فقتله وأخبر رسول الله ﷺ بقتله ليلة قتل فسر المسلمون وقبض رسول الله ﷺ من الغد وأتى خبره في آخر شهر ربيع الأول. وبنو حنيفة قوم مسيلمة تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ﷺ أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك. فأجاب صلى الله عليه وسلم: من محمد رسول الله ﷺ إلى مسيلمة الكذاب. أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. فحاربه أبو بكر بجنود المسلمين وقتل على يدي وحشي قاتل حمزة وكان يقول: قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام. أراد في جاهليتي وإسلامي.
وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه رسول الله ﷺ خالدا فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه.
وسبع في عهد أبي بكر: فزارة قوم عيينة بن حصن وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة التي زوّجت نفسها مسيلمة الكذاب، وكندة قوم الأشعث بن قيس، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد وحاربهم أبو بكر وكفى الله أمرهم على يديه. وفرقة واحدة في عهد عمر غسان قوم جبلة بن الأيهم كان يطوف بالبيت ذات يوم بعد أن كان أسلم على يد عمر فرأى رجلا جارّا رداءه فلطمه فتظلم الرجل إلى عمر فقضى بالقصاص عليه. فقال: أنا أشتريها بألف فأبى الرجل فلم يزل يزيد في الفداء إلى أن بلغ عشرة آلاف فأبى الرجل إلّا القصاص فاستنظره فأنظره عمر فهرب إلى
إلى الملك القرم وابن الهمام أي هم الجامعون بين المجاهدة لله وبين الصلابة في الدين إذا شرعوا في أمر من أمور الدين، لا يرعبهم اعتراض معترض. وفي وحدة اللوم وتنكير اللائم مبالغتان كأنه قيل: لا يخافون شيئا قط من لوم أحد من اللوام. ذلِكَ الذي ذكر من نعوت الكمال من المحبة والذلة وغيرها فَضْلُ اللَّهِ إحسانه وتوفيقه. قالت الأشاعرة: إنه صريح في أن الأعمال مخلوقة لله تعالى. والمعتزلة حملوه على فعل الألطاف. وضعف بأن اللطف عام في حق الكل فلا بد للتخصيص من فائدة وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ تام القدرة كامل العلم يعلم أهل الفضل فيؤتيهم الفضل.
واعلم أن للمفسرين خلافا في أن القوم المذكورين في الآية من هم. قال الحسن وقتادة والضحاك وابن جريج: هم أبو بكر وأصحابه لأنهم الذين قاتلوا أهل الردة. وقال السدي: نزلت في الأنصار.
وقال مجاهد: هم أهل اليمن لأنها لما نزلت أشار النبي ﷺ إلى أبي موسى الأشعري وقال: هم قوم هذا.
وقال آخرون: هم الفرس لما
روي أنه ﷺ سئل عن هذه الآية فضرب يده على عاتق سلمان وقال: هذا وذووه ثم قال: لو كان الدين معلقا بالثريا لناله رجال من أبناء فارس.
وقالت الشيعة: نزلت في علي رضي الله عنه وكرّم الله
روي أنه ﷺ دفع الراية إلى علي يوم خيبر وكان قد قال: لأدفعن الراية إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله،
ولأن ما بعد هذه الآية نازلة فيه باتفاق أكثر المفسرين.
قال الإمام فخر الدين الرازي: هذه الآية من أدل الدلائل على فساد مذهب الإمامية لأن الذين اتفقوا على إمامة أبي بكر، لو كانوا أنكروا نصا جليا على إمامة علي رضي الله عنه لكان كلهم مرتدين ثم لجاء الله بقوم تحاربهم وتردهم إلى الحق. ولما لم يكن الأمر كذلك بل الأمر بالضد فإن فرقة الشيعة مقهورون أبدا حصل الجزم بعدم النص. ولناصر مذهب الشيعة أن يقول: ما يدريك أنه تعالى لا يجيء بقوم تحاربهم، ولعل المراد بخروج المهدي هو ذلك فإن محاربة من دان بدين الأوائل هي محاربة الأوائل وهذا إنما ذكرته بطريق المنع لا لأجل العصبية والميل فإن اعتقاد ارتداد الصحابة الكرام أمر فظيع والله أعلم. ثم إنه سبحانه لما نهى في الآي المتقدمة عن موالاة الكفار أمر بعد ذلك بموالاة من يحق موالاته فقال: إِنَّما وَلِيُّكُمُ ولم يقل أولياؤكم ليعلم أن ولاية الله أصل والباقي تبع اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وفيه قولان: الأول أن المراد عامة المؤمنين لأنّ الآية نزلت على وفق ما مر من قصة عبادة بن الصامت.
وروي أيضا أن عبد الله بن سلام قال: يا رسول الله إن قومنا قد هجرونا وأقسموا أن لا يجالسونا ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل فنزلت هذه الآية. فقالوا: رضينا بالله تعالى وبرسوله وبالمؤمنين أولياء. ثم قال:
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ
ومحله رفع على البدل أو على هم الذين يقيمون، أو نصب بمعنى أخص أو أعني وفي الكل مدح والغرض تميز المؤمن المخلص عمن يدعي الإيمان نفاقا.
ومعنى وَهُمْ راكِعُونَ قال أبو مسلم: أي منقادون خاضعون لأوامر الله تعالى ونواهيه.
وقيل: المراد ومن شأنهم إقامة الصلاة وخص الركوع بالذكر لشرفه. وقيل: إنّ الصحابة كانوا عند نزول الآية مختلفين في هذه الصفات منهم من قد أتم الصلاة ومنهم من دفع المال إلى الفقير ومنهم من كان بعد الصلاة راكعا فنزلت الآية على وفق أحوالهم. القول الثاني أن المراد شخص معين وجيء به على لفظ الجمع ليرغب الناس في مثل فعله. ثم إن ذلك الشخص من هو؟ روى عكرمة أنه أبو بكر وروى عطاء عن ابن عباس أنه علي عليه السلام.
روي أن عبد الله بن سلام قال: لما نزلت هذه الآية قلت: يا رسول الله أنا رأيت عليا تصدق بخاتمه على محتاج وهو راكع فنحن نتولاه.
وروي عن أبي ذر أنه قال: صليت مع رسول الله ﷺ يوما صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد، فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللهم أشهد أني سألت في مسجد الرسول فما أعطاني أحد شيئا وعليّ عليه السلام كان راكعا فأومأ إليه بخنصره اليمنى وكان فيها خاتم، فأقبل السائل حتى أخذ
فاستدلت الشيعة بها على أن الإمام بعد رسول الله ﷺ هو علي بن أبي طالب عليه السلام لأن الولي هو الوالي المتصرف في أمور الأمة، وأنه علي عليه السلام برواية أبي ذر وغيره.
وأجيب بالمنع من أن الولي هاهنا هو المتصرف بل المراد به الناصر والمحب لأن الولاية المنهي عنها فيما قبل هذه الآية، وفيما بعدها هي بهذا المعنى فكذا الولاية المأمور بها.
وأيضا إن عليا لم يكن نافذ التصرف حال نزول الآية وإنها تقتضي ظاهرا أن تكون الولاية حاصلة في الحال. وأيضا إطلاق لفظ الجمع على الواحد لأجل التعظيم مجاز والأصل في الإطلاق الحقيقة، فالمراد بالذين آمنوا عامة المؤمنين وأن بعضهم يجب أن يكون ناصرا لبعض كقوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة: ٧١] وأيضا الآية المتقدمة نزلت في أبي بكر كما مر من أنه هو الذي حارب المرتدين فالمناسب أن تكون هذه أيضا فيه. ثم إن علي بن أبي طالب عليه السلام كان أعرف بتفسير القرآن من هؤلاء الإمامية فلو كانت الآية دالة على إمامة عليّ لاحتج بها كما احتج بما ينقلون عنه أنه تمسك يوم الشورى بخبر الغدير وخبر المباهلة وجميع مناقبه وفضائله. وهب أنها دالة على إمامته لكنه ما كان نافذ التصرف في حياة رسول الله ﷺ فلم يبق إلا أنه سيصير إماما ونحن نقول بموجبه ولكنه بعد الشيوخ الثلاثة. ومن أين قلتم إنها تدل على إمامته بعد رسول الله ﷺ من غير فصل؟ وأيضا إنهم كانوا قاطعين بأن المتصرف فيهم هو الله ورسوله فلا حاجة بهم إلى ذكر ذلك. فالمراد بقوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أن من كان الله ورسوله ناصرين له فأي حاجة به إلى طلب النصرة والمحبة عن غيره، وإذا كان الولي مستعملا بمعنى النصرة مرة امتنع أن يراد به معنى المتصرف لأنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في كلا مفهومية معا فكأنه تعالى قسم المؤمنين قسمين وجعل أحدهما أنصارا للآخر. وأيضا الزكاة اسم للواجب لا للمندوب، ومن المشهور أن عليا عليه السلام ما كان يجب عليه الزكاة، ولو سلم فاللائق بحاله أن يكون في الصلاة مستغرق القلب بالله فلا يتفرغ لاستماع كلام السائل ولا إلى دفع الخاتم إليه لأنه عمل كثير، اللهم إلا أن يكون الخاتم سهل المأخذ أو كان قد أومأ به إلى السائل فأخذه السائل. والحق أنه إن صحت الرواية فللآية دلالة قوية على عظم شأن علي
صاحب الكشاف: يحتمل أن يراد بحزب الله الرسول والمؤمنون أي ومن يتولهم فقد تولى حزب الله واعتضد بمن لا يغالب. ثم عمم النهي عن موالاة جميع الكفار فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عن ابن عباس: كان رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث قد أظهرا الإسلام ثم نافقا، فكان رجال من المسلمين يوادّونهما فنزلت، يعني أن اتخاذهم دينكم هزوا ولعبا ينافي اتخاذكم إياهم أولياء بل يجب أن يقابل ذلك بالشنئان والبغضاء. وإنما عطف الكفار على أهل الكتاب مع أن أهل الكتاب أيضا كفار والعطف يقتضي المغايرة، لأنه أراد بالكفار المشركين الوثنيين خاصة لما أن كفرهم أغلظ فكانوا أحق باسم الكفر. ومعنى تلاعبهم بالدين واستهزائهم به إظهارهم ذلك باللسان دون مواطأة الجنان. وَاتَّقُوا اللَّهَ في موالاة الكفار إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حقا لأن الإيمان الحقيقي يأبى موالاة أعداء الدين. قال الكلبي: كان منادي رسول الله ﷺ إذا نادى إلى الصلاة فقام المسلمون إليها قالت اليهود: قد قاموا لا قاموا صلوا لا صلوا ركعوا لا ركعوا على طريق الاستهزاء والضحك فنزل وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها أي الصلاة والمناداة. وهذا بعض ما اتخذوه من هذا الدين هزوا ولعبا، فلهذا أردفه بالآية المقدمة الكلية. وقال السدي: نزلت في رجل من النصارى بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله. قال: حرق الكاذب.
فدخل خادمه بنار ذات ليلة وهو نائم وأهله نيام فتطايرت منها شرارة في البيت فاحترق البيت واحترق هو وأهله.
وقال آخرون: إن الكفار لما سمعوا الأذان حسدوا رسول الله والمسلمين على ذلك فدخلوا على رسول الله ﷺ فقالوا: يا محمد لقد أبدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم الخالية. فإن كنت تدعي النبوة فقد خالفت فيما أحدثت من هذا الأذان الأنبياء قبلك، ولو كان في هذا الأمر خير كان أولى الناس به الأنبياء والرسل قبلك، فمن أين لك صياح كصياح العنز؟ فما أقبح من صوت وما أسمج من أمر. فأنزل الله تعالى هذه الآية،
وأنزل: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ قال بعض العلماء: فيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده. وأقول: لو قيل إن أصل الأذان بالمنام والتفرير بنص الكتاب كان أصوب ذلك الاتخاذ. بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ما في الصلاة من المنافع لأنها التوجه إلى الخالق والاشتغال بخدمة المعبود، أو لا يفهمون ما في اللعب والهزء من السفه
التأويل:
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي بالحقيقة لأنه أنزل على قلبه وأنزل سائر الكتب في الألواح والصحف فلهذا كان خلقه القرآن. وكان مهيمنا على جميع الكتب تصديقا عيانيا لا بيانيا بحيث يشاهد قلب المنزل عليه بنوره حقائق جميع الكتب وأسرارها بخلاف ما أنزل في الألواح فإن الألواح لا تشهد ولا تشاهد حقائق الكتب ومعانيها. لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ معاشر الأنبياء شِرْعَةً يشرع فيها بالبيان وَمِنْهاجاً يسلك فيه بالعيان وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ أيها الأمم فِي ما آتاكُمْ من البيان والتبيان والحجج والبرهان والعزة والسلطان، فابتلاكم بزينة الدنيا واتباع الهوى ونيل المنى والرفعة بين الورى والنجاة في العقبى ليهتدي التائبون بالبيان، ويستفيد العاملون بالبرهان، ويحكم العارفون بالسلطان بل يقصد الزاهدون برفض الدنيا ويقدم العابدون بنهي الهوى، ويسلك المشتاقون بنفي المنى، ويجذب العارفون بترك الورى، ويسلب الواصلون بالسلو عن الدنيا والعقبى فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ من هذه المقامات إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً اختيارا بقدم الصدق أو اضطرارا بحلول الأجل فَإِنْ تَوَلَّوْا عن قبول الحق فَاعْلَمْ بمطالعة القضاء أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ في حكم القدر أَنْ يُصِيبَهُمْ مصيبة الإعراض بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وهو الاعتراض، فإن الحق سبحانه يلزم بشرط التكاليف ويقدمهم ويؤخرهم بعين التصريف. فالتكليف فيما أوجب والتصريف فيما أوجدوا العبرة بالإيجاد لا بالإيجاب لَفاسِقُونَ لخارجون عن جذبات العناية أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ أيطلبون منك أن تحيد عن المحجة المثلى بعد ما طلعت شموس الدنيا وسطعت براهين اليقين وانهتكت أستار الريب واستنار القلب بأنوار الغيب يُسارِعُونَ فِيهِمْ لأن شبيه الشيء منجذب إليه أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ فتح عيون القلوب أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ وهو الجذبة التي توازي عمل الثقلين وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا بأنوار الغيوب في أستار القلوب فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ بإبطال الاستعداد الفطري. بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ هم أرباب السلوك أفناهم عنهم بسطوات يحبهم ثم أبقاهم به عند هبوب نفحات يحبونه، فإن محبة الله للعبد إفناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية، ومحبة العبد لله إبقاء اللاهوتية في فناء الناسوتية. والشيخ نجم الدين الرازي المعروف بداية رضي الله عنه قد عكس القضية، فلعله فهم غير ما فهمنا. ثم قال إنه تعالى يحب العبد بصفته ذاته أزلا وهي الإرادة القديمة المخصوصة بالغاية، والعبد يحب الله بذات تلك الصفة أبدا أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لارتفاع الأنانية أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ببقاء اللاهوتية وإثبات الوحدانية يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في طلب الحق في البداية ببذل الوجود وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ عند غلبات الوجد في
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٩ الى ٦٩]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣)
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩)
هَلْ تَنْقِمُونَ وبابه مدغما: حمزة وعلي وهشام. وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ بضم الباء ونصب الدال وجر الطاغوت: حمزة. الباقون بنصب الطاغوت على أن. عَبَدَ فعل ماض عطفا على صلة من كأنه قيل: ومن عبد الطاغوت. مبصوطتان بالصاد مثل وزاده بصطة [البقرة: ٢٤٧] وقد مر في البقرة. رِسالَتَهُ أبو عمرو وابن كثير وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون رِسالاتِهِ.
الوقوف:
مِنْ قَبْلُ لا لعطف وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ على أَنْ آمَنَّا. فاسِقُونَ هـ عِنْدَ اللَّهِ ط لتناهي الاستفهام والتقدير هو. مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ ط ومن جعل محله جرا على البدل من شَرٌّ لم يقف. الطَّاغُوتَ ط السَّبِيلِ ط خَرَجُوا بِهِ ط يَكْتُمُونَ هـ السُّحْتَ ط يَعْمَلُونَ هـ السُّحْتَ ط يَصْنَعُونَ هـ مَغْلُولَةٌ ط وقيل: لا وقف ليتصل قوله: غُلَّتْ وهو جزاء قولهم يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ. بِما قالُوا م لئلا يوهم أن قوله: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ مفعول قالُوا. مَبْسُوطَتانِ ط لأن قوله: يُنْفِقُ من مقصود الكلام فلا يستأنف. كَيْفَ يَشاءُ ط وَكُفْراً ط يَوْمِ الْقِيامَةِ ط أَطْفَأَهَا اللَّهُ لا قال السجاوندي: لأن الواو للحال أي وهم يسعون وفيه نظر. فَساداً ط الْمُفْسِدِينَ هـ النَّعِيمِ هـ أَرْجُلِهِمْ ط مُقْتَصِدَةٌ ط يَعْمَلُونَ هـ مِنْ رَبِّكَ ط رِسالَتَهُ ط مِنَ النَّاسِ ط الْكافِرِينَ هـ مِنْ رَبِّكُمْ ط وَكُفْراً ج لاختلاف النظم مع فاء التعقيب.
الْكافِرِينَ هـ يَحْزَنُونَ هـ.
التفسير:
لما حكى عنهم أنهم اتخذوا دين الإسلام هزوا ولعبا قال لهم: ما الذي تنقمون من أهل هذا الدين. نقمت على الجل أنقم بالكسر، إذا عتبت عليه، ونقمت بالكسر لغة ونقمت الأمر أيضا إذا كرهته وأنكرته. وسمى العقاب نقمة لأنه يجب على ما ينكر من الفعل. والمعنى هل تعيبون منا وتنكرون إلّا الإيمان بالكتب المنزلة كلها؟ وليس هذا مما يوجب عتبا وعيبا لأن الإيمان بالله رأس جميع الطاعات، وأما الإيمان بمحمد ﷺ وجميع الأنبياء عليهم السلام فهو الحق الذي لا محيد عنه لأن الطريق إلى تصديق الأنبياء هو المعجز وأنه حاصل في الكل فلا وجه للإيمان ببعض والكفر ببعض. ثم عطف عليه: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ والمراد ما تنقمون منا إلّا الجمع بين إيماننا وبين تمرّدكم كأنه قيل: ما تنكرون منا إلّا مخالفتكم فآمنا وما فسقنا مثلكم. وفيه من حسن الازدواج والطباق ما فيه كقول القائل: هل تنقم مني إلّا أني عفيف وأنك فاجر. ويجوز أن يعطف على المجرور أي ما تنقمون منا إلّا الإيمان بالله وبما أنزل وبأن أكثركم خارجون عن الدين، ويجوز أن تكون الواو بمعنى «مع» أي ما تنكرون منا إلّا الإيمان مع فسقكم لأن أحد الخصمين إذا كان مكتسبا للصفات
قال ابن عباس: أتى نفر من اليهود إلى رسول الله ﷺ فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال: أؤمن بالله وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ [البقرة: ١٣٦] إلى قوله وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: ١٣٦]
فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: والله ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم، ولا دينا شرا من دينكم، فأنزل الله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ يعني المتقدم وهو الإيمان، ولا بدّ من حذف مضاف قبله أو قبل من تقديره بشر من أهل ذلك أو دين من لعنه الله ومَثُوبَةً نصب على التمييز من شَرٌّ وهي من المصادر التي جاءت على «مفعول» كالميسور والمجلود ومثلها المشورة، وقرىء مثوبة كما يقال مشورة والمثوبة ضدّ العقوبة.
واستعمال أحد الضدّين مكان الآخر مجاز رخصه إرادة التهكم مثل: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: ٢١] وقد أخرج الكلام هاهنا على حسب قولهم واعتقادهم وإلّا فلا شركة بين المسلمين وبين اليهود في أصل العقوبة حتى يقال إن عقوبة أحد الفريقين شر، ولكنهم حكموا بأن دين الإسلام شر فقيل لهم: هب أن الأمر كذلك ولكن لعن الله وغضبه ومسخ الصور شر من ذلك. قال المفسرون: عنى بالقردة أصحاب السبت وبالخنازير كفار مائدة عيسى عليه السلام. ويروى أن كلا المسخين كان في أصحاب السبت لأن شبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير، ولهذا كان المسلمون يعيرون اليهود بعد نزول الآية ويقولون: يا إخوة القردة والخنازير فينكسون رؤوسهم. أما قوله: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ فقد ذكر في الكشاف فيه أنواعا من القراءة لا مزيد فائدة في تعدادها لشذوذها إلّا قراءة حمزة، والوجه فيه أن العبد بمعنى العبد إلّا أنه بناء مبالغة كقولهم: رجل حذر وفطن البليغ في الحذر والفطنة. قال الشاعر:
أبني لبيني إن أمكم... أمة وإن أباكم عبد
أبني لبيني لستم بيد | إلّا يدا ليست لها عضد |
هو العجل. وقيل: هو الأحبار. والظاهر أنه كل ما عبد من دون الله، وكل من أطاع أحدا في معصية فقد عبده. احتجت الأشاعرة بالآية على أن الكفر بجعل الله تعالى. وقالت المعتزلة: معنى هذا الجعل أنه حكم عليهم بذلك ووصفهم به كقوله: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: ١٩] أو أنه خذلهم حتى عبدوها. أُولئِكَ الملعونون الممسوخون شَرٌّ مَكاناً من المؤمنين. قال ابن عباس: إن مكانهم سقر ولا مكان شر منه. وقال علماء البيان: هو من باب الكناية لأنه ذكر المكان وأريد أهله الذي هو ملزوم المكان. وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ قصده ووسطه. كان ناس من اليهود يدخلون على رسول الله ﷺ يظهرون له الإيمان نفاقا فأخبره الله بشأنهم وأنهم يخرجون من مجلسه كما دخلوا لم يؤثر فيهم شيء من النصيحة والموعظة قط. وقوله: بِالْكُفْرِ وبه حالان أي ملتبسين بالكفر، وكذلك قوله: وَقَدْ دَخَلُوا وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا ولذلك دخلت «قد» تقريبا للماضي من الحال، وليفيد التوقع أيضا. وذلك أن أمارات النفاق كانت لائحة على صفحات أحوالهم فكان رسول الله ﷺ متوقعا لإظهار الله أسرارهم. والعامل في هذه الحال قالوا: وفي الأولى: دَخَلُوا وخَرَجُوا أي قالوا آمنا وحالهم أنهم دخلوا كافرين وخرجوا كافرين. وإنما ذكر عند الخروج كلمة «هم» لتأكيد إضافة الكفر إليهم. ونفى أن يكون من النبي ﷺ في ذلك فعل أي لم يسمعوا منك يا محمد عند جلوسهم ما يوجب كفرا فتكون أنت الذي ألقيتهم في الكفر، بل هم الذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم. وهاهنا استدل المعتزلي على صحة مذهبه أن الكفر من العبد لا من الله ولكنه معارض بالعلم والداعي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ فيه أن حسدهم وخبثهم لا يحيط به إلا الله فما أعظم ذلك وأبلغ. الإثم الكذب كقوله بعد: عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ والعدوان الظلم وقيل: الإثم ما يختص بهم، والعدوان ما يتعداهم إلى غيرهم. وقيل: الإثم كلمة الشرك قولهم عزير ابن الله. وفي الآية فوائد منها: ذكر كثير لأن كلهم كان لا يفعل ذلك إذ بعضهم يستحيي فيترك.
ومنها أن المسارعة إنما تليق بالخيرات وإنهم كانوا يستعملونها في المنكرات. ومنها أن الإثم يتناول جميع المعاصي فذكر بعده العدوان وأكل السحت ليدل على أنهما أعظم أنواع الإثم والكلام في معنى السحت. وفي تفسير الربانيين والأحبار قد مر في السورة عن قريب. وقال
قد أصبحت بيد الشمال زمامها
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: ٢٩] وكما علمهم الدعاء على المنافقين في قوله: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [البقرة: ١٠] وعلى أبي لهب في قوله: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: ١] ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة أو إخبارا. قال الحسن: يغللون في الدنيا أسارى وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم فيكون الطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز. وإنما لم يقل فغلت أيديهم مع أن الجزاء يناسب فاء التعقيب ليكون قوله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ كالكلام المبتدأ به فيزيده قوة ووثاقة لأن الابتداء بالشيء يدل على شدة الاهتمام به وقوة الاعتناء بتقريره. وَلُعِنُوا بِما قالُوا قال الحسن: عذبوا في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار. ومما وقع في عصرنا من إعجاز القرآن ما حكي أن متغلب من اليهود مسمى بسعد الدولة وهو من أشقي الناس كان قد سمع بهذه الآية، فاتفق أن وصل إلى بغداد فنزل بالمدرسة المستنصرية ودعا بمصحف كان مكتوبا بأحسن خط وأشهره من خطوط الكتاب الماضين، وكان يعلم أن أهل هذا العصر لا يقدرون على كتابة مثله ثم قال:
أين هذه الآية يعني قوله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا فأروه إياها فمحاها، فلم يمض أسبوع إلّا وقد سخط السلطان عليه فبعث في طلبه وأمر بغل يديه فغلوه وحملوه إليه فأمر بقتله. ثم إنه سبحانه ردّ على اليهود بقوله: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ واليد في اللغة تطلق على الجارحة المخصوصة- وهو ظاهر- وعلى النعمة. يقال: لفلان عندي يد أشكرها له. وعلى القوة مثل: أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ [ص: ٤٥] فسر بذوي القوى والعقول ومنه لا يدين له بهذا. والمعنى سلب كمال القدرة. وعلى الملك تقول: هذا بيد فلان أي ملكه قال تعالى:
بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ [البقرة: ٢٣٧] وقد يراد به شدة العناية قال: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: ٧٥] ويقال: يدي لك رهن بالوفاء إذا ضمنت له شيئا. ولا شك أن اليد بمعنى الجارحة في حقه تعالى محال للدليل الدال على أنه ليس بجسم ولا ذي أجزاء خلافا للمجسمة، وأما سائر المعاني فلا بأس بها. وكان طريقة السلف الإيمان بها وأنها من عند الله ثم تفويض معرفتها إلى الله. وقد جاء في بعض أقوال أبي الحسن الأشعري أن اليد صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء لقوله: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: ٧٥] والمراد تخصيص آدم بهذا التشريف ونص القرآن ناطق بإثبات اليد تارة: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: ١٠]. وبإثبات اليدين أخرى كما في الآية، وبإثبات الأيدي أخرى: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس: ٧١] ووجه التوحيد والجمع ظاهر. وأما وجه التثنية فذلك أن من أعطى بيديه فقد أعطى على أكمل الوجوه فكان أبلغ في رد كلام القوم خذلهم الله، أو
والحاصل أنه سبحانه وعدهم سعادة الدارين بشرط الإيمان بما جاء به محمد ﷺ وقدم السعادة الأخروية بقسميها وهما دفع العذاب وإيصال الثواب لشرفها. ثم فصل حالهم فقال: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ طائفة متوسطة في الغلو والتقصير، وذلك أن من عرف مقصوده فإنه يكون قاصدا له على الطريق المستقيم من غير انحراف ولا اضطراب بخلاف من لا مقصد له فإنه يذهب متحيرا يمينا وشمالا، فجعل الاقتصاد عبارة عن العمل المؤدي إلى الغرض ومن هم فيه قولان: أحدهما الكفار من أهل الكتاب الذين يكونون عدولا في دينهم ولا يوجد فيهم عناد شديد ولا غلظة كاملة، والثاني هم المؤمنون منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعين من النصارى. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ فيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أسوأ عملهم لكونهم أجلافا متعصبين لا ينجع فيهم القول ولا يؤثر فيهم الدليل قيل: هم كعب بن الأشرف وأصحابه والروم.
ثم أمر رسوله بأن لا ينظر إلى قلة المقتصدين وكثرة المعاندين ولا يتخوف مكروههم فقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ
عن أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت في فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه يوم غدير خم، فأخذ رسول الله ﷺ بيده وقال: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. فلقيه عمر وقال: هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي.
وروي أنه ﷺ نام في بعض أسفاره تحت شجرة وعلق سيفه عليها فأتاه أعرابي وهو نائم فأخذ سيفه واخترطه وقال: يا محمد، من يمنعك مني؟
فقال: الله. فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف من يده وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ونزل: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ
وقيل: لما نزلت آية التخيير: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ [الأحزاب: ٢٨] فلم يعرضها عليهن خوفا من اختيارهن الدنيا نزلت يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ وقيل: نزلت في أمر زيد وزينب بنت جحش.
وقيل: لما نزل وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنعام: ١٠٨] سكت رسول الله ﷺ عن عيب آلهتهم فنزلت.
أي بلغ معايب آلهتهم ولا تخفها.
وقيل: إنه ﷺ لما بين الشرائع والمناسك في حجة الوداع. قال: هل بلغت؟ قالوا: نعم. فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد فنزلت.
وقيل: نزلت في قصة
وقال الحسن: إن نبي الله قال: لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعا وعرفت أن من الناس من يكذبني واليهود والنصارى وقريش يخوفونني فنزلت الآية فزال الخوف.
وقالت عائشة: سهر رسول الله ﷺ ذات ليلة فقلت: يا رسول الله ما شأنك؟
قال: ألا رجل صالح يحرسني الليلة. قالت: فبينما نحن في ذلك سمعت صوت السلاح فقال: من هذا؟ قال سعد وحذيفة: جئنا نحرسك. فنام رسول الله ﷺ حتى سمعت غطيطه فنزلت هذه الآية، فأخرج رسول الله ﷺ رأسه من قبة أدم فقال: انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله.
وعن ابن عباس قال: كان رسول الله ﷺ يحرس فكان يرسل معه أبو طالب كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت هذه الآية. فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسونه فقال: يا عماه إن الله تعالى قد عصمني من الجن والإنس.
ومعنى قوله: ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ جميع ما أنزل إليك وأي شيء أنزل إليك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ما أمرتك به كما أمرتك به فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ من قرأ على الوحدة فلأنّ القرآن كله رسالة واحدة، أو لأن الرسالة اسم المصدر فيقع على الواحد وعلى الجمع. ومن جمع فلأن كل آية أو حكم رسالة. فإن قيل:
معنى قوله: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ إن لم تبلغ رسالته فما بلغت رسالته فما وجه صحته؟ فالجواب أن هذا جار على طريق التهديد والمراد إن لم تبلغ منها أدنى شيء فأنت كمن لم يبلغ شيئا لأن أداء بعضها ليس أولى من أداء البعض الآخر كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها. أو المراد إن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله فوضع السبب موضع المسبب، ويعضده ما
روي أنه ﷺ قال: بعثني الله برسالاته وضقت بها ذرعا فأوحى الله إليّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت.
فإن قيل: أين ضمان العصمة وقد جرى عليه يوم أحد ما جرى؟ فالجواب أن الآية نزلت بعد يوم أحد. أو المراد أنه يعصمه من القتل وعليه أن يحتمل كل ما دون النفس والناس الكفار لقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أي لا يمكنهم مما يريدون. ثم لما أمره بتبليغ أي شيء كان طاب للسامع أو ثقل عليه أمره أن يقول لأهل الكتاب: لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي على دين يعتد به كما تقول: هذا ليس بشيء تريد تحقير شأنه، وباقي الآية مكرر للتأكيد. ومعنى فَلا تَأْسَ لا تأسف ولا تحزن عليهم بسبب زيادة طغيانهم فإن وبال ذلك عائد عليهم، أو لا تأسف بسبب نزول اللعن والعذاب عليهم فإنهم من الكافرين المستحقين لذلك. يقال:
آسى على مصيبته يأسى أسى أي حزن. ثم لما بين أن أهل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا بيّن أن هذا الحكم عام في الكل وأنه لا يحصل لأحد منقبة ولا سعادة إلّا إذا آمن وعمل صالحا، وذلك أن كمال القوة النظرية لا يحصل إلّا بمعرفة المبدأ والمعاد- أعني
التأويل:
شر الفريقين من جعله الله مستعدا لقبول فيض القهر من اللعن والغضب، وجعل صفة الفردية والخنزيرية أعني الحيلة والحرص والشهوة من بعض خصائصهم.
أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً من القردة والخنازير لأن القردة والخنازير لا استعداد لهم وهؤلاء قد أبطلوا استعدادهم الفطري ومثله: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف: ١٧٩] ولهذا دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به. الربانيون مشايخ الطريقة والأحبار علماء الشريعة. غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ كانت أيديهم من إصابة الخير مغلولة ومشامهم عن تنسم روائح الصدق مزكومة فلهذا قالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ وكل إناء يرشح بما فيه. ولكن الذي أدركته العناية الأزلية وسلبت عنه صفات الظلومية والجهولية صلى الله عليه وسلم
قال: «يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ينفق كيف يشاء» «١»
بيدي اللطف والقهر على المؤمنين من الهداية والإحسان، وعلى
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٠ الى ٨١]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩)
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١)
أَلَّا تَكُونَ بالرفع: أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم وحمزة وعلي وخلف غير سهل وحفص وأبي بكر وحماد. الباقون بالنصب.
الوقوف:
رُسُلًا ط أَنْفُسُهُمْ لا لأن عامل كُلَّما قوله كَذَّبُوا يَقْتُلُونَ هـ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ط بِما يَعْمَلُونَ هـ ابْنُ مَرْيَمَ ط وَرَبَّكُمْ ط النَّارُ ط مِنْ أَنْصارٍ هـ ثَلاثَةٍ لا لئلا يوهم أن ما بعده من قول الكفار واحِدٌ ط أَلِيمٌ هـ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ط والوصل أيضا حسن بناء على أن الواو للحال أي هلا يستغفرونه وهو غفور رَحِيمٌ هـ رَسُولٌ ج لاحتمال ما بعده الصفة والاستئناف الرُّسُلُ ط لأن الواو للاستئناف لا للعطف صِدِّيقَةٌ ط لأن ما بعده لا يصلح للصفة لأن الضمير في كانا مثنى الطَّعامَ ط يُؤْفَكُونَ هـ وَلا نَفْعاً ط والوصل يحسن على أن الواو للحال أي يعبدون ما لا ينفع ولا يضر والحال أن الله يسمع دعاء المضطر ويعلم رجاء المعتر الْعَلِيمُ هـ السَّبِيلِ هـ ابْنِ مَرْيَمَ ط يَعْتَدُونَ هـ فَعَلُوهُ ط يَفْعَلُونَ هـ كَفَرُوا ط خالِدُونَ هـ فاسِقُونَ هـ أَشْرَكُوا ج لطول الكلام والفصل بين الوصفين المتضادين نَصارى ط لا يَسْتَكْبِرُونَ هـ مِنَ الْحَقِّ ج لاحتمال ما يتلوه الحال والاستئناف الشَّاهِدِينَ هـ مِنَ الْحَقِّ لا لأن الواو بعده للحال.
الصَّالِحِينَ هـ خالِدِينَ فِيها ط الْمُحْسِنِينَ هـ الْجَحِيمِ هـ.
افتتح الله تعالى السورة بقوله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وانجر الكلام إلى ما انجرّ والآن عاد الى ما بدأ به والمقصود بيان عتوّ بني إسرائيل وشدة تمردهم أي أخذنا ميثاقهم بخلق الدلائل وخلق العقل الهادي إلى كيفية الاستدلال وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا لتعريف الشرائع والأحكام. قال في الكشاف كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ إلخ جملة شرطية وقعت صفة ل رُسُلًا والراجع الى الموصوف محذوف أي رسول منهم. وأقول: الأصوب جعلها جملة مستأنفة جوابا لسائل يسأل كيف فعلوا برسلهم؟ ولهذا كان الوقف على رُسُلًا مطلقا، أما جواب الشرط فاختار في الكشاف أنه محذوف لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين ولأنه لا يحسن أن يقال: إن أكرمت أخي أخاك أكرمت فالتقدير: كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه أو عادوه وقوله فَرِيقاً كَذَّبُوا جواب قائل: كيف فعلوا؟ وأقول أما أن التركيب المذكور غير مستحسن فعين النزاع، وأما أن الرسول الواحد لا يكون فريقين فتغليط لأن قوله كُلَّما يدل على كثرة مجيء الرسل فلهذا صح جعلهم فريقين ومعنى بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ بما يضاد شهواتهم لرغبتهم عن التكاليف، وفائدة تقديم المفعول وإيراد يَقْتُلُونَ مضارعا ذكرناها في سورة البقرة وزعم في التفسير الكبير أنه ذكر التكذيب بلفظ الماضي لأنه إشارة إلى معاملتهم مع موسى عليه السلام في البتة وتمردهم عن قبول قوله وقد انقضى من ذلك الزمان أدوار كثيرة، وذكر القتل بلفظ المستقبل لأنه رمز إلى ما فعلوا بزكريا ويحيى وعيسى على زعمهم وإن ذلك الزمان قريب فكان كالحاضر. وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال علماء الأدب: الأفعال على ثلاثة أضرب: فعل يدل على ثبات الشيء كالعلم والتيقن فيقع بعده أن المشددة الدالة على ثبات الشيء أيضا لتأكيد مقتضاه كقوله وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور: ٢٥] فإن خففت ودخلت على الفعل لم يجز إلا أن يكون مع فعله «قد» أو «سوف» أو «السين» أو حرف نفي ليكون كالعوض من إحدى النونين وقيل: من حذف ضمير الشأن مثل عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ [المزمل: ٢٠] وفعل يدل على خلاف الثبات والاستقرار نحو «أطمع» و «أخاف» و «أرجو» فلا يجيء معه إلا الخفيفة الناصبة للفعل كقوله وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي [الشعراء: ٨٢] وفعل يحتمل المعنيين فيجوز فيه كلا الوجهين كقوله وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ قرىء بالنصب على أن المصدرية، وكون الحسبان بمعنى الظن وبالرفع على أن المخففة أي أنه لا تكون فتنة فخففت أن وحذف ضمير الشأن، ونزل حسبانهم لقوته في صدورهم منزلة العلم، وما يشتمل عليه صلة «أن» و «أنّ» من المسند والمسند إليه سد مسد المفعولين و «كان» تامة. والمعنى: وحسب بنو إسرائيل أنه لا تقع فتنة وهي محصورة في عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. وعذاب الدنيا أقسام منها: القحط
الأول أنهم كانوا يعتقدون أن لا نسخ لشريعة موسى، وأن كل رسول جاء بعده يجب تكذيبه، والثاني أنهم اعتقدوا كونهم مخطئين في التكذيب والقتل إلا أنهم كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه وأن نبوّة إسلافهم تدفع العقاب عنهم. ثم إن الآية تدل على أن عماهم عن الدين وصممهم عن الحق حصل مرتين، فقال بعض المفسرين: إنهم عموا وصموا في زمان زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام ثم تاب الله على بعضهم حيث وفقهم للإيمان به ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ في زمان محمد ﷺ فأنكروا نبوّته إلا بعضهم كعبد الله بن سلام وأصحابه. وقوله كَثِيرٌ مِنْهُمْ بدل عن الضمير كقولك: رأيت القوم أكثرهم، وقيل: إنه على لغة من يقول «أكلوني البراغيث» وقيل: خبر مبتدأ محذوف أي أولئك كثير منهم، وقال بعضهم: عَمُوا وَصَمُّوا حين عبدوا العجل ثم تابوا منه فتاب الله عليهم ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ بالتعنت وهو طلب رؤية الله جهرة. وقال القفال: إنه يجوز أن يكون إشارة إلى ما في سورة بني إسرائيل فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما [الإسراء: ٥] فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ [الإسراء: ٧] وقرىء فَعَمُوا وَصَمُّوا بالضم أي رماهم الله وضربهم بالعمى والصمم كما يقال: ركبته إذا ضربته بالركبة. ثم إنه سبحانه لما استقصى الكلام مع اليهود شرع في حكاية كلام النصارى فحكى عن فريق منهم أنهم قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وهذا قول اليعقوبية القائلين إن مريم ولدت إلها، ولعل مرادهم أنه تعالى حل في ذات عيسى أو اتحد به. ثم حكى عن المسيح ما حكى ليكون حجة قاطعة على فساد ما اعتقدوا فيه وذلك أنه لم يفرق بين نفسه وبين غيره في المربوبية وفي ظهور دلائل الحدوث عليه، ثم أكد ذلك المعنى بقوله: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ أي في العبادة أو في تجويز الحلول أو الاتحاد أو في إجراء وصفه في المخلوقين أو بالعكس فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ التي هي دار الموحدين أي منعه منها وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ من كلام الله تعالى أو من حكاية قول عيسى عليه السلام لهم وقد مر تفسيره في آخر سورة آل عمران، وفيه تقريع لهم لأنهم كانوا يعتقدون أن لهم أنصارا كثيرة فيما يقولون ويعتقدون فنفى الله تعالى أو عيسى ذلك وإن كانوا يريدون بذلك تعظيمه. قال المفسرون ثالِثُ ثَلاثَةٍ معناه ثالث آلهة ثلاثة ليلزم الكفر وإلا فما من شيئين وإلا والله ثالثهما. يحكى أن النصارى يقولون أب وابن وروح قدس والثلاثة إله واحد كما أن الشمس تتناول القرص والشعاع والحرارة. وعنوا بالأب الذات، وبالابن الكلمة، وبالروح الحياة، قالوا: إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء
واعلم أن هذا معلوم البطلان بالبديهة لأن الثلاثة لا تكون واحدا والواحد لا يكون ثلاثة فلا جرم رد الله مقالتهم بقوله: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ فزاد من الاستغراقية. والمعنى ما إله قط في الوجود إلا إله موصوف بالوحدانية لا ثاني له ولا شريك. ثم زجرهم بقوله وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا قال الزجاج: يعني الذين أقاموا على هذا الدين لأن كثيرا منهم تابوا عن النصرانية ف «من» في قوله مِنْهُمْ للتبعيض، ويجوز أن تكون للبيان والمراد ليمسنهم، ولكن أقيم الظاهر مقام المضمر تكريرا للشهادة عليهم بالكفر ورمزا إلى أنهم من الكفر بمكان حتى لو فسر الكفار المعذبون عنوا بذلك خاصة. ومعنى عَذابٌ أَلِيمٌ نوع شديد الألم من العذاب أَفَلا يَتُوبُونَ قال الفراء: إنه أمر بلفظ الاستفهام وفيه تعجيب من إصرارهم على الكفر بعد الوعيد الشديد.
ثم احتج على إبطال معتقدهم بقوله مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ وهذا ترتيب في غاية الحسن لأنه منعهم من الكفر أوّلا، ثم حثهم على الإسلام ثانيا، ثم شرع في حل شبههم ثالثا، ومن هنا قيل: إن المرتد يستتاب بلا مهل ومناظرة إن عنت له شبهة بل يسلم أوّلا ثم تحل شبهته ثانيا، والمعنى ما هو إلا رسول من جنس الرسل الماضين لا يتخطى الرسالة الى الإلهية كما لم يتخطوا، فإن خلق من غير ذكر فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وإن أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى فقد جعل موسى العصا حية تسعى إلى غير ذلك من آيات ربه الكبرى وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كبعض النساء المؤمنات بالأنبياء الصادقات في أقوالهن وأفعالهن وأحوالهن قال تعالى في وصفها: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ [التحريم: ١٢] أي من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وهم المجتهدون في إقامة مراسم العبودية. ففيه تكذيب للنصارى المفرطين فيها إذ جعلوها إلها، وفيه تكذيب لليهود المفرّطين في شأنها حيث نسبوها إلى الهنات، وإلى الكذب في أن عيسى خلق من غير أب. وفيه أن من كان له أم فقد حدث بعد أن لم يكن فكان مخلوقا لا إلها. ثم أكد حدوثهما وعجزهما بقوله كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ فإن المحتاج الى الاغتذاء سيحتاج إلى ما يتبعه من الهضم والنفض، وكل هذه الافتقارات دليل ظاهر وبرهان باهر على حدوثهما وأفولهما في حيز الإمكان. ثم عجب من غاية غوايتهم فقال انْظُرْ يا محمد أو كل من له أهلية النظر كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ الأدلة الظاهرة على بطلان قولهم. والعامل في كَيْفَ قوله نُبَيِّنُ ومفعول انْظُرْ مجموع الجملة بل مضمونها أي تبصر هذه الحالة وتفكر فيها ومثله ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن الحق. أفكه بالفتح يأفكه
كلا طرفي قصد الأمور ذميم فالأصوب أن يقال: انتصب غَيْرَ الْحَقِّ على أنه صفة قائمة مقام المصدر أي لا تغلوا غلوا كقوله: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة: ٦٠] أي إفسادا وكقولهم: تعال جائيا وقم قائما. ولو سلم أن المصدر محذوف كان غَيْرَ الْحَقِّ صفة مؤكدة مثل نَفْخَةٌ واحِدَةٌ [الحاقة: ١٣] و «أمس الدابر» لا صفة مميزة فافهم وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ هي المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة. قال الشعبي: ما ذكر الله تعالى لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ [ص: ٢٦] وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: ٣] أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الجاثية: ٢٣] قال أبو عبيد: لم نجد للهوى موضعا إلا في
عن ابن مسعود أن النبي ﷺ قال «من رضى عمل قوم فهو منهم ومن كثر سواد قوم فهو منهم»
وذلك أن في التناهي المأمور به حسما للفساد فكان الإخلال به معصية وظلما. والثاني أنه بمعنى الانتهاء أي لا يمتنعون ولا ينتهون. والمراد لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه لأن النهي بعد الفعل لا يفيد، أو المراد لا يتناهون عن منكر أرادوا فعله وأحضروا آلاته، أو لا ينتهون أو لا ينهون عن الإصرار على منكر فعلوه. ثم عجب من سوء فعلهم مؤكدا بالقسم المقدر فقال لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ثم لما وصف أسلافهم بما وصف شرع في نعت الحاضرين بأن كثيرا منهم يتولون المشركين والمراد كعب بن الأشرف وأصحابه حين استجاشوا المشركين على رسول الله ﷺ وقد مر في تفسير سورة النساء عند قوله هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النساء: ٥١] لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ من العمل لمعادهم. ومحل أَنْ سَخِطَ رفع على أنه مخصوص بالذم أي بئس الزاد إلى الآخرة سخط الله يعني موجب سخط الله وسببه، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وهو موسى وما أنزل إليه في التوراة كما يدّعون واتخذوا المشركين أولياء لأن تحريم ذلك متأكد في شريعة موسى وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ في دينهم لأن مرادهم تحصيل الرياسة والجاه بأي طريق قدروا عليه لا تقرير دين موسى. ويحتمل أن يراد ولو كان هؤلاء اليهود المنافقون مؤمنين بالله وبمحمد والقرآن إيمانا
تم الجزء السادس وبه يتم المجلد الثاني من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة نظام الدين النيسابوري، ويليه الجزء السابع، وهو أول المجلد الثالث، وأوله:
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً...
تتمة تفسير سورة البقرة الآيات: ٢٥٢- ٢٥٤ ٣ الآيات: ٢٥٥- ٢٥٧ ١١ الآيات: ٢٥٨- ٢٦٠ ٢١ الآيات: ٢٦١- ٢٦٦ ٣٥ الآيات: ٢٦٧- ٢٧٤ ٤٣ الآيات: ٢٧٥- ٢٨١ ٥٩ الآيتان: ٢٨٢ و ٢٨٣ ٧٣ الآيات: ٢٨٤- ٢٨٦ ٨٣ تفسير سورة آل عمران الآيات: ١- ١١ ٩٨ الآيات: ١٢- ٢٥ ١١٨ الآيات: ٢٦- ٣٤ ١٣٥ الآيات: ٣٥- ٤١ ١٤٨ الآيات: ٤٢- ٦٠ ١٥٨ الآيات: ٦١- ٧١ ١٧٧ الآيات: ٧٢- ٨٠ ١٨٥ الآيات: ٨١- ٩١ ١٩٧ الآيات: ٩٢- ١٠١ ٢٠٧ الآيات: ١٠٢- ١١١ ٢٢٣ الآيات: ١١٢- ١٢٠ ٢٣٧
[المجلد الثالث]
بسم الله الرّحمن الرّحيم الجزء السابع من أجزاء القرآن الكريم[تتمة سورة المائدة]
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٢ الى ٨٦]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦)
ثم وصف شدة شكيمة اليهود ولين عريكة النصارى فقال لَتَجِدَنَّ يا محمد أوكل من له أهلية الخطاب أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً وقد تعلقت بها اللام في قوله لِلَّذِينَ آمَنُوا كما تعلقت بالمودة فيما بعد. وظاهر الآية يدل على أن اليهود في غاية العداوة للمسلمين وكيف لا وقد نبه على تقدم قدمهم في العداوة بتقديمهم على الذين أشركوا
وعن النبي ﷺ «ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله»
لكنه
روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي أن المراد به النجاشي وقومه الذين قدموا من الحبشة على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وآمنوا به ولم يرد جميع النصارى مع ظهور عداوتهم للمسلمين.
وقال آخرون: مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر الى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان، بالقتل أو بغصب المال أو بوجوه المكايد والحيل، وليس النصارى مذهبهم ذلك بل الإيذاء في دينهم حرام وهذا هو وجه التفاوت بالعداوة والمودة، وقد أكد ذلك بوصف العداوة والمودّة بالأشد والأقرب. وفي الآية من الفائدة أن التمرد والمعصية عادة لهم ففرغ قلبك يا محمد ولا تبال بمكرهم ولا تحزن على كيدهم. ثم ذكر سبب ذلك التفاوت فقال ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً القس والقسيس اسم لرئيس النصارى في العلم والدين وكأنه من القس وهو تتبع الشيء وطلبه. قال قطرب: هو العالم بلغة الروم وهذا مما وقع فيه الوفاق بين اللغتين. وقال عروة بن الزبير: ضعيف النصارى الإنجيل وأدخلت فيه ما ليس منه وبقي واحد من علمائهم على الحق والدين يسمى قسيسا، فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس. والرهبان جمع راهب كركبان وفرسان في راكب وفارس. وقيل: إنه واحد وجمعه رهابين كقربان وقرابين ولكن النظم يأباه. وأصله من الرهبة بمعنى الخوف من الله تعالى، وإنما صارت الرهبانية
ولقوله ﷺ «لا رهبانية في الإسلام» «١»
وهاهنا نكتة هي أن كفر النصارى حيث إنهم ينازعون في الإلهيات والنبوات جميعا أغلظ في الحقيقة من كفر اليهود لأنهم لا ينازعون إلا في النبوات إلا بعضهم القائلين بأن عزيرا ابن الله. ثم إن النصارى لما لم يشتد حرصهم على طلب الدنيا وعلى الحياة وأقبلوا على العلم والبراءة من الكبر خصهم الله تعالى بالمدح وذم اليهود حيث قال وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ [البقرة: ٩٦] غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [المائدة: ٦٤] فتبين صحة
قوله ﷺ «حب الدنيا رأس كل خطيئة»
قال ابن عباس: كان رسول الله ﷺ خاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر بن أبي طالب وابن مسعود في رهط من أصحابه الى النجاشي وقال: إنه ملك صالح لا يظلم ولا يظلم عنده أحد فاخرجوا اليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا. فلما وردوا عليه أكرمهم وقال لهم: هل تعرفون شيئا مما أنزل عليكم؟ قالوا: نعم. فقرؤا وحوله القسيسون والرهبان فكلما قرؤا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق.
وقال آخرون: قدم جعفر بن أبي طالب من الحبشة هو وأصحابه ومعهم سبعون رجلا بعثهم النجاشي وفدا الى الرسول ﷺ عليهم ثياب الصوف اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وهم بحيرا الراهب وأبرهة وغيرهما، فقرأ عليهم رسول الله ﷺ سورة يس إلى آخرها فبكوا وآمنوا فنزلت
والخطاب في تَرى لكل راء. وقد وضع الفيض الذي هو مسبب الامتلاء موضع الامتلاء وأصله تمتلىء من الدمع حتى تفيض لأن الفيض بعد الامتلاء، ويحتمل أن يكون الدمع مصدر دمعت عينه وقصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء كأنّ الأعين تفيض بأنفسها. ومعنى مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ أي مما نزل على محمد ﷺ وهو الحق ف «من» الأولى لابتداء الغاية على أن فيض الدمع نشأ من معرفة الحق، والثانية للبيان ويحتمل التبعيض يعني أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف لو عرفوا كله وأحاطوا بالسنة؟ رَبَّنا آمَنَّا المراد إنشاء الايمان لا الإخبار عنه فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ مع أمة محمد ﷺ وقد مر مثله في آل عمران. وَما لَنا إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان مع حصول موجبه وهو الطمع في إنعام الله عليهم بإدخالهم دار ثوابه مع الصالحين. قالوا ذلك في أنفسهم أو فيما بينهم أو في جواب قومهم حين رجعوا إليهم ولاموهم. ومحل لا نُؤْمِنُ نصب على الحال نحو: مالك قائما.
والعامل فيه معنى الفعل أي ما نصنع غير مؤمنين. وهو العامل أيضا في وَنَطْمَعُ لكن مقيدا
التأويل:
لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل مع ذرات ذرّيات آدم عليه السلام وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا بالأجساد في عالم الشهادة، ومن الواردات الروحانية في عالم الغيب فَرِيقاً كَذَّبُوا يعنى الإلهامات والواردات وَفَرِيقاً يقتلون في عالم الحس لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا النصارى أرادوا أن يسلكوا طريق الحق بقدم العقل فتاهوا في أودية الشبهات، وأمة محمد ﷺ سلكوا الطريق بأقدام جذبات الألوهية على وفق المتابعة الجبيبية فأسقط عنهم براهين الوصال كلفة الاستدلال، ولهذا كان الشبلي يغسل كتبه بالماء ويقول: نعم الدليل أنت. ولكن الاشتغال بالدليل بعد الوصول الى المدلول محال فتحقق لهم أن عيسى بعد التزكية والتحلية صار قابلا للفيض الإلهي فكان يخلق ما يخلق ويفعل ما يفعل بإذن الله، كما أن المرايا المحرقة تحرق بما قبلت من فيض الشمس إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ ظاهرا فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ومن يشرك به باطنا حرم عليه القربة على لسان داود وعيسى ابن مريم.
هذا سر الخلافة فإن الإنسان الكامل المستحق للخلافة قبوله قبول الحق ورده رد الحق لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ سمى العصيان منكرا لأنه يوجب النكرة كما سمى الطاعة معروفا لأنها توجب المعرفة ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً. يعني أن تعارف الأرواح يوجب ائتلاف الأشباح، فالنصارى ببركة علمائهم وعبادهم وصفاء قلوبهم وخضوعهم ثبت لهم القرابة والمودة من أهل الإيمان وعرفوا الحق الذي سمعوه في الأزل يوم الميثاق، فآمنوا وذلك جزاء المحسنين الذين يعبدون الله ويشاهدونه بلوائح المعرفة وطوالع المحبة فالإحسان أن تعبد الله كأنك تراه.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٧ الى ١٠٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١)وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)
القراآت:
بِما عَقَّدْتُمُ بالتخفيف: حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل، وقرأ ابن ذكوان عاقدتم بالألف. الباقون عَقَّدْتُمُ بالتشديد مِنْ أَوْسَطِ مثل مَبْسُوطَتانِ [المائدة: ٦٤] فَجَزاءٌ بالتنوين مِثْلُ بالرفع: يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم عن المفضل. كَفَّارَةٌ طَعامُ بالإضافة: أبو جعفر ونافع وابن عامر. الباقون كَفَّارَةٌ بالتنوين طَعامُ بالرفع فبما بغير ألف ابن عامر.
وَلا تَعْتَدُوا ط الْمُعْتَدِينَ هـ طَيِّباً ص لعطف المتفقتين مُؤْمِنُونَ هـ الْأَيْمانَ ج لاختلاف النظم مع اتحاد الكلام وفاء التعقيب. رَقَبَةٍ ط ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ط حَلَفْتُمْ ط للإضمار أي حلفتم وحنثتم أَيْمانِكُمْ ط تَشْكُرُونَ هـ تُفْلِحُونَ هـ وَعَنِ الصَّلاةِ ج لابتداء الاستفهام لأجل التحذير مع دخول الفاء فيه. مُنْتَهُونَ هـ وَاحْذَرُوا ط الْمُبِينُ هـ وَأَحْسَنُوا ط الْمُحْسِنِينَ هـ بِالْغَيْبِ ج أَلِيمٌ هـ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ط وَبالَ أَمْرِهِ ط سَلَفَ ط مِنْهُ ط انْتِقامٍ هـ وَلِلسَّيَّارَةِ ج لطول الكلام وتضاد المعنيين وإن اتفقت الجملتان لفظا. حُرُماً ط لإطلاق الأمر بالابتداء تُحْشَرُونَ هـ وَالْقَلائِدَ ط عَلِيمٌ هـ رَحِيمٌ هـ الْبَلاغُ ط تَكْتُمُونَ هـ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ج لاتفاق الجملتين مع وقوع العارض تُفْلِحُونَ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه بعد استقصاء المناظرة مع أهل الكتابين عاد إلى بيان الأحكام فبدأ بحل المطاعم والمشارب واستيفاء اللذات كيلا يتوهم متوهم أن مدح القسيسين والرهبان يوجب إيثار طريقتهم في هذا الدين.
قال المفسرون: جلس رسول الله ﷺ يوما فذكر الناس ووصف القيامة ولم يزدهم على التخويف، فرق الناس وبكوا فاجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون منهم أبو بكر وعلي وابن مسعود وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولا يقربوا النساء والطيب ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض ويترهبوا ويجبوا المذاكير، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال لهم: ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا؟ قالوا: يا رسول الله وما أردنا إلا الخير. فقال: إني لم أؤمر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم، من رغب عن سنتي فليس مني. ثم جمع الناس وخطبهم فقال: ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا! أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع، وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان، فإنما هلك من قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع، فأنزل الله هذه الآية، فقالوا: يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها- وكانوا حلفوا على ما اتفقوا عليه- فنزلت هذه الآية
ومعنى لا تُحَرِّمُوا لا تعتقدوا تحريم ما أَحَلَّ اللَّهُ ولا تظهروا باللسان تحريمه ولا تجتنبوه اجتنابا يشبه اجتناب المحرمات. فهذه الوجوه محمولة على الاعتقاد والقول والعمل، ويحتمل أن يراد لا تحرموا على غيركم بالفتوى، أو لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين كقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم: ١] أو لا تخلطوا المملوك بالمغصوب أو الطاهر بالنجس خلطا لا يبقى معه التمييز فإنه يحرم الكل. والطيبات المستلذات التي تشتهيها النفوس وتميل إليها القلوب. ثم نهى عن الاعتداء مطلقا ليدخل تحته النهي عن الإسراف كقوله كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف: ٣١] وكُلُوا أمر إباحة وتحليل مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ في إدخال «من» التبعيضية إرشاد إلى الاقتصاد والاقتصار في الأكل على البعض وصرف الباقي إلى المحتاجين، وفيه أنه تعالى هو الذي يرزق عبيده وتكفل برزقهم. قال في التفسير الكبير: قوله حَلالًا طَيِّباً إن كان متعلقا بالأكل كان حجة للمعتزلة على أن الرزق لا يكون إلا حلالا لأنه يدل على الإذن في أكل كل ما رزق الله تعالى وإنما يأذن في أكل الحلال فيلزم أن يكون كل رزق حلالا، وإن كان متعلقا بالمأكول أي كلوا من الرزق الذي يكون حلالا كان حجة لأصحابنا لأن التقييد يؤذن بأن الرزق قد لا يكون حلالا. أقول: هذا فرق ضعيف ولهذا قال في الكشاف: حَلالًا حال مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مع أنه من المعتزلة. ثم أكد التوصية بقوله وَاتَّقُوا اللَّهَ وزاده تأكيدا بقوله الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ لأن الإيمان به يوجب اتقاءه في أوامره ونواهيه. ثم قال لا يُؤاخِذُكُمُ وقد ذكرنا وجه النظم آنفا، وقد تقدم معنى يمين اللغو في سورة البقرة. أما قوله بِما عَقَّدْتُمُ
فمن قرأ بالتخفيف فإنه صالح للقليل والكثير فلا إشكال، ومن قرأ بالتشديد فإن أبا عبيدة اعترض عليه بأن التشديد للتكثير فهذه القراءة توجب سقوط الكفارة عن اليمين الواحدة. وأجاب الواحدي بأن عقد بالتخفيف وعقد بالتشديد واحد في المعنى، ولو سلم فالتكرير يحصل بأن يعقدها بقلبه ولسانه، أما لو عقد اليمين بأحدهما دون الآخر فلا كفارة.
ومن قرأ بالألف فمثل القراءة المخففة كقولك: عاقبت اللص وعافاه الله. والمعنى على القراآت: ولكن يؤاخذكم بعقد الأيمان أو بتعقيدها أو معاقدتها إذا حنثتم. فحذف الظرف للعلم به، أو المراد بنكث ما عقدتم بحذف المضاف فَكَفَّارَتُهُ أي الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها أحد هذه الأمور ويسمى بالواجب المخير. وحاصله أنه لا يجب الإتيان بكل واحد منها، ولا يجوز الإخلال بجميعها، ولكنه إذا أتى بأيّ واحد منها فإنه يخرج عن العهدة، ومن هنا قال أكثر الفقهاء الواجب واحد لا بعينه من الإطعام والكسوة وتحرير الرقبة فإن عجز عنها جميعا فالواجب شيء آخر وهو الصوم. أما مقدار الطعام فقد قال الشافعي: نصيب كل مسكين مد أي ثلثا منّ، وهو قول ابن عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والحسن والقاسم لأنه تعالى قال مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ فإن كان المراد ما كان متوسطا في العرف فثلثا منّ من الحنطة إذا جعل دقيقا وخبز فإنه يصير قريبا من المنّ وذلك كاف لواحد في يوم واحد، وإن كان المراد ما كان متوسطا في الشرع فليس له في الشرع مقدار إلا ما
جاء في قصة الأعرابي المفطر في نهار رمضان أن النبي ﷺ أمره بإطعام ستين مسكينا من غير ذكر مقدار. فقال الرجل: ما أجد. فأتى النبي ﷺ بعرق فيه خمسة عشر صاعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطعم هذا.
وذلك يدل على تقدير طعام المسكين بربع الصاع وهو مدّ. ولا تلزم كفارة الحلق لأنها شرعت بلفظ الصدقة مطلقة عن التقدير بإطعام الأهل فكان تكفيرها معتبرا بصدقة الفطر وقد ثبت بالنص تقديرها بالصاع لا بالمد. وقال أبو حنيفة: الواجب نصف صاع من الحنطة أو صاع من غيرها قال: لأن الأوسط هو الأعدل.
وما ذكره الشافعي هو أدنى ما يكفي. وأما الأعدل فيكون بإدام وهكذا روي عن ابن عباس مدّ بإدامه والإدام تبلغ قيمته مدا آخر ويزيد في الأغلب. أجاب الشافعي أن الإدام غير واجب بالإجماع فلم يبق إلا حمل اللفظ على التوسط في قدر الطعام ومقداره ما ذكرنا، وجنس الطعام المخرج جنس الفطرة. ثم قال الشافعي: الواجب تمليك الطعام قياسا على الكسوة.
وقال أبو حنيفة: إذا غدّى وعشى عشرة مساكين جاز لأن ذلك إطعام، ولأن إطعام الأهل يكون بالتمكين لا بالتمليك وقد قال مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ والقائل أن يقول: ذكر إطعام الأهل لتعيين مقدار المطعم لا لأجل كيفية الإطعام. وقال أبو حنيفة: لو أطعم مسكينا
قال في الكشاف أَوْ كِسْوَتُهُمْ عطف على محل مِنْ أَوْسَطِ ووجه بأن البدل هو المقصود فكأنه قيل: فكفارته من أوسط. وأقول: الأظهر أن يكون مِنْ أَوْسَطِ مفعولا آخر للإطعام سواء كان «من» للابتداء أو للتبعيض، ويكون كِسْوَتُهُمْ معطوفا على الإطعام. والكسوة معناها اللباس وهو كل ما يكتسى به. قال الشافعي: يجزىء في الكفارة أقل ما يقع عليه اسم الكسوة وهو ثوب يغطي العورة إزار أو رداء أو قميص أو سراويل أو عمامة أو مقنعة لكل مسكين ثوب واحد لما روي عن ابن عباس كانت العباءة تجزىء يومئذ. وعن مجاهد: ثوب جامع. وقال الحسن: ثوبان أبيضان. والمراد بالرقبة الجملة كان الأسير في العرب تجمع يداه الى رقبته فإذا أطلق حل ذلك الحبل فسمي الإطلاق من الحبل فك رقبة. ثم أجرى ذلك على العتق هكذا قيل في أصل هذا المجاز. ومذهب أهل الظاهر أن جميع الرقاب تجزئه. وقال الشافعي: لا يجزىء إلا كل سليمة من عيب يخل بالعمل صغيرة كانت أو كبيرة ذكرا أو أنثى بعد أن كانت مؤمنة قياسا على كفارة القتل، ولم يجوّز إعتاق المكاتب ولا شراء القريب. وفي تقديم الإطعام على العتق مع أن العتق أفضل تنبيه على التخيير وأن الأمر مبني على التخفيف. ويمكن أن يقال: الإطعام أفضل لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام أو لا يكون هناك من يعطيه فيقع في الضر، أما العبد فيجب على مولاه طعامه وكسوته، فالعتق يحتمل التأخير والإطعام قد لا يحتمل ذلك. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أحد الأمور الثلاثة المذكورة فَصِيامُ فعليه صيام ثَلاثَةِ أَيَّامٍ قال الشافعي: إذا وجد قوت نفسه وقوت عياله يومه وليلته ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة بالإطعام، وإن لم يكن عنده ذلك القدر جاز له الصيام وذلك أنه علق جواز الصيام على عدم وجدان الخصال الثلاث فعند وجدانها وجب أن لا يجوز الصوم. تركنا العمل به عند وجدان قوت نفسه وقوت عياله يوما وليلة لأن ذلك ضروري، وتقديم حق النفس على حق الغير واجب شرعا فبقي الآية معمولا بها في غيره. وعند أبي حنيفة: يجوز الصيام إذا كان عنده من المال ما لا تجب فيه الزكاة. ثم صيام الأيام الثلاثة مشروط عند أبي حنيفة بالتتابع تمسكا بقراءة أبيّ وابن مسعود فصيام ثلاثة أيام متتابعات فإن قراءتهما لا تتخلف عن روايتهما.
وقال الشافعي في أصح قوليه: إن التفريق جائز والقراءة الشاذة لا يعتدّ بها لأنها لو كانت صحيحة لنقلت نقلا متوترا
وقد روي عن النبي ﷺ أن رجلا قال له: عليّ أيام من رمضان
وإذا جاز هذا التفريق في صوم رمضان ففي غيره أولى، وأيضا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
مسألة: من صام ستة أيام عن يمينين أجزأته ولا حاجة الى تعيين إحدى الثلاثتين لإحدى اليمينين لأن الواجب عن كل منهما ثلاثة أيام وقد أتى بها فيخرج عن العهدة ذلِكَ المذكور كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وحنثتم فحذف ذكر الحنث للعلم بأن الكفارة لا تجب بمجرد الحلف، وللتنبيه على أن الكفارة لا يجوز تقديمها على اليمين، وأما بعد اليمين وقبل الحنث فيجوز وبه قال مالك والشافعي وأحمد موافقا لما
روي أن النبي ﷺ قال «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا فكفر عن يمينك ثم ائت بالذي هو خير» «١».
ولأن الكفارة حق ماليّ يتعلق بسببين فجاز تعجيله بعد وجود أحد السببين كتعجيل الزكاة بعد وجود النصاب. هذا إذا كان يكفر بغير الصوم، أما الصوم فلا يجوز تقديمه لأن العبادات البدنية لا تقدّم على وقتها إذا لم تمس إليه حاجة كالصلاة وصوم رمضان، ولأن الصوم إنما يجوز التكفير به عند العجز عن جميع الخصال المالية، وإنما يتحقق العجز بعد الوجوب وإن كان الحنث بارتكاب محظور كأن حلف أن لا يشرب الخمر أجزأه التكفير قبل الشرب أيضا لوجود أحد السببين. والتكفير لا يتعلق به استباحة ولا تحريم بل المحلوف عليه حرام قبل اليمين وبعدها وقبل التكفير وبعده لا أثر لهما فيه. جميع ما ذكرنا ظاهر مذهب الشافعي، أما عند أبي حنيفة وأصحابه فلا يجوز التكفير قبل الحنث مطلقا. وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ قللوها ولا تكثروا منها، أو احفظوها إذا حلفتم عن الحنث، وعلى هذا تكون الإيمان مختصة بالتي الحنث فيها معصية كمن حلف أن لا يشرب الخمر بخلاف ما لو حلف ليشربن فإنه لا يؤمر حينئذ بالحفظ عن الحنث. وقيل: احفظوها بأن تكفروها أو المراد لا تنسوها تهاونا بها كَذلِكَ مثل ذلك البيان الشافي يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أحكامه وأعلام شريعته لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة البيان وتسهيل المخرج من الحرج.
قصة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه مع عمه حمزة على ما روي في الصحيحين أنه قال: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر وكان رسول الله ﷺ أعطاني شارفا من الخمس، فلما أردت أن أبني بفاطمة بنت رسول الله ﷺ وأعدت رجلا صوّاغا من بني قينقاع أن يرتحل معي لأذخر، أردت أن أبيعه من الصوّاغين فأستعين به في وليمة عرسي. فبينا أنا أجمع لشارفيّ متاعا من الأقتاب والغرائر والحبال وشارفاي مناختان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار، أقبلت فإذا أنا بشارفيّ قد جبت أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر وقلت: من فعل هذا؟ قالوا: فعله حمزة بن عبد المطلب وهو في البيت في شرب مع امرأة من الأنصار غنت أغنية فقالت في غنائها:
ألا يا حمز للشرف النواء وهن معقلات بالفناء ضع السكين في اللبات منها فضرجهن حمزة بالدماء وأطعم من شرائحها كبابا ملهوجة على وهج الصلاء فأنت أبا عمارة المرجى لكشف الضر عنا والبلاء فوثب الى السيف فاجتب أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما. قال علي رضي الله عنه: فانطلقت حتى دخلت على النبي ﷺ وعنده زيد بن حارثة فعرف رسول الله ﷺ الذي أتيت له فقال: ما لك؟ فقلت: يا رسول الله ما رأيت كاليوم! عدا حمزة على ناقتي فاجتب أسنمتهما وبقر خواصرهما وها هوذا في بيت معه شرب. قال: فدعا رسول الله ﷺ بردائه ثم انطلق يمشي واتبعت أثره، - أنا وزيد بن حارثة- حتى جاء البيت الذي فيه. فاستأذن فأذن له فإذا هم شرب، فطفق رسول الله ﷺ يلوم حمزة فيما فعل فإذا حمزة ثمل محمرة عيناه، فنظر إلى رسول الله ﷺ ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه ثم قال:
وهل أنتم إلا عبيد أبي؟ فعرف رسول الله ﷺ أنه ثمل فنكص على عقبيه القهقرى، فخرج وخرجنا
فكانت هذه القصة من الأسباب الموجبة لنزول تحريم الخمر. قالت العلماء: هذه الآية تدل على تحريمها من وجوه منها: تصدير الجملة ب «إنما» الدالة على الحصر معناه ليست
قوله ﷺ «شارب الخمر كعابد الوثن»
ومنها أنه جعلها رجسا كما قال في موضع آخر فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: ٣٠] وأصل الرجس العمل القبيح والقذر. قال الفراء: وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس: ١٠٠] أي العقاب والغضب وكأنه إبدال الرجز والرجس بالفتح الصوت الشديد من الرعد ومن هدير البعير فلهذا سمي العمل القوي الدرجة في القبح رجسا. ومنها أنه جعلها من عمل الشيطان، ومن المعلوم أنه لا يصدر منه إلا الشر البحت. ومنها أنه أمر بالاجتناب وظاهر الأمر للوجوب. ومنها أنه جعل الاجتناب من الفلاح فيكون القرب منها خيبة. والضمير في فَاجْتَنِبُوهُ عائد الى الرجس أو العمل أو إلى المضاف المحذوف أي إنما تعاطي الخمر ونحو ذلك. ومنها شرح أنواع المفاسد المنتجة منها من التعادي والتباغض والصد عن ذكر الله وعن الصلاة خصوصا وفيه أن غرض الشرب من الاجتماع تأكد الألفة والمودّة. ثم إنها تورث نقيض المقصود لأن العقل إذا زال استولت الشهوة والغضب ويؤدي الى التنازع واللجاج، وكذا القمار يفضي الى إفناء المال وإلى أن يقامر على حليلته وأهله وولده وكل ذلك يورث العداوة والفتن وهذان من مكايد الشيطان ومضادّان لمصالح الإنسان. وأيضا الخمر سبب تهييج اللذة الجسمية، والقمار يورث لذة الغلبة الحالية، وكلتاهما توجب الاشتغال عن اللذات الحقيقية الحاصلة من الاستغراق في طاعة المعبود. وإنما أفرد ذكر الخمر والميسر ثانيا لأن الخطاب مع المؤمنين فقرنهما أولا بذكر الأنصاب والأزلام تنبيها على أنها جميعا من أعمال الجاهلية وأهل الشرك، ثم أفردهما لأن الكلام مسوق لتحريمهما على المخاطبين حيث إنهم كانوا لا يتعاطون سوى هذين.
ومنها سوق الكلام بطريق الاستفهام في قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ كأنه قيل: قد تلي عليكم ما هو كاف في باب المنع فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون أم أنتم على ما كنتم عليه كأن لم تزجروا؟ ولهذا قالوا: قد انتهينا يا رب. إذ فهموا التحريم المؤكد. ومنها إنه قال عقيب ذلك وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا والظاهر أن المراد الطاعة فيما تقدم من الأمر بالاجتناب والحذر عن المخالفة في ذلك الباب. ومنها تهديد من خالف هذا التكليف بقوله فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ الآية. والمراد إن أعرضتم فالحجة قد قامت عليكم والرسول قد خرج عن عهدة البلاغ وقد أعذر من أنذر وجزاء المخالف الى الله المقتدر. عن أنس قال: كنت ساقي القوم يوم حرمت في بيت أبي طلحة وما شرابهم إلا فضيخ البسر والتمر، فإذا مناد ينادي ألا إن الخمر قد حرمت. قال: فجزت في سكك المدينة فقال أبو طلحة: اخرج فأرقها. فقالوا: قتل فلان وفلان وهي في بطونهم فأنزل الله تعالى لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا
الطعم خلاف الشرب في الأغلب وقد يقع على المشروب كقوله وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [البقرة: ٢٤٩] فيجوز أن يكون المراد فيما شربوا من الخمر، ويحتمل أن يكون معنى الطعم راجعا إلى التلذذ بما يؤكل ويشرب جميعا، فقد تقول العرب: أطعم أي ذق. ونظير هذه الآية قوله في نسخ القبلة وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: ١٤٣] والعامل في إِذا مَا اتَّقَوْا معنى الكلام المتقدم أي لا يأثمون في ذلك إذا اتقوا المحرمات لأنهم شربوها حين كانت محللة. والمراد أن أولئك كانوا على هذه الصفة وهو ثناء عليهم وحمد لأحوالهم في الإيمان والتقوى والإحسان.
وزعم بعض الجهلة أن هذا الحكم متعلق بالمستقبل وإلا قيل: لم يكن أو ما كان جناح مثل وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ [البقرة: ١٤٣] والمعنى لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه العداوة والبغضاء وسائر المفاسد المذكورة بل حصل معه أنواع المصالح من الطاعة والتقوى والإحسان إلى الخلق. والجواب أن صيغة طعموا وهي المضي تأباه، وأيضا إن سبب نزول الآية يكذبه.
روى أبو بكر الأصم أنه لما نزل تحريم الخمر قال أبو بكر: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وأكلوا القمار، وكيف بالغائبين عنا في البلاد لا يشعرون بتحريم الخمر وهم يطعمونها؟ فنزلت.
وعلى هذا فالحل قد ثبت فيما يستقبل لكن في حق الغائبين الذين لم يبلغهم هذا النص. ثم إنه سبحانه شرط في نفي الجناح حصول التقوى والإيمان مرتين، وفي الثالثة التقوى والإحسان. فقال الأكثرون: الأول فعل الاتقاء، والثاني دوامه والثبات عليه، والثالث اتقاء ظلم العباد مع الإحسان إليهم. وقيل: الأول اتقاء جميع المعاصي قبل نزول الآية، والثاني اتقاء الخمر والميسر وما في هذه الآية، والثالث اتقاء ما يحدث تحريمه بعد هذه الآية وهذا قول الأصم. وقيل: اتقوا الكفر ثم الكبائر ثم الصغائر. وقال القفال: الأول الاتقاء من القدح في صحة النسخ ليثبت تحريم الخمر بعد أن كانت مباحة، والثاني الإتيان بالعمل المطابق للآية، والثالث المداومة على التقوى مع الإحسان إلى الخلق. ثم إنه سبحانه استثنى بعض الصيد من المحللات فقال على سبيل التوكيد القسمي لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ أي ليعاملنكم معاملة المختبر بِشَيْءٍ التنوين للتحقير وفيه أنه ليس من الفتن العظام التي تدحض عندها الأقدام كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال، فامتحن الله أمة محمد ﷺ بصيد البر كما امتحن أصحاب أيلة بصيد البحر. قال مقاتل بن حيان: ابتلاهم بالصيد وهم محرمون عام الحديبية حتى إن الوحش والطير يغشاهم في رحالهم فيقدرون على أخذها بالأيدي وصيدها بالرماح وما رأوا مثل ذلك قط، فنهاهم الله عن ذلك ابتلاء. قال الواحدي: الذي تناله أيديهم من الصيد الفراخ والبيض وصغار
المحرم إذا قتل سبعا لا يؤكل لحمه ضمن. وسلم أنه لا يجب الضمان في قتل الذئب وفي قتل الفواسق الخمس فقال الشافعي: لا معنى في قتلها إلا الإيذاء فيلزم جواز قتل جميع المؤذيات لا سيما
وقد جاء «خمس يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والحية والعقرب والكلب العقور» «١»
وفي رواية بزيادة السبع العادي واحتج لأبي حنيفة
بقول علي رضي الله عنه: صيد الملوك أرانب وثعالب. فإذا ركبت فصيدي الأبطال.
وزيف بأن الثعلب عندنا حلال. وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أي محرمون بالحج والعمرة أيضا على الأصح. وقيل: وقد دخلتم الحرم. وقيل: هما مرادان بالآية وهو قول الشافعي. وقوله لا تَقْتُلُوا يفيد المنع ابتداء والمنع تسببا فليس له أن يتعرض للصيد ما دام محرما أو في الحرم بالسلاح ولا بالجوارح من الكلاب والطيور سواء كان الصيد صيد الحل أو صيد الحرم وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ من قرأ فَجَزاءٌ بالتنوين ومِثْلُ بالرفع فالمعنى: فعليه جزاء صفته كذا. ومن قرأ بالإضافة فمن باب إضافة المصدر إلى المفعول أي فعليه أن يجزىء مثل ما قتل. قال بعض العلماء: المثل مقحم للتأكيد إذ الواجب عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله فهو كقولهم: أنا أحب مثلك أي أحبك. وقيل: الإضافة بمعنى «من» أي جزاء من مثل ما قتل. قال سعيد بن جبير: المحرم إذا قتل الصيد خطأ لا يلزمه
إنك قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت الآية على وفق القصة. وعن الزهري نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ.
قال ﷺ «في الضبع كبش إذا قتله المحرم» «١»
وقالت الصحابة: في الظبي شاة. أطلقوا الضمان من غير فرق بين العمد والخطأ. ثم العلماء اختلفوا في المثل فقال الشافعي ومحمد بن الحسن: الصيد ضربان: منه ما له مثل ومنه ما لا مثل له فيضمن بالقيمة. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: المثل الواجب هو القيمة قياسا على ما لا مثل له. حجة الشافعي قوله تعالى مِنَ النَّعَمِ فإنه بيان للمثل وكذا قوله هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ
وعن النبي ﷺ أنه حكم في الضبع بكبش.
وعن علي وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وابن عمر أنهم حكموا في أمكنة مختلفة وأزمان متعدّدة في جزاء الصيد بالمثل من النعم. فحكموا في النعامة ببدنة، وفي حمار الوحش ببقرة، وفي الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الظبي بشاة، وفي الأرنب بحمل- وفي رواية بعناق- وفي الضب بسخلة، وفي اليربوع بجفرة، وفي الحمام بشاة، ويعني به كل ما عب وهدر كالقمري والدبسي الفاختة. والعب شرب الماء مرة، والهدير ترجيعه صوته وتغريده. وفيه دليل على أنهم نظروا إلى أقرب الأشياء شبها بالصيد من النعم، ولو نظروا إلى القيمة لاختلف باختلاف الأسعار. والظبي الذكر من هذا الجنس والغزال أنثاه، والجفرة من أولاد المعز إذا انفصلت من أمها، والعناق الأنثى من أولاد المعز. وأيضا المقصود من الضمان جبر الهلاك فكلما كانت المماثلة أتم كان الجبر أكمل.
(وهاهنا مسائل) الأولى: جماعة محرومون قتلوا صيدا. فالشافعي وأحمد وإسحق: لا
الثانية: قال الشافعي: المحرم إذا دل غيره على صيد فقتله لم يضمن كما لا يجب بالدلالة كفارة القتل ولا الدية، وكما لو دل على مال المسلم وذلك لأن الدلالة ليست بقتل ولا إتلاف. وقال أبو حنيفة: يضمن لما روي أن عمر وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس أوجبوا الجزاء على الدال.
الثالثة: قال الشافعي: إذا جرح ظبيا فنقص من قيمته العشر فعليه عشر قيمة الشاة إرشادا إلى ما هو الأسهل لأنه قد لا يجد شريكا في ذبح شاة ويتعذر عليه إخراج قسط من الحيوان. وقال المزني: عليه شاة. وقال داود: لا ضمان إلا بالقتل لظاهر الآية حيث نيط الجزاء بالقتل فقط.
الرابعة: إذا قتل المحرم صيدا وأدى جزاءه ثم قتل صيدا آخر لزمه جزاء آخر خلافا لداود، وينقل عن ابن عباس وشريح. حجة الجمهور أن الحكم يتكرر بتكرر العلة بخلاف ما لو قال لنسائه: من دخل منكن الدار فهي طالق فدخلت واحدة مرتين، فإنه لا يقع إلا طلاق واحد لأن تكرر الحكم بتكرر الشرط غير لازم. حجة داود وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ فإنه جعل جزاء العائد الانتقام لا الكفارة.
الخامسة: قال الشافعي: إذا أصاب صيدا أعور أو مكسور اليد أو الرجل فداه بمثله والصحيح أحب، وكذا الكبير لأجل الصغير. والذكر يفدى بالذكر والأنثى بالذكر والأنثى والأولى أن لا يغير تحقيقا للمثلية. فالأنثى أفضل لأنها تلد، والذكر أفضل من حيث إن لحمه أطيب وصورته أحسن.
قوله سبحانه يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ قال ابن عباس: أي رجلان صالحان فقيهان من أهل دينكم ينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به. وبهذا احتج من نصر قول أبي حنيفة فقال: التقويم هو المحتاج إلى النظر والاجتهاد، وأما الخلقة والصورة فمشاهد لا
قال: ففاجأني عمر وعلاني بالدرّة وقال: أتقتل في الحرم وتسفه الحكم؟ قال الله تعالى يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فأنا عمر وهذا عبد الرحمن. قال الشافعي: ما ورد فيه نص فهو متبع كما
روي أنه ﷺ قضى في الضبع بكبش.
وكل ما حكم به عدلان من الصحابة أو التابعين أو من أهل عصر آخر من النعم أنه مثل الصيد المقتول يتبع حكمهم ولا حاجة إلى تحكيم غيرهم لأن بحثهم أوفى ونظرهم أعلى. وقال مالك: يجب التحكيم فيما حكمت به الصحابة وفيما لم تحكم. وهل يجوز أن يكون قاتل الصيد حكما؟ إن كان القتل عمدا عدوانا فلا لأنه يورث الفسق والحكم موصوف بالعدالة، وإن كان خطأ أو كان مضطرا إليه فكذلك عند مالك كما في تقويم المتلفات. وجوّزه الشافعي لما روي أن بعض الصحابة أوطأ فرسه ظبيا فسأل عمر فقال: احكم فيه. فقال: أنت خير مني وأعلم يا أمير المؤمنين. فقال: إنما أمرتك أن تحكم فيه ولم آمرك أن تزكيني. فقال الرجل: أرى فيه جديا فقال عمر: فذلك فيه. وأيضا فإنه حق الله فيجوز أن يكون من عليه أمينا فيه كما أن رب المال أمين في الزكاة.
ولو حكم عدلان بأن له مثلا وآخران بأنه لا مثل له فالأخذ بقول الأولين. ولو حكم عدلان بمثل وآخران بمثل آخر فأصح الوجهين أنه يتخير والآخر أنه يأخذ بالأغلظ. قيل: في الآية دلالة على أن العمل بالاجتهاد والقياس جائز. وأجيب بأنه لا نزاع في الصور الجزئية كالاجتهاد في القبلة وكالعمل بشهادة الشاهدين وبتقويم المقوّمين في قيم المتلفات وأروش الجنايات، وكعمل العامي بالفتوى، وكالعمل بالظن في مصالح الدنيا، إنما النزاع في إثبات شرع عام في حق جميع المكلفين باق على وجه الدهر والإنصاف أن تجويز الاجتهاد في القبلة وفي تعيين مثل الصيد المقتول أمر كلي أيضا. وانتصب هَدْياً على أنه حال من فَجَزاءٌ عند من وصفه بمثل لأنه حينئذ قريب من المعرفة أو بدل من محل مِثْلُ عند من أضاف، أو حال من الضمير في بِهِ ووصف هديا ببالغ الكعبة لأن إضافته غير حقيقية تقديره بالغا الكعبة. والعرب تسمي كل بيت مربع كعبة ولا سيما إذا كان مرتفعا. ومعنى بلوغه الكعبة أن يذبح في الحرم لأن الذبح والنحر لا يقعان في نفس الكعبة ولا في غاية القرب والتلاصق منها فإن دفع مثل الصيد المقتول إلى الفقراء حيا لم يجز. قال الشافعي:
يجب عليه أن يتصدق به في الحرم أيضا لأن نفس الذبح إيلام ولا قربة فيه وإنما القربة في التصدّق على فقراء الحرم. وقال أبو حنيفة: له أن يتصدق به حيث شاء لأنها لما وصلت
والتركيب يدور على الثقل يقال: مرعى وبيل إذا كان فيه وخامة، وطعام وبيل تقيل على الطبع والمعدة. والأمور الثلاثة اثنان منها نقص في المال فيثقل على الطبع، والثالث وهو الصوم ثقيل على البدن أيضا، وكل منها نوع عقوبة عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ في الجاهلية لأنهم متعبدون بشرع من قبلهم، أو عما سلف قبل التحريم في الإسلام. وعلى مذهب داود عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ في المرة الأولى بسبب أداء الجزاء وَمَنْ عادَ فإنه أعظم من أن يعفى بالجزاء فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ أي فهو ينتقم الله منه وإلا لم يحتج إلى إدخال فاء الجزاء لارتباطه بنفسه. أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ أي مصيداته. ويعني بالبحر جميع هذه المياه والأنهار، وجملة ما يصاد منه ثلاثة أجناس: الحيتان وجميع أنواعها حلال، والضفادع وجميع أنواعها حرام، وفيما سوى هذين خلاف. فقال أبو حنيفة: حرام. وقال ابن أبي ليلى والأكثرون:
حلال. قوله وَطَعامُهُ العطف يقتضي المغايرة وفيه وجوه: يروى عن أبي بكر الصديق أن الصيد ما صيد بالحيلة حال حياته، والطعام ما يوجد مما لفظه البحر أو نضب عنه الماء من غير معالجة في أخذه. وقال جمع من العلماء: الاصطياد قد يكون للأكل وقد يكون لغيره كاصطياد الصدف لأجل اللؤلؤ واصطياد بعض الحيوانات البحرية لأجل عظامها وأسنانها.
فالمعنى أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصطاد في البحر، وأحل لكم أكل المأكول منه. وعن سعيد بن جبير أن الصيد هو الطري، والطعام هو القديد منه وفي الفرق ضعف. قال الشافعي: السمكة الطافية في البحر محللة لأنه طعام البحر وقد قال تعالى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ
وقال ﷺ في البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» «١»
مَتاعاً لَكُمْ في الحضر طريا ولِلسَّيَّارَةِ في السفر مالحا. وانتصب مَتاعاً على أنه مفعول له ولكنه
الدارمي في كتاب الوضوء باب ٥٣. أحمد في مسنده (٢/ ٢٣٧)، (٣/ ٣٧٣).
فعن علي وابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير وطاوس والثوري واسحق أن الحكم كذلك لإطلاق الآية،
ولما
روي عن علي أن النبي ﷺ أهدي إليه حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله.
وقال مالك والشافعي وأحمد: إن لحم الصيد مباح للمحرم بشرط أن لا يصطاده المحرم ولا يصطاد له لما
روى أبو داود في سننه عن جابر أن رسول الله ﷺ قال: «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم» «١»
وعن أبي هريرة وعطاء ومجاهد أنهم أجازوا للمحرم ما صاده الحلال وإن صاده لأجله إذا لم يدل ولم يشر، وكذلك ما ذبحه قبل إحرامه وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه لما
روي عن أبي قتادة أنه اصطاد حمار وحش وهو حلال في أصحاب محرمين له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أشرتم؟
هل أعنتم؟ فقالوا: لا فقال: هل بقي من لحمه شيء؟ قالوا معنا رجله. فأخذها النبي ﷺ فأكلها.
وهذان القولان مفرعان على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد. وقال في الكشاف: أخذ أبو حنيفة بالمفهوم فكأنه قيل: وحرم عليكم أيها المحرمون ما صدتم في البر، فيخرج عنه مصيد غيرهم. ويرد عليه أن المفهوم ليس بحجة. ثم حث على الطاعة والاجتناب عن المعاصي بقوله وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وهو كلام جامع للوعد والوعيد.
ثم ذكر سبب حرمة الصيد في الحرم وفي الإحرام فقال جَعَلَ اللَّهُ أي حكم وبين بالخطاب والتعريف، أو صير بخلق دواعي التعظيم في القلوب قِياماً لِلنَّاسِ وهم العرب ووجه المجاز أن أهل بلدة إذا قالوا «الناس فعلوا كذا» أرادوا أهل بلدتهم فنطق القرآن على مجرى عادتهم. وبيان القيام أن قوام المعيشة إما بكثرة المنافع وقد جعله بحيث يجبى إليه ثمرات كل شيء، وإما بدفع المضار وقد صيره حرما آمنا، وإما بحصول الجاه والرياسة وتوفر الدواعي والرغبات وذلك بدعاء إبراهيم عليه السلام. فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم: ٣٧] ثم المنافع الدينية الحاصلة من مناسكها وشعائرها أكثر من أن تحصى
قال «سبقت رحمتي غضبي» «١».
ثم قرر أن الرسول ما كان مكلفا إلا بالتبليغ فإذا بلغ خرج من العهدة وبقي الأمر من جانبكم وأنه تعالى يعلم جهركم وسركم، وفيه من الوعيد ما فيه،
عن جابر أن النبي ﷺ قال «إن الله عز وجل حرم عليكم عبادة الأوثان وشرب الخمر والطعن في الأنساب ألا وإن الخمر لعن الله شاربها وعاصرها وساقيها وبائعها وآكل ثمنها» «٢». فقام إليه أعرابي فقال: يا رسول الله إني كنت رجلا كانت هذه تجارتي واستفدت
(٢) رواه أبو داود في كتاب الأشربة باب ٢. الترمذي في كتاب البيوع باب ٥٨. ابن ماجه في كتاب الأشربة باب ٦. أحمد في مسنده (٢/ ٢٥، ٧١).
وهو عام في حرام الأموال وحلالها وفاسد الأعمال وصالحها وسقيم المذاهب وصحيحها ورديء النفوس وجيدها، وأخبث الخبائث الروحانية الجهل والمعصية، وأطيب الطيبات الروحانية معرفة الله تعالى وطاعته، والبون بين الصنفين في العالم الروحاني أبعد منه في العالم الجسماني، لأن أثرهما في عالم الأرواح أبقى وأدوم وأجل وأعظم، فلا تستبدل الخبيث يا إنسان بالطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث، لأن كثرته في التحقيق قلة، ولذته في نفس الأمر ذلة، ونقده زيف وصرف العمر في طلبه حيف.
التأويل:
لا تُحَرِّمُوا على أنفسكم بالاستمتاعات النفسانية طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ دون سائر المخلوقات من المواهب الربانية وَلا تَعْتَدُوا ولا تجاوزوا عن حد العبودية وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ واجتهدوا في طلب ما خصكم به الله من تجلي جماله وجلاله حَلالًا طَيِّباً يحل فيكم بريئا من سمات النقائص. بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ أن تحلفوا بآلائه عن التبرم من ولائه لملالة النفوس وكلالة القوي واستيلاء النفس وغلبة سلطان الهوى في أثناء المجاهدات وإعواز المشاهدات وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ إذا عزمتم على الهجران وتعرضتم للخذلان فَكَفَّارَتُهُ حينئذ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ الحواس الظاهرة والباطنة.
مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ وهم القلب والسر والروح والخفاء، طعامهم الشوق والمحبة والصدق والإخلاص والتفويض والتسليم والرضا والأنس والهيبة والشهود والكشوف، وأوسطه الذكر والتذكر والفكر والتفكر والشوق والتوكل والتعبد والخوف والرجاء يشغل الحواس العشرة بهذه الأمور، أو يكسوهم لباس التقوى، أو يحرر رقبة النفس من عبودية الحرص والهوى فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أمسك في اليوم الماضي عما عزم عليه وفي اليوم الحاضر عما لا يعنيه وفي اليوم المستقبل عن العود إليه. ومن لغو اليمين عند أرباب اليقين أن الطالب الصادق عند غلبات الشوق ووجدان الذوق يقسم عليه بجماله وحلاله أن يرزقه شيئا من إقباله ووصاله وذلك في شريعة الرضا لغو، وفي مذهب التسليم سهو ولكن يرجى له عفو فلا يؤاخذه بمقاله لعلمه بضعف حاله والكمال في الثبات والاستقامة.
أريد وصاله ويريد هجري | فأترك ما أريد لما يريد |
وحقنك ما نظرت إلى سواكا | بعين مودّة حتى أراكا |
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠١ الى ١٢٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢) ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥)
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)
يُنَزَّلُ من الإنزال: أبو عمرو وابن كثير وسهل ويعقوب شَهادَةُ بالتنوين آلله بالمد: روح وزيد. الباقون بالإضافة. «استحق» على البناء للفاعل: حفص والأعشى في اختياره الباقون على البناء للمفعول. الْأَوْلَيانِ جمع الأول نقيض الآخر.
سهل ويعقوب وحمزة وخلف وعاصم غير حفص والأعشى في اختياره الباقون الْأَوْلَيانِ تثنية الأولى الأحق الْغُيُوبِ بكسر الغين حيث كان: حمزة وحماد وأبو بكر غير الشموني والبرجمي والخزاعي عن ابن فليح في سِحْرٌ وكذلك في هود والصف: حمزة وعلي وخلف الباقون سِحْرٌ هل تستطيع بتاء الخطاب رَبُّكَ بالنصب: علي والأعشى في اختياره، الباقون بالياء وبالرفع أَنْ يُنَزِّلَ بالتخفيف من الإنزال: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. الباقون بالتشديد مُنَزِّلُها بالتشديد: عاصم وأبو جعفر ونافع وابن عامر.
الباقون بالتخفيف فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ بفتح ياء المتكلم: أبو جعفر ونافع وَأُمِّي بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص لِي أَنْ بالفتح: ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو. الباقون بالسكون يَوْمُ يَنْفَعُ بفتح الميم: نافع. الباقون بالرفع.
الوقوف:
تَسُؤْكُمْ ج لابتداء شرط آخر مع واو العطف. تُبْدَ لَكُمْ ط عَنْها ط
التفسير:
عن أنس أنهم سألوا رسول الله ﷺ فأكثروا المسألة فقام على المنبر فقال:
فاسألوني فو الله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا حدثتكم به. فقام عبد الله بن حذافة السهمي وكان يطعن في نسبه فقال: يا نبي الله من أبي؟ فقال: أبوك حذافة بن قيس وقال سراقة بن مالك- ويروى عكاشة بن محصن- يا رسول الله الحج علينا في كل عام؟ فأعرض عنه رسول الله ﷺ حتى أعاد مرتين أو ثلاثا فقال صلى الله عليه وسلم: ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم، والله إن قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لتركتم، ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه. وقام آخر فقال: يا رسول الله أين أبي؟ فقال: في النار. ولما اشتد غضب الرسول ﷺ قام عمر فقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد ﷺ نبيا. فأنزل الله هذه الآية.
فهي عائدة إلى قوله ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ كأنه قال: ما آتاكم الرسول فخذوه ولا تخوضوا في غيره فلعله يجيبكم بما يشق عليكم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته» «١»
وكان عبيد بن عمير يقول: إن الله أحل وحرم، فما أحل فاستحلوه وما حرم فاجتنبوه، وترك بين ذلك أشياء لم يحللها ولم يحرمها فذلك عفو من الله تعالى فاقبلوه. وقال أبو ثعلبة: إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحدّ حدودا فلا تعتدوها وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها. ثم لما رتب المساءة على السؤال ذكر أن الإبداء سيكون لأن الوحي غير منقطع فقال وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ أي في زمان الوحي لأن الرسول بين أظهركم تُبْدَ لَكُمْ تلك الأمور أو التكاليف. فالحاصل أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم وإن أبديت لهم ساءتهم فيلزم من المقدمتين أنهم إن سألوا عنها ساءتهم. وقيل: السؤال قسمان: أحدهما السؤال عن شيء لم يجر ذكره في الكتاب والسنة فنهى عنه بقوله لا تَسْئَلُوا والثاني السؤال عن شيء نزل به القرآن. لكن السامع لم يفهمه كما ينبغي وهذا السؤال غير مذموم فأشار إلى هذا القسم بقوله: وَإِنْ تَسْئَلُوا رفعا للحرج وتمييزا لهذا القسم من الأوّل. وإنما حسن عود الضمير
جاء في الحديث «عفوت عن صدقة الخيل والرقيق» «١»
أي خفف عنكم بإسقاطها قَدْ سَأَلَها يعني المسألة التي دل عليها لا تسألوا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ سأل الناقة قوم صالح فعقروها، وسأل الرؤية قوم موسى عليه السلام فصار وبالا عليهم، وسأل المائدة قوم عيسى عليه السلام فكفروا بها، ويحتمل أن يعود الضمير في سألها إلى الأشياء فكأن أمة محمد ﷺ سألوا عن أحوال الأشياء والمتقدمين سألوا نفس الأشياء كالناقة والمائدة والرؤية فلما اختلفت الأسئلة اختلفت العبارة إلا أن كل واحد من القسمين يشتركان في وصف هو الخوض في الفضول والشروع فيما لا يعني فتوجه الذم عليهما جميعا. ولما منعهم عن أمور تكلفوا البحث عنها ذم سيرة قوم تكلفوا التزام أمور لم يؤمروا بها. ومعنى ما جَعَلَ ما حكم بذلك ولا شرع. والبحيرة «فعلية» من البحر الشق. وبحر ناقته إذا شق أذنها وهي بمعنى المفعول. قال أبو عبيدة والزجاج: كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن وكان آخرها ذكرا شقوا أذن الناقة ومنعوا ركوبها وسيبوها لآلهتهم لا تنحر ولا يحمل على ظهرها ولا تطرد عن ماء ولا تردّ عن مرعى ولا ينتفع بها حتى لو لقيها المعي لا يركبها تحرجا. وأما السائبة فإنها فاعلة من «ساب» إذا جرى على وجه الأرض. يقال: ساب الماء وسابت الحية، فالسائبة هي التي تركت حتى تسيب إلى حيث شاءت، قال أبو عبيدة: كان الرجل إذا مرض أو قدم من سفر أو نذر نذرا أو شكر نعمة سيب بعيره فكان بمنزلة البحيرة في أحكامها. وقيل: هي أم البحيرة كانت الناقة إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث سيبت فلم تركب ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو الضيف حتى تموت، فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء جميعا وبحرت أذن بنتها الأخيرة وكانت بمنزلة أمها في أنها سائبة. وقال ابن عباس: السائبة هي التي تسيب للأصنام أي تعتق لها وكان الرجل يسيب من ماله ما يشاء فيجيء به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من لبنها أبناء السبيل. وقيل: هي العبد يعتق على أن لا يكون عليه ولاء ولا
حماه يحميه إذا حفظه. قال السدي: هو الفحل الذي يضرب في الإبل عشر سنين فيخلى.
وقيل: إن الفحل إذا ركب ولد ولده قالوا قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى إلى أن يموت. فإن قيل: إذا جاز إعتاق العبيد والإماء فلم لا يجوز إعتاق البهائم من الذبح والإيلام؟ فالجواب أن الإنسان خلق لعبادة الله تعالى فإذا أزيل الرق عنه كان ذلك معينا له على ما خلق لأجله، أما العجم من الحيوانات فإنما خلقت لمنافع المكلفين فتركها يقتضي تفويت كمالها عليها. وأيضا الإنسان إذا أعتق قدر على تحصيل المنافع ودفع المضار بخلاف البهائم فإنها عاجزة عن جذب الملائم ودفع المنافي في الأغلب، فإعناقها يفضي إلى ضياعها فظهر الفرق. وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ قال ابن عباس: يريد عمرو بن لحى وأصحابه كان قد ملك مكة شرفها الله وكان أوّل من غير دين إسماعيل فاتخذ الأصنام ونصب الأوثان وشرع البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
وقال رسول الله ﷺ في حقه «لقد رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه»
والقصب الأمعاء هذا حال رؤسائهم وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ يعني العوام والأتباع. ثم رد على أهل التقليد بقوله وَإِذا قِيلَ لَهُمْ الآية وقد مر تفسير مثله في سورة البقرة. فنفى العقل عنهم هناك والعلم هاهنا مع نفي الاهتداء في الموضعين وفيه دليل على أن الاقتداء لا يجوز إلا بالعاقل العالم المهتدي لابتناء قوله على الحجة والدليل لا على التقليد والأضاليل. قال أهل البرهان: العلم أبلغ درجة من العقل ولهذا يوصف الله تعالى بالعلم ولا يوصف بالعقل، وكان دعواهم هاهنا أبلغ لقولهم حَسْبُنا ما وَجَدْنا فناسب أن ينفي عنهم العلم الذي هو أبلغ. ثم ذكر أن هؤلاء الجهال مع ما تقدم من أنواع المبالغة في الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب لم ينتفعوا بشيء منه بل أصروا على جهالتهم وضلالتهم فلا تبالوا بهم أيها المؤمنون، فإن جهلهم لا يضركم إذا كنتم منقادين لتكاليف الله مطيعين لأوامره ونواهيه. تقول العرب: عليك زيدا وعندك عمرا يعدّونهما إلى المفعول كأنه قيل:
خذ زيدا فقد علاك أي أشرف عليك وحضرك عمرو فخذه. وليس المراد في عليك أنه حرف جر مع مجروره متعلق بمحذوف، بل الجار والمجرور معا منقول إلى معنى الفعل نقل الأعلام ولهذا سمي اسم فعل. فإن قيل: ظاهر الآية يوهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس بواجب، فالجواب المنع فإن الآية لا تدل إلا على أن المطيع لربه غير مؤاخذ بذنب العاصي وهذا
خطب أبو بكر فقال: إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها
وعن عبد الله بن المبارك أن هذه الآية آكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن معنى عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ احفظوها والزموا صلاحها بأن يعظ بعضكم بعضا ويرغبه في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات لا يَضُرُّكُمْ ضلال مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فإنكم خرجتم عن عهدة تكليفكم كما قال الله لرسوله ﷺ فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء: ٨٤] وقيل: إن الآية مخصوصة بما إذا خاف الإنسان عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نفسه أو على عرضه أو على ماله. وكان ابن شبرمة يقول: من فرّ من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فلم يفر. وقيل: إنها مختصة بالكفار الذين علم الله أنه لا ينفعهم الوعظ، يؤكده ما
روي في سبب النزول عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ لما أقر مجوس هجر بالجزية قال منافقو العرب: عجبا من محمد يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا ولا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب فلا نراه إلا قد قبل من مشركي أهل هجر ما رد على مشركي العرب فأنزل الله تعالى الآية
أي لا يضركم ملامة اللائمين إذا كنتم على الهدى والحق. وقيل: كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العناد من الكفرة فنزلت تسلية لهم كما قال لنبيه ﷺ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر: ٨] وعن ابن مسعود أن الآية قرئت عنده فقال: إن هذا في آخر الزمان. ومثله ما
روي عن أبي ثعلبة الخشني أنه سئل عن ذلك فقال للسائل: سألت عنها خبيرا سألت رسول الله ﷺ عنها فقال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا ما رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع أمر العوام، وإن من ورائكم أياما الصبر فيهن كقبض على الجمر للعامل منهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله.
وقيل: كان الرجل إذا أسلم قالوا له: سفهت آباءك ولاموه فنزلت.
ثم إنه سبحانه لما أمر بحفظ النفس في قوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ أمر بحفظ المال.
عن ابن عباس أن تميما الداري وأخاه عديا- وكانا نصرانيين-، خرجا إلى الشام ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص- وكان مسلما مهاجرا- خرجوا للتجارة. فلما قدموا الشام مرض بديل فكتب كتابا فيه نسخة جميع ما معه وأخفاه بين الأقمشة ولم يخبر صاحبيه بذلك، ثم أوصى إليهما وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله ومات. ففتشا متاعه فأخذا إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذهب ودفعا باقي المتاع إلى أهله لما قدما، فأصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما بالإناء فجحدا فرفعوهما إلى النبي ﷺ فنزلت.
ومعنى شَهادَةُ بَيْنِكُمْ شهادة ما بينكم أي من التنازع والتشاجر. وإنما أضيفت الشهادة إلى التنازع لأن الشهود إنما
وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما،
وبأن سبب النزول لا يلزم أن ينطبق على الحكم حذو القذة بالقذة، وبأن قصة أبي موسى خبر الواحد، وبأن الضرورة كانت في أوّل الإسلام لقلة المسلمين وتعذرهم في السفر غالبا. ومما يصلح أن يكون مؤكدا لهذه الآية وإن لم يجز أن يكون ناسخا لها عند من يرى أن المائدة من آخر القرآن نزولا قوله تعالى وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ
[الطلاق: ٢] وليس المراد من العدالة الاحتراز عن الكذب في النطق فقط بل في الدين والاعتقاد، ولا كذب أعظم من الفرية على الله تعالى وعلى رسله. وإنما تقبل شهادة أهل البدع والأهواء من هذه الأمة احتشاما لكلمة الإسلام. وموقع تَحْبِسُونَهُما أي توقفونهما وتصيرونهما استئناف كأنه قيل: فكيف نعمل إن ارتبنا؟ فقيل تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ قال ابن عباس: من بعد صلاة دينهما. وقال عامة المفسرين: من بعد صلاة العصر لأن هذا الوقت كان معروفا عندهم بالتحليف بعده، ولفعل رسول الله ﷺ حيث دعا بعدي وتميم فاستحلفهما عند المنبر بعد صلاة العصر، ولأن جميع أهل الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله تعالى فيه ويحترزون عن الحلف الكاذب، وأهل الكتاب يصلون لطلوع الشمس وغروبها. وقال الحسن: المراد بعد الظهر وبعد العصر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما. وقيل: بعد أي صلاة كانت لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. قال الشافعي: الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مائتي درهم بالزمان والمكان، فيحلف بعد العصر بمكة بين الركن والمقام وبالمدينة عند المنبر، وفي بيت المقدس عند الصخرة، وفي سائر البلدان في أشرف المساجد. وقد تغلظ بالتكرير والتعديل كما في القسامة واللعان أو بزيادة الأسماء والصفات، وقال أبو حنيفة: يحلف من غير التغليظ بزمان أو مكان. ولا يخفى أن قول الشافعي أوفق للآية. والمقسم عليه قوله لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وقوله إِنِ ارْتَبْتُمْ اعتراض، والضمير في بِهِ، للقسم وفي كان للمقسم له يعني لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من الدنيا ولو كان من يقسم له قريبا منا، أرادوا أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبدا كقوله شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ وخص ذا القربى بالذكر لأن الميل إليهم أتم والمداهنة بينهم أكمل وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ [النساء:
١٣٥] التي أمر بحفظها وتعظيمها وأدائها إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ أي إذا كتمناها كنا من الآثمين. ونقل عن الشعبي أنه وقف على قول الله عز وجل شَهادَةُ ثم ابتدأ اللَّهِ بالمد على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه. وروى عنه بغير مدّ على ما ذكره سيبويه أن منهم من يقول: الله لقد كان كذا والمعنى بالله فَإِنْ عُثِرَ قال الليث: عثر الرجل يعثر عثورا إذا هجم على أمر لم يهجم عليه غيره وقريب منه العثار لأن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه. والمعنى فإن حصل الاطلاع على أنهما استحقا إثما- وهو كناية عن الخيانة والحنث في الحلف- فَآخَرانِ خبر مبتدأ محذوف، أو فاعل فعل محذوف، أو صفة مبتدأ محذوف أي فالشاهدان أو فليشهد أو فشاهدان آخران يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ قال في الكشاف: أي الإثم ومعناه من الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعشيرته. وفي التفسير الكبير أنه المال. وإنما وصف موالي الميت بذلك لأنه أخذ مالهم وكل من أخذ
ومعنى الأوّلية التقدم على الأجانب في الشهادة أو التقدم في الذكر في قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وكذلك اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ذكرا قبل قوله قرأ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ومن قرأ اسْتَحَقَّ على البناء للفاعل عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فقد قال في الكشاف: معناه من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين. وفي التفسير الكبير أن الوصيين اللذين ظهرت خيانتهما هما أولى من غيرهما بسبب أن الميت عينهما للوصية، ولما خانا في مال الوصية صح أن يقال: إن الورثة قد استحق عليهم الأوليان أي خان في مالهم الأوليان.
روي أنه لما نزلت الآية الأولى صلى رسول الله ﷺ صلاة العصر ودعا بعدي وتميم فاستحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو إنه لم يوجد منا خيانة في هذا المال فخلى رسول الله ﷺ سبيلهما وكتما الإناء مدة، ثم باعاه فوجد بمكة. وقيل: لما طالت المدة أظهراه فبلغ ذلك ورثته فطلبوه منهما فقالا: كنا قد اشتريناه. فقالوا: ألم نقل لكم هل باع صاحبنا شيئا فقلتم لا؟ فقالا: لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نقر وكتمنا. فرفعوا القصة إلى رسول الله ﷺ فأنزل الله تعالى فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا الآية فقام عمرو بن العاص والمطلب بن وداعة فحلفا بالله بعد العصر لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا في طلب هذا المال وفي نسبتهم إلى الكذب والخيانة، فدفع رسول الله ﷺ الإناء إليهما وإلى أولياء الميت.
وكان تميم الداري يقول بعد إسلامه:
صدق الله وصدق رسوله أنا أخذت الإناء فأتوب إلى الله تعالى. وعن ابن عباس أنه بقيت تلك الواقعة مخفية إلى أن أسلم تميم الداري فقال: حلفت كاذبا وقد بعت الإناء أنا وصاحبي بألف وقسمنا الثمن، ثم دفع خمسمائة من نفسه ونزع من صاحبه خمسمائة أخرى
ثم إنه سبحانه ختم الأحكام بوصف أحوال القيامة وذكر بعض ما سيجري هناك من الخطاب والعتاب جريا على عادته في هذا الكتاب من خلط التكاليف بالإلهيات والنبوّات وأحوال المعاد فقال يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ قال الزجاج: تقديره واتقوا الله يوم كذا لا على أنه ظرف لأنهم غير مأمورين بالتقوى في ذلك اليوم ولكن على أنه بدل اشتمال من اسم الله، ويجوز أن يكون ظرفا لقوله لا يَهْدِي أي لا يهديهم طريق الجنة يومئذ، أو منصوبا بإضمار «اذكر»، أو ظرفا لما يجيء بعده وهو قالُوا وعلى هذين الوجهين تكون الآية منقطعة عما قبلها. و «ماذا» منصوب ب أُجِبْتُمْ ولكن انتصاب المصدر على معنى أيّ إجابة أجبتم، ولو أريد الجواب لقيل: بماذا أجبتم. وفائدة السؤال توبيخ قومهم كما كان سؤال الموؤدة توبيخا للوائد. ثم ظاهر قوله لا عِلْمَ لَنا يدل على أن الأنبياء لا يشهدون لأممهم، فالجمع بين هذا وبين قوله فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء: ٤١] الآية مشكل. فقال جمع من المفسرين: إن للقيامة زلازل وأهوالا تزيل العقول فالأنبياء عندها ينسون أكثر الأمور فهنالك يقولون: لا علم لنا، فإذا عادت إليهم عقولهم شهدوا للأمم. ولا يرد عليه قوله لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: ٣١] أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: ٦٢] لأن مواقف القيامة مختلفة، ولأن عدم الخوف في العاقبة لا ينافي الحيرة والدهشة أوّلا. وقال آخرون المراد منه المبالغة في توبيخ الكفرة فإن ذلك هو المقصود من السؤال كما يقول الواحد لغيره: ما تقول في فلان؟
فيقول: أنت أعلم به مني فكأنك قلت: لا يحتاج فيه إلى الشهادة لظهوره. وفيه مع التوبيخ إظهار لتشكي الأنبياء ممن كذبوهم وعادوهم. وقال ابن عباس: نفوا العلم عن أنفسهم عند علام الغيوب ليعلم أن علمهم هناك كلا علم. وقيل: المراد نفي العلم بخاتمة أحوالهم وما
وقرىء عَلَّامُ الْغُيُوبِ بالنصب على أن الكلام قد تم عند قوله أَنْتَ أي أنت الموصوف بالجلال والكبرياء، ثم نصب عَلَّامُ الْغُيُوبِ على الاختصاص أو على النداء. ثم عدّد أنواع نعمه على عيسى عليه السلام واحدة فواحدة تنبيها على أنه عبد وليس بإله وتوبيخا للمتمردين من الأمم، وأولى الأمم بذلك النصارى الطاعنون في ذات الله، سبحانه باتخاذ الصاحبة والولد. وموضع إِذْ قالَ رفع بالابتداء على معنى ذاك إذ قال الله أو نصب بإضمار «اذكر»، أو هو بدل من يَوْمَ يَجْمَعُ وإنما ذكر القول بلفظ الماضي دلالة على قرب القيامة حتى كأنها قد قامت ووقعت كما يقال: الجيش قد أتى إذا قرب إتيانهم، أو ورد على الحكاية كقول الرجل لصاحبه: كأنك بنا وقد دخلنا بلدة كذا فصنعنا كذا. ومحل يا عِيسَى مضموم على أنه منادى مفرد معرفة، أو مفتوح لأنه وصف بابن مضاف إلى علم وهو المختار للتخفيف وكثرة الاستعمال نِعْمَتِي عَلَيْكَ أراد الجمع ووحدت لأنه مضاف يصلح للجنس. وإنما قال وَعَلى والِدَتِكَ لأن النعمة على الولد نعمة على أبويه، ولأن مكارم الأخلاق دليل على طيب الأعراق. إِذْ أَيَّدْتُكَ بدل من نِعْمَتِي أي قوّيتك بِرُوحِ الْقُدُسِ أي بجبريل والقدس هو الله كأنه أضافه إلى نفسه تعظيما له، أو بالروح الطاهرة المقدسة وقد تقدم في البقرة تُكَلِّمُ النَّاسَ حكاية حال ماضية فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا في هاتين الحالتين من غير تفاوت وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ الخط أو جنس الكتب وَالْحِكْمَةَ النظرية والعلمية وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ يعنى الإحاطة بالأسرار الإلهية بعد العلوم المتداولة فَتَنْفُخُ فِيها الضمير للكاف لا للهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شيء، وكذلك الضمير في فَتَكُونُ والكاف مؤنث بحسب المعنى لدلالتها على الهيئة التي هي كهيئة الطير ومذكر في الظاهر فلهذا عاد الضمير إليه مذكرا تارة كما في آل عمران، ومؤنثا أخرى كما في هذه السورة. وكرر بِإِذْنِي أي بتسهيلي ليعلم أن الكل بأقدار الله تعالى وتمكينه وإظهاره الخوارق على يديه وإلا فهو عبد كسائر عبيده. وَإِذْ كَفَفْتُ يروى أنه لما أظهر هذه المعجزات العجيبة قصد اليهود قتله فخلصه الله تعالى برفعه إلى السماء.
إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ من قرأ بغير ألف أشار إلى ما جاء به أو أراد أنه ذو سحر فأطلق عليه الحدث مبالغة، ومن قرأ بالألف أشار إلى الرجل. واللام في بِالْبَيِّناتِ يحتمل أن تكون للجنس ويحتمل أن يراد بها المعجزات المذكورة. وذكر قول الكفار في حقه إِنْ هذا
يحتمل أن يكون من تمام القصة استطرادا، ويمكن أن يراد بذلك تعداد النعم أيضا لأن كل ذي نعمة محسود، فطعن الكفار فيه يدل على علو شأنه وسموّ مكانه.
وإذا أتتك مذمتي من ناقص | فهي الشهادة لي بأني كامل |
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا إن كانوا أنبياء فظاهر وإلا فالوحي بمعنى الإلهام كقوله وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل: ٦٨] وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى [القصص: ٧] وهذا أيضا من جملة النعم لأن كون الإنسان مقبول القول عند الناس محبوبا في قلوبهم من أعظم نعم الله تعالى. وقدم الإيمان على الإسلام ليعلم أنهم آمنوا بقلوبهم.
وانقادوا بظواهرهم هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ من قرأ بالتاء وبالنصب فظاهر والمراد هل تستطيع سؤال ربك أي هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عن سؤاله؟ ومن قرأ بالياء وبالرفع فمشكل لأنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا آمنا فكيف يتصوّر مع الإيمان شك في اقتدار الله تعالى؟ وأجيب بوجوه منها: أن حكاية الإيمان عنهم لا يوجب كمالهم وإخلاصهم في ذلك ولهذا قال لهم عيسى اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ومنها أنهم طلبوا مزيد الإيقان والطمأنينة ولهذا قالوا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا ومنها أنهم أرادوا هل هو جائز في الحكمة أم لا، وهذا على أصول المعتزلة من وجوب رعاية الأصلح، أو أرادوا هل قضي بذلك وعلم وقوعه أم لا، فإن خلاف معلومه غير مقدور وهذا عند الأشاعرة. ومنها قول السدّي إن السين زائدة وكذا التاء أي هل يطيع ربك؟ ومنها لعل المراد بالرب جبريل لأنه كان يربيه. ومنها أن المراد بالاستفهام التقرير كمن يأخذ بيد ضعيف ويقول: هل يقدر السلطان على إشباع هذا؟ يريد أن ذلك أمر جلي لا يجوز للعاقل أن يشك فيه. قال الزجاج: المائدة فاعلة من ماد يميد إذا تحرك فكأنها تميد بما عليها. وذلك أنها لا تسمى مائدة إلا إذا كان عليها طعام فإذا لم يكن عليها طعام فهي خوان. وقال ابن الأنباري: هي من مادة إذا أعطاه كأنها تعطي من تقدم إليه. وقال أبو عبيدة: هي بمعنى «مفعولة» مثل عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: ٢١] أي مرضية كأن صاحبها أعطاها الحاضرين. قال عيسى اتَّقُوا اللَّهَ في تعيين المعجزة فإنه كالتحكم. وأيضا اقتراح معجزة بعد ظهور معجزات كثيرة تعنت، أو أمرهم بالتقوى ليتوسلوا بها إلى المطلوب وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: ٢، ٣] فأجاب الحواريون بأنا لا نطلب هذه المعجزة بمجردها ولكنا نريد أن نأكل منها فإن الجوع قد غلب علينا ولا نجد طعاما آخر- يروى أنهم سألوها في مفازة على غير ماء ولا طعام- وأن نزداد
قردة. وقيل: جنسا من العذاب لا يكون مؤخرا إلى الآخرة. وَعَذاباً نصب على المصدر أي تعذيبا والضمير في لا أُعَذِّبُهُ للمصدر، ولو أريد بالعذاب ما يعذب به لم يكن بد من الباء في الموضعين، فقيل: أعذبه بعذاب لا أعذب به أحدا، وأراد بالعالمين عالمي زمانهم. واختلف في أن عيسى عليه السلام سأل المائدة لنفسه أو سألها لقومه وإن كان أضافها إلى نفسه في الظاهر وكلاهما محتمل. أما نزولها فقد قال مجاهد والحسن: إن المائدة ما نزلت بل القوم لما سمعوا العذاب استغفروا وقالوا: لا نريدها وأكدوا هذا القول بأنه وصف المائدة بكونها عيدا لأولهم وآخرهم، فلو نزلت لبقي العيد إلى يوم القيامة. وقال جمهور المفسرين: إنها نزلت لأنه سبحانه وعد إنزالها بقوله إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ ثم إن يوم نزولها كان عيدا لهم ولمن بعدهم ممن كان على شرعهم.
روي أن عيسى عليه السلام لما أراد الدعاء لبس الصوف ثم قال: اللهم أنزل علينا فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين، غمامة فوقها وأخرى تحتها، وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى عليه السلام
وقيل: إن عيسى عليه السلام كان شرط عليهم أن لا يسرفوا في الأكل ولا يدخروا فعصوا وادخروا فمسخوا، وَإِذْ قالَ اللَّهُ معطوف على مثله.
والصحيح أن هذا القول أيضا يوم القيامة لقوله عقيب ذلك هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ وقيل: هذا عند رفع عيسى عليه السلام نظرا إلى أن «إذ» للماضي وقد مر توجيه ذلك. أَأَنْتَ قُلْتَ استفهام بطريق الإنكار والغرض منه توبيخ النصارى. قال بعض المشككين: إن أحدا من النصارى لم يذهب إلى القول بإلهية عيسى عليه السلام وأمه مع القول بنفي إلهية الله تعالى. وأجيب بأن الإله هو الخالق وأنهم يعتقدون أن خالق المعجزات والكرامات التي ظهرت على يد عيسى ومريم هو عيسى ومريم وليس لقدرة الله سبحانه في ذلك مدخل، فبهذا التأويل صح ما حكي عنهم. وأقول: يشبه أن يكون المراد بقوله مِنْ دُونِ اللَّهِ أي بعد الله فيكون التوبيخ على التثليث. أو المراد أنه لما دل البرهان على نفي تعدد الإله فمن قال بإلهية عيسى أو أمه لزمه القول بنفي المعبود الحق تعالى عن ذلك ولهذا قال عيسى سُبْحانَكَ أي أنزهك تنزيها من أن يكون لك شريك. ثم لم يجب بأني قلت أو ما قلت لأن ذلك يجري مجرى الطهارة والتبرئة بل أجاب بقوله ما يَكُونُ أي ما ينبغي لي أن أقول قولا لا يحق لي أن أقوله إظهارا لغاية الخضوع والاستكانة. ثم فوّض الأمر إلى علمه المحيط بالكل فقال إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ثم علل ذلك بقوله تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ أي تعلم معلومي ولا أعلم معلومك. وذكر النفس ثانيا لأجل المشاكلة وهو من فصيح الكلام، أو تعلم ما أخفي ولا أعلم ما تخفي، أو تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك، أو تعلم ما أقول وأفعل ولا أعلم ما تقول وتفعل- عبارات للمفسرين- ثم أكد ما ذكر بقوله إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ «أن» في قوله أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ إن جعلتها مفسرة
وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فيه سؤال وهو أنه كيف جاز لعيسى هذا القول والله تعالى لا يغفر الشرك؟ والجواب أن قوله لعيسى عليه السلام أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ مبني على أن قوما من النصارى حكوا عنه هذا الكلام، والحاكي لهذا الكفر عنه لا يكون كافرا بل يكون مذنبا فقط، ولو سلم أنه أشرك فغفران الشرك جائز عندنا وعند جمهور البصريين من المعتزلة لأن العقاب حق الله على المذنب وليس في إسقاطه على الله تعالى مضرة، بل كلما كان الجرم أعظم كان العفو أحسن، إلا أن الدليل السمعي في شرعنا دل على أنه لا يكون فلعل هذا الدليل السمعي لم يكن موجودا في شرع عيسى عليه السلام، أو لعل عيسى جوّز أن يكون بعضهم قد تاب عنه. أما من زعم أن هذه المناظرة والمحاورة إنما كانت عند رفعه إلى السماء فلا إشكال أصلا لأن المراد إن توفيتهم على هذا الكفر وعذبتهم فإنهم عبادك فلك ذاك، وإن أخرجتهم بتوفيقك من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان وغفرت لهم ما سلف منهم فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ القادر على ما تريد الْحَكِيمُ في كل ما تفعل لا اعتراض لأحد عليك، وفى
وقال الفراء: يوم أضيف إلى ما ليس باسم فبني على الفتح كما في «يومئذ» وخطأه البصريون وقالوا: إنما يبنى الظرف إذا أضيف إلى المبنى كالماضي في قول النابغة:
على حين عاتبت المشيب على الصبا أو مثل «لا» في قوله تعالى يَوْمَ لا تَمْلِكُ [الانفطار: ١٩] وأجمعوا على أن هذا اليوم يوم القيامة. والمراد أن صدقهم في الدنيا ينفعهم في القيامة كما قال قتادة: متكلمان تكلما يوم القيامة: أما إبليس فقال إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ [إبراهيم: ٢٢] فصدق وكان قبل ذلك كاذبا فلم ينفعه، وأما عيسى فكان صادقا في الدنيا وفي الآخرة فنفعه صدقه. وفي هذا الكلام تصديق من الله تعالى لعيسى في قوله ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ هما متلازمان لأن رضا الله عن العبد في رعاية وظائف العبودية وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] وإذا صحح الإنسان نسبة العبودية علم أن العبد لا يكون له إرادة واختيار فتكون إرادته مغمورة في إرادة ربه. ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ إشارة إلى جميع المذكورات أو إلى الجزء الأشرف الأقرب وهو الرضوان ما فِيهِنَّ لم يقل «ومن فيهن» ليكون أدل على العموم، ولينبه على أن عقول ذوي العقول وعلوم أرباب العلوم بالنسبة إلى علمه كلا علم، وإنما هم وغيرهم تحت قهره وتسخيره سواء. واعلم أنه سبحانه افتتح السورة بقوله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: ١] وهو الشريعة والبداية وختم السورة بهذه الآية الدالة على فناء الكل في جنب جلاله وكبريائه وهو الحقيقة والنهاية، فما أحسن هذا النسق! وأيضا في السورة بيان الشرائع والأحكام الكثيرة والمناظرة مع اليهود والنصارى، فهذا الاختتام ذكر فيه أن سبحانه مالك لجميع الممكنات والكائنات موجد لجميع الأرواح والأجساد ليصح التكليف على أيّ وجه أراد، وليكون ردا على اليهود بحكم المالكية في
التأويل:
أخبر عن كثرة السؤال أنها تورث الملال وذلك أن علوم القال غير علوم الحال، والصنف الأول يحمد فيه السؤال والثاني يذم فيه ذلك إذ يحصل بالعيان لا بالبرهان كما كان حال الأنبياء عليهم السلام مع الله وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ [الأنعام: ٧٥] لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم: ١٨]
وقال ﷺ «أرنا الأشياء كما هى».
وقال الخضر لموسى عليه السلام فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ [الكهف: ٧٦] وقال موسى في الثالثة إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي [الكهف: ٧٦] فإن تعلم العلم اللدني بالحال في الصحبة والمتابعة والتسليم. وفي السؤال الانقطاع عن الصحبة وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ أي إن كان لا بد لكم من السؤال عن حقائق فاسألوا عنها بعد نزول القرآن ليخبركم عن حقائقها على قدر عقولكم. وَاللَّهُ غَفُورٌ لمن تاب من طلب علوم الحقائق بالقال حَلِيمٌ لمن يطلب بالحال فيصدر عنه في أثناء الطلب سؤال قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ كقدماء الفلاسفة أعرضوا عن متابعة الأنبياء وأقبلوا على مجرد القيل والقال، فوقعوا في أودية الشبهات والضلال ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ قال الشيخ المحقق نجم الدين:
المعروف بداية هم الحيدرية والقلندرية يشقون آذانهم وذكورهم ويجعلون فيها حلق الحديد ويحلقون لحيتهم وَلا سائِبَةٍ هم الذين يضربون في الأرض خليعي العذار بلا لجام الشريعة وقيد الطريقة ويدعون أنهم أهل الحقيقة وَلا وَصِيلَةٍ هم أهل الإباحة الذين يتصلون بالأجانب بطريق المؤاخاة والاتحاد ويرفضون صحبة الأقارب لأجل العصبية والعناد وَلا حامٍ وهو المغرور بالله يظن أنه بلغ مقام الحقيقة فلا يضره مخالفات الشريعة. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الأحكام وَإِلَى الرَّسُولِ لمتابعته قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي مشايخنا وأهل صحبتنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً من الشريعة والطريقة وَلا يَهْتَدُونَ إلى الحقيقة. عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي اشتغلوا أوّلا بتزكية نفوسكم ثم بإرشاد الغير فإن الفريق الذي لم يتعلم السباحة إذا تشبث به مثله هلكا معا إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فللطالبين بجذبات العناية وللمضلين بسلاسل القهر والنكاية إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي النفس تموت عن صفاتها الذميمة بالرياضة والمجاهدة فتوصي بصفاتها لورثتها وهم القلب وأوصافه والوصيان اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هما العقل والسر
فالعقل والسر يشهدان الحق وإن كان على ذي قرابة من الروحانيات، والوهم والخيال شهادتهما الصدق والكذب. إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي سافرتم في السفليات فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ أي فتصيب النفس جذبة الحق فتموت تَحْبِسُونَهُما إن كنتم في بعد من الروحانيات مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ من بعد حضورهما مع الله وتوجيههما إلى الحق ومراقبة تامة، فيشدد على الشاهدين بالقسم والتخويف بالله أن يؤديا شهادة الحق ويدفعا تركة النفس وهي صفاتها إلى ورثتها وهم القلب وصفاته، ولا يصرفانها في شيء من السفليات فإن كل خلق إذا استعملته النفس كان صفة ذميمة، فإذا استعمله القلب صار وصفا محمودا كالحرص إذا استعملته النفس في طلب الدنيا ولذتها كان وصفا مذموما، وإذا استعمله القلب في طلب العلوم والكمالات صار ممدوحا. فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً بأن مالا إلى حظ من الحظوظ السفلية فَآخَرانِ من صفات القلب هما: التذكر والفكر الصائب ينظران في عواقب الأمور ويشهدان على أن الآخرة خير من الدنيا والباقي خير من الفاني لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما لأن الوهم والخيال مالا إلى الحظوظ بكتمان الحقوق، والتذكر والتفكر مالا إلى حفظ الحقوق بترك الحظوظ. أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أي العقل والسر يأتيان في بدو الأمر باستعمال صفات النفس في السعادات الأخروية، أو يخافان عواقب الأمور بأن يشددوا على أنفسهم بالاستمهال وتضييع الأعمال وإفساد الاستعداد، ثم بالتفكر والتذكر يردّ الأمر إلى وجوب رعاية الحقوق فيحتاجان إلى كثرة الرياضة. ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا وهم مستغرقون في بحر الشهود. لا عِلْمَ لَنا اي ببواطن الأمور وحقائقها. وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أي في عالم الأرواح يوم الميثاق قالوا بسبب ذلك التعارف في عالم الأشباح آمنا. إن بعض الحواريين المقلدين في الإيمان قالوا يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ فما راعوا الأدب مع نبيهم حيث لم يقولوا يا رسول الله أو يا روح الله، ولا مع ربهم حيث تشككوا في كمال قدرته. ثم أظهروا دناءة همتهم حيث طلبوا بواسطة مثل عيسى من واهب المواهب مائدة جسمانية لا فائدة روحانية فقال عيسى اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً الأسرار والحقائق من سماء العناية عليها أطعمة الهداية تَكُونُ لَنا أي لأهل الحق والصدق عِيداً نفرح بها لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا أي لأول أنفاسنا وآخرها فإن أهل الحق يراقبون الأنفاس لتصعد مع الله وتهوي مع الله وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لأن الذي ترزق رزق منك والذي يرزق ظاهرا من غيرك فهو أيضا منك بالواسطة، وما بالذات خير مما بالواسطة. فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ بأن لا يقوم بحقها ويجعلها شبكة يصطاد بها الدنيا فإني أرده من المراتب الروحانية إلى المهالك الحيوانية وهو المسخ
قال ﷺ «يموت المرء على ما عاش فيه ويحشر على ما مات عليه»
أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ الخطاب مع الأمة إلا أن من سنته سبحانه أن لا يكلم الكفار فكلم عيسى بدلا منهم، أو المراد بالقول أمر التكوين فالمعنى أأنت خلقت فيهم اتخاذك وأمك الهين أم أنا خلقت ذلك فيهم خذلانا لهم؟
إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ الغيب ما غاب عن الخلق. ويحتمل أن سيعلمه الخلق، وغيب الغيب ما غاب عنهم ولا يمكنهم أن يعلموه، والله حسبي ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير.