تفسير سورة سورة المائدة من كتاب محاسن التأويل
المعروف بـتفسير القاسمي
.
لمؤلفه
جمال الدين القاسمي
.
المتوفي سنة 1332 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
٥- سورة المائدةسميت بها لأن قصتها أعجب ما ذكر فيها. لاشتمالها على آيات كثيرة ولطف عظيم على من آمن وعنف شديد على من كفر. فهو أعظم دواعي قبول التكاليف، المفيدة عقدة المحبة من الاتصال الإيماني، بين الله وبين عبيده. أفاده المهايمي.
وهذه السورة مدنية. وآياتها مائة وعشرون.
قال الشهاب الخفاجي : السورة مدنية، إلا قوله تعالى :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم... ﴾ إلخ، فإنها نزلت بمكة. انتهى.
أقول : في كلامه نظران :
الأول- إن هذا بناء على أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدني ما نزل بالمدينة. وهو اصطلاح لبعض السلف. ولكن الأشهر كما في ( الإتقان ) : أن المكي ما نزل قبل الهجرة. والمدني ما نزل بعدها. سواء نزل بمكة أم بالمدينة، عام الفتح أو عام حجة الوداع، أم بسفر من الأسفار.
والثاني- بقي عليه، لو مشى على ذاك الاصطلاح، آيات أخر.
قال السيوطي في ( الإتقان ) : في ( النوع الثاني معرفة الحضري والسفري ) للسفري أمثلة.
منها : أول المائدة. أخرج البيهقي في ( شعب الإيمان ) عن أسماء بنت يزيد ؛ أنها نزلت بمنى. وأخرج في ( الدلائل ) عن أم عمرو، عن عمها ؛ أنها نزلت في مسير له. وأخرج أبو عبيد عن محمد بن كعب قال : نزلت سورة المائدة في حجة الوداع، فيما بين مكة والمدينة.
ومنها :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم ﴾١ في ( الصحيح ) عن عمر :" أنها نزلت عشية عرفة، يوم الجمعة، عام حجة الوداع ". وله طرق كثيرة. لكن أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري ؛ أنها نزلت يوم غدير خم. وأخرج مثله من حديث أبي هريرة. وفيه :" إنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، مرجعه من حجة الوداع ". وكلاهما لا يصح.
ومنها : آية التيمم فيها. في ( الصحيح ) ٢ عن عائشة ؛ " أنها نزلت بالبيداء وهم داخلون المدينة ".
ومنها :﴿ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم... ﴾ ٣ الآية نزلت ببطن نخل.
ومنها :﴿ والله يعصمك من الناس ﴾٤ نزلت في ذات الرقاع. انتهى.
وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط هذه الروايات، عند هذه الآيات.
قال ابن كثير : روى الإمام أحمد٥ عن أسماء بنت يزيد قالت :" إني لآخذة بزمام العضباء- ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم- إذ نزلت عليه المائدة كلها. فكادت من ثقلها تدق عضد الناقة ". وروى الإمام أحمد٦ أيضا عن عبد الله بن عمرو قال :" أنزلت عل رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته، لم تستطع أن تحمله، فنزل عنها ". تفرد به أحمد. وروى الحاكم عن جبير بن نفير قال :" حججت فدخلت على عائشة فقالت لي : يا جبير ! تقرأ المائدة ؟ فقلت : نعم. فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت. فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه. وما وجدتم فيها من حرام فحرموه ". ثم قال : صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
١ - [٥/ المائدة/ ٣] ونصها: ﴿حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمترية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على الصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم بئس الذين كفروا فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا، فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم (٣)﴾..
٢ - أخرجه البخاري في: ٧- كتاب التيمم، ١- حدثنا عبد الله بن يوسف، حديث ٢٣٠ ونصه: عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: "خرجنا مع رسول صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش، انقطع عقد لي. فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه. وأقام الناس معه. وليسوا على ماء. فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخدي، قد نام. فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء.
قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول. وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أصبح، على غير ماء.
فأنزل الله آية التيمم فتيمموا.
فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.
قالت: فبعثنا البعير الذي كنا عليه، فأصبنا العقد تحته"..
٣ - [٥/ المائدة١١] ونصها: ﴿يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون(١١)﴾..
٤ - [٥/ المائدة/ ٦٧] ونصها: ﴿يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين (٦٧)﴾..
٥ - أخرجه في المسند بالصفحة ٤٥٥ من الجزء السادس (طبعة الحلبي)..
٦ - أخرجه في المسند بالصفحة ١٧٦ من الجزء الثاني (طبعة الحلبي) والحديث رقم ٦٦٤٣ (طبعة المعارف)..
٢ - أخرجه البخاري في: ٧- كتاب التيمم، ١- حدثنا عبد الله بن يوسف، حديث ٢٣٠ ونصه: عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: "خرجنا مع رسول صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش، انقطع عقد لي. فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه. وأقام الناس معه. وليسوا على ماء. فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخدي، قد نام. فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء.
قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول. وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أصبح، على غير ماء.
فأنزل الله آية التيمم فتيمموا.
فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.
قالت: فبعثنا البعير الذي كنا عليه، فأصبنا العقد تحته"..
٣ - [٥/ المائدة١١] ونصها: ﴿يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون(١١)﴾..
٤ - [٥/ المائدة/ ٦٧] ونصها: ﴿يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين (٦٧)﴾..
٥ - أخرجه في المسند بالصفحة ٤٥٥ من الجزء السادس (طبعة الحلبي)..
٦ - أخرجه في المسند بالصفحة ١٧٦ من الجزء الثاني (طبعة الحلبي) والحديث رقم ٦٦٤٣ (طبعة المعارف)..
ﰡ
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ روى ابن أبي حاتم أن رجلا أتى عبد الله ابن مسعود فقال: اعهد إليّ! فقال: إذا سمعت الله يقول يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فأرعها سمعك، فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه و (الوفاء) ضد الغدر، كما في (القاموس) وقال غيره: هو ملازمة طريق المواساة ومحافظة عهود الخلطاء. يقال: وفي بالعهد وأوفى به.
قال ناصر الدين في (الانتصاف) : ورد في الكتاب العزيز (وفّى) بالتضعيف في قوله تعالى: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: ٣٧]، وورد (أوفى) كثيرا. ومنه: أوفوا بالعقود. وأما (وفى) ثلاثيا، فلم يرد إلا في قوله تعالى: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة: ١١١]، لأنه بنى أفعل التفضيل من (وفى) إذ لا يبنى إلا من ثلاثيّ.
و (العقود) جمع عقد وهو العهد الموثق. شبه بعقد الحبل ونحوه، وهي عقود الله التي عقدها على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف. قال عليّ بن طلحة:
قال ابن عباس: يعني بالعهود ما أحل الله وما حرم، وما فرض، وما حدّ في القرآن كلّه، ولا تغدروا ولا تنكثوا. وقال زيد بن أسلم: العقود ستة: عهد الله وعقد الحلف وعقد الشركة وعقد البيع وعقد النكاح وعقد اليمين. قال الزمخشريّ: والظاهر أنها عقود الله عليهم في دينه، من تحليل حلاله وتحريم حرامه. وأنه كلام قديم مجملا. ثم عقب بالتفصيل. وهو قوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ البهيمة ما لا عقل له مطلقا، من ذوات الأرواح أو ذوات الأربع.
قال الراغب: خص في المتعارف بما عدا السباع والطير. وإضافتها للأنعام، للبيان كثوب الخز. وإفرادها لإرادة الجنس. أي: أحلّ لكم أكل البهيمة من الأنعام.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١)يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ روى ابن أبي حاتم أن رجلا أتى عبد الله ابن مسعود فقال: اعهد إليّ! فقال: إذا سمعت الله يقول يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فأرعها سمعك، فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه و (الوفاء) ضد الغدر، كما في (القاموس) وقال غيره: هو ملازمة طريق المواساة ومحافظة عهود الخلطاء. يقال: وفي بالعهد وأوفى به.
قال ناصر الدين في (الانتصاف) : ورد في الكتاب العزيز (وفّى) بالتضعيف في قوله تعالى: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: ٣٧]، وورد (أوفى) كثيرا. ومنه: أوفوا بالعقود. وأما (وفى) ثلاثيا، فلم يرد إلا في قوله تعالى: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة: ١١١]، لأنه بنى أفعل التفضيل من (وفى) إذ لا يبنى إلا من ثلاثيّ.
و (العقود) جمع عقد وهو العهد الموثق. شبه بعقد الحبل ونحوه، وهي عقود الله التي عقدها على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف. قال عليّ بن طلحة:
قال ابن عباس: يعني بالعهود ما أحل الله وما حرم، وما فرض، وما حدّ في القرآن كلّه، ولا تغدروا ولا تنكثوا. وقال زيد بن أسلم: العقود ستة: عهد الله وعقد الحلف وعقد الشركة وعقد البيع وعقد النكاح وعقد اليمين. قال الزمخشريّ: والظاهر أنها عقود الله عليهم في دينه، من تحليل حلاله وتحريم حرامه. وأنه كلام قديم مجملا. ثم عقب بالتفصيل. وهو قوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ البهيمة ما لا عقل له مطلقا، من ذوات الأرواح أو ذوات الأربع.
قال الراغب: خص في المتعارف بما عدا السباع والطير. وإضافتها للأنعام، للبيان كثوب الخز. وإفرادها لإرادة الجنس. أي: أحلّ لكم أكل البهيمة من الأنعام.
5
جمع (نعم) محرّكة وقد تسكن عينه. وهي الإبل والبقر والشاء والمعز إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ يعني: رخصت لكم الأنعام كلها. إلّا ما حرم عليكم في هذه السورة، وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك. وذلك أنهم كانوا يحرمون السائبة والبحيرة.
فأخبر الله تعالى أنهما حلالان، إلّا ما بيّن في هذه السورة، ثم قال غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ يعني: أحلت لكم هذه الأشياء. من غير أن تستحلوا الصيد وأنتم محرمون. ف (غير) نصب على الحالية من ضمير (لكم). قال في (العناية) : ولا يرد ما قيل: إنه يلزم تقيد إحلال بهيمة الأنعام بحال انتفاء حل الصيد وهم حرم. وهي قد أحلت لهم مطلقا. ولا يظهر له فائدة، إلّا إذا عنى بالبهيمة الظباء وحمر الوحش وبقره، لأنه- مع عدم اطراد اعتبار المفهوم- يعلم منه غيره بالطريق الأولى. لأنها إذا أحلت في عدم الإحلال لغيرها، وهم محرمون لدفع الحرج عنهم، فكيف في غير هذه الحال؟ فيكون بيانا لإنعام الله عليهم بما رخص لهم من ذلك. وبيانا لأنهم في غنية عن الصيد وانتهاك حرمة الحرم. وفي (الإكليل) : في الآية تحريم الصيد في الإحرام والحرم. لأن «حرما» بمعنى محرمين، ويقال: أحرم أي: بحجّ وعمرة. وأحرم: دخل في الحرم. انتهى.
قال بعض الزيدية: والمراد بالصيد المحرّم على المحرم. هو صيد البر. لقوله في هذه السورة: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة: ٩٦]، هذا إذا جعل (حرم) جمع (محرم) وهو الفاعل للإحرام، وإن جعل للداخل في الحرم، استوى تحريم البحريّ والبرّي. وذلك حيث يكون في الحرم نهر فيه صيد فيحرم، لقوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران: ٩٧]. لأنه يقال لمن دخل الحرم، أنه محرم. كما يقال: أعرق وأنجد: إذا دخل العراق ونجدا. ويكون التحريم في مكة وحرم المدينة لما ورد من الأخبار في النهي عن صيد المدينة وأخذ شجرها. نحو: المدينة «١» حرم من عير إلى ثور. انتهى.
فأخبر الله تعالى أنهما حلالان، إلّا ما بيّن في هذه السورة، ثم قال غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ يعني: أحلت لكم هذه الأشياء. من غير أن تستحلوا الصيد وأنتم محرمون. ف (غير) نصب على الحالية من ضمير (لكم). قال في (العناية) : ولا يرد ما قيل: إنه يلزم تقيد إحلال بهيمة الأنعام بحال انتفاء حل الصيد وهم حرم. وهي قد أحلت لهم مطلقا. ولا يظهر له فائدة، إلّا إذا عنى بالبهيمة الظباء وحمر الوحش وبقره، لأنه- مع عدم اطراد اعتبار المفهوم- يعلم منه غيره بالطريق الأولى. لأنها إذا أحلت في عدم الإحلال لغيرها، وهم محرمون لدفع الحرج عنهم، فكيف في غير هذه الحال؟ فيكون بيانا لإنعام الله عليهم بما رخص لهم من ذلك. وبيانا لأنهم في غنية عن الصيد وانتهاك حرمة الحرم. وفي (الإكليل) : في الآية تحريم الصيد في الإحرام والحرم. لأن «حرما» بمعنى محرمين، ويقال: أحرم أي: بحجّ وعمرة. وأحرم: دخل في الحرم. انتهى.
قال بعض الزيدية: والمراد بالصيد المحرّم على المحرم. هو صيد البر. لقوله في هذه السورة: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة: ٩٦]، هذا إذا جعل (حرم) جمع (محرم) وهو الفاعل للإحرام، وإن جعل للداخل في الحرم، استوى تحريم البحريّ والبرّي. وذلك حيث يكون في الحرم نهر فيه صيد فيحرم، لقوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران: ٩٧]. لأنه يقال لمن دخل الحرم، أنه محرم. كما يقال: أعرق وأنجد: إذا دخل العراق ونجدا. ويكون التحريم في مكة وحرم المدينة لما ورد من الأخبار في النهي عن صيد المدينة وأخذ شجرها. نحو: المدينة «١» حرم من عير إلى ثور. انتهى.
(١)
أخرجه البخاري في: فضائل المدينة، ١- باب حرم المدينة، حديث ٩٤٣ ونصه: عن أنس رضي الله عنه، عن النبيّ ﷺ قال «المدينة حرم من كذا إلى كذا. لا يقطع شجرها ولا يحدث فيها حدث. من أحدث حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».
ورواه أيضا في: الاعتصام، ٦- باب إثم من آوى محدثا. ونصه: حدثنا عاصم قال: قلت لأنس:
أحرّم رسول الله ﷺ المدينة؟ قال: نعم. ما بين كذا إلى كذا. لا يقطع شجرها. من أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. و (ما بين كذا إلى كذا) معناه: من عير إلى ثور.
أخرجه البخاري في: فضائل المدينة، ١- باب حرم المدينة، حديث ٩٤٣ ونصه: عن أنس رضي الله عنه، عن النبيّ ﷺ قال «المدينة حرم من كذا إلى كذا. لا يقطع شجرها ولا يحدث فيها حدث. من أحدث حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».
ورواه أيضا في: الاعتصام، ٦- باب إثم من آوى محدثا. ونصه: حدثنا عاصم قال: قلت لأنس:
أحرّم رسول الله ﷺ المدينة؟ قال: نعم. ما بين كذا إلى كذا. لا يقطع شجرها. من أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. و (ما بين كذا إلى كذا) معناه: من عير إلى ثور.
6
إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ من تحليل وتحريم. وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ أي: معالم دينه. وهي المناسك.
وإحلالها أن يتهاون بحرمتها، وأن يحال بينها وبين المتنسكين بها.
وقد روى ابن جرير «١» عن عكرمة والسّديّ قالا: نزلت في الحطم، واسمه شريح بن هند البكريّ.
أتى المدينة وحده. وخلّف خيله خارج المدينة. ودخل على النبيّ ﷺ فقال له: إلام تدعو الناس؟ قال صلى الله عليه وسلم: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. فقال:
حسن. إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم. ولعلي أسلم وآتي بهم. فخرج من عنده، وقد كان رسول الله ﷺ قال لأصحابه: يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان. فلما خرج شريح قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لقد دخل بوجه كافر، وخرج بقفا غادر، وما الرجل بمسلم. فمر بسرح من سراح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز ويقول:
فتبعوه فلم يدركوه. فلما كان العام القابل، خرج شريح حاجا مع حجاج بكر ابن وائل، من اليمامة. ومعه تجارة عظيمة. وقد قلّد الهدي. فقال المسلمون: يا رسول الله! هذا الحطم قد خرج حاجّا فخلّ بيننا وبينه. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنه قد قلّد الهدي. فقالوا: يا رسول الله! هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية. فأبى النبيّ صلى الله عليه وسلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ أي: معالم دينه. وهي المناسك.
وإحلالها أن يتهاون بحرمتها، وأن يحال بينها وبين المتنسكين بها.
وقد روى ابن جرير «١» عن عكرمة والسّديّ قالا: نزلت في الحطم، واسمه شريح بن هند البكريّ.
أتى المدينة وحده. وخلّف خيله خارج المدينة. ودخل على النبيّ ﷺ فقال له: إلام تدعو الناس؟ قال صلى الله عليه وسلم: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. فقال:
حسن. إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم. ولعلي أسلم وآتي بهم. فخرج من عنده، وقد كان رسول الله ﷺ قال لأصحابه: يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان. فلما خرج شريح قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لقد دخل بوجه كافر، وخرج بقفا غادر، وما الرجل بمسلم. فمر بسرح من سراح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز ويقول:
قد لفّها الليل بسوّاق حطم | ليس براعي إبل ولا غنم |
ولا بجزّار على ظهر الوضم | باتوا نياما وابن هند لم ينم |
بات يقاسيها غلام كالزّلم | خدلّج السّاقين ممسوح القدم |
(١) ابن جرير: الأثر ١٠٩٥٨ عن السدّيّ، والأثر: ١٠٩٥٩ عن عكرمة.
7
فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ
. قال ابن عباس: هي المناسك. كان المشركون يحجون ويهدون. فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم.
فنهاهم الله عن ذلك. وعن ابن عباس أيضا: لا تحلوا شعائر الله: هي أن تصيد وأنت محرم. ويقال: شعائر الله، شرائع دينه التي حدها لعباده. وإحلالها الإخلال بها.
وظاهر أن عموم اللفظ يشمل الجميع.
وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ المراد به الجنس. فيدخل في ذلك جميع الأشهر الحرم.
وهي أربعة: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب. أي لا تحلوها بالقتال فيها.
وقد كانت العرب تحرم القتال فيها في الجاهلية. فلما جاء الإسلام لم ينقض هذا الحكم. بل أكده. كذا في (لباب التأويل).
قال ابن كثير: يعني بقوله: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ، تحريمه والاعتراف بتعظيمه، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه، من الابتداء بالقتال. كما قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ، قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة: ٢١٧]. وقال تعالى إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً [التوبة: ٣٦].
وفي صحيح البخاريّ «١» عن أبي بكرة أن رسول الله ﷺ قال، في حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا. منها أربعة حرم... » الحديث،
وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت. كما هو مذهب طائفة من السلف.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنه، في قوله تعالى وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ: يعني لا تستحلوا القتال فيه. وكذا قال مقاتل وعبد الكريم بن مالك الجزريّ. واختاره ابن جرير أيضا. وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ. وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم. واحتجوا بقوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥]. والمراد أشهر التسيير الأربعة.
قالوا: فلم يستثن شهرا حراما من غيره. انتهى. وفي كتاب (الناسخ والمنسوخ) لابن حزم: إن الآية نسخت بآية السيف. ونقل بعض الزيدية في (تفسيره) عن الحسن أنه
. قال ابن عباس: هي المناسك. كان المشركون يحجون ويهدون. فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم.
فنهاهم الله عن ذلك. وعن ابن عباس أيضا: لا تحلوا شعائر الله: هي أن تصيد وأنت محرم. ويقال: شعائر الله، شرائع دينه التي حدها لعباده. وإحلالها الإخلال بها.
وظاهر أن عموم اللفظ يشمل الجميع.
وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ المراد به الجنس. فيدخل في ذلك جميع الأشهر الحرم.
وهي أربعة: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب. أي لا تحلوها بالقتال فيها.
وقد كانت العرب تحرم القتال فيها في الجاهلية. فلما جاء الإسلام لم ينقض هذا الحكم. بل أكده. كذا في (لباب التأويل).
قال ابن كثير: يعني بقوله: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ، تحريمه والاعتراف بتعظيمه، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه، من الابتداء بالقتال. كما قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ، قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة: ٢١٧]. وقال تعالى إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً [التوبة: ٣٦].
وفي صحيح البخاريّ «١» عن أبي بكرة أن رسول الله ﷺ قال، في حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا. منها أربعة حرم... » الحديث،
وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت. كما هو مذهب طائفة من السلف.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنه، في قوله تعالى وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ: يعني لا تستحلوا القتال فيه. وكذا قال مقاتل وعبد الكريم بن مالك الجزريّ. واختاره ابن جرير أيضا. وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ. وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم. واحتجوا بقوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥]. والمراد أشهر التسيير الأربعة.
قالوا: فلم يستثن شهرا حراما من غيره. انتهى. وفي كتاب (الناسخ والمنسوخ) لابن حزم: إن الآية نسخت بآية السيف. ونقل بعض الزيدية في (تفسيره) عن الحسن أنه
(١)
أخرجه البخاري في: التفسير، ٩- سورة التوبة، ٨- باب قوله إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، حديث ٥٩ ونصه: عن أبي بكرة عن النبيّ ﷺ قال: إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا. منها أربعة حرم. ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم. ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان».
أخرجه البخاري في: التفسير، ٩- سورة التوبة، ٨- باب قوله إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، حديث ٥٩ ونصه: عن أبي بكرة عن النبيّ ﷺ قال: إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا. منها أربعة حرم. ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم. ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان».
8
ليس في هذه السورة منسوخ. وعن أبي ميسرة: فيها ثماني عشرة فريضة. وليس فيها منسوخ. (انتهى).
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عوف قال: قلت للحسن: نسخ من المائدة شيء؟
قال: لا.
وقال الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) في (فصل سرية الخبط) كان أميرها أبا عبيدة بن الجراح، وكانت في رجب، فيما ذكره الحافظ بن سيد الناس في (عيون الأثر).
ثم قال، في فقه هذه القصة: إن فيها جواز القتال في الشهر الحرام. إن كان ذكر التاريخ فيها برجب، محفوظا. والظاهر، والله أعلم، أنه وهم غير محفوظ. إذ لم يحفظ عن النبيّ ﷺ أنه غزا في الشهر الحرام، ولا أغار فيه، ولا بعث فيه سرية. وقد عيّر المشركون المسلمين لقتالهم فيه في أول رجب، في قصة العلاء بن الحضرميّ، فقالوا: استحل محمد الشهر الحرام. وأنزل الله في ذلك: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة: ٢١٧]. ولم يثبت ما ينسخ هذا بنص يجب المصير إليه، ولا اجتمعت الأمة على نسخه. وقد استدل على تحريم القتال في الأشهر الحرام بقوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥]. ولا حجة في هذا. لأن الأشهر الحرم هاهنا هي أشهر التسيير التي سيّر الله فيها المشركون في الأرض يأمنون فيها. وكان أولها يوم الحج الأكبر، عاشر ذي الحجة. وآخرها عاشر ربيع الآخر. هذا هو الصحيح في الآية لوجوه عديدة، ليس هذا موضعها. انتهى. وقوله تعالى: وَلَا الْهَدْيَ أي: لا تحلوه بأن يتعرض له بالغصب أو بالمنع عن بلوغ محله. والهدي: ما أهدي إلى الكعبة من إبل أو بقر أو شاء. وفي (الإكليل) : هذا أصل في مشروعية الإهداء إلى البيت. وتحريم الإغارة عليه. وذبحه قبل بلوغ محله. واستدل بالآية أيضا على منع الأكل منه.
وَلَا الْقَلائِدَ جمع قلادة. وهي ما يقلد به الهدي. من نعل أو لحاء شجر، ليعلم أنه هدي، فلا يتعرض له. والمراد النهي عن التعرض لذوات القلائد من الهدي.
وهي البدن. وعطفها على (الهدي) مع دخولها فيه، لمزيد التوصية بها، لمزيتها على ما عداها. إذ هي أشرف الهدي. كقوله تعالى: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة:
٩٨]، عطفا على الملائكة. كأنه قيل: والقلائد منه، خصوصا. أو النهي عن التعرض لنفس القلائد، مبالغة في النهي عن التعرض لأصحابها. على معنى: لا تحلوا قلائدها
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عوف قال: قلت للحسن: نسخ من المائدة شيء؟
قال: لا.
وقال الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) في (فصل سرية الخبط) كان أميرها أبا عبيدة بن الجراح، وكانت في رجب، فيما ذكره الحافظ بن سيد الناس في (عيون الأثر).
ثم قال، في فقه هذه القصة: إن فيها جواز القتال في الشهر الحرام. إن كان ذكر التاريخ فيها برجب، محفوظا. والظاهر، والله أعلم، أنه وهم غير محفوظ. إذ لم يحفظ عن النبيّ ﷺ أنه غزا في الشهر الحرام، ولا أغار فيه، ولا بعث فيه سرية. وقد عيّر المشركون المسلمين لقتالهم فيه في أول رجب، في قصة العلاء بن الحضرميّ، فقالوا: استحل محمد الشهر الحرام. وأنزل الله في ذلك: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة: ٢١٧]. ولم يثبت ما ينسخ هذا بنص يجب المصير إليه، ولا اجتمعت الأمة على نسخه. وقد استدل على تحريم القتال في الأشهر الحرام بقوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥]. ولا حجة في هذا. لأن الأشهر الحرم هاهنا هي أشهر التسيير التي سيّر الله فيها المشركون في الأرض يأمنون فيها. وكان أولها يوم الحج الأكبر، عاشر ذي الحجة. وآخرها عاشر ربيع الآخر. هذا هو الصحيح في الآية لوجوه عديدة، ليس هذا موضعها. انتهى. وقوله تعالى: وَلَا الْهَدْيَ أي: لا تحلوه بأن يتعرض له بالغصب أو بالمنع عن بلوغ محله. والهدي: ما أهدي إلى الكعبة من إبل أو بقر أو شاء. وفي (الإكليل) : هذا أصل في مشروعية الإهداء إلى البيت. وتحريم الإغارة عليه. وذبحه قبل بلوغ محله. واستدل بالآية أيضا على منع الأكل منه.
وَلَا الْقَلائِدَ جمع قلادة. وهي ما يقلد به الهدي. من نعل أو لحاء شجر، ليعلم أنه هدي، فلا يتعرض له. والمراد النهي عن التعرض لذوات القلائد من الهدي.
وهي البدن. وعطفها على (الهدي) مع دخولها فيه، لمزيد التوصية بها، لمزيتها على ما عداها. إذ هي أشرف الهدي. كقوله تعالى: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة:
٩٨]، عطفا على الملائكة. كأنه قيل: والقلائد منه، خصوصا. أو النهي عن التعرض لنفس القلائد، مبالغة في النهي عن التعرض لأصحابها. على معنى: لا تحلوا قلائدها
9
فضلا عن أن تحلوها. كما نهى عن إبداء الزينة بقوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور: ٣١]. مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها. كذا لأبي السعود.
وقال الحافظ ابن كثير: يعني لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام. فإن فيه تعظيم شعائر الله. ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام.
وليعلم أنه هدي إلى الكعبة. فيجتنبها من يريدها بسوء. وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها. فإن من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ولهذا لما حج رسول الله ﷺ بات بذي الحليفة. وهو وادي العقيق. فلما أصبح طاف على نسائه، وكن تسعا. ثم اغتسل وتطيّب وصلى ركعتين. ثم أشعر هديه وقلّده. وأهلّ للحج والعمرة، وكان هديه إبلا كثيرة تنيف على الستين، من أحسن الأشكال والألوان كما قال تعالى: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: ٣٢].
قال بعض السلف: إعظامها استحسانها واستسمانها. قال عليّ بن أبي طالب «١» : أمرنا رسول الله ﷺ أن نستشرف العين والأذن. رواه أهل السنن. وقال مقاتل: ولا القلائد، فلا تستحلوه. وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم. قلدوا أنفسهم بالشعر والوبر. وتقلد مشركو الحرم من لحاء شجره، فيأمنون به. رواه ابن أبي حاتم.
وقال عطاء: كانوا يتقلدون من شجر الحرم فيأمنون. فنهى الله عن قطع شجره وكذا قال مطرف بن عبد الله. وأمانهم بذلك منسوخ. كما روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نسخ من هذه السورة آيتان: آية القلائد وقوله: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة: ٤٢] وبسنده إلى ابن عوف قال: قلت للحسن:
نسخ من المائدة شيء؟ قال: لا. وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ أي: لا تحلوا قوما قاصدين زيارة المسجد الحرام بأن تصدوهم أو تقاتلوهم أو تؤذوهم، لأنه من دخله
وقال الحافظ ابن كثير: يعني لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام. فإن فيه تعظيم شعائر الله. ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام.
وليعلم أنه هدي إلى الكعبة. فيجتنبها من يريدها بسوء. وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها. فإن من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ولهذا لما حج رسول الله ﷺ بات بذي الحليفة. وهو وادي العقيق. فلما أصبح طاف على نسائه، وكن تسعا. ثم اغتسل وتطيّب وصلى ركعتين. ثم أشعر هديه وقلّده. وأهلّ للحج والعمرة، وكان هديه إبلا كثيرة تنيف على الستين، من أحسن الأشكال والألوان كما قال تعالى: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: ٣٢].
قال بعض السلف: إعظامها استحسانها واستسمانها. قال عليّ بن أبي طالب «١» : أمرنا رسول الله ﷺ أن نستشرف العين والأذن. رواه أهل السنن. وقال مقاتل: ولا القلائد، فلا تستحلوه. وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم. قلدوا أنفسهم بالشعر والوبر. وتقلد مشركو الحرم من لحاء شجره، فيأمنون به. رواه ابن أبي حاتم.
وقال عطاء: كانوا يتقلدون من شجر الحرم فيأمنون. فنهى الله عن قطع شجره وكذا قال مطرف بن عبد الله. وأمانهم بذلك منسوخ. كما روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نسخ من هذه السورة آيتان: آية القلائد وقوله: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة: ٤٢] وبسنده إلى ابن عوف قال: قلت للحسن:
نسخ من المائدة شيء؟ قال: لا. وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ أي: لا تحلوا قوما قاصدين زيارة المسجد الحرام بأن تصدوهم أو تقاتلوهم أو تؤذوهم، لأنه من دخله
(١)
أخرجه أبو داود في: الأضاحي، ٦- باب ما يكره من الضحايا، حديث ٢٨٠٤ ونصه: عن عليّ رضي الله عنه: أمرنا رسول الله ﷺ أن نستشرف العين والأذنين، ولا نضحّي بعوراء، ولا مقابلة، ولا مداراة، ولا خرقاء، ولا شرقاء.
والترمذيّ في: الأضاحيّ، ٦- باب ما يكره من الأضاحي.
والنسائي في: الضحايا، ٩- باب المدابرة وهي ما قطع من مؤخر أذنها.
وابن ماجة في: الأضاحي، ٨- باب ما يكره أن يضحى به، حديث ٣١٤٢.
أخرجه أبو داود في: الأضاحي، ٦- باب ما يكره من الضحايا، حديث ٢٨٠٤ ونصه: عن عليّ رضي الله عنه: أمرنا رسول الله ﷺ أن نستشرف العين والأذنين، ولا نضحّي بعوراء، ولا مقابلة، ولا مداراة، ولا خرقاء، ولا شرقاء.
والترمذيّ في: الأضاحيّ، ٦- باب ما يكره من الأضاحي.
والنسائي في: الضحايا، ٩- باب المدابرة وهي ما قطع من مؤخر أذنها.
وابن ماجة في: الأضاحي، ٨- باب ما يكره أن يضحى به، حديث ٣١٤٢.
10
كان آمنا. وقوله تعالى: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً حال من المستكن في (ءامّين) أي: قاصدين زيارته حال كونهم طالبين التجارة ورضوان الله بحجهم. ونقل ابن كثير عن ثمانية من سلف المفسرين أنه عنى بالفضل طلب الرزق بالتجارة. قال:
كما تقدم في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:
١٩٨]. وقد ذكر عكرمة والسدّيّ وابن جرير أن الآية نزلت في الحطم بن هند البكريّ.
وتقدمت قصته. وقال ابن طلحة عن ابن عباس: كان المؤمنون والمشركون يحجون، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا من مؤمن أو كافر. ثم أنزل الله بعده: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة: ٢٨] الآية.
وقال تعالى: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ [التوبة: ١٧]. وقال:
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: ١٨]. فنفى المشركين من المسجد الحرام. وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر عن قتادة في قوله وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ
قال: منسوخ. كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج، تقلد من الشجر، فلم يعرض له أحد. فإذا رجع تقلد قلادة من شعر، فلم يعرض له أحد، وكان المشرك يومئذ لا يصدّ عن البيت، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت. فنسخها قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥]. وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله: وَلَا الْقَلائِدَ يعني أن من تقلد قلادة من الحرم، فأمنوه. قال: ولم تزل العرب تعيّر من أخفر ذلك. قال الشاعر:
أفاده ابن كثير. وهذه الروايات توضح أنه عنى: (الآمين) : المشركين خاصة. إذ هم المحتاجون إلى نهي المؤمنين عن إحلالهم وما يفيده التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم. وكذا الرضوان من تشريفهم، والإشعار بحصول مبتغاهم. فالسرّ فيه تأكيد النهي والمبالغة في استنكار المنهيّ عنه. قال الزمخشريّ وأبو السعود: قد كانوا يزعمون أنهم على سداد من دينهم، وأن الحج يقربهم إلى الله تعالى. فوصفهم الله تعالى بظنهم. وذلك الظن الفاسد، وإن كان بمعزل من استتباع رضوانه تعالى، لكن لا بعد في كونه مدارا لحصول بعض مقاصدهم الدنيوية، وخلاصهم عن المكاره العاجلة. لا سيما في ضمن مراعاة حقوق الله تعالى وتعظيم شعائره. ونقل الرازيّ عن أبي مسلم الأصفهاني، أن المراد بالآية، الكفار الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. فلما زال العهد بسورة براءة، زال ذلك الخطر، ولزم المراد بقوله تعالى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا. انتهى.
كما تقدم في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:
١٩٨]. وقد ذكر عكرمة والسدّيّ وابن جرير أن الآية نزلت في الحطم بن هند البكريّ.
وتقدمت قصته. وقال ابن طلحة عن ابن عباس: كان المؤمنون والمشركون يحجون، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا من مؤمن أو كافر. ثم أنزل الله بعده: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة: ٢٨] الآية.
وقال تعالى: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ [التوبة: ١٧]. وقال:
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: ١٨]. فنفى المشركين من المسجد الحرام. وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر عن قتادة في قوله وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ
قال: منسوخ. كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج، تقلد من الشجر، فلم يعرض له أحد. فإذا رجع تقلد قلادة من شعر، فلم يعرض له أحد، وكان المشرك يومئذ لا يصدّ عن البيت، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت. فنسخها قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥]. وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله: وَلَا الْقَلائِدَ يعني أن من تقلد قلادة من الحرم، فأمنوه. قال: ولم تزل العرب تعيّر من أخفر ذلك. قال الشاعر:
ألم تقتلا الحرجين إذ أعورا كما | يمرّان بالأيدي اللّحاء المضفّرا |
11
وَإِذا حَلَلْتُمْ أي خرجتم من الإحرام، أو خرجتم من الحرم إلى الحل فَاصْطادُوا أي: فلا جناح عليكم في الاصطياد وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أي: لا يحملنكم على الجريمة، شدة بغض قوم أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. أي لأن صدوكم عن زيارته والطواف به للعمرة. وقرئ بكسر الهمزة من (إن) على أنها شرطية أَنْ تَعْتَدُوا أي: عليهم. قال أبو السعود: وإنما حذف، تعويلا على ظهوره، وإيماء إلى أن المقصد الأصلي من النهي، منع صدور الاعتداء عن المخاطبين، محافظة على تعظيم الشعائر. لا منع وقوعه على القوم، مراعاة لجانبهم، وهو ثاني مفعولي يَجْرِمَنَّكُمْ أي: لا يكسبنكم شدة بغضكم لهم، لصدهم إياكم عن المسجد الحرام، اعتداءكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفّي.
تنبيهات:
الأول- قال ابن كثير: أي: لا يحملنكم بغض قوم، قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام، وذلك عام الحديبية، على أن تعتدوا حكم الله فيهم، فتقتصوا منهم ظلما وعدوانا، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد. وهذه الآية كما سيأتي من قوله: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: ٨]. أي: لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل. فإن العدل واجب على كل أحد، في كل أحد، في كل حال. وقال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك، بمثل أن تطيع الله فيه. والعدل، به قامت السموات والأرض. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا سهل بن عفان، حدثنا عبد الله بن جعفر عن زيد بن أسلم، قال: كان رسول الله ﷺ بالحديبية وأصحابه، حين صدهم المشركون عن البيت. وقد اشتد ذلك عليهم. فمر بهم ناس من المشركين من أهل المشرق، يريدون العمرة. فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم. فأنزل إليه هذه الآية.
الثاني: قوله: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ نهي عن إحلال قوم من الآمين، خصوا به مع اندراجهم في النهي عن إحلال الكل كافة، لاستقلالهم بأمور ربما يتوهم كونها مصححة لإحلالهم، داعية إليه.
الثالث- لعل تأخير هذا النهي عن قوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا، مع ظهور تعلقه بما قبله، للإيذان بأن حرمة الاعتداد لا تنتهي بالخروج عن الإحرام، كانتهاء حرمة الاصطياد به، بل هي باقية ما لم تنقطع علامتهم عن الشعائر بالكلية.
تنبيهات:
الأول- قال ابن كثير: أي: لا يحملنكم بغض قوم، قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام، وذلك عام الحديبية، على أن تعتدوا حكم الله فيهم، فتقتصوا منهم ظلما وعدوانا، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد. وهذه الآية كما سيأتي من قوله: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: ٨]. أي: لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل. فإن العدل واجب على كل أحد، في كل أحد، في كل حال. وقال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك، بمثل أن تطيع الله فيه. والعدل، به قامت السموات والأرض. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا سهل بن عفان، حدثنا عبد الله بن جعفر عن زيد بن أسلم، قال: كان رسول الله ﷺ بالحديبية وأصحابه، حين صدهم المشركون عن البيت. وقد اشتد ذلك عليهم. فمر بهم ناس من المشركين من أهل المشرق، يريدون العمرة. فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم. فأنزل إليه هذه الآية.
الثاني: قوله: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ نهي عن إحلال قوم من الآمين، خصوا به مع اندراجهم في النهي عن إحلال الكل كافة، لاستقلالهم بأمور ربما يتوهم كونها مصححة لإحلالهم، داعية إليه.
الثالث- لعل تأخير هذا النهي عن قوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا، مع ظهور تعلقه بما قبله، للإيذان بأن حرمة الاعتداد لا تنتهي بالخروج عن الإحرام، كانتهاء حرمة الاصطياد به، بل هي باقية ما لم تنقطع علامتهم عن الشعائر بالكلية.
12
وبذلك يعلم بقاء حرمة التعرض بسائر الآمين، بالطريق الأولى. أفاده أبو السعود.
الرابع- دلت الآية على أن المضارّة ممنوعة. ومثله
قوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام». «١».
وقوله عليه الصلاة والسلام: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» «٢»
. ذكره بعض الزيدية. وفي (الإكليل) : في الآية النهي عن الاعتداء وأنه لا يؤخذ أحد بذنب أحد.
الخامس- (جرم) جار مجرى (كسب) في المعنى وفي التعدي إلى مفعول واحد، وإلى اثنين، يقال: جرم ذنبا، نحو كسبه. وجرمته ذنبا، نحو كسبته إياه، خلا أن (جرم) يستعمل غالبا في كسب ما لا خير فيه. وهو السبب في إيثاره هاهنا على الثاني. وقد ينقل الأول من كل منهما بالهمزة إلى معنى الثاني. فيقال: أجرمته ذنبا وأكسبته إياه. وعليه قراءة من قرأ يَجْرِمَنَّكُمْ بضم الياء. أفاده أبو السعود.
وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ لما كان الاعتداء غالبا بطريق التظاهر والتعاون، أمروا، إثر ما نهوا عنه، بأن يتعاونوا على كل ما هو من باب البر والتقوى. ومتابعة الأمر ومجانبة الهوى. فدخل فيه ما نحن بصدده من التعاون على العفو والإغضاء عما وقع منهم، دخولا أوليا. ثم نهوا عن التعاون في كل ما هو من مقولة الظلم والمعاصي. فاندرج فيه النهي عن التعاون على الاعتداء والانتقام بالطريق البرهاني: أفاده أبو السعود.
قال ابن جرير: الإثم: ترك ما أمر الله بفعله. والعدوان: جواز ما حدّ الله في الدين، ومجاوزة ما فرض الله في النفس والغير. وفي معنى الآية أحاديث كثيرة.
منها،
عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدال على الخير كفاعله». رواه البزار.
وعن أبي مسعود البدريّ قال: قال رسول الله ﷺ «٣» :«من دل على خير فله مثل أجر فاعله». رواه مسلم.
وعن أبي هريرة: قال: قال رسول الله ﷺ «٤» :«من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه. لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى
الرابع- دلت الآية على أن المضارّة ممنوعة. ومثله
قوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام». «١».
وقوله عليه الصلاة والسلام: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» «٢»
. ذكره بعض الزيدية. وفي (الإكليل) : في الآية النهي عن الاعتداء وأنه لا يؤخذ أحد بذنب أحد.
الخامس- (جرم) جار مجرى (كسب) في المعنى وفي التعدي إلى مفعول واحد، وإلى اثنين، يقال: جرم ذنبا، نحو كسبه. وجرمته ذنبا، نحو كسبته إياه، خلا أن (جرم) يستعمل غالبا في كسب ما لا خير فيه. وهو السبب في إيثاره هاهنا على الثاني. وقد ينقل الأول من كل منهما بالهمزة إلى معنى الثاني. فيقال: أجرمته ذنبا وأكسبته إياه. وعليه قراءة من قرأ يَجْرِمَنَّكُمْ بضم الياء. أفاده أبو السعود.
وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ لما كان الاعتداء غالبا بطريق التظاهر والتعاون، أمروا، إثر ما نهوا عنه، بأن يتعاونوا على كل ما هو من باب البر والتقوى. ومتابعة الأمر ومجانبة الهوى. فدخل فيه ما نحن بصدده من التعاون على العفو والإغضاء عما وقع منهم، دخولا أوليا. ثم نهوا عن التعاون في كل ما هو من مقولة الظلم والمعاصي. فاندرج فيه النهي عن التعاون على الاعتداء والانتقام بالطريق البرهاني: أفاده أبو السعود.
قال ابن جرير: الإثم: ترك ما أمر الله بفعله. والعدوان: جواز ما حدّ الله في الدين، ومجاوزة ما فرض الله في النفس والغير. وفي معنى الآية أحاديث كثيرة.
منها،
عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدال على الخير كفاعله». رواه البزار.
وعن أبي مسعود البدريّ قال: قال رسول الله ﷺ «٣» :«من دل على خير فله مثل أجر فاعله». رواه مسلم.
وعن أبي هريرة: قال: قال رسول الله ﷺ «٤» :«من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه. لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى
(١) أخرجه ابن ماجة في: الأحكام، ١٧- باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، حديث ٢٣٤٠ و ٢٣٤١.
(٢) أخرجه أبو داود في: البيوع، ٧٩- باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، حديث ٣٥٣٥ عن أبي هريرة.
(٣) أخرجه مسلم في: الإمارة، ٣٨- باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره، وخلافته في أهله بخير، حديث ١٣٣.
(٤) أخرجه مسلم في: العلم، حديث ١٦.
(٢) أخرجه أبو داود في: البيوع، ٧٩- باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، حديث ٣٥٣٥ عن أبي هريرة.
(٣) أخرجه مسلم في: الإمارة، ٣٨- باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره، وخلافته في أهله بخير، حديث ١٣٣.
(٤) أخرجه مسلم في: العلم، حديث ١٦.
13
ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه. لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا». رواه مسلم.
وعن سهل بن سعد «١» أن رسول الله ﷺ قال لعليّ عليه السلام، يوم خيبر: «فو الله! لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من حمر النعم»
، متفق عليه.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما. قيل: يا رسول الله هذا! نصرته مظلوما، فكيف أنصره إذا كان ظالما؟ قال: تحجزه وتمنعه من الظلم. فذاك نصرك إياه» «٢». رواه الإمام أحمد والشيخان.
وعن يحيى بن وثاب عن رجل من أصحاب النبي ﷺ قال: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أعظم أجرا من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»، رواه الإمام أحمد «٣».
وروى الطبرانيّ والضياء المقدسيّ عن أوس بن شرحبيل أن رسول الله ﷺ قال: «من مشى مع ظالم ليعينه، وهو يعلم أنه ظالم، فقد خرج من الإسلام»
وعن النوّاس «٤» ابن سمعان قال: «سألت رسول الله ﷺ عن البر والإثم؟ فقال: البر حسن الخلق.
والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس». رواه مسلم.
تنبيه: في فروع مهمة.
قال بعض الزيدية: من ثمرات الآية وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأنه لا يجوز إعانة متعدّ ولا عاص، فيدخل في ذلك تكثير سواد الظلمة بوجه، من قول أو فعل أو أخذ ولاية أو مساكنة. وفي (الإكليل) : استدل المالكية بالآية على بطلان إجارة الإنسان نفسه، لحمل خمر ونحوه، وبيع العنب لعاصره خمرا والسلاح لمن يعصي به، وأشباه ذلك. انتهى. وهو متّجه.
وعن سهل بن سعد «١» أن رسول الله ﷺ قال لعليّ عليه السلام، يوم خيبر: «فو الله! لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من حمر النعم»
، متفق عليه.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما. قيل: يا رسول الله هذا! نصرته مظلوما، فكيف أنصره إذا كان ظالما؟ قال: تحجزه وتمنعه من الظلم. فذاك نصرك إياه» «٢». رواه الإمام أحمد والشيخان.
وعن يحيى بن وثاب عن رجل من أصحاب النبي ﷺ قال: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أعظم أجرا من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»، رواه الإمام أحمد «٣».
وروى الطبرانيّ والضياء المقدسيّ عن أوس بن شرحبيل أن رسول الله ﷺ قال: «من مشى مع ظالم ليعينه، وهو يعلم أنه ظالم، فقد خرج من الإسلام»
وعن النوّاس «٤» ابن سمعان قال: «سألت رسول الله ﷺ عن البر والإثم؟ فقال: البر حسن الخلق.
والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس». رواه مسلم.
تنبيه: في فروع مهمة.
قال بعض الزيدية: من ثمرات الآية وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأنه لا يجوز إعانة متعدّ ولا عاص، فيدخل في ذلك تكثير سواد الظلمة بوجه، من قول أو فعل أو أخذ ولاية أو مساكنة. وفي (الإكليل) : استدل المالكية بالآية على بطلان إجارة الإنسان نفسه، لحمل خمر ونحوه، وبيع العنب لعاصره خمرا والسلاح لمن يعصي به، وأشباه ذلك. انتهى. وهو متّجه.
(١)
أخرجه البخاري في: الجهاد، ١٠٢- باب دعاء النبيّ ﷺ إلى الإسلام والنبوة، حديث ١٤٠٥ ونصه: عن سهل بن سعد رضي الله عنه، سمع النبي ﷺ يقول يوم خيبر «لأعطين الراية رجلا يفتح الله على يديه». فقاموا يرجون لذلك أيّهم يعطى. فغدوا وكلهم يرجو أن يعطى. فقال «أين عليّ» ؟ فقيل: يشتكي عينيه. فأمر فدعي له. فبصق في عينيه فبرأ مكانه حتى كأنه لم يكن به شيء. فقال: نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال «على رسلك، حتى تنزل بساحتهم. ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم. فو الله! لأن يهدى بك رجل واحد خير لك من حمر النعم»
. (٢)
أخرجه البخاري في: المظالم، ٤- باب أعن أخاك ظالما أو مظلوما. حديث ١٢٠٣ ونصه: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ «انصر أخاك ظالما أو مظلوما».
وفي الباب نفسه عنه قال: قال رسول الله ﷺ «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» قالوا: يا رسول الله! هذا ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟ قال «تأخذ فوق يديه»
. (٣) أخرجه في المسند ٢/ ٤٣ والحديث رقم ٥٠٢٢.
(٤) أخرجه مسلم في صحيحه، في: البر والصلة والآداب، حديث ١٥. [.....]
أخرجه البخاري في: الجهاد، ١٠٢- باب دعاء النبيّ ﷺ إلى الإسلام والنبوة، حديث ١٤٠٥ ونصه: عن سهل بن سعد رضي الله عنه، سمع النبي ﷺ يقول يوم خيبر «لأعطين الراية رجلا يفتح الله على يديه». فقاموا يرجون لذلك أيّهم يعطى. فغدوا وكلهم يرجو أن يعطى. فقال «أين عليّ» ؟ فقيل: يشتكي عينيه. فأمر فدعي له. فبصق في عينيه فبرأ مكانه حتى كأنه لم يكن به شيء. فقال: نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال «على رسلك، حتى تنزل بساحتهم. ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم. فو الله! لأن يهدى بك رجل واحد خير لك من حمر النعم»
. (٢)
أخرجه البخاري في: المظالم، ٤- باب أعن أخاك ظالما أو مظلوما. حديث ١٢٠٣ ونصه: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ «انصر أخاك ظالما أو مظلوما».
وفي الباب نفسه عنه قال: قال رسول الله ﷺ «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» قالوا: يا رسول الله! هذا ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟ قال «تأخذ فوق يديه»
. (٣) أخرجه في المسند ٢/ ٤٣ والحديث رقم ٥٠٢٢.
(٤) أخرجه مسلم في صحيحه، في: البر والصلة والآداب، حديث ١٥. [.....]
14
وقال شيخ الإسلام تقيّ الدين بن تيمية في كتابه (السياسة الشرعية) : ولا يحل للرجل أن يكون عونا على ظلم. فإن التعاون نوعان: نوع على البر والتقوى، من الجهاد وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين، فهذا ما أمر الله به ورسوله. ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة، فقد ترك فرضا على الأعيان أو على الكفاية، متوهما أنه متورع. وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع، إذ كان كل منهما كف وإمساك.
والثاني- تعاون على الإثم والعدوان، كالإعانة على دم معصوم، أو أخذ مال معصوم، وضرب من لا يستحق الضرب، ونحو ذلك. فهذا الذي حرمه الله ورسوله.
نعم، إذا كانت الأموال قد أخذت بغير حق، وتعذر ردها إلى أصحابها، ككثير من الأموال السلطانية، فالإعانة على صرف هذه الأموال في مصالح المسلمين، كسداد الثغور ونفقة المقاتلة، ونحو ذلك، من الإعانة على البر والتقوى، إذ الواجب على السلطان في هذه الأموال، إذا لم يمكن معرفة أصحابها وردها عليهم ولا على ورثتهم- أن يصرفها مع التوبة، إن كان هو الظالم، إلى مصالح المسلمين. وإن كان غيره قد أخذها فعليه أن يفعل بها ذلك. وكذلك لو امتنع السلطان من ردها، كان الإعانة على إنفاقها في مصالح أصحابها، أولى من تركها بيد من يضيعها على أصحابها وعلى المسلمين. فإن مدار الشريعة على قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: ١٦]. المفسر لقوله: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: ١٠٢]. وعلى
قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم». أخرجاه في الصحيحين «١».
وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتبطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت، كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما- هو المشروع، والمعين على الإثم والعدوان من أعان ظالما على ظلمه. أما من أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه، أو على أداء المظلمة، فهو وكيل المظلوم لا وكيل الظالم. بمنزلة الذي يقرضه أو الذي يتوكل في حمل المال له إلى الظالم. مثال ذلك: وليّ اليتيم والوقف، إذا طلب ظالم منه مالا، فاجتهد في دفع
والثاني- تعاون على الإثم والعدوان، كالإعانة على دم معصوم، أو أخذ مال معصوم، وضرب من لا يستحق الضرب، ونحو ذلك. فهذا الذي حرمه الله ورسوله.
نعم، إذا كانت الأموال قد أخذت بغير حق، وتعذر ردها إلى أصحابها، ككثير من الأموال السلطانية، فالإعانة على صرف هذه الأموال في مصالح المسلمين، كسداد الثغور ونفقة المقاتلة، ونحو ذلك، من الإعانة على البر والتقوى، إذ الواجب على السلطان في هذه الأموال، إذا لم يمكن معرفة أصحابها وردها عليهم ولا على ورثتهم- أن يصرفها مع التوبة، إن كان هو الظالم، إلى مصالح المسلمين. وإن كان غيره قد أخذها فعليه أن يفعل بها ذلك. وكذلك لو امتنع السلطان من ردها، كان الإعانة على إنفاقها في مصالح أصحابها، أولى من تركها بيد من يضيعها على أصحابها وعلى المسلمين. فإن مدار الشريعة على قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: ١٦]. المفسر لقوله: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: ١٠٢]. وعلى
قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم». أخرجاه في الصحيحين «١».
وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتبطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت، كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما- هو المشروع، والمعين على الإثم والعدوان من أعان ظالما على ظلمه. أما من أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه، أو على أداء المظلمة، فهو وكيل المظلوم لا وكيل الظالم. بمنزلة الذي يقرضه أو الذي يتوكل في حمل المال له إلى الظالم. مثال ذلك: وليّ اليتيم والوقف، إذا طلب ظالم منه مالا، فاجتهد في دفع
(١)
أخرجه البخاري في: الاعتصام، ٢- باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول الله تعالى:
وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً، حديث ٢٥٨٥ ونصه: عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال «دعوني ما تركتكم. إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه. وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».
وأخرجه مسلم في: الفضائل، حديث ١٣٠
.
أخرجه البخاري في: الاعتصام، ٢- باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول الله تعالى:
وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً، حديث ٢٥٨٥ ونصه: عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال «دعوني ما تركتكم. إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه. وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».
وأخرجه مسلم في: الفضائل، حديث ١٣٠
.
15
ذلك، بدفع ما هو أقل منه إليه أو إلى غيره بعد الاجتهاد التام في الدفع- فهو محسن، وما على المحسنين من سبيل. وكذلك، وكيل المالك من المتأديين والكتّاب وغيرهم، الذي يتوكل لهم في العقد والقبض ودفع ما يطلب منهم، لا يتوكل للظالمين في الأخذ. وكذلك لو وضعت مظلمة على أهل قرية أو درب أو سوق أو مدينة، فتوسط رجل محسن في الدفع عنهم بغاية الإمكان، وقسّطها بينهم على قدر طاقتهم، من غير محاباة لنفسه ولا لغيره، ولا ارتشاء، بل توكل لهم في الدفع عنهم والإعطاء- كان محسنا. لكن الغالب أن من يدخل في ذلك يكون وكيل الظالمين محابيا مرتشيا مخفرا لمن يريد، وآخذا ممن يريد وهذا من أكبر الظلمة الذين يحشرون في توابيت من نار هم وأعوانهم وأشباههم، ثم يقذفون في النار، انتهى.
وَاتَّقُوا اللَّهَ أي: اخشوه فيما أمركم ونهاكم إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. يعني لمن خالف أمره. ففيه وعيد وتهديد عظيم. ثم بين تعالى المحرمات التي أشير إليها بقوله تعالى: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وهي ما فارقه الروح بغير سبب خارجيّ. لأنها تنجست بمفارقته من غير مطهر، من ذكر اسم الله تحقيقا أو تقديرا، كإسلام الذابح. كذا في (التبصير). وقد خص من (الميتة) السمك بالسّنة: فإنه حلال.
مات بتذكية أو غيرها. لما
رواه مالك في موطئه، والشافعي وأحمد في مسنديهما، وأبو داود والترمذيّ والنّسائيّ وابن ماجة في سننهم، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، عن أبي هريرة «١»
أن رسول الله ﷺ سئل عن ماء البحر؟ فقال: هو
وَاتَّقُوا اللَّهَ أي: اخشوه فيما أمركم ونهاكم إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. يعني لمن خالف أمره. ففيه وعيد وتهديد عظيم. ثم بين تعالى المحرمات التي أشير إليها بقوله تعالى: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وهي ما فارقه الروح بغير سبب خارجيّ. لأنها تنجست بمفارقته من غير مطهر، من ذكر اسم الله تحقيقا أو تقديرا، كإسلام الذابح. كذا في (التبصير). وقد خص من (الميتة) السمك بالسّنة: فإنه حلال.
مات بتذكية أو غيرها. لما
رواه مالك في موطئه، والشافعي وأحمد في مسنديهما، وأبو داود والترمذيّ والنّسائيّ وابن ماجة في سننهم، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، عن أبي هريرة «١»
أن رسول الله ﷺ سئل عن ماء البحر؟ فقال: هو
(١) أخرجه مالك في الموطأ في الطهارة: حديث ١٢.
وأبو داود في: الطهارة، ٤١- باب الوضوء بماء البحر، حديث ٨٣.
وأبو داود في: الطهارة، ٤١- باب الوضوء بماء البحر، حديث ٨٣.
16
الطهور ماؤه، الحل ميتته»
. وهكذا الجراد. لما سيأتي. قال الرازيّ: تحريم الميتة موافق لما في العقول. لأن الدم جوهر لطيف جدّا. فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه، وتعفن وفسد، وحصل من أكله مضار عظيمة. انتهى.
أخرج ابن مندة في كتاب (الصحابة) من طريق عبد الله بن جبلة بن حبان بن حجر عن أبيه عن جده حبان قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أوقد تحت قدر فيها لحم ميتة. فأنزل تحريم الميتة فاكفأت القدر وَالدَّمُ أي: المسفوح منه. لقوله تعالى في الأنعام: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً [الأنعام: ١٤٥]. وقد روى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن الطحال؟ فقال: كلوه. فقالوا: إنه دم. فقال: إنما حرم عليكم الدم المسفوح. وكذا رواه حماد بن سلمة عن يحيي بن سعيد بن القاسم عن عائشة قالت: إنما نهى عن الدم السافح.
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ: حدثنا عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم عن أبيه عن بن عمر مرفوعا قال: قال رسول الله ﷺ «١» :«أحل لنا ميتتان ودمان. فأما الميتتان فالسمك والجراد. وأما الدمان فالكبد والطحال». وكذا رواه أحمد بن حنبل وابن ماجة والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم
. وهو ضعيف. قال الحافظ البيهقيّ: ورواه إسماعيل بن أبي إدريس، عن أسامة، وعبد الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، مرفوعا. قال الحافظ ابن كثير: وثلاثتهم كلهم ضعفاء. ولكن بعضهم أصلح من بعض. وقد رواه سليمان ابن بلال، أحد الأثبات، عن زيد بن أسلم عن ابن عمر، فوقفه بعضهم عليه، قال الحافظ أبو زرعة الرازيّ: وهو أصح. نقله ابن كثير.
أقول: أقوى مما ذكر في الحجة، ما
في الصحيحين «٢» وغيرهما من حديث ابن أبي أوفي قال: غزونا مع رسول الله ﷺ سبع غزوات نأكل الجراد.
وفيهما أيضا من حديث «٣» جابر، إن البحر ألقى حوتا ميتا فأكل منه الجيش. فلما قدموا قالوا للنبيّ
. وهكذا الجراد. لما سيأتي. قال الرازيّ: تحريم الميتة موافق لما في العقول. لأن الدم جوهر لطيف جدّا. فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه، وتعفن وفسد، وحصل من أكله مضار عظيمة. انتهى.
أخرج ابن مندة في كتاب (الصحابة) من طريق عبد الله بن جبلة بن حبان بن حجر عن أبيه عن جده حبان قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أوقد تحت قدر فيها لحم ميتة. فأنزل تحريم الميتة فاكفأت القدر وَالدَّمُ أي: المسفوح منه. لقوله تعالى في الأنعام: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً [الأنعام: ١٤٥]. وقد روى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن الطحال؟ فقال: كلوه. فقالوا: إنه دم. فقال: إنما حرم عليكم الدم المسفوح. وكذا رواه حماد بن سلمة عن يحيي بن سعيد بن القاسم عن عائشة قالت: إنما نهى عن الدم السافح.
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ: حدثنا عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم عن أبيه عن بن عمر مرفوعا قال: قال رسول الله ﷺ «١» :«أحل لنا ميتتان ودمان. فأما الميتتان فالسمك والجراد. وأما الدمان فالكبد والطحال». وكذا رواه أحمد بن حنبل وابن ماجة والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم
. وهو ضعيف. قال الحافظ البيهقيّ: ورواه إسماعيل بن أبي إدريس، عن أسامة، وعبد الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، مرفوعا. قال الحافظ ابن كثير: وثلاثتهم كلهم ضعفاء. ولكن بعضهم أصلح من بعض. وقد رواه سليمان ابن بلال، أحد الأثبات، عن زيد بن أسلم عن ابن عمر، فوقفه بعضهم عليه، قال الحافظ أبو زرعة الرازيّ: وهو أصح. نقله ابن كثير.
أقول: أقوى مما ذكر في الحجة، ما
في الصحيحين «٢» وغيرهما من حديث ابن أبي أوفي قال: غزونا مع رسول الله ﷺ سبع غزوات نأكل الجراد.
وفيهما أيضا من حديث «٣» جابر، إن البحر ألقى حوتا ميتا فأكل منه الجيش. فلما قدموا قالوا للنبيّ
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٢/ ٩٧.
وابن ماجة في: الصيد، ٩- باب صيد الحيتان والجراد، حديث ٣٢١٨.
(٢) أخرجه البخاري في: الذبائح والصيد، ١٣- باب أكل الجراد، حديث ٢٢٠٠.
وأخرجه مسلم في: الصيد والذبائح، حديث ٥٢.
(٣) أخرجه البخاري في: المغازي، ٦٥- باب غزوة سيف البحر، حديث ١٢٢٦.
وأخرجه مسلم في: الصيد والذبائح، حديث ١٧.
وابن ماجة في: الصيد، ٩- باب صيد الحيتان والجراد، حديث ٣٢١٨.
(٢) أخرجه البخاري في: الذبائح والصيد، ١٣- باب أكل الجراد، حديث ٢٢٠٠.
وأخرجه مسلم في: الصيد والذبائح، حديث ٥٢.
(٣) أخرجه البخاري في: المغازي، ٦٥- باب غزوة سيف البحر، حديث ١٢٢٦.
وأخرجه مسلم في: الصيد والذبائح، حديث ١٧.
17
صلى الله عليه وسلم. فقال: كلوا رزقا أخرج الله لكم. أطعمونا منه إن كان معكم. فأتاه بعضهم بشيء
. وفي البخاري «١» عن عمر في قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ [المائدة: ٩٦]. قال: صيده ما اصطيد. وطعامه ما رمي به. وفيه عن ابن عباس قال:
طعامه ميتته.
قال ابن كثير: روى ابن أبي حاتم عن أبي أمامة وهو صديّ بن عجلان قال: بعثني رسول الله ﷺ إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله، وأعرض عليهم شرائع الإسلام، فأتيتهم. فبينما نحن كذلك، إذ جاءوا بقصعة من دم فاجتمعوا عليها يأكلونها. فقالوا: هلم، يا صديّ! فكل. قال، قلت: ويحكم، إنما أتيتكم من عند من يحرّم هذا عليكم، فأقبلوا عليه، قالوا: وما ذاك؟ فتلوت عليهم هذه الآية:
. وزاد بعد هذا السياق قال: فجعلت أدعوهم إلى الإسلام ويأبون علي. فقلت: ويحكم! اسقوني شربة من ماء فإني شديد العطش. قال، وعليّ عباءتي. فقالوا: لا. ولكن ندعك حتى تموت عطشا. قال: فاغتممت وضربت برأسي في العباء. ونمت على الرمضاء في حرّ شديد. قال، فأتاني آت في منامي بقدح من زجاج. لم ير الناس أحسن منه. وفيه شراب لم ير الناس ألذ منه. فأمكنني منه فشربته. فلما فرغت من شرابي استيقظت، فلا، والله! ما عطشت ولا عربت (عرب كفرح فسدت معدته. قاموس) بعد تيك الشربة.
ورواه الحاكم في مستدركه عن عليّ بن حماد، عن أحمد بن حنبل بسنده إلى أبي أمامة. وزاد بعد قوله (بعد تيك الشربة) : فسمعتهم يقولون: أتاكم رجل من سراة قومكم فلم تمجعوه بمذقة؟ فأتوني بمذقة فقلت: لا حاجة لي فيها. إن الله أطعمني وسقاني. وأريتهم بطني، فأسلموا عن آخرهم. انتهى.
قال الزمخشري: كان أهل الجاهلية يأكلون هذه المحرمات: البهيمة التي تموت حتف أنفها. والفصيد، وهو الدم في المباعر، يشوونها ويقولون: لم يحرم من فزد له. وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة في قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ.. [البقرة: ١٧٣] الآية.
قال المهايميّ: حرم الدم لأنه متعلق الروح بلا واسطة. فأشبه النجس بالذات،
. وفي البخاري «١» عن عمر في قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ [المائدة: ٩٦]. قال: صيده ما اصطيد. وطعامه ما رمي به. وفيه عن ابن عباس قال:
طعامه ميتته.
قال ابن كثير: روى ابن أبي حاتم عن أبي أمامة وهو صديّ بن عجلان قال: بعثني رسول الله ﷺ إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله، وأعرض عليهم شرائع الإسلام، فأتيتهم. فبينما نحن كذلك، إذ جاءوا بقصعة من دم فاجتمعوا عليها يأكلونها. فقالوا: هلم، يا صديّ! فكل. قال، قلت: ويحكم، إنما أتيتكم من عند من يحرّم هذا عليكم، فأقبلوا عليه، قالوا: وما ذاك؟ فتلوت عليهم هذه الآية:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ | الآية. ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه |
ورواه الحاكم في مستدركه عن عليّ بن حماد، عن أحمد بن حنبل بسنده إلى أبي أمامة. وزاد بعد قوله (بعد تيك الشربة) : فسمعتهم يقولون: أتاكم رجل من سراة قومكم فلم تمجعوه بمذقة؟ فأتوني بمذقة فقلت: لا حاجة لي فيها. إن الله أطعمني وسقاني. وأريتهم بطني، فأسلموا عن آخرهم. انتهى.
قال الزمخشري: كان أهل الجاهلية يأكلون هذه المحرمات: البهيمة التي تموت حتف أنفها. والفصيد، وهو الدم في المباعر، يشوونها ويقولون: لم يحرم من فزد له. وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة في قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ.. [البقرة: ١٧٣] الآية.
قال المهايميّ: حرم الدم لأنه متعلق الروح بلا واسطة. فأشبه النجس بالذات،
(١) أخرجه البخاري في: الذبائح والصيد، ١٢- باب قول الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ.
18
لا يؤثر فيه المطهر. وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ لأنه نجس في حياته بصفاته الذميمة وهي، وإن زالت بالموت، فهو منجّس ولم يقبل التطهير. لأنه لما كان نجسا حال الحياة والموت، أشبه النجس بالذات، فكأنه زيد تنجيسه بالموت. وإنما ذكر اللحم إشارة إلى أنه، وإن لم يكن موصوفا في الحياة بالصفات المنجسة لروحه، كان متنجسا بنجاسة روحه، ثم بزوال الروح. انتهى.
قال ابن كثير: وقوله تعالى: وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ يعني إنسيّه ووحشيه، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم، كما هو المفهوم من لغة العرب ومن العرف المطّرد.
وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الخصيب الأسلمي رضي الله عنه قال «١» :«قال رسول الله ﷺ من لعب بالنردشير، فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه»
، فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس، فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به؟ وفيه دلالة على شمول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره.
وفي الصحيحين «٢» : أن رسول الله ﷺ قال: «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام: فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا هو حرام»
وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي:
نودي عليه بغير اسم الله، كما في (الصحاح) وأصل الإهلال رفع الصوت، وكان العرب في الجاهلية، يذكرون أسماء أصنامهم عند الذبح، فحرم الله ذلك بهذه الآية.
وبقوله: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: ١٢١].
قال ابن كثير في الآية: أي ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله، فهو حرام. لأن الله تعالى أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم. فمن عدل بها عن ذلك، وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات، فإنها حرام بالإجماع. وإنما اختلف العلماء في متروك التسمية، إما عمدا أو نسيانا، كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام، إن شاء الله تعالى.
قال ابن كثير: وقوله تعالى: وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ يعني إنسيّه ووحشيه، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم، كما هو المفهوم من لغة العرب ومن العرف المطّرد.
وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الخصيب الأسلمي رضي الله عنه قال «١» :«قال رسول الله ﷺ من لعب بالنردشير، فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه»
، فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس، فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به؟ وفيه دلالة على شمول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره.
وفي الصحيحين «٢» : أن رسول الله ﷺ قال: «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام: فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا هو حرام»
وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي:
نودي عليه بغير اسم الله، كما في (الصحاح) وأصل الإهلال رفع الصوت، وكان العرب في الجاهلية، يذكرون أسماء أصنامهم عند الذبح، فحرم الله ذلك بهذه الآية.
وبقوله: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: ١٢١].
قال ابن كثير في الآية: أي ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله، فهو حرام. لأن الله تعالى أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم. فمن عدل بها عن ذلك، وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات، فإنها حرام بالإجماع. وإنما اختلف العلماء في متروك التسمية، إما عمدا أو نسيانا، كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام، إن شاء الله تعالى.
(١) أخرجه مسلم في: الشعر، حديث ١٠.
(٢)
أخرجه البخاري في: البيوع، ١١٢- باب بيع الميتة والأصنام، حديث ١١٢١ ونصه: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول، عام الفتح، وهو بمكة «إن الله ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة، فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس. فقال «لا. هو حرام» ثم قال رسول الله ﷺ عند ذلك «قاتل الله اليهود. إن الله لما حرّم شحومها، جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه»
.
(٢)
أخرجه البخاري في: البيوع، ١١٢- باب بيع الميتة والأصنام، حديث ١١٢١ ونصه: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول، عام الفتح، وهو بمكة «إن الله ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة، فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس. فقال «لا. هو حرام» ثم قال رسول الله ﷺ عند ذلك «قاتل الله اليهود. إن الله لما حرّم شحومها، جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه»
.
19
وروى ابن أبي حاتم عن الجارود بن أبي سبرة قال: كان رجل من بني رياح يقال له: ابن نائل. وكان شاعرا. نافر غالبا، جدّ الفرزدق بماء بظهر الكوفة. على أن يعقر هذا مائة من إبله، إذا وردت الماء. فلما وردت الماء. قاما بسيفيهما فجعلا يكشفان عراقيبها. قال: فخرج الناس على الحمرات والبغال يريدون اللحم. وعليّ بالكوفة.
قال: فخرج عليّ. على بغلة رسول الله ﷺ البيضاء، وهو ينادي: يا أيها الناس! لا تأكلوا من لحومها. فإنما أهل بها لغير الله. هذا أثر غريب. يشهد له بالصحة ما
رواه أبو داود عن ابن عباس «١» قال: «نهى رسول الله ﷺ عن معاقرة الأعراب»
. ثم
أسند عن عكرمة «٢»
أن رسول الله ﷺ نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل.
أفاده ابن كثير.
وفي (القاموس وشرحه) : وعاقره: فاخره وكارمه في عقر الإبل. ويقال: تعاقرا إذا عقرا إبلهما، يتباريان بذلك، ليرى أيهما أعقر لها. ومن ذلك معاقرة غالب بن صعصعة. أبي الفرزدق وسحيم بن وثيل الرياحيّ لما تعاقرا بصوأر. فعقر سحيم خمسا ثم بدا له. وعقر غالب مائة.
وفي حديث ابن عباس: لا تأكلوا من تعاقر الأعراب. فإني لا آمن أن يكون مما أهل به لغير الله.
قال ابن الأثير: هو عقرهم الإبل، كان الرجلان يتباريان في الجود والسخاء.
فيعقر هذا وهذا. حتى يعجز أحدهما الآخر. وكانوا يفعلونه رياء وسمعة وتفاخرا.
ولا يقصدون به وجه الله تعالى. فشبهه بما ذبح لغير الله تعالى. انتهى.
وروى الإمام مسلم عن عليّ «٣» رضي الله عنه قال: «حدثني رسول الله ﷺ بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله. لعن الله من لعن والديه. لعن الله من آوى محدثا. لعن الله من غير منار الأرض».
وروى الإمام أحمد عن طارق بن شهاب أن رسول الله ﷺ قال: «دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب. قالوا: وكيف ذلك؟ يا رسول الله! قال:
مر رّجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا. فقالوا لأحدهما:
قرب قال: ليس عندي شيء أقرب. قالوا له: قرب ولو ذبابا. فقرب ذبابا، فخلوا
قال: فخرج عليّ. على بغلة رسول الله ﷺ البيضاء، وهو ينادي: يا أيها الناس! لا تأكلوا من لحومها. فإنما أهل بها لغير الله. هذا أثر غريب. يشهد له بالصحة ما
رواه أبو داود عن ابن عباس «١» قال: «نهى رسول الله ﷺ عن معاقرة الأعراب»
. ثم
أسند عن عكرمة «٢»
أن رسول الله ﷺ نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل.
أفاده ابن كثير.
وفي (القاموس وشرحه) : وعاقره: فاخره وكارمه في عقر الإبل. ويقال: تعاقرا إذا عقرا إبلهما، يتباريان بذلك، ليرى أيهما أعقر لها. ومن ذلك معاقرة غالب بن صعصعة. أبي الفرزدق وسحيم بن وثيل الرياحيّ لما تعاقرا بصوأر. فعقر سحيم خمسا ثم بدا له. وعقر غالب مائة.
وفي حديث ابن عباس: لا تأكلوا من تعاقر الأعراب. فإني لا آمن أن يكون مما أهل به لغير الله.
قال ابن الأثير: هو عقرهم الإبل، كان الرجلان يتباريان في الجود والسخاء.
فيعقر هذا وهذا. حتى يعجز أحدهما الآخر. وكانوا يفعلونه رياء وسمعة وتفاخرا.
ولا يقصدون به وجه الله تعالى. فشبهه بما ذبح لغير الله تعالى. انتهى.
وروى الإمام مسلم عن عليّ «٣» رضي الله عنه قال: «حدثني رسول الله ﷺ بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله. لعن الله من لعن والديه. لعن الله من آوى محدثا. لعن الله من غير منار الأرض».
وروى الإمام أحمد عن طارق بن شهاب أن رسول الله ﷺ قال: «دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب. قالوا: وكيف ذلك؟ يا رسول الله! قال:
مر رّجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا. فقالوا لأحدهما:
قرب قال: ليس عندي شيء أقرب. قالوا له: قرب ولو ذبابا. فقرب ذبابا، فخلوا
(١) أخرجه أبو داود في: الأضاحي، ١٤- باب ما جاء في أكل معاقرة الأعراب، حديث ٢٨٢٠.
(٢) أخرجه أبو داود في: الأطعمة، ٧- باب في طعام المتباريين، حديث ٣٧٥٤.
(٣) أخرجه مسلم في: الأضاحي، حديث ٤٣.
(٢) أخرجه أبو داود في: الأطعمة، ٧- باب في طعام المتباريين، حديث ٣٧٥٤.
(٣) أخرجه مسلم في: الأضاحي، حديث ٤٣.
20
سبيله، فدخل النار. وقالوا للآخر: قرب. فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل. فضربوا عنقه. فدخل الجنة».
وفي هذه القصة ترهيب من وجوه: منها كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصا من شرهم.
ومنها معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، كيف صبر ذلك على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم. مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر. ومنها أن في هذا شاهدا
للحديث الصحيح: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك» «١».
كذا في كتاب (التوحيد).
وَالْمُنْخَنِقَةُ وهي التي تموت بالخنق إما قصدا وإما اتفاقا. بأن تتخبل في وثاقها فتموت به. قال الحسن وغيره: هي التي تختنق بحبل الصائد أو غيره. وبأي وجه اختنقت فهي حرام. وقال ابن عباس: كانت الجاهلية يخنقون الشاة. حتى إذا ماتت أكلوها. والمنخنقة من جنس الميتة، لأنها لما ماتت، وما سال دمها، كانت كالميت حتف أنفه. إلا أنها فارقت الميتة بكونها تموت بسبب انعصار الحلق بالخنق، بخلاف الميتة فإنها بلا سبب.
قال المهايمي: المنخنقة، وإن ذكر اسم الله عليها فقد عارضه سريان خباثة الخانق إليها، مع تنجسها بالموت وَالْمَوْقُوذَةُ يعني المقتولة بالخشب. وكان أهل الجاهلية يضربون الشاة بالعصيّ. حتى إذا ماتت أكلوها. وفي (القاموس وشرحه) الوقذ شدة الضرب. وقذه يقذه وقذا: ضربه حتى استرخى وأشرف على الموت. وشاة وقيذ وموقوذة قتلت بالخشب. وقال أبو سعيد: الوقذ الضرب على فأس القفا.
فيصير هدتها إلى الدماغ، فيذهب العقل. فيقال: رجل موقوذ.
وفي الصحيح أن عديّ ابن حاتم قال: «قلت: يا رسول الله! إني أرى بالمعراض الصيد، فأصيب. قال: إذا رميت بالمعراض فخرق فكله. وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ. فلا تأكله» «٢».
وَالْمُتَرَدِّيَةُ هي الساقطة من جبل أو في بئر، فتموت. والتردي السقوط فهي مهواة.
وهذه الثلاثة في معنى الميتة. فإنها ماتت ولم يسل دمها. وَالنَّطِيحَةُ هي التي نطحتها أخرى فماتت. فهي حرام. وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من
وفي هذه القصة ترهيب من وجوه: منها كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصا من شرهم.
ومنها معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، كيف صبر ذلك على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم. مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر. ومنها أن في هذا شاهدا
للحديث الصحيح: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك» «١».
كذا في كتاب (التوحيد).
وَالْمُنْخَنِقَةُ وهي التي تموت بالخنق إما قصدا وإما اتفاقا. بأن تتخبل في وثاقها فتموت به. قال الحسن وغيره: هي التي تختنق بحبل الصائد أو غيره. وبأي وجه اختنقت فهي حرام. وقال ابن عباس: كانت الجاهلية يخنقون الشاة. حتى إذا ماتت أكلوها. والمنخنقة من جنس الميتة، لأنها لما ماتت، وما سال دمها، كانت كالميت حتف أنفه. إلا أنها فارقت الميتة بكونها تموت بسبب انعصار الحلق بالخنق، بخلاف الميتة فإنها بلا سبب.
قال المهايمي: المنخنقة، وإن ذكر اسم الله عليها فقد عارضه سريان خباثة الخانق إليها، مع تنجسها بالموت وَالْمَوْقُوذَةُ يعني المقتولة بالخشب. وكان أهل الجاهلية يضربون الشاة بالعصيّ. حتى إذا ماتت أكلوها. وفي (القاموس وشرحه) الوقذ شدة الضرب. وقذه يقذه وقذا: ضربه حتى استرخى وأشرف على الموت. وشاة وقيذ وموقوذة قتلت بالخشب. وقال أبو سعيد: الوقذ الضرب على فأس القفا.
فيصير هدتها إلى الدماغ، فيذهب العقل. فيقال: رجل موقوذ.
وفي الصحيح أن عديّ ابن حاتم قال: «قلت: يا رسول الله! إني أرى بالمعراض الصيد، فأصيب. قال: إذا رميت بالمعراض فخرق فكله. وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ. فلا تأكله» «٢».
وَالْمُتَرَدِّيَةُ هي الساقطة من جبل أو في بئر، فتموت. والتردي السقوط فهي مهواة.
وهذه الثلاثة في معنى الميتة. فإنها ماتت ولم يسل دمها. وَالنَّطِيحَةُ هي التي نطحتها أخرى فماتت. فهي حرام. وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من
(١) أخرجه البخاري في: الرقاق، ٢٩- باب الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك، حديث ٢٤٣٣، عن عبد الله بن مسعود.
(٢) أخرجه البخاري في: البيوع، ٣- باب تفسير المشبّهات، حديث ١٤١.
وأخرجه أيضا في: الذبائح والصيد، ٣- باب ما أصاب المعراض بعرضه.
(٢) أخرجه البخاري في: البيوع، ٣- باب تفسير المشبّهات، حديث ١٤١.
وأخرجه أيضا في: الذبائح والصيد، ٣- باب ما أصاب المعراض بعرضه.
21
مذبحها. وإن أرسل إنسان الناطح بذكر اسم الله. لأنه لما لم يكن بطريق الصيد المشروع، ولم تخل من خباثة.
فائدة:
قال التبريزيّ في (تهذيبه) وابن قتيبة في (أدب الكاتب) : ما كان على فعيل، نعتا للمؤنث وهو في تأويل مفعول، كان بغير هاء. نحو كف خضيب وملحفة غسيل. وربما جاءت بالهاء يذهب بها مذهب الأسماء. نحو النطيحة والذبيحة والفريسة وأكيلة السبع... وقالوا: ملحفة جديد. لأنها في تأويل مجدودة أي مقطوعة. وإذا لم يجز فيه مفعول فهو بالهاء. نحو مريضة وظريفة وكبيرة وصغيرة.
وجاءت أشياء شاذة. فقالوا: ريح خريق وناقة سديس وكتيبة خصيف.
وقال ابن السكيت: قد تأتي فعيله بالهاء وهي في تأويل مفعول بها. تخرج مخرج الأسماء ولا يذهب بها مذهب النعوت. نحو النطيحة والذبيحة والفريسة وأكيلة السبع، ومررت بقتيلة بني فلان.
وقال الجوهريّ: إنما جاءت النطيحة بالهاء، لغلبة الاسم عليها. وكذلك الفريسة والأكيلة والرميّة. لأنه ليس هو (نطحتها، فهي منطوحة) وإنما هو الشيء في نفسه مما ينطح والشيء مما يفرس ويؤكل.
وَما أَكَلَ السَّبُعُ أي ما عدا عليها فأكل بعضها. قال قتادة: كان أهل الجاهلية، إذا جرح السبع شيئا فقتله أو أكل منه، أكلوا ما بقي منه. فحرمه الله تعالى.
قال المهايميّ: هو، وإن أشبه الصيد، لكنه لما أكله قصد بذلك نفسه، فسرت خباثته فيها. انتهى. و (السبع) بضم الباء وفتحها وسكونها: المفترس من الحيوان.
مثل الأسد والذئب والنمر والفهد. وما أشبهها مما له ناب، ويعدو على الناس والدواب فيفترسها. وسمي ذلك لتمام قوته. وذلك أن (السبع) من الأعداد التامة، وفي الآية محذوف تقديره: وما أكل السبع بعضه. كما ذكرنا. لأن ما أكله فقد فقد.
فلا حكم له، إنما الحكم للباقي منه. وقوله تعالى: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أي ما أدركتم ذكاته من هذه المذكورات المنخنقة فما بعدها. بحيث ينسب موتها إلى الذبح دون غيره، فإنه يتحقق فيه المطهر، ولا يؤثر فيه السابق. لأن اللاحق ينسخه. بل هو واقع قبل تأثير السابق. إذ لا يتم التأثير إلا بالموت. أفاده المهايميّ.
فائدة:
قال التبريزيّ في (تهذيبه) وابن قتيبة في (أدب الكاتب) : ما كان على فعيل، نعتا للمؤنث وهو في تأويل مفعول، كان بغير هاء. نحو كف خضيب وملحفة غسيل. وربما جاءت بالهاء يذهب بها مذهب الأسماء. نحو النطيحة والذبيحة والفريسة وأكيلة السبع... وقالوا: ملحفة جديد. لأنها في تأويل مجدودة أي مقطوعة. وإذا لم يجز فيه مفعول فهو بالهاء. نحو مريضة وظريفة وكبيرة وصغيرة.
وجاءت أشياء شاذة. فقالوا: ريح خريق وناقة سديس وكتيبة خصيف.
وقال ابن السكيت: قد تأتي فعيله بالهاء وهي في تأويل مفعول بها. تخرج مخرج الأسماء ولا يذهب بها مذهب النعوت. نحو النطيحة والذبيحة والفريسة وأكيلة السبع، ومررت بقتيلة بني فلان.
وقال الجوهريّ: إنما جاءت النطيحة بالهاء، لغلبة الاسم عليها. وكذلك الفريسة والأكيلة والرميّة. لأنه ليس هو (نطحتها، فهي منطوحة) وإنما هو الشيء في نفسه مما ينطح والشيء مما يفرس ويؤكل.
وَما أَكَلَ السَّبُعُ أي ما عدا عليها فأكل بعضها. قال قتادة: كان أهل الجاهلية، إذا جرح السبع شيئا فقتله أو أكل منه، أكلوا ما بقي منه. فحرمه الله تعالى.
قال المهايميّ: هو، وإن أشبه الصيد، لكنه لما أكله قصد بذلك نفسه، فسرت خباثته فيها. انتهى. و (السبع) بضم الباء وفتحها وسكونها: المفترس من الحيوان.
مثل الأسد والذئب والنمر والفهد. وما أشبهها مما له ناب، ويعدو على الناس والدواب فيفترسها. وسمي ذلك لتمام قوته. وذلك أن (السبع) من الأعداد التامة، وفي الآية محذوف تقديره: وما أكل السبع بعضه. كما ذكرنا. لأن ما أكله فقد فقد.
فلا حكم له، إنما الحكم للباقي منه. وقوله تعالى: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أي ما أدركتم ذكاته من هذه المذكورات المنخنقة فما بعدها. بحيث ينسب موتها إلى الذبح دون غيره، فإنه يتحقق فيه المطهر، ولا يؤثر فيه السابق. لأن اللاحق ينسخه. بل هو واقع قبل تأثير السابق. إذ لا يتم التأثير إلا بالموت. أفاده المهايميّ.
22
قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي: إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح، فكلوه فهو ذكيّ. وكذا روي عن سعيد بن جبير والحسن والسدّي.
وروى ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عليّ، في الآية قال: إن مصعت بذنبها، أو ركضت برجلها، أو طرفت بعينها، فكل.
وروى ابن جرير «١» عن الحارث عن عليّ أيضا قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة، وهي تحرك يدا أو رجلا، فكلها
. وهكذا روي عن طاوس والحسن وقتادة وعبيد بن عمير والضحاك وغير واحد أن المذكاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح، فهي حلال. وهذا مذهب جمهور الفقهاء. أفاده ابن كثير.
وفي الموطأ «٢» : سئل مالك عن شاة تردت فتكسّرت، فأدركها صاحبها فذبحها، فسال الدم منها ولم تتحرك؟ فقال مالك: إذا كان ذبحها ونفسها يجري وهي تطرف، فليأكلها.
والتذكية الذبح، كالذكا والذكاة. قال الراغب: حقيقة التذكية إخراج الحرارة الغريزية. لكن خص في الشرع بإبطال الحياة على وجه دون وجه. أي وهو قطع الحلقوم والمريء. بمنهر للدم: من سكين وسيف وزجاج وحجر وقصب، له حد يقطع كما السلاح المحدد. ما لم يكن سنا أو ظفرا.
لحديث رافع بن خديج في الصحيحين «٣» وغيرهما قال: «قلت يا رسول الله! إنا لاقو العدوّ غدا. وليس معنا مدى. أفنذبح بالقصب؟ فقال: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه، فكلوه. ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم. وأما الظفر فمدى الحبشة».
وأما حديث أبي العشراء عن أبيه: قلت: «يا رسول الله! أما تكون الذكاة إلا
وروى ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عليّ، في الآية قال: إن مصعت بذنبها، أو ركضت برجلها، أو طرفت بعينها، فكل.
وروى ابن جرير «١» عن الحارث عن عليّ أيضا قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة، وهي تحرك يدا أو رجلا، فكلها
. وهكذا روي عن طاوس والحسن وقتادة وعبيد بن عمير والضحاك وغير واحد أن المذكاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح، فهي حلال. وهذا مذهب جمهور الفقهاء. أفاده ابن كثير.
وفي الموطأ «٢» : سئل مالك عن شاة تردت فتكسّرت، فأدركها صاحبها فذبحها، فسال الدم منها ولم تتحرك؟ فقال مالك: إذا كان ذبحها ونفسها يجري وهي تطرف، فليأكلها.
والتذكية الذبح، كالذكا والذكاة. قال الراغب: حقيقة التذكية إخراج الحرارة الغريزية. لكن خص في الشرع بإبطال الحياة على وجه دون وجه. أي وهو قطع الحلقوم والمريء. بمنهر للدم: من سكين وسيف وزجاج وحجر وقصب، له حد يقطع كما السلاح المحدد. ما لم يكن سنا أو ظفرا.
لحديث رافع بن خديج في الصحيحين «٣» وغيرهما قال: «قلت يا رسول الله! إنا لاقو العدوّ غدا. وليس معنا مدى. أفنذبح بالقصب؟ فقال: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه، فكلوه. ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم. وأما الظفر فمدى الحبشة».
وأما حديث أبي العشراء عن أبيه: قلت: «يا رسول الله! أما تكون الذكاة إلا
(١) الأثر رقم ١١٠٣٦. [.....]
(٢) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في: الذبائح، حديث ٧.
(٣)
أخرجه البخاري في: الشركة، ٣- باب قسمة الغنم، حديث ١٢٣٠ ونصه: عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج عن جده قال: كنا مع النبيّ ﷺ بذي الحليفة. فأصاب الناس جوع. فأصابوا إبلا وغنما. قال: وكان النبيّ ﷺ في أخريات القوم. فعجلوا وذبحوا ونصبوا القدور. فأمر النبي ﷺ بالقدور فأكفئت. ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير. فندّ منها بعير. فطلبوه فأعياهم. وكان في القوم خيل يسيرة. فأهوى رجل منهم بسهم فحبسه الله. ثم قال «إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا».
فقال جدي: إنا نرجو أو نخاف العدوّ غدا، وليست مدى. أفنذبح بالقصب؟ قال «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه، فكلوه. ليس السنّ والظفر. وسأحدثكم عن ذلك أما السنّ فعظم. وأما الظفر فمدى الحبشة».
(٢) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في: الذبائح، حديث ٧.
(٣)
أخرجه البخاري في: الشركة، ٣- باب قسمة الغنم، حديث ١٢٣٠ ونصه: عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج عن جده قال: كنا مع النبيّ ﷺ بذي الحليفة. فأصاب الناس جوع. فأصابوا إبلا وغنما. قال: وكان النبيّ ﷺ في أخريات القوم. فعجلوا وذبحوا ونصبوا القدور. فأمر النبي ﷺ بالقدور فأكفئت. ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير. فندّ منها بعير. فطلبوه فأعياهم. وكان في القوم خيل يسيرة. فأهوى رجل منهم بسهم فحبسه الله. ثم قال «إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا».
فقال جدي: إنا نرجو أو نخاف العدوّ غدا، وليست مدى. أفنذبح بالقصب؟ قال «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه، فكلوه. ليس السنّ والظفر. وسأحدثكم عن ذلك أما السنّ فعظم. وأما الظفر فمدى الحبشة».
23
في الحلق واللبّة؟ قال: لو طعنت في فخذها لأجزاك»، أخرجه أحمد وأهل السنن-
ففي إسناده مجهولون. وأبو العشراء لا يعرف من أبوه. ولم يرو عنه غير حماد بن سلمة. فهو مجهول. كذا في (الروضة).
وقال الحافظ ابن حجر في (التلخيص) : أبو العشراء مختلف في اسمه وفي اسم أبيه. وقد تفرد حماد بن سلمة بالرواية عنه على الصحيح. ولا يعرف حاله.
وقال في (التقريب) : أعرابيّ مجهول.
قال الترمذيّ في جامعه، بعد سوقه لهذا الحديث: قال أحمد بن منيع: قال يزيد بن هارون: هذا في الضرورة. وفي الباب عن رافع بن خديج. انتهى.
وقال ابن كثير: وهذا الحديث صحيح. ولكنه محمول على ما لا يقدر على ذبحه في الحلق واللبة. انتهى.
وتصحيحه له، مع جهالة راوية المذكور، فيه نظر. فإن حد الصحيح كما في (التقريب) ما اتصل إسناده بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة. قال (شارحه السيوطيّ) : فخرج بقيد (العدول) ما نقله مجهول عينا أو حالا. أي: فليس بصحيح بل ضعيف.
وفي (النخبة) أن خبر الآحاد مقبول ومردود، والثاني إما لسقط من إسناد أو طعن في راو. والطعن إما لكذب أو تهمته بذلك. إلى أن قال: أو جهالته بأن لا يعرف فيه تعديل ولا تجريح معيّن. فتبصّر.
وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ قال الزمخشريّ: كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت. يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها. يعظمونها بذلك ويتقربون به إليها.
تسمى الأنصاب.
قال ابن كثير: فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع وحرّم عليهم أكل هذه الذبائح، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله. لما في الذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله. انتهى.
وقد ورد النهي عن الذبح لله بمكان يذبح فيه لغيره تعالى.
فروى أبو داود «١»
ففي إسناده مجهولون. وأبو العشراء لا يعرف من أبوه. ولم يرو عنه غير حماد بن سلمة. فهو مجهول. كذا في (الروضة).
وقال الحافظ ابن حجر في (التلخيص) : أبو العشراء مختلف في اسمه وفي اسم أبيه. وقد تفرد حماد بن سلمة بالرواية عنه على الصحيح. ولا يعرف حاله.
وقال في (التقريب) : أعرابيّ مجهول.
قال الترمذيّ في جامعه، بعد سوقه لهذا الحديث: قال أحمد بن منيع: قال يزيد بن هارون: هذا في الضرورة. وفي الباب عن رافع بن خديج. انتهى.
وقال ابن كثير: وهذا الحديث صحيح. ولكنه محمول على ما لا يقدر على ذبحه في الحلق واللبة. انتهى.
وتصحيحه له، مع جهالة راوية المذكور، فيه نظر. فإن حد الصحيح كما في (التقريب) ما اتصل إسناده بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة. قال (شارحه السيوطيّ) : فخرج بقيد (العدول) ما نقله مجهول عينا أو حالا. أي: فليس بصحيح بل ضعيف.
وفي (النخبة) أن خبر الآحاد مقبول ومردود، والثاني إما لسقط من إسناد أو طعن في راو. والطعن إما لكذب أو تهمته بذلك. إلى أن قال: أو جهالته بأن لا يعرف فيه تعديل ولا تجريح معيّن. فتبصّر.
وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ قال الزمخشريّ: كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت. يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها. يعظمونها بذلك ويتقربون به إليها.
تسمى الأنصاب.
قال ابن كثير: فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع وحرّم عليهم أكل هذه الذبائح، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله. لما في الذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله. انتهى.
وقد ورد النهي عن الذبح لله بمكان يذبح فيه لغيره تعالى.
فروى أبو داود «١»
(١)
أخرجه أبو داود في: الايمان والنذور، ٢٢- باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر، حديث ٣٣١٣ ونصه: عن ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله ﷺ أن ينحر إبلا ببوانة.
أخرجه أبو داود في: الايمان والنذور، ٢٢- باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر، حديث ٣٣١٣ ونصه: عن ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله ﷺ أن ينحر إبلا ببوانة.
24
بإسناد على شرط الشيخين، عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: «نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة. فسأل النبي ﷺ فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟
قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك. فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله. ولا فيما لا يملك ابن آدم».
ففيه، أن المعصية قد تؤثر في الأرض. وكذلك الطاعة. وفيه المنع من النذر إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية، ولو بعد زواله. أو عيد من أعيادهم، ولو بعد زواله أيضا. وأنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة لأنه نذر معصية وفيه الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم، ولو لم يقصده. كذا في (كتاب التوحيد).
لطيفة:
(النّصب) بضمتين، وضم فسكون، إما جمع، واحده نصاب. ككتاب وكتب. أو مفرد جمعه أنصاب كعنق وأعناق. وقفل وأقفال. وفي (القاموس وشرحه) : النّصب: كل ما نصب وجعل علما. وكل ما نصب فعبد من دون الله تعالى. والأنصاب حجارة كانت حول الكعبة تنصب فيهلّ عليها ويذبح لغير الله تعالى. وقال القتيبيّ: النصب صنم أو حجر. وكانت الجاهلية تنصبه تذبح عنده، فيحمرّ بالدم. ومنه حديث «١» أبي ذر في إسلامه قال: فخرجت مغشيّا عليّ ثم ارتفعت كأني نصب أحمر. يريد أنهم ضربوه حتى أدموه. فصار كالنصب المحمّر بدم الذبائح. انتهى.
قال ابن جريح: كانت النصب ثلاثمائة وستين نصبا. وكانوا يذبحون عندها وينضحون ما أقبل منها إلى البيت، بدماء تلك الذبائح. ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب.
وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ أي: وحرم عليكم، أيها المؤمنون، الاستقسام بالأزلام، أي: طلب القسم والحكم بها. والأزلام جمع زلم (محركة). و (كصرد) وهي: قداح ثلاثة كانوا يستقسمون به في الجاهلية. مكتوب على أحدها: (افعل) وعلى الآخر (لا تفعل) والثالث غفل، ليس عليه شيء. وقد زلّمت وسوّيت ووضعت
قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك. فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله. ولا فيما لا يملك ابن آدم».
ففيه، أن المعصية قد تؤثر في الأرض. وكذلك الطاعة. وفيه المنع من النذر إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية، ولو بعد زواله. أو عيد من أعيادهم، ولو بعد زواله أيضا. وأنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة لأنه نذر معصية وفيه الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم، ولو لم يقصده. كذا في (كتاب التوحيد).
لطيفة:
(النّصب) بضمتين، وضم فسكون، إما جمع، واحده نصاب. ككتاب وكتب. أو مفرد جمعه أنصاب كعنق وأعناق. وقفل وأقفال. وفي (القاموس وشرحه) : النّصب: كل ما نصب وجعل علما. وكل ما نصب فعبد من دون الله تعالى. والأنصاب حجارة كانت حول الكعبة تنصب فيهلّ عليها ويذبح لغير الله تعالى. وقال القتيبيّ: النصب صنم أو حجر. وكانت الجاهلية تنصبه تذبح عنده، فيحمرّ بالدم. ومنه حديث «١» أبي ذر في إسلامه قال: فخرجت مغشيّا عليّ ثم ارتفعت كأني نصب أحمر. يريد أنهم ضربوه حتى أدموه. فصار كالنصب المحمّر بدم الذبائح. انتهى.
قال ابن جريح: كانت النصب ثلاثمائة وستين نصبا. وكانوا يذبحون عندها وينضحون ما أقبل منها إلى البيت، بدماء تلك الذبائح. ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب.
وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ أي: وحرم عليكم، أيها المؤمنون، الاستقسام بالأزلام، أي: طلب القسم والحكم بها. والأزلام جمع زلم (محركة). و (كصرد) وهي: قداح ثلاثة كانوا يستقسمون به في الجاهلية. مكتوب على أحدها: (افعل) وعلى الآخر (لا تفعل) والثالث غفل، ليس عليه شيء. وقد زلّمت وسوّيت ووضعت
فأتى النبيّ ﷺ فقال: إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة. فقال النبيّ ﷺ «هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد» ؟ قال: لا. قال «هل كان فيها عيد من أعيادهم» ؟ قال: لا. قال رسول الله ﷺ «أوف بنذرك. فإنه لا وفاء للنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم».
(١) أخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث ١٣٢ وهو حديث طويل.
(١) أخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث ١٣٢ وهو حديث طويل.
25
في الكعبة. يقوم بها سدنة البيت، فإذا أراد رجل سفرا أو نكاحا. أتى السادن وقال:
أخرج لي زلما. فيجيلها ثم يخرج زلما منها. فإذا خرج قدح الأمر، مضى على ما عزم عليه. أو النهي قعد عما أراده. أو الفارغ أعاد.
قال الأزهريّ (في معنى الآية) : أي: تطلبوا من جهة الأزلام ما قسم لكم من أحد الأمرين. فمعنى الاستقسام هو طلب معرفة ما قسم له من الخير والشر، مما لم يقسم له بواسطة ضرب القداح. وذكر محمد بن إسحاق وغيره أن أعظم أصنام قريش، صنم كان يقال له هبل. منصوب على بئر داخل الكعبة، فيها توضع الهدايا، وأموال الكعبة فيه. وكان عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه مما أشكل عليهم. فما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه. وفي (اللباب) : كانت أزلامهم سبع قداح مستوية مكتوب على واحد منها: (أمرني ربي) وعلى واحد:
(نهاني) وعلى واحد (منكم) وعلى واحد (من غيركم) وعلى واحد: (ملصق) وعلي واحد (العقل) وعلى واحد غفل. أي ليس عليه شيء. وكانت العرب، في الجاهلية، إذا أرادوا سفرا أو تجارة أو نكاحا، أو اختلفوا في نسب أو أمر قتيل، أو تحمل عقل، أو غير ذلك من الأمور العظام- جاءوا إلى هبل. وكانت أعظم صنم لقريش بمكة. وجاءوا بمائة درهم. وأعطوها صاحب القداح حتى يجيلها لهم. فإن فرج (أمرني ربي) فعلوا ذلك الأمر. وإن خرج (نهاني ربي) لم يفعلوه. وإن أجالوا على نسب، فإن خرج (منكم) كان وسطا منهم. وإن خرج (من غيركم) كان حلفا فيهم. وإن خرج (ملصق) كان على حاله. وإن اختلفوا في العقل. وهو الدين، فمن خرج عليه قدح العقل تحمّله. وإن خرج غفل أجالوا ثانيا. حتى يخرج المكتوب عليه. فنهاهم الله عن ذلك وحرمه وسماه فسقا. كما يأتي:
وثبت في الصحيحين «١»
أن النبي ﷺ لما دخل الكعبة، وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها. وفي أيديهما الأزلام. فقال: «قاتلهم الله، لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا»
. وفي الصحيح «٢» أن سراقة بن مالك بن جعشم، لما خرج في طلب النبي ﷺ وأبي بكر، وهما ذاهبان إلى المدينة. مهاجرين، قال: فاستقسمت بالأزلام: هل أضرّهم أم لا؟
فخرج الذي أكره: لا تضرهم. قال فعصيت الأزلام واتبعتهم. ثم استقسم بها ثانية
أخرج لي زلما. فيجيلها ثم يخرج زلما منها. فإذا خرج قدح الأمر، مضى على ما عزم عليه. أو النهي قعد عما أراده. أو الفارغ أعاد.
قال الأزهريّ (في معنى الآية) : أي: تطلبوا من جهة الأزلام ما قسم لكم من أحد الأمرين. فمعنى الاستقسام هو طلب معرفة ما قسم له من الخير والشر، مما لم يقسم له بواسطة ضرب القداح. وذكر محمد بن إسحاق وغيره أن أعظم أصنام قريش، صنم كان يقال له هبل. منصوب على بئر داخل الكعبة، فيها توضع الهدايا، وأموال الكعبة فيه. وكان عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه مما أشكل عليهم. فما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه. وفي (اللباب) : كانت أزلامهم سبع قداح مستوية مكتوب على واحد منها: (أمرني ربي) وعلى واحد:
(نهاني) وعلى واحد (منكم) وعلى واحد (من غيركم) وعلى واحد: (ملصق) وعلي واحد (العقل) وعلى واحد غفل. أي ليس عليه شيء. وكانت العرب، في الجاهلية، إذا أرادوا سفرا أو تجارة أو نكاحا، أو اختلفوا في نسب أو أمر قتيل، أو تحمل عقل، أو غير ذلك من الأمور العظام- جاءوا إلى هبل. وكانت أعظم صنم لقريش بمكة. وجاءوا بمائة درهم. وأعطوها صاحب القداح حتى يجيلها لهم. فإن فرج (أمرني ربي) فعلوا ذلك الأمر. وإن خرج (نهاني ربي) لم يفعلوه. وإن أجالوا على نسب، فإن خرج (منكم) كان وسطا منهم. وإن خرج (من غيركم) كان حلفا فيهم. وإن خرج (ملصق) كان على حاله. وإن اختلفوا في العقل. وهو الدين، فمن خرج عليه قدح العقل تحمّله. وإن خرج غفل أجالوا ثانيا. حتى يخرج المكتوب عليه. فنهاهم الله عن ذلك وحرمه وسماه فسقا. كما يأتي:
وثبت في الصحيحين «١»
أن النبي ﷺ لما دخل الكعبة، وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها. وفي أيديهما الأزلام. فقال: «قاتلهم الله، لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا»
. وفي الصحيح «٢» أن سراقة بن مالك بن جعشم، لما خرج في طلب النبي ﷺ وأبي بكر، وهما ذاهبان إلى المدينة. مهاجرين، قال: فاستقسمت بالأزلام: هل أضرّهم أم لا؟
فخرج الذي أكره: لا تضرهم. قال فعصيت الأزلام واتبعتهم. ثم استقسم بها ثانية
(١) أخرجه البخاري في: الأنبياء، ٨- باب قوله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، عن ابن عباس.
حديث ٢٦٤.
(٢) أخرجه البخاري في: مناقب الأنصار، ٤٥- باب هجرة النبيّ ﷺ وأصحابه إلى المدينة، حديث ١٨٢٢.
حديث ٢٦٤.
(٢) أخرجه البخاري في: مناقب الأنصار، ٤٥- باب هجرة النبيّ ﷺ وأصحابه إلى المدينة، حديث ١٨٢٢.
26
وثالثة. كل ذلك يخرج الذي يكره: لا تضرهم. وكان كذلك. وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك. ثم أسلم بعد ذلك.
وروى ابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يلج الدرجات من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر طائرا»
ذلِكُمْ فِسْقٌ أي خروج عن الأخذ بالطريق المشروع. والإشارة إلى الاستقسام. أو إلى تناول ما حرم عليهم. لأن المعنى:
حرم عليكم تناول الميتة وكذا وكذا. فإن قلت: لم كان استقسام المسافر وغيره بالأزلام، لتعرف الحال- فسقا؟ قلت: لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوب. وقال: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: ٦٥]. واعتقاد أن إليه طريقا وإلى استنباطه. وقوله: أمرني ربي ونهاني ربي- افتراء على الله. وما يدريه أنه أمره أو نهاه؟ والكهنة والمنجمون بهذه المثابة. وإن كان أراد بالرب الصنم، فقد روي أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم- فأمره ظاهر.
كذا في الكشاف.
تنبيه:
في (الإكليل) استدل بهذه الآية على تحريم القمار والتنجيم والرمل وكل ما شاكل ذلك. وعداه بعضهم إلى منع القرعة في الأحكام، وهو مردود. انتهى. أي لتباين القصد فيهما. فإن القرعة في قسمة الغنائم وإخراج النساء ونحوها، لتطيب نفوسهم والبراءة من التهمة في إيثار البعض. ولو اصطلحوا على ذلك جاز من غير قرعة. كما (في العناية).
قال الحاكم: وتدل على تحريم التمسك بالفأل والزجر والتطير والنجوم. فأما التفاؤل بالخير فمباح. قال الأصمّ: ومن هذا قول المنجم: إذا طلع نجم كذا فاخرج، وإن لم يطلع فلا تخرج.
قال الراضي بالله: ومن عمل بالأيام في السعد والنحس، معتقدا أن لها تأثيرا، كفر. وإن لم يعتقد أثم.
وقد روى أبو داود «١» والنسائي وابن حبان عن قطن بن قبيصة، عن أبيه، أنه سمع النبي ﷺ يقول: «إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت».
قال عوف أحد رواته: العيافة زجر الطير والطرق الخط يخط بالأرض. وفي
وروى ابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يلج الدرجات من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر طائرا»
ذلِكُمْ فِسْقٌ أي خروج عن الأخذ بالطريق المشروع. والإشارة إلى الاستقسام. أو إلى تناول ما حرم عليهم. لأن المعنى:
حرم عليكم تناول الميتة وكذا وكذا. فإن قلت: لم كان استقسام المسافر وغيره بالأزلام، لتعرف الحال- فسقا؟ قلت: لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوب. وقال: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: ٦٥]. واعتقاد أن إليه طريقا وإلى استنباطه. وقوله: أمرني ربي ونهاني ربي- افتراء على الله. وما يدريه أنه أمره أو نهاه؟ والكهنة والمنجمون بهذه المثابة. وإن كان أراد بالرب الصنم، فقد روي أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم- فأمره ظاهر.
كذا في الكشاف.
تنبيه:
في (الإكليل) استدل بهذه الآية على تحريم القمار والتنجيم والرمل وكل ما شاكل ذلك. وعداه بعضهم إلى منع القرعة في الأحكام، وهو مردود. انتهى. أي لتباين القصد فيهما. فإن القرعة في قسمة الغنائم وإخراج النساء ونحوها، لتطيب نفوسهم والبراءة من التهمة في إيثار البعض. ولو اصطلحوا على ذلك جاز من غير قرعة. كما (في العناية).
قال الحاكم: وتدل على تحريم التمسك بالفأل والزجر والتطير والنجوم. فأما التفاؤل بالخير فمباح. قال الأصمّ: ومن هذا قول المنجم: إذا طلع نجم كذا فاخرج، وإن لم يطلع فلا تخرج.
قال الراضي بالله: ومن عمل بالأيام في السعد والنحس، معتقدا أن لها تأثيرا، كفر. وإن لم يعتقد أثم.
وقد روى أبو داود «١» والنسائي وابن حبان عن قطن بن قبيصة، عن أبيه، أنه سمع النبي ﷺ يقول: «إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت».
قال عوف أحد رواته: العيافة زجر الطير والطرق الخط يخط بالأرض. وفي
(١) أخرجه أبو داود في: الطب، ٢٣- باب في الخط وزجر الطير، حديث ٣٩٠٧.
27
(القاموس) عفت الطير عيافة: زجرتها. وهو أن تعتبر بأسمائها ومساقطها، فتتسعّد أو تتشأم، وهو من عادة العرب كثيرا.
وقال أبو زيد: الطرق أن يخط الرجل في الأرض بإصبعين ثم بإصبع.
وقال ابن الأثير: الطرق الضرب بالحصى الذي تفعله النساء. وقيل: هو الخط بالرمل. والجبت: كل ما عبد من دون الله تعالى.
وقد روى مسلم في صحيحه «١»، عن بعض أزواج النبي ﷺ عن النبي ﷺ قال: «من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه، لم تقبل له صلاة أربعين يوما».
وروى الإمام أحمد «٢» وأبو داود والحاكم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم».
وعن عمران بن حصين مرفوعا: «ليس منا من تطيّر أو تطيّر له، أو تكهن أو تكهّن له، أو سحر أو سحر له. ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ الله». رواه البزار بإسناد جيد. ورواه الطبراني في (الأوسط) بإسناد حسن من حديث ابن عباس. دون قوله: ومن أتى إلخ.
قال البغوي: العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك. وقيل: هو الكاهن. والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل. وقيل: الذي يخبر عما في الضمير. وقال أبو العباس بن تيمية: العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق. وقال ابن عباس (في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم) : ما أرى من فعل ذلك، له عند الله من خلاق. وفي الأحاديث السابقة من الترهيب ما فهيا من التصريح بأنه لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن، والتصريح بأنه كفر.
وصححه. وجعل آخره من قول ابن مسعود.
ولأحمد «٤» من حديث ابن عمرو: من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك.
قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أن تقول: اللهم! لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك.
وقال أبو زيد: الطرق أن يخط الرجل في الأرض بإصبعين ثم بإصبع.
وقال ابن الأثير: الطرق الضرب بالحصى الذي تفعله النساء. وقيل: هو الخط بالرمل. والجبت: كل ما عبد من دون الله تعالى.
وقد روى مسلم في صحيحه «١»، عن بعض أزواج النبي ﷺ عن النبي ﷺ قال: «من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه، لم تقبل له صلاة أربعين يوما».
وروى الإمام أحمد «٢» وأبو داود والحاكم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم».
وعن عمران بن حصين مرفوعا: «ليس منا من تطيّر أو تطيّر له، أو تكهن أو تكهّن له، أو سحر أو سحر له. ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ الله». رواه البزار بإسناد جيد. ورواه الطبراني في (الأوسط) بإسناد حسن من حديث ابن عباس. دون قوله: ومن أتى إلخ.
قال البغوي: العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك. وقيل: هو الكاهن. والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل. وقيل: الذي يخبر عما في الضمير. وقال أبو العباس بن تيمية: العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق. وقال ابن عباس (في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم) : ما أرى من فعل ذلك، له عند الله من خلاق. وفي الأحاديث السابقة من الترهيب ما فهيا من التصريح بأنه لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن، والتصريح بأنه كفر.
وعن ابن مسعود مرفوعا «٣». الطيرة شرك. الطيرة شرك. وما منا إلا | ولكن الله يذهبه بالتوكل. رواه أبو داود والترمذيّ |
ولأحمد «٤» من حديث ابن عمرو: من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك.
قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أن تقول: اللهم! لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك.
(١) أخرجه مسلم في: السلام، حديث ١٢٥.
(٢)
أخرجه في المسند ٢/ ٤٠٨ وهذا نصه: عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال «من أتى حائضا، أو امرأة في دبرها، أو كاهنا فصدقه، فقد برئ مما أنزل على محمد»
. (٣) أخرجه أبو داود: الطب، ٢٤- باب في الطيرة، حديث ٣٩١٠.
(٤) أخرجه في المسند ٢/ ٢٢٠ حديث ٧٠٤٥.
(٢)
أخرجه في المسند ٢/ ٤٠٨ وهذا نصه: عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال «من أتى حائضا، أو امرأة في دبرها، أو كاهنا فصدقه، فقد برئ مما أنزل على محمد»
. (٣) أخرجه أبو داود: الطب، ٢٤- باب في الطيرة، حديث ٣٩١٠.
(٤) أخرجه في المسند ٢/ ٢٢٠ حديث ٧٠٤٥.
28
وعن أنس قال «١» : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل.
قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة. رواه الشيخان.
ولأبي داود «٢» بسند صحيح عن عروة بن عامر قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله ﷺ فقال: «أحسنها الفأل ولا تردّ مسلما. فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل:
اللهم! لا يأتي بالحسنات إلا أنت. ولا يدفع السيئات إلا أنت. ولا حول ولا قوة إلا بك».
فائدة:
قال الحافظ ابن كثير: قد أمر الله المؤمنين، إذا ترددوا في أمورهم، أن يستخيروه، بأن يعبدوه ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه. كما
رواه الإمام أحمد والبخاري «٣» وأهل السنن من طرق عن جابر بن عبد الله قال: «كان رسول الله ﷺ يعلمنا الاستخارة في الأمور، كما يعلمنا السورة من القرآن: ويقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم! إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم. فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم! إن كنت تعلم أن هذا الأمر (ويسميه باسمه) خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري (أو قال عاجل أمري) وآجله فأقدره لي، ويسره لي ثم بارك لي فيه. وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي، ومعاشي، وعاقبة أمري، فاصرفني عنه واصرفه عني، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به». هذا لفظ الإمام أحمد.
الْيَوْمَ يَئِسَ أي: قنط الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ روي عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، يعني: يئسوا أن يراجعوا دينهم.
وكذا روي عن عطاء بن أبي رباح والسدّيّ ومقاتل بن حيان. وعلى هذا المعنى يرد
الحديث الثابت في الصحيح «٤» أن رسول الله ﷺ قال: «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن بالتحريش بينهم». نقله ابن كثير
. وعليه ف (من) تعليلية. أي: يئسوا من مراجعة دينهم لأجل دينكم الذي ضم إليه جمهور الأمة العربية من أدناها إلى أقصاها. ودخلوا فيه أفواجا.
قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة. رواه الشيخان.
ولأبي داود «٢» بسند صحيح عن عروة بن عامر قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله ﷺ فقال: «أحسنها الفأل ولا تردّ مسلما. فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل:
اللهم! لا يأتي بالحسنات إلا أنت. ولا يدفع السيئات إلا أنت. ولا حول ولا قوة إلا بك».
فائدة:
قال الحافظ ابن كثير: قد أمر الله المؤمنين، إذا ترددوا في أمورهم، أن يستخيروه، بأن يعبدوه ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه. كما
رواه الإمام أحمد والبخاري «٣» وأهل السنن من طرق عن جابر بن عبد الله قال: «كان رسول الله ﷺ يعلمنا الاستخارة في الأمور، كما يعلمنا السورة من القرآن: ويقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم! إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم. فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم! إن كنت تعلم أن هذا الأمر (ويسميه باسمه) خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري (أو قال عاجل أمري) وآجله فأقدره لي، ويسره لي ثم بارك لي فيه. وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي، ومعاشي، وعاقبة أمري، فاصرفني عنه واصرفه عني، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به». هذا لفظ الإمام أحمد.
الْيَوْمَ يَئِسَ أي: قنط الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ روي عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، يعني: يئسوا أن يراجعوا دينهم.
وكذا روي عن عطاء بن أبي رباح والسدّيّ ومقاتل بن حيان. وعلى هذا المعنى يرد
الحديث الثابت في الصحيح «٤» أن رسول الله ﷺ قال: «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن بالتحريش بينهم». نقله ابن كثير
. وعليه ف (من) تعليلية. أي: يئسوا من مراجعة دينهم لأجل دينكم الذي ضم إليه جمهور الأمة العربية من أدناها إلى أقصاها. ودخلوا فيه أفواجا.
(١) أخرجه البخاري في: الطب، ٤٤- باب الفأل، حديث ٢٢٦٨.
ومسلم في: السلام، حديث ١١٢.
(٢) أخرجه أبو داود في: الطب، ٢٤- باب في الطيرة، حديث ٣٩١٩. [.....]
(٣) أخرجه البخاري في: التهجد، ٢٥- باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، حديث ٦٣٧.
(٤) أخرجه مسلم في: صفات المنافقين وأحكامهم، حديث ٦٥.
ومسلم في: السلام، حديث ١١٢.
(٢) أخرجه أبو داود في: الطب، ٢٤- باب في الطيرة، حديث ٣٩١٩. [.....]
(٣) أخرجه البخاري في: التهجد، ٢٥- باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، حديث ٦٣٧.
(٤) أخرجه مسلم في: صفات المنافقين وأحكامهم، حديث ٦٥.
29
وللزمخشريّ تأويل بديع، تابعه عليه من بعده، ونحن نسوقه أيضا. قال رحمه الله: لم يرد بقوله تعالى: الْيَوْمَ يوم بعينه. وإنما أريد به الزمان الحاضر، وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية. كقولك: كنت بالأمس شابا وأنت اليوم أشيب. فلا تريد (بالأمس) اليوم الذي قبل يومك ولا (باليوم) يومك. وقيل: أريد يوم نزولها. وقد نزلت يوم الجمعة، وكان يوم عرفة، بعد العصر في حجة الوداع.
وقوله تعالى: يَئِسَ. إلخ. أي يئسوا منه أن يبطلوه وأن ترجعوا محللين لهذه الخبائث، بعد ما حرمت عليكم. وقيل: يئسوا من دينكم أن يغلبوه. لأن الله عز وجل وفّى بوعده من إظهاره على الدين كله.
فَلا تَخْشَوْهُمْ بعد إظهار الدين، وزوال الخوف من الكفار، وانقلابهم مغلوبين مقهورين، بعد ما كانوا غالبين وَاخْشَوْنِ وأخلصوا لي الخشية. انتهى كلامه.
وأوضح الوجه الأول، الرازيّ فقال: ليس المراد باليوم هو ذلك اليوم بعينه، حتى يقال: إنهم ما يئسوا قبله بيوم أو يومين، وإنما هو كلام خارج على عادة أهل اللسان معناه: لا حاجة بكم الآن إلى مداهنة هؤلاء الكفار، لأنكم الآن صرتم حيث لا يطمع أحد من أعدائكم في توهين أمركم.
ثم بين تعالى أكبر نعمه وأعظم مننه على هذه الأمة وهو: إكماله لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبيّ غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه. ولهذا جعله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحلّه، ولا حرام إلا ما حرّمه، ولا دين إلا ما شرعه. فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة. ولهذا قال الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يعني أحكامه وفرائضه، فلا زيادة بعده، ولم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام. هذا ما روي عن ابن عباس. وقال سعيد بن جبير وقتادة:
معنى (الإكمال) أنه لم يحج معهم مشرك. وخلا الموسم لرسول الله ﷺ وللمسلمين. وقيل: معناه كفايتهم أمر العدوّ، وجعل اليد العليا لهم، كما تقول الملوك: اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد، إذا كفوا من ينازعهم. وبما ذكرنا أولا- من أنّ المراد بالإكمال عدم الزيادة- يندفع ما يتوهم من ثبوت النقص أولا. ولذا قال ابن الأنباريّ (في الآية) : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ شرائع الإسلام على غير نقصان كان قبل هذا الوقت. وذلك أنّ الله تعالى كان يتعبد خلقه بالشيء في وقت ثم يزيد عليه في وقت آخر. فيكون الوقت الأول تامّا في وقته. وكذلك الوقت الثاني تامّا في وقته. فهو كما يقول القائل: عندي عشرة كاملة، ومعلوم أنّ العشرين أكمل منها.
وقوله تعالى: يَئِسَ. إلخ. أي يئسوا منه أن يبطلوه وأن ترجعوا محللين لهذه الخبائث، بعد ما حرمت عليكم. وقيل: يئسوا من دينكم أن يغلبوه. لأن الله عز وجل وفّى بوعده من إظهاره على الدين كله.
فَلا تَخْشَوْهُمْ بعد إظهار الدين، وزوال الخوف من الكفار، وانقلابهم مغلوبين مقهورين، بعد ما كانوا غالبين وَاخْشَوْنِ وأخلصوا لي الخشية. انتهى كلامه.
وأوضح الوجه الأول، الرازيّ فقال: ليس المراد باليوم هو ذلك اليوم بعينه، حتى يقال: إنهم ما يئسوا قبله بيوم أو يومين، وإنما هو كلام خارج على عادة أهل اللسان معناه: لا حاجة بكم الآن إلى مداهنة هؤلاء الكفار، لأنكم الآن صرتم حيث لا يطمع أحد من أعدائكم في توهين أمركم.
ثم بين تعالى أكبر نعمه وأعظم مننه على هذه الأمة وهو: إكماله لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبيّ غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه. ولهذا جعله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحلّه، ولا حرام إلا ما حرّمه، ولا دين إلا ما شرعه. فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة. ولهذا قال الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يعني أحكامه وفرائضه، فلا زيادة بعده، ولم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام. هذا ما روي عن ابن عباس. وقال سعيد بن جبير وقتادة:
معنى (الإكمال) أنه لم يحج معهم مشرك. وخلا الموسم لرسول الله ﷺ وللمسلمين. وقيل: معناه كفايتهم أمر العدوّ، وجعل اليد العليا لهم، كما تقول الملوك: اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد، إذا كفوا من ينازعهم. وبما ذكرنا أولا- من أنّ المراد بالإكمال عدم الزيادة- يندفع ما يتوهم من ثبوت النقص أولا. ولذا قال ابن الأنباريّ (في الآية) : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ شرائع الإسلام على غير نقصان كان قبل هذا الوقت. وذلك أنّ الله تعالى كان يتعبد خلقه بالشيء في وقت ثم يزيد عليه في وقت آخر. فيكون الوقت الأول تامّا في وقته. وكذلك الوقت الثاني تامّا في وقته. فهو كما يقول القائل: عندي عشرة كاملة، ومعلوم أنّ العشرين أكمل منها.
30
والشرائع التي تعبد الله عز وجل بها عباده، في الأوقات المختلفة، مختلفة.
وكل شريعة منها كاملة في وقت التعبّد بها. فكمل الله عز وجل الشرائع في اليوم الذي ذكره- وهو يوم عرفة- ولم يوجب ذلك، أنّ الدين كان ناقصا في وقت من الأوقات.
وللإمام القفّال نحو ذلك، نقله عنه الرازيّ واختاره. قال: إنّ الدين ما كان ناقصا البتة، بل كان أبدا كاملا. يعني: كانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت، إلّا أنه تعالى كان عالما في أول وقت المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ولا صلاح فيه. فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت. وكان يزيد بعد العدم. وأما في آخر زمان المبعث فأنزل الله شريعة كاملة، وحكم ببقائها إلى يوم القيامة. فالشرع أبدا كان كاملا. إلّا أن الأول كمال إلى زمان مخصوص. والثاني كمال إلى يوم القيامة. فلأجل هذا قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي يعني بإكمال الدين والشريعة. لأنه لا نعمة أتمّ من نعمة الإسلام. أو بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين. وهدم منار الجاهلية ومناسكهم، وأن لم يحج معكم مشرك، ولم يطف بالبيت عريان. أو بإنجاز ما وعدهم بقوله: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ. فكان من تمام النعمة فتح مكة وما ذكرنا.
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً يعني: اخترته لكم من بين الأديان، وآذنتكم بأنه هو الدين المرضيّ وحده. وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:
٨٥]، أو معناه: الانقياد لأمري فيما شرعت لكم من الفرائض والأحكام والحدود ومعالم الدين الذي أكملته لكم. ومعلوم أن الإسلام لم يزل مرضيّا للحق تعالى منذ القدم، إلّا أن المعنيّ به، في الآية، الصفة التي هو اليوم بها. وهي نهاية الكمال والبلوغ به أقصى درجاته. أي: فالزموه ولا تفارقوه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ.
[آل عمران: ١٩]..!
روى البغويّ بسنده عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال جبريل: قال الله عز وجلّ: هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلّا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه.
فوائد:
الأولى: روى الإمام أحمد والشيخان «١» وغيرهم عن طارق بن شهاب قال: جاء
وكل شريعة منها كاملة في وقت التعبّد بها. فكمل الله عز وجل الشرائع في اليوم الذي ذكره- وهو يوم عرفة- ولم يوجب ذلك، أنّ الدين كان ناقصا في وقت من الأوقات.
وللإمام القفّال نحو ذلك، نقله عنه الرازيّ واختاره. قال: إنّ الدين ما كان ناقصا البتة، بل كان أبدا كاملا. يعني: كانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت، إلّا أنه تعالى كان عالما في أول وقت المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ولا صلاح فيه. فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت. وكان يزيد بعد العدم. وأما في آخر زمان المبعث فأنزل الله شريعة كاملة، وحكم ببقائها إلى يوم القيامة. فالشرع أبدا كان كاملا. إلّا أن الأول كمال إلى زمان مخصوص. والثاني كمال إلى يوم القيامة. فلأجل هذا قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي يعني بإكمال الدين والشريعة. لأنه لا نعمة أتمّ من نعمة الإسلام. أو بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين. وهدم منار الجاهلية ومناسكهم، وأن لم يحج معكم مشرك، ولم يطف بالبيت عريان. أو بإنجاز ما وعدهم بقوله: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ. فكان من تمام النعمة فتح مكة وما ذكرنا.
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً يعني: اخترته لكم من بين الأديان، وآذنتكم بأنه هو الدين المرضيّ وحده. وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:
٨٥]، أو معناه: الانقياد لأمري فيما شرعت لكم من الفرائض والأحكام والحدود ومعالم الدين الذي أكملته لكم. ومعلوم أن الإسلام لم يزل مرضيّا للحق تعالى منذ القدم، إلّا أن المعنيّ به، في الآية، الصفة التي هو اليوم بها. وهي نهاية الكمال والبلوغ به أقصى درجاته. أي: فالزموه ولا تفارقوه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ.
[آل عمران: ١٩]..!
روى البغويّ بسنده عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال جبريل: قال الله عز وجلّ: هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلّا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه.
فوائد:
الأولى: روى الإمام أحمد والشيخان «١» وغيرهم عن طارق بن شهاب قال: جاء
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٥- سورة المائدة، ٢- باب قوله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، حديث ٤١.
31
رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين! إنكم تقرؤون آية في كتابكم، لو علينا، معشر اليهود، نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال: وأيّ آية؟ قال:
قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي. فقال عمر: والله! إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله ﷺ عشية عرفة في يوم جمعة.
قال ابن كثير: وقد روي هذا من غير وجه عن عمر. وروى ابن جرير «١» عن قبيصة بن أبي ذئب قال: قال كعب: لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه. فقال عمر: أي آية يا كعب؟ فقال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت، والمكان الذي أنزلت فيه. نزلت في يوم جمعة ويوم عرفة. وكلاهما بحمد الله لنا عيد. وروى ابن جرير «٢» القصة أيضا عن ابن عباس، وأنه قال: نزلت يوم عيدين إثنين. يوم عيد ويوم جمعة.. وروى ابن مردويه عن ابن الحنفية عن عليّ قال: نزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ وهو قائم عشية عرفة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. ورواه أيضا عن سمرة. وروى ابن جرير نحوه عن معاوية. «٣». وروي عن السدّي «٤» قال: نزلت هذه الآية يوم عرفة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام. ورجع رسول الله ﷺ فمات. فقالت «٥» أسماء بنت عميس: حججت مع رسول الله ﷺ تلك الحجة. فبينما نحن نسير إذ تجلّى له جبريل، فمال رسول الله ﷺ على الراحلة. فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن. فنزلت. فأتيته فسجيت عليه بردا كان عليّ.
وقال ابن جرير «٦» وغيره: توفي رسول الله ﷺ بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوما.
وقال ابن جرير «٧» : حدثنا سفيان بن وكيع: حدثنا ابن فضيل عن هارون بن
قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي. فقال عمر: والله! إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله ﷺ عشية عرفة في يوم جمعة.
قال ابن كثير: وقد روي هذا من غير وجه عن عمر. وروى ابن جرير «١» عن قبيصة بن أبي ذئب قال: قال كعب: لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه. فقال عمر: أي آية يا كعب؟ فقال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت، والمكان الذي أنزلت فيه. نزلت في يوم جمعة ويوم عرفة. وكلاهما بحمد الله لنا عيد. وروى ابن جرير «٢» القصة أيضا عن ابن عباس، وأنه قال: نزلت يوم عيدين إثنين. يوم عيد ويوم جمعة.. وروى ابن مردويه عن ابن الحنفية عن عليّ قال: نزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ وهو قائم عشية عرفة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. ورواه أيضا عن سمرة. وروى ابن جرير نحوه عن معاوية. «٣». وروي عن السدّي «٤» قال: نزلت هذه الآية يوم عرفة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام. ورجع رسول الله ﷺ فمات. فقالت «٥» أسماء بنت عميس: حججت مع رسول الله ﷺ تلك الحجة. فبينما نحن نسير إذ تجلّى له جبريل، فمال رسول الله ﷺ على الراحلة. فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن. فنزلت. فأتيته فسجيت عليه بردا كان عليّ.
وقال ابن جرير «٦» وغيره: توفي رسول الله ﷺ بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوما.
وقال ابن جرير «٧» : حدثنا سفيان بن وكيع: حدثنا ابن فضيل عن هارون بن
(١) الأثر رقم ١١١٠٠.
(٢) الأثر رقم ١١٠٩٨.
(٣) الأثر رقم ١١١٠٨.
(٤) الأثر رقم ١١٠٨١.
(٥) الأثر رقم ١١٠٨١.
(٦) ابن جرير، ٩/ ٥١٨.
(٧) الأثر رقم ١١٠٨٣.
(٢) الأثر رقم ١١٠٩٨.
(٣) الأثر رقم ١١١٠٨.
(٤) الأثر رقم ١١٠٨١.
(٥) الأثر رقم ١١٠٨١.
(٦) ابن جرير، ٩/ ٥١٨.
(٧) الأثر رقم ١١٠٨٣.
32
عنترة عن أبيه قال: لما نزلت: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ- وذلك يوم الحج الأكبر- بكى عمر. فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا.
فأما إذ كمل، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص. فقال صدقت.
قال ابن كثير: ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت: إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء. انتهى.
قلت: والحديث المذكور رواه مسلم «١» عن أبي هريرة. والترمذيّ عن ابن مسعود. وابن ماجة عنهما أيضا وعن أنس، والطبرانيّ عن سلمان وسهل وابن عباس.
هذا، وروى ابن جرير «٢» من طريق العوفيّ عن ابن عباس في الآية قال: ليس، ذلك بيوم معلوم عند الناس. ومن طريق أبي جعفر الرازيّ عن الربيع بن أنس قال:
نزلت على رسول الله ﷺ في مسيره إلى حجة الوداع.
وروى ابن مردويه من طريق أبي هارون العبديّ عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت على رسول الله ﷺ يوم غدير خمّ.
حين قال لعليّ: من كنت مولاه فعليّ مولاه
. ثم رواه عن أبي هريرة وفيه: إنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة- يعني مرجعه ﷺ من حجة الوداع.
قال ابن كثير: ولا يصح لا هذا ولا هذا. بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية، أنها نزلت يوم عرفة وكان يوم جمعة، كما قدمنا عن عمر وعليّ ومعاوية وابن عباس وسمرة رضي الله عنهم، وعن ثلّة من التابعين، الثانية: استدلّ نفاة القياس بهذه الآية، على أنّ القياس باطل. وذلك لأنّ الآية دلت على أنه تعالى قد نصّ على الحكم في جميع الوقائع، إذ لو بقي بعضها غير مبيّن الحكم لم يكن الدين كاملا، وإذا حصل النص في جميع الوقائع، فالقياس- إن كان على وفق ذلك النص- كان عبثا وإن كان على خلافه كان باطلا.
وأجاب عنه مثبتو القياس بما بسطه الرازيّ. فانظره.
الثالثة: قال صاحب (فتح البيان) : لا معنى للإكمال في الآية إلا وفاء النصوص بما يحتاج إليه الشرع. إمّا بالنص على كل فرد فرد، أو باندراج ما يحتاج إليه تحت العمومات الشاملة. ومما يؤيد ذلك قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ
فأما إذ كمل، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص. فقال صدقت.
قال ابن كثير: ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت: إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء. انتهى.
قلت: والحديث المذكور رواه مسلم «١» عن أبي هريرة. والترمذيّ عن ابن مسعود. وابن ماجة عنهما أيضا وعن أنس، والطبرانيّ عن سلمان وسهل وابن عباس.
هذا، وروى ابن جرير «٢» من طريق العوفيّ عن ابن عباس في الآية قال: ليس، ذلك بيوم معلوم عند الناس. ومن طريق أبي جعفر الرازيّ عن الربيع بن أنس قال:
نزلت على رسول الله ﷺ في مسيره إلى حجة الوداع.
وروى ابن مردويه من طريق أبي هارون العبديّ عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت على رسول الله ﷺ يوم غدير خمّ.
حين قال لعليّ: من كنت مولاه فعليّ مولاه
. ثم رواه عن أبي هريرة وفيه: إنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة- يعني مرجعه ﷺ من حجة الوداع.
قال ابن كثير: ولا يصح لا هذا ولا هذا. بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية، أنها نزلت يوم عرفة وكان يوم جمعة، كما قدمنا عن عمر وعليّ ومعاوية وابن عباس وسمرة رضي الله عنهم، وعن ثلّة من التابعين، الثانية: استدلّ نفاة القياس بهذه الآية، على أنّ القياس باطل. وذلك لأنّ الآية دلت على أنه تعالى قد نصّ على الحكم في جميع الوقائع، إذ لو بقي بعضها غير مبيّن الحكم لم يكن الدين كاملا، وإذا حصل النص في جميع الوقائع، فالقياس- إن كان على وفق ذلك النص- كان عبثا وإن كان على خلافه كان باطلا.
وأجاب عنه مثبتو القياس بما بسطه الرازيّ. فانظره.
الثالثة: قال صاحب (فتح البيان) : لا معنى للإكمال في الآية إلا وفاء النصوص بما يحتاج إليه الشرع. إمّا بالنص على كل فرد فرد، أو باندراج ما يحتاج إليه تحت العمومات الشاملة. ومما يؤيد ذلك قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ
(١)
أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ٢٣٢ ونصه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا. فطوبى للغرباء»
. (٢) الأثر رقم ١١١١٣.
أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ٢٣٢ ونصه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا. فطوبى للغرباء»
. (٢) الأثر رقم ١١١١٣.
33
[الأنعام: ٣٨]. وقوله: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام: ٥٩].
وقد صح عنه ﷺ أنه قال «١» :«تركتكم على الواضحة، ليلها كنهارها»
. وجاءت نصوص الكتاب العزيز بإكمال الدين. وبما يفيد هذا المعنى، ويصحح دلالته، ويؤيد برهانه، ويكفي في دفع الرأي، وأنه ليس من الدين- قول الله تعالى هذا. فإنه إذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض إليه نبيّه صلى الله عليه وسلم، فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه لأنه إن كان من الدين- في اعتقادهم- فهو لم يكمل عندهم إلا برأيهم، وهذا فيه ردّ للقرآن. وإن لم يكن من الدين، فأيّ فائدة في الاشتغال بما ليس منه؟ وما ليس منه فهو ردّ بنص السنة المطهرة. كما ثبت في (الصحيح) - وهذه حجة قاهرة ودليل باهر لا يمكن أهل الرأي أن يدفعوه بدافع أبدا. فاجعل هذه الآية الشريفة أول ما تصكّ به وجوه أهل الرأي، وترغم به آنافهم، وتدحض به حجتهم. فقد أخبرنا الله في محكم كتابه أنه أكمل دينه. ولم يمت رسول الله ﷺ إلا بعد أن أخبرنا بهذا الخبر عن الله عز وجل. فمن جاء بشيء من عند نفسه وزعم أنه من ديننا قلنا له: إنّ الله أصدق منك: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء: ١٢٢]. اذهب لا حاجة لنا في رأيك. وليت المقلدة فهموا هذه الآية حقّ الفهم حتى يستريحوا ويريحوا. وقد أخبرنا الله في محكم كتابه أنّ القرآن أحاط بكل شيء فقال: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ٣٨]. وقال: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً [النحل: ٨٩]. ثم أمر عباده بالحكم بكتابه فقال: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ [المائدة: ٤٩]. وقال: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النساء: ١٠٥]. وقال: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ [الأنعام: ٥٧]. وقال: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [المائدة: ٤٤]. وفي آية... هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: ٤٥]. وفي أخرى.. هُمُ الْفاسِقُونَ [المائدة: ٤٧]. وأمر عباده أيضا في محكم كتابه باتباع ما جاء به رسوله ﷺ فقال: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:
٧]. وهذه أعمّ آية في القرآن، وأبينها في الأخذ بالسنة المطهرة، وقال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء: ٥٩]. وقد تكرر هذا في مواضع من الكتاب العزيز.
وقد صح عنه ﷺ أنه قال «١» :«تركتكم على الواضحة، ليلها كنهارها»
. وجاءت نصوص الكتاب العزيز بإكمال الدين. وبما يفيد هذا المعنى، ويصحح دلالته، ويؤيد برهانه، ويكفي في دفع الرأي، وأنه ليس من الدين- قول الله تعالى هذا. فإنه إذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض إليه نبيّه صلى الله عليه وسلم، فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه لأنه إن كان من الدين- في اعتقادهم- فهو لم يكمل عندهم إلا برأيهم، وهذا فيه ردّ للقرآن. وإن لم يكن من الدين، فأيّ فائدة في الاشتغال بما ليس منه؟ وما ليس منه فهو ردّ بنص السنة المطهرة. كما ثبت في (الصحيح) - وهذه حجة قاهرة ودليل باهر لا يمكن أهل الرأي أن يدفعوه بدافع أبدا. فاجعل هذه الآية الشريفة أول ما تصكّ به وجوه أهل الرأي، وترغم به آنافهم، وتدحض به حجتهم. فقد أخبرنا الله في محكم كتابه أنه أكمل دينه. ولم يمت رسول الله ﷺ إلا بعد أن أخبرنا بهذا الخبر عن الله عز وجل. فمن جاء بشيء من عند نفسه وزعم أنه من ديننا قلنا له: إنّ الله أصدق منك: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء: ١٢٢]. اذهب لا حاجة لنا في رأيك. وليت المقلدة فهموا هذه الآية حقّ الفهم حتى يستريحوا ويريحوا. وقد أخبرنا الله في محكم كتابه أنّ القرآن أحاط بكل شيء فقال: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ٣٨]. وقال: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً [النحل: ٨٩]. ثم أمر عباده بالحكم بكتابه فقال: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ [المائدة: ٤٩]. وقال: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النساء: ١٠٥]. وقال: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ [الأنعام: ٥٧]. وقال: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [المائدة: ٤٤]. وفي آية... هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: ٤٥]. وفي أخرى.. هُمُ الْفاسِقُونَ [المائدة: ٤٧]. وأمر عباده أيضا في محكم كتابه باتباع ما جاء به رسوله ﷺ فقال: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:
٧]. وهذه أعمّ آية في القرآن، وأبينها في الأخذ بالسنة المطهرة، وقال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء: ٥٩]. وقد تكرر هذا في مواضع من الكتاب العزيز.
(١)
أخرجه ابن ماجة في المقدمة، ١- باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث ٥ ونصه: عن أبي الدرداء قال: خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن نذكر الفقر ونتخوفه. فقال «الفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده! لتصبّنّ عليكم الدنيا صبّا، حتى لا يزيغ قلب أحدكم إلّاهيه. وأيم الله! لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها سواء».
أخرجه ابن ماجة في المقدمة، ١- باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث ٥ ونصه: عن أبي الدرداء قال: خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن نذكر الفقر ونتخوفه. فقال «الفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده! لتصبّنّ عليكم الدنيا صبّا، حتى لا يزيغ قلب أحدكم إلّاهيه. وأيم الله! لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها سواء».
34
وقال: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا [النور: ٥١]. وقال: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: ٢١]. والاستكثار من الاستدلال على وجوب طاعة الله وطاعة رسوله لا يأتي بعائدة. ولا فائدة زائدة، فليس أحد من المسلمين يخالف في ذلك. ومن أنكره فهو خارج عن حزب المسلمين. وإنما أوردنا هذه الآيات الكريمة، والبينات العظيمة تليينا لقلب المقلّد الذي قد جمد، وصار كالجلمد. فإنه إذا سمع مثل هذه الأوامر القرآنية، ربما امتثلها وأخذ دينه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، طاعة لأوامره. فإنّ هذه الطاعة، وإن كانت معلومة لكل مسلم، لكن الإنسان قد يذهل عن القوارع الفرقانية والزواجر المحمدية، فإذا ذكر بها ذكر. ولا سيما من نشأ على التقليد وأدرك سلفه ثابتين عليه غير متزحزحين عنه. فإنه يقع في قلبه، أن دين الإسلام هو هذا الذي هو عليه. وما كان مخالفا له فليس من الإسلام في شيء. فإذا راجع نفسه رجع.
ولهذا تجد الرجل إذا نشأ على مذهب من هذه المذاهب، ثم سمع- قبل أن يتمرد بالعلم ويعرف ما قاله الناس- خلاف ذلك المألوف، استنكره وأباه قلبه، ونفر عنه طبعه. وقد رأينا وسمعنا من هذا الجنس ما لا يأتي عليه الحصر. ولكن إذا وازن العاقل بعقله، بين من اتبع أحد ائمة المذاهب في مسألة من مسائله التي رواها عنه المقلّد- ولا مستند لذلك العالم فيها، بل قالها بمحض الرأي لعدم وقوفه على الدليل- وبين من تمسك في تلك المسألة بخصوصها بالدليل الثابت في القرآن والسنة أفاده العقل بأن بينهما مسافات تنقطع فيها أعناق الإبل، لا جامع بينهما، لأنّ من تمسك بالدليل أخذ بما أوجب الله عليه الأخذ به، واتبع ما شرعه الشارع لجميع الأمة: أولها وآخرها، وحيّها وميتها... ! والعالم يمكنه الوقوف على الدليل من دون أن يرجع إلى غيره. والجاهل يمكنه الوقوف على الدليل بسؤال علماء الشريعة، واسترواء النص، وكيف حكم الله في محكم كتابه أو على لسان رسوله في تلك المسألة. فيفيدونه النص إن كان ممن يعقل الحجة إذا دل عليها، أو يفيدونه مضمون النص بالتعبير عنه بعبارة يفهمها. فهم رواة وهو مسترو، وهذا عامل بالرواية لا بالرأي والمقلد عامل بالرأي لا بالرواية. لأنه يقبل قول الغير من دون أن يطالبه بحجة. وذلك في سؤاله يطالب بالحجة لا بالرأي، فهو قابل لرواية الغير لا لرأيه. وهما من هذه الحيثية متقابلان، فانظر كم الفرق بين المنزلتين؟ والكلام في ذلك يطول ويستدعي استغراق الأوراق الكثيرة. وهو مبسوط في مواطنه، وفيما ذكرناه مقنع وبلاغ، وبالله التوفيق. انتهى كلامه.
ولهذا تجد الرجل إذا نشأ على مذهب من هذه المذاهب، ثم سمع- قبل أن يتمرد بالعلم ويعرف ما قاله الناس- خلاف ذلك المألوف، استنكره وأباه قلبه، ونفر عنه طبعه. وقد رأينا وسمعنا من هذا الجنس ما لا يأتي عليه الحصر. ولكن إذا وازن العاقل بعقله، بين من اتبع أحد ائمة المذاهب في مسألة من مسائله التي رواها عنه المقلّد- ولا مستند لذلك العالم فيها، بل قالها بمحض الرأي لعدم وقوفه على الدليل- وبين من تمسك في تلك المسألة بخصوصها بالدليل الثابت في القرآن والسنة أفاده العقل بأن بينهما مسافات تنقطع فيها أعناق الإبل، لا جامع بينهما، لأنّ من تمسك بالدليل أخذ بما أوجب الله عليه الأخذ به، واتبع ما شرعه الشارع لجميع الأمة: أولها وآخرها، وحيّها وميتها... ! والعالم يمكنه الوقوف على الدليل من دون أن يرجع إلى غيره. والجاهل يمكنه الوقوف على الدليل بسؤال علماء الشريعة، واسترواء النص، وكيف حكم الله في محكم كتابه أو على لسان رسوله في تلك المسألة. فيفيدونه النص إن كان ممن يعقل الحجة إذا دل عليها، أو يفيدونه مضمون النص بالتعبير عنه بعبارة يفهمها. فهم رواة وهو مسترو، وهذا عامل بالرواية لا بالرأي والمقلد عامل بالرأي لا بالرواية. لأنه يقبل قول الغير من دون أن يطالبه بحجة. وذلك في سؤاله يطالب بالحجة لا بالرأي، فهو قابل لرواية الغير لا لرأيه. وهما من هذه الحيثية متقابلان، فانظر كم الفرق بين المنزلتين؟ والكلام في ذلك يطول ويستدعي استغراق الأوراق الكثيرة. وهو مبسوط في مواطنه، وفيما ذكرناه مقنع وبلاغ، وبالله التوفيق. انتهى كلامه.
35
الرابعة: قال بعض الزيدية: ثمرة الآية تعظيم هذا اليوم المذكور، وأنه يلزم الشكر لله تعالى على التمسك بملّة الإسلام.
وقوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ متصل بذكر المحرمات. وما بينهما اعتراض بما يوجب أن يجتنب عنه. وهو أنّ تناولها فسوق، وحرمتها من جملة الدين الكامل، والنعمة التامة، والإسلام المرضيّ. ومعناه: فمن اضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات: الميتة وما بعدها، أي: أصيب بالضر الذي لا يمكنه الامتناع معه من الميتة وما بعدها فِي مَخْمَصَةٍ أي: مجاعة يخاف معها الموت أو مبادئه- و (المخمصة) : مصدر مثل المغضبة والمعتبة. يقال: خمصه الجوع خمصا ومخمصة، وخمص البطن (مثلثة الميم) خلا. غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ أي: غير منحرف إليه بالأكل فوق الضرورة، أو العصيان بالسفر. كقوله تعالى: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ [البقرة:
١٧٣]. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لتناوله الحرام- فلا يؤاخذه به رَحِيمٌ أي: بإعطائه الرخصة فيه لعلمه بحاجة عبده المضطر، وافتقاره إلى ذلك، فيتجاوز عنه ويغفر له.
وفي (المسند) «١» و (صحيح) ابن حبان عن ابن عمر- مرفوعا- قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته». لفظ ابن حيان.
وفي لفظ لأحمد «٢» :«من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة»
. ولهذا قال الفقهاء: قد يكون تناول الميتة واجبا في بعض الأحيان، وهو ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها. وقد يكون مندوبا، وقد يكون مباحا، بحسب الأحوال. واختلفوا: هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق، أو له أن يشبع ويتزود؟
على أقوال. وليس من شرط تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاما- كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم- بل متى اضطر إلى ذلك جاز له.
وقد روى الإمام أحمد «٣» عن أبي واقد الليثي أنهم قالوا: «يا رسول الله! إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة. فمتى تحل لنا بها الميتة؟ فقال: إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بقلا، فشأنكم بها.
إسناده صحيح على شرط الشيخين، والاصطباح: شرب اللبن بالغداة فما دون القائلة، وما كان منه بالعشيّ فهو الاغتباق، ومعنى لم تحتفئوا:
أي تقتلعوا. وفي اللفظة عدة روايات
وروى أبو داود عن الفجيع العامريّ: «٤»
أنه أتى
وقوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ متصل بذكر المحرمات. وما بينهما اعتراض بما يوجب أن يجتنب عنه. وهو أنّ تناولها فسوق، وحرمتها من جملة الدين الكامل، والنعمة التامة، والإسلام المرضيّ. ومعناه: فمن اضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات: الميتة وما بعدها، أي: أصيب بالضر الذي لا يمكنه الامتناع معه من الميتة وما بعدها فِي مَخْمَصَةٍ أي: مجاعة يخاف معها الموت أو مبادئه- و (المخمصة) : مصدر مثل المغضبة والمعتبة. يقال: خمصه الجوع خمصا ومخمصة، وخمص البطن (مثلثة الميم) خلا. غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ أي: غير منحرف إليه بالأكل فوق الضرورة، أو العصيان بالسفر. كقوله تعالى: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ [البقرة:
١٧٣]. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لتناوله الحرام- فلا يؤاخذه به رَحِيمٌ أي: بإعطائه الرخصة فيه لعلمه بحاجة عبده المضطر، وافتقاره إلى ذلك، فيتجاوز عنه ويغفر له.
وفي (المسند) «١» و (صحيح) ابن حبان عن ابن عمر- مرفوعا- قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته». لفظ ابن حيان.
وفي لفظ لأحمد «٢» :«من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة»
. ولهذا قال الفقهاء: قد يكون تناول الميتة واجبا في بعض الأحيان، وهو ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها. وقد يكون مندوبا، وقد يكون مباحا، بحسب الأحوال. واختلفوا: هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق، أو له أن يشبع ويتزود؟
على أقوال. وليس من شرط تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاما- كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم- بل متى اضطر إلى ذلك جاز له.
وقد روى الإمام أحمد «٣» عن أبي واقد الليثي أنهم قالوا: «يا رسول الله! إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة. فمتى تحل لنا بها الميتة؟ فقال: إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بقلا، فشأنكم بها.
إسناده صحيح على شرط الشيخين، والاصطباح: شرب اللبن بالغداة فما دون القائلة، وما كان منه بالعشيّ فهو الاغتباق، ومعنى لم تحتفئوا:
أي تقتلعوا. وفي اللفظة عدة روايات
وروى أبو داود عن الفجيع العامريّ: «٤»
أنه أتى
(١) أخرجه في المسند ٢/ ١٠٨ والحديث رقم ٥٨٧٣. [.....]
(٢) أخرجه في المسند ٢/ ٧١ والحديث رقم ٥٣٩٢.
(٣) أخرجه في المسند ٥/ ٢١٨.
(٤) أخرجه أبو داود في: الأطعمة، ٣٦- باب في المضطر إلى الميتة، حديث ٣٨١٧.
(٢) أخرجه في المسند ٢/ ٧١ والحديث رقم ٥٣٩٢.
(٣) أخرجه في المسند ٥/ ٢١٨.
(٤) أخرجه أبو داود في: الأطعمة، ٣٦- باب في المضطر إلى الميتة، حديث ٣٨١٧.
36
رسول الله ﷺ فقال: «ما يحل لنا من الميتة؟ قال: «ما طعامكم؟» قلنا: نصطبح ونغتبق! قال أبو نعيم: فسره لي عقبة: قدح غدوة وقدح عشية، قال: ذاك، وأبي! الجوع. فأحل لهم الميتة على هذه الحال». تفرد به أبو داود.
وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئا لا يكفيهم. فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم. وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حدّ الشبع، ولا يتقيد ذلك بسدّ الرمق. والله أعلم.
وروى أبو داود «١» عن جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرّة ومعه أهله وولده.
«فقال رجل: إنّ ناقة لي ضلت. فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت. فقالت له امرأته: أنحرها! فأبى، فنفقت، فقالت اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها ونأكله، فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتاه، فسأله، فقال له:
هل عندك غنى يغنيك؟ قال: لا! قال: فكلوها! قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر فقال: هلا كنت نحرتها؟ قال: استحييت منك!» تفرد به.
وقد يحتج به من يجوّز الأكل والشبع والتزود منها مدة، يغلب على ظنه الاحتياج إليها. والله أعلم. أفاده ابن كثير. وقوله: (فنفقت). أي ماتت. (من باب نصر وفرح) قال ابن برّي: أنشد ثعلب:
تنبيه:
قال بعض المفسرين: ليس في هذه الآية بيان لتقديم أحدها. والفقهاء يقولون: يقدم الأخف تحريما، فميته المأكول على ميتة غيره. انتهى.
وفي (رحمة الأمة) أنّ المضطر إذا وجد ميتة وطعام الغير، ومالكه غائب، أنّ له أكله بشرط الضمان، دون الميتة. عند مالك وأكثر أصحاب الشافعيّ وجماعة من الحنفية. وعند أحمد وآخرين: يأكل الميتة.
قال ابن كثير: قد استدل بقوله تعالى: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ من يقول بأنّ العاصي بسفره لا بترخص بشيء من رخص السفر، لأنّ الرخص لا تنال بالمعاصي.
والله أعلم.
وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئا لا يكفيهم. فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم. وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حدّ الشبع، ولا يتقيد ذلك بسدّ الرمق. والله أعلم.
وروى أبو داود «١» عن جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرّة ومعه أهله وولده.
«فقال رجل: إنّ ناقة لي ضلت. فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت. فقالت له امرأته: أنحرها! فأبى، فنفقت، فقالت اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها ونأكله، فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتاه، فسأله، فقال له:
هل عندك غنى يغنيك؟ قال: لا! قال: فكلوها! قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر فقال: هلا كنت نحرتها؟ قال: استحييت منك!» تفرد به.
وقد يحتج به من يجوّز الأكل والشبع والتزود منها مدة، يغلب على ظنه الاحتياج إليها. والله أعلم. أفاده ابن كثير. وقوله: (فنفقت). أي ماتت. (من باب نصر وفرح) قال ابن برّي: أنشد ثعلب:
فما أشياء نشريها بمال | فإن نفقت فأكسد ما تكون؟ |
قال بعض المفسرين: ليس في هذه الآية بيان لتقديم أحدها. والفقهاء يقولون: يقدم الأخف تحريما، فميته المأكول على ميتة غيره. انتهى.
وفي (رحمة الأمة) أنّ المضطر إذا وجد ميتة وطعام الغير، ومالكه غائب، أنّ له أكله بشرط الضمان، دون الميتة. عند مالك وأكثر أصحاب الشافعيّ وجماعة من الحنفية. وعند أحمد وآخرين: يأكل الميتة.
قال ابن كثير: قد استدل بقوله تعالى: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ من يقول بأنّ العاصي بسفره لا بترخص بشيء من رخص السفر، لأنّ الرخص لا تنال بالمعاصي.
والله أعلم.
(١) أخرجه أبو داود في: الأطعمة، ٣٦- باب في المضطر إلى الميتة، حديث ٣٨١٦.
37
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٤]
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤)
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ أي: من المطاعم قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ أي:
ما ليس بخبيث منها. وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة. و (الطيّب) في اللغة هو المستلذ. و (الحلال) المأذون فيه، يسمى طيبا تشبيها بما هو مستلذ.
لأنهما اجتمعا في انتفاء المضرة وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ عطف على (الطيبات) بتقدير مضاف. أي: وصيد ما علمتموه. أو مبتدأ، على أنّ (ما) شرطية وجوابها (فكلوا). و (الجوارح) : الكواسب من سباع البهائم والطير- كالكلب والفهد والعقاب والصقر والبازي والشاهين- لأنها تجرح لأهلها أي تكسب لهم. الواحدة جارحة. تقول العرب: فلان جرح أهله خيرا، أي: كسبهم خيرا. وفلان لا جارح له.
أي: لا كاسب. ومنه قوله تعالى: وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الأنعام: ٦٠]. أي:
كسبتم. وقيل: سميت (جوارح) لأنها تجرح الصيد عند إمساكه. وقوله تعالى:
مُكَلِّبِينَ أي: معلمين لها أن تستشلي إذا أشليت، وتنزجر إذا زجرت، وتجتنب عند الدعوة، ولا تنفر عند الإرادة، فتصير كأنها وكلاؤكم لتعلمهن. إلا إذا قتلت بأنفسها من غير تعليم، فلا يحل صيدها.
قال الزمخشري: (المكلّب) مؤدب الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها ورائضها لذلك، بما علم من الحيل وطرق التأديب والتثقيف. واشتقاقه من (الكلب) لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب. فاشتق من لفظه لكثرته في جنسه. أو لأن السبع يسمى كلبا. ومنه
قوله عليه الصلاة والسلام: «اللهمّ سلط عليه كلبا من كلابك. فأكله الأسد». (الحديث حسن، أخرجه الحاكم
)، أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة، يقال: هو كلب بكذا إذا كان ضاريا به. وانتصاب (مكلّبين) على الحال من (علمتم). فإن قلت: ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها ب (علمتم) ؟
قلت: فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريرا في علمه، مدرّيا فيه، موصوفا بالتكليب. وقوله تعالى: تُعَلِّمُونَهُنَّ حال ثانية أو استئناف، وفيه فائدة جليلة.
وهي أنّ على كل آخذ علما أن لا يأخذه إلّا من أقتل أهله علما، وأنحرهم دراية، وأغوصهم على لطائفه وحقائقه. وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل. فكم من
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤)
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ أي: من المطاعم قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ أي:
ما ليس بخبيث منها. وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة. و (الطيّب) في اللغة هو المستلذ. و (الحلال) المأذون فيه، يسمى طيبا تشبيها بما هو مستلذ.
لأنهما اجتمعا في انتفاء المضرة وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ عطف على (الطيبات) بتقدير مضاف. أي: وصيد ما علمتموه. أو مبتدأ، على أنّ (ما) شرطية وجوابها (فكلوا). و (الجوارح) : الكواسب من سباع البهائم والطير- كالكلب والفهد والعقاب والصقر والبازي والشاهين- لأنها تجرح لأهلها أي تكسب لهم. الواحدة جارحة. تقول العرب: فلان جرح أهله خيرا، أي: كسبهم خيرا. وفلان لا جارح له.
أي: لا كاسب. ومنه قوله تعالى: وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الأنعام: ٦٠]. أي:
كسبتم. وقيل: سميت (جوارح) لأنها تجرح الصيد عند إمساكه. وقوله تعالى:
مُكَلِّبِينَ أي: معلمين لها أن تستشلي إذا أشليت، وتنزجر إذا زجرت، وتجتنب عند الدعوة، ولا تنفر عند الإرادة، فتصير كأنها وكلاؤكم لتعلمهن. إلا إذا قتلت بأنفسها من غير تعليم، فلا يحل صيدها.
قال الزمخشري: (المكلّب) مؤدب الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها ورائضها لذلك، بما علم من الحيل وطرق التأديب والتثقيف. واشتقاقه من (الكلب) لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب. فاشتق من لفظه لكثرته في جنسه. أو لأن السبع يسمى كلبا. ومنه
قوله عليه الصلاة والسلام: «اللهمّ سلط عليه كلبا من كلابك. فأكله الأسد». (الحديث حسن، أخرجه الحاكم
)، أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة، يقال: هو كلب بكذا إذا كان ضاريا به. وانتصاب (مكلّبين) على الحال من (علمتم). فإن قلت: ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها ب (علمتم) ؟
قلت: فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريرا في علمه، مدرّيا فيه، موصوفا بالتكليب. وقوله تعالى: تُعَلِّمُونَهُنَّ حال ثانية أو استئناف، وفيه فائدة جليلة.
وهي أنّ على كل آخذ علما أن لا يأخذه إلّا من أقتل أهله علما، وأنحرهم دراية، وأغوصهم على لطائفه وحقائقه. وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل. فكم من
38
آخذ، عن غير متقن، قد ضيع أيامه، وعض عند لقاء النحارير أنامله مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ أي: من علم التكليب، لأنه إلهام من الله ومكتسب بالعقل. أو مما عرفكم أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه. وانزجاره بزجره. وانصرافه بدعائه. وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه. انتهى.
وقال الناصر في (الانتصاف) : وفي الآية دليل على أن البهائم لها علم. لأن تعليمها، معناه لغة تحصيل العلم له بطرقه. خلافا لمنكري ذلك.
فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ أي: صدن لكم وإن قتلنه بأن لم يأكلن منه وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ الضمير يرجع إلى (ما علمتم من الجوارح) أي: سموا عليه عند إرساله، كما بيّنه حديث أبي ثعلبة وعدّي الآتي. وجوز رجوعه إلى (ما أمسكن) على معنى: وسموا عليه إذا أدركتم ذكاته وَاتَّقُوا اللَّهَ أي بالأكل مما فقد فيه شرط من هذه الشرائط استعجالا إليها إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي: المجازاة على كل ما جلّ ودقّ.
تنبيهات:
الأول:
روى ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، عن عدّي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيّين. سألا رسول الله ﷺ فقالا: «يا رسول الله! قد حرّم الله الميتة فماذا يحل لنا منها» ؟ فنزلت: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ قال سعيد:
يعني الذبائح الحلال الطيبة لهم وقال مقاتل: ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه، وهو الحلال من الرزق. وقد سئل الزهريّ عن شرب البول للتداوي؟ فقال: ليس هو من الطيبات، رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن وهب: سئل مالك عن بيع الطين الذي يأكله الناس؟ فقال: ليس هو من الطيبات. وروى ابن أبي حاتم في سبب نزولها أثرا آخر،
عن أبي رافع مولى رسول الله ﷺ أنّ رسول الله ﷺ أمر بقتل الكلاب فقتلت، فجاء الناس فقالوا: يا رسول الله! ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها، فسكت. فأنزل الله: يَسْئَلُونَكَ الآية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أرسل الرجل كلبه وسمى فأمسك عليه، فليأكل مما لم يأكل.
وعند ابن جرير «١» عن أبي رافع قال: «جاء جبريل إلى النبيّ ﷺ ليستأذن
وقال الناصر في (الانتصاف) : وفي الآية دليل على أن البهائم لها علم. لأن تعليمها، معناه لغة تحصيل العلم له بطرقه. خلافا لمنكري ذلك.
فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ أي: صدن لكم وإن قتلنه بأن لم يأكلن منه وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ الضمير يرجع إلى (ما علمتم من الجوارح) أي: سموا عليه عند إرساله، كما بيّنه حديث أبي ثعلبة وعدّي الآتي. وجوز رجوعه إلى (ما أمسكن) على معنى: وسموا عليه إذا أدركتم ذكاته وَاتَّقُوا اللَّهَ أي بالأكل مما فقد فيه شرط من هذه الشرائط استعجالا إليها إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي: المجازاة على كل ما جلّ ودقّ.
تنبيهات:
الأول:
روى ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، عن عدّي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيّين. سألا رسول الله ﷺ فقالا: «يا رسول الله! قد حرّم الله الميتة فماذا يحل لنا منها» ؟ فنزلت: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ قال سعيد:
يعني الذبائح الحلال الطيبة لهم وقال مقاتل: ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه، وهو الحلال من الرزق. وقد سئل الزهريّ عن شرب البول للتداوي؟ فقال: ليس هو من الطيبات، رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن وهب: سئل مالك عن بيع الطين الذي يأكله الناس؟ فقال: ليس هو من الطيبات. وروى ابن أبي حاتم في سبب نزولها أثرا آخر،
عن أبي رافع مولى رسول الله ﷺ أنّ رسول الله ﷺ أمر بقتل الكلاب فقتلت، فجاء الناس فقالوا: يا رسول الله! ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها، فسكت. فأنزل الله: يَسْئَلُونَكَ الآية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أرسل الرجل كلبه وسمى فأمسك عليه، فليأكل مما لم يأكل.
وعند ابن جرير «١» عن أبي رافع قال: «جاء جبريل إلى النبيّ ﷺ ليستأذن
(١) الأثر رقم ١١١٣٤.
39
عليه، فأذن له. فقال: قد أذنّا لك يا رسول الله! قال: أجل. ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب. قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كلّ كلب بالمدينة. حتى انتّهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركته رحمة لها. ثم جئت إلى رسول الله ﷺ فأخبرته.
فأمرني فرجعت إلى الكلب فقتلته، فجاءوا فقالوا: يا رسول الله! ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قال، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأنزل الله عز وجل:
يَسْئَلُونَكَ». ورواه الحاكم في (مستدركه)
وقال: صحيح ولم يخرجاه.
وروى ابن جرير «١» أيضا عن عكرمة: «أن رسول الله ﷺ بعث أبا رافع في قتل الكلاب حتى بلغ العوالي. فجاء عاصم بن عديّ وسعيد بن خيثمة وعويمر بن ساعدة فقالوا: ماذا أحل لنا يا رسول الله» ؟ فنزلت الآية: ورواه الحاكم أيضا عن عكرمة.
وكذا قال محمد بن كعب القرظيّ في سبب نزولها: أنه في قتل الكلاب- أفاده ابن كثير.
قال بعض المفسرين: لما نزلت الآية، أذن ﷺ في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها. وأمر بقتل العقور وما يضر. انتهى.
أقول:
روى الإمام أحمد ومسلم «٢» عن جابر قال: «أمرنا رسول الله ﷺ بقتل الكلاب. حتى أن المرأة تقدم من البادية بكلبها فتقتله، ثم نهى رسول الله ﷺ عن قتلها وقال: عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان».
وروى الشيخان «٣» عن ابن عمر: «أن النبي ﷺ أمر بقتل الكلاب، إلا كلب صيد أو كلب غنم أو ماشية».
وعن عبد الله بن المغفل عن النبي ﷺ قال: «لولا أنّ الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها كلها. فاقتلوا منها كل أسود بهيم». رواه أبو داود «٤» والدارمي
وزاد الترمذيّ «٥» والنسائي «٦» :«وما من أهل بيت يرتبطون كلبا إلّا نقص من عملهم كل يوم قيراط. إلّا كلب صيد أو كلب حرث أو كلب غنم».
فأمرني فرجعت إلى الكلب فقتلته، فجاءوا فقالوا: يا رسول الله! ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قال، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأنزل الله عز وجل:
يَسْئَلُونَكَ». ورواه الحاكم في (مستدركه)
وقال: صحيح ولم يخرجاه.
وروى ابن جرير «١» أيضا عن عكرمة: «أن رسول الله ﷺ بعث أبا رافع في قتل الكلاب حتى بلغ العوالي. فجاء عاصم بن عديّ وسعيد بن خيثمة وعويمر بن ساعدة فقالوا: ماذا أحل لنا يا رسول الله» ؟ فنزلت الآية: ورواه الحاكم أيضا عن عكرمة.
وكذا قال محمد بن كعب القرظيّ في سبب نزولها: أنه في قتل الكلاب- أفاده ابن كثير.
قال بعض المفسرين: لما نزلت الآية، أذن ﷺ في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها. وأمر بقتل العقور وما يضر. انتهى.
أقول:
روى الإمام أحمد ومسلم «٢» عن جابر قال: «أمرنا رسول الله ﷺ بقتل الكلاب. حتى أن المرأة تقدم من البادية بكلبها فتقتله، ثم نهى رسول الله ﷺ عن قتلها وقال: عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان».
وروى الشيخان «٣» عن ابن عمر: «أن النبي ﷺ أمر بقتل الكلاب، إلا كلب صيد أو كلب غنم أو ماشية».
وعن عبد الله بن المغفل عن النبي ﷺ قال: «لولا أنّ الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها كلها. فاقتلوا منها كل أسود بهيم». رواه أبو داود «٤» والدارمي
وزاد الترمذيّ «٥» والنسائي «٦» :«وما من أهل بيت يرتبطون كلبا إلّا نقص من عملهم كل يوم قيراط. إلّا كلب صيد أو كلب حرث أو كلب غنم».
(١) الأثر رقم ١١١٣٥.
(٢) أخرجه مسلم في: المساقاة، حديث ٤٧.
(٣) أخرجه مسلم في: المساقاة، حديث ٤٦.
(٤) أخرجه أبو داود في: الأضاحي، ٢١- باب في اتخاذ الكلب للصيد وغيره، حديث ٢٨٤٥.
(٥) أخرجه الترمذي في: الصيد، ١٦- باب ما جاء في قتل الكلاب.
(٦) أخرجه النسائي في: الصيد، ١٠- باب صفة الكلاب التي أمر بقتلها.
(٢) أخرجه مسلم في: المساقاة، حديث ٤٧.
(٣) أخرجه مسلم في: المساقاة، حديث ٤٦.
(٤) أخرجه أبو داود في: الأضاحي، ٢١- باب في اتخاذ الكلب للصيد وغيره، حديث ٢٨٤٥.
(٥) أخرجه الترمذي في: الصيد، ١٦- باب ما جاء في قتل الكلاب.
(٦) أخرجه النسائي في: الصيد، ١٠- باب صفة الكلاب التي أمر بقتلها.
40
وظاهر هذه الأحاديث، أنه ﷺ كان أمر بقتلها كلها. ثم رخص في استبقائها.
إلّا الأسود فإنه مستحق القتل.
وقول إمام الحرمين: ثم استقر الشرع على النهي عن قتل جميع الكلاب حيث لا ضرر فيها حتى الأسود البهيم- يحتاج إلى برهان.
قال ابن عبد البر: في هذه الأحاديث إباحة اتخاذ الكلب للصيد والماشية.
وكذلك للزرع. لأنها زيادة حافظ. وكراهة اتخاذها لغير ذلك. إلّا أنه يدخل في معنى الصيد وغيره مما ذكر، اتخاذها لجلب المنافع ودفع المضارّ قياسا، فتمحض كراهة اتخاذها لغير حاجة، لما فيه من ترويع الناس، وامتناع دخول الملائكة إلى البيت الذي الكلاب فيه.
ثم قال: ووجه الحديث عندي أن المعاني المتعبد بها في الكلاب. من غسل الإناء سبعا، لا يكاد يقوم بها المكلف ولا يتحفظ منها، فربما دخل عليه باتخاذها ما ينقص أجره من ذلك.
وروي أن المنصور بالله سأل عمرو بن عبيد عن سبب هذا الحديث؟ فلم يعرفه. فقال المنصور: لأنه ينبح الضيف ويروّع السائل. انتهى.
وقال الخطابي: معنى (
قوله صلى الله عليه وسلم: لولا أن الكلاب أمة من الأمم...
إلخ). أنه ﷺ كره إفناء أمة من الأمم وإعدام جيل من الخلق، لأنه ما من خلق لله تعالى إلّا وفيه نوع من الحكمة وضرب من المصلحة. يقول: إذا كان الأمر على هذا، ولا سبيل إلى قتلهن، فاقتلوا أشرارهن وهي السود البهم. وأبقوا ما سواها لتنتفعوا بهنّ في الحراسة».
وقال الطيبي:
قوله «أمّة من الأمم»
إشارة إلى قوله تعالى. وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [الأنعام: ٣٨]. أي: أمثالكم في كونها دالة على الصانع ومسبحة له. قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: ٤٤]. أي: يسبح بلسان القال أو الحال. حيث يدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته وتنزيهه عمّا لا يجوز عليه، فبالنظر إلى هذا المعنى، لا يجوز التعرض لها بالقتل والإفناء. ولكن إذا كان لدفع مضرة- كقتل الفواسق الخمس- أو جلب منفعة- كذبح الحيوانات المأكولة- جاز ذلك.
الثاني: ذهب جمهور الصحابة والتابعين والأئمة إلى أنّ الجوارح التي يحل
إلّا الأسود فإنه مستحق القتل.
وقول إمام الحرمين: ثم استقر الشرع على النهي عن قتل جميع الكلاب حيث لا ضرر فيها حتى الأسود البهيم- يحتاج إلى برهان.
قال ابن عبد البر: في هذه الأحاديث إباحة اتخاذ الكلب للصيد والماشية.
وكذلك للزرع. لأنها زيادة حافظ. وكراهة اتخاذها لغير ذلك. إلّا أنه يدخل في معنى الصيد وغيره مما ذكر، اتخاذها لجلب المنافع ودفع المضارّ قياسا، فتمحض كراهة اتخاذها لغير حاجة، لما فيه من ترويع الناس، وامتناع دخول الملائكة إلى البيت الذي الكلاب فيه.
ثم قال: ووجه الحديث عندي أن المعاني المتعبد بها في الكلاب. من غسل الإناء سبعا، لا يكاد يقوم بها المكلف ولا يتحفظ منها، فربما دخل عليه باتخاذها ما ينقص أجره من ذلك.
وروي أن المنصور بالله سأل عمرو بن عبيد عن سبب هذا الحديث؟ فلم يعرفه. فقال المنصور: لأنه ينبح الضيف ويروّع السائل. انتهى.
وقال الخطابي: معنى (
قوله صلى الله عليه وسلم: لولا أن الكلاب أمة من الأمم...
إلخ). أنه ﷺ كره إفناء أمة من الأمم وإعدام جيل من الخلق، لأنه ما من خلق لله تعالى إلّا وفيه نوع من الحكمة وضرب من المصلحة. يقول: إذا كان الأمر على هذا، ولا سبيل إلى قتلهن، فاقتلوا أشرارهن وهي السود البهم. وأبقوا ما سواها لتنتفعوا بهنّ في الحراسة».
وقال الطيبي:
قوله «أمّة من الأمم»
إشارة إلى قوله تعالى. وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [الأنعام: ٣٨]. أي: أمثالكم في كونها دالة على الصانع ومسبحة له. قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: ٤٤]. أي: يسبح بلسان القال أو الحال. حيث يدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته وتنزيهه عمّا لا يجوز عليه، فبالنظر إلى هذا المعنى، لا يجوز التعرض لها بالقتل والإفناء. ولكن إذا كان لدفع مضرة- كقتل الفواسق الخمس- أو جلب منفعة- كذبح الحيوانات المأكولة- جاز ذلك.
الثاني: ذهب جمهور الصحابة والتابعين والأئمة إلى أنّ الجوارح التي يحل
41
صيدها، ما قبل التعليم من ذي ناب (كالكلب والفهد والنمر) أو ذي مخلب (كالطيور المذكورة قبل). قال في (النهاية) : حتى الهرّ إن تعلّم، واحتجوا بعموم الآية.
وروى أحمد «١» وأبو داود عن مجالد عن الشعبيّ عن عديّ بن حاتم أن رسول الله ﷺ قال: «ما علّمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه، فكل ما أمسك عليك. قلت: وإن قتل؟ قال: وإن قتل ولم يأكل منه شيئا. فإنما أمسكه عليك».
قال البيهقي: تفرد مجالد بذكر الباز فيه
، وخالف الحفاظ.
أقول:
روى ابن جرير بالمسند المذكور إلى عدي قال: «سألت رسول الله ﷺ عن صيد البازي؟ فقال: ما أمسك عليك فكل».
وعن ابن عمر ومجاهد: «لا يحل إلّا صيد الكلب فقط».
وروى ابن جرير «٢» بسنده، أن ابن عمر قال: أما ما صاد من الطير (والبراة من الطير) فما أدركت فهو لك. وإلّا فلا تطعمه وقال ابن أبي حاتم: كره مجاهد صيد الطير كلّه، وقرأ قوله: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ. أي: فإن قوله تعالى: مُكَلِّبِينَ يشير إلى قصر ذلك على الكلب. وقال الحسن البصري والنخعيّ وأحمد وإسحاق: يحل من كل شيء إلا الكلب الأسود البهيم. لأنه قد أمر بقتله.
الثالث: قدمنا أنّ انتصاب مُكَلِّبِينَ على الحال من (علمتم). قال ابن
وروى أحمد «١» وأبو داود عن مجالد عن الشعبيّ عن عديّ بن حاتم أن رسول الله ﷺ قال: «ما علّمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه، فكل ما أمسك عليك. قلت: وإن قتل؟ قال: وإن قتل ولم يأكل منه شيئا. فإنما أمسكه عليك».
قال البيهقي: تفرد مجالد بذكر الباز فيه
، وخالف الحفاظ.
أقول:
روى ابن جرير بالمسند المذكور إلى عدي قال: «سألت رسول الله ﷺ عن صيد البازي؟ فقال: ما أمسك عليك فكل».
وعن ابن عمر ومجاهد: «لا يحل إلّا صيد الكلب فقط».
وروى ابن جرير «٢» بسنده، أن ابن عمر قال: أما ما صاد من الطير (والبراة من الطير) فما أدركت فهو لك. وإلّا فلا تطعمه وقال ابن أبي حاتم: كره مجاهد صيد الطير كلّه، وقرأ قوله: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ. أي: فإن قوله تعالى: مُكَلِّبِينَ يشير إلى قصر ذلك على الكلب. وقال الحسن البصري والنخعيّ وأحمد وإسحاق: يحل من كل شيء إلا الكلب الأسود البهيم. لأنه قد أمر بقتله.
الثالث: قدمنا أنّ انتصاب مُكَلِّبِينَ على الحال من (علمتم). قال ابن
(١)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٤/ ٢٥٧ ونصه: عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول الله ﷺ فعلمني الإسلام. ونعت لي الصلاة وكيف أصلي كل صلاة لوقتها. ثم قال لي «كيف أنت يا ابن حاتم! إذا ركبت من قصور اليمن لا تخاف إلا الله حتى تنزل قصور الحيرة؟» قال قلت: يا رسول! فأين مقانب طيء ورجالها؟ قال «يكفيك الله طيئا ومن سواها» قال قلت: يا رسول الله! إنا قوم نتصيد بهذه الكلاب والبزاة. فما يحل لنا منها؟ قال «ويحل لكم ما علمتم من الجوارح تعلمونهن مما علمكم الله. فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه. فما علّمت من كلب أو باز، ثم أرسلت وذكرت اسم الله عليه، فكل مما أمسك عليك. قلت: وإن قتل؟ قال «وإن قتل، ولم يأكل منه شيئا. فإنما أمسكه عليك». قلت: أفرأيت إن خالط كلابنا كلاب أخرى حين نرسلها؟
قال «لا تأكل حتى تعلم أن كلبك هو الذي أمسك عليك» قلت: يا رسول الله! إنا قوم نرمي بالمعراض، فما يحلّ لنا؟ قال «لا تأكل ما أصبت بالمعراض، إلا ما ذكيت».
وأبو داود في: الأضاحي، ٢٢- باب في الصيد، حديث ٢٨٥١
. (٢) الأثر رقم ١١١٥٥.
أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٤/ ٢٥٧ ونصه: عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول الله ﷺ فعلمني الإسلام. ونعت لي الصلاة وكيف أصلي كل صلاة لوقتها. ثم قال لي «كيف أنت يا ابن حاتم! إذا ركبت من قصور اليمن لا تخاف إلا الله حتى تنزل قصور الحيرة؟» قال قلت: يا رسول! فأين مقانب طيء ورجالها؟ قال «يكفيك الله طيئا ومن سواها» قال قلت: يا رسول الله! إنا قوم نتصيد بهذه الكلاب والبزاة. فما يحل لنا منها؟ قال «ويحل لكم ما علمتم من الجوارح تعلمونهن مما علمكم الله. فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه. فما علّمت من كلب أو باز، ثم أرسلت وذكرت اسم الله عليه، فكل مما أمسك عليك. قلت: وإن قتل؟ قال «وإن قتل، ولم يأكل منه شيئا. فإنما أمسكه عليك». قلت: أفرأيت إن خالط كلابنا كلاب أخرى حين نرسلها؟
قال «لا تأكل حتى تعلم أن كلبك هو الذي أمسك عليك» قلت: يا رسول الله! إنا قوم نرمي بالمعراض، فما يحلّ لنا؟ قال «لا تأكل ما أصبت بالمعراض، إلا ما ذكيت».
وأبو داود في: الأضاحي، ٢٢- باب في الصيد، حديث ٢٨٥١
. (٢) الأثر رقم ١١١٥٥.
42
كثير: ويحتمل أن يكون حالا من المفعول وهو (الجوارح) أي: وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلبات للصيد. وذلك أن تصيد بمخالبها وأظفارها.
فيستدل بذلك، والحالة هذه، على أن الجارح إذا قتل الصيد بصدمته وبمخالبه وظفره، أنه لا يحل. كما هو أحد قول الشافعيّ وطائفة من العلماء. ولهذا قال تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ وهو أنه إذا أرسله استرسل، وإذا استشلاه استشلي، وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه، ولا يمسكه لنفسه. ولهذا قال تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ. فمتى كان الجارح معلّما وأمسك على صاحبه- وكان قد ذكر اسم الله عليه وقت إرساله- حلّ الصيد وإن قتله، بالإجماع.
وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة. كما
ثبت في (الصحيحين) «١» عن عديّ بن حاتم قال: قلت: «يا رسول الله! إني أرسل الكلاب المعلّمة وأذكر اسم الله؟ فقال: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله، فكل ما أمسك عليك. قلت: وإن قتلن؟ قال: وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس منها. فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسمّ على غيره. قلت له: فإني أرمي بالمعراض الصيد؟
فقال: إذا رميت بالمعراض الصيد فخرق فكله فإن أصابه بعرض، فإنه وقيذ، فلا تأكله».
وفي لفظ لهما: إذا أرسلت كلبك فاذكر الله. فإن أمسك عليك فأدركته حيّا.
فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه، فكله، وإنّ أخذ الكلب ذكاته.
وفي رواية لها: فإن أكل فلا تأكله. فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه
. فهذا دليل للجمهور أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقا. ولم يستفصلوا. كما ورد بذلك الحديث. وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا: لا يحرم مطلقا. أكل أو لم يأكل.
روى ابن جرير «٢» عن سلمان الفارسي وأبي هريرة قالا: كل وإن أكل ثلثيه.
فيستدل بذلك، والحالة هذه، على أن الجارح إذا قتل الصيد بصدمته وبمخالبه وظفره، أنه لا يحل. كما هو أحد قول الشافعيّ وطائفة من العلماء. ولهذا قال تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ وهو أنه إذا أرسله استرسل، وإذا استشلاه استشلي، وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه، ولا يمسكه لنفسه. ولهذا قال تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ. فمتى كان الجارح معلّما وأمسك على صاحبه- وكان قد ذكر اسم الله عليه وقت إرساله- حلّ الصيد وإن قتله، بالإجماع.
وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة. كما
ثبت في (الصحيحين) «١» عن عديّ بن حاتم قال: قلت: «يا رسول الله! إني أرسل الكلاب المعلّمة وأذكر اسم الله؟ فقال: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله، فكل ما أمسك عليك. قلت: وإن قتلن؟ قال: وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس منها. فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسمّ على غيره. قلت له: فإني أرمي بالمعراض الصيد؟
فقال: إذا رميت بالمعراض الصيد فخرق فكله فإن أصابه بعرض، فإنه وقيذ، فلا تأكله».
وفي لفظ لهما: إذا أرسلت كلبك فاذكر الله. فإن أمسك عليك فأدركته حيّا.
فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه، فكله، وإنّ أخذ الكلب ذكاته.
وفي رواية لها: فإن أكل فلا تأكله. فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه
. فهذا دليل للجمهور أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقا. ولم يستفصلوا. كما ورد بذلك الحديث. وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا: لا يحرم مطلقا. أكل أو لم يأكل.
روى ابن جرير «٢» عن سلمان الفارسي وأبي هريرة قالا: كل وإن أكل ثلثيه.
(١)
أخرجه البخاري في: الوضوء، ٣٣- باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان. عن عديّ بن حاتم قال: سألت النبيّ ﷺ فقال «إذا أرسلت كلبك المعلّم فقتل فكل وإذا أكل فلا تأكل. فإنما أمسكه على نفسه» قلت: أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر؟ قال «فلا تأكل. فإنما سميت على كلبك ولم تسمّ على كلب آخر»
. [.....] (٢) الأثر رقم ١١١٨٧- ١١٩٣ عن سلمان الفارسيّ.
أخرجه البخاري في: الوضوء، ٣٣- باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان. عن عديّ بن حاتم قال: سألت النبيّ ﷺ فقال «إذا أرسلت كلبك المعلّم فقتل فكل وإذا أكل فلا تأكل. فإنما أمسكه على نفسه» قلت: أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر؟ قال «فلا تأكل. فإنما سميت على كلبك ولم تسمّ على كلب آخر»
. [.....] (٢) الأثر رقم ١١١٨٧- ١١٩٣ عن سلمان الفارسيّ.
43
وعن سعد بن أبي وقاص:... وإن أكل ثلثيه. وعنه:... وإن لم يبق إلا بضعة. وعن ابن عمر: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك. أكل أو لم يأكل. وحكاه عن عليّ وابن عباس وغير واحد من التابعين.
وروي ذلك مرفوعا أيضا. أخرج أبو داود «١» عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنّ أعرابيّا، يقال له أبو ثعلبة، «قال: يا رسول الله! إنّ لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إن كان لك كلاب مكلبة، فكل مما أمسكن عليك. فقال:
ذكيّ وغير ذكي، وإن أكل منه؟ قال: نعم وإن أكل منه. فقال: يا رسول الله! أفتني في قوسي! فقال: كل ما ردت عليك قوسك. قال: ذكي وغير ذكي؟ قال: وإن تغيب عنك ما لم يضلّ أو تجد فيه أثرا غير سهمك. قال: أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها. قال: اغسلها وكل فيها». هكذا رواه أبو داود وقد أخرجه النسائيّ.
وكذا رواه أبو داود «٢» عن أبي إدريس الخولانيّ عن أبي ثعلبة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله، فكل وإن أكل منه، وكل ما ردت عليك يدك».
وقد احتج بما ذكرنا من لم يحرم الصيد بأكل الكلب وما أشبهه، وقد توسط آخرون فقالوا: إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم. لحديث عديّ، وللعلة التي أشار إليها النبيّ صلى الله عليه وسلم. وأما إن أمسكه، ثم انتظر صاحبه، فطال عليه، وجاع فأكل منه لجوعه، فإنه لا يؤثر في التحريم. وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة. وهذا تفريق حسن، وجمع بين الحديثين، صحيح.
وقد تمنى الأستاذ أبو المعالي الجويني في كتابه (النهاية) : أن لو فصل مفصل هذا التفصيل. وقد حقق الله أمنيته، وقال بهذا القول والتفريق طائفة من الأصحاب.
أفاده ابن كثير.
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : وسلك الناس في الجمع بين حديث عدي وأبي ثعلبة طرقا منها للقائلين بالتحريم (الأولى) حمل حديث أبي ثعلبة الأعرابي على ما إذا قتله وخلاه ثم عاد فأكل منه، و (الثانية) الترجيح، فرواية عدي في الصحيحين ورواية الأعرابي في غيرهما. ومختلف في تضعيفها. وأيضا، فرواية عدي
وروي ذلك مرفوعا أيضا. أخرج أبو داود «١» عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنّ أعرابيّا، يقال له أبو ثعلبة، «قال: يا رسول الله! إنّ لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إن كان لك كلاب مكلبة، فكل مما أمسكن عليك. فقال:
ذكيّ وغير ذكي، وإن أكل منه؟ قال: نعم وإن أكل منه. فقال: يا رسول الله! أفتني في قوسي! فقال: كل ما ردت عليك قوسك. قال: ذكي وغير ذكي؟ قال: وإن تغيب عنك ما لم يضلّ أو تجد فيه أثرا غير سهمك. قال: أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها. قال: اغسلها وكل فيها». هكذا رواه أبو داود وقد أخرجه النسائيّ.
وكذا رواه أبو داود «٢» عن أبي إدريس الخولانيّ عن أبي ثعلبة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله، فكل وإن أكل منه، وكل ما ردت عليك يدك».
وقد احتج بما ذكرنا من لم يحرم الصيد بأكل الكلب وما أشبهه، وقد توسط آخرون فقالوا: إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم. لحديث عديّ، وللعلة التي أشار إليها النبيّ صلى الله عليه وسلم. وأما إن أمسكه، ثم انتظر صاحبه، فطال عليه، وجاع فأكل منه لجوعه، فإنه لا يؤثر في التحريم. وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة. وهذا تفريق حسن، وجمع بين الحديثين، صحيح.
وقد تمنى الأستاذ أبو المعالي الجويني في كتابه (النهاية) : أن لو فصل مفصل هذا التفصيل. وقد حقق الله أمنيته، وقال بهذا القول والتفريق طائفة من الأصحاب.
أفاده ابن كثير.
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : وسلك الناس في الجمع بين حديث عدي وأبي ثعلبة طرقا منها للقائلين بالتحريم (الأولى) حمل حديث أبي ثعلبة الأعرابي على ما إذا قتله وخلاه ثم عاد فأكل منه، و (الثانية) الترجيح، فرواية عدي في الصحيحين ورواية الأعرابي في غيرهما. ومختلف في تضعيفها. وأيضا، فرواية عدي
(١) أخرجه أبو داود في: الأضاحيّ، ٢٢- باب في الصيد، حديث ٢٨٥٧.
(٢) أخرجه أبو داود في: الأضاحيّ، ٢٢- باب في الصيد، حديث ٢٨٥٢.
(٢) أخرجه أبو داود في: الأضاحيّ، ٢٢- باب في الصيد، حديث ٢٨٥٢.
44
صريحة مقرونة بالتعليل المناسب للتحريم. وهو خوف الإمساك على نفسه، متأيد بأن الأصل في الميتة التحريم. فإذا شككنا في السبب المبيح، رجعنا إلى الأصل ولظاهر الآية المذكورة. فإن مقتضاها أنّ الذي تمسكه من غير إرسال لا يباح، ويتقوى أيضا بالشواهد من حديث ابن عباس عند أحمد «١» : إذا أرسلت الكلب فأكل الصيد، فلا تأكل. فإنما أمسك على نفسه. فإذا أرسلته فقتله ولم يأكل، فكلّ.
فإنما أمسك على صاحبه. وأخرجه البزار من وجه آخر عن ابن عباس. وابن أبي شيبة من حديث أبي رافع، نحوه بمعناه. ولو كان مجرّد الإمساك كافيا لما احتيج إلى زيادة (عليكم) في الآية. وأما القائلون بالإباحة، فحملوا حديث عدي على كراهة التنزيه، وحديث الأعرابيّ على بيان الجواز. قال بعضهم: ومناسبة ذلك أن عدّيا كان موسرا.
فاختير له الحمل على الأولى. بخلاف أبي ثعلبة، فإنه كان بعكسه. ولا يخفى ضعف هذا التمسك، مع التصريح بالتعليل في الحديث لخوف الإمساك على نفسه. وقد وقع في رواية لابن أبي شيبة: إن شرب من دمه فلا تأكل فإنه لم يعلّم ما علّمته. وفي هذا إشارة إلى أنه إذا شرع في أكله، دلّ على أنه ليس يعلم التعليم المشترط.
الرابع: في الآية مشروعية التسمية. قال ابن كثير: قوله تعالى: اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أي عند إرساله له، كما
قال النبي ﷺ لعدي بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك».
وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في (الصحيحين) «٢» أيضا: «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله. وإذا رميت بسهمك».
ولهذا اشترط من اشترط من الأئمة، كالإمام أحمد رحمه الله، في المشهور عنه، التسمية عند إرسال الكلب والرمي بالسهم لهذه الآية وهذا الحديث. وهذا القول هو المشهور عند الجمهور أن المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الإرسال. كما قال
فإنما أمسك على صاحبه. وأخرجه البزار من وجه آخر عن ابن عباس. وابن أبي شيبة من حديث أبي رافع، نحوه بمعناه. ولو كان مجرّد الإمساك كافيا لما احتيج إلى زيادة (عليكم) في الآية. وأما القائلون بالإباحة، فحملوا حديث عدي على كراهة التنزيه، وحديث الأعرابيّ على بيان الجواز. قال بعضهم: ومناسبة ذلك أن عدّيا كان موسرا.
فاختير له الحمل على الأولى. بخلاف أبي ثعلبة، فإنه كان بعكسه. ولا يخفى ضعف هذا التمسك، مع التصريح بالتعليل في الحديث لخوف الإمساك على نفسه. وقد وقع في رواية لابن أبي شيبة: إن شرب من دمه فلا تأكل فإنه لم يعلّم ما علّمته. وفي هذا إشارة إلى أنه إذا شرع في أكله، دلّ على أنه ليس يعلم التعليم المشترط.
الرابع: في الآية مشروعية التسمية. قال ابن كثير: قوله تعالى: اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أي عند إرساله له، كما
قال النبي ﷺ لعدي بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك».
وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في (الصحيحين) «٢» أيضا: «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله. وإذا رميت بسهمك».
ولهذا اشترط من اشترط من الأئمة، كالإمام أحمد رحمه الله، في المشهور عنه، التسمية عند إرسال الكلب والرمي بالسهم لهذه الآية وهذا الحديث. وهذا القول هو المشهور عند الجمهور أن المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الإرسال. كما قال
(١) أخرجه في المسند ١/ ٢٣١، وحديث ٢٠٤٩.
(٢)
أخرجه البخاري في: الذبائح والصيد، ٤- باب صيد القوس، حديث ٢١٩٨ ونصه: عن أبي ثعلبة الخشنيّ قال: قلت: يا نبيّ الله! إنا بأرض قوم أهل الكتاب. أفنأكل في آنيتهم؟ وبأرض صيد، أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلّم وبكلبي المعلّم، فما يصلح لي؟ قال «أما ما ذكرت من أهل الكتاب، فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها. وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها. وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله، فكل. وما صدت بكلبك المعلّم فذكرت اسم الله فكل. وما صدت بكلبك غير معلّم، فأدركت ذكاته، فكل».
وأخرجه أيضا في: باب ما جاء في التصيد. وفي: باب آنية المجوس والميتة.
وأخرجه مسلم في: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، حديث ٨.
(٢)
أخرجه البخاري في: الذبائح والصيد، ٤- باب صيد القوس، حديث ٢١٩٨ ونصه: عن أبي ثعلبة الخشنيّ قال: قلت: يا نبيّ الله! إنا بأرض قوم أهل الكتاب. أفنأكل في آنيتهم؟ وبأرض صيد، أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلّم وبكلبي المعلّم، فما يصلح لي؟ قال «أما ما ذكرت من أهل الكتاب، فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها. وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها. وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله، فكل. وما صدت بكلبك المعلّم فذكرت اسم الله فكل. وما صدت بكلبك غير معلّم، فأدركت ذكاته، فكل».
وأخرجه أيضا في: باب ما جاء في التصيد. وفي: باب آنية المجوس والميتة.
وأخرجه مسلم في: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، حديث ٨.
45
السدّيّ وغيره. وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، في هذه الآية: «إذا أرسلت جارحك فقل: بسم الله. وإن نسيت فلا حرج». انتهى.
قال بعض الزيدية: والتسمية هنا كالتسمية على الذبيحة. فمن قائل بوجوبها على الذاكر لا الناسي.
لحديث «١» :«رفع عن أمتي الخطأ والنسيان»
. ومن قائل بأنها مستحبة. ومن قائل بأنها شرط مطلقا. المشهور عن أحمد التفرقة بين الصيد والذبيحة. فذهب في الذبيحة إلى هذا القول الثالث. ثم قال: لقائل أن يقول:
يحتمل أن يرجع قوله تعالى: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ إلى الأكل. أي: فسموا عند الأكل. فدلالة الآية محتملة في وجوب التسمية. انتهى. وهذا الاحتمال حكاه ابن كثير ونصّه:
وقال بعض الناس: المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الأكل. كما
ثبت في (الصحيحين) «٢»
«أن رسول الله ﷺ علّم ربيبه، عمر بن أبي سلمة، فقال: سمّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك».
وفي (صحيح البخاري) «٣» عن عائشة أنهم قالوا:
«يا رسول الله! إن قوما يأتوننا، حديث عهد بكفر، بلحمان، لا ندري أذكر اسم الله عليها أم لا؟ فقال: سموا الله أنتم وكلوا أنتم»
. وقال الترمذي: حسن صحيح.
الخامس: في الآية جواز تعليم الحيوان وضربه للمصلحة. لأن التعليم قد يحتاج إلى ذلك. كذا في (الإكليل). وتقدم عن الزمخشريّ والناصر ما في الآية أيضا من الأخذ عن النحرير، وأن البهائم لها علم. واستدلّ بالآية على إباحة اتخاذ الكلب للصيد وللحراسة، بالسنة: كما تقدم.
قال بعض الزيدية: والتسمية هنا كالتسمية على الذبيحة. فمن قائل بوجوبها على الذاكر لا الناسي.
لحديث «١» :«رفع عن أمتي الخطأ والنسيان»
. ومن قائل بأنها مستحبة. ومن قائل بأنها شرط مطلقا. المشهور عن أحمد التفرقة بين الصيد والذبيحة. فذهب في الذبيحة إلى هذا القول الثالث. ثم قال: لقائل أن يقول:
يحتمل أن يرجع قوله تعالى: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ إلى الأكل. أي: فسموا عند الأكل. فدلالة الآية محتملة في وجوب التسمية. انتهى. وهذا الاحتمال حكاه ابن كثير ونصّه:
وقال بعض الناس: المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الأكل. كما
ثبت في (الصحيحين) «٢»
«أن رسول الله ﷺ علّم ربيبه، عمر بن أبي سلمة، فقال: سمّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك».
وفي (صحيح البخاري) «٣» عن عائشة أنهم قالوا:
«يا رسول الله! إن قوما يأتوننا، حديث عهد بكفر، بلحمان، لا ندري أذكر اسم الله عليها أم لا؟ فقال: سموا الله أنتم وكلوا أنتم»
. وقال الترمذي: حسن صحيح.
الخامس: في الآية جواز تعليم الحيوان وضربه للمصلحة. لأن التعليم قد يحتاج إلى ذلك. كذا في (الإكليل). وتقدم عن الزمخشريّ والناصر ما في الآية أيضا من الأخذ عن النحرير، وأن البهائم لها علم. واستدلّ بالآية على إباحة اتخاذ الكلب للصيد وللحراسة، بالسنة: كما تقدم.
(١)
أخرجه ابن ماجة في: الطلاق، ١٦- باب طلاق المكره والناسي، حديث ٢٠٤٣ ونصه: عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله ﷺ «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه»
. (٢)
أخرجه البخاري في: الأطعمة، باب التسمية على الطعام والأكل باليمين، حديث ٢١٧٣ ونصه:
عن عمر بن أبي سلمة قال: كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله ﷺ «يا غلام! سمّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك». فما زالت تلك طعمتي بعد.
(٣)
أخرجه البخاري في: الذبائح والصيد، ٢١- باب ذبيحة الأعراب ونحوهم. حديث ١٠٣٨ ونصه:
عن عائشة رضي الله عنها، أن قوما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قوما يأتونا باللحم، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال «سموا عليه أنتم وكلوه».
قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر.
أخرجه ابن ماجة في: الطلاق، ١٦- باب طلاق المكره والناسي، حديث ٢٠٤٣ ونصه: عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله ﷺ «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه»
. (٢)
أخرجه البخاري في: الأطعمة، باب التسمية على الطعام والأكل باليمين، حديث ٢١٧٣ ونصه:
عن عمر بن أبي سلمة قال: كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله ﷺ «يا غلام! سمّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك». فما زالت تلك طعمتي بعد.
(٣)
أخرجه البخاري في: الذبائح والصيد، ٢١- باب ذبيحة الأعراب ونحوهم. حديث ١٠٣٨ ونصه:
عن عائشة رضي الله عنها، أن قوما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قوما يأتونا باللحم، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال «سموا عليه أنتم وكلوه».
قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر.
46
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٥]
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)
وقوله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ أي: من الذبائح والصيد. تكريره تأكيد للمنة. قال أبو السعود: قيل المراد بالأيام الثلاثة وقت واحد. وإنما كرر للتأكيد. ولاختلاف الأحداث الواقعة فيه حسن تكريره. والمراد بالطيبات ما مرّ.
تنبيه:
قال بعض مفسري الزيدية: دلت الآية على جواز أكل العالي من الأطعمة والأصباغ. قال في (الروضة والغدير) : وإن كان التقنع بالأدون هو الأولى، كما فعله عليّ عليه السلام وغيره من الفضلاء. فقد روي أن عليّا عليه السلام كان يطعم الناس أطيب الطعام. فرأى بعض أصحابه طعامه. وهو خبر شعير غير منخول، وملح جريش، وهو مختوم عليه لئلا يبدل. ومن كلامه عليه السلام: والله! لأروضنّ نفسي رياضة تهش إلى القرص إن وجدته مطعوما، وإلى الملح إن وجدته مأدوما. ولما روي عن النبيّ ﷺ في كراهة الإدامين مجتمعين. انتهى.
وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد ابن جبير وغيرهم: يعني ذبائحهم.
قال ابن كثير: وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء أن ذبائحهم حلال للمسلمين. لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ولا يذكرون على ذبائحهم إلّا اسم الله، وإن اعتقدوا فيه ما هو منزه عنه، تعالى وتقدس. انتهى.
قال المهايميّ: وإن لم يعتد بذكرهم اسم الله، لكنهم لما ذكروه، أشبه ما يعتد بذكره، فأشبه طعامهم الطيبات.
مباحث:
الأول: ما ذكرناه من أن المعنيّ بالطعام الذبائح، هو الذي قاله أئمة السلف:
صحابة كابن عباس وأبي أمامة، وأتباعا كمجاهد وثمانية غيره، كما في ابن جرير «١» وابن كثير.
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)
وقوله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ أي: من الذبائح والصيد. تكريره تأكيد للمنة. قال أبو السعود: قيل المراد بالأيام الثلاثة وقت واحد. وإنما كرر للتأكيد. ولاختلاف الأحداث الواقعة فيه حسن تكريره. والمراد بالطيبات ما مرّ.
تنبيه:
قال بعض مفسري الزيدية: دلت الآية على جواز أكل العالي من الأطعمة والأصباغ. قال في (الروضة والغدير) : وإن كان التقنع بالأدون هو الأولى، كما فعله عليّ عليه السلام وغيره من الفضلاء. فقد روي أن عليّا عليه السلام كان يطعم الناس أطيب الطعام. فرأى بعض أصحابه طعامه. وهو خبر شعير غير منخول، وملح جريش، وهو مختوم عليه لئلا يبدل. ومن كلامه عليه السلام: والله! لأروضنّ نفسي رياضة تهش إلى القرص إن وجدته مطعوما، وإلى الملح إن وجدته مأدوما. ولما روي عن النبيّ ﷺ في كراهة الإدامين مجتمعين. انتهى.
وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد ابن جبير وغيرهم: يعني ذبائحهم.
قال ابن كثير: وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء أن ذبائحهم حلال للمسلمين. لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ولا يذكرون على ذبائحهم إلّا اسم الله، وإن اعتقدوا فيه ما هو منزه عنه، تعالى وتقدس. انتهى.
قال المهايميّ: وإن لم يعتد بذكرهم اسم الله، لكنهم لما ذكروه، أشبه ما يعتد بذكره، فأشبه طعامهم الطيبات.
مباحث:
الأول: ما ذكرناه من أن المعنيّ بالطعام الذبائح، هو الذي قاله أئمة السلف:
صحابة كابن عباس وأبي أمامة، وأتباعا كمجاهد وثمانية غيره، كما في ابن جرير «١» وابن كثير.
(١) الآثار من رقم ١١٢٣٦- ١١٢٥١.
47
وفي (اللباب) : أجمعوا على أن المراد طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ذبائحهم خاصة. لأن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم. فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة. ولأنّ ما قبل هذه الآية في بيان حكم الصيد والذبائح. فحمل هذه الآية عليه أولى. لأن سائر الطعام لا يختلف، من تولّاه من كتابيّ أو غيره. وإنما تختلف الذكاة. فلما خص أهل الكتاب بالذكر، دلّ على أن المراد بطعامهم ذبائحهم. انتهى.
الثاني: استدل بالآية على جميع أجزاء ذبائحهم. وهو قول الجمهور.
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : وعن مالك وأحمد، تحريم ما حرم الله على أهل الكتاب كالشحوم. قال ابن القاسم: لأن الذي أباحه الله طعامهم. وليس الشحوم من طعامهم. ولا يقصدونها عند الذكاة. وتعقب بأن ابن عباس فسّر (طعامهم) بذبائحهم، وإذا أبيحت ذبائحهم لم يحتج إلى قصدهم أجزاء المذبوح. والتذكية لا تقع على بعض أجزاء المذبوح دون بعض. وإن كانت التذكية شائعة في جميعها دخل الشحم لا محالة. وأيضا فإن الله تعالى نص بأنه حرم عليهم كل ذي ظفر. فكان يلزم، على قول هذا القائل، إن اليهوديّ، إذا ذبح ماله ظفر، لا يحل للمسلم أكله. ثم قال ابن حجر: وقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ يستدل به على الحلّ، لأنه لم يخص لحما من شحم، وكون الشحوم محرمة على أهل الكتاب لا يضر، لأنها محرمة عليهم لا علينا. وغايته بعد أن يتقرر أن ذبائحهم لنا حلال، أنّ الذي حرم عليهم منها مسكوت في شرعنا عن تحريمه علينا. فيكون على أصل الإباحة. انتهى.
وفي (الصحيح) «١» عن عبد الله بن مغفّل رضي الله عنه قال: «كنا محاصرين قصر خيبر. فرمى إنسان بجراب فيه شحم. فنزوت لآخذه. فالتفّت فإذا النبيّ ﷺ فاستحييت منه».
وفي رواية: «أدلي بجراب من شحم يوم خيبر. فحضنته وقلت: لا أعطي اليوم من هذا أحدا. والتفتّ فإذا النبيّ ﷺ يتبسّم».
قال الحافظ ابن حجر: فيه حجة على من منع ما حرّم عليهم كالشحوم. لأن النبيّ ﷺ أقرّ ابن مغفل على الانتفاع بالجراب المذكور. وفيه جواز أكل الشحم، مما ذبحه أهل الكتاب، ولو كانوا أهل حرب. انتهى.
الثاني: استدل بالآية على جميع أجزاء ذبائحهم. وهو قول الجمهور.
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : وعن مالك وأحمد، تحريم ما حرم الله على أهل الكتاب كالشحوم. قال ابن القاسم: لأن الذي أباحه الله طعامهم. وليس الشحوم من طعامهم. ولا يقصدونها عند الذكاة. وتعقب بأن ابن عباس فسّر (طعامهم) بذبائحهم، وإذا أبيحت ذبائحهم لم يحتج إلى قصدهم أجزاء المذبوح. والتذكية لا تقع على بعض أجزاء المذبوح دون بعض. وإن كانت التذكية شائعة في جميعها دخل الشحم لا محالة. وأيضا فإن الله تعالى نص بأنه حرم عليهم كل ذي ظفر. فكان يلزم، على قول هذا القائل، إن اليهوديّ، إذا ذبح ماله ظفر، لا يحل للمسلم أكله. ثم قال ابن حجر: وقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ يستدل به على الحلّ، لأنه لم يخص لحما من شحم، وكون الشحوم محرمة على أهل الكتاب لا يضر، لأنها محرمة عليهم لا علينا. وغايته بعد أن يتقرر أن ذبائحهم لنا حلال، أنّ الذي حرم عليهم منها مسكوت في شرعنا عن تحريمه علينا. فيكون على أصل الإباحة. انتهى.
وفي (الصحيح) «١» عن عبد الله بن مغفّل رضي الله عنه قال: «كنا محاصرين قصر خيبر. فرمى إنسان بجراب فيه شحم. فنزوت لآخذه. فالتفّت فإذا النبيّ ﷺ فاستحييت منه».
وفي رواية: «أدلي بجراب من شحم يوم خيبر. فحضنته وقلت: لا أعطي اليوم من هذا أحدا. والتفتّ فإذا النبيّ ﷺ يتبسّم».
قال الحافظ ابن حجر: فيه حجة على من منع ما حرّم عليهم كالشحوم. لأن النبيّ ﷺ أقرّ ابن مغفل على الانتفاع بالجراب المذكور. وفيه جواز أكل الشحم، مما ذبحه أهل الكتاب، ولو كانوا أهل حرب. انتهى.
(١) أخرجه البخاري في: الذبائح والصيد، ٢٢- باب ذبائح أهل الكتاب وشحومها من أهل الحرب وغيرهم، حديث ١٤٨٨.
48
وقال الحافظ ابن كثير: استدل على المالكية الجمهور بهذا الحديث. وفي ذلك نظر. لأنه قضية عين. ويحتمل أن يكون شحما يعتقدون حله، كشحم الظهر والحوايا ونحوهما. والله أعلم.
وأجود منه في الدلالة ما ثبت في (الصحيح) «١» أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله ﷺ شاة مصلية. وقد سموّا ذراعها- وكان يعجبه الذراع- فتناوله فنهش منه نهشة. فأخبره الذراع أنه مسموم، فلفظه وأثّر ذلك في ثنايا رسول الله ﷺ وفي أبهره. وأكل معه منها بشر بن البراء بن معرور، فمات. فقتل اليهودية التي سمّتها، وكان اسمها زينب. ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه، ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا؟
وفي الحديث الآخر: «إن رسول الله ﷺ أضافه يهوديّ على خبز شعير وإهالة سنخة. يعني ودكا زنخا».
الثالث: تمسك ابن العربيّ- من أئمة المالكية- بهذه الآية على حلّ ما يقتله الفرنج، وإن رأينا ذلك، لأنه من طعامهم. نقله عنه الشيخ خليل في (توضيحه) واستبعده. وقال الإمام ابن زكري: صنف ابن العربيّ في إباحة مذكّى النصرانيّ بغير وجه ذكاتنا. والمحققون على تحريمه. وقد أوضح ذلك الفقيه محمد الدليميّ السوسيّ المالكيّ في (فتاويه)، وقد سئل عن ذبيحه الكتابيّ: هل تحل المذكّى كيف كانت. سواء وافقت ذكاتنا أم لا؟ بقوله مجيبا: قال الإمام ابن العربيّ: إذا سلّ النصرانيّ عنق دجاجة حلّ للمسلم أكلها. لأن الله تعالى أحلّ لنا أكل طعامهم الذي يستحلونه في دينهم. وكل ما ذكوه على مقتضى دينهم، حل لنا أكله. ولا يشترط
وأجود منه في الدلالة ما ثبت في (الصحيح) «١» أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله ﷺ شاة مصلية. وقد سموّا ذراعها- وكان يعجبه الذراع- فتناوله فنهش منه نهشة. فأخبره الذراع أنه مسموم، فلفظه وأثّر ذلك في ثنايا رسول الله ﷺ وفي أبهره. وأكل معه منها بشر بن البراء بن معرور، فمات. فقتل اليهودية التي سمّتها، وكان اسمها زينب. ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه، ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا؟
وفي الحديث الآخر: «إن رسول الله ﷺ أضافه يهوديّ على خبز شعير وإهالة سنخة. يعني ودكا زنخا».
الثالث: تمسك ابن العربيّ- من أئمة المالكية- بهذه الآية على حلّ ما يقتله الفرنج، وإن رأينا ذلك، لأنه من طعامهم. نقله عنه الشيخ خليل في (توضيحه) واستبعده. وقال الإمام ابن زكري: صنف ابن العربيّ في إباحة مذكّى النصرانيّ بغير وجه ذكاتنا. والمحققون على تحريمه. وقد أوضح ذلك الفقيه محمد الدليميّ السوسيّ المالكيّ في (فتاويه)، وقد سئل عن ذبيحه الكتابيّ: هل تحل المذكّى كيف كانت. سواء وافقت ذكاتنا أم لا؟ بقوله مجيبا: قال الإمام ابن العربيّ: إذا سلّ النصرانيّ عنق دجاجة حلّ للمسلم أكلها. لأن الله تعالى أحلّ لنا أكل طعامهم الذي يستحلونه في دينهم. وكل ما ذكوه على مقتضى دينهم، حل لنا أكله. ولا يشترط
(١)
أخرجه البخاري في: الجزية والموادعة مع أهل الحرب، ٧- باب إذا غدر المشركون بالمسلمين، هل يعفى عنهم؟ حديث ٢٤٩٨ ونصه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتحت خيبر، أهديت للنبيّ ﷺ شاة فيها سمّ. فقال النبيّ ﷺ «أجمعوا إليّ من كان هاهنا من يهود» فجمعوا له. فقال: «إني سائلكم عن شيء. فهل أنتم صادقيّ عنه» ؟ فقالوا: نعم. قال لهم النبيّ ﷺ «من أبوكم» ؟ قالوا: فلان. فقال «كذبتم، بل أبوكم فلان» قالوا: صدقت. قال «فهل أنتم صادقيّ عن شيء، إن سألت عنه» ؟ فقالوا: نعم. يا أبا القاسم! وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا.
فقال لهم «من أهل النار» ؟ قالوا: نكون فيها يسيرا ثم تخلفونا فيها. فقال النبيّ ﷺ «اخسئوا فيها. والله! لا نخلفكم فيها أبدا» ثم قال «فهل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه» ؟ فقالوا:
نعم. يا أبا القاسم! قال «هل جعلتم في هذه الشاة سمّا» ؟ قالوا: نعم. قال «ما حملكم على ذلك» ؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذبا نستريح. وإن كنت نبيّا لم يضرك.
وأخرجه أبو داود، بمعناه، في: الديات، ٦- باب فيمن سقى رجلا سمّا أو أطعمه، فمات، هل يقاد منه؟ حديث ٤٥٠٨ عن أنس و ٤٥٠٩ وعن أبي هريرة، حديث ٤٥١٠ و ٤٥١١ و ٤٥١٢
.
أخرجه البخاري في: الجزية والموادعة مع أهل الحرب، ٧- باب إذا غدر المشركون بالمسلمين، هل يعفى عنهم؟ حديث ٢٤٩٨ ونصه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتحت خيبر، أهديت للنبيّ ﷺ شاة فيها سمّ. فقال النبيّ ﷺ «أجمعوا إليّ من كان هاهنا من يهود» فجمعوا له. فقال: «إني سائلكم عن شيء. فهل أنتم صادقيّ عنه» ؟ فقالوا: نعم. قال لهم النبيّ ﷺ «من أبوكم» ؟ قالوا: فلان. فقال «كذبتم، بل أبوكم فلان» قالوا: صدقت. قال «فهل أنتم صادقيّ عن شيء، إن سألت عنه» ؟ فقالوا: نعم. يا أبا القاسم! وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا.
فقال لهم «من أهل النار» ؟ قالوا: نكون فيها يسيرا ثم تخلفونا فيها. فقال النبيّ ﷺ «اخسئوا فيها. والله! لا نخلفكم فيها أبدا» ثم قال «فهل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه» ؟ فقالوا:
نعم. يا أبا القاسم! قال «هل جعلتم في هذه الشاة سمّا» ؟ قالوا: نعم. قال «ما حملكم على ذلك» ؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذبا نستريح. وإن كنت نبيّا لم يضرك.
وأخرجه أبو داود، بمعناه، في: الديات، ٦- باب فيمن سقى رجلا سمّا أو أطعمه، فمات، هل يقاد منه؟ حديث ٤٥٠٨ عن أنس و ٤٥٠٩ وعن أبي هريرة، حديث ٤٥١٠ و ٤٥١١ و ٤٥١٢
.
49
أن تكون ذكاتهم موافقة لذكاتنا. وذلك رخصة من الله تعالى وتيسير منه علينا. ولا يستثنى من ذلك إلّا ما حرّم الله تعالى على الخصوص. فإنه، وإن كان طعامهم الذي يستحلونه، فلا يحل لنا أكله. انتهى.
الرابع: قال الرازيّ: نقل عن بعض أئمة الزيدية أن المراد ب (الطعام) في الآية الخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى الذكاة. انتهى.
وقد اطلعت على قطعة من تفسير بديع لبعض الزيدية قال فيه: اختلف العلماء من الأئمة والفقهاء: ما أريد ب (الطعام) ؟ فقال القاسم والهادي ومحمد بن عبد الله، ورواية عن زيد: إن ذبائح أهل الكتاب وجميع الكفار لا تجوز. لقوله تعالى: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وهذا خطاب للمسلمين، والرواية الثانية عن زيد وعامة الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والجعفرية والإمامية. واختاره الأمير ح والأمير يحيى: جواز ذبائح أهل الكتاب. ويفسرون (الطعام) بالذبائح وغيرها. وهذا مرويّ عن الحسن والزهريّ والشعبيّ وعطاء وقتادة وأكثر المفسرين. وأخذوا بالعموم في إطلاق (الطعام). فأجاب الأولون بأن (الطعام) يطلق على الحبوب يقال: سوق الطعام. قال القاضي: الأقرب الحلّ. لأن ذلك بفعلهم يصير طعاما. ولأنه خص أهل الكتاب.
أجيب: بأنه خصّهم لئلا يظن أنّ طعامهم الذي لم يذكّوه محرم. ثم عند الهادي والقاسم، عليهما السلام، تنجس رطوباتهم. لقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: ٢٨]. فيحرم ما حصل فيه رطوبتهم، إلّا ما أخذناه قهرا. وعند المؤيد بالله ومن معه: إن رطوبتهم طاهرة. والخلاف في الرطوبة عامة في الكفار. انتهى.
وفي (الروضة الندية) ما نصه: وأما ذبيحة أهل الذمة، فقد دلّ على حلّها القرآن الكريم بهذه الآية. ومن قال: إن اللحم لا يتناوله (الطعام) فقد قصر في البحث، ولم ينظر في كتب اللغة، ولا نظر في الأدلة الشرعية المصرحة بأن النبي ﷺ أكل ذبائح أهل الكتاب. كما في أكله ﷺ للشاة التي طبختها يهودية وجعلت فيها سمّا، والقصة أشهر من أن تحتاج إلى التنبيه عليها. ولا مستند للقول بتحريم ذبائحهم إلّا مجرد الشكوك والأوهام التي يبتلى بها من لم يرسخ قدمه في علم الشرع. فإن قلت: قد يذبحونه لغير الله، أو بغير تسمية، أو على غير الصفة المشروعة في الذبح. قلت: إن صح شيء من هذا، فالكلام في ذبيحته، كالكلام في ذبيحة المسلم إذا وقعت على أحد هذه الوجوه. وليس النزاع إلا في مجرد كون كفر الكتابيّ مانعا، لا كونه أخذ بشرط معتبر. انتهى.
الرابع: قال الرازيّ: نقل عن بعض أئمة الزيدية أن المراد ب (الطعام) في الآية الخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى الذكاة. انتهى.
وقد اطلعت على قطعة من تفسير بديع لبعض الزيدية قال فيه: اختلف العلماء من الأئمة والفقهاء: ما أريد ب (الطعام) ؟ فقال القاسم والهادي ومحمد بن عبد الله، ورواية عن زيد: إن ذبائح أهل الكتاب وجميع الكفار لا تجوز. لقوله تعالى: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وهذا خطاب للمسلمين، والرواية الثانية عن زيد وعامة الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والجعفرية والإمامية. واختاره الأمير ح والأمير يحيى: جواز ذبائح أهل الكتاب. ويفسرون (الطعام) بالذبائح وغيرها. وهذا مرويّ عن الحسن والزهريّ والشعبيّ وعطاء وقتادة وأكثر المفسرين. وأخذوا بالعموم في إطلاق (الطعام). فأجاب الأولون بأن (الطعام) يطلق على الحبوب يقال: سوق الطعام. قال القاضي: الأقرب الحلّ. لأن ذلك بفعلهم يصير طعاما. ولأنه خص أهل الكتاب.
أجيب: بأنه خصّهم لئلا يظن أنّ طعامهم الذي لم يذكّوه محرم. ثم عند الهادي والقاسم، عليهما السلام، تنجس رطوباتهم. لقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: ٢٨]. فيحرم ما حصل فيه رطوبتهم، إلّا ما أخذناه قهرا. وعند المؤيد بالله ومن معه: إن رطوبتهم طاهرة. والخلاف في الرطوبة عامة في الكفار. انتهى.
وفي (الروضة الندية) ما نصه: وأما ذبيحة أهل الذمة، فقد دلّ على حلّها القرآن الكريم بهذه الآية. ومن قال: إن اللحم لا يتناوله (الطعام) فقد قصر في البحث، ولم ينظر في كتب اللغة، ولا نظر في الأدلة الشرعية المصرحة بأن النبي ﷺ أكل ذبائح أهل الكتاب. كما في أكله ﷺ للشاة التي طبختها يهودية وجعلت فيها سمّا، والقصة أشهر من أن تحتاج إلى التنبيه عليها. ولا مستند للقول بتحريم ذبائحهم إلّا مجرد الشكوك والأوهام التي يبتلى بها من لم يرسخ قدمه في علم الشرع. فإن قلت: قد يذبحونه لغير الله، أو بغير تسمية، أو على غير الصفة المشروعة في الذبح. قلت: إن صح شيء من هذا، فالكلام في ذبيحته، كالكلام في ذبيحة المسلم إذا وقعت على أحد هذه الوجوه. وليس النزاع إلا في مجرد كون كفر الكتابيّ مانعا، لا كونه أخذ بشرط معتبر. انتهى.
50
الخامس: أريد ب (أهل الكتاب) اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم. وأما من دخل في دينهم بعد مبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم- وهم متنصّرو العرب من بني تغلب- فلا تحلّ ذبيحته. روي عن عليّ بن أبي طالب قال: لا تأكل من ذبائح نصارى بني تغلب. فإنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلّا بشرب الخمر. وبه قال ابن مسعود. وسئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب؟
فقال لا بأس به. ثم قرأ: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: ٥١]. وهذا قول الحسن وعطاء والشعبيّ وعكرمة وقتادة والزهريّ والحكم وحماد- كذا في (اللباب).
قال ابن كثير: وأما المجوس فإنهم- وإن أخذت منهم الجزية تبعا وإلحاقا لأهل الكتاب- فإنه لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم. خلافا لأبي ثور، إبراهيم بن خالد الكلبيّ (أحد الفقهاء من أصحاب الشافعيّ، وأحمد بن حنبل) ولما قال ذلك، واشتهر عنه، أنكر عليه الفقهاء ذلك. حتى قال عنه الإمام أحمد: أبو ثور كاسمه- يعني في هذه المسألة- وكأنه تمسك بعموم
حديث روي مرسلا عن النبيّ ﷺ أنه قال «١» : سنوا بهم سنة أهل الكتاب.
ولكن لم يثبت بهذا اللفظ. وإنما الذي في (صحيح) البخاريّ «٢» عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله ﷺ أخذ الجزية من مجوس هجر. ولو سلم صحة هذا الحديث، فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ فدلّ بمفهومه مفهوم المخالفة، على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحل... !
السادس: قيل: هذه الآية تقتضي إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقا، وإن ذكروا غير اسم الله تعالى. وعن ابن عمر: لو ذبح يهوديّ أو نصراني على غير اسم الله تعالى، لا يحل ذلك. وهو قول ربيعة. وسئل الشعبيّ وعطاء، عن النصرانيّ يذبح باسم المسيح؟ فقال: يحلّ. فإن الله تعالى قد أحلّ ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.
وقال الحسن: إذا ذبح اليهوديّ أو النصراني وذكر غير اسم الله، وأنت تسمع، فلا
فقال لا بأس به. ثم قرأ: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: ٥١]. وهذا قول الحسن وعطاء والشعبيّ وعكرمة وقتادة والزهريّ والحكم وحماد- كذا في (اللباب).
قال ابن كثير: وأما المجوس فإنهم- وإن أخذت منهم الجزية تبعا وإلحاقا لأهل الكتاب- فإنه لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم. خلافا لأبي ثور، إبراهيم بن خالد الكلبيّ (أحد الفقهاء من أصحاب الشافعيّ، وأحمد بن حنبل) ولما قال ذلك، واشتهر عنه، أنكر عليه الفقهاء ذلك. حتى قال عنه الإمام أحمد: أبو ثور كاسمه- يعني في هذه المسألة- وكأنه تمسك بعموم
حديث روي مرسلا عن النبيّ ﷺ أنه قال «١» : سنوا بهم سنة أهل الكتاب.
ولكن لم يثبت بهذا اللفظ. وإنما الذي في (صحيح) البخاريّ «٢» عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله ﷺ أخذ الجزية من مجوس هجر. ولو سلم صحة هذا الحديث، فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ فدلّ بمفهومه مفهوم المخالفة، على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحل... !
السادس: قيل: هذه الآية تقتضي إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقا، وإن ذكروا غير اسم الله تعالى. وعن ابن عمر: لو ذبح يهوديّ أو نصراني على غير اسم الله تعالى، لا يحل ذلك. وهو قول ربيعة. وسئل الشعبيّ وعطاء، عن النصرانيّ يذبح باسم المسيح؟ فقال: يحلّ. فإن الله تعالى قد أحلّ ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.
وقال الحسن: إذا ذبح اليهوديّ أو النصراني وذكر غير اسم الله، وأنت تسمع، فلا
(١) أخرجه مالك في الموطأ في: الزكاة، حديث ٤٢.
(٢) أخرجه البخاري في: الجزية، ١- باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب، حديث ١٤٩٢ ونصه:
عن بجالة قال: كنت كاتبا لجزء بن معاوية، عم الأحنف. فأتانا كتاب عمر بن الخطاب، قبل موته بسنة: فرّقوا بين كل ذي محرم من المجوس.
ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس، حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله ﷺ أخذها من مجوس هجر.
(٢) أخرجه البخاري في: الجزية، ١- باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب، حديث ١٤٩٢ ونصه:
عن بجالة قال: كنت كاتبا لجزء بن معاوية، عم الأحنف. فأتانا كتاب عمر بن الخطاب، قبل موته بسنة: فرّقوا بين كل ذي محرم من المجوس.
ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس، حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله ﷺ أخذها من مجوس هجر.
51
تأكل. وإذا غاب عنك فكلّ. فقد أحلّه الله لك. كذا في (اللباب). وقول الحسن- في هذا البحث- هو الحسن.
وفي (النهاية) من كتب الزيدية: أما إذا ذبح أهل الذمة لأعيادهم وكنائسهم.
فكرهه مالك، وأباحه أشهب، وحرمه الشافعيّ. وذلك لتعارض عموم قوله تعالى:
وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وعموم قوله تعالى: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة:
١٧٣]، فتخصيص كل واحد للآخر محتمل. ثم قال: والجمهور على تحريم ذبيحة المرتدّ. وأجازها إسحاق، وكرهها الثوريّ. وسبت الخلاف: هل المرتد يتناول اسم (الكتاب) أم لا؟ قال: وهكذا منشأ الخلاف في ذبائح بني تغلب، هل اسم (الكتاب) يتناول المتنصّر والمتهوّد من العرب، كما روي عن ابن عباس؟ أو لا يتناول، كما روي عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام. انتهى.
وقوله تعالى: وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ يعني: ذبائحكم حلال لهم. فتأكل اليهود والنصارى ذبيحة المسلمين. كذا في (التفسير) المنسوب لابن عباس.
ونقل بعض مفسّري الزيدية عن ابن عباس وأبي الدرداء، وبقية التابعين السالف ذكرهم، وأكثر المفسرين والفقهاء، أن المراد ذبائح المسلمين.
وقال الزجاج: تأويله: حلّ لكم أن تطعموهم. لأن الحلال والحرام والفرائض إنما تعقد على أهل الشريعة.
وقال ابن كثير: أي ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم. وليس إخبارا عن الحكم عندهم. اللهم! إلّا أن يكون خبرا عما أمروا به من الأكل من كل طعام ذكر اسم الله عليه. سواء كان من أهل ملّتهم أو غيرها. والأول أظهر في المعنى. أي:
ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم. وهذا من باب المكافأة والمجازاة. كما ألبس «١» النبيّ ﷺ ثوبه لعبد الله بن أبيّ، ابن سلول حين مات ودفنه
وفي (النهاية) من كتب الزيدية: أما إذا ذبح أهل الذمة لأعيادهم وكنائسهم.
فكرهه مالك، وأباحه أشهب، وحرمه الشافعيّ. وذلك لتعارض عموم قوله تعالى:
وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وعموم قوله تعالى: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة:
١٧٣]، فتخصيص كل واحد للآخر محتمل. ثم قال: والجمهور على تحريم ذبيحة المرتدّ. وأجازها إسحاق، وكرهها الثوريّ. وسبت الخلاف: هل المرتد يتناول اسم (الكتاب) أم لا؟ قال: وهكذا منشأ الخلاف في ذبائح بني تغلب، هل اسم (الكتاب) يتناول المتنصّر والمتهوّد من العرب، كما روي عن ابن عباس؟ أو لا يتناول، كما روي عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام. انتهى.
وقوله تعالى: وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ يعني: ذبائحكم حلال لهم. فتأكل اليهود والنصارى ذبيحة المسلمين. كذا في (التفسير) المنسوب لابن عباس.
ونقل بعض مفسّري الزيدية عن ابن عباس وأبي الدرداء، وبقية التابعين السالف ذكرهم، وأكثر المفسرين والفقهاء، أن المراد ذبائح المسلمين.
وقال الزجاج: تأويله: حلّ لكم أن تطعموهم. لأن الحلال والحرام والفرائض إنما تعقد على أهل الشريعة.
وقال ابن كثير: أي ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم. وليس إخبارا عن الحكم عندهم. اللهم! إلّا أن يكون خبرا عما أمروا به من الأكل من كل طعام ذكر اسم الله عليه. سواء كان من أهل ملّتهم أو غيرها. والأول أظهر في المعنى. أي:
ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم. وهذا من باب المكافأة والمجازاة. كما ألبس «١» النبيّ ﷺ ثوبه لعبد الله بن أبيّ، ابن سلول حين مات ودفنه
(١)
أخرجه البخاري في: الجنائز، ٧٨- باب هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلة؟ حديث ٦٧٦ ونصه: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أتى رسول الله ﷺ عبد الله بن أبيّ، بعد ما أدخل حفرته. فأمر به فأخرج. فوضعه على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه. فالله أعلم. وكان كسا عباسا قميصا.
وقال أبو هريرة: وكان على رسول الله ﷺ قميصان. فقال له ابن عبد الله: يا رسول الله! ألبس أبي قميصك الذي يلي جلدك.
قال سفيان: فيرون أن النبيّ ﷺ ألبس عبد الله قميصه مكافأة لما صنع
. [.....]
أخرجه البخاري في: الجنائز، ٧٨- باب هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلة؟ حديث ٦٧٦ ونصه: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أتى رسول الله ﷺ عبد الله بن أبيّ، بعد ما أدخل حفرته. فأمر به فأخرج. فوضعه على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه. فالله أعلم. وكان كسا عباسا قميصا.
وقال أبو هريرة: وكان على رسول الله ﷺ قميصان. فقال له ابن عبد الله: يا رسول الله! ألبس أبي قميصك الذي يلي جلدك.
قال سفيان: فيرون أن النبيّ ﷺ ألبس عبد الله قميصه مكافأة لما صنع
. [.....]
52
فيه. قالوا: لأنه كان قد كسا العباس حين قدم المدينة ثوبه. فجازاه النبيّ صلى الله عليه وسلم. ذلك بذلك». فأمّا
الحديث «١» الذي فيه (لا تصحب إلّا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلّا تقيّ)
فمحمول على الندب والاستحباب، والله أعلم. انتهى.
وقال الرازيّ: أي: ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم. لأنه لا يمتنع أن يحرم الله أن نطعمهم من ذبائحنا. وأيضا فالفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة في الجانبين، وإباحة الذبائح كانت حاصلة في الجانبين، لا جرم ذكر الله تعالى ذلك تنبيها على التمييز بين النوعين. انتهى.
وقال البرهان البقاعيّ في (تفسيره) : وقوله تعالى وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ أي: تناوله لحاجتكم إلى مخالطتهم، للإذن في إقرارهم على دينهم بالجزية.
ولما كان هذا مشعرا بإبقائهم على ما اختاروا لأنفسهم. زاده تأكيدا بقوله وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أي: فلا عليكم في بذله لهم، ولا عليهم في تناوله. انتهى.
وفي (أمالي) الإمام السهيليّ رحمه الله تعالى: قيل: ما الحكمة في هذه الجملة وهم كفار لا يحتاجون إلى بياننا؟ فعنه جوابان: أحدهما أن المعنى: انظروا إلى ما أحل لكم في شريعتكم، فإن أطعموكموه فكلوه، ولا تنظروا إلى ما كان محرما عليهم، فإن لحوم الإبل ونحوها كانت محرمة عليهم. ثم نسخ ذلك في شرعنا.
والآية بيان لنا لا لهم، أي: اعلموا أن ما كان محرما عليهم، مما هو حلال لكم قد أحل لهم أيضا. ولذلك لو أطعمونا خنزيرا أو نحوه وقالوا: هو حلال في شريعتنا، وقد أباح الله لكم طعامنا- كذبناهم وقلنا: إن الطعام الذي يحلّ لكم هو الذي يحل لنا، لا غيره. فالمعنى- طعامهم حل لكم، إذا كان الطعام الذي أحللته لكم. وهذا التفسير معنى قول السدّي وغيره.
الثاني: للنحاس والزجاج والنقاش وكثير من المتأخرين، أن المعنى: جائز لكم أن تطعموهم من طعامكم. لا أن يبين لهم ما يحل لهم في دينهم. لأن دينهم باطل. إلّا أنه لم يقل: وإطعامكم، بل (طعامكم) - والطعام المأكول- وأما الفعل فهو الإطعام. فإن زعموا أن (الطعام) يقوم مقام (الإطعام) توسعا، قلنا: بقي اعتراض آخر. وهو الفصل بين المصدر وصلته بخبر المبتدأ. وهو ممتنع بالإجماع. لا
الحديث «١» الذي فيه (لا تصحب إلّا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلّا تقيّ)
فمحمول على الندب والاستحباب، والله أعلم. انتهى.
وقال الرازيّ: أي: ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم. لأنه لا يمتنع أن يحرم الله أن نطعمهم من ذبائحنا. وأيضا فالفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة في الجانبين، وإباحة الذبائح كانت حاصلة في الجانبين، لا جرم ذكر الله تعالى ذلك تنبيها على التمييز بين النوعين. انتهى.
وقال البرهان البقاعيّ في (تفسيره) : وقوله تعالى وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ أي: تناوله لحاجتكم إلى مخالطتهم، للإذن في إقرارهم على دينهم بالجزية.
ولما كان هذا مشعرا بإبقائهم على ما اختاروا لأنفسهم. زاده تأكيدا بقوله وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أي: فلا عليكم في بذله لهم، ولا عليهم في تناوله. انتهى.
وفي (أمالي) الإمام السهيليّ رحمه الله تعالى: قيل: ما الحكمة في هذه الجملة وهم كفار لا يحتاجون إلى بياننا؟ فعنه جوابان: أحدهما أن المعنى: انظروا إلى ما أحل لكم في شريعتكم، فإن أطعموكموه فكلوه، ولا تنظروا إلى ما كان محرما عليهم، فإن لحوم الإبل ونحوها كانت محرمة عليهم. ثم نسخ ذلك في شرعنا.
والآية بيان لنا لا لهم، أي: اعلموا أن ما كان محرما عليهم، مما هو حلال لكم قد أحل لهم أيضا. ولذلك لو أطعمونا خنزيرا أو نحوه وقالوا: هو حلال في شريعتنا، وقد أباح الله لكم طعامنا- كذبناهم وقلنا: إن الطعام الذي يحلّ لكم هو الذي يحل لنا، لا غيره. فالمعنى- طعامهم حل لكم، إذا كان الطعام الذي أحللته لكم. وهذا التفسير معنى قول السدّي وغيره.
الثاني: للنحاس والزجاج والنقاش وكثير من المتأخرين، أن المعنى: جائز لكم أن تطعموهم من طعامكم. لا أن يبين لهم ما يحل لهم في دينهم. لأن دينهم باطل. إلّا أنه لم يقل: وإطعامكم، بل (طعامكم) - والطعام المأكول- وأما الفعل فهو الإطعام. فإن زعموا أن (الطعام) يقوم مقام (الإطعام) توسعا، قلنا: بقي اعتراض آخر. وهو الفصل بين المصدر وصلته بخبر المبتدأ. وهو ممتنع بالإجماع. لا
(١) أخرجه الدارمي في: الأطعمة، ٢٣- باب من كره أن يطعم طعامه إلا الأتقياء.
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣/ ٣٨ عن أبي سعيد الخدريّ.
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣/ ٣٨ عن أبي سعيد الخدريّ.
53
يجيزون (إطعام زيد حسن للمساكين) ولا (ضربك شديد زيدا) فكيف جاز (وطعامكم حلّ لهم) ؟ انتهى.
قال الناصر في (الانتصاف) : وقد يستدل بهذه الآية من يرى الكفار مخاطبين بفروع الشريعة. لأن التحليل حكم وقد علقه بهم في قوله وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ كما علق الحكم بالمؤمنين. وهذه الآية أبين في الاستدلال بها من قوله: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة: ١٠]، فإنّ لقائل أن يقول: في تلك الآية نفي الحكم ليس بحكم. ولا يستطيع ذلك في آية (المائدة) هذه. لأن الحكم فيها مثبت، والله أعلم.
ثم قال: ولما استشعر الزمخشري دلالتها على ذلك، وهو من القائلين بأن الكفار يستحيل خطابهم بفروع الشريعة- أسلف تأويلها بصرف الخطاب إلى المؤمنين، أي: لا جناح عليكم- أيها المسلمون! - أن تطعموا أهل الكتاب. انتهى.
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ عطف على (الطيبات) أو مبتدأ حذف خبره لدلالة ما قبله عليه. أي: حلّ لكم. والمراد ب (المحصنات) العفيفات عن الزنى.
كما قال تعالى في الآية الأخرى: مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ [النساء: ٢٥]. وهو المرويّ عن الحسن والشعبي وسفيان وإبراهيم ومجاهد. وحكى ابن جرير رواية أخرى عن مجاهد أنه قال: المحصنات الحرائر. فقيل: عني بهن غير الإماء. وقيل: أراد بهن العفيفات، كقول الجمهور. وذلك لأن الحرّ يطلق على خلاف العبد، وعلى خيار كل شيء، كما في (القاموس).
قال الزمخشريّ: وتخصيصهن بعث على تخير المؤمنين لنطفهم. والإماء من المسلمات يصح نكاحهن بالاتفاق. وكذلك نكاح غير العفائف منهن. انتهى.
أقول: جواز نكاح الأمة موقوف على خوف العنت وعدم طول الحرة، لآية:
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا.. [النساء: ٢٥] إلخ. وأما نكاح غير العفيفة فأجازه الأكثرون. وذهب الإمام أحمد إلى تحريم نكاح الزانية على زان وغيره، حتى تتوب وتنقضي عدتها. لقوله تعالى: وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور: ٣]. ولما
أخرجه أحمد «١» بإسناد رجاله ثقات، والطبرانيّ في (الكبير) و (الأوسط) من حديث عبد الله بن عمرو: أن رجلا من المسلمين
قال الناصر في (الانتصاف) : وقد يستدل بهذه الآية من يرى الكفار مخاطبين بفروع الشريعة. لأن التحليل حكم وقد علقه بهم في قوله وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ كما علق الحكم بالمؤمنين. وهذه الآية أبين في الاستدلال بها من قوله: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة: ١٠]، فإنّ لقائل أن يقول: في تلك الآية نفي الحكم ليس بحكم. ولا يستطيع ذلك في آية (المائدة) هذه. لأن الحكم فيها مثبت، والله أعلم.
ثم قال: ولما استشعر الزمخشري دلالتها على ذلك، وهو من القائلين بأن الكفار يستحيل خطابهم بفروع الشريعة- أسلف تأويلها بصرف الخطاب إلى المؤمنين، أي: لا جناح عليكم- أيها المسلمون! - أن تطعموا أهل الكتاب. انتهى.
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ عطف على (الطيبات) أو مبتدأ حذف خبره لدلالة ما قبله عليه. أي: حلّ لكم. والمراد ب (المحصنات) العفيفات عن الزنى.
كما قال تعالى في الآية الأخرى: مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ [النساء: ٢٥]. وهو المرويّ عن الحسن والشعبي وسفيان وإبراهيم ومجاهد. وحكى ابن جرير رواية أخرى عن مجاهد أنه قال: المحصنات الحرائر. فقيل: عني بهن غير الإماء. وقيل: أراد بهن العفيفات، كقول الجمهور. وذلك لأن الحرّ يطلق على خلاف العبد، وعلى خيار كل شيء، كما في (القاموس).
قال الزمخشريّ: وتخصيصهن بعث على تخير المؤمنين لنطفهم. والإماء من المسلمات يصح نكاحهن بالاتفاق. وكذلك نكاح غير العفائف منهن. انتهى.
أقول: جواز نكاح الأمة موقوف على خوف العنت وعدم طول الحرة، لآية:
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا.. [النساء: ٢٥] إلخ. وأما نكاح غير العفيفة فأجازه الأكثرون. وذهب الإمام أحمد إلى تحريم نكاح الزانية على زان وغيره، حتى تتوب وتنقضي عدتها. لقوله تعالى: وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور: ٣]. ولما
أخرجه أحمد «١» بإسناد رجاله ثقات، والطبرانيّ في (الكبير) و (الأوسط) من حديث عبد الله بن عمرو: أن رجلا من المسلمين
(١) أخرجه أحمد في مسنده ٢/ ٢٢٥ والحديث رقم ٧٠٩٩.
54
استأذن رسول الله ﷺ في امرأة يقال لها أم مهزول، كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه. فقرأ عليه صلى الله عليه وسلم: وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ.
وأخرج أبو داود «١» والنسائيّ والترمذي وحسّنه، من حديث ابن عمر: أن مرثد بن أبي مرثد الغنويّ كان يحمل الأسارى بمكة. وكان بمكة بغيّ يقال لها عناق. وكانت صديقته. قال:
فجئت النبيّ ﷺ فقلت: يا رسول الله! أنكح عناقا؟ قال، فسكت عني. فنزلت الآية: وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور: ٣]. فدعاني فقرأها عليّ وقال: لا تنكحها.
وأخرج أحمد وأبو داود «٢» بإسناد رجاله ثقات، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله»
. قال ابن القيّم:
أخذ بهذه الفتاوى- التي لا معارض لها- الإمام أحمد ومن وافقه- وهي من محاسن مذهبه- فإنه لم يجوّز أن ينكح الرجل زوجا تحبه. ويعضد مذهبه بضعة وعشرون دليلا قد ذكرناها في موضع آخر.
وأخرج ابن ماجة «٣» والترمذيّ وصحة، من حديث عمرو بن الأحوص، أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم. فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال:
«استوصوا في النساء خيرا. فإنما هنّ عندكم عوان. ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك. إلّا أن يأتين بفاحشة مبيّنة. فإن فعلن، فاهجروهنّ في المضاجع، واضربوهنّ ضربا غير مبرّح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا».
وأخرج أبو داود «٤» والنسائيّ، من حديث ابن عباس قال: «جاء رجل إلى النبيّ ﷺ فقال: إن امرأتي لا تمنع يد لامس، قال: غرّبها، قال: أخاف أن تتبعها نفسي. قال: فاستمتع بها»
. قال المنذريّ: ورجال إسناده محتج بهم في الصحيحين.
قال ابن القيّم: عورض بهذا الحديث المتشابه، الأحاديث المحكمة الصريحة في المنع من تجويز البغايا. واختلفت مسالك المحرّمين لذلك فيه، فقالت طائفة:
وأخرج أبو داود «١» والنسائيّ والترمذي وحسّنه، من حديث ابن عمر: أن مرثد بن أبي مرثد الغنويّ كان يحمل الأسارى بمكة. وكان بمكة بغيّ يقال لها عناق. وكانت صديقته. قال:
فجئت النبيّ ﷺ فقلت: يا رسول الله! أنكح عناقا؟ قال، فسكت عني. فنزلت الآية: وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور: ٣]. فدعاني فقرأها عليّ وقال: لا تنكحها.
وأخرج أحمد وأبو داود «٢» بإسناد رجاله ثقات، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله»
. قال ابن القيّم:
أخذ بهذه الفتاوى- التي لا معارض لها- الإمام أحمد ومن وافقه- وهي من محاسن مذهبه- فإنه لم يجوّز أن ينكح الرجل زوجا تحبه. ويعضد مذهبه بضعة وعشرون دليلا قد ذكرناها في موضع آخر.
وأخرج ابن ماجة «٣» والترمذيّ وصحة، من حديث عمرو بن الأحوص، أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم. فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال:
«استوصوا في النساء خيرا. فإنما هنّ عندكم عوان. ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك. إلّا أن يأتين بفاحشة مبيّنة. فإن فعلن، فاهجروهنّ في المضاجع، واضربوهنّ ضربا غير مبرّح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا».
وأخرج أبو داود «٤» والنسائيّ، من حديث ابن عباس قال: «جاء رجل إلى النبيّ ﷺ فقال: إن امرأتي لا تمنع يد لامس، قال: غرّبها، قال: أخاف أن تتبعها نفسي. قال: فاستمتع بها»
. قال المنذريّ: ورجال إسناده محتج بهم في الصحيحين.
قال ابن القيّم: عورض بهذا الحديث المتشابه، الأحاديث المحكمة الصريحة في المنع من تجويز البغايا. واختلفت مسالك المحرّمين لذلك فيه، فقالت طائفة:
(١) أخرجه أبو داود في: النكاح، ٤- باب في قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً حديث ٢٠٥١.
(٢) أخرجه أبو داود في: النكاح، ٤- باب في قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً، حديث ٢٠٥٢.
(٣) أخرجه ابن ماجة في: النكاح، ٣- باب حق المرأة على الزوج، حديث ١٨٥١.
والترمذي في: الرضاع، ١١- باب ما جاء في حق المرأة على زوجها.
(٤) أخرجه أبو داود في: النكاح، ٣- باب في تزويج الأبكار، حديث ٢٠٤٩.
وأخرجه النسائي في: الطلاق، ٣٤- باب ما جاء في الخلع.
(٢) أخرجه أبو داود في: النكاح، ٤- باب في قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً، حديث ٢٠٥٢.
(٣) أخرجه ابن ماجة في: النكاح، ٣- باب حق المرأة على الزوج، حديث ١٨٥١.
والترمذي في: الرضاع، ١١- باب ما جاء في حق المرأة على زوجها.
(٤) أخرجه أبو داود في: النكاح، ٣- باب في تزويج الأبكار، حديث ٢٠٤٩.
وأخرجه النسائي في: الطلاق، ٣٤- باب ما جاء في الخلع.
55
المراد ب (اللامس) ملتمس الصدقة لا ملتمس الفاحشة. وقالت طائفة: بل هذا في الدوام غير موثر. وإنما المانع ورود العقد على الزانية فهذا هو الحرام، وقالت طائفة:
بل هذا من التزام أخف المفسدتين لدفع أعلاهما. فإنه لما أمر بمفارقتها خاف من أن لا يصبر عنها فيواقعها حراما، فأمره حينئذ بإمساكها. إذ مواقعتها بعقد النكاح أقل فسادا من مواقعتها بالسفاح. وقالت طائفة: بل الحديث ضعيف لا يثبت. وقالت طائفة: ليس في الحديث ما يدل على أنها زانية. وإنما فيه أنها لا تمنع ممن يمسّها أو يضع يده عليها أو نحو ذلك، فهي تعطي الليان لذلك. ولا يلزم أن تعطيه الفاحشة الكبرى. ولكن هذا لا يؤمن معه إجابتها الداعي إلى الفاحشة. فأمره بفراقها، تركا لما يريبه إلى ما لا يريبه. فلما أخبره بأن نفسه تتبعها، وأنه لا صبر له عنها، رأى مصلحة إمساكها أرجح المسالك. والله تعالى أعلم. وتتمة البحث في ذلك يأتي إن شاء الله تعالى في سورة النور.
فائدة:
أفتى جابر بن عبد الله وعامر الشعبيّ وإبراهيم النخعيّ والحسن البصريّ بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها، أنه يفرق بينهما وتردّ عليه ما بذل لها من المهر. رواه ابن جرير عنهم.
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي: هنّ أيضا حلّ لكم.
والجمهور: على أن المراد ب (المحصنات) العفائف عن الزنى، كما قدمنا.
قال ابن كثير: وهو الأشبه. لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمّية وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية، ويتحصل زوجها على ما قيل، حشفا وسوء كيلة.
وحكى ابن جرير عن طائفة من السلف- ممن فسّر (المحصنات) بالعفيفات أن الآية تعم كل كتابية عفيفة. سواء كانت حرة أو أمة. ومن فسرها ب (الحرائر) قال:
لا يصح نكاح الأمة الكتابية بحال، إذ لا يحتمل عار الكفر مع عار الرق، على أنه يؤدي إلى استرقاق الكافر ولد المسلم.
تنبيهات
الأول: ظاهر الآية جواز نكاح الكتابية. وهذا مذهب أكثر الفقهاء والمفسرين.
ورواية عن زيد والصادق والباقر، واختاره الإمام يحيى وقال: إنه إجماع الصدر الأول من الصحابة، وأنّ عثمان بن عفان تزوج نائلة بنت الفرافصة على نسائه، وهي نصرانية. وأنّ طلحة بن عبيد الله تزوج يهودية. كذا نقله المفسرون.
بل هذا من التزام أخف المفسدتين لدفع أعلاهما. فإنه لما أمر بمفارقتها خاف من أن لا يصبر عنها فيواقعها حراما، فأمره حينئذ بإمساكها. إذ مواقعتها بعقد النكاح أقل فسادا من مواقعتها بالسفاح. وقالت طائفة: بل الحديث ضعيف لا يثبت. وقالت طائفة: ليس في الحديث ما يدل على أنها زانية. وإنما فيه أنها لا تمنع ممن يمسّها أو يضع يده عليها أو نحو ذلك، فهي تعطي الليان لذلك. ولا يلزم أن تعطيه الفاحشة الكبرى. ولكن هذا لا يؤمن معه إجابتها الداعي إلى الفاحشة. فأمره بفراقها، تركا لما يريبه إلى ما لا يريبه. فلما أخبره بأن نفسه تتبعها، وأنه لا صبر له عنها، رأى مصلحة إمساكها أرجح المسالك. والله تعالى أعلم. وتتمة البحث في ذلك يأتي إن شاء الله تعالى في سورة النور.
فائدة:
أفتى جابر بن عبد الله وعامر الشعبيّ وإبراهيم النخعيّ والحسن البصريّ بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها، أنه يفرق بينهما وتردّ عليه ما بذل لها من المهر. رواه ابن جرير عنهم.
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي: هنّ أيضا حلّ لكم.
والجمهور: على أن المراد ب (المحصنات) العفائف عن الزنى، كما قدمنا.
قال ابن كثير: وهو الأشبه. لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمّية وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية، ويتحصل زوجها على ما قيل، حشفا وسوء كيلة.
وحكى ابن جرير عن طائفة من السلف- ممن فسّر (المحصنات) بالعفيفات أن الآية تعم كل كتابية عفيفة. سواء كانت حرة أو أمة. ومن فسرها ب (الحرائر) قال:
لا يصح نكاح الأمة الكتابية بحال، إذ لا يحتمل عار الكفر مع عار الرق، على أنه يؤدي إلى استرقاق الكافر ولد المسلم.
تنبيهات
الأول: ظاهر الآية جواز نكاح الكتابية. وهذا مذهب أكثر الفقهاء والمفسرين.
ورواية عن زيد والصادق والباقر، واختاره الإمام يحيى وقال: إنه إجماع الصدر الأول من الصحابة، وأنّ عثمان بن عفان تزوج نائلة بنت الفرافصة على نسائه، وهي نصرانية. وأنّ طلحة بن عبيد الله تزوج يهودية. كذا نقله المفسرون.
56
وروى البيهقيّ وعبد الرزاق وابن جرير عن عمر أنّه قال: المسلم يتزوج النصرانية ولا يتزوج النصراني المسلمة. وروى عبد الرزاق أيضا عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب كتب إلى حذيفة بن اليمان وهو بالكوفة، ونكح امرأة من أهل الكتاب، فكتب: أن فارقها فإنك بأرض المجوس، فإني أخشى أن يقول الجاهل: قد تزوج صاحب رسول الله ﷺ كافرة! ويحلل الرخصة التي كانت من الله عز وجل فيتزوجوا نساء المجوس... ففارقها.
وروى عبد الرزاق والبيهقيّ عن قتادة: أن حذيفة نكح يهودية. فقال عمر:
طلّقها فإنها جمرة. فقال: أحرام هي؟ قال: لا، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن...
وروى عبد الرزاق عن زيد بن وهب قال: كتب عمر بن الخطاب: إن المسلم ينكح النصرانية، والنصرانيّ لا ينكح المسلمة. وروي أيضا عن جابر قال: نساء أهل الكتاب لنا حلّ، ونساؤنا عليهم حرام. وروي أيضا عن معمر عن الزهريّ قال: نكح رجل من قومي في عهد النبي ﷺ امرأة من أهل الكتاب. وروي عن ابن عمر كراهية ذلك. ويحتج بقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: ٢٢١] وكان يقول: لا أعلم شركا أعظم من قولها: إن ربها عيسى. وأجاب الجمهور بأنه عامّ خص بهذه الآية، إن قيل بدخول الكتابيات في عموم المشركات، وإلّا، فلا معارضة بين الآيتين. لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع.
كقوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة: ١]. وكقوله: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ [آل عمران: ٢٠].
الثاني: استدل بعموم الآية من جوّز نكاح الحربيات الكتابيات. وروي عن ابن عباس: أن الإذن في الذميات خاصة، ويقرأ: قاتِلُوا الَّذِينَ- إلى قوله- حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ. قال: فمن أعطى، حل. ومن لا، فلا. وهذا الاستدلال دقيق جدا. فليتأمل!.
الثالث: قال المهايميّ: لما اعتبر في طعام أهل الكتاب شبهة بالطيب- كما قدمنا- اعتبر في باب النكاح، فأحلّ المحصنات منهم، واحتمل كفرهنّ لأنه إنما لم يحتمل كفر غيرهم لأنهم يدعون إلى النار. وهؤلاء لما اعترفوا بأصل النبوّة، ولا شبهة لهم في نفي أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فضلا عن حجة، ضعفت دعوتهم إليها، فلم يعتد بها. على أن الرجل مستول على المرأة. فلا تؤثر فيه تأثير الرجل، فلذلك لم يصح
وروى عبد الرزاق والبيهقيّ عن قتادة: أن حذيفة نكح يهودية. فقال عمر:
طلّقها فإنها جمرة. فقال: أحرام هي؟ قال: لا، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن...
وروى عبد الرزاق عن زيد بن وهب قال: كتب عمر بن الخطاب: إن المسلم ينكح النصرانية، والنصرانيّ لا ينكح المسلمة. وروي أيضا عن جابر قال: نساء أهل الكتاب لنا حلّ، ونساؤنا عليهم حرام. وروي أيضا عن معمر عن الزهريّ قال: نكح رجل من قومي في عهد النبي ﷺ امرأة من أهل الكتاب. وروي عن ابن عمر كراهية ذلك. ويحتج بقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: ٢٢١] وكان يقول: لا أعلم شركا أعظم من قولها: إن ربها عيسى. وأجاب الجمهور بأنه عامّ خص بهذه الآية، إن قيل بدخول الكتابيات في عموم المشركات، وإلّا، فلا معارضة بين الآيتين. لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع.
كقوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة: ١]. وكقوله: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ [آل عمران: ٢٠].
الثاني: استدل بعموم الآية من جوّز نكاح الحربيات الكتابيات. وروي عن ابن عباس: أن الإذن في الذميات خاصة، ويقرأ: قاتِلُوا الَّذِينَ- إلى قوله- حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ. قال: فمن أعطى، حل. ومن لا، فلا. وهذا الاستدلال دقيق جدا. فليتأمل!.
الثالث: قال المهايميّ: لما اعتبر في طعام أهل الكتاب شبهة بالطيب- كما قدمنا- اعتبر في باب النكاح، فأحلّ المحصنات منهم، واحتمل كفرهنّ لأنه إنما لم يحتمل كفر غيرهم لأنهم يدعون إلى النار. وهؤلاء لما اعترفوا بأصل النبوّة، ولا شبهة لهم في نفي أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فضلا عن حجة، ضعفت دعوتهم إليها، فلم يعتد بها. على أن الرجل مستول على المرأة. فلا تؤثر فيه تأثير الرجل، فلذلك لم يصح
57
تزويج المسلمة بالكتابيّ. على أن فيه إذلالا للمسلمة فلا تحتمل.
الرابع: ذهب ثلة من العترة الطاهرة إلى أن المراد من (المحصنات) المؤمنات منهن. ذهابا إلى تحريم نكاح الكافرة. قال بعض مفسري الزيدية، بعد أن ساق مذهب الأكثرين المتقدم: وقال القاسم والهادي والنفس الزكية ومحمد بن عبد الله وعامة القاسمية- وهو مرويّ عن ابن عمر: إنه لا يجوز لمسلم نكاح كافرة، كتابية كانت أو غيرها. واحتجوا بقوله في سورة البقرة: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: ٢٢١]. قالوا- يعني الأكثرين-: هذا في المشركات لا في الكتابيات، قلنا: اسم الشرك ينطلق على أهل الكتاب بدليل قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ. إلى قوله: سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: ٣١]. وعن ابن عمر: لا أعلم شركا أعظم من قول النصرانية: إن ربها عيسى. وعن عطاء: قد كثر الله المسلمات. وإنما رخص لهم يومئذ. قالوا: إنه تعالى عطف أحدهما على الآخر فدلّ على أنهما غيرين، حيث قال تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ
[البينة: ١]. قلنا: هذا كقوله تعالى: الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [البقرة: ١٨٠]. قالوا: الآية مصرحة بالجواز في قوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قلنا: في سورة النور: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ [النور: ٢٦]. وقوله في سورة النساء: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء: ٢٥]. فشرط الإيمان في هذا يقضي بالتحريم. فتتأوّل هذه الآية: أنه أراد المحصنات من أهل الكتاب اللاتي قد أسلمن، لأنهم كانوا يتكرهون ذلك، فسماهنّ باسم ما كنّ عليه. وقد ورد مثل هذا في كتاب الله تعالى. قال الله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة: ١٢١]. وقوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [البقرة: ١٤٦]. وقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ [آل عمران: ١٩٩]. قالوا: سبب النزول وفعل الصحابة يدل على الجواز. وإنا نجمع بين الآيات الكريمة فنقول: قوله وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ [البقرة: ٢٢١]. عامّ نخصّه بقوله تعالى وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أو نقول: أراد ب الْمُشْرِكاتِ الوثنيات وب الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، ما أفاده الظاهر. أو يكون قوله وَالْمُحْصَناتُ ناسخا لتحريم الكتابيات بقوله: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ. قلنا: نقابل ما ذكرتم بما
روي، أن كعب بن مالك أراد أن
الرابع: ذهب ثلة من العترة الطاهرة إلى أن المراد من (المحصنات) المؤمنات منهن. ذهابا إلى تحريم نكاح الكافرة. قال بعض مفسري الزيدية، بعد أن ساق مذهب الأكثرين المتقدم: وقال القاسم والهادي والنفس الزكية ومحمد بن عبد الله وعامة القاسمية- وهو مرويّ عن ابن عمر: إنه لا يجوز لمسلم نكاح كافرة، كتابية كانت أو غيرها. واحتجوا بقوله في سورة البقرة: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: ٢٢١]. قالوا- يعني الأكثرين-: هذا في المشركات لا في الكتابيات، قلنا: اسم الشرك ينطلق على أهل الكتاب بدليل قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ. إلى قوله: سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: ٣١]. وعن ابن عمر: لا أعلم شركا أعظم من قول النصرانية: إن ربها عيسى. وعن عطاء: قد كثر الله المسلمات. وإنما رخص لهم يومئذ. قالوا: إنه تعالى عطف أحدهما على الآخر فدلّ على أنهما غيرين، حيث قال تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ
[البينة: ١]. قلنا: هذا كقوله تعالى: الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [البقرة: ١٨٠]. قالوا: الآية مصرحة بالجواز في قوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قلنا: في سورة النور: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ [النور: ٢٦]. وقوله في سورة النساء: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء: ٢٥]. فشرط الإيمان في هذا يقضي بالتحريم. فتتأوّل هذه الآية: أنه أراد المحصنات من أهل الكتاب اللاتي قد أسلمن، لأنهم كانوا يتكرهون ذلك، فسماهنّ باسم ما كنّ عليه. وقد ورد مثل هذا في كتاب الله تعالى. قال الله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة: ١٢١]. وقوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [البقرة: ١٤٦]. وقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ [آل عمران: ١٩٩]. قالوا: سبب النزول وفعل الصحابة يدل على الجواز. وإنا نجمع بين الآيات الكريمة فنقول: قوله وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ [البقرة: ٢٢١]. عامّ نخصّه بقوله تعالى وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أو نقول: أراد ب الْمُشْرِكاتِ الوثنيات وب الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، ما أفاده الظاهر. أو يكون قوله وَالْمُحْصَناتُ ناسخا لتحريم الكتابيات بقوله: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ. قلنا: نقابل ما ذكرتم بما
روي، أن كعب بن مالك أراد أن
58
يتزوج بيهودية أو نصرانية. فسأل النبيّ ﷺ عن ذلك فقال: إنها لا تحصن ماءك
وروي أنه نهاه عن ذلك. وبأنا نتأوّل قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ فنجمع ونقول: تخصيص المشركات ب الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ متراخ، والبيان لا يجوز أن يتراخى! قالوا:
روى جابر بن عبد الله عن النبيّ ﷺ قال: «أحلّ لنا ذبائح أهل الكتاب وأحل لنا نساؤهم وحرم عليهم أن يتزوجوا نساءنا».
قال في (الشفا) : قال علماؤنا: هذا حديث ضعيف النقل. قالوا:
قوله ﷺ في المجوس: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب»
الخبر أفاد جواز ذبائحهم ونكاح نسائهم.
قلنا: الجواز منسوخ بأدلة التحريم. ثم إنا نقوي أدلتنا بالقياس فنقول: كافرة فأشبهت الحربية، أو لما حرمت الموارثة حرمت المناكحة. أو لما حرم نكاح الكافر للمسلمة حرم العكس. قالوا: لا حكم للاعتبار مع الأدلة. انتهى بحروفه. وهو فقه غريب.
وقوله تعالى: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي: أعطيتموهنّ مهورهنّ. وتقييد الحلّ بإيتائها، لتأكيد وجوبها والحث على ما هو الأولى، مبادرة لفراغ الذمة. فإن شغل الذمة بحق الآدميّ أشدّ من شغلها بحق الله تعالى: مُحْصِنِينَ متعفّفين غَيْرَ مُسافِحِينَ أي: غير مجاهرين بالزنى: وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ مسرين به، و (الخدن) الصديق، يقع على الذكر والأنثى. وحمل المسافحة على إظهار الزنى لظهور مقابله في الإسرار، لتبادره من الخدن وهو الصديق. وقيل: الأول نهي عن الزنى، والثاني نهي عن مخالطتهن. كذا في (العناية).
قال ابن كثير: كما شرط الإحصان في النساء- وهي العفّة عن الزنى- كذلك شرطها في الرجال. وهو أن يكون الرجل أيضا محصنا عفيفا. ولهذا قال: غَيْرَ مُسافِحِينَ وهم الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية ولا يردّون أنفسهم عمّن جاءهم وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ أي: ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلّا معهنّ، كما تقدم في سورة النساء، سواء، ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله- إلى أنه لا يصحّ نكاح المرأة البغي حتى تتوب، وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف. وكذلك لا يصحّ عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنى، لهذه الآية
وللحديث: «لا ينكح الزاني المجلود إلّا مثله»
. وروى ابن جرير «١» : أن عمر بن الخطاب قال: لقد هممت أن لا أدع أحدا
وروي أنه نهاه عن ذلك. وبأنا نتأوّل قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ فنجمع ونقول: تخصيص المشركات ب الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ متراخ، والبيان لا يجوز أن يتراخى! قالوا:
روى جابر بن عبد الله عن النبيّ ﷺ قال: «أحلّ لنا ذبائح أهل الكتاب وأحل لنا نساؤهم وحرم عليهم أن يتزوجوا نساءنا».
قال في (الشفا) : قال علماؤنا: هذا حديث ضعيف النقل. قالوا:
قوله ﷺ في المجوس: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب»
الخبر أفاد جواز ذبائحهم ونكاح نسائهم.
قلنا: الجواز منسوخ بأدلة التحريم. ثم إنا نقوي أدلتنا بالقياس فنقول: كافرة فأشبهت الحربية، أو لما حرمت الموارثة حرمت المناكحة. أو لما حرم نكاح الكافر للمسلمة حرم العكس. قالوا: لا حكم للاعتبار مع الأدلة. انتهى بحروفه. وهو فقه غريب.
وقوله تعالى: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي: أعطيتموهنّ مهورهنّ. وتقييد الحلّ بإيتائها، لتأكيد وجوبها والحث على ما هو الأولى، مبادرة لفراغ الذمة. فإن شغل الذمة بحق الآدميّ أشدّ من شغلها بحق الله تعالى: مُحْصِنِينَ متعفّفين غَيْرَ مُسافِحِينَ أي: غير مجاهرين بالزنى: وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ مسرين به، و (الخدن) الصديق، يقع على الذكر والأنثى. وحمل المسافحة على إظهار الزنى لظهور مقابله في الإسرار، لتبادره من الخدن وهو الصديق. وقيل: الأول نهي عن الزنى، والثاني نهي عن مخالطتهن. كذا في (العناية).
قال ابن كثير: كما شرط الإحصان في النساء- وهي العفّة عن الزنى- كذلك شرطها في الرجال. وهو أن يكون الرجل أيضا محصنا عفيفا. ولهذا قال: غَيْرَ مُسافِحِينَ وهم الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية ولا يردّون أنفسهم عمّن جاءهم وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ أي: ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلّا معهنّ، كما تقدم في سورة النساء، سواء، ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله- إلى أنه لا يصحّ نكاح المرأة البغي حتى تتوب، وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف. وكذلك لا يصحّ عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنى، لهذه الآية
وللحديث: «لا ينكح الزاني المجلود إلّا مثله»
. وروى ابن جرير «١» : أن عمر بن الخطاب قال: لقد هممت أن لا أدع أحدا
(١) الأثر رقم ١١٢٦٧.
59
أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة. فقال له أبيّ بن كعب: يا أمير المؤمنين! الشرك أعظم من ذلك. وقد يقبل منه إذا تاب.
وقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ يريد ب (الإيمان) شرائع الإسلام. على أنه مصدر أريد به المؤمن به، ك (درهم ضرب الأمير). (الكفر) الإباء عنه وجحوده. والآية تذييل لقوله:
كذلك في (العناية).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ لما كان من جملة الإيفاء بالعقود التي افتتحت به هذه السورة إقامة الصلاة، وكانت مشروطة بالطهارة، بيّن سبحانه في هذه الآية كيفيّتها.
قال بعض المفسرين: نزلت في عبد الرحمن وكان جريحا: وقيل: لما احتبس ﷺ في سفر ليلا- بسبب عقد ضاع لعائشة، وأصبحوا على غير ماء. انتهى.
والثاني رواه البخاريّ- كما في- (أسباب النزول) للسيوطيّ- وقد قدمنا الكلام على ذلك في سورة النساء في (آية التيمم) ثمة. فانظره.
ولهذه الآية ثمرات هي أحكام شرعية.
الأولى: وجوب الوضوء وقت القيام إلى الصلاة أي إرادته. فقوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ. كقوله: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل: ٩٨].
وكقولك: إذا ضربت غلامك فهوّن عليه: في أن المراد إرادة الفعل. قال الزمخشريّ:
وقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ يريد ب (الإيمان) شرائع الإسلام. على أنه مصدر أريد به المؤمن به، ك (درهم ضرب الأمير). (الكفر) الإباء عنه وجحوده. والآية تذييل لقوله:
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ | تعظيما لشأن ما أحله الله وما حرّمه، وتغليظا على من خالف ذلك. |
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ لما كان من جملة الإيفاء بالعقود التي افتتحت به هذه السورة إقامة الصلاة، وكانت مشروطة بالطهارة، بيّن سبحانه في هذه الآية كيفيّتها.
قال بعض المفسرين: نزلت في عبد الرحمن وكان جريحا: وقيل: لما احتبس ﷺ في سفر ليلا- بسبب عقد ضاع لعائشة، وأصبحوا على غير ماء. انتهى.
والثاني رواه البخاريّ- كما في- (أسباب النزول) للسيوطيّ- وقد قدمنا الكلام على ذلك في سورة النساء في (آية التيمم) ثمة. فانظره.
ولهذه الآية ثمرات هي أحكام شرعية.
الأولى: وجوب الوضوء وقت القيام إلى الصلاة أي إرادته. فقوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ. كقوله: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل: ٩٨].
وكقولك: إذا ضربت غلامك فهوّن عليه: في أن المراد إرادة الفعل. قال الزمخشريّ:
60
فإن قلت: لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل؟ قلت: لأن الفعل يوجد بقدرة الفاعل عليه وإرادته له، وهو قصده إليه وميله وخلوص داعيه. فكما عبر عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم: الإنسان لا يطير، والأعمى لا يبصر، أي: لا يقدران على الطيران والإبصار. ومنه قوله تعالى: نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ يعني إنا كنا قادرين على الإعادة- كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل، وذلك لأن الفعل مسبب عن القدرة والإرادة. فأقيم المسبب مقام السبب للملابسة بينهما. ولإيجاز الكلام ونحوه، من إقامة المسبب مقام السبب، قولهم: كما تدين تدان. عبّر عن الفعل المتبدأ- الذي هو سبب الجزاء- بلفظ الجزاء الذي هو مسبب عنه.
الثانية: ظاهر الآية وجوب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا. نظرا إلى عموم الَّذِينَ آمَنُوا من غير اختصاص بالمحدثين. والجمهور على خلافه لما
روى الإمام أحمد «١» ومسلم وأهل السنن عن بريدة قال: «كان النبيّ ﷺ يتوضأ عند كل صلاة. فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال: له عمر: يا رسول الله! إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله. قال: إني عمدا فعلته يا عمر».
وروى البخاري «٢» عن سويد بن النعمان قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عام خيبر. حتى إذا كنا بالصهباء صلى لنا رسول الله ﷺ العصر. فلما صلى دعا بالأطعمة. فلم يؤت إلّا بالسويق. فأكلنا وشربنا. ثم قام النبي ﷺ إلى المغرب. فمضمض ثم صلى لنا المغرب ولم يتوضأ.
وروى الإمام أحمد «٣» وأبو داود عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وقد سئل عن وضوء أبيه عبد الله، لكل صلاة، طاهرا أو غير طاهر، عمن هو؟ قال: حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب؟ إنّ عبد الله بن حنظلة بن الغسيل حدثها أن رسول الله ﷺ كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا أو غير طاهر. فلما شقّ ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلّا من حدث.
فكان عبد الله يرى أنه به قوة على ذلك. كان يفعله حتى مات. قال ابن كثير: وفي فعل ابن عمر هذا، ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة، دلالة على استحباب ذلك. كما هو مذهب الجمهور.
الثانية: ظاهر الآية وجوب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا. نظرا إلى عموم الَّذِينَ آمَنُوا من غير اختصاص بالمحدثين. والجمهور على خلافه لما
روى الإمام أحمد «١» ومسلم وأهل السنن عن بريدة قال: «كان النبيّ ﷺ يتوضأ عند كل صلاة. فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال: له عمر: يا رسول الله! إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله. قال: إني عمدا فعلته يا عمر».
وروى البخاري «٢» عن سويد بن النعمان قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عام خيبر. حتى إذا كنا بالصهباء صلى لنا رسول الله ﷺ العصر. فلما صلى دعا بالأطعمة. فلم يؤت إلّا بالسويق. فأكلنا وشربنا. ثم قام النبي ﷺ إلى المغرب. فمضمض ثم صلى لنا المغرب ولم يتوضأ.
وروى الإمام أحمد «٣» وأبو داود عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وقد سئل عن وضوء أبيه عبد الله، لكل صلاة، طاهرا أو غير طاهر، عمن هو؟ قال: حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب؟ إنّ عبد الله بن حنظلة بن الغسيل حدثها أن رسول الله ﷺ كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا أو غير طاهر. فلما شقّ ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلّا من حدث.
فكان عبد الله يرى أنه به قوة على ذلك. كان يفعله حتى مات. قال ابن كثير: وفي فعل ابن عمر هذا، ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة، دلالة على استحباب ذلك. كما هو مذهب الجمهور.
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٥/ ٣٥٠.
(٢) أخرجه البخاريّ في: الوضوء، ٥١- باب من مضمض من السويق ولم يتوضأ، حديث ١٥٨.
(٣) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٥/ ٢٢٥.
وأبو داود في: الطهارة، ٢٥- باب السواك، حديث ٤٨.
(٢) أخرجه البخاريّ في: الوضوء، ٥١- باب من مضمض من السويق ولم يتوضأ، حديث ١٥٨.
(٣) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٥/ ٢٢٥.
وأبو داود في: الطهارة، ٢٥- باب السواك، حديث ٤٨.
61
وقد روى ابن جرير «١» عن ابن سيرين، أن الخلفاء كانوا يتوضؤون لكل صلاة.
وعن عكرمة: أن عليّا- رضي الله عنه- كان يتوضأ عند كل صلاة، ويقرأ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الآية
وعن النزال بن سبرة قال: رأيت عليّا صلى الظهر. ثم قعد للناس في الرحبة. ثم أتى بماء فغسل وجهه ويديه. ثم مسح برأسه ورجليه وقال: هذا وضوء من لم يحدث
وفي رواية: إنه توضأ وضوءا فيه تجوّز فقال: هذا وضوء من لم يحدث
وكذا حكى أنس عن عمر انه فعله، والطرق كلها جيدة. وأما ما رواه أبو داود الطيالسي عن سعيد بن المسيب أنه قال: الوضوء من غير حدث اعتداء- فهو غريب عنه. ثم هو محمول على من اعتقد وجوبه، وأما مشروعيته استحبابا فقد دلت السنة على ذلك. روى الإمام أحمد عن أنس قال: كان النبيّ ﷺ يتوضأ عند كلّ صلاة. قيل له: فأنتم كيف تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم نحدث! ورواه البخاري «٢» وأهل السنن أيضا.
وروى أبو داود «٣» والترمذي وابن ماجة وابن جرير عن ابن عمر مرفوعا: من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات
. وضعفه الترمذي.
وإذا دلت هذه الأحاديث على أن الوضوء لا يجب إلّا على المحدث، فالوجه في الخروج من ظاهر الآية، أن الخطاب فيه خاص بالمحدثين.
وفي (العناية) : الإجماع صرفها عن ظاهرها. فأما أن تكون مقيدة- أي وأنتم محدثون- بقرينة دلالة الحال، ولأنه اشترط الحدث في البدل وهو التيمم- فلو لم يكن له مدخل في الوضوء، مع المدخلية في التيمم، لم يكن البدل بدلا. وقوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً صريح في البدلية. وقيل: في الكلام شرط مقدر. أي: إذا قمتم إلى الصّلاة. إن كنتم محدثين. وإن كنتم جنبا فاطهروا. وهو قريب جدّا. انتهى.
وزعم بعضهم أن الوجوب على كل قائم للصلاة كان في أول الأمر ثم نسخ.
واستدلّ على ذلك بحديث عبد الله بن حنظلة المتقدم. ونظر فيه بحديث: (المائدة من آخر القرآن نزولا) وأجيب بأن الحافظ العراقي قال: لم أجده مرفوعا. هذا، وقال
وعن عكرمة: أن عليّا- رضي الله عنه- كان يتوضأ عند كل صلاة، ويقرأ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الآية
وعن النزال بن سبرة قال: رأيت عليّا صلى الظهر. ثم قعد للناس في الرحبة. ثم أتى بماء فغسل وجهه ويديه. ثم مسح برأسه ورجليه وقال: هذا وضوء من لم يحدث
وفي رواية: إنه توضأ وضوءا فيه تجوّز فقال: هذا وضوء من لم يحدث
وكذا حكى أنس عن عمر انه فعله، والطرق كلها جيدة. وأما ما رواه أبو داود الطيالسي عن سعيد بن المسيب أنه قال: الوضوء من غير حدث اعتداء- فهو غريب عنه. ثم هو محمول على من اعتقد وجوبه، وأما مشروعيته استحبابا فقد دلت السنة على ذلك. روى الإمام أحمد عن أنس قال: كان النبيّ ﷺ يتوضأ عند كلّ صلاة. قيل له: فأنتم كيف تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم نحدث! ورواه البخاري «٢» وأهل السنن أيضا.
وروى أبو داود «٣» والترمذي وابن ماجة وابن جرير عن ابن عمر مرفوعا: من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات
. وضعفه الترمذي.
وإذا دلت هذه الأحاديث على أن الوضوء لا يجب إلّا على المحدث، فالوجه في الخروج من ظاهر الآية، أن الخطاب فيه خاص بالمحدثين.
وفي (العناية) : الإجماع صرفها عن ظاهرها. فأما أن تكون مقيدة- أي وأنتم محدثون- بقرينة دلالة الحال، ولأنه اشترط الحدث في البدل وهو التيمم- فلو لم يكن له مدخل في الوضوء، مع المدخلية في التيمم، لم يكن البدل بدلا. وقوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً صريح في البدلية. وقيل: في الكلام شرط مقدر. أي: إذا قمتم إلى الصّلاة. إن كنتم محدثين. وإن كنتم جنبا فاطهروا. وهو قريب جدّا. انتهى.
وزعم بعضهم أن الوجوب على كل قائم للصلاة كان في أول الأمر ثم نسخ.
واستدلّ على ذلك بحديث عبد الله بن حنظلة المتقدم. ونظر فيه بحديث: (المائدة من آخر القرآن نزولا) وأجيب بأن الحافظ العراقي قال: لم أجده مرفوعا. هذا، وقال
(١) الأثر رقم ١١٣٢٤.
(٢) أخرجه البخاري في: الوضوء، ٥٤- باب الوضوء من غير حدث، حديث ١٦٣.
(٣) أخرجه أبو داود في: الطهارة، ٣٢- باب الرجل يجدد الوضوء من غير حدث، حديث ٦٢.
والترمذي في: الطهارة، ٤٤- باب الوضوء لكل صلاة.
وابن ماجة في: الطهارة، ٧٣- باب الوضوء على الطهارة، حديث ٥١٢.
(٢) أخرجه البخاري في: الوضوء، ٥٤- باب الوضوء من غير حدث، حديث ١٦٣.
(٣) أخرجه أبو داود في: الطهارة، ٣٢- باب الرجل يجدد الوضوء من غير حدث، حديث ٦٢.
والترمذي في: الطهارة، ٤٤- باب الوضوء لكل صلاة.
وابن ماجة في: الطهارة، ٧٣- باب الوضوء على الطهارة، حديث ٥١٢.
62
الزمخشريّ: لا يجوز أن يكون الأمر في الآية شاملا للمحدثين وغيرهم- لهؤلاء على وجه الإيجاب، ولهؤلاء على وجه الندب- لأن تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية. وفي (الانتصاف) : من جوز أن يراد بالمشترك كلّ واحد من معانيه على الجمع، أجاز ذلك في الآية. ومن المجوزين لذلك الشافعي- رحمه الله تعالى- وناهيك بإمام الفنّ وقدوته. وإذا وقع البناء على أن صيغة (أفعل) مشتركة بين الوجوب والندب، صحّ تناولها في الآية للفريقين المحدثين والمتطهرين.
وتناولها للمتطهرين من حيث الندب، والله أعلم.
الثالثة: قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : تمسك بهذه الآية من قال: إنّ الوضوء أول ما فرض بالمدينة، فأمّا ما قبل ذلك، فنقل ابن عبد البرّ اتفاق أهل السير على أن غسل غسل الجنابة إنما فرض على النبي ﷺ وهو بمكة. كما فرضت الصلاة. وأنه لم يصلّ قط إلّا بوضوء قال: وهذا مما لا يجهله عالم.
وقال الحاكم في (المستدرك) : وأهل السنة بهم حاجة إلى دليل الردّ على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة. ثم ساق
حديث ابن عباس: دخلت فاطمة على النبيّ ﷺ وهي تبكي، فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك! فقال: ائتوني بوضوء فتوضأ... الحديث.
قال ابن حجر: وهذا يصلح ردا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذ. وقد جزم ابن الحكم المالكيّ بأنه كان قبل الهجرة مندوبا، وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلّا بالمدينة، وردّ عليهما بما أخرجه ابن لهيعة في (المغازي) التي يرويها عن أبي الأسود- يتيم عروة- عنه أن جبريل علّم النبيّ ﷺ الوضوء عند نزوله عليه بالوحي. وهو مرسل ووصله أحمد «١» من طريق ابن لهيعة أيضا. لكن قال: عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد عن أبيه، وأخرجه ابن ماجة «٢» من رواية رشدين بن سعد، عن عقيل، عن الزهريّ، نحوه. لكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند، وأخرجه الطبرانيّ في (الأوسط) من طريق الليث عن عقيل موصولا، ولو ثبت لكان على شرط الصحيح، لكن المعروف رواية ابن لهيعة. انتهى.
أي: وابن لهيعة يضعف في الحديث.
وتناولها للمتطهرين من حيث الندب، والله أعلم.
الثالثة: قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : تمسك بهذه الآية من قال: إنّ الوضوء أول ما فرض بالمدينة، فأمّا ما قبل ذلك، فنقل ابن عبد البرّ اتفاق أهل السير على أن غسل غسل الجنابة إنما فرض على النبي ﷺ وهو بمكة. كما فرضت الصلاة. وأنه لم يصلّ قط إلّا بوضوء قال: وهذا مما لا يجهله عالم.
وقال الحاكم في (المستدرك) : وأهل السنة بهم حاجة إلى دليل الردّ على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة. ثم ساق
حديث ابن عباس: دخلت فاطمة على النبيّ ﷺ وهي تبكي، فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك! فقال: ائتوني بوضوء فتوضأ... الحديث.
قال ابن حجر: وهذا يصلح ردا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذ. وقد جزم ابن الحكم المالكيّ بأنه كان قبل الهجرة مندوبا، وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلّا بالمدينة، وردّ عليهما بما أخرجه ابن لهيعة في (المغازي) التي يرويها عن أبي الأسود- يتيم عروة- عنه أن جبريل علّم النبيّ ﷺ الوضوء عند نزوله عليه بالوحي. وهو مرسل ووصله أحمد «١» من طريق ابن لهيعة أيضا. لكن قال: عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد عن أبيه، وأخرجه ابن ماجة «٢» من رواية رشدين بن سعد، عن عقيل، عن الزهريّ، نحوه. لكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند، وأخرجه الطبرانيّ في (الأوسط) من طريق الليث عن عقيل موصولا، ولو ثبت لكان على شرط الصحيح، لكن المعروف رواية ابن لهيعة. انتهى.
أي: وابن لهيعة يضعف في الحديث.
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٤/ ١٦١. [.....]
(٢) أخرجه ابن ماجة في: الطهارة، ٥٨- باب ما جاء في النضح بعد الوضوء، حديث ٤٦٢.
(٢) أخرجه ابن ماجة في: الطهارة، ٥٨- باب ما جاء في النضح بعد الوضوء، حديث ٤٦٢.
63
الرابعة: قيل: في الآية دلالة على أن الوضوء لا يجب لغير الصلاة. وأيد بما
رواه أبو داود والنسائي «١» والترمذيّ عن عبد الله بن عباس أن رسول الله ﷺ خرج من الخلاء فقدم إليه طعام فقالوا: ألا نأتيك بوضوء؟ فقال: إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة.
قال الترمذي: حديث حسن.
وروى مسلم «٢» عن ابن عباس قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم. فأتى الخلاء. ثم إنه رجع فأتي بطعام، فقيل: يا رسول الله! ألا تتوضأ؟ فقال: لم أصلّ فأتوضأ.
وأما اشتراط الوضوء لطواف وسجدة التلاوة وصلاة الجنازة ومسّ المصحف- عند من أوجبه- فمن أدلة أخر مقررة في فقه الحديث.
الخامسة: (وجوب غسل الوجه) والغسل إمرار الماء على المحل حتى يسيل عنه، هذا هو المحكيّ عن أكثر الأئمة. زاد بعضهم: مع الدلك. وعن النفس الزكية:
أن مجرد الإمساس يكفي وإن لم يجر. وحدّ الوجه من منابت شعر الرأس إلى منتهى الذقن طولا. ومن الأذن إلى الأذن عرضا. وقد ساق بعض المفسرين هنا مذاهب، فيما يشمله الوجه وما لا يشمله، ومحلها كتب الخلاف.
السادسة: (وجوب غسل اليدين) : وهذا مجمع عليه وأما المرفقان، تثنية مرفق (كمنبر ومجلس) موصل الذراع في العضد، فالجمهور على دخولهما في المغسول وحكي عن زفر وبعض المالكية وأهل الظاهر عدم دخولهما. وسبب الخلاف أن المغيّا ب (إلى) تارة يتضح دخوله في الغاية، وطورا لا، وآونة يحتمل.
قال الزمخشري: (إلى) تفيد معنى الغاية مطلقا، فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل فمما فيه دليل على الخروج قوله: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [البقرة: ٢٨٠]، لأن الإعسار علة الإنظار، وبوجود الميسرة تزول العلة، ولو دخلت الميسرة فيه لكان منظرا في كلتا الحالتين، معسرا وموسرا، وكذلك: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: ١٨٧]. لو دخل الليل لوجب الوصال ومما فيه دليل على الدخول قولك: حفظت القرآن من أوله إلى آخره، لأن الكلام مسوق لحفظ القرآن كله. ومنه قوله تعالى: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء: ١]. لوقوع العلم بأنه لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله
رواه أبو داود والنسائي «١» والترمذيّ عن عبد الله بن عباس أن رسول الله ﷺ خرج من الخلاء فقدم إليه طعام فقالوا: ألا نأتيك بوضوء؟ فقال: إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة.
قال الترمذي: حديث حسن.
وروى مسلم «٢» عن ابن عباس قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم. فأتى الخلاء. ثم إنه رجع فأتي بطعام، فقيل: يا رسول الله! ألا تتوضأ؟ فقال: لم أصلّ فأتوضأ.
وأما اشتراط الوضوء لطواف وسجدة التلاوة وصلاة الجنازة ومسّ المصحف- عند من أوجبه- فمن أدلة أخر مقررة في فقه الحديث.
الخامسة: (وجوب غسل الوجه) والغسل إمرار الماء على المحل حتى يسيل عنه، هذا هو المحكيّ عن أكثر الأئمة. زاد بعضهم: مع الدلك. وعن النفس الزكية:
أن مجرد الإمساس يكفي وإن لم يجر. وحدّ الوجه من منابت شعر الرأس إلى منتهى الذقن طولا. ومن الأذن إلى الأذن عرضا. وقد ساق بعض المفسرين هنا مذاهب، فيما يشمله الوجه وما لا يشمله، ومحلها كتب الخلاف.
السادسة: (وجوب غسل اليدين) : وهذا مجمع عليه وأما المرفقان، تثنية مرفق (كمنبر ومجلس) موصل الذراع في العضد، فالجمهور على دخولهما في المغسول وحكي عن زفر وبعض المالكية وأهل الظاهر عدم دخولهما. وسبب الخلاف أن المغيّا ب (إلى) تارة يتضح دخوله في الغاية، وطورا لا، وآونة يحتمل.
قال الزمخشري: (إلى) تفيد معنى الغاية مطلقا، فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل فمما فيه دليل على الخروج قوله: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [البقرة: ٢٨٠]، لأن الإعسار علة الإنظار، وبوجود الميسرة تزول العلة، ولو دخلت الميسرة فيه لكان منظرا في كلتا الحالتين، معسرا وموسرا، وكذلك: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: ١٨٧]. لو دخل الليل لوجب الوصال ومما فيه دليل على الدخول قولك: حفظت القرآن من أوله إلى آخره، لأن الكلام مسوق لحفظ القرآن كله. ومنه قوله تعالى: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء: ١]. لوقوع العلم بأنه لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله
(١) أخرجه النسائيّ في: الطهارة، ١٠٠- باب الوضوء لكل صلاة.
(٢) أخرجه مسلم في: الحيض، حديث ١١٨- ١٢١.
(٢) أخرجه مسلم في: الحيض، حديث ١١٨- ١٢١.
64
وقوله إِلَى الْمَرافِقِ وإِلَى الْكَعْبَيْنِ لا دليل فيه على أحد الأمرين، فأخذ كافة العلماء بالاحتياط. فحكموا بدخولها في الغسل، وأخذ زفر وداود بالمتيقن، فلم يدخلاها. انتهى.
قال الرضيّ: الأكثر عدم دخول حدّي الابتداء والانتهاء في المحدود. فإذا قلت: اشتريت من هذا الموضع إلى ذلك الموضع، فالموضعان لا يدخلان ظاهرا في الشراء. ويجوز دخولهما فيه مع القرينة وقال بعضهم: ما بعد (إلى) ظاهر الدخول فيما قبلها. فلا تستعمل في غيره إلّا مجازا. وقيل: إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها نحو: أكلت السمكة إلى رأسها، فالظاهر الدخول وإلّا فلا، نحو: أتموا الصيام إلى الليل. والمذهب هو الأول. ثم قيل: بأنها في الآية بمعنى (مع) كقوله تعالى:
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النساء: ٢]. قال الرضي: والتحقيق أنها بمعنى الانتهاء. أي تضيفوها إلى أموالكم، ومضافة إلى المرافق. انتهى.
قال صاحب (النهاية) : وقول من لم يدخل المرافق من جهة الدلالة اللفظية أرجح، وقول من أدخلها من جهة الأثر أبين، لأن
في حديث مسلم «١» مما رواه أبو هريرة: أنه غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد. ثم اليسرى، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق. ثم اليسرى كذلك
. واحتج أهل المذهب
بحديث جابر: أنه ﷺ كان يدير الماء على مرفقيه
. قالوا: ودلالة الآية مجملة. وهذا بيان للمجمل. وبيان المجمل الواجب يكون واجبا. انتهى.
وقال المجد ابن تيمية في (المنتقى) : يتوجه من حديث أبي هريرة وجوب غسل المرفقين لأن نص الكتاب يحتمله، وهو مجمل فيه، وفعله ﷺ بيان لمجمل الكتاب، ومجاوزته للمرفق ليس في محل الإجمال، ليجب بذلك. انتهى.
وأجابوا بأن حديث جابر رواه الدارقطني والبيهقي. وفي إسناده متروك. وقد صرح بضعفه غير واحد من الحفاظ. وحديث أبي هريرة فعل لا ينتهض بمجرده على الوجوب. وقولهم (هو بيان للمجمل) فيه نظر. لأن (إلى) حقيقة في انتهاء الغاية- كما قدمنا- فلا إجمال. والله أعلم.
السابعة: قال الرازي: يقتضي قوله تعالى: إِلَى الْمَرافِقِ تحديد الأمر، لا تحديد المأمور به. يعني أن قوله: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ أمر
قال الرضيّ: الأكثر عدم دخول حدّي الابتداء والانتهاء في المحدود. فإذا قلت: اشتريت من هذا الموضع إلى ذلك الموضع، فالموضعان لا يدخلان ظاهرا في الشراء. ويجوز دخولهما فيه مع القرينة وقال بعضهم: ما بعد (إلى) ظاهر الدخول فيما قبلها. فلا تستعمل في غيره إلّا مجازا. وقيل: إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها نحو: أكلت السمكة إلى رأسها، فالظاهر الدخول وإلّا فلا، نحو: أتموا الصيام إلى الليل. والمذهب هو الأول. ثم قيل: بأنها في الآية بمعنى (مع) كقوله تعالى:
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النساء: ٢]. قال الرضي: والتحقيق أنها بمعنى الانتهاء. أي تضيفوها إلى أموالكم، ومضافة إلى المرافق. انتهى.
قال صاحب (النهاية) : وقول من لم يدخل المرافق من جهة الدلالة اللفظية أرجح، وقول من أدخلها من جهة الأثر أبين، لأن
في حديث مسلم «١» مما رواه أبو هريرة: أنه غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد. ثم اليسرى، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق. ثم اليسرى كذلك
. واحتج أهل المذهب
بحديث جابر: أنه ﷺ كان يدير الماء على مرفقيه
. قالوا: ودلالة الآية مجملة. وهذا بيان للمجمل. وبيان المجمل الواجب يكون واجبا. انتهى.
وقال المجد ابن تيمية في (المنتقى) : يتوجه من حديث أبي هريرة وجوب غسل المرفقين لأن نص الكتاب يحتمله، وهو مجمل فيه، وفعله ﷺ بيان لمجمل الكتاب، ومجاوزته للمرفق ليس في محل الإجمال، ليجب بذلك. انتهى.
وأجابوا بأن حديث جابر رواه الدارقطني والبيهقي. وفي إسناده متروك. وقد صرح بضعفه غير واحد من الحفاظ. وحديث أبي هريرة فعل لا ينتهض بمجرده على الوجوب. وقولهم (هو بيان للمجمل) فيه نظر. لأن (إلى) حقيقة في انتهاء الغاية- كما قدمنا- فلا إجمال. والله أعلم.
السابعة: قال الرازي: يقتضي قوله تعالى: إِلَى الْمَرافِقِ تحديد الأمر، لا تحديد المأمور به. يعني أن قوله: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ أمر
(١) أخرجه مسلم في: الطهارة، حديث ٣٤.
65
بغسل اليدين إلى المرفقين فإيجاب الغسل محدود بهذا الحدّ فبقي الواجب هو هذا القدر فقط، أما نفس الغسل فغير محدود بهذا الحدّ، لأنه ثبت بالأخبار أن تطويل الغرة سنة مؤكدة. انتهى.
الثامنة: أشعر أيضا قوله تعالى: إِلَى الْمَرافِقِ أن ينتهي في غسل اليدين بها، ويبتدأ بالأصابع. قال الحاكم: وقد وردت السنة بذلك، وهو الذي عليه الفقهاء، ولدلالة لفظ (إلى) لأنها للغاية، وغاية الشيء آخره. وقالت الإمامية: السنة أن يبتدئ بالمرفق. وقالوا: إن (إلى) هنا بمعنى (من) قال الحاكم: هذا تقدير فاسد.
التاسعة: ذهب الجمهور إلى أن تقديم اليمين على الشمال سنّة، من خالفها فاته الفضل وتمّ وضوؤه. وذهب العترة والإمامية- كما في (البحر) للمهدي- إلى وجوبه. واحتج عليهم بأن الآية لا تفيد ذلك، فمتى غسلهما مرتبا أو غير مرتب- قدم اليمنى أو اليسرى- فقد امتثل الأمر. وأجابوا بأن الدلالة على الوجوب من السنة،
فقد روى أحمد وأبو داود «١» عن أبي هريرة أن النبيّ ﷺ قال: «إذا لبستم وإذا توضأتم فابدأوا بأيامنكم» !
وأجيب: بأن الأمر للندب
لقوله: إذا لبستم وإذا توضأتم
، فقرن بينه وبين اللبس. فإذن يدل على وجوب التيامن في اللبس كما يدلّ عليه في الوضوء، وهم لا يقولون به. وأيضا
فقد روي عن عليّ عليه السلام أنه قال: ما أبالي بدأت بيميني أو بشمالي إذا أكملت الوضوء. رواه الدّارقطنيّ
. وروى نحوه البيهقيّ وابن أبي شيبة.
وروى أبو عبيد في الطهور: أن أبا هريرة كان يبدأ بميامنه، فبلغ ذلك عليّا فبدأ بمياسره. ورواه أحمد بن حنبل عن عليّ
قال الحافظ ابن حجر:
وفيه انقطاع. وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا. وكذلك الحديث المقترن بالتيامن في اللبس، المجمع على عدم وجوبه، صالح لجعله قرينة تصرف الأمر إلى الندب. ودلالة الاقتران- وإن كانت ضعيفة- لكنها لا تقصر عن الصلاحية للصرف لا سيما مع اعتضادها بقول عليّ عليه السلام وفعله.
العاشرة: ذهب بعض العترة إلى أنه لا مسح على الجبائر. ففي (الأحكام) من كتبهم: إذا جبر على جرح أو كسر وخشي نزع الجبائر ضررا، لا يشرع المسح. قال:
لأنّ الآية تقتضي غسل اليد دون ما عليها. والجمهور منهم ومن غيرهم: أنه يمسح،
لحديث جابر: إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه
الثامنة: أشعر أيضا قوله تعالى: إِلَى الْمَرافِقِ أن ينتهي في غسل اليدين بها، ويبتدأ بالأصابع. قال الحاكم: وقد وردت السنة بذلك، وهو الذي عليه الفقهاء، ولدلالة لفظ (إلى) لأنها للغاية، وغاية الشيء آخره. وقالت الإمامية: السنة أن يبتدئ بالمرفق. وقالوا: إن (إلى) هنا بمعنى (من) قال الحاكم: هذا تقدير فاسد.
التاسعة: ذهب الجمهور إلى أن تقديم اليمين على الشمال سنّة، من خالفها فاته الفضل وتمّ وضوؤه. وذهب العترة والإمامية- كما في (البحر) للمهدي- إلى وجوبه. واحتج عليهم بأن الآية لا تفيد ذلك، فمتى غسلهما مرتبا أو غير مرتب- قدم اليمنى أو اليسرى- فقد امتثل الأمر. وأجابوا بأن الدلالة على الوجوب من السنة،
فقد روى أحمد وأبو داود «١» عن أبي هريرة أن النبيّ ﷺ قال: «إذا لبستم وإذا توضأتم فابدأوا بأيامنكم» !
وأجيب: بأن الأمر للندب
لقوله: إذا لبستم وإذا توضأتم
، فقرن بينه وبين اللبس. فإذن يدل على وجوب التيامن في اللبس كما يدلّ عليه في الوضوء، وهم لا يقولون به. وأيضا
فقد روي عن عليّ عليه السلام أنه قال: ما أبالي بدأت بيميني أو بشمالي إذا أكملت الوضوء. رواه الدّارقطنيّ
. وروى نحوه البيهقيّ وابن أبي شيبة.
وروى أبو عبيد في الطهور: أن أبا هريرة كان يبدأ بميامنه، فبلغ ذلك عليّا فبدأ بمياسره. ورواه أحمد بن حنبل عن عليّ
قال الحافظ ابن حجر:
وفيه انقطاع. وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا. وكذلك الحديث المقترن بالتيامن في اللبس، المجمع على عدم وجوبه، صالح لجعله قرينة تصرف الأمر إلى الندب. ودلالة الاقتران- وإن كانت ضعيفة- لكنها لا تقصر عن الصلاحية للصرف لا سيما مع اعتضادها بقول عليّ عليه السلام وفعله.
العاشرة: ذهب بعض العترة إلى أنه لا مسح على الجبائر. ففي (الأحكام) من كتبهم: إذا جبر على جرح أو كسر وخشي نزع الجبائر ضررا، لا يشرع المسح. قال:
لأنّ الآية تقتضي غسل اليد دون ما عليها. والجمهور منهم ومن غيرهم: أنه يمسح،
لحديث جابر: إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه
(١) أخرجه أبو داود في: اللباس، ٤١- باب في الانتعال، حديث ٤١٤١.
وابن ماجة في: الطهارة، ٤٢- باب التيمن في الوضوء، حديث ٤٠٢.
وابن ماجة في: الطهارة، ٤٢- باب التيمن في الوضوء، حديث ٤٠٢.
66
ويغسل سائر جسده. رواه أبو داود «١» والدّارقطنيّ
. وصححه ابن السكن.
الحادية عشرة: (وجوب مسح الرأس) :
والمسح إمساس المحل الماء بحيث لا يسيل، والباء في قوله تعالى:
بِرُؤُسِكُمْ تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق، فكأنه قيل: وألصقوا المسح برءوسكم قال الزمخشري: وماسح بعض الرأس ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح برأسه. أي: فيكون الواجب مطلق المسح كلا أو بعضا- وأيّا ما كان- وقع به الامتثال. والسنة الصحيحة وردت بالبيان، وفيها ما يفيد جواز الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات كما في صحيح مسلم «٢» وغيره من حديث المغيرة، أنه ﷺ أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة «٣»، أنه مسح رأسه فأقبل وأدبر. وهذه هي الهيئة التي استمرّ عليها صلى الله عليه وسلم. فاقتضى هذا أفضلية الهيئة التي كان ﷺ يداوم عليها. وهي: مسح الرأس مقبلا ومدبرا. وإجزاء غيرها في بعض الأحوال. ولا يخفى أن الآية لا تفيد إيقاع المسح على جميع الرأس. كما في نظائره من الأفعال. نحو: ضربت رأس زيد،
. وصححه ابن السكن.
الحادية عشرة: (وجوب مسح الرأس) :
والمسح إمساس المحل الماء بحيث لا يسيل، والباء في قوله تعالى:
بِرُؤُسِكُمْ تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق، فكأنه قيل: وألصقوا المسح برءوسكم قال الزمخشري: وماسح بعض الرأس ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح برأسه. أي: فيكون الواجب مطلق المسح كلا أو بعضا- وأيّا ما كان- وقع به الامتثال. والسنة الصحيحة وردت بالبيان، وفيها ما يفيد جواز الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات كما في صحيح مسلم «٢» وغيره من حديث المغيرة، أنه ﷺ أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة «٣»، أنه مسح رأسه فأقبل وأدبر. وهذه هي الهيئة التي استمرّ عليها صلى الله عليه وسلم. فاقتضى هذا أفضلية الهيئة التي كان ﷺ يداوم عليها. وهي: مسح الرأس مقبلا ومدبرا. وإجزاء غيرها في بعض الأحوال. ولا يخفى أن الآية لا تفيد إيقاع المسح على جميع الرأس. كما في نظائره من الأفعال. نحو: ضربت رأس زيد،
(١)
أخرجه أبو داود في: الطهارة، ١٢٥- باب في المجروح يتيمم، حديث ٣٣٦ ونصه: عن جابر قال: خرجنا في سفر. فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه. ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات.
فلما قدمنا على النبيّ ﷺ أخبر بذلك. فقال «قتلوه، قتلهم الله. ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العيّ السؤال. إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر (أو يعصب) على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده».
(٢)
أخرجه مسلم في: الطهارة، حديث ٨١، ونصه: عن المغيرة قال: تخلف رسول الله ﷺ وتخلفت معه. فلما قضى حاجته قال «أمعك ماء» ؟ فأتيته بمطهرة. فغسل كفيه ووجهه. ثم ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كمّ الجبة. فأخرج يده من تحت الجبة. وألقى الجبة على منكبيه. وغسل ذراعيه. ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خفيه. ثم ركب وركبت. فانتهينا إلى القوم وقد قاموا في الصلاة. يصلي بهم عبد الرحمن بن عوف وقد ركع بهم ركعة. فلما أحسّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ذهب يتأخر. فأومأ إليه. فصلّى بهم. فلما سلّم قام النبيّ ﷺ وقمت. فركعنا الركعة التي سبقتنا
. (٣)
أخرجه في البخاري في: الوضوء، ٣٨- باب مسح الرأس كله لقول الله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ، حديث ١٤٦ ونصه: أن رجلا قال لعبد الله بن زيد (وهو جدّ عمرو بن يحيى) :
أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله ﷺ يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم.
فدعا بماء فأفرغ على يديه فغسل مرتين. ثم مضمض واستنثر ثلاثا. ثم غسل وجهه ثلاثا. ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين. ثم مسح رأسه بيديه. فأقبل بهما وأدبر. بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه. ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه. ثم غسل رجليه.
أخرجه أبو داود في: الطهارة، ١٢٥- باب في المجروح يتيمم، حديث ٣٣٦ ونصه: عن جابر قال: خرجنا في سفر. فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه. ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات.
فلما قدمنا على النبيّ ﷺ أخبر بذلك. فقال «قتلوه، قتلهم الله. ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العيّ السؤال. إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر (أو يعصب) على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده».
(٢)
أخرجه مسلم في: الطهارة، حديث ٨١، ونصه: عن المغيرة قال: تخلف رسول الله ﷺ وتخلفت معه. فلما قضى حاجته قال «أمعك ماء» ؟ فأتيته بمطهرة. فغسل كفيه ووجهه. ثم ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كمّ الجبة. فأخرج يده من تحت الجبة. وألقى الجبة على منكبيه. وغسل ذراعيه. ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خفيه. ثم ركب وركبت. فانتهينا إلى القوم وقد قاموا في الصلاة. يصلي بهم عبد الرحمن بن عوف وقد ركع بهم ركعة. فلما أحسّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ذهب يتأخر. فأومأ إليه. فصلّى بهم. فلما سلّم قام النبيّ ﷺ وقمت. فركعنا الركعة التي سبقتنا
. (٣)
أخرجه في البخاري في: الوضوء، ٣٨- باب مسح الرأس كله لقول الله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ، حديث ١٤٦ ونصه: أن رجلا قال لعبد الله بن زيد (وهو جدّ عمرو بن يحيى) :
أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله ﷺ يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم.
فدعا بماء فأفرغ على يديه فغسل مرتين. ثم مضمض واستنثر ثلاثا. ثم غسل وجهه ثلاثا. ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين. ثم مسح رأسه بيديه. فأقبل بهما وأدبر. بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه. ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه. ثم غسل رجليه.
67
وبرأسه. وضربت زيدا وضربت يد زيد. فإنه يوجد المعنى اللغويّ في جميع ذلك، بوجود الضرب على جزء من الأجزاء المذكورة. وهكذا ما في الآية. وليس النزاع في مسمى الرأس لغة، حتى يقال: إنه حقيقة في جميعه. بل النزاع في إيقاع المسح عليه. وعلى فرض الإجمال، فقد بينه الشارع تارة بمسح الجميع، وتارة بمسح البعض، بخلاف الوجه. فإنه لم يقتصر على غسل بعضه في حال من الأحوال، بل غسله جميعا. وأما اليدان والرجلان فقد صرح فيهما بالغاية. فإن قلت: إن المسح ليس كالضرب الذي مثلت به. قلت: لا ينكر أحد من أهل اللغة أنه يصدق قول من قال (مسحت الثوب أو بالثوب. أو مسحت الحائط أو بالحائط) على مسح جزء من أجزاء الثوب أو الحائط. وإنكار مثل هذا مكابرة. كذا في (الروضة).
قال شمس الدين بن القيّم في (الهدى) : ولم يصحّ عنه ﷺ في حديث واحد، أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة. ولكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة. فأما
حديث أنس الذي رواه أبو داود «١» : رأيت رسول الله ﷺ يتوضأ وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة-
فهذا مقصود أنس به أن النبي ﷺ لم ينقض عمامته حتى يستوعب مسح الرأس الشعر كله. ولم ينف التكميل على العمامة. وقد أثبته المغيرة بن شعبة وغيره.
فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه. انتهى.
قال الشوكانيّ: ليس النزاع إلا في الوجوب. وأحاديث التعميم، وإن كانت أصح، وفيها زيادة وهي مقبولة- لكن أين دليل الوجوب؟ وليس إلّا مجرد الفعل.
وهو لا يدل على الوجوب. ثم قال: وبعد هذا، فلا شك في أولوية استيعاب المسح لجميع الرأس وصحة أحاديثه. ولكن دون الجزم بالوجوب، مفاوز وعقاب.
وأما قوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. فقرأه بالنصب نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب. وبالجرّ الباقون، ومن هاتين القراءتين تشعبت المذاهب في صفة طهارة الرجلين. فمن ذاهب إلى أن طهارتهما الغسل. ومن ذاهب إلى أنها المسح. ومن مخيّر بينهما. ولكلّ من هذه المذاهب حجج وتأويلات وأجوبة ومناقشات نسوق شذرة منها.
قال شمس الدين بن القيّم في (الهدى) : ولم يصحّ عنه ﷺ في حديث واحد، أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة. ولكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة. فأما
حديث أنس الذي رواه أبو داود «١» : رأيت رسول الله ﷺ يتوضأ وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة-
فهذا مقصود أنس به أن النبي ﷺ لم ينقض عمامته حتى يستوعب مسح الرأس الشعر كله. ولم ينف التكميل على العمامة. وقد أثبته المغيرة بن شعبة وغيره.
فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه. انتهى.
قال الشوكانيّ: ليس النزاع إلا في الوجوب. وأحاديث التعميم، وإن كانت أصح، وفيها زيادة وهي مقبولة- لكن أين دليل الوجوب؟ وليس إلّا مجرد الفعل.
وهو لا يدل على الوجوب. ثم قال: وبعد هذا، فلا شك في أولوية استيعاب المسح لجميع الرأس وصحة أحاديثه. ولكن دون الجزم بالوجوب، مفاوز وعقاب.
فصل
وأما قوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. فقرأه بالنصب نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب. وبالجرّ الباقون، ومن هاتين القراءتين تشعبت المذاهب في صفة طهارة الرجلين. فمن ذاهب إلى أن طهارتهما الغسل. ومن ذاهب إلى أنها المسح. ومن مخيّر بينهما. ولكلّ من هذه المذاهب حجج وتأويلات وأجوبة ومناقشات نسوق شذرة منها.
(١) أخرجه أبو داود في: الطهارة، ٥٨- باب المسح على العمامة، حديث ١٤٧.
68
فنقول: قال الأولون: قراءة النصب ظاهرها يفيد الغسل. وقراءة الجرّ ظاهرها يفيد المسح. إلّا أنه لما وجد ما يرجح الغسل تأولنا ما أفادته قراءة الجرّ في الظاهر.
والمرجح للغسل أمور.
منها: ما في (الصحيحين) «١» و (السنن) عن عثمان وعليّ وابن عباس ومعاوية وعبد الله بن زيد بن عاصم والمقداد بن معد يكرب أن رسول الله ﷺ غسل الرجلين في وضوئه، إما مرة وإما مرتين أو ثلاثا. على اختلاف رواياتهم.
وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أنّ رسول الله ﷺ توضأ فغسل قدميه ثم قال:
هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلّا به.
وفي (الصحيحين) «٢» عن عبد الله بن عمرو قال: تخلف عنا رسول الله ﷺ في سفره. فأدركنا وقد أرهقنا العصر. فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا. قال، فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار. مرتين أو ثلاثا. وكذلك هو في (الصحيحين) «٣» عن أبي هريرة.
وفي (صحيح مسلم) «٤» عن عائشة عن النبيّ ﷺ أنه قال: «أسبغوا الوضوء. ويل للأعقاب من النار»
وروى البيهقي والحاكم، بإسناد صحيح، عن عبد الله بن الحارث بن جزء أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار.
وروى الإمام أحمد «٥» وابن ماجة «٦» وابن جرير «٧» عن جابر بن عبد الله قال: رأى النبيّ ﷺ في رجل رجل مثل الدرهم لم يغسله، فقال: ويل للأعقاب من النار.
والمرجح للغسل أمور.
منها: ما في (الصحيحين) «١» و (السنن) عن عثمان وعليّ وابن عباس ومعاوية وعبد الله بن زيد بن عاصم والمقداد بن معد يكرب أن رسول الله ﷺ غسل الرجلين في وضوئه، إما مرة وإما مرتين أو ثلاثا. على اختلاف رواياتهم.
وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أنّ رسول الله ﷺ توضأ فغسل قدميه ثم قال:
هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلّا به.
وفي (الصحيحين) «٢» عن عبد الله بن عمرو قال: تخلف عنا رسول الله ﷺ في سفره. فأدركنا وقد أرهقنا العصر. فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا. قال، فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار. مرتين أو ثلاثا. وكذلك هو في (الصحيحين) «٣» عن أبي هريرة.
وفي (صحيح مسلم) «٤» عن عائشة عن النبيّ ﷺ أنه قال: «أسبغوا الوضوء. ويل للأعقاب من النار»
وروى البيهقي والحاكم، بإسناد صحيح، عن عبد الله بن الحارث بن جزء أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار.
وروى الإمام أحمد «٥» وابن ماجة «٦» وابن جرير «٧» عن جابر بن عبد الله قال: رأى النبيّ ﷺ في رجل رجل مثل الدرهم لم يغسله، فقال: ويل للأعقاب من النار.
(١) أخرجه البخاريّ في: الوضوء، ٢٢- باب الوضوء مرة مرة، حديث ١٢٨ عن ابن عباس.
و٢٣- باب الوضوء مرتين مرتين، حديث ١٢٩ عن عبد الله بن زيد.
و٢٤- باب الوضوء ثلاثا ثلاثا، حديث ١٣٠ عن عثمان بن عفان.
(٢) أخرجه البخاري في: الوضوء، ٢٧- باب غسل الرجلين، ولا يمسح على القدمين، حديث ٥٣.
ومسلم في: الطهارة، حديث ٢٦.
(٣) أخرجه البخاري في: الوضوء، ٢٩- باب غسل الأعقاب، حديث ١٣٢.
ومسلم في: الطهارة، حديث ٢٨.
(٤) أخرجه مسلم في: الطهارة، حديث ٢٥.
(٥) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣/ ٣٩٠.
وأخرجه أبو داود في: الطهارة، ٦٦- باب تفريق الوضوء، حديث ١٧٥، عن خالد عن بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم. [.....]
(٦) أخرجه ابن ماجة في: الطهارة وسننها، ٥٥- باب غسل العراقيب، حديث ٤٥٤.
(٧) الأثر رقم ١١٥١٣.
و٢٣- باب الوضوء مرتين مرتين، حديث ١٢٩ عن عبد الله بن زيد.
و٢٤- باب الوضوء ثلاثا ثلاثا، حديث ١٣٠ عن عثمان بن عفان.
(٢) أخرجه البخاري في: الوضوء، ٢٧- باب غسل الرجلين، ولا يمسح على القدمين، حديث ٥٣.
ومسلم في: الطهارة، حديث ٢٦.
(٣) أخرجه البخاري في: الوضوء، ٢٩- باب غسل الأعقاب، حديث ١٣٢.
ومسلم في: الطهارة، حديث ٢٨.
(٤) أخرجه مسلم في: الطهارة، حديث ٢٥.
(٥) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣/ ٣٩٠.
وأخرجه أبو داود في: الطهارة، ٦٦- باب تفريق الوضوء، حديث ١٧٥، عن خالد عن بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم. [.....]
(٦) أخرجه ابن ماجة في: الطهارة وسننها، ٥٥- باب غسل العراقيب، حديث ٤٥٤.
(٧) الأثر رقم ١١٥١٣.
69
قال ابن كثير: ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهرة. وذلك أنه لو كان فرض الرجلين مسحهما، أو أنّه يجوز ذلك، لما توعد على تركه، لأن المسح لا يستوعب جميع الرّجل. بل يجري فيه ما يجري في مسح الخف.
وروى الإمام أحمد «١» عن خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبيّ: «أن النبيّ ﷺ رأى رجلا يصلّي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم، لم يصبها الماء. فأمره رسول الله ﷺ أن يعيد الوضوء». زاد أبو داود: والصلاة.
وروى الإمام أحمد «٢» عن أبي أمامة قال: حدثنا عمرو بن عبسة قال: «قلت: يا رسول الله! أخبرني عن الوضوء، قال: ما منكم من أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر، إلّا خرّت خطاياه من فمه وخياشيمه مع الماء حين ينتثر. ثم يغسل وجهه كما أمره الله إلّا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء. ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلّا خرت خطايا يديه من أطراف أنامله. ثم يمسح رأسه إلّا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء. ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمر الله إلّا خرت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء. ثم يقوم فيحمد الله ويثني بالذي هو له أهل، ثم يركع ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه».
قال أبو أمامة: يا عمرو! انظر ما تقول. سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
أيعطى هذا الرجل كله في مقامه؟ قال عمرو بن عبسة: يا أبا أمامة! لقد كبر سني ورقّ عظمي واقترب أجلي. وما بي حاجة أن أكذب على الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لو لم أسمعه من رسول الله ﷺ إلّا مرة أو مرتين أو ثلاثا. لقد سمعته سبع مرات أو أكثر من ذلك..
قال ابن كثير: وإسناده صحيح وهو
في (صحيح مسلم) «٣» من وجه آخر، وفيه: ثم يغسل قدميه كما أمره الله.
فدلّ على أن القرآن يأمر بالغسل. وهكذا
روى أبو إسحاق السبيعيّ عن الحارث عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أمرتم
. ومن هاهنا يتضح لك المراد من
حديث عبد خير عن عليّ، «أن رسول الله ﷺ رش على قدميه الماء وهما في النعلين فدلكهما. إنما أراد غسلا خفيفا وهما في النعلين»
. ولا مانع من إيجاد الغسل والرّجل في نعلها. ويكون في
وروى الإمام أحمد «١» عن خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبيّ: «أن النبيّ ﷺ رأى رجلا يصلّي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم، لم يصبها الماء. فأمره رسول الله ﷺ أن يعيد الوضوء». زاد أبو داود: والصلاة.
وروى الإمام أحمد «٢» عن أبي أمامة قال: حدثنا عمرو بن عبسة قال: «قلت: يا رسول الله! أخبرني عن الوضوء، قال: ما منكم من أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر، إلّا خرّت خطاياه من فمه وخياشيمه مع الماء حين ينتثر. ثم يغسل وجهه كما أمره الله إلّا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء. ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلّا خرت خطايا يديه من أطراف أنامله. ثم يمسح رأسه إلّا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء. ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمر الله إلّا خرت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء. ثم يقوم فيحمد الله ويثني بالذي هو له أهل، ثم يركع ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه».
قال أبو أمامة: يا عمرو! انظر ما تقول. سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
أيعطى هذا الرجل كله في مقامه؟ قال عمرو بن عبسة: يا أبا أمامة! لقد كبر سني ورقّ عظمي واقترب أجلي. وما بي حاجة أن أكذب على الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لو لم أسمعه من رسول الله ﷺ إلّا مرة أو مرتين أو ثلاثا. لقد سمعته سبع مرات أو أكثر من ذلك..
قال ابن كثير: وإسناده صحيح وهو
في (صحيح مسلم) «٣» من وجه آخر، وفيه: ثم يغسل قدميه كما أمره الله.
فدلّ على أن القرآن يأمر بالغسل. وهكذا
روى أبو إسحاق السبيعيّ عن الحارث عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أمرتم
. ومن هاهنا يتضح لك المراد من
حديث عبد خير عن عليّ، «أن رسول الله ﷺ رش على قدميه الماء وهما في النعلين فدلكهما. إنما أراد غسلا خفيفا وهما في النعلين»
. ولا مانع من إيجاد الغسل والرّجل في نعلها. ويكون في
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣/ ٤٢٤.
وأخرجه أبو داود في: الطهارة، ٦٦- باب تفريق الوضوء، حديث ١٧٥.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند (من حديث طويل) ٤/ ١١٤.
(٣) أخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث ٢٩٤.
وأخرجه أبو داود في: الطهارة، ٦٦- باب تفريق الوضوء، حديث ١٧٥.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند (من حديث طويل) ٤/ ١١٤.
(٣) أخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث ٢٩٤.
70
هذا ردّ على المتعمقين والمتنطعين من الموسوسين. وهكذا ما
رواه ابن جرير «١» عن حذيفة قال: أتى رسول الله ﷺ سباطة قوم فبال قائما ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه
. وهو حديث صحيح. وقد أجاب ابن جرير عنه: بأن الثقات الحفاظ رووه عن حذيفة: فبال قائما ثم توضأ ومسح على خفيه. قال ابن كثير: ويحتمل الجمع بينهما. بأن يكون في رجليه خفان وعليهما نعلان.
وهكذا
الحديث الذي رواه الإمام أحمد «٢» عن أوس بن أبي أوس قال: «رأيت رسول الله ﷺ توضأ ومسح على نعليه ثم قام إلى الصلاة».
ورواه أبو داود «٣» عنه بلفظ: «رأيت رسول الله ﷺ أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على نعليه وقدميه».
ثم قال الجمهور: إن قراءة الجرّ محمولة على الجوّ الجواريّ. ونظيره كثير في القرآن والشعر. كقوله تعالى: عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ [هود: ٢٦] و: حُورٌ عِينٌ [الواقعة: ٢٢] بالجرّ في قراءة حمزة والكسائيّ عطفا على بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ [الواقعة: ١٨] والمعنى مختلف. إذ ليس المعنى: يطوف عليهم ولدان مخلدون بحور عين. وكقولهم: جحر ضب خرب، وللنحاة باب في ذلك. حتى تعدوا، من اعتباره في الإعراب، إلى التثنية والتأنيث وغير ذلك. وقد ساق شذرة من أشباهه ونظائره أبو البقاء هنا. فانظره. وما قيل بأن حرف العطف مانع من الجوار (زعما بأنه خاص بالنعت والتأكيد) مردود بأنه ورد في العطف كثيرا في كلام العرب. قال الشاعر:
فخفض (موثقا) بالمجاورة للمنفلت. وحقه الرفع عطفا على (أسير). وقال:
فجرّ (فخاطب) للمجاورة. وحقه الرفع عطفا على (راحل). وكفى في الردّ قراءة (وحور) بالجرّ كما قدّمنا. قالوا: وشرط حسن الجرّ الجواريّ عدم الإلباس مع تضمن نكتة. وهنا كذلك. فإن الغاية دلت أنه ليس بممسوح. إذ المسح لم تضرب له غاية في الشريعة. والنكتة فيه الإشارة إلى تخفيفه حتى كأنه مسح.
رواه ابن جرير «١» عن حذيفة قال: أتى رسول الله ﷺ سباطة قوم فبال قائما ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه
. وهو حديث صحيح. وقد أجاب ابن جرير عنه: بأن الثقات الحفاظ رووه عن حذيفة: فبال قائما ثم توضأ ومسح على خفيه. قال ابن كثير: ويحتمل الجمع بينهما. بأن يكون في رجليه خفان وعليهما نعلان.
وهكذا
الحديث الذي رواه الإمام أحمد «٢» عن أوس بن أبي أوس قال: «رأيت رسول الله ﷺ توضأ ومسح على نعليه ثم قام إلى الصلاة».
ورواه أبو داود «٣» عنه بلفظ: «رأيت رسول الله ﷺ أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على نعليه وقدميه».
ثم قال الجمهور: إن قراءة الجرّ محمولة على الجوّ الجواريّ. ونظيره كثير في القرآن والشعر. كقوله تعالى: عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ [هود: ٢٦] و: حُورٌ عِينٌ [الواقعة: ٢٢] بالجرّ في قراءة حمزة والكسائيّ عطفا على بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ [الواقعة: ١٨] والمعنى مختلف. إذ ليس المعنى: يطوف عليهم ولدان مخلدون بحور عين. وكقولهم: جحر ضب خرب، وللنحاة باب في ذلك. حتى تعدوا، من اعتباره في الإعراب، إلى التثنية والتأنيث وغير ذلك. وقد ساق شذرة من أشباهه ونظائره أبو البقاء هنا. فانظره. وما قيل بأن حرف العطف مانع من الجوار (زعما بأنه خاص بالنعت والتأكيد) مردود بأنه ورد في العطف كثيرا في كلام العرب. قال الشاعر:
لم يبق إلّا أسير غير منفلت | وموثق في عقال الأسر مكبول |
فهل أنت- إن ماتت أتانك- راحل | إلى آل بسطام بن قيس فخاطب |
(١) الأثر رقم ١١٥٢٨.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٤/ ٨.
(٣) أخرجه أبو داود في: الطهارة، ٦٢- باب المسح على الجوربين. حديث ١٦٠.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٤/ ٨.
(٣) أخرجه أبو داود في: الطهارة، ٦٢- باب المسح على الجوربين. حديث ١٦٠.
71
قال الناصر في (الانتصاف) : والوجه فيه أن الغسل والمسح متقاربان، من حيث إن كل واحد منهما إمساس بالعضو. فيسهل عطف المغسول على المسوح من ثمّ- كقوله: متقلدا سيفا ورمحا. وعلفتها تبنا وماء باردا- ونظائره كثيرة. وبهذا وجّه الحذاق. ثم يقال: ما فائدة هذا التشريك بعلة التقارب؟ وهلا أسند إلى كل واحد منهما الفعل الخاصّ به على الحقيقة؟ فيقال: فائدته الإيجاز والاختصار وتوكيد الفائدة- بما ذكره الزمخشريّ- أي: من أنّ الأرجل لما كانت مظنة للإسراف المذموم المنهيّ عنه، فعطف على الرابع المسوح، لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صبّ الماء عليها. ثم قال الناصر: وتحقيقه أن الأصل أن يقال مثلا: واغسلوا أرجلكم غسلا خفيفا لا إسراف فيه كما هو المعتاد، فاختصرت هذه المقاصد بإشراكه الأرجل مع الممسوح. ونبه بهذا التشريك، الذي لا يكون إلّا في الفعل الواحد أو الفعلين المتقاربين جدّا، على أن الغسل المطلوب في الأرجل، غسل خفيف يقارب المسح. وحسن إدراجه معه تحت صيغة واحدة. انتهى.
وأما من أوجب الجمع بين المسح والغسل فأخذا بالجمع بين القراءتين. ومراد من ذهب إلى وجوب الجمع بين غسل الرجلين ومسحهما. فحكاه من حكاه كذلك. ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء، وهو معذور. فإنه لا معنى للجمع بين المسح والغسل سواء تقدمه أو تأخر عليه لاندراجه فيه. وإنما أراد ما ذكرته والله أعلم. ثم تأملت كلامه أيضا فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين في قوله:
وَأَرْجُلَكُمْ خفضا على المسح وهو الدلك، ونصبا على الغسل، فأوجبهما أخذا بالجمع بين هذه وهذه. انتهى.
وأما من قال: الوجب هو المسح، فتمسك بقراءة الجر، وهو مذهب الإمامية.
وأجابوا عن قراء النصب بأنها مقتضية للمسح أيضا. وقد وقفت على كتاب (شرح المقنعة) من كتبهم فوجدته أطنب في هذا البحث، ووجه اقتضاء النصب للمسح بأن موضع الرؤوس موضع نصب لوقوع الفعل، الذي هو المسح عليه. قال: وعلى هذا لا ينكر أن يعطف الأرجل على موضع الرؤوس لا لفظها فينصب، والعطف على الموضع جائز مشهور في لغة العرب. ثم ساق الشواهد في ذلك وقال بعد: فإن قيل:
ما أنكرتم أن تكون القراءة بالنصب لا تقتضي الغسل، فلا تحتمل المسح. لأن عطف الأرجل على مواضع الرؤوس في الإيجاب توسّع وتجوّز. والظاهر والحقيقة يوجبان عطفها على اللفظ لا الموضع، قلنا: ليس الأمر على ما توهمتم، بل العطف على الموضع مستحسن في لغة العرب، وجائز لا على سبيل الاتساع والعدول عن
وأما من أوجب الجمع بين المسح والغسل فأخذا بالجمع بين القراءتين. ومراد من ذهب إلى وجوب الجمع بين غسل الرجلين ومسحهما. فحكاه من حكاه كذلك. ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء، وهو معذور. فإنه لا معنى للجمع بين المسح والغسل سواء تقدمه أو تأخر عليه لاندراجه فيه. وإنما أراد ما ذكرته والله أعلم. ثم تأملت كلامه أيضا فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين في قوله:
وَأَرْجُلَكُمْ خفضا على المسح وهو الدلك، ونصبا على الغسل، فأوجبهما أخذا بالجمع بين هذه وهذه. انتهى.
وأما من قال: الوجب هو المسح، فتمسك بقراءة الجر، وهو مذهب الإمامية.
وأجابوا عن قراء النصب بأنها مقتضية للمسح أيضا. وقد وقفت على كتاب (شرح المقنعة) من كتبهم فوجدته أطنب في هذا البحث، ووجه اقتضاء النصب للمسح بأن موضع الرؤوس موضع نصب لوقوع الفعل، الذي هو المسح عليه. قال: وعلى هذا لا ينكر أن يعطف الأرجل على موضع الرؤوس لا لفظها فينصب، والعطف على الموضع جائز مشهور في لغة العرب. ثم ساق الشواهد في ذلك وقال بعد: فإن قيل:
ما أنكرتم أن تكون القراءة بالنصب لا تقتضي الغسل، فلا تحتمل المسح. لأن عطف الأرجل على مواضع الرؤوس في الإيجاب توسّع وتجوّز. والظاهر والحقيقة يوجبان عطفها على اللفظ لا الموضع، قلنا: ليس الأمر على ما توهمتم، بل العطف على الموضع مستحسن في لغة العرب، وجائز لا على سبيل الاتساع والعدول عن
72
الحقيقة. فالمتكلم مخير بين حمل الإعراب على اللفظ تارة، وبين حمله على الموضع أخرى. قال: وهذا ظاهر في العربية مشهور عند أهلها، وفي القرآن والشعر له نظائر كثيرة. ثم قال: على أنّا لو سلمنا أن العطف على اللفظ أقوى، لكان عطف الأرجل على موضع الرؤوس أولى، مع القراءة بالنصب، لأن نصب الأرجل لا يكون إلّا على أحد وجهين: إما بأن يعطف على الأيدي والوجوه في الغسل، أو يعطف على موضع الرؤوس فينصب، ويكون حكمها المسح. وعطفها على موضع الرؤوس أولى.
وذلك أن الكلام إذا حصل فيه عاملان، أحدهما قريب والآخر بعيد، فإعمال الأقرب أولى من إعمال الأبعد. وقد نص أهل العربية على هذا في باب التنازع. انتهى. فتأمّل جدلهم.
قال الحافظ ابن كثير: وقد روي عن طائفة من السلف القول بالمسح: فروى ابن جرير «١» عن حميد قال: قال موسى بن أنس ونحن عنده: يا أبا حمزة! إن الحجاج خطبنا بالأهواز، ونحن معه. فذكر الطهور فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلكم. وإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه.
فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما. فقال أنس: صدق الله وكذب الحجاج. قال الله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ.
قال: وكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما.
قال ابن كثير: إسناده صحيح إليه.
وروى ابن جرير «٢» أيضا عن عاصم عن أنس قال: نزل القرآن بالمسح، والسنة بالغسل. وإسناده صحيح أيضا.
وأسند «٣» أيضا عن عكرمة عن ابن عباس قال: الوضوء غسلتان ومسحتان.
وكذا روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ، قال: هو المسح. ثم قال: وروى ابن عمر وعلقمة وأبي جعفر محمد بن عليّ والحسن (في إحدى الروايات) وجابر بن يزيد ومجاهد (في إحدى الروايتين) نحوه.
وذلك أن الكلام إذا حصل فيه عاملان، أحدهما قريب والآخر بعيد، فإعمال الأقرب أولى من إعمال الأبعد. وقد نص أهل العربية على هذا في باب التنازع. انتهى. فتأمّل جدلهم.
قال الحافظ ابن كثير: وقد روي عن طائفة من السلف القول بالمسح: فروى ابن جرير «١» عن حميد قال: قال موسى بن أنس ونحن عنده: يا أبا حمزة! إن الحجاج خطبنا بالأهواز، ونحن معه. فذكر الطهور فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلكم. وإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه.
فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما. فقال أنس: صدق الله وكذب الحجاج. قال الله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ.
قال: وكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما.
قال ابن كثير: إسناده صحيح إليه.
وروى ابن جرير «٢» أيضا عن عاصم عن أنس قال: نزل القرآن بالمسح، والسنة بالغسل. وإسناده صحيح أيضا.
وأسند «٣» أيضا عن عكرمة عن ابن عباس قال: الوضوء غسلتان ومسحتان.
وكذا روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ، قال: هو المسح. ثم قال: وروى ابن عمر وعلقمة وأبي جعفر محمد بن عليّ والحسن (في إحدى الروايات) وجابر بن يزيد ومجاهد (في إحدى الروايتين) نحوه.
(١) الأثر رقم ١١٤٧٥.
(٢) الأثر رقم ١١٤٧٦.
(٣) الأثر رقم ١١٤٧٤.
(٢) الأثر رقم ١١٤٧٦.
(٣) الأثر رقم ١١٤٧٤.
73
وروى ابن جرير «١» عن أيوب قال: رأيت عكرمة يمسح على رجليه. وعن الشعبيّ «٢» قال: نزل جبريل بالمسح. ألا ترى أنّ التيمم، أن يسمح ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحا؟
وأما من ذهب إلى التخيير، فقال: لما جاءت القراءة بما يوجب الغسل وبما يوجب المسح، دلّ على أنه مخيّر. قال في (الشفا) : القراءتان لا توجبان الجمع، بل تثبتان التخيير.
ولا يخفى أن ظاهر الآية صريح في أن واجبهما المسح. كما قال ابن عباس وغيره. وإيثار غسلهما في المأثور عنه صلى الله عليه وسلم، إنما هو للتزيد في الفرض والتوسع فيه حسب عادته صلى الله عليه وسلم، فإنه سنّ في كل فرض سننا تدعمه وتقويه. في الصلاة والزكاة والصوم والحج. وكذا في الطهارات كما لا يخفى، ومما يدلّ على أن واجبهما المسح، تشريع المسح على الخفين والجوربين. ولا سند له إلا هذه الآية. فإن كل سنة أصلها في كتاب الله، منطوقا أو مفهوما، فاعرف ذلك واحتفظ به، والله الهادي.
فيما قاله الصوفية- قدس الله سرهم- من أسرار طهارة هذه الأعضاء:
فأما الوجه، فإنما وجب غسله لأن فيه أكثر الحواس الظاهرة التي ينتفع بالمحسوسات بواسطتها، فلا بدّ من تطهيره عن ظهور آثار حدثت عنها، ولسبق الإحساس على العمل، قدم ما فيه أكثر الحواس الظاهرة أي غير السمع. ثم أمر بتطهير الآلة الفاعلية للأفعال التي منها تلك الآثار- وهي الأيدي إلى المرافق- لأن العمل بالأصابع يحتاج إلى تحريك الكف التي لا تتحرك غالبا إلّا بتحريك المرافق، ثم أمر بمسح الرأس لأنه جامع للحواس الباطنة، فأشبه جامع الحواس الظاهرة، وأخره عن غسل اليدين لأنه مخزن الصور المدركة بالحواس الظاهرة من أعماله وغيرها. ولم يأمر بغسله لأنه يضر بصاحب الشعر، ولا بد منه في الزينة، لا سيّما للمرأة، فخفف بالمسح. ثم أوجب غسل آلة السعي لمشابهة آلة العمل وهي الأرجل، ولما كانت حركتها توجب حركة جميع البدن، اقتصر على أدنى الغايات، أعني: الكعبين، لئلا
وأما من ذهب إلى التخيير، فقال: لما جاءت القراءة بما يوجب الغسل وبما يوجب المسح، دلّ على أنه مخيّر. قال في (الشفا) : القراءتان لا توجبان الجمع، بل تثبتان التخيير.
ولا يخفى أن ظاهر الآية صريح في أن واجبهما المسح. كما قال ابن عباس وغيره. وإيثار غسلهما في المأثور عنه صلى الله عليه وسلم، إنما هو للتزيد في الفرض والتوسع فيه حسب عادته صلى الله عليه وسلم، فإنه سنّ في كل فرض سننا تدعمه وتقويه. في الصلاة والزكاة والصوم والحج. وكذا في الطهارات كما لا يخفى، ومما يدلّ على أن واجبهما المسح، تشريع المسح على الخفين والجوربين. ولا سند له إلا هذه الآية. فإن كل سنة أصلها في كتاب الله، منطوقا أو مفهوما، فاعرف ذلك واحتفظ به، والله الهادي.
فصل
فيما قاله الصوفية- قدس الله سرهم- من أسرار طهارة هذه الأعضاء:
فأما الوجه، فإنما وجب غسله لأن فيه أكثر الحواس الظاهرة التي ينتفع بالمحسوسات بواسطتها، فلا بدّ من تطهيره عن ظهور آثار حدثت عنها، ولسبق الإحساس على العمل، قدم ما فيه أكثر الحواس الظاهرة أي غير السمع. ثم أمر بتطهير الآلة الفاعلية للأفعال التي منها تلك الآثار- وهي الأيدي إلى المرافق- لأن العمل بالأصابع يحتاج إلى تحريك الكف التي لا تتحرك غالبا إلّا بتحريك المرافق، ثم أمر بمسح الرأس لأنه جامع للحواس الباطنة، فأشبه جامع الحواس الظاهرة، وأخره عن غسل اليدين لأنه مخزن الصور المدركة بالحواس الظاهرة من أعماله وغيرها. ولم يأمر بغسله لأنه يضر بصاحب الشعر، ولا بد منه في الزينة، لا سيّما للمرأة، فخفف بالمسح. ثم أوجب غسل آلة السعي لمشابهة آلة العمل وهي الأرجل، ولما كانت حركتها توجب حركة جميع البدن، اقتصر على أدنى الغايات، أعني: الكعبين، لئلا
(١) الأثر رقم ١١٤٨٦.
(٢) الأثر رقم ١١٤٨٠.
(٢) الأثر رقم ١١٤٨٠.
74
تبطل فائدة تخصيص الأعضاء، وفي الفصل بين المغسولات بالممسوح إيماء إلى وجوب الترتيب، والسرّ فيه ما أشرنا إليه. كذا في تفسير (المهايميّ).
وذكر الشعرانيّ- قدّس سره- في سرّ ذلك، أن الوجه به حصول المواجهة في حضرة الله تعالى عند خطابه، والشرع قد تبع العرف في ذلك، وإلّا فكل جزء من بدن العبد- ظاهرا وباطنا- ظاهر للحق تعالى من العبد. أمر الله تعالى العبد بالتوبة فورا.
مسارعة للتطهير من النجاسة المعنوية. لأن الماء لا يصل إلى القلب. فافهم. ثم وجه قول الجمهور بدخول المرفقين في اليدين بأنهما محل الارتفاق. وتكمل الحركة بهما في فعل المخالفات. ووجّه قول زفر وداود، بأنهما لم يتمحضا للذراعين، لأنهما مجموع شيئين: إبرة الذراع ورأس العظمين، ثم وجّه مسح جميع الرأس، بالأخذ بالاحتياط. فيمسح جميع محل الرياسة التي عند المتوضئ ليخرج عن الكبر الذي في ضمنها، ويمكن من دخول حضرة الله تعالى في الصلاة. فإن من كان عنده مثقال ذرة من كبر لا يمكن من دخوله الجنة يوم القيامة، كما ورد، إذ هي الحضرة الخاصة، وكذلك القول في حضرة الصلاة. ثم وجّه غسل القدمين بمؤاخذة العبد بالمشي بهما في غير طاعة الله عزّ وجل، وكونهما حاملين للجسم كلّه. وممدين له بالقوة على المشي، فإذا ضعفا بالمخالفة أو الغفلة سرى ذلك فيما حملاه، كما يسري منهما القوة إلى ما فوقهما إذا غسل، فإنهما كعروق الشجرة التي تشرب الماء وتمدّ الأغصان بالأوراق والثمار. فتعين فيهما الغسل دون المسح، ثم ذكر سرّ من ذهب إلى وجوب الموالاة في طهارة أعضاء الوضوء، بأن الغالب على المتطهرين ضعف أبدانهم من كثرة المعاصي، أو الغفلات، أو أكل الشهوات، وإذا لم يكن موالاة جفت الأعضاء كلها قبل القيام إلى الصلاة، مثلا. وإذا جفت فكأنها لم تغسل ولم تكتسب بالماء انتعاشا. ولا حياة تقف بها بين يدي ربها. فخاطبت ربها بلا كمال لحضور ولا إقبال على مناجاته. هذا حكم غالب الأبدان، أما أبدان العلماء العاملين وغيرهم من الصالحين، فلا يحتاجون إلى تشديد في أمر الموالاة لحياة أبدانهم بالماء. ولو طال الفصل بين غسل أعضائهم. فيحمل قول من قال بوجوب الموالاة على طهارة عوام الناس. ويحمل قول من قال بالاستحباب على طهارة علمائهم وصالحيهم.
وسمعت سيدي عليّا الخوّاص، رحمه الله تعالى، يقول: نعم قول من قال بوجوب الموالاة في هذا الزمان. فإنّ من لم يوجبها يؤدي قوله إلى جواز طول الفصل جدّا. وزيادة البطء في زمن الطهارة، وفوات أول الوقت، كأن يغسل وجهه في
وذكر الشعرانيّ- قدّس سره- في سرّ ذلك، أن الوجه به حصول المواجهة في حضرة الله تعالى عند خطابه، والشرع قد تبع العرف في ذلك، وإلّا فكل جزء من بدن العبد- ظاهرا وباطنا- ظاهر للحق تعالى من العبد. أمر الله تعالى العبد بالتوبة فورا.
مسارعة للتطهير من النجاسة المعنوية. لأن الماء لا يصل إلى القلب. فافهم. ثم وجه قول الجمهور بدخول المرفقين في اليدين بأنهما محل الارتفاق. وتكمل الحركة بهما في فعل المخالفات. ووجّه قول زفر وداود، بأنهما لم يتمحضا للذراعين، لأنهما مجموع شيئين: إبرة الذراع ورأس العظمين، ثم وجّه مسح جميع الرأس، بالأخذ بالاحتياط. فيمسح جميع محل الرياسة التي عند المتوضئ ليخرج عن الكبر الذي في ضمنها، ويمكن من دخول حضرة الله تعالى في الصلاة. فإن من كان عنده مثقال ذرة من كبر لا يمكن من دخوله الجنة يوم القيامة، كما ورد، إذ هي الحضرة الخاصة، وكذلك القول في حضرة الصلاة. ثم وجّه غسل القدمين بمؤاخذة العبد بالمشي بهما في غير طاعة الله عزّ وجل، وكونهما حاملين للجسم كلّه. وممدين له بالقوة على المشي، فإذا ضعفا بالمخالفة أو الغفلة سرى ذلك فيما حملاه، كما يسري منهما القوة إلى ما فوقهما إذا غسل، فإنهما كعروق الشجرة التي تشرب الماء وتمدّ الأغصان بالأوراق والثمار. فتعين فيهما الغسل دون المسح، ثم ذكر سرّ من ذهب إلى وجوب الموالاة في طهارة أعضاء الوضوء، بأن الغالب على المتطهرين ضعف أبدانهم من كثرة المعاصي، أو الغفلات، أو أكل الشهوات، وإذا لم يكن موالاة جفت الأعضاء كلها قبل القيام إلى الصلاة، مثلا. وإذا جفت فكأنها لم تغسل ولم تكتسب بالماء انتعاشا. ولا حياة تقف بها بين يدي ربها. فخاطبت ربها بلا كمال لحضور ولا إقبال على مناجاته. هذا حكم غالب الأبدان، أما أبدان العلماء العاملين وغيرهم من الصالحين، فلا يحتاجون إلى تشديد في أمر الموالاة لحياة أبدانهم بالماء. ولو طال الفصل بين غسل أعضائهم. فيحمل قول من قال بوجوب الموالاة على طهارة عوام الناس. ويحمل قول من قال بالاستحباب على طهارة علمائهم وصالحيهم.
وسمعت سيدي عليّا الخوّاص، رحمه الله تعالى، يقول: نعم قول من قال بوجوب الموالاة في هذا الزمان. فإنّ من لم يوجبها يؤدي قوله إلى جواز طول الفصل جدّا. وزيادة البطء في زمن الطهارة، وفوات أول الوقت، كأن يغسل وجهه في
75
الوضوء للظهر بعد صلاة الصبح. ثم يغسل يديه ربع النهار. ثم يمسح رأسه بعد زوال الشمس. ثم يغسل رجليه قبيل العصر. مع وقوع ذلك المتوضئ مثلا، في الغيبة والنميمة والاستهزاء والسخرية والضحك والغفلة. وغير ذلك من المعاصي والمكروهات. أو خلاف الأولى إن كان ممن يؤاخذ به كما يؤاخذ بأكل الشهوات.
فمثل هذا الوضوء، وإن كان صحيحا في ظاهر الشرع- من حيث إنه يصدق عليه إنه وضوء كامل- فهو قليل النفع لعدم حصول حياة الأعضاء به بعد موتها أو ضعفها أو فتورها. ففات بذلك حكمة الأمر بالموالاة في الوضوء- وجوبا أو استحبابا- وهي إنعاش البدن وحياته قبل الوقوف بين يدي الله تعالى للمناجاة. ثم لو قدر عدم وقوع ذلك المتوضئ، الذي لم يوال، في معصية أو غفلة في الزمن المتخلل بين غسل الأعضاء. فالبدن ناشف كالأعضاء التي عمتها الغفلة والسهو والملل والسآمة. فلم يصر لها داعية إلى كمال الإقبال على الله تعالى حال مناجاته.
وقد كمل أسرار السنن بما يبهج، فلينظر في (ميزانه) رحمه الله تعالى.
وفي كلام الله تعالى من الفوائد والأسرار واللطائف، ما تضيق عنه الأسفار.
وقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً أي: بخروج مني أو التقاء ختانين فَاطَّهَّرُوا أي:
بالماء، أي: اغتسلوا به. قال المهايميّ: أي: بالغوا في تطهير البدن لأنه يتلذذ به الجميع تلذذا أغرقه في غير الله، فأثر فيه بالحدث وَإِنْ كُنْتُمْ جنبا مَرْضى تخافون من استعمال الماء أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أي رجع من مكان البراز أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا أي: اقصدوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ تذليلا للعضوين الشريفين. وقد مرّ تفسير هذا وأحكامه في سورة النساء. ما يُرِيدُ اللَّهُ أي ما يريد بالأمر بالطهارة للصلاة. أو بالأمر بالتيمم لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أي ضيق في الامتثال أو في تحصيل الماء وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ أي عن الذنوب، أو ليجعلكم في حكم الطاهرين بالتذلل بالتراب. فإنه لما رفع التكبر فكأنما رفع الحدث الذي ينشأ عن أمثاله وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ أي: بشرعه ما هو مطهر لأبدانكم ومنعش لها مما لحقها، ومكفّر لذنوبكم، أو ليتم برخصه إنعامه عليكم بتمكينكم من عبادته بكل حال، حتى حال الحدث لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمته ورخصته فيثيبكم.
وقد روى ابن جرير «١» عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من توضأ
فمثل هذا الوضوء، وإن كان صحيحا في ظاهر الشرع- من حيث إنه يصدق عليه إنه وضوء كامل- فهو قليل النفع لعدم حصول حياة الأعضاء به بعد موتها أو ضعفها أو فتورها. ففات بذلك حكمة الأمر بالموالاة في الوضوء- وجوبا أو استحبابا- وهي إنعاش البدن وحياته قبل الوقوف بين يدي الله تعالى للمناجاة. ثم لو قدر عدم وقوع ذلك المتوضئ، الذي لم يوال، في معصية أو غفلة في الزمن المتخلل بين غسل الأعضاء. فالبدن ناشف كالأعضاء التي عمتها الغفلة والسهو والملل والسآمة. فلم يصر لها داعية إلى كمال الإقبال على الله تعالى حال مناجاته.
وقد كمل أسرار السنن بما يبهج، فلينظر في (ميزانه) رحمه الله تعالى.
وفي كلام الله تعالى من الفوائد والأسرار واللطائف، ما تضيق عنه الأسفار.
وقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً أي: بخروج مني أو التقاء ختانين فَاطَّهَّرُوا أي:
بالماء، أي: اغتسلوا به. قال المهايميّ: أي: بالغوا في تطهير البدن لأنه يتلذذ به الجميع تلذذا أغرقه في غير الله، فأثر فيه بالحدث وَإِنْ كُنْتُمْ جنبا مَرْضى تخافون من استعمال الماء أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أي رجع من مكان البراز أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا أي: اقصدوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ تذليلا للعضوين الشريفين. وقد مرّ تفسير هذا وأحكامه في سورة النساء. ما يُرِيدُ اللَّهُ أي ما يريد بالأمر بالطهارة للصلاة. أو بالأمر بالتيمم لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أي ضيق في الامتثال أو في تحصيل الماء وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ أي عن الذنوب، أو ليجعلكم في حكم الطاهرين بالتذلل بالتراب. فإنه لما رفع التكبر فكأنما رفع الحدث الذي ينشأ عن أمثاله وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ أي: بشرعه ما هو مطهر لأبدانكم ومنعش لها مما لحقها، ومكفّر لذنوبكم، أو ليتم برخصه إنعامه عليكم بتمكينكم من عبادته بكل حال، حتى حال الحدث لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمته ورخصته فيثيبكم.
وقد روى ابن جرير «١» عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من توضأ
(١) الأثر رقم ١١٥٤٥. [.....]
76
فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه».
ورواه مسلم «١» وأصحاب السنن عن أبي هريرة مفصلا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٧]
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بالهداية لهذا الدين القويم لتذكركم المنعم وترغبكم في شكره وَمِيثاقَهُ أي عهده الوثيق الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ أي: أكد عليكم بقوله إِذْ قُلْتُمْ أي: لرسول الله ﷺ سَمِعْنا وَأَطَعْنا حين بايعتموه على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وَاتَّقُوا اللَّهَ أي: في نقض شيء من عهوده ولو بالقلب إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: بخفيّاتها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ أي: مقتضى إيمانكم الاستقامة، فكونوا مبالغين في الاستقامة باذلين جهدكم فيها لله. وهي إنما تتم بالنظر في حقوق الله وحقوق خلقه فكونوا شُهَداءَ بِالْقِسْطِ أي: العدل. لا تتركوه لمحبة أحد ولا لعداوة أحد وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ أي: لا يحملنكم شَنَآنُ أي: شدة عداوة قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا في حقهم. قال المهايميّ: أي: فإنّا لا نأمركم به من حيث ما فيه من توفية حقوق الأعداء. بل من حيث ما فيه من توفية حقوق أنفسكم في الاستقامة اعْدِلُوا هُوَ أي: العدل- أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي: لحفظ الأنفس أن تتجاوز حدّ
ورواه مسلم «١» وأصحاب السنن عن أبي هريرة مفصلا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٧]
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بالهداية لهذا الدين القويم لتذكركم المنعم وترغبكم في شكره وَمِيثاقَهُ أي عهده الوثيق الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ أي: أكد عليكم بقوله إِذْ قُلْتُمْ أي: لرسول الله ﷺ سَمِعْنا وَأَطَعْنا حين بايعتموه على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وَاتَّقُوا اللَّهَ أي: في نقض شيء من عهوده ولو بالقلب إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: بخفيّاتها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ أي: مقتضى إيمانكم الاستقامة، فكونوا مبالغين في الاستقامة باذلين جهدكم فيها لله. وهي إنما تتم بالنظر في حقوق الله وحقوق خلقه فكونوا شُهَداءَ بِالْقِسْطِ أي: العدل. لا تتركوه لمحبة أحد ولا لعداوة أحد وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ أي: لا يحملنكم شَنَآنُ أي: شدة عداوة قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا في حقهم. قال المهايميّ: أي: فإنّا لا نأمركم به من حيث ما فيه من توفية حقوق الأعداء. بل من حيث ما فيه من توفية حقوق أنفسكم في الاستقامة اعْدِلُوا هُوَ أي: العدل- أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي: لحفظ الأنفس أن تتجاوز حدّ
(١)
أخرجه مسلم في: الطهارة، حديث ٣٢ ونصه: عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال «إذا توضأ العبد المسلم (أو المؤمن) فغسل وجهه، خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء (أو مع آخر قطر الماء) فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء (أو قال مع آخر قطر الماء) فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء (أو مع آخر قطر الماء) حتى يخرج نقيّا من الذنوب».
أخرجه مسلم في: الطهارة، حديث ٣٢ ونصه: عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال «إذا توضأ العبد المسلم (أو المؤمن) فغسل وجهه، خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء (أو مع آخر قطر الماء) فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء (أو قال مع آخر قطر الماء) فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء (أو مع آخر قطر الماء) حتى يخرج نقيّا من الذنوب».
استقامتها وَاتَّقُوا اللَّهَ أي: أن تبطلوا حقوقه أو حقوق عباده ولو بطريق توهمون فيه العدل إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال فيجازيكم بذلك.
وقد ثبت في (الصحيحين) «١» عن النعمان بن بشير أنه قال: نحلني أبي نحلا. فقالت أمي: لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاءه ليشهده على صدقتي فقال: أكلّ ولدك نحلت مثله؟ قال: لا. فقال: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، وقال: إني لا أشهد على جور. قال، فرجع أبي فردّ تلك الصدقة.
قال بعض المفسرين: ثمرة الآية الدلالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بالقسط. يدخل فيه الشهادة بالعدل والحكم به. وكذلك الفتوى. وأن قول الحق لا يترك وجوبه بعدوّ ولا صديق. ولا يجوز اتباع الهوى.
قال الزمخشريّ وفي هذا تنبيه عظيم على أن العدل إذا كان واجبا مع الكفار الذين هم أعداء الله، إذا كان بهذه الصفة من القوة، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٩]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ التي من جملتها العدل والتقوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ يعني ثوابا وافرا في الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٠]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا التي منها ما تلى من الأمر بالعدل والتقوى.
أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ أهل النار. ثم بيّن تعالى أنّ من مقتضى الإيمان ملازمة شكره على ذكر نعمه، فقال سبحانه:
وقد ثبت في (الصحيحين) «١» عن النعمان بن بشير أنه قال: نحلني أبي نحلا. فقالت أمي: لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاءه ليشهده على صدقتي فقال: أكلّ ولدك نحلت مثله؟ قال: لا. فقال: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، وقال: إني لا أشهد على جور. قال، فرجع أبي فردّ تلك الصدقة.
قال بعض المفسرين: ثمرة الآية الدلالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بالقسط. يدخل فيه الشهادة بالعدل والحكم به. وكذلك الفتوى. وأن قول الحق لا يترك وجوبه بعدوّ ولا صديق. ولا يجوز اتباع الهوى.
قال الزمخشريّ وفي هذا تنبيه عظيم على أن العدل إذا كان واجبا مع الكفار الذين هم أعداء الله، إذا كان بهذه الصفة من القوة، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٩]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ التي من جملتها العدل والتقوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ يعني ثوابا وافرا في الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٠]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا التي منها ما تلى من الأمر بالعدل والتقوى.
أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ أهل النار. ثم بيّن تعالى أنّ من مقتضى الإيمان ملازمة شكره على ذكر نعمه، فقال سبحانه:
(١) أخرجه البخاري في: الهبة، ١٢- باب الهبة للولد، حديث ١٢٦٣.
وفي ١٣-: باب الإشهاد في الهبة.
وفي: الشهادات، ٩- باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد.
وأخرجه مسلم في: الهبة، حديث ٩- ١٨.
وفي ١٣-: باب الإشهاد في الهبة.
وفي: الشهادات، ٩- باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد.
وأخرجه مسلم في: الهبة، حديث ٩- ١٨.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي: في حفظه إيّاكم عن أعدائكم إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ أي: بأن يبطشوا بكم بالقتل والإهلاك فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ أي: منعها أن تمدّ إليكم، وردّ مضرّتها عنكم.
قيل: الآية إشارة إلى ما
روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهريّ عن أبي سلمة عن جابر: أن النبيّ ﷺ نزل منزلا وتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها. وعلّق النبي ﷺ سلاحه بشجرة. فجاء أعرابيّ إلى سيف رسول الله ﷺ فأخذه فسلّه. ثم أقبل على النبيّ ﷺ فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله عزّ وجلّ. قال الأعرابي مرتين أو ثلاثا: من يمنعك مني؟ والنبيّ ﷺ يقول: الله. قال: فشام الأعرابي السيف. فدعا النبيّ ﷺ أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي. وهو جالس إلى جنبه، ولم يعاقبه».
وقال معمر: كان قتادة يذكر نحو هذا، ويذكر أنّ قوما من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم. فأرسلوا هذا الأعرابي. وتأوّل هذه الآية.
وأخرج أبو نعيم في (دلائل النبوة) من طريق الحسن عن جابر بن عبد الله، «أن رجلا من محارب يقال له غورث بن الحارث قال لقومه: أقتل لكم محمدا. فأقبل إلى رسول الله ﷺ وهو جالس وسيفه في حجره فقال: يا محمد! أأنظر إلى سيفك هذا؟ قال: نعم. فأخذه فاستله وجعل يهزه ويهم به فيكبته الله تعالى. فقال يا محمد! أما تخافني؟ قال: لا. قال: أما تخافني والسيف في يدي؟ قال: لا. يمنعني الله منك. ثم غمد السيف ورده إلى رسول الله». فأنزل الله الآية.
وقصة هذا الأعرابي ثابتة في (الصحيح) «١».
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي: في حفظه إيّاكم عن أعدائكم إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ أي: بأن يبطشوا بكم بالقتل والإهلاك فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ أي: منعها أن تمدّ إليكم، وردّ مضرّتها عنكم.
قيل: الآية إشارة إلى ما
روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهريّ عن أبي سلمة عن جابر: أن النبيّ ﷺ نزل منزلا وتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها. وعلّق النبي ﷺ سلاحه بشجرة. فجاء أعرابيّ إلى سيف رسول الله ﷺ فأخذه فسلّه. ثم أقبل على النبيّ ﷺ فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله عزّ وجلّ. قال الأعرابي مرتين أو ثلاثا: من يمنعك مني؟ والنبيّ ﷺ يقول: الله. قال: فشام الأعرابي السيف. فدعا النبيّ ﷺ أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي. وهو جالس إلى جنبه، ولم يعاقبه».
وقال معمر: كان قتادة يذكر نحو هذا، ويذكر أنّ قوما من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم. فأرسلوا هذا الأعرابي. وتأوّل هذه الآية.
وأخرج أبو نعيم في (دلائل النبوة) من طريق الحسن عن جابر بن عبد الله، «أن رجلا من محارب يقال له غورث بن الحارث قال لقومه: أقتل لكم محمدا. فأقبل إلى رسول الله ﷺ وهو جالس وسيفه في حجره فقال: يا محمد! أأنظر إلى سيفك هذا؟ قال: نعم. فأخذه فاستله وجعل يهزه ويهم به فيكبته الله تعالى. فقال يا محمد! أما تخافني؟ قال: لا. قال: أما تخافني والسيف في يدي؟ قال: لا. يمنعني الله منك. ثم غمد السيف ورده إلى رسول الله». فأنزل الله الآية.
وقصة هذا الأعرابي ثابتة في (الصحيح) «١».
(١)
أخرجها البخاري في: الجهاد، ٨٣- باب من علّق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة، حديث ١٣٩٣ ونصه: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أخبر أنه غزا مع رسول الله ﷺ قبل نجد.
فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قفلنا معه. فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه. فنزل رسول الله ﷺ وتفرق الناس يستظلون بالشجر. فنزل رسول الله ﷺ تحت سمرة وعلّق بها سيفه. ونمنا نومة.
فإذا رسول الله ﷺ يدعونا. وإذا عنده أعرابيّ. فقال «إن هذا اخترط عليّ سيفي وأنا نائم،
أخرجها البخاري في: الجهاد، ٨٣- باب من علّق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة، حديث ١٣٩٣ ونصه: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أخبر أنه غزا مع رسول الله ﷺ قبل نجد.
فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قفلنا معه. فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه. فنزل رسول الله ﷺ وتفرق الناس يستظلون بالشجر. فنزل رسول الله ﷺ تحت سمرة وعلّق بها سيفه. ونمنا نومة.
فإذا رسول الله ﷺ يدعونا. وإذا عنده أعرابيّ. فقال «إن هذا اخترط عليّ سيفي وأنا نائم،
79
وأخرج ابن جرير «١» عن عكرمة ويزيد بن أبي زيادة واللفظ له: أن النبيّ ﷺ خرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف حتى دخلوا على كعب بن الأشرف ويهود بني النضير، يستعينهم في عقل أصابه. فقالوا: نعم.
اجلس حتى نطعمك أو نعطيك الذي تسألنا، فجلس. فقال حييّ بن أخطب لأصحابه: لا ترونه أقرب منه الآن. اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه. ولا ترون شرّا أبدا، فجاؤوا إلى رحى عظيمة ليطرحوها عليه، فأمسك الله عنها أيديهم. حتى جاء جبريل فأقامه من ثمت. فأنزل الله الآية. وروى نحوه ابن أبي حاتم.
قال ابن كثير: ثم أمر رسول الله ﷺ أن يغدو إليهم، فحاصرهم حتى أنزلهم فأجلاهم
. انتهى.
وعلى هذه الروايات، فالمراد من قوله تعالى اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تذكير نعمة الله عليهم بدفع الشر والمكروه عن نبيّهم، فإنه لو حصل ذلك لكان من أعظم المحن.
وذكر الزمخشريّ، ومن بعده، من وجوه إشارات الآية، ما كان بعسفان من حفظه تعالى لهم من أعدائهم، لما هموّا بقتلهم عند اشتغالهم بصلاة العصر، بعد ما رأوهم يصلون الظهر. فندموا على أن لا أكبوا عليهم. فردّ كيد أعدائهم إذ أنزل عليهم صلاة الخوف. انتهى.
ولفظ الآية محتمل لذلك، بيد أني لم أره الآن مسندا عن أئمة الأثر.
وَاتَّقُوا اللَّهَ أي في رعاية حقوق نعمته ولا تخلّوا بشكرها وَعَلَى اللَّهِ خاصة دون غيره فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فإنه الكافي في إيصال الخير ودفع الشر لمن توكل عليه.
قال أبو السعود: والجملة تذييل مقرر لما قبله. وإيثار صيغة أمر الغائب.
اجلس حتى نطعمك أو نعطيك الذي تسألنا، فجلس. فقال حييّ بن أخطب لأصحابه: لا ترونه أقرب منه الآن. اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه. ولا ترون شرّا أبدا، فجاؤوا إلى رحى عظيمة ليطرحوها عليه، فأمسك الله عنها أيديهم. حتى جاء جبريل فأقامه من ثمت. فأنزل الله الآية. وروى نحوه ابن أبي حاتم.
قال ابن كثير: ثم أمر رسول الله ﷺ أن يغدو إليهم، فحاصرهم حتى أنزلهم فأجلاهم
. انتهى.
وعلى هذه الروايات، فالمراد من قوله تعالى اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تذكير نعمة الله عليهم بدفع الشر والمكروه عن نبيّهم، فإنه لو حصل ذلك لكان من أعظم المحن.
وذكر الزمخشريّ، ومن بعده، من وجوه إشارات الآية، ما كان بعسفان من حفظه تعالى لهم من أعدائهم، لما هموّا بقتلهم عند اشتغالهم بصلاة العصر، بعد ما رأوهم يصلون الظهر. فندموا على أن لا أكبوا عليهم. فردّ كيد أعدائهم إذ أنزل عليهم صلاة الخوف. انتهى.
ولفظ الآية محتمل لذلك، بيد أني لم أره الآن مسندا عن أئمة الأثر.
وَاتَّقُوا اللَّهَ أي في رعاية حقوق نعمته ولا تخلّوا بشكرها وَعَلَى اللَّهِ خاصة دون غيره فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فإنه الكافي في إيصال الخير ودفع الشر لمن توكل عليه.
قال أبو السعود: والجملة تذييل مقرر لما قبله. وإيثار صيغة أمر الغائب.
فاستيقظت وهو في يده صلتا. فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله. ثلاثا» ولم يعاقبه وجلس.
وأخرجه أيضا في: ٨٧- باب تفرق الناس عن الإمام عند القائلة.
وفي: المغازي، ٣١- باب غزوة ذات الرقاع.
وفي: ٣٢- باب غزوة بني المصطلق.
وأخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث ٣١١.
وفي: الفضائل، حديث ١٣.
(١) الأثر رقم ١١٥٥٧.
وأخرجه أيضا في: ٨٧- باب تفرق الناس عن الإمام عند القائلة.
وفي: المغازي، ٣١- باب غزوة ذات الرقاع.
وفي: ٣٢- باب غزوة بني المصطلق.
وأخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث ٣١١.
وفي: الفضائل، حديث ١٣.
(١) الأثر رقم ١١٥٥٧.
80
وإسنادها إلى المؤمنين، لإيجاب التوكل على المخاطبين بالطريق البرهانيّ، وللإيذان بأن ما وصفوا به عند الخطاب من وصف الإيمان، داع إلى ما أمروا به من التوكل والتقوى، وازع عن الإخلال بهما.
بحث جليل في التوكل
قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية- قدس الله سرّه- في بعض مصنّفاته:
قد ظنّ طائفة ممن تكلم في أعمال القلوب، أن التوكل لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة. بل ما كان مقدرا بدون التوكل، فهو مقدر مع التوكل. ولكن التوكل عبادة يثاب عليها من جنس الرضا بالقضا. وذكر ذلك أبو عبد الله بن بطة فيما صنفه في هذا الباب. وقول هؤلاء يشبه قول من قال: إن الدعاء لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة. بل هو عبادة يثاب عليها كرمي الجمار، وآخرون يقولون: بل الدعاء علامة وأمارة. ويقولون ذلك في جميع العبادات، وهذا قول من ينفي الأسباب في الخلق والأمر، ويقول: إن الله يفعل عندها، لا بها. وهو قول طائفة من متكلمي أهل الإثبات للقدر- كالأشعريّ وغيره، وهو قول طائفة من الفقهاء والصوفية. وأصل هذه البدعة من قول جهم. فإنه كان غاليا في نفي الصفات وفي الجبر، فجعل من تمام توحيد الذات نفي الصفات، ففي تمام توحيد الأفعال نفي الأسباب. حتى أنكر تأثير قدرة العبد، بل نفى كونه قادرا، وأنكر الحكمة في التوكل والرحمة. وكان يخرج إلى الجذمي فيقول: أرحم الراحمين يفعل مثل هذا؟ يعني أنه يفعل بمحض المشيئة بلا رحمة. وقوله في القدر، قد تقرب إليه الأشعريّ ومن وافقه من الطوائف. والذي عليه السلف والأئمة والفقهاء والجمهور وكثير من أهل الكلام إثبات الأسباب. كما دلّ على ذلك الكتاب والسنة، مع دلالة الحسّ والعقل. والكلام على هؤلاء مبسوط في مواضع أخر. والمقصود هنا الكلام على التوكل. فإن الذي عليه الجمهور أن المتوكل يحصل له بتوكله، من جلب المنفعة ودفع المضرة، ما لا يحصل لغيره. وكذلك الدعاء. والقرآن يدل على ذلك في مواضع كثيرة. ثم هو سبب عند الأكثرين، وعلامة عند من ينفي الأسباب: قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: ٢- ٣]. والحسب:
الكافي. فبيّن أنه كاف من توكل عليه. وفي الدعاء: يا حسيب المتوكلين! فلا يقال: هو حسب غير المتوكل كما هو حسب المتوكل، لأنه علق هذه الجملة على الأولى تعليق الجزاء على الشرط، فيمتنع في مثل ذلك أن يكون وجود الشرط
بحث جليل في التوكل
قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية- قدس الله سرّه- في بعض مصنّفاته:
قد ظنّ طائفة ممن تكلم في أعمال القلوب، أن التوكل لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة. بل ما كان مقدرا بدون التوكل، فهو مقدر مع التوكل. ولكن التوكل عبادة يثاب عليها من جنس الرضا بالقضا. وذكر ذلك أبو عبد الله بن بطة فيما صنفه في هذا الباب. وقول هؤلاء يشبه قول من قال: إن الدعاء لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة. بل هو عبادة يثاب عليها كرمي الجمار، وآخرون يقولون: بل الدعاء علامة وأمارة. ويقولون ذلك في جميع العبادات، وهذا قول من ينفي الأسباب في الخلق والأمر، ويقول: إن الله يفعل عندها، لا بها. وهو قول طائفة من متكلمي أهل الإثبات للقدر- كالأشعريّ وغيره، وهو قول طائفة من الفقهاء والصوفية. وأصل هذه البدعة من قول جهم. فإنه كان غاليا في نفي الصفات وفي الجبر، فجعل من تمام توحيد الذات نفي الصفات، ففي تمام توحيد الأفعال نفي الأسباب. حتى أنكر تأثير قدرة العبد، بل نفى كونه قادرا، وأنكر الحكمة في التوكل والرحمة. وكان يخرج إلى الجذمي فيقول: أرحم الراحمين يفعل مثل هذا؟ يعني أنه يفعل بمحض المشيئة بلا رحمة. وقوله في القدر، قد تقرب إليه الأشعريّ ومن وافقه من الطوائف. والذي عليه السلف والأئمة والفقهاء والجمهور وكثير من أهل الكلام إثبات الأسباب. كما دلّ على ذلك الكتاب والسنة، مع دلالة الحسّ والعقل. والكلام على هؤلاء مبسوط في مواضع أخر. والمقصود هنا الكلام على التوكل. فإن الذي عليه الجمهور أن المتوكل يحصل له بتوكله، من جلب المنفعة ودفع المضرة، ما لا يحصل لغيره. وكذلك الدعاء. والقرآن يدل على ذلك في مواضع كثيرة. ثم هو سبب عند الأكثرين، وعلامة عند من ينفي الأسباب: قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: ٢- ٣]. والحسب:
الكافي. فبيّن أنه كاف من توكل عليه. وفي الدعاء: يا حسيب المتوكلين! فلا يقال: هو حسب غير المتوكل كما هو حسب المتوكل، لأنه علق هذه الجملة على الأولى تعليق الجزاء على الشرط، فيمتنع في مثل ذلك أن يكون وجود الشرط
81
كعدمه. ولأنه رتب الحكم على الوصف المناسب له. فعلم أن توكله هو سبب كونه حسيبا له، ولأنه ذكر ذلك في سياق الترغيب في التوكل، كما رغب في التقوى. فلو لم يحصل للمتوكل من الكفاية ما لا يحصل لغيره، لم يكن ذلك مرغّبا في التوكل.
كما جعل التقوى سببا للخروج من الشدة وحصول الرزق من حيث لا يحتسب.
وقال تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: ١٧٣] فمدحوه سبحانه بأنه نعم الوكيل، والوكيل لا يستحق المدح إذا لم يجلب لمن توكل عليه منفعة ولم يدفع عنه مضرة. والله خير من توكل العباد عليه، فهو نعم الوكيل يجلب لهم كل خير ويدفع عنهم كل شرّ. وقال تعالى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل: ٨- ٩]. وقال: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا [الإسراء: ٢]. فأمر أن يتّخذ وكيلا ونهى أن يتخذ من دونه وكيلا، لأن المخلوق لا يستقل بجميع حاجات العبد، والوكالة الجائزة أن يتوكل الإنسان في فعل يقدر عليه، فيحصل للموكل بذلك بعض مطلوبه. فأما مطالبه كلها فلا يقدر عليها إلّا الله. وذاك الذي يوكله لا يفعل شيئا إلا بمشيئة الله وقدرته. فليس له أن يتوكل عليه، وإن وكله. بل يعتمد على الله في تيسير ما وكله فيه، فلو كان الذي يحصل للمتوكل على الله، يحصل وإن توكل على غيره، ويحصل بلا توكّل، لكان اتخاذ بعض المخلوقين وكيلا أنفع من اتخاذ الخالق وكيلا. وهذا من أقبح لوازم هذا القول الفاسد. لأن التوكل على الخلق يشهد نفعه. وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: ٦٤] أي: الله كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين. فلو كانت كفايته للمؤمنين المتبعين للرسول- سواء اتبعوه أو لم يتبعوه- لم يكن للإيمان واتباع الرسول أثر في هذه الكفاية. ولا كان لتخصيصهم بذلك معنى. وكان هذا نظير أن يقال: هو خالقك وخالق من اتبعك. ومعلوم أنّ المراد خلاف ذلك. وإذا كان الحسب معنى يختص بعض الناس، علم أن قول المتوكل: (حسبي الله) وقوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أمر مختص لا مشترك. وأن التوكل سبب ذلك الإختصاص، والله تعالى إذا وعد على العمل بوعد أو خصّ أهله بكرامة، فلا بدّ أن يكون بين وجود ذلك العمل وعدمه فرق في حصول تلك الكرامة. وإن كان قد يحصل نظيرها بسبب آخر. فقد يكفي الله بعض من لم يتوكل عليه كالأطفال. لكن لا بد أن يكون للمتوكل أثر في حصول الكفاية الحاصلة للمتوكلين، فلا يكون
كما جعل التقوى سببا للخروج من الشدة وحصول الرزق من حيث لا يحتسب.
وقال تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: ١٧٣] فمدحوه سبحانه بأنه نعم الوكيل، والوكيل لا يستحق المدح إذا لم يجلب لمن توكل عليه منفعة ولم يدفع عنه مضرة. والله خير من توكل العباد عليه، فهو نعم الوكيل يجلب لهم كل خير ويدفع عنهم كل شرّ. وقال تعالى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل: ٨- ٩]. وقال: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا [الإسراء: ٢]. فأمر أن يتّخذ وكيلا ونهى أن يتخذ من دونه وكيلا، لأن المخلوق لا يستقل بجميع حاجات العبد، والوكالة الجائزة أن يتوكل الإنسان في فعل يقدر عليه، فيحصل للموكل بذلك بعض مطلوبه. فأما مطالبه كلها فلا يقدر عليها إلّا الله. وذاك الذي يوكله لا يفعل شيئا إلا بمشيئة الله وقدرته. فليس له أن يتوكل عليه، وإن وكله. بل يعتمد على الله في تيسير ما وكله فيه، فلو كان الذي يحصل للمتوكل على الله، يحصل وإن توكل على غيره، ويحصل بلا توكّل، لكان اتخاذ بعض المخلوقين وكيلا أنفع من اتخاذ الخالق وكيلا. وهذا من أقبح لوازم هذا القول الفاسد. لأن التوكل على الخلق يشهد نفعه. وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: ٦٤] أي: الله كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين. فلو كانت كفايته للمؤمنين المتبعين للرسول- سواء اتبعوه أو لم يتبعوه- لم يكن للإيمان واتباع الرسول أثر في هذه الكفاية. ولا كان لتخصيصهم بذلك معنى. وكان هذا نظير أن يقال: هو خالقك وخالق من اتبعك. ومعلوم أنّ المراد خلاف ذلك. وإذا كان الحسب معنى يختص بعض الناس، علم أن قول المتوكل: (حسبي الله) وقوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أمر مختص لا مشترك. وأن التوكل سبب ذلك الإختصاص، والله تعالى إذا وعد على العمل بوعد أو خصّ أهله بكرامة، فلا بدّ أن يكون بين وجود ذلك العمل وعدمه فرق في حصول تلك الكرامة. وإن كان قد يحصل نظيرها بسبب آخر. فقد يكفي الله بعض من لم يتوكل عليه كالأطفال. لكن لا بد أن يكون للمتوكل أثر في حصول الكفاية الحاصلة للمتوكلين، فلا يكون
82
ما يحصل من الكفاية بالتوكل حاصلا، وإن عدم التوكل. وقد قال تعالى: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران: ١٧٣- ١٧٤]، فعقب هذا الجزاء والحكم لذلك الوصف والعمل، بحرف (الفاء) وهي تفيد السبب، فدل ذلك على أن ذلك التوكل هو سبب هذا الانقلاب بنعمة من الله وفضل. وأن هذا الجزاء جزاء على ذلك العمل. وفي الأثر: من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله. فلو كان التوكل لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة، لم يكن المتوكل أقوى من غيره. وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الأحزاب: ١- ٣]. وقال في أثناء السورة: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الأحزاب:
٤٨]. فأمره سبحانه بتقواه واتباع ما يوحى إليه وأمره بالتوكل. كما جمع بين هذين الأصلين في غير موضع. كقوله: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [الأحزاب: ٤٨]. وقوله:
وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل:
٨- ٩]. وقوله: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [الشورى: ١٠]. وقوله: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا [الممتحنة: ٤]. وقوله: هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ [الرعد: ٣٠] وقوله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: ٢- ٣]. وقوله في الفاتحة:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: ٥]. وعلم القرآن مجتمع في الفاتحة في هذين الأصلين: عبادة الله والتوكل عليه. وإذا أفرد لفظ العبادة دخل فيه التوكل. فإنه من عبادة الله. كقوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة: ٢١] وقوله: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦]. وإذا قرن به التوكل كان مأمورا به بخصوصه. وهذا كلفظ الإسلام والإيمان. والإيمان والعمل، ولفظ الصلاة مع العبادة ومع اتباع الكتاب. ولفظ الفحشاء والبغي مع المنكر. ونظائر ذلك متعددة، يكون اللفظ عند تجرده وإفراده يتناول أنواعا. وقد يعطف بعض تلك الأنواع عليه فيكون مأمورا به لخصوصه. ثم قد يقال: إذا عطف لم يدخل في المعطوف عليه. وقد يقال: بل الأمر به خاص وعام، كما في قوله: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: ٩٨]. وإذا كان الله أمره بالتوكل على الله، ثم قال: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا علم أن الله وكيل كاف لمن توكل عليه. كما يقال في الخطب
٤٨]. فأمره سبحانه بتقواه واتباع ما يوحى إليه وأمره بالتوكل. كما جمع بين هذين الأصلين في غير موضع. كقوله: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [الأحزاب: ٤٨]. وقوله:
وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل:
٨- ٩]. وقوله: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [الشورى: ١٠]. وقوله: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا [الممتحنة: ٤]. وقوله: هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ [الرعد: ٣٠] وقوله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: ٢- ٣]. وقوله في الفاتحة:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: ٥]. وعلم القرآن مجتمع في الفاتحة في هذين الأصلين: عبادة الله والتوكل عليه. وإذا أفرد لفظ العبادة دخل فيه التوكل. فإنه من عبادة الله. كقوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة: ٢١] وقوله: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦]. وإذا قرن به التوكل كان مأمورا به بخصوصه. وهذا كلفظ الإسلام والإيمان. والإيمان والعمل، ولفظ الصلاة مع العبادة ومع اتباع الكتاب. ولفظ الفحشاء والبغي مع المنكر. ونظائر ذلك متعددة، يكون اللفظ عند تجرده وإفراده يتناول أنواعا. وقد يعطف بعض تلك الأنواع عليه فيكون مأمورا به لخصوصه. ثم قد يقال: إذا عطف لم يدخل في المعطوف عليه. وقد يقال: بل الأمر به خاص وعام، كما في قوله: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: ٩٨]. وإذا كان الله أمره بالتوكل على الله، ثم قال: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا علم أن الله وكيل كاف لمن توكل عليه. كما يقال في الخطب
83
والدعاء: الحمد لله كافي من توكل عليه. وإذا كان (كفى به وكيلا) فهذا مختص به سبحانه ليس غيره من الموجودات (كفى به وكيلا) فإن من يتخذ وكيلا من المخلوقين غايته أن يفعل بعض الأمور، وهو لا يفعلها إلّا بإعانة الله، وهو عاجز عن أكثر المطالب. فإذا كان سبحانه وصف نفسه بأنه (كفى به وكيلا) علم أنه يفعل بالمتوكل عليه ما لا يحتاج معه إلى غيره من جلب المنافع ودفع المضار. إذ لو بقي شيء لم يكن (كفى به وكيلا) وهذا نقيض قول من ظنّ أنّ المتوكل عليه لا يحصل له بتوكله جلب منفعة ولا دفع مضرة، بل يجري عليه من القضاء ما كان يجري لو لم يتوكل عليه. والذين ظنوا، أصل شبهتهم أنهم لما أثبتوا أن الله إذا قضى شيئا فلا بد أن يكون، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن ما سبق علمه فهو كائن لا محالة- صاروا يظنون ما يوجد بسبب يوجد بدونه، وما يوجد مع عدم المانع يوجد مع المانع. وهذا غلط عظيم ضلّ فيه طوائف: طائفة قالت: لا حاجة إلى الأعمال المأمور بها. بل من خلق للجنة فهو يدخلها وإن لم يؤمن. ومن خلق للنار فهو يدخلها وإن آمن ولم يكفر. وهذه الشبهة سئل عنها النبي ﷺ «١» لما
قال: ما منكم من أحد إلّا وقد علم مقعده من الجنة والنار قالوا: أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال: لا! اعملوا، فكلّ ميسّر لما خلق له. أما من كان من أهل السعادة فسييسّر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فسييسّر لعمل أهل الشقاء
. وهذا المعنى قد ثبت عن النبي ﷺ في (الصحيح) في مواضع تبيّن أنّ ما سبق به الكتاب سبق بالأسباب التي تقضي إليه، فالسعادة سبقت بأن صاحبها يستعمل فيما يصير به سعيدا، والشقاوة سبقت بأن صاحبها يستعمل فيما يصير به شقيّا. فالقدر تضمن الغاية وسببها. لم يتضمن غاية بلا سبب. كما تضمن أن هذا يولد له بأن يتزوج ويطأ المرأة، وهذا تنبت أرضه بأن يزرع ويسقي الزرع. وأمثال ذلك. وكذلك
في (السنن) «٢»
أنه قيل له: يا رسول الله! أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقيّ نسترقي بها، وتقاة نتقيها، هل تردّ من قدر الله شيئا؟ فقال: «هي من قدر
قال: ما منكم من أحد إلّا وقد علم مقعده من الجنة والنار قالوا: أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال: لا! اعملوا، فكلّ ميسّر لما خلق له. أما من كان من أهل السعادة فسييسّر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فسييسّر لعمل أهل الشقاء
. وهذا المعنى قد ثبت عن النبي ﷺ في (الصحيح) في مواضع تبيّن أنّ ما سبق به الكتاب سبق بالأسباب التي تقضي إليه، فالسعادة سبقت بأن صاحبها يستعمل فيما يصير به سعيدا، والشقاوة سبقت بأن صاحبها يستعمل فيما يصير به شقيّا. فالقدر تضمن الغاية وسببها. لم يتضمن غاية بلا سبب. كما تضمن أن هذا يولد له بأن يتزوج ويطأ المرأة، وهذا تنبت أرضه بأن يزرع ويسقي الزرع. وأمثال ذلك. وكذلك
في (السنن) «٢»
أنه قيل له: يا رسول الله! أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقيّ نسترقي بها، وتقاة نتقيها، هل تردّ من قدر الله شيئا؟ فقال: «هي من قدر
(١)
الحديث أخرجه البخاري في: التفسير، ٩٢- سورة الليل، ٧- باب فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى، حديث ٧١٨ ونصه: عن عليّ رضي الله عنه قال: كان النبيّ ﷺ في جنازة. فأخذ شيئا فجعل ينكت به الأرض. فقال «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة» قالوا:
يا رسول الله! أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال «اعملوا فكل ميسر لما خلق له. أما من كان من أهل السعادة، فييسّر لعمل أهل السعادة. وأما من كان من أهل الشقاء، فييسّر لعمل أهل الشقاوة. ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى... الآية
. (٢) أخرجه ابن ماجة في: الطب، ١- باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، حديث ٣٤٣٧.
الحديث أخرجه البخاري في: التفسير، ٩٢- سورة الليل، ٧- باب فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى، حديث ٧١٨ ونصه: عن عليّ رضي الله عنه قال: كان النبيّ ﷺ في جنازة. فأخذ شيئا فجعل ينكت به الأرض. فقال «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة» قالوا:
يا رسول الله! أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال «اعملوا فكل ميسر لما خلق له. أما من كان من أهل السعادة، فييسّر لعمل أهل السعادة. وأما من كان من أهل الشقاء، فييسّر لعمل أهل الشقاوة. ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى... الآية
. (٢) أخرجه ابن ماجة في: الطب، ١- باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، حديث ٣٤٣٧.
84
الله»
. فبيّن أن الأسباب التي تدفع بها المكاره هي من القدر، ليس القدر مجرّد دفع المكروه بلا سبب. وكذلك قول من قال: (إن الدعاء لا يؤثر شيئا والتوكل لا يؤثر شيئا) هو من هذا الجنس، لكن إنكار ما أمر به من الأعمال أمر ظاهر، بخلاف تأثير التوكل. لكن الأصل واحد. وهو النظر إلى المقدور مجردا عن أسبابه ولوازمه. ومن هذا الباب: (أن المقتول يموت بأجله) عند عامة المسلمين. إلّا فرقة من القدرية قالوا: إن القاتل قطع أجله. ثم تكلم الجمهور: لو لم يقتل؟ قال بعضهم: كان يموت لأن الأجل قد فرغ، وقال بعضهم: لا يموت لانتفاء السبب. وكلا القولين قد قال به من ينسب إلى السنة، وكلاهما خطأ. فإن القدر سبق بأنه يموت بهذا السبب لا بغيره. فإذا قدر انتفاء هذا السبب كان فرض خلاف ما في المقدور، ولو كان المقدور أنه لا يموت بهذا السبب، أمكن أن يكون المقدور أنه يموت بغيره، وأمكن أن يكون القدر أنه لا يموت. فالجزم بأحدهما جهل فيما تعددت أسبابه، لم يجزم بعدمه عند عدم بعضها، ولم يجزم بثبوته إن لم يعرف له سبب آخر. بخلاف ما ليس له إلّا سبب واحد. مثل دخول النار، فإنه لا يدخلها إلّا من عصى. فإذا قدر أنه لم يعص لم يدخلها. وقال تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ، وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: ١٥٩- ١٦٠] فأمره إذا عزم، أن يتوكل على الله فلو كان التوكل لا يعينه على نيل ما عزم عليه، لم يكن لأمره به عند العزم فائدة، بيّن أنه هو سبحانه الناصر دون غيره وقال: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: ١٦٠] فنهى عن التوكل على غيره، وأمر بالتوكل عليه ليحصل للمتوكل عليه النصر الذي لا يقدر عليه غيره. وإلّا فالمتوكل على غيره يطلب منه النصر، فإن كان ذلك المطلوب لا يحصل منه لم يكن لذكر انفراده بالنصر معنى فإنه على هذا القول: نصره لمن توكل عليه كنصره لمن لم يتوكل عليه. وهذا يناقض مقصود الآية. بل عند هؤلاء:
قد ينصر من يتوكل على غيره ولا ينصر من يتوكل عليه، فكيف يأمر بالتوكل عليه دون غيره مقرونا بقوله: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ، وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وكذلك قوله تعالى:
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ، وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ... - إلى قوله- قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ، عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ. [الزمر: ٣٦- ٣٩] فبيّن أن الله يكفي عبده الذي يعبده، الذي هو من عباده الذين ليس للشيطان
. فبيّن أن الأسباب التي تدفع بها المكاره هي من القدر، ليس القدر مجرّد دفع المكروه بلا سبب. وكذلك قول من قال: (إن الدعاء لا يؤثر شيئا والتوكل لا يؤثر شيئا) هو من هذا الجنس، لكن إنكار ما أمر به من الأعمال أمر ظاهر، بخلاف تأثير التوكل. لكن الأصل واحد. وهو النظر إلى المقدور مجردا عن أسبابه ولوازمه. ومن هذا الباب: (أن المقتول يموت بأجله) عند عامة المسلمين. إلّا فرقة من القدرية قالوا: إن القاتل قطع أجله. ثم تكلم الجمهور: لو لم يقتل؟ قال بعضهم: كان يموت لأن الأجل قد فرغ، وقال بعضهم: لا يموت لانتفاء السبب. وكلا القولين قد قال به من ينسب إلى السنة، وكلاهما خطأ. فإن القدر سبق بأنه يموت بهذا السبب لا بغيره. فإذا قدر انتفاء هذا السبب كان فرض خلاف ما في المقدور، ولو كان المقدور أنه لا يموت بهذا السبب، أمكن أن يكون المقدور أنه يموت بغيره، وأمكن أن يكون القدر أنه لا يموت. فالجزم بأحدهما جهل فيما تعددت أسبابه، لم يجزم بعدمه عند عدم بعضها، ولم يجزم بثبوته إن لم يعرف له سبب آخر. بخلاف ما ليس له إلّا سبب واحد. مثل دخول النار، فإنه لا يدخلها إلّا من عصى. فإذا قدر أنه لم يعص لم يدخلها. وقال تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ، وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: ١٥٩- ١٦٠] فأمره إذا عزم، أن يتوكل على الله فلو كان التوكل لا يعينه على نيل ما عزم عليه، لم يكن لأمره به عند العزم فائدة، بيّن أنه هو سبحانه الناصر دون غيره وقال: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: ١٦٠] فنهى عن التوكل على غيره، وأمر بالتوكل عليه ليحصل للمتوكل عليه النصر الذي لا يقدر عليه غيره. وإلّا فالمتوكل على غيره يطلب منه النصر، فإن كان ذلك المطلوب لا يحصل منه لم يكن لذكر انفراده بالنصر معنى فإنه على هذا القول: نصره لمن توكل عليه كنصره لمن لم يتوكل عليه. وهذا يناقض مقصود الآية. بل عند هؤلاء:
قد ينصر من يتوكل على غيره ولا ينصر من يتوكل عليه، فكيف يأمر بالتوكل عليه دون غيره مقرونا بقوله: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ، وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وكذلك قوله تعالى:
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ، وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ... - إلى قوله- قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ، عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ. [الزمر: ٣٦- ٣٩] فبيّن أن الله يكفي عبده الذي يعبده، الذي هو من عباده الذين ليس للشيطان
85
عليهم سلطان، الذي هو من عباده المخلصين، الذي هو من عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان: ٦٣]. ومثل هذا قوله: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: ١]. وقوله: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن: ١٩].
وقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [البقرة: ٢٣]. ونظائر متعددة.
ثم أمره بقوله: قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر: ٣٨]. وقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس: ٧١] وكذلك قال عن هود لما قال قومه: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود: ٥٤- ٥٦]. فهذا من كلام المرسلين، مما يبين أنه بتوكله على الله يدفع شرهم عنه.
فنوح يقول: إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ... الآية، فدعاهم، إذا استعظموا ما يفعله كارهين له، أن يجتمعوا ثم يفعلون به ما يريدونه من الإهلاك. وقال: فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فلولا أنه بحقيقة هذه الكلمة- وهو توكله على الله- يعجزهم عما تحداهم به من مناجزته، لكان قد طلب منهم أن يهلكوه. وهذا لا يجوز، وهذا طلب تعجيز لهم. فدلّ على أنه- بتوكله على الله- يعجزهم عمّا تحدّاهم به، وكذلك هود، يشهد الله تعالى وإياهم أنه بريء مما يشركون بالله. ثم يتحداهم ويعجزهم بقوله: فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها يبين أنه توكل على من أخذ بنواصي الإنس وسائر الدواب. فهو يدفعكم عني لأني متوكل عليه، ولو كان وجود التوكل كعدمه في هذا، لكان قد أغراهم بالإيقاع به، ولم يكن لذكر توكله فائدة، إذ كان حقيقة الأمر عند هؤلاء أنه لا فرق بين من توكل ومن لم يتوكل في وصول العذاب إليه. وهم كانوا أكثر وأقوى منه. فكانوا يهلكونه. وهو لو قال: فإنّ الله مولاي وناصري- ونحو ذلك- لعلم أنه مخبر أنّ الله تعالى يدفعهم، وإنما يدفعهم لإيمانه وتقواه، ولأنه عبده ورسوله. فالله مع رسله وأوليائه، فإذا كان بسبب الإيمان والتقوى يدفع الله عن المؤمنين المتقين، علم أن العبد تقوم به أعمال باطنة وظاهرة، تجلب بها المنفعة وتدفع بها المضرة. والتوكل من أعظم ذلك. وعلم أن من ظن أن المقدور من المنافع والمضارّ، ليس معلقا بالأسباب، بل يحصل بدونها،
وقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [البقرة: ٢٣]. ونظائر متعددة.
ثم أمره بقوله: قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر: ٣٨]. وقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس: ٧١] وكذلك قال عن هود لما قال قومه: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود: ٥٤- ٥٦]. فهذا من كلام المرسلين، مما يبين أنه بتوكله على الله يدفع شرهم عنه.
فنوح يقول: إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ... الآية، فدعاهم، إذا استعظموا ما يفعله كارهين له، أن يجتمعوا ثم يفعلون به ما يريدونه من الإهلاك. وقال: فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فلولا أنه بحقيقة هذه الكلمة- وهو توكله على الله- يعجزهم عما تحداهم به من مناجزته، لكان قد طلب منهم أن يهلكوه. وهذا لا يجوز، وهذا طلب تعجيز لهم. فدلّ على أنه- بتوكله على الله- يعجزهم عمّا تحدّاهم به، وكذلك هود، يشهد الله تعالى وإياهم أنه بريء مما يشركون بالله. ثم يتحداهم ويعجزهم بقوله: فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها يبين أنه توكل على من أخذ بنواصي الإنس وسائر الدواب. فهو يدفعكم عني لأني متوكل عليه، ولو كان وجود التوكل كعدمه في هذا، لكان قد أغراهم بالإيقاع به، ولم يكن لذكر توكله فائدة، إذ كان حقيقة الأمر عند هؤلاء أنه لا فرق بين من توكل ومن لم يتوكل في وصول العذاب إليه. وهم كانوا أكثر وأقوى منه. فكانوا يهلكونه. وهو لو قال: فإنّ الله مولاي وناصري- ونحو ذلك- لعلم أنه مخبر أنّ الله تعالى يدفعهم، وإنما يدفعهم لإيمانه وتقواه، ولأنه عبده ورسوله. فالله مع رسله وأوليائه، فإذا كان بسبب الإيمان والتقوى يدفع الله عن المؤمنين المتقين، علم أن العبد تقوم به أعمال باطنة وظاهرة، تجلب بها المنفعة وتدفع بها المضرة. والتوكل من أعظم ذلك. وعلم أن من ظن أن المقدور من المنافع والمضارّ، ليس معلقا بالأسباب، بل يحصل بدونها،
86
فهو غالط. وكذلك من جعل ذلك مجرّد أمارة وعلامة، لاقتران هذا بهذا، فقد أخطأ، فإن الله أخبر أنّه فعل هذا بهذا في غير موضع من القرآن، في خلقه وأمره. كقوله:
فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [الأعراف: ٥٧]. وقوله: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ [الحاقة: ٢٤]. وقوله: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف: ٧٢]، وأنكر على من ظنّ وجود الأسباب كعدمها في مثل قوله: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [القلم: ٣٥]. وقوله: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:
٢٨]، وأمثال ذلك. وهؤلاء يقولون بالجبر. قالوا: والأمر والنهي حقيقته أنه إعلام بوقوع العذاب بالعاصي بمحض المشيئة لا لسبب ونحوه، ولا بحكمة. فقلبوا حقيقة الأمر والنهي إلى الجبر. كما أبطلوا الأسباب والحكمة. وأبطلوا قدرة العباد. وهم، وإن كانوا يردون على القدرية ويذكرون من تناقضهم ما يبين فساد قول القدرية، فقد ردوا باطلا بباطل،. وقاتلوا بدعة ببدعة. كردّ اليهود على النصارى والنصارى على اليهود مقالتهم في المسيح، وكلتا المقالتين باطلة، وكذلك تقابل الخوارج والشيعة في عليّ باطل، ونظائره متعددة. انتهى. فاحفظه ينفعك في مواضع كثيرة. وقوله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٢]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ كلام مستأنف مشتمل على ذكر بعض ما صدر عن بني إسرائيل- من الخيانة ونقض الميثاق- وما أدى إليه ذلك من التبعات، مسوق لتقرير المؤمنين على ذكر نعمة الله تعالى ومراعاة حق الميثاق الذي واثقهم به. وتحذيرهم من نقضه. أو لتقرير ما ذكر من همّ بني قريظة بالبطش وتحقيقه حسبما مرّ من الرواية ببيان أنّ الغدر والخيانة عادة لهم قديمة توارثوها من أسلافهم- أفاده أبو السعود.
زاد الرازي: تقرير الإلزام بالتكليف بأنه سنة الله في الذين خلوا.
وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً رئيسا. سمي بذلك لأنه يفتش حال القوم
فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [الأعراف: ٥٧]. وقوله: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ [الحاقة: ٢٤]. وقوله: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف: ٧٢]، وأنكر على من ظنّ وجود الأسباب كعدمها في مثل قوله: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [القلم: ٣٥]. وقوله: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:
٢٨]، وأمثال ذلك. وهؤلاء يقولون بالجبر. قالوا: والأمر والنهي حقيقته أنه إعلام بوقوع العذاب بالعاصي بمحض المشيئة لا لسبب ونحوه، ولا بحكمة. فقلبوا حقيقة الأمر والنهي إلى الجبر. كما أبطلوا الأسباب والحكمة. وأبطلوا قدرة العباد. وهم، وإن كانوا يردون على القدرية ويذكرون من تناقضهم ما يبين فساد قول القدرية، فقد ردوا باطلا بباطل،. وقاتلوا بدعة ببدعة. كردّ اليهود على النصارى والنصارى على اليهود مقالتهم في المسيح، وكلتا المقالتين باطلة، وكذلك تقابل الخوارج والشيعة في عليّ باطل، ونظائره متعددة. انتهى. فاحفظه ينفعك في مواضع كثيرة. وقوله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٢]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ كلام مستأنف مشتمل على ذكر بعض ما صدر عن بني إسرائيل- من الخيانة ونقض الميثاق- وما أدى إليه ذلك من التبعات، مسوق لتقرير المؤمنين على ذكر نعمة الله تعالى ومراعاة حق الميثاق الذي واثقهم به. وتحذيرهم من نقضه. أو لتقرير ما ذكر من همّ بني قريظة بالبطش وتحقيقه حسبما مرّ من الرواية ببيان أنّ الغدر والخيانة عادة لهم قديمة توارثوها من أسلافهم- أفاده أبو السعود.
زاد الرازي: تقرير الإلزام بالتكليف بأنه سنة الله في الذين خلوا.
وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً رئيسا. سمي بذلك لأنه يفتش حال القوم
ويعلم دخيلة أمرهم وَقالَ اللَّهُ أي: لهم. وفي الالتفات تربية المهابة وتأكيد ما يتضمنه الكلام من الوعد إِنِّي مَعَكُمْ أي: بالعلم والقدرة والنصرة لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي أي: الذين يجيئون إليكم وَعَزَّرْتُمُوهُمْ أي:
أعنتموهم ونصرتموهم بالسيف على الأعداء وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ أي بالإنفاق في سبيل الخير قَرْضاً حَسَناً بلا منّ ولا طلب ربح دنيوي، من رياء وسمعة لَأُكَفِّرَنَّ أي:
لأمحونّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ذنوبكم وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي: تطّرد من تحت شجرها ومساكنها الْأَنْهارُ أنهار الماء واللبن والخمر والعسل فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ أي: بعد أخذ الميثاق والإقرار به مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي واضح السبيل، الموصل إلى كل مطلب عال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٣]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣)
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ (الباء) سببيّة و (ما) مزيدة لتأكيد الكلام وتمكينه في النفس. أي: بسبب نقضهم ميثاقهم. أو نكرة. أي: بشيء عظيم صدر منهم من نقضهم ميثاقهم المؤكد، الموعود عليه النصر والمغفرة والأجر العظيم لَعَنَّاهُمْ أي أبعدناهم عن رحمتنا وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً بحيث لا تلين لرؤية الآيات والنذر، ولا تتعظ بموعظة، لغلظها وقساوتها لغضب الله عليهم، وبقيت تلك القساوة واللعنة في ذريتهم يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ أي: كلم الله في التوراة، بصرف ألفاظه أو معانيه عَنْ مَواضِعِهِ التي أنزلت.
قال ابن كثير: أي: فسدت فهومهم، وساء تصرّفهم في آيات الله، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله، وحملوه على غير مراده، وقالوا عليه ما لم يقل. عياذا بالله من ذلك.
قال أبو السعود: والجملة استئناف لبيان مرتبة قساوة قلوبهم. فإنه لا مرتبة أعظم مما يصحح الاجتراء على تغيير كلام الله عز وجل، والافتراء عليه. وقيل: حال من مفعول (لعناهم).
وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أي: تركوا نصيبا وافرا مما أمروا به في التوراة، ترك الناسي للشيء لقلة مبالاته بحيث لم يكن لهم رجوع عليه. أو من اتّباع محمد ﷺ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ أي: خيانة. على أنها مصدر ك (لاغية وكاذبة).
أعنتموهم ونصرتموهم بالسيف على الأعداء وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ أي بالإنفاق في سبيل الخير قَرْضاً حَسَناً بلا منّ ولا طلب ربح دنيوي، من رياء وسمعة لَأُكَفِّرَنَّ أي:
لأمحونّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ذنوبكم وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي: تطّرد من تحت شجرها ومساكنها الْأَنْهارُ أنهار الماء واللبن والخمر والعسل فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ أي: بعد أخذ الميثاق والإقرار به مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي واضح السبيل، الموصل إلى كل مطلب عال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٣]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣)
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ (الباء) سببيّة و (ما) مزيدة لتأكيد الكلام وتمكينه في النفس. أي: بسبب نقضهم ميثاقهم. أو نكرة. أي: بشيء عظيم صدر منهم من نقضهم ميثاقهم المؤكد، الموعود عليه النصر والمغفرة والأجر العظيم لَعَنَّاهُمْ أي أبعدناهم عن رحمتنا وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً بحيث لا تلين لرؤية الآيات والنذر، ولا تتعظ بموعظة، لغلظها وقساوتها لغضب الله عليهم، وبقيت تلك القساوة واللعنة في ذريتهم يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ أي: كلم الله في التوراة، بصرف ألفاظه أو معانيه عَنْ مَواضِعِهِ التي أنزلت.
قال ابن كثير: أي: فسدت فهومهم، وساء تصرّفهم في آيات الله، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله، وحملوه على غير مراده، وقالوا عليه ما لم يقل. عياذا بالله من ذلك.
قال أبو السعود: والجملة استئناف لبيان مرتبة قساوة قلوبهم. فإنه لا مرتبة أعظم مما يصحح الاجتراء على تغيير كلام الله عز وجل، والافتراء عليه. وقيل: حال من مفعول (لعناهم).
وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أي: تركوا نصيبا وافرا مما أمروا به في التوراة، ترك الناسي للشيء لقلة مبالاته بحيث لم يكن لهم رجوع عليه. أو من اتّباع محمد ﷺ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ أي: خيانة. على أنها مصدر ك (لاغية وكاذبة).
أو طائفة خائنة. يعني: أن الغدر والخيانة عادة مستمرة لهم ولأسلافهم، بحيث لا يكادون يتركونها أو يكتمونها. فلا تزال ترى ذلك منهم.
قال مجاهد. وغيره بذلك تمالؤهم على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم.
إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم المؤمنون منهم فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ أي لا تعاقبهم.
قال ابن كثير: هذا موجب النصر والظفر. كما قال عمر: ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. وبهذا، يحصل لهم تأليف وجمع على الحقّ. ولعلّ الله يهديهم.
ولهذا قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يعني به الصفح عمّن أساء، فإنه من باب الإحسان.
تنبيه:
قال بعض المفسّرين: في هذا دلالة على جواز التحليف على الأمور المستقبلة.
وأخذ الكفيل على الحق الذي يفعل في المستقبل. وفي قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ... إلخ، دليل على تأكيد الميثاق، وقبح نقضه، وأنه قد يسلب اللطف المبعد من المعاصي. ويورث النسيان، ولهذا قال تعالى: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وعن ابن مسعود: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٤]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤)
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ بعبادة الله وحده، وأن لا يشركوا به شيئا، وحفظ شرعة عيسى عليه السلام. وإنما نسب تسميتهم نصارى إلى أنفسهم- دون أن يقال (ومن النصارى) - إيذانا بأنهم في قولهم نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [آل عمران: ٥٢] بمعزل من الصدق. وإنما هو تقول محض منهم. وليسوا من نصرة الله تعالى في شيء. أو إظهارا لكمال سوء صنيعهم ببيان التناقض بين أقوالهم وأفعالهم. فإن ادعاءهم لنصرته تعالى يستدعي ثباتهم على طاعته تعالى ومراعاة ميثاقه. أفاده أبو السعود.
قال مجاهد. وغيره بذلك تمالؤهم على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم.
إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم المؤمنون منهم فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ أي لا تعاقبهم.
قال ابن كثير: هذا موجب النصر والظفر. كما قال عمر: ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. وبهذا، يحصل لهم تأليف وجمع على الحقّ. ولعلّ الله يهديهم.
ولهذا قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يعني به الصفح عمّن أساء، فإنه من باب الإحسان.
تنبيه:
قال بعض المفسّرين: في هذا دلالة على جواز التحليف على الأمور المستقبلة.
وأخذ الكفيل على الحق الذي يفعل في المستقبل. وفي قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ... إلخ، دليل على تأكيد الميثاق، وقبح نقضه، وأنه قد يسلب اللطف المبعد من المعاصي. ويورث النسيان، ولهذا قال تعالى: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وعن ابن مسعود: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٤]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤)
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ بعبادة الله وحده، وأن لا يشركوا به شيئا، وحفظ شرعة عيسى عليه السلام. وإنما نسب تسميتهم نصارى إلى أنفسهم- دون أن يقال (ومن النصارى) - إيذانا بأنهم في قولهم نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [آل عمران: ٥٢] بمعزل من الصدق. وإنما هو تقول محض منهم. وليسوا من نصرة الله تعالى في شيء. أو إظهارا لكمال سوء صنيعهم ببيان التناقض بين أقوالهم وأفعالهم. فإن ادعاءهم لنصرته تعالى يستدعي ثباتهم على طاعته تعالى ومراعاة ميثاقه. أفاده أبو السعود.
89
قال الناصر في (الانتصاف) : وبقيت نكتة في تخصيص هذا الموضع بإسناد النصرانية إلى دعواهم. ولم يتفق ذلك في غيره. ألا ترى إلى قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: ١٨]. فالوجه في ذلك- والله أعلم- أنه لما كان المقصود في هذه الآية ذمّهم بنقض الميثاق المأخوذ عليهم في نصرة الله تعالى، ناسب ذلك أن يصدر الكلام بما يدل على أنهم لم ينصروا الله ولم يفوا بما واثقوا عليه من النصرة. وما كان حاصل أمرهم إلا التفوه بدعوى النصرة وقولها دون فعلها. والله أعلم.
قال الشهاب الخفاجي: الموجود في كتب اللغة والتاريخ أن النصارى نسبت إلى بلدة (ناصرة) أي التي حبل فيه المسيح وتربى فيها. ولذلك كان يدعى عليه السلام (ناصريّا). ثم قال: فلو قيل في الآية: إنهم على دين النصرانية وليسوا عليها لعدم عملهم بموجبها ومخالفتهم لما في الإنجيل من التبشير بنبيّنا صلى الله عليه وسلم- لكان أقرب من وجه التسمية الذي ذكروه.
فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا أي ألقينا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي: يتعادون ويتباغضون إلى قيام الساعة حسبما تقتضيه أهواؤهم المختلفة، وآراؤهم الزائغة المؤدية إلى التفرّق فرقا متباينة، يلعن بعضها بعضا، ويكفّر بعضها بعضا وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ يخبرهم الله في الآخرة بِما كانُوا يَصْنَعُونَ من المخالفة وكتمان الحق والعداوة والبغضاء. ونسيان الحظ الوافر مما ذكّروا به. وهذا وعيد شديد بالجزاء والعذاب.
لطيفة:
تطرف البقاعي- رحمه الله تعالى- في (تفسيره) هنا إلى ذكر نقباء بني إسرائيل بأسمائهم، وأن عدتهم طابقت عدة نقباء النصارى- وهم الحواريون- كما طابقت عدة نقباء الأنصار ليلة العقبة الأخيرة، حين بايع النبيّ ﷺ الأنصار على الحرب، وأن يمنعوه إذا وصل إليهم، وقال لهم: أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا- كما اختار موسى من قومه- فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا: تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. وذكر البقاعيّ: أن بعث النقباء من بني إسرائيل كان مرتين: الأول لما كلّم تعالى موسى في برية سيناء في اليوم الأول من الشهر الثاني من السنة لخروجهم من أرض مصر. وقد فصلت في الفصل الأول من سفر (العدد). والمرة الثانية: بعثوا لجسّ أرض كنعان. وفصلت أيضا في الفصل الثالث عشر من سفر
قال الشهاب الخفاجي: الموجود في كتب اللغة والتاريخ أن النصارى نسبت إلى بلدة (ناصرة) أي التي حبل فيه المسيح وتربى فيها. ولذلك كان يدعى عليه السلام (ناصريّا). ثم قال: فلو قيل في الآية: إنهم على دين النصرانية وليسوا عليها لعدم عملهم بموجبها ومخالفتهم لما في الإنجيل من التبشير بنبيّنا صلى الله عليه وسلم- لكان أقرب من وجه التسمية الذي ذكروه.
فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا أي ألقينا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي: يتعادون ويتباغضون إلى قيام الساعة حسبما تقتضيه أهواؤهم المختلفة، وآراؤهم الزائغة المؤدية إلى التفرّق فرقا متباينة، يلعن بعضها بعضا، ويكفّر بعضها بعضا وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ يخبرهم الله في الآخرة بِما كانُوا يَصْنَعُونَ من المخالفة وكتمان الحق والعداوة والبغضاء. ونسيان الحظ الوافر مما ذكّروا به. وهذا وعيد شديد بالجزاء والعذاب.
لطيفة:
تطرف البقاعي- رحمه الله تعالى- في (تفسيره) هنا إلى ذكر نقباء بني إسرائيل بأسمائهم، وأن عدتهم طابقت عدة نقباء النصارى- وهم الحواريون- كما طابقت عدة نقباء الأنصار ليلة العقبة الأخيرة، حين بايع النبيّ ﷺ الأنصار على الحرب، وأن يمنعوه إذا وصل إليهم، وقال لهم: أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا- كما اختار موسى من قومه- فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا: تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. وذكر البقاعيّ: أن بعث النقباء من بني إسرائيل كان مرتين: الأول لما كلّم تعالى موسى في برية سيناء في اليوم الأول من الشهر الثاني من السنة لخروجهم من أرض مصر. وقد فصلت في الفصل الأول من سفر (العدد). والمرة الثانية: بعثوا لجسّ أرض كنعان. وفصلت أيضا في الفصل الثالث عشر من سفر
90
(العدد) ثم ذكر البقاعيّ: أن نقباء اليهود في جسّ الأرض لم يوف منهم إلّا يوشع بن نون وكالب بن يفنا، وأما نقباء النصارى، فخان منهم واحد- وهو يهوذا- كما مضى عند قوله تعالى: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ. وأما نقباء الأنصار فكلهم وفى وبرّ بتوفيق الله تعالى.
وقد اقتص البقاعي أسماء نقباء الفرق الثلاث، ولمعة من نبئهم. فانظره، والله أعلم.
ثم خاطب تعالى الفريقين من أهل الكتاب إثر تشديد النكير عليهم بتحريف كتبهم ونبذهم الميثاق، ودعاهم إلى الحنيفية حتى يكونوا على نور من ربهم. فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٥]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥)
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ أي: من نحو بعثته صلى الله عليه وسلم، وآية الرجم في التوراة، وبشارة عيسى به، إظهارا للحقّ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي: مما تخفونه. لا يبينه. مما لا ضرورة في بيانه، صيانة لكم عن زيادة الافتضاح. أو يعفو فلا يؤاخذ. وفي هذه الآية بيان معجزة له صلى الله عليه وسلم. فإنه لم يقرأ كتابا ولم يتعلم علما من أحد، فإخباره بأسرار ما في كتابهم إخبار عن الغيب، فيكون معجزا قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يريد القرآن. لكشفه ظلمات الشرك والشك. ولإبانته ما كان خافيا على الناس من الحق. أو لأنه ظاهر الإعجاز. أو النور، محمد ﷺ لأنه يهتدى به، كما سمي سراجا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٦]
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ أي رضاه بالإيمان به سُبُلَ السَّلامِ أي: طرق السلامة والنجاة من عذاب الله وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي: ظلمات الكفر
وقد اقتص البقاعي أسماء نقباء الفرق الثلاث، ولمعة من نبئهم. فانظره، والله أعلم.
ثم خاطب تعالى الفريقين من أهل الكتاب إثر تشديد النكير عليهم بتحريف كتبهم ونبذهم الميثاق، ودعاهم إلى الحنيفية حتى يكونوا على نور من ربهم. فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٥]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥)
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ أي: من نحو بعثته صلى الله عليه وسلم، وآية الرجم في التوراة، وبشارة عيسى به، إظهارا للحقّ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي: مما تخفونه. لا يبينه. مما لا ضرورة في بيانه، صيانة لكم عن زيادة الافتضاح. أو يعفو فلا يؤاخذ. وفي هذه الآية بيان معجزة له صلى الله عليه وسلم. فإنه لم يقرأ كتابا ولم يتعلم علما من أحد، فإخباره بأسرار ما في كتابهم إخبار عن الغيب، فيكون معجزا قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يريد القرآن. لكشفه ظلمات الشرك والشك. ولإبانته ما كان خافيا على الناس من الحق. أو لأنه ظاهر الإعجاز. أو النور، محمد ﷺ لأنه يهتدى به، كما سمي سراجا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٦]
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ أي رضاه بالإيمان به سُبُلَ السَّلامِ أي: طرق السلامة والنجاة من عذاب الله وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي: ظلمات الكفر
والشّبه إلى نور الإيمان والدلائل القطعية بِإِذْنِهِ أي: بتوفيقه وإرادته وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو الدين الحقّ السويّ في الاعتقادات والأعمال، العريّ عن الإفراط والتفريط فيها. ثم أشار إلى إفراط بعض النصارى في حق عيسى، وتفريطهم في حقّ الله جل شأنه فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٧]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ في هذه الآية وجهان:
الوجه الأول: إنّ ما أفادته من الحصر- وإن لم يصرحوا به- إلّا أنه نسب إليهم لأنه لازم مذهبهم لأن معتقدهم مؤدّ إليه.
قال الرازيّ: لأنهم يقولون: إن أقنوم الكلمة اتحد بعيسى عليه السلام. فأقنوم الكلمة إما أن يكون ذاتا أو صفة. فإن كان ذاتا فذات الله تعالى قد حلّت في عيسى واتّحدت بعيسى فيكون عيسى هو الإله على هذا القول. وإن قلنا: إنّ الأقنوم عبارة عن الصفة، فانتقال الصفة من ذات إلى ذات أخرى غير معقول. ثم بتقدير انتقال أقنوم العلم عن ذات الله تعالى إلى عيسى، يلزم خلوّ ذات الله عن العلم. ومن لم يكن عالما لم يكن إلها. فحينئذ يكون الإله هو عيسى. على قولهم. فثبت أنّ النصارى- وإن كانوا لا يصرحون بهذا القول- إلا حاصل مذهبهم ليس إلّا ذلك.
انتهى.
وبطلان الاتحاد معلوم بالبداهة.
قال العلامة العضد في (الموقف الثاني) : المقصد الثامن: الاثنان لا يتحدان.
وهذا حكم ضروريّ. فإن الاختلاف بين الماهيتين والهويتين اختلاف بالذات فلا يعقل زواله. وهذا ربما يزاد توضيحه فيقال: إن عدم الهويتان فلا اتحاد، بل وحدث أمر ثالث غيرهما- وإن عدم أحدهما- فلا يتحد المعدوم بالموجود، وإن وجدا فهما اثنان كما كانا، فلا اتحاد أيضا. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٧]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ في هذه الآية وجهان:
الوجه الأول: إنّ ما أفادته من الحصر- وإن لم يصرحوا به- إلّا أنه نسب إليهم لأنه لازم مذهبهم لأن معتقدهم مؤدّ إليه.
قال الرازيّ: لأنهم يقولون: إن أقنوم الكلمة اتحد بعيسى عليه السلام. فأقنوم الكلمة إما أن يكون ذاتا أو صفة. فإن كان ذاتا فذات الله تعالى قد حلّت في عيسى واتّحدت بعيسى فيكون عيسى هو الإله على هذا القول. وإن قلنا: إنّ الأقنوم عبارة عن الصفة، فانتقال الصفة من ذات إلى ذات أخرى غير معقول. ثم بتقدير انتقال أقنوم العلم عن ذات الله تعالى إلى عيسى، يلزم خلوّ ذات الله عن العلم. ومن لم يكن عالما لم يكن إلها. فحينئذ يكون الإله هو عيسى. على قولهم. فثبت أنّ النصارى- وإن كانوا لا يصرحون بهذا القول- إلا حاصل مذهبهم ليس إلّا ذلك.
انتهى.
وبطلان الاتحاد معلوم بالبداهة.
قال العلامة العضد في (الموقف الثاني) : المقصد الثامن: الاثنان لا يتحدان.
وهذا حكم ضروريّ. فإن الاختلاف بين الماهيتين والهويتين اختلاف بالذات فلا يعقل زواله. وهذا ربما يزاد توضيحه فيقال: إن عدم الهويتان فلا اتحاد، بل وحدث أمر ثالث غيرهما- وإن عدم أحدهما- فلا يتحد المعدوم بالموجود، وإن وجدا فهما اثنان كما كانا، فلا اتحاد أيضا. انتهى.
92
الوجه الثاني: إنه عني بهذه الآية قوم يقولون بأن حقيقة الله هو المسيح لا غير.
قال الزمخشريّ: قيل: كان في النصارى قوم يقولون ذلك. انتهى.
قال الإمام الشهرستانيّ في (الملل والنحل) عند ذكر فرق النصارى:
ومنهم اليعقوبية أصحاب يعقوب. قالوا بالأقانيم الثلاثة- كما ذكرنا- إلّا أنهم قالوا: انقلبت الكلمة لحما ودما فصار الإله هو المسيح، وهو الظاهر بجسده بل هو هو. وعنهم أخبرنا بالقرآن الكريم: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. فمنهم من قال: المسيح هو الله. ومنهم من قال: ظهر اللاهوت بالناسوت فصار ناسوت المسيح مظهر الحق. لا على طريق حلول جزء فيه. ولا على سبيل اتحاد الكلمة التي هي في حكم الصفة بل صار هو هو. وهذا كما يقال: ظهر الملك بصورة الإنسان. أو ظهر الشيطان بصورة حيوان.. إلخ.
وذكر الإمام الماورديّ في (أعلام النبوة) : إنّ أوائل النسطورية قالوا: إن عيسى هو الله. انتهى.
وذكر الأمام ابن إسحاق في (السيرة) : إن نصارى نجران لمّا وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا من النصرانية على دين ملكهم، مع اختلاف من أمرهم. يقولون هو الله: ويقولون هو ولد الله. ويقولون هو ثالث ثلاثة- يعني هو تعالى وعيسى ومريم- وكذلك قول النصرانية. ثم قال: ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن.
قُلْ- أي: تبكيتا لهم، وإظهارا لفساد قولهم- فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: من يستطيع إمساك شيء من قدرته تعالى إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ أي: يميته وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أي: فضلا عن آحادهم. احتج بذلك على فساد قولهم. وتقريره: أن المسيح حادث بلا شبهة. لأنه تولد من أم. ولذا ذكرت الأم للتنبيه على هذا. ومقهور قابل للفناء أيضا كسائر الممكنات. ومن كان كذلك كيف يكون إلها؟
قال أبو السعود: وتعميم إرادة الإهلاك للكل- مع حصول المطلوب يقصرها على المسيح- لتهويل الخطب وإظهار كمال العجز، ببيان أنّ الكل تحت قهره تعالى وملكوته. لا يقدر أحد على دفع ما أريد به. فضلا عن دفع ما أريد بغيره. وللإيذان بأن المسيح أسوة لسائر المخلوقات في كونه عرضة للهلاك. كما أنه أسوة لها فيما ذكر من العجز وعدم استحقاق الألوهية.
قال الزمخشريّ: قيل: كان في النصارى قوم يقولون ذلك. انتهى.
قال الإمام الشهرستانيّ في (الملل والنحل) عند ذكر فرق النصارى:
ومنهم اليعقوبية أصحاب يعقوب. قالوا بالأقانيم الثلاثة- كما ذكرنا- إلّا أنهم قالوا: انقلبت الكلمة لحما ودما فصار الإله هو المسيح، وهو الظاهر بجسده بل هو هو. وعنهم أخبرنا بالقرآن الكريم: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. فمنهم من قال: المسيح هو الله. ومنهم من قال: ظهر اللاهوت بالناسوت فصار ناسوت المسيح مظهر الحق. لا على طريق حلول جزء فيه. ولا على سبيل اتحاد الكلمة التي هي في حكم الصفة بل صار هو هو. وهذا كما يقال: ظهر الملك بصورة الإنسان. أو ظهر الشيطان بصورة حيوان.. إلخ.
وذكر الإمام الماورديّ في (أعلام النبوة) : إنّ أوائل النسطورية قالوا: إن عيسى هو الله. انتهى.
وذكر الأمام ابن إسحاق في (السيرة) : إن نصارى نجران لمّا وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا من النصرانية على دين ملكهم، مع اختلاف من أمرهم. يقولون هو الله: ويقولون هو ولد الله. ويقولون هو ثالث ثلاثة- يعني هو تعالى وعيسى ومريم- وكذلك قول النصرانية. ثم قال: ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن.
قُلْ- أي: تبكيتا لهم، وإظهارا لفساد قولهم- فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: من يستطيع إمساك شيء من قدرته تعالى إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ أي: يميته وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أي: فضلا عن آحادهم. احتج بذلك على فساد قولهم. وتقريره: أن المسيح حادث بلا شبهة. لأنه تولد من أم. ولذا ذكرت الأم للتنبيه على هذا. ومقهور قابل للفناء أيضا كسائر الممكنات. ومن كان كذلك كيف يكون إلها؟
قال أبو السعود: وتعميم إرادة الإهلاك للكل- مع حصول المطلوب يقصرها على المسيح- لتهويل الخطب وإظهار كمال العجز، ببيان أنّ الكل تحت قهره تعالى وملكوته. لا يقدر أحد على دفع ما أريد به. فضلا عن دفع ما أريد بغيره. وللإيذان بأن المسيح أسوة لسائر المخلوقات في كونه عرضة للهلاك. كما أنه أسوة لها فيما ذكر من العجز وعدم استحقاق الألوهية.
93
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما من الخلق والعجائب- وهذا تحقيق لاختصاص الألوهية به تعالى. إثر بيان انتفائها عن غيره يَخْلُقُ ما يَشاءُ جملة مستأنفة مسوقة لبيان بعض أحكام الملك والألوهية على وجه يزيح ما اعتراهم من الشبهة في أمر المسيح- لولادته من غير أب، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص- أي: يخلق ما يشاء من أنواع الخلق كما شاء بأب أو بغير أب... !
قال السمرقنديّ: وإنما قال يَخْلُقُ ما يَشاءُ لأن النصارى أهل نجران كانوا يقولون: لو كان عيسى بشرا كان له أب. فأخبرهم الله تعالى أنه قادر على أن يخلق خلقا بغير أب.
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من خلق الخلق، والثواب لأوليائه، والعقاب لأعدائه- قَدِيرٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٨]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨)
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ حكاية لما صدر عن الفريقين من الدعوى الباطلة. وبيان لبطلانها بعد بطلان ما صدر عن أحدهما. أي قالوا: نحن من الله بمنزلة الأبناء من الآباء في المنزلة والكرامة. ونحن أحباؤه لأننا على دينه.
قال ابن كثير: ونقلوا عن كتابهم أن الله قال لعبده إسرائيل: أنت ابني بكري.
فحملوا هذا على غير تأويله وحرّفوه. وقد ردّ عليه غير واحد ممن أسلم من عقلائهم. وقالوا: هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام. كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، يعني ربي وربكم. ومعلوم أنهم لم يدّعوا لأنفسهم من البنوة ما ادعوها في عيسى عليه السلام، وإنما أرادوا بذلك معزّتهم لديه، وحظوتهم عنده..! انتهى.
وقال الجلال الدواني في (شرح عقائد العضد) : وما نقل عن الإنجيل- فعلى فرض صحته وعدم التحريف- يكون إطلاق الأب عليه بمعنى المبدأ. فإن القدماء كانوا يسمون المبادئ بالآباء. وأنت تعلم أن المتشابهات في القرآن وغيره من الكتب الإلهية كثيرة. ويردّها العلماء بالتأويل إلى ما علم بالدليل. فلو ثبت ذلك لكان من هذا القبيل. انتهى.
قال السمرقنديّ: وإنما قال يَخْلُقُ ما يَشاءُ لأن النصارى أهل نجران كانوا يقولون: لو كان عيسى بشرا كان له أب. فأخبرهم الله تعالى أنه قادر على أن يخلق خلقا بغير أب.
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من خلق الخلق، والثواب لأوليائه، والعقاب لأعدائه- قَدِيرٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٨]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨)
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ حكاية لما صدر عن الفريقين من الدعوى الباطلة. وبيان لبطلانها بعد بطلان ما صدر عن أحدهما. أي قالوا: نحن من الله بمنزلة الأبناء من الآباء في المنزلة والكرامة. ونحن أحباؤه لأننا على دينه.
قال ابن كثير: ونقلوا عن كتابهم أن الله قال لعبده إسرائيل: أنت ابني بكري.
فحملوا هذا على غير تأويله وحرّفوه. وقد ردّ عليه غير واحد ممن أسلم من عقلائهم. وقالوا: هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام. كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، يعني ربي وربكم. ومعلوم أنهم لم يدّعوا لأنفسهم من البنوة ما ادعوها في عيسى عليه السلام، وإنما أرادوا بذلك معزّتهم لديه، وحظوتهم عنده..! انتهى.
وقال الجلال الدواني في (شرح عقائد العضد) : وما نقل عن الإنجيل- فعلى فرض صحته وعدم التحريف- يكون إطلاق الأب عليه بمعنى المبدأ. فإن القدماء كانوا يسمون المبادئ بالآباء. وأنت تعلم أن المتشابهات في القرآن وغيره من الكتب الإلهية كثيرة. ويردّها العلماء بالتأويل إلى ما علم بالدليل. فلو ثبت ذلك لكان من هذا القبيل. انتهى.
94
وقال الدهلويّ في (الفوز الكبير) : إن الله عزّ وجلّ شرف الأنبياء وتابعيهم في كل ملّة بلقب المقرب والمحبوب. وذم الذين ينكرون الملّة بصفة المبغوضية. وقد وقع التكلم في هذا الباب بلفظ شائع في كل قوم، فلا عجب أن يكون قد ذكر الأبناء مقام المحبوبين، فظنّ اليهود أن ذلك التشريف دائر مع اسم اليهودىّ والعبريّ والإسرائيليّ. ولم يعلموا أنه دائر على صفة الانقياد والخضوع وتمشية ما أراد الحقّ سبحانه ببعثة الأنبياء لا غير. وكان ارتكز من هذا القبيل في خاطرهم كثير من التأويلات الفاسدة المأخوذة من آبائهم وأجدادهم، فأزال القرآن هذه الشبهات على وجه أتمّ. انتهى.
قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أي: لو كنتم أبناءه وأحبّاءه لما عذبكم، لكن اللازم منتف إذ عذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ، واعترفتم بأنه سيعذبكم بالنار أياما معدودة.
لطيفة:
قال بعض شيوخ الصوفية لبعض الفقهاء: أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فلم يردّ عليه، فتلا عليه الصوفيّ هذه الآية: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ. وهذا الذي قاله حسن. وله شاهد
في (المسند) للإمام أحمد «١» حيث قال: حدثنا ابن أبي عدّي. عن حميد، عن أنس قال: «مرّ النبيّ ﷺ في نفر من أصحابه، وصبيّ في الطريق. فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى وتقول: ابني ابني! وسعت فأخذته، فقال القوم: يا رسول الله! ما كانت هذه لتلقي ولدها في النار، قال: فخفضهم النبيّ ﷺ فقال: لا، ولا يلقي الله حبيبه في النار»
. قال ابن كثير: تفرد به أحمد. انتهى.
وقال السمرقنديّ: في الآية دليل أن الله تعالى إذا أحبّ عبده يغفر ذنوبه ولا يعذبه بذنوبه. لأنه تعالى احتج عليهم فقال: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ لو كنتم أحباء إليه؟
وقد قال في آية أخرى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. [البقرة:
٢٢٢]، ففيها دليل أنه لا يعذب التوابين بذنوبهم، ولا المجاهدين الذين يجاهدون في سبيل الله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ [الصف: ٤].
وقوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام، أي:
قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أي: لو كنتم أبناءه وأحبّاءه لما عذبكم، لكن اللازم منتف إذ عذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ، واعترفتم بأنه سيعذبكم بالنار أياما معدودة.
لطيفة:
قال بعض شيوخ الصوفية لبعض الفقهاء: أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فلم يردّ عليه، فتلا عليه الصوفيّ هذه الآية: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ. وهذا الذي قاله حسن. وله شاهد
في (المسند) للإمام أحمد «١» حيث قال: حدثنا ابن أبي عدّي. عن حميد، عن أنس قال: «مرّ النبيّ ﷺ في نفر من أصحابه، وصبيّ في الطريق. فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى وتقول: ابني ابني! وسعت فأخذته، فقال القوم: يا رسول الله! ما كانت هذه لتلقي ولدها في النار، قال: فخفضهم النبيّ ﷺ فقال: لا، ولا يلقي الله حبيبه في النار»
. قال ابن كثير: تفرد به أحمد. انتهى.
وقال السمرقنديّ: في الآية دليل أن الله تعالى إذا أحبّ عبده يغفر ذنوبه ولا يعذبه بذنوبه. لأنه تعالى احتج عليهم فقال: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ لو كنتم أحباء إليه؟
وقد قال في آية أخرى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. [البقرة:
٢٢٢]، ففيها دليل أنه لا يعذب التوابين بذنوبهم، ولا المجاهدين الذين يجاهدون في سبيل الله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ [الصف: ٤].
وقوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام، أي:
(١) أخرجه في المسند ٣/ ١٠٤ و ٢٣٥.
95
لستم كذلك بل أنتم بشر مِمَّنْ خَلَقَ أي: من جنس من خلقه من غير مزية لكم عليهم يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ لمن تاب من اليهودية والنصرانية وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ من مات على اليهودية والنصرانية وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي: المرجع، مصير من آمن ومن لم يؤمن. فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٩]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ أي: ما أمرتم به وما نهيتم عنه عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ متعلق ب (جاءكم) أي: جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل، وانقطاع من الوحي. إذ لم يكن بينه وبين عيسى رسول. ومدة الفترة بينهما خمسمائة وتسع وستون سنة. أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ تعليل لمجيء الرسول بالبيان على حذف المضاف. أي: كراهة أن تعتذروا بذلك يوم القيامة، وتقولوا: ما جاءنا من رسول- بعد ما درس الدين- يبشرنا لنرغب فنعمل بما يسعدنا فنفوز. وينذرنا لنرهب فنترك ما يشقينا فنسلم. وقد كان اختلط في تلك الفترة الحق بالباطل- كما سنبيّنه- فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ متعلق بمحذوف تنبئ عنه الفاء الفصيحة وتبين أنه معلل به. أي: لا تعتذروا (بما جاءنا) فقد جاءكم بشير أي بشير، ونذير أي نذير. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من إرسال الرسل، والصواب لمن أجاب الرسل، والعقاب لمن لم يجبهم.
قال البقاعيّ: وفي الختم بوصف القدرة، وإتباعه تذكيرهم ما صاروا إليه من العز بالنبوّة والملك، بعد ما كانوا فيه من الذل بالعبودية والجهل، إشارة إلى أن إنكارهم لأن يكون من ولد إسماعيل عليه السلام نبيّ، يلزم منه إنكارهم للقدرة.
تنبيه:
قال ابن كثير: كانت الفترة بين عيسى ابن مريم- آخر أنبياء بني إسرائيل- وبين محمد خاتم النبيين من بني آدم على الإطلاق. كما
ثبت في (صحيح البخاريّ) «١»
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٩]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ أي: ما أمرتم به وما نهيتم عنه عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ متعلق ب (جاءكم) أي: جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل، وانقطاع من الوحي. إذ لم يكن بينه وبين عيسى رسول. ومدة الفترة بينهما خمسمائة وتسع وستون سنة. أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ تعليل لمجيء الرسول بالبيان على حذف المضاف. أي: كراهة أن تعتذروا بذلك يوم القيامة، وتقولوا: ما جاءنا من رسول- بعد ما درس الدين- يبشرنا لنرغب فنعمل بما يسعدنا فنفوز. وينذرنا لنرهب فنترك ما يشقينا فنسلم. وقد كان اختلط في تلك الفترة الحق بالباطل- كما سنبيّنه- فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ متعلق بمحذوف تنبئ عنه الفاء الفصيحة وتبين أنه معلل به. أي: لا تعتذروا (بما جاءنا) فقد جاءكم بشير أي بشير، ونذير أي نذير. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من إرسال الرسل، والصواب لمن أجاب الرسل، والعقاب لمن لم يجبهم.
قال البقاعيّ: وفي الختم بوصف القدرة، وإتباعه تذكيرهم ما صاروا إليه من العز بالنبوّة والملك، بعد ما كانوا فيه من الذل بالعبودية والجهل، إشارة إلى أن إنكارهم لأن يكون من ولد إسماعيل عليه السلام نبيّ، يلزم منه إنكارهم للقدرة.
تنبيه:
قال ابن كثير: كانت الفترة بين عيسى ابن مريم- آخر أنبياء بني إسرائيل- وبين محمد خاتم النبيين من بني آدم على الإطلاق. كما
ثبت في (صحيح البخاريّ) «١»
(١) أخرجه البخاري في: الأنبياء، ٤٨- باب وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها، حديث ١٦١٧.
96
عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «أنا أولى الناس بابن مريم ليس بيني وبينه نبيّ»
. وهذا فيه ردّ على من زعم أنه بعث عيسى نبيّ يقال له خالد بن سنان. كما حكاه القضاعيّ وغيره. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : استدل به- يعني بحديث أبي هريرة- على أنه لم يبعث بعد عيسى أحد إلا نبيّنا صلى الله عليه وسلم. وفيه نظر لأنه ورد أن الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إلى أصحاب القرية- المذكورة قصتهم في سورة «يس» - كانوا من أتباع عيسى. وأن جرجيس وخالد بن سنان كانا نبيّين، وكانا بعد عيسى.
والجواب: أن هذا الحديث يضعف ما ورد من ذلك. فإنه صحيح بلا تردد. وفي غيره مقال. أو المراد: إنه لم يبعث بعد عيسى نبيّ بشريعة مستقلة. وإنما بعث بعده، من بعث، بتقرير شريعة عيسى. وقصة خالد بن سنان أخرجها الحاكم في (المستدرك) من حديث ابن عباس، ولها طرق جمعتها في ترجمته في كتابي في (الصحابة).
انتهى.
وقد ذكرت في كتابي (إيضاح الفطرة في أهل الفترة) في الباب الحادي عشر من كان في الفترة من الأنبياء على ما روي. فارجع إليه.
قال ابن كثير: والمقصود من هذه الآية، أن الله بعث محمدا ﷺ على فترة من الرسل، وطموس من السبل، وتغيّر الأديان، وكثرة عبّاد الأوثان والنيران والصلبان.
فكانت النعمة به أتمّ النعم، والحاجة إليه أمر عام، فإن الفساد كان قد عمّ جميع البلاد، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد. إلّا قليلا من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين. كما
روى أحمد «١» عن عياض المجاشعيّ- رضي الله عنه-
. وهذا فيه ردّ على من زعم أنه بعث عيسى نبيّ يقال له خالد بن سنان. كما حكاه القضاعيّ وغيره. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : استدل به- يعني بحديث أبي هريرة- على أنه لم يبعث بعد عيسى أحد إلا نبيّنا صلى الله عليه وسلم. وفيه نظر لأنه ورد أن الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إلى أصحاب القرية- المذكورة قصتهم في سورة «يس» - كانوا من أتباع عيسى. وأن جرجيس وخالد بن سنان كانا نبيّين، وكانا بعد عيسى.
والجواب: أن هذا الحديث يضعف ما ورد من ذلك. فإنه صحيح بلا تردد. وفي غيره مقال. أو المراد: إنه لم يبعث بعد عيسى نبيّ بشريعة مستقلة. وإنما بعث بعده، من بعث، بتقرير شريعة عيسى. وقصة خالد بن سنان أخرجها الحاكم في (المستدرك) من حديث ابن عباس، ولها طرق جمعتها في ترجمته في كتابي في (الصحابة).
انتهى.
وقد ذكرت في كتابي (إيضاح الفطرة في أهل الفترة) في الباب الحادي عشر من كان في الفترة من الأنبياء على ما روي. فارجع إليه.
قال ابن كثير: والمقصود من هذه الآية، أن الله بعث محمدا ﷺ على فترة من الرسل، وطموس من السبل، وتغيّر الأديان، وكثرة عبّاد الأوثان والنيران والصلبان.
فكانت النعمة به أتمّ النعم، والحاجة إليه أمر عام، فإن الفساد كان قد عمّ جميع البلاد، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد. إلّا قليلا من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين. كما
روى أحمد «١» عن عياض المجاشعيّ- رضي الله عنه-
(١) أخرجه ٤/ ١٦٢.
وأخرجه مسلم في صحيحه في: الجنة، حديث ٦٣ وهاكموه نسوقه بنصه الكامل لما فيه من الفوائد الجليلة: عن عياض بن حمار المجاشعيّ، أن رسول الله ﷺ قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربّي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني، يومي هذا. كل مال نحلته عبدا حلال. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم (أي استخفوهم فذهبوا بهم وأزالوهم عما كانوا عليه وجالوا معهم في الباطل) عن دينهم. وحرمت عليهم ما أحللت لهم.
وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا. وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم. إلا بقايا من أهل الكتاب. وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك. وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء. تقرؤه نائما ويقظانا. وإن الله أمرني أن أحرّق قريشا. فقلت: ربّ! إذا يثلغوا رأسي (أي: يشدخوه ويشجّوه، كما يشدخ الخبز، أي يكسر) فيدعوه خبزة.
وأخرجه مسلم في صحيحه في: الجنة، حديث ٦٣ وهاكموه نسوقه بنصه الكامل لما فيه من الفوائد الجليلة: عن عياض بن حمار المجاشعيّ، أن رسول الله ﷺ قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربّي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني، يومي هذا. كل مال نحلته عبدا حلال. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم (أي استخفوهم فذهبوا بهم وأزالوهم عما كانوا عليه وجالوا معهم في الباطل) عن دينهم. وحرمت عليهم ما أحللت لهم.
وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا. وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم. إلا بقايا من أهل الكتاب. وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك. وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء. تقرؤه نائما ويقظانا. وإن الله أمرني أن أحرّق قريشا. فقلت: ربّ! إذا يثلغوا رأسي (أي: يشدخوه ويشجّوه، كما يشدخ الخبز، أي يكسر) فيدعوه خبزة.
97
أن النبيّ ﷺ خطب ذات يوم فقال في خطبته: «وإن ربّي، أمرني أن أعلّمكم ما جهلتم مما علمنّي في يومي هذا. كلّ مال نحلته عبادي حلال. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وأنهم أتتهم الشياطين فأضلّتهم عن دينهم. وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ثم إن الله عزّ وجل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم. عجميهم وعربيهم. إلّا بقايا من أهل الكتاب. وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك. وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء. تقرؤه نائما ويقظانا..»
انتهى.
وقال الأستاذ النحرير الشيخ محمد عبده مفتي مصر في (رسالة التوحيد) في بحث رسالة نبينا ﷺ ما نصّه: ليس من غرضنا في هذه الوريقات أن نلمّ بتاريخ الأمم عامة، وتاريخ العرب خاصة، في زمن البعثة المحمدية، لنبين كيف كانت حاجة سكان الأرض ماسّة إلى قارعة تهزّ عروش الملوك، وتزلزل قواعد سلطانهم الغاشم، وتخفض من أبصارهم المعقودة بعنان السماء، إلى من دونهم من رعاياهم الضعفاء.
وإلى نار تنقض من سماء الحقّ على أدم الأنفس البشرية لتأكل ما اعشوشبت به من الأباطيل القاتلة للعقول. وصيحة فصحى تزعج الغافلين، وترجع بألباب الذاهلين، وتنبّه المرؤوسين إلى أنهم ليسوا بأبعد عن البشرية من الرؤساء الظالمين، والهداة الضالين، والقادة الغارّين، وبالجملة تؤوب بهم إلى رشد يقيم الإنسان على الطريق التي سنّها الإله إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان: ٣]. ليبلغ بسلوكها كماله، ويصل على نهجها إلى ما أعدّ في الداريين له. ولكنا نستعير من التاريخ كلمة يفهمها من نظر فيما اتفق عليه مؤرّخو ذلك العهد، نظر إمعان وإنصاف.
كانت دولتا العالم (دولة الفرس في الشرق، ودولة الرومان في الغرب) في
انتهى.
وقال الأستاذ النحرير الشيخ محمد عبده مفتي مصر في (رسالة التوحيد) في بحث رسالة نبينا ﷺ ما نصّه: ليس من غرضنا في هذه الوريقات أن نلمّ بتاريخ الأمم عامة، وتاريخ العرب خاصة، في زمن البعثة المحمدية، لنبين كيف كانت حاجة سكان الأرض ماسّة إلى قارعة تهزّ عروش الملوك، وتزلزل قواعد سلطانهم الغاشم، وتخفض من أبصارهم المعقودة بعنان السماء، إلى من دونهم من رعاياهم الضعفاء.
وإلى نار تنقض من سماء الحقّ على أدم الأنفس البشرية لتأكل ما اعشوشبت به من الأباطيل القاتلة للعقول. وصيحة فصحى تزعج الغافلين، وترجع بألباب الذاهلين، وتنبّه المرؤوسين إلى أنهم ليسوا بأبعد عن البشرية من الرؤساء الظالمين، والهداة الضالين، والقادة الغارّين، وبالجملة تؤوب بهم إلى رشد يقيم الإنسان على الطريق التي سنّها الإله إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان: ٣]. ليبلغ بسلوكها كماله، ويصل على نهجها إلى ما أعدّ في الداريين له. ولكنا نستعير من التاريخ كلمة يفهمها من نظر فيما اتفق عليه مؤرّخو ذلك العهد، نظر إمعان وإنصاف.
كانت دولتا العالم (دولة الفرس في الشرق، ودولة الرومان في الغرب) في
قال:
قال: وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفّق. ورجل رحيم رقيق القلب، لكل ذي قربى مسلم. وعفيف متعفف ذو عيال.
قال: وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له (أي لا عقل له يزبره ويمنعه مما لا ينبغي) الذين هم فيكم تبعا لا يتبعون أهلا ولا مالا. والخائن الذي لا يخفى له طمع، وإن دقّ إلا خانه.
ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا هو يخادعك عن أهلك ومالك».
وذكر البخل والكذب.
استخرجهم كما استخرجوك. واغزهم نغزك (أي نعينك) وأنفق فسننفق عليك | وابعث جيشا نبعث خمسة مثله. وقاتل بمن أطاعك من عصاك. |
قال: وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له (أي لا عقل له يزبره ويمنعه مما لا ينبغي) الذين هم فيكم تبعا لا يتبعون أهلا ولا مالا. والخائن الذي لا يخفى له طمع، وإن دقّ إلا خانه.
ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا هو يخادعك عن أهلك ومالك».
وذكر البخل والكذب.
98
تنازع وتجالد مستمرّ دماء بين العالمين مسفوكة، وقوى منهوكة، وأموال هالكة، وظلم من الإحن حالكة. ومع ذلك، فقد كان الزهو والترف والإسراف والفخفخة والتفنّن في الملاذ بالغة حدّ ما لا يوصف في قصور السلاطين والأمراء، والقواد ورؤساء الأديان من كل أمّة، وكان شره هذه الطبقة من الأمم لا يقف عند حدّ. فزادوا في الضرائب، وبالغوا في فرض الإتاوات، حتى أثقلوا ظهور الرعية بمطالبهم. وأتوا على ما في أيديها من ثمرات أعمالها، وانحصر سلطان القويّ في اختطاف ما بيد الضعيف. وفكّر العاقل، في الاحتيال لسلب الغافل وتبع ذلك أن استولى على تلك الشعوب ضروب من الفقر والذل والاستكانة والخوف والاضطراب، لفقد الأمن على الأرواح والأموال. غمرت مشيئة الرؤساء إرادة من دونهم. فعاد هؤلاء كأشباح اللاعب. يديرها من وراء حجاب، ويظنها الناظر إليها من ذوي الألباب، ففقد بذلك الاستقلال الشخصيّ، وظنّ أفراد الرعايا أنهم لم يخلقوا إلّا لخدمة ساداتهم وتوفير لذّاتهم، كما هو الشأن في العجماوات مع من يقتنيها. ضلت السادات في عقائدها وأهوائها، وغلبتها على الحق والعدل شهواتها. ولكن بقي لها من قوة الفكر أردأ بقاياها. فلم يفارقها الحذر من أنّ بصيص النور الإلهي، الذي يخالط الفطر الإنسانية، قد يفتق الغلف التي أحاطت بالقلوب، ويمزّق الحجب التي أسدلت على العقول.
فتهتدي العامة إلى السبيل، ويثور الجم الغفير على العدد القليل، ولذلك لم يغفل الملوك والرؤساء أن ينشئوا سحبا من الأوهام. ويهيّئوا كسفا من الأباطيل والخرافات، ليقذفوا بها في عقول العامة. فيغلظ الحجاب، ويعظم الرّين، ويختنق بذلك نور الفطرة. ويتم لهم ما يريدون من المغلوبين لهم.
وصرّح الدين، بلسان رؤسائه، أنه عدوّ العقل وعدوّ كل ما يثمره النظر. إلّا ما كان تفسيرا لكتاب مقدس. وكان لهم في المشارب الوثنية ينابيع لا تنضب، ومدد لا ينفد.
هذه حالة الأقوام كانت في معارفهم، وذلك كان شأنهم في معايشهم. عبيد أذلاء، حيارى في جهالة عمياء، اللهمّ إلّا بعض شوارد من بقايا الحكمة الماضية، والشرائع السابقة، آوت إلى بعض الأذهان، ومعها مقت الحاضر، ونقص العلم بالغابر، ثارت الشبهات على أصول العقائد وفروعها، بما انقلب من الوضع، وانعكس من الطبع، فكان يرى الدنس في مظنة الطهارة، والشره حيث تنتظر القناعة، والدعارة حيث ترجى السلامة والسلام. مع قصور النظر عن معرفة السبب، وانصرافه لأول وهلة إلى أن مصدر كلّ ذلك هو الدين. فاستولى الاضطراب على المدارك. وذهب بالناس
فتهتدي العامة إلى السبيل، ويثور الجم الغفير على العدد القليل، ولذلك لم يغفل الملوك والرؤساء أن ينشئوا سحبا من الأوهام. ويهيّئوا كسفا من الأباطيل والخرافات، ليقذفوا بها في عقول العامة. فيغلظ الحجاب، ويعظم الرّين، ويختنق بذلك نور الفطرة. ويتم لهم ما يريدون من المغلوبين لهم.
وصرّح الدين، بلسان رؤسائه، أنه عدوّ العقل وعدوّ كل ما يثمره النظر. إلّا ما كان تفسيرا لكتاب مقدس. وكان لهم في المشارب الوثنية ينابيع لا تنضب، ومدد لا ينفد.
هذه حالة الأقوام كانت في معارفهم، وذلك كان شأنهم في معايشهم. عبيد أذلاء، حيارى في جهالة عمياء، اللهمّ إلّا بعض شوارد من بقايا الحكمة الماضية، والشرائع السابقة، آوت إلى بعض الأذهان، ومعها مقت الحاضر، ونقص العلم بالغابر، ثارت الشبهات على أصول العقائد وفروعها، بما انقلب من الوضع، وانعكس من الطبع، فكان يرى الدنس في مظنة الطهارة، والشره حيث تنتظر القناعة، والدعارة حيث ترجى السلامة والسلام. مع قصور النظر عن معرفة السبب، وانصرافه لأول وهلة إلى أن مصدر كلّ ذلك هو الدين. فاستولى الاضطراب على المدارك. وذهب بالناس
99
مذهب الفوضى في العقل والشريعة معا. وظهرت مذاهب الإباحيين والدهريين في شعوب متعددة، وكان ذلك ويلا عليها، فوق ما رزئت به من سائر الخطوب. وكانت الأمة العربية قبائل متخالفة في النزعات، خاضعة للشهوات، فخر كل قبيلة في قتال أختها. وسفك دماء أبطالها، وسبي نسائها. وسلب أموالها. تسوقها المطامع، إلى المعامع. ويزين لها السيئات، فساد الاعتقادات. وقد بلغ العرب من سخافة العقل حدّا صنعوا أصنامهم من الحلوى ثم عبدوها. فلما جاعوا أكلوها. وبلغوا من تضعضع الأخلاق وهنا قتلوا فيه بناتهم تخلصا من عار حياتهن. أو تنصّلا من نفقات معيشتهنّ. وبلغ الفحش منهم مبلغا لم يعد معه للعفاف قيمة.
وبالجملة: فكانت ربط النظام الاجتماعيّ قد تراخت عقدها في كل أمة.
وانفصمت عراها عند كل طائفة.
أفلم يكن من رحمة الله بأولئك الأقوام أن يؤدبهم رجل منهم يوحي إليه رسالته؟ ويمنحه عنايته؟ ويمده من القوة بما يتمكن معه من كشف تلك الغمم.
التي أظلت رؤوس جميع الأمم؟ نعم، كان ذلك، وله الأمر من قبل ومن بعد. انتهى.
ثم أشار إلى تفريطهم في أمر الله الوارد على لسان موسى، وتفريطهم في حقه مع حثّه إياهم على شكر الله. ليسارعوا إلى امتثال أمره، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٠]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي: التي هي فوق نعمه على من سواكم، فلا تفرّطوا في أمره إذ لم يفرّط في حقكم إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ أي: وهم أكمل الخلائق ومكملوهم، ولم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً يعني: وجعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعد ما كنتم في أيدي القبط مملوكين، فأنقذكم الله. فسمى إنقاذهم ملكا وَآتاكُمْ أعطاكم ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من أنواع الإكرام التي خصكم بها- كفلق البحر لهم، وإهلاك عدوّهم، وتوريثهم أموالهم، وإنزال المنّ والسلوى عليهم، وإخراج المياه العذبة من الحجر، وإظلال الغمام فوقهم... - فمقتضى هذه النعم المبادرة إلى امتثال أوامر المنعم، شكرا له.
وبالجملة: فكانت ربط النظام الاجتماعيّ قد تراخت عقدها في كل أمة.
وانفصمت عراها عند كل طائفة.
أفلم يكن من رحمة الله بأولئك الأقوام أن يؤدبهم رجل منهم يوحي إليه رسالته؟ ويمنحه عنايته؟ ويمده من القوة بما يتمكن معه من كشف تلك الغمم.
التي أظلت رؤوس جميع الأمم؟ نعم، كان ذلك، وله الأمر من قبل ومن بعد. انتهى.
ثم أشار إلى تفريطهم في أمر الله الوارد على لسان موسى، وتفريطهم في حقه مع حثّه إياهم على شكر الله. ليسارعوا إلى امتثال أمره، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٠]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي: التي هي فوق نعمه على من سواكم، فلا تفرّطوا في أمره إذ لم يفرّط في حقكم إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ أي: وهم أكمل الخلائق ومكملوهم، ولم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً يعني: وجعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعد ما كنتم في أيدي القبط مملوكين، فأنقذكم الله. فسمى إنقاذهم ملكا وَآتاكُمْ أعطاكم ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من أنواع الإكرام التي خصكم بها- كفلق البحر لهم، وإهلاك عدوّهم، وتوريثهم أموالهم، وإنزال المنّ والسلوى عليهم، وإخراج المياه العذبة من الحجر، وإظلال الغمام فوقهم... - فمقتضى هذه النعم المبادرة إلى امتثال أوامر المنعم، شكرا له.
ثم أخبر تعالى عن تحريض موسى عليه السلام لقومه على الجهاد والدخول إلى بيت المقدس الذي استحوذ عليه الجبابرة، وأنهم نكلوا وعصوا أمره، فعوقبوا بالتّيه لتفريطهم، فقال سبحانه مخبرا عن موسى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢١]
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١)
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ يعني: أرض بيت المقدس التي كانت مقدسة بمساكنة من مضى من الأنبياء. ثم تلوّثت بمساكنة الأعداء من جبابرة الكنعانيين.
فأراد تطهيرها بإخراجهم وإسكان قومه الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي: التي وعدكموها على لسان أبيكم إبراهيم، بأن تكون ميراثا لولده بعد أن جعلها مهاجره وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ أي: لا تنكصوا على أعقابكم مدبرين من خوف الجبابرة جبنا وهلعا فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ أي: فترجعوا مغبونين بالعقوبة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٢]
قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢)
قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ أي: متغلبين ليس لنا مقاومتهم وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها أي: من غير صنع من قبلنا فإنه لا طاقة لنا بإخراجهم منها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها أي: بسبب من الأسباب التي لا تعلق لنا بها فَإِنَّا داخِلُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٣]
قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣)
قالَ رَجُلانِ هما يوشع بن نون وكالب بن يفنا مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أي:
يخافون الله تعالى دون العدوّ، ويتقونه في مخالفة أمره ونهيه.
وقال العلامة البقاعي: أي من الذين يوجد منهم الخوف من الجبارين. ومع ذلك لم يخافا. أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا أي: بالتثبيت والثقة بوعده تعالى ومعرفة مقام أوامره تعالى ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ أي: باب بلدهم، أي: باغتوهم وامنعوهم من
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢١]
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١)
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ يعني: أرض بيت المقدس التي كانت مقدسة بمساكنة من مضى من الأنبياء. ثم تلوّثت بمساكنة الأعداء من جبابرة الكنعانيين.
فأراد تطهيرها بإخراجهم وإسكان قومه الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي: التي وعدكموها على لسان أبيكم إبراهيم، بأن تكون ميراثا لولده بعد أن جعلها مهاجره وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ أي: لا تنكصوا على أعقابكم مدبرين من خوف الجبابرة جبنا وهلعا فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ أي: فترجعوا مغبونين بالعقوبة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٢]
قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢)
قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ أي: متغلبين ليس لنا مقاومتهم وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها أي: من غير صنع من قبلنا فإنه لا طاقة لنا بإخراجهم منها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها أي: بسبب من الأسباب التي لا تعلق لنا بها فَإِنَّا داخِلُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٣]
قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣)
قالَ رَجُلانِ هما يوشع بن نون وكالب بن يفنا مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أي:
يخافون الله تعالى دون العدوّ، ويتقونه في مخالفة أمره ونهيه.
وقال العلامة البقاعي: أي من الذين يوجد منهم الخوف من الجبارين. ومع ذلك لم يخافا. أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا أي: بالتثبيت والثقة بوعده تعالى ومعرفة مقام أوامره تعالى ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ أي: باب بلدهم، أي: باغتوهم وامنعوهم من
البروز إلى الصحراء، لئلا يجدوا للحرب مجالا فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ- أي: باب بلدهم- فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ عليهم وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا أي: لا على قوة أنفسكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي: بكمال قدرته ووعده النصر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٤]
قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤)
قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا- أي: الجبابرة- فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٥]
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥)
قالَ أى: موسى عليه السلام لما رأى منهم ما رأى من العناد، على طريقة البث والحزن والشكوى إلى الله تعالى: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ أي: أحدا ألزمه قتالهم إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي هارون. قال المهايميّ: أي: ومن يؤاخيني ويوافقني كهارون ويوشع وكالب. فَافْرُقْ أي: فاحكم بما يميز بين المحق والمبطل لتفرق بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي: الخارجين عن أمرك، وهو في معنى الدعاء عليهم. وقد استجاب الله دعاءه، وفرق بأن أضلّهم ظاهرا كما ضلّوا باطنا. كما بينه بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٦]
قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)
قالَ فَإِنَّها أي الأرض المقدسة مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أي: بسبب أقوالهم هذه وأفعالهم. لا يدخلونها ولا يملكونها. ممن قال هذه المقالة أو رضيها أحد، فالتحريم تحريم منع لا تحريم تعبد أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أي: يترددون في البرية متحيرين في الأرض حتى يهلكوا كلّهم، و (التيه) المفازة التي يتيه فيها سالكها فيضلّ عن وجه مقصده فَلا تَأْسَ أي: تحزن عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي:
الخارجين من قيد الطاعات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٤]
قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤)
قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا- أي: الجبابرة- فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٥]
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥)
قالَ أى: موسى عليه السلام لما رأى منهم ما رأى من العناد، على طريقة البث والحزن والشكوى إلى الله تعالى: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ أي: أحدا ألزمه قتالهم إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي هارون. قال المهايميّ: أي: ومن يؤاخيني ويوافقني كهارون ويوشع وكالب. فَافْرُقْ أي: فاحكم بما يميز بين المحق والمبطل لتفرق بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي: الخارجين عن أمرك، وهو في معنى الدعاء عليهم. وقد استجاب الله دعاءه، وفرق بأن أضلّهم ظاهرا كما ضلّوا باطنا. كما بينه بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٦]
قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)
قالَ فَإِنَّها أي الأرض المقدسة مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أي: بسبب أقوالهم هذه وأفعالهم. لا يدخلونها ولا يملكونها. ممن قال هذه المقالة أو رضيها أحد، فالتحريم تحريم منع لا تحريم تعبد أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أي: يترددون في البرية متحيرين في الأرض حتى يهلكوا كلّهم، و (التيه) المفازة التي يتيه فيها سالكها فيضلّ عن وجه مقصده فَلا تَأْسَ أي: تحزن عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي:
الخارجين من قيد الطاعات.
102
قال العلامة البقاعيّ: ثم بعد هلاكهم أدخلها بنيهم الذين ولدوا في التيه. وفي هذه القصة أوضح دليل على نقضهم للعهود التي بنيت السورة على طلب الوفاء بها، وافتتحت بها، وصرح بأخذها عليهم في قوله: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ..
[المائدة: ١٢] الآيات، وفي ذلك تسلية للنبيّ ﷺ فيما يفعلونه معه، وتذكير له بالنعمة على قومه بالتوفيق، وترغيب لمن أطاع منهم، وترهيب لمن عصى. ومات في تلك الأربعين، كل من قال ذلك القول أو رضيه حتى النقباء العشرة. وكان الغمام يظلّهم من حرّ الشمس. ويكون لهم عمود من نور بالليل يضيء عليهم. وغير هذا من النعم، لأن المنع بالتيه كان تأديبا لهم. لا غضب. إذ أنهم تابوا. ثم ساق البقاعيّ- رحمه الله- شرح هذه القصة من التوراة التي بين أيديهم بالحرف. ونحن نأتي على ملخصها تأثرا له، فنقول:
جاء في سفر (العدد) في الفصل الثالث عشر: إن شعب بني إسرائيل لمّا ارتحلوا من حصيروت ونزلوا ببرّية فاران، كلم الرب موسى بأن يبعث رجالا يجسّون أرض كنعان. من كل سبط رجلا واحدا، وكلهم يكونون من رؤساء بني إسرائيل، فأرسلهم موسى وأمرهم أن ينظروا إلى الأرض. أجيدة أم رديئة؟ وإلى أهلها، أشديدون أم ضعفاء؟ قليلون أم كثيرون؟ وأن يوافوه بشيء من ثمرها. فساروا واجتسّوا الأرض من برية صين إلى رحوب عند مدخل حماة، ثم رجعوا بعد أربعين يوما. وكان موسى وقومه في برية فاران في قادش، فأروهم ثمر الأرض، وقصّوا عليهم ما شاهدوه من جودة الأرض، وأنها تدرّ لبنا وعسلا. ومن شدة أهلها وقوتهم وتحصن مدنهم فاضطرب قوم موسى. فأخذ كالب- أحد النقباء- يسكتهم عن موسى ويقول: نصعد ونرث الأرض فإنا قادرون عليها. وخالفه بقية النقباء وقالوا: لا نقدر أن نصعد إليهم لأنهم أشدّ منّا. وهوّلوا على بني إسرائيل الأمر وقالوا: شاهدنا أناسا طوال القامات، سيما بني عناق. فصرنا في عيوننا كالجراد. وكذلك كنا في عيونهم. فعند ذلك ضجّ قوم موسى ورفعوا أصواتهم وبكوا وقالوا: ليتنا متنا في أرض مصر أو في هذه البرية، ولا تكون نساؤنا وأطفالنا غنيمة للجبابرة. وخير لنا أن نرجع إلى مصر.
وقالوا: لنقم لنا رئيسا ونرجع إلى مصر. فلما شاهد موسى ذلك منهم وقع هو وأخوه هارون على وجوههما أمام الإسرائيليين. ومزّق، من النقباء، يوشع بن نون وكالب، ثيابهما. وكلّما بني إسرائيل قائلين: إن الأرض التي مررنا فيها جيدة، وإذا كان ربنا راضيا عنا فإنه يدخلنا إياها. فلا تتمردوا ولا تخافوا أهلها فسيكونون طعمة لنا. إذ الرب معنا فلما سمع بنو إسرائيل كلام يوشع وكالب قالوا: ليرجما بالحجارة، وكاد
[المائدة: ١٢] الآيات، وفي ذلك تسلية للنبيّ ﷺ فيما يفعلونه معه، وتذكير له بالنعمة على قومه بالتوفيق، وترغيب لمن أطاع منهم، وترهيب لمن عصى. ومات في تلك الأربعين، كل من قال ذلك القول أو رضيه حتى النقباء العشرة. وكان الغمام يظلّهم من حرّ الشمس. ويكون لهم عمود من نور بالليل يضيء عليهم. وغير هذا من النعم، لأن المنع بالتيه كان تأديبا لهم. لا غضب. إذ أنهم تابوا. ثم ساق البقاعيّ- رحمه الله- شرح هذه القصة من التوراة التي بين أيديهم بالحرف. ونحن نأتي على ملخصها تأثرا له، فنقول:
جاء في سفر (العدد) في الفصل الثالث عشر: إن شعب بني إسرائيل لمّا ارتحلوا من حصيروت ونزلوا ببرّية فاران، كلم الرب موسى بأن يبعث رجالا يجسّون أرض كنعان. من كل سبط رجلا واحدا، وكلهم يكونون من رؤساء بني إسرائيل، فأرسلهم موسى وأمرهم أن ينظروا إلى الأرض. أجيدة أم رديئة؟ وإلى أهلها، أشديدون أم ضعفاء؟ قليلون أم كثيرون؟ وأن يوافوه بشيء من ثمرها. فساروا واجتسّوا الأرض من برية صين إلى رحوب عند مدخل حماة، ثم رجعوا بعد أربعين يوما. وكان موسى وقومه في برية فاران في قادش، فأروهم ثمر الأرض، وقصّوا عليهم ما شاهدوه من جودة الأرض، وأنها تدرّ لبنا وعسلا. ومن شدة أهلها وقوتهم وتحصن مدنهم فاضطرب قوم موسى. فأخذ كالب- أحد النقباء- يسكتهم عن موسى ويقول: نصعد ونرث الأرض فإنا قادرون عليها. وخالفه بقية النقباء وقالوا: لا نقدر أن نصعد إليهم لأنهم أشدّ منّا. وهوّلوا على بني إسرائيل الأمر وقالوا: شاهدنا أناسا طوال القامات، سيما بني عناق. فصرنا في عيوننا كالجراد. وكذلك كنا في عيونهم. فعند ذلك ضجّ قوم موسى ورفعوا أصواتهم وبكوا وقالوا: ليتنا متنا في أرض مصر أو في هذه البرية، ولا تكون نساؤنا وأطفالنا غنيمة للجبابرة. وخير لنا أن نرجع إلى مصر.
وقالوا: لنقم لنا رئيسا ونرجع إلى مصر. فلما شاهد موسى ذلك منهم وقع هو وأخوه هارون على وجوههما أمام الإسرائيليين. ومزّق، من النقباء، يوشع بن نون وكالب، ثيابهما. وكلّما بني إسرائيل قائلين: إن الأرض التي مررنا فيها جيدة، وإذا كان ربنا راضيا عنا فإنه يدخلنا إياها. فلا تتمردوا ولا تخافوا أهلها فسيكونون طعمة لنا. إذ الرب معنا فلما سمع بنو إسرائيل كلام يوشع وكالب قالوا: ليرجما بالحجارة، وكاد
103
حينئذ أن يحيق ببني إسرائيل العذاب الإلهيّ، لولا تضرع موسى إلى ربّه بأن يعفو عنهم، كيلا يكونوا أحدوثة عند أعدائهم المصريين، فعفا تعالى عنهم. وأعلم موسى أنّ قومه لن يروا الأرض التي أقسم عليها لآبائهم، وأنهم يموتون جميعا في التيه. إلّا كالبا. فإنه لحسن انقياده سيدخل الأرض، وكذلك يوشع، وأعلمه تعالى أيضا بأن أطفال قومه الذين سيهلكون في التيه يكونون رعاة فيه أربعين سنة بعدد الأيام التي تجس النقباء فيها أرض الكنعانيين. كل يوم وزره سنة ليعرفوا انتقامه، عزّ سلطانه ثم هلك النقباء العشرة، الذين شنّعوا لدى قومهم تلك الأرض، بضربة عجلت لهم. ثم همّ قوم موسى بالصعود إلى الكنعانيين لما أخبرهم موسى بما أعلمه تعالى. فنهاهم موسى وقال لهم: لا فوز لكم الآن بالنصر الرباني، وإن فعلتم فإن العدوّ يهزمكم وتسقطون تحت سيفه. فتجبّروا وصعدوا إلى رأس الجبل. فنزل العمالقة والكنعانيين عليهم فضربوهم وحطّموهم، ثم انقضاء الأربعين سنة فتحت الأرض المقدسة على يد يوشع، كما شرح في (سفره)، والله أعلم.
تنبيهات:
الأول: قوله تعالى: أَرْبَعِينَ سَنَةً ظرف متعلق ب (يتيهون). واحتمال كونه ظرفا ل (محرمة) كما ذكره غير واحد- لا يصح إلا بتكلف لما شرحناه من سياق القصة.
الثاني: قال الحاكم: دلّ قوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ على أنّ من لحقه عذاب الله لا يجوز أن يحزن عليه لأن ذلك حكمه، بل يحمد الله إذا أهلك عدوّا من أعدائه.
الثالث: قال ابن كثير: ذكر كثير من المفسرين هاهنا أخبارا من وضع بني إسرائيل، في عظمة خلق هؤلاء الجبارين، وأن منهم عوج بن عنق بنت آدم عليه السلام. وأن طوله ثلاثة آلاف ذراع. وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعا وثلث ذراع.
تحرير الحساب. وهذا شيء يستحيى من ذكره. ثم هو مخالف لما
ثبت في (الصحيحين) : أنّ رسول الله ﷺ قال: إنّ الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن. ثم ذكروا أنّ هذا الرجل كان كافرا، وأنه كان ولد زنية، وأنه امتنع من ركوب سفينة نوح، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته
. وهذا كذب وافتراء، فإن الله تعالى ذكر أنّ نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: ٢٦]. وقال تعالى فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ
تنبيهات:
الأول: قوله تعالى: أَرْبَعِينَ سَنَةً ظرف متعلق ب (يتيهون). واحتمال كونه ظرفا ل (محرمة) كما ذكره غير واحد- لا يصح إلا بتكلف لما شرحناه من سياق القصة.
الثاني: قال الحاكم: دلّ قوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ على أنّ من لحقه عذاب الله لا يجوز أن يحزن عليه لأن ذلك حكمه، بل يحمد الله إذا أهلك عدوّا من أعدائه.
الثالث: قال ابن كثير: ذكر كثير من المفسرين هاهنا أخبارا من وضع بني إسرائيل، في عظمة خلق هؤلاء الجبارين، وأن منهم عوج بن عنق بنت آدم عليه السلام. وأن طوله ثلاثة آلاف ذراع. وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعا وثلث ذراع.
تحرير الحساب. وهذا شيء يستحيى من ذكره. ثم هو مخالف لما
ثبت في (الصحيحين) : أنّ رسول الله ﷺ قال: إنّ الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن. ثم ذكروا أنّ هذا الرجل كان كافرا، وأنه كان ولد زنية، وأنه امتنع من ركوب سفينة نوح، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته
. وهذا كذب وافتراء، فإن الله تعالى ذكر أنّ نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: ٢٦]. وقال تعالى فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ
104
فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ
[الشعراء: ١١٩- ١٢٠]. وقال تعالى:
لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هود: ٤٣]، وإذا كان ابن نوح، الكافر، غرق، فكيف يبقى عوج بن عنق وهو كافر وولد زنية؟ هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع. ثم في وجود رجل يقال له عوج بن عنق، نظر. والله أعلم.
الرابع: قال ابن كثير: تضمنت هذه القصة تقريع اليهود، وبيان فضائحهم ومخالفتهم لله ولرسوله، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمراهم به من الجهاد، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجادلتهم ومقاتلتهم، مع أن بين أظهرهم رسول الله ﷺ وكليمه وصفيّه من خلقه في ذلك الزمان، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم.
هذا، مع ما شاهدوا من فعل الله بعدوّهم، فرعون، من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليمّ وهم ينظرون، لتقرّ به أعينهم (وما بالعهد من قدم). ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازن عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم، وظهرت قبائح صنيعهم للخاصّ والعام، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل ولا يسترها الذيل. وقال- رحمه الله- قبل ذلك: وما أحسن ما أجاب به الصحابة «١» - رضي الله عنهم- يوم بدر رسول الله ﷺ حين استشارهم في قتال النفير الذين جاءوا لمنع العير الذي كان مع أبي سفيان. فلما فات اقتناص العير، واقترب منهم النفير، وهم في جمع ما بين التسعمائة إلى الألف في العدة والبيض
[الشعراء: ١١٩- ١٢٠]. وقال تعالى:
لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هود: ٤٣]، وإذا كان ابن نوح، الكافر، غرق، فكيف يبقى عوج بن عنق وهو كافر وولد زنية؟ هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع. ثم في وجود رجل يقال له عوج بن عنق، نظر. والله أعلم.
الرابع: قال ابن كثير: تضمنت هذه القصة تقريع اليهود، وبيان فضائحهم ومخالفتهم لله ولرسوله، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمراهم به من الجهاد، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجادلتهم ومقاتلتهم، مع أن بين أظهرهم رسول الله ﷺ وكليمه وصفيّه من خلقه في ذلك الزمان، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم.
هذا، مع ما شاهدوا من فعل الله بعدوّهم، فرعون، من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليمّ وهم ينظرون، لتقرّ به أعينهم (وما بالعهد من قدم). ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازن عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم، وظهرت قبائح صنيعهم للخاصّ والعام، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل ولا يسترها الذيل. وقال- رحمه الله- قبل ذلك: وما أحسن ما أجاب به الصحابة «١» - رضي الله عنهم- يوم بدر رسول الله ﷺ حين استشارهم في قتال النفير الذين جاءوا لمنع العير الذي كان مع أبي سفيان. فلما فات اقتناص العير، واقترب منهم النفير، وهم في جمع ما بين التسعمائة إلى الألف في العدة والبيض
(١)
أخرجه مسلم في: الجهاد، حديث ٨٣ ونصه: عن أنس أن رسول الله ﷺ شاور، حين بلغه إقبال أبي سفيان. قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه. ثم تكلم عمر فأعرض عنه. فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد؟ يا رسول الله! والذي نفسي بيده! لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها. ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد (موضع من وراء مكة بخمس ليال بناحية الساحل) لفعلنا. قال، فندب رسول الله ﷺ الناس. فانطلقوا حتى نزلوا بدرا. ووردت عليهم روايا قريش (أي إبلهم التي كانوا يستقون عليها. فهي الإبل الحوامل للماء. واحدتها راوية) وفيهم غلام أسود لبني الحجاج فأخذوه. فكان أصحاب رسول الله ﷺ يسألونه عن أبي سفيان وأصحابه؟ فيقول: ما لي علم بأبي سفيان. ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف.
فإذا قال ذلك ضربوه. فقال: نعم. أنا أخبركم. هذا أبو سفيان.
فإذا تركوه فسألوه فقال: ما لي بأبي سفيان علم. ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف في الناس. فإذا قال هذا أيضا ضربوه. ورسول الله ﷺ قائم يصلي. فلما رأى ذلك انصرف. قال «والذي نفسي بيده! لتضربوه إذا صدقكم، وتتركوه إذا كذبكم».
قال، فقال رسول الله ﷺ «هذا مصرع فلان» ويضع يده على الأرض، هاهنا وهاهنا فما ماط (أي تباعد) أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم
.
أخرجه مسلم في: الجهاد، حديث ٨٣ ونصه: عن أنس أن رسول الله ﷺ شاور، حين بلغه إقبال أبي سفيان. قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه. ثم تكلم عمر فأعرض عنه. فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد؟ يا رسول الله! والذي نفسي بيده! لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها. ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد (موضع من وراء مكة بخمس ليال بناحية الساحل) لفعلنا. قال، فندب رسول الله ﷺ الناس. فانطلقوا حتى نزلوا بدرا. ووردت عليهم روايا قريش (أي إبلهم التي كانوا يستقون عليها. فهي الإبل الحوامل للماء. واحدتها راوية) وفيهم غلام أسود لبني الحجاج فأخذوه. فكان أصحاب رسول الله ﷺ يسألونه عن أبي سفيان وأصحابه؟ فيقول: ما لي علم بأبي سفيان. ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف.
فإذا قال ذلك ضربوه. فقال: نعم. أنا أخبركم. هذا أبو سفيان.
فإذا تركوه فسألوه فقال: ما لي بأبي سفيان علم. ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف في الناس. فإذا قال هذا أيضا ضربوه. ورسول الله ﷺ قائم يصلي. فلما رأى ذلك انصرف. قال «والذي نفسي بيده! لتضربوه إذا صدقكم، وتتركوه إذا كذبكم».
قال، فقال رسول الله ﷺ «هذا مصرع فلان» ويضع يده على الأرض، هاهنا وهاهنا فما ماط (أي تباعد) أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم
.
105
واليلب. فتكلم أبو بكر- رضي الله عنه- فأحسن، ثم تكلم، من الصحابة، من المهاجرين،
ورسول الله ﷺ يقول: أشيروا عليّ أيها المسلمون!
وما يقول ذلك إلا ليستعلم ما عند الأنصار. لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذ. فقال سعد بن معاذ:
كأنك تعرض بنا يا رسول الله؟ فهو الذي بعثك بالحقّ! لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته، لخضناه معك. ما تخلّف منّا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا.
إنّا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء. لعل الله أن يريك منّا ما تقرّ به عينك. فسر بنا على بركة الله. فسرّ رسول الله ﷺ بقول سعد، ونشطه لذلك.
وروى الإمام أحمد «١» عن عبد الله بن مسعود قال: لقد شهدت من المقداد مشهدا، لأن أكون أنا صاحبه، أحبّ إليّ مما عدل به. أتى رسول الله ﷺ وهو يدعو على المشركين فقال: والله! يا رسول الله! لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى:
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ. ولكنا نقاتل عن يمينك، وعن يسارك، ومن بين يديك، ومن خلفك.
فرأيت وجه رسول الله ﷺ يشرق لذلك. وسرّه ذلك. وهكذا رواه البخاري «٢» في (المغازي).
الخامس: استنبط العمرانيون من هذه الآية أنّ من عوائق الملك حصول المذلّة للقبيل، والانقياد لسواهم.
قال الحكيم ابن خلدون في (مقدمة العبر) في الفصل ١٩ تحت العنوان المذكور: إن المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية وشدّتها. فإنّ انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها، فما رئموا (ألفوا) للمذلّة حتى عجزوا عن المدافعة، ومن عجز عن المدافعة، فأولى أن يكون عاجزا عن المقاومة والمطالبة، واعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى عليه السلام إلى ملك الشام، وأخبرهم أنّ الله قد كتب لهم ملكها، كيف عجزوا عن ذلك، قالوا: إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها [المائدة: ٢٢]. أي: يخرجهم الله منها بضرب من قدرته غير عصبيتنا، وتكون من معجزاتك يا موسى، ولما عزم عليهم لجّوا وارتكبوا
ورسول الله ﷺ يقول: أشيروا عليّ أيها المسلمون!
وما يقول ذلك إلا ليستعلم ما عند الأنصار. لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذ. فقال سعد بن معاذ:
كأنك تعرض بنا يا رسول الله؟ فهو الذي بعثك بالحقّ! لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته، لخضناه معك. ما تخلّف منّا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا.
إنّا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء. لعل الله أن يريك منّا ما تقرّ به عينك. فسر بنا على بركة الله. فسرّ رسول الله ﷺ بقول سعد، ونشطه لذلك.
وروى الإمام أحمد «١» عن عبد الله بن مسعود قال: لقد شهدت من المقداد مشهدا، لأن أكون أنا صاحبه، أحبّ إليّ مما عدل به. أتى رسول الله ﷺ وهو يدعو على المشركين فقال: والله! يا رسول الله! لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى:
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ. ولكنا نقاتل عن يمينك، وعن يسارك، ومن بين يديك، ومن خلفك.
فرأيت وجه رسول الله ﷺ يشرق لذلك. وسرّه ذلك. وهكذا رواه البخاري «٢» في (المغازي).
الخامس: استنبط العمرانيون من هذه الآية أنّ من عوائق الملك حصول المذلّة للقبيل، والانقياد لسواهم.
قال الحكيم ابن خلدون في (مقدمة العبر) في الفصل ١٩ تحت العنوان المذكور: إن المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية وشدّتها. فإنّ انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها، فما رئموا (ألفوا) للمذلّة حتى عجزوا عن المدافعة، ومن عجز عن المدافعة، فأولى أن يكون عاجزا عن المقاومة والمطالبة، واعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى عليه السلام إلى ملك الشام، وأخبرهم أنّ الله قد كتب لهم ملكها، كيف عجزوا عن ذلك، قالوا: إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها [المائدة: ٢٢]. أي: يخرجهم الله منها بضرب من قدرته غير عصبيتنا، وتكون من معجزاتك يا موسى، ولما عزم عليهم لجّوا وارتكبوا
(١) أخرجه في المسند ١/ ٣٨٩ والحديث رقم ٣٦٩٨.
(٢) أخرجه البخاري في: المغازي، ٤- باب قول الله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ... الآيات [الأنفال: ٩- ١٣]. [.....]
(٢) أخرجه البخاري في: المغازي، ٤- باب قول الله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ... الآيات [الأنفال: ٩- ١٣]. [.....]
106
العصيان وقالوا له: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة: ٢٤] وما ذلك إلّا لما آنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة والمطالبة، كما تقتضيه الآية وما يؤثر في تفسيرها، وذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد، وما رئموا من الذلّ للقبط أحقابا حتى ذهبت العصبية منهم جملة. مع أنهم لم يؤمنوا حقّ الإيمان بما أخبرهم به موسى، من أن الشام لهم، وأن العمالقة الذين كانوا بأريحاء فريستهم، بحكم من الله قدّره لهم. فأقصروا عن ذلك وعجزوا، تعويلا على ما علموا من أنفسهم من العجز عن المطالبة، لما حصل لهم من خلق المذلة. وطعنوا فيما أخبرهم به نبيّهم من ذلك وما أمرهم به. فعاقبهم الله بالتيه. وهو أنّهم تاهوا في قفر من الأرض ما بين الشام ومصر أربعين سنة. لم يأووا فيها لعمران، ولا نزلوا مصرا، ولا خالطوا بشرا، كما قصّه القرآن، لغلظة العمالقة بالشام والقبط بمصر عليهم، لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه. ويظهر من مساق الآية ومفهومها: أن حكمة ذلك التيه مقصودة. وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة وتخلّقوا به. وأفسدوا من عصبيتهم، حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر، ولا يسام بالمذلة.
فنشأت لهم بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقلّ ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر، سبحان الحكيم العليم وفي هذا أوضح دليل على شأن العصبية. وأنّها هي التي تكون بها المدافعة والمقاومة والحماية والمطالبة. وأنّ من فقدها عجز عن جميع ذلك كله.
ثم بيّن تعالى وخيم عاقبة البغي والحسد، في جزاء ابني آدم لصلبه. تعريضا باليهود. وأنهم إن أصروا على بغيهم وحسدهم فسيرجعون بالصفة الخاسرة في الدارين، فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٧]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي: على هؤلاء البغاة الحسدة من اليهود وأشباههم نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ هابيل وقابيل، ملتبسا بِالْحَقِّ أي: الصدق والصحة موافقا لما في كتبهم إِذْ قَرَّبا قُرْباناً أي: ما يتقرب به إلى الله تعالى من نسيكة أو صدقة. وكان هابيل راعي غنم، وقابيل يحرث الأرض. فقدّم هابيل شيئا من أبكار غنمه ومن سمانها.
وقدّم قابيل شيئا رديئا من ثمر الأرض فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وهو هابيل وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ
فنشأت لهم بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقلّ ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر، سبحان الحكيم العليم وفي هذا أوضح دليل على شأن العصبية. وأنّها هي التي تكون بها المدافعة والمقاومة والحماية والمطالبة. وأنّ من فقدها عجز عن جميع ذلك كله.
ثم بيّن تعالى وخيم عاقبة البغي والحسد، في جزاء ابني آدم لصلبه. تعريضا باليهود. وأنهم إن أصروا على بغيهم وحسدهم فسيرجعون بالصفة الخاسرة في الدارين، فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٧]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي: على هؤلاء البغاة الحسدة من اليهود وأشباههم نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ هابيل وقابيل، ملتبسا بِالْحَقِّ أي: الصدق والصحة موافقا لما في كتبهم إِذْ قَرَّبا قُرْباناً أي: ما يتقرب به إلى الله تعالى من نسيكة أو صدقة. وكان هابيل راعي غنم، وقابيل يحرث الأرض. فقدّم هابيل شيئا من أبكار غنمه ومن سمانها.
وقدّم قابيل شيئا رديئا من ثمر الأرض فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وهو هابيل وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ
الْآخَرِ وهو قابيل قالَ قابيل لهابيل لَأَقْتُلَنَّكَ على قبول قربانك قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أي: إنما أتيت من قبل نفسك، لانسلاخها من لباس التقوى.
لا من قبلي. فلم تقتلني؟ ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان وفيه دليل على أن الله تعالى لا يقبل طاعة إلّا من مؤمن متّق، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم! وعن عامر بن عبد الله: أنه بكى حين حضرته الوفاة: فقيل له: ما يبكيك فقد كنت وكنت؟ قال: إني أسمع الله يقول: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. كذا في (الكشاف).
وروى ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل قال: يحبس الناس في بقيع واحد فينادي مناد: أين المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر.
قلت: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا العبادة. فيمرون إلى الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٨]
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨)
لَئِنْ بَسَطْتَ أي: مددت إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي أي: ظلما ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ أي: دفعا إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ أي: من أن أصنع كما تريد أن تصنع.
وفي (الصحيحين) «١» : عن النبيّ ﷺ قال: «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل. فما بال المقتول؟ قال:
إنه كان حريصا على قتل صاحبه».
لا من قبلي. فلم تقتلني؟ ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان وفيه دليل على أن الله تعالى لا يقبل طاعة إلّا من مؤمن متّق، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم! وعن عامر بن عبد الله: أنه بكى حين حضرته الوفاة: فقيل له: ما يبكيك فقد كنت وكنت؟ قال: إني أسمع الله يقول: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. كذا في (الكشاف).
وروى ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل قال: يحبس الناس في بقيع واحد فينادي مناد: أين المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر.
قلت: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا العبادة. فيمرون إلى الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٨]
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨)
لَئِنْ بَسَطْتَ أي: مددت إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي أي: ظلما ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ أي: دفعا إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ أي: من أن أصنع كما تريد أن تصنع.
وفي (الصحيحين) «١» : عن النبيّ ﷺ قال: «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل. فما بال المقتول؟ قال:
إنه كان حريصا على قتل صاحبه».
(١)
أخرجه البخاريّ في: الإيمان، ٢٢- باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفّر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، حديث ٢٩ ونصه: عن الأحنف بن قيس قال: ذهبت لأنصر هذا الرجل، فلقيني أبو بكرة فقال: أين تريد؟ قلت: أنصر هذا الرجل. قال: ارجع فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار» فقلت: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال «إنه كان حريصا على قتل صاحبه».
وأخرجه مسلم في: الفتن وأشراط الساعة، حديث ١٤ و ١٥
.
أخرجه البخاريّ في: الإيمان، ٢٢- باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفّر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، حديث ٢٩ ونصه: عن الأحنف بن قيس قال: ذهبت لأنصر هذا الرجل، فلقيني أبو بكرة فقال: أين تريد؟ قلت: أنصر هذا الرجل. قال: ارجع فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار» فقلت: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال «إنه كان حريصا على قتل صاحبه».
وأخرجه مسلم في: الفتن وأشراط الساعة، حديث ١٤ و ١٥
.
وروى الإمام أحمد «١» وأبو داود والترمذيّ في حديث سعد بن أبي وقاص قال: «قلت: يا رسول الله! أرأيت إن دخل بيتي وبسط يده ليقتلني؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن كابن آدم- وتلا-: لَئِنْ بَسَطْتَ... » الآية.
قال المهايميّ في تفسير هذه الآية: أي: إني- وإن لم أكن في الدفع ظالما- أخاف الله أن يكره مني هدم بنيانه الجامع ليظهر فيه من حيث كونه رب العالمين.
انتهى.
وهو منزع صوفيّ لطيف.
وقال أبو السعود: فيه من إرشاد قابيل إلى خشية الله تعالى، على أبلغ وجه وآكده، ما لا يخفى. كأنه قال: إني أخافه تعالى إن بسطت يدي إليك لأقتلك، أن يعاقبني. وإن كان ذلك مني لدفع عداوتك عني. فما ظنّك بحالك وأنت البادئ العادي؟ وفي وصفه تعالى بربوبيّة العالمين تأكيد للخوف. قيل: كان هابيل أقوى منه. ولكن تحرّج عن قتله واستسلم خوفا من الله تعالى. لأن القتل للدفع لم يكن مباحا حينئذ. وقيل: تحريا لما هو الأفضل،. حسبما
قال صلى الله عليه وسلم: كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل
. ويأباه التعليل بخوفه تعالى، إلّا أن يدعي أنّ ترك الأولى عنده بمنزلة المعصية في استتباع الغائلة، مبالغة في التنزّه. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٩]
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩)
إِنِّي أُرِيدُ أي: باستسلامي لك وامتناعي عن التعرض لك أَنْ تَبُوءَ أي:
ترجع إلى الله ملتبسا بِإِثْمِي أي: بإثم قتلي وَإِثْمِكَ أي: الذي كان منك قبل قتلي، أو الذي من أجله لم يتقبل قربانك فَتَكُونَ أي: بالإثمين مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ.
قال المهايميّ في تفسير هذه الآية: أي: إني- وإن لم أكن في الدفع ظالما- أخاف الله أن يكره مني هدم بنيانه الجامع ليظهر فيه من حيث كونه رب العالمين.
انتهى.
وهو منزع صوفيّ لطيف.
وقال أبو السعود: فيه من إرشاد قابيل إلى خشية الله تعالى، على أبلغ وجه وآكده، ما لا يخفى. كأنه قال: إني أخافه تعالى إن بسطت يدي إليك لأقتلك، أن يعاقبني. وإن كان ذلك مني لدفع عداوتك عني. فما ظنّك بحالك وأنت البادئ العادي؟ وفي وصفه تعالى بربوبيّة العالمين تأكيد للخوف. قيل: كان هابيل أقوى منه. ولكن تحرّج عن قتله واستسلم خوفا من الله تعالى. لأن القتل للدفع لم يكن مباحا حينئذ. وقيل: تحريا لما هو الأفضل،. حسبما
قال صلى الله عليه وسلم: كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل
. ويأباه التعليل بخوفه تعالى، إلّا أن يدعي أنّ ترك الأولى عنده بمنزلة المعصية في استتباع الغائلة، مبالغة في التنزّه. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٩]
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩)
إِنِّي أُرِيدُ أي: باستسلامي لك وامتناعي عن التعرض لك أَنْ تَبُوءَ أي:
ترجع إلى الله ملتبسا بِإِثْمِي أي: بإثم قتلي وَإِثْمِكَ أي: الذي كان منك قبل قتلي، أو الذي من أجله لم يتقبل قربانك فَتَكُونَ أي: بالإثمين مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ.
(١)
أخرجه في المسند ١/ ١٨٥ وحديث ١٦٠٩ ونصه: عن بشر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال: عند فتنة عثمان بن عفان: أشهد أن رسول الله ﷺ قال «إنها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي» قال: أفرأيت إن دخل عليّ بيتي فبسط يده إليّ ليقتلني؟ قال «كن كابن آدم».
وأخرجه أبو داود في: الفتن والملاحم، في النهي عن السعي في الفتنة، حديث ٤٢٥٧.
وأخرجه الترمذي في: الفتن، ٢٩- باب ما جاء تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم
.
أخرجه في المسند ١/ ١٨٥ وحديث ١٦٠٩ ونصه: عن بشر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال: عند فتنة عثمان بن عفان: أشهد أن رسول الله ﷺ قال «إنها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي» قال: أفرأيت إن دخل عليّ بيتي فبسط يده إليّ ليقتلني؟ قال «كن كابن آدم».
وأخرجه أبو داود في: الفتن والملاحم، في النهي عن السعي في الفتنة، حديث ٤٢٥٧.
وأخرجه الترمذي في: الفتن، ٢٩- باب ما جاء تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم
.
قال الناصر في (الانتصاف) : فأما إرادته لإثم أخيه وعقوبته فمعناه: إني لا أريد أن أقتلك فأعاقب. ولمّا لم يكن بدّ من إرادة أحد الأمرين، إمّا إثمه بتقدير أن يدفع عن نفسه فيقتل أخاه، وإمّا إثم أخيه بتقدير أن يستسلم- وكان غير مريد للأول، اضطر إلى الثاني، فلم يرد إذا إثم أخيه لعينه، وإنما أراد أنّ الإثم هو بالمدافعة المؤدية إلى القتل- ولم تكن حينئذ مشروعة- فلزم من ذلك إرادة إثم أخيه. وهذا، كما يتمنّى الإنسان الشهادة. ومعناها أن يبوء الكافر بقتله وبما عليه في ذلك من الإثم، ولكن لم يقصد هو إثم الكافر لعينه، وإنما أراد أن يبذل نفسه في سبيل الله رجاء إثم الكافر بقتله ضمنا وتبعا. والذي يدل على ذلك أنّه لا فرق في حصول درجة الشهادة وفضيلتها بين أن يموت القاتل على الكفر وبين أن يختم له بالإيمان، فيحبط عنه إثم القتل الذي به كان الشهيد شهيدا. أعني بقي الإثم على قاتله، أو حبط عنه، إذ ذلك لا ينتقص من فضيلة شهادته ولا يزيدها، ولو كان إثم الكافر بالقتل مقصودا لاختلف التمني باعتبار بقائه وإحباطه، فدلّ على أنه أمر لازم تبع، لا مقصود. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٣٠]
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠)
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ أي: رخصت وسهلت له نفسه. والتصريح بأخوّته لكمال تقبيح ما سوّلته نفسه. أي: الذي حقه أن يحفظه من كل من قصده بالسوء بالتحمل على نفسه فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ دينا، إذ صار كافرا حاملا للدماء إلى يوم القيامة. ودنيا، إذ صار مطرودا مبغضا للخلائق.
وقد أخرجه الجماعة- غير أبي داود- عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ «١» :«لا تقتل نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها. لأنه كان أول من سنّ القتل»
. انتهى.
ولما قتله لم يدر ما يصنع به من إفراط حيرته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٣٠]
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠)
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ أي: رخصت وسهلت له نفسه. والتصريح بأخوّته لكمال تقبيح ما سوّلته نفسه. أي: الذي حقه أن يحفظه من كل من قصده بالسوء بالتحمل على نفسه فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ دينا، إذ صار كافرا حاملا للدماء إلى يوم القيامة. ودنيا، إذ صار مطرودا مبغضا للخلائق.
وقد أخرجه الجماعة- غير أبي داود- عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ «١» :«لا تقتل نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها. لأنه كان أول من سنّ القتل»
. انتهى.
ولما قتله لم يدر ما يصنع به من إفراط حيرته.
(١) أخرجه البخاري في: الأنبياء، ١- باب خلق آدم صلوات الله عليه وذريته، حديث ١٥٧٥.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٣١]
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)
فَبَعَثَ أي: أرسل اللَّهُ غُراباً فجاء يَبْحَثُ أي: يحفر بمنقاره ورجله متعمقا فِي الْأَرْضِ.
قال القتيبيّ: هذا من الاختصار. ومعناه: بعث غرابا يبحث التراب على غراب ميت. وكذا رواه السدّيّ عن الصحابة أنه تعالى بعث غرابين اقتتلا. فقتل أحدهما الآخر. فحفر له. ثم حتى عليه حثيا.
لِيُرِيَهُ الضمير المستكن إمّا لله تعالى أو للغراب. والظاهر، للقاتل أخاه كَيْفَ يُوارِي أي: يستر في التراب سَوْأَةَ أَخِيهِ أي: جسده الميت. وسمّي سوأة لأنه مما يسوء ناظره قالَ يا وَيْلَتى كلمة جزع وتحسّر، والألف فيها بدل من ياء المتكلم. والويل والويلة الهلكة أَعَجَزْتُ أي: أضعفت عن الحيلة أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ أي: الذي هو من أخسّ الحيوانات. والاستفهام للتعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب فَأُوارِيَ أي: أغطي سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ أي:
صار مِنَ النَّادِمِينَ أي: على حيرته في مواراته حيث لم يدفنه حين قتله. فصار أجهل من الحيوانات العجم وأضلّ منها وأدنى.
وفي (التنوير) : ولم يكن نادما على قتله.
وقال أبو الليث عن ابن عباس: لو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه.
تنبيهات:
الأول: ظاهر الآية أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول، وأنه تعلم ذلك من الغراب. ولا مانع من ذلك. إذ مثله مما يجوز خفاؤه. لا سيما والعالم، في أول طور النشأة، وأنه أول قتيل، فيكون أول ميت.
ونقل الرازي احتمال أن يكون عالما بكيفية دفنه، قال: فإنه يبعد في الإنسان أن لا يهتدي إلى هذا القدر من العمل، إلا أنه لما قتله تركه بالعراء استخفافا به، ولما رأى الغراب يدفن الغراب الآخر، رق قلبه ولم يرض أن يكون أقل شفقة منه. فواراه تحت الأرض، والله أعلم.
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)
فَبَعَثَ أي: أرسل اللَّهُ غُراباً فجاء يَبْحَثُ أي: يحفر بمنقاره ورجله متعمقا فِي الْأَرْضِ.
قال القتيبيّ: هذا من الاختصار. ومعناه: بعث غرابا يبحث التراب على غراب ميت. وكذا رواه السدّيّ عن الصحابة أنه تعالى بعث غرابين اقتتلا. فقتل أحدهما الآخر. فحفر له. ثم حتى عليه حثيا.
لِيُرِيَهُ الضمير المستكن إمّا لله تعالى أو للغراب. والظاهر، للقاتل أخاه كَيْفَ يُوارِي أي: يستر في التراب سَوْأَةَ أَخِيهِ أي: جسده الميت. وسمّي سوأة لأنه مما يسوء ناظره قالَ يا وَيْلَتى كلمة جزع وتحسّر، والألف فيها بدل من ياء المتكلم. والويل والويلة الهلكة أَعَجَزْتُ أي: أضعفت عن الحيلة أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ أي: الذي هو من أخسّ الحيوانات. والاستفهام للتعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب فَأُوارِيَ أي: أغطي سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ أي:
صار مِنَ النَّادِمِينَ أي: على حيرته في مواراته حيث لم يدفنه حين قتله. فصار أجهل من الحيوانات العجم وأضلّ منها وأدنى.
وفي (التنوير) : ولم يكن نادما على قتله.
وقال أبو الليث عن ابن عباس: لو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه.
تنبيهات:
الأول: ظاهر الآية أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول، وأنه تعلم ذلك من الغراب. ولا مانع من ذلك. إذ مثله مما يجوز خفاؤه. لا سيما والعالم، في أول طور النشأة، وأنه أول قتيل، فيكون أول ميت.
ونقل الرازي احتمال أن يكون عالما بكيفية دفنه، قال: فإنه يبعد في الإنسان أن لا يهتدي إلى هذا القدر من العمل، إلا أنه لما قتله تركه بالعراء استخفافا به، ولما رأى الغراب يدفن الغراب الآخر، رق قلبه ولم يرض أن يكون أقل شفقة منه. فواراه تحت الأرض، والله أعلم.
111
الثاني: في الآية دلالة على أن الندم، إذا لم يكن لقبح المعصية، لم يكن توبة.
قال الرازيّ: ندم على قساوة قلبه وكونه دون الغراب في الرحمة. فكان ندمه لذلك، لا لأجل الخوف من الله تعالى، فلا جرم لم ينفعه ذلك الندم.
الثالث: الآية أصل في دفن الميت.
الرابع: قال ابن جرير «١» زعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل، قال له الله: يا قابيل! أين أخوك هابيل؟ قال: ما أدري. ما كنت عليه رقيبا. فقال الله: إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض، الآن أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها فبلغت دم أخيك من يدك. فإذا أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها، حتى تكون فزعا تائها في الأرض. انتهى.
الخامس:
روى ابن جرير «٢» بسنده عن عليّ بن أبي طالب قال: لما قتل ابن آدم أخاه بكى آدم فقال:
فأجيب آدم عليه الصلاة والسلام:
أقول: قد اشتهر البيتان الأولان. وقد فنّد نسبتهما إلى آدم غير واحد.
قال الزمخشريّ: روي أن آدم رثاه بشعر. وهو كذب بحت. وما الشعر إلا منحول ملحون. وقد صح أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر. انتهى.
قال الشرّاح: (المليح) في النظم المذكور، إن رفع فخطأ. لأنه صفة الوجه المجرور، وإن خفض فإقواء وهو عيب قبيح، وإن كثر. وقول من قال (الوجه فاعل قلّ.
وبشاشة منصوب على التمييز بحذف التنوين، إجراء للوصل مجرى الوقف) ألحن، وقيل: إن آدم عليه الصلاة والسلام رثاه بكلام منثور بالسريانيّ. فلم يزل ينقل إلى أن وصل إلى يعرب بن قحطان- وهو أول من خطّ بالعربية- فقدم وأخّر وجعله شعرا عربيا. انتهى.
قال الرازيّ: ندم على قساوة قلبه وكونه دون الغراب في الرحمة. فكان ندمه لذلك، لا لأجل الخوف من الله تعالى، فلا جرم لم ينفعه ذلك الندم.
الثالث: الآية أصل في دفن الميت.
الرابع: قال ابن جرير «١» زعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل، قال له الله: يا قابيل! أين أخوك هابيل؟ قال: ما أدري. ما كنت عليه رقيبا. فقال الله: إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض، الآن أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها فبلغت دم أخيك من يدك. فإذا أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها، حتى تكون فزعا تائها في الأرض. انتهى.
الخامس:
روى ابن جرير «٢» بسنده عن عليّ بن أبي طالب قال: لما قتل ابن آدم أخاه بكى آدم فقال:
تغيّرت البلاد ومن عليها | فلون الأرض مغبّر قبيح |
تغيّر كل ذي لون وطعم | وقلّ بشاشة الوجه المليح |
أبا هابيل! قد قتلا جميعا | وصار الحيّ كالميت الذّبيح |
وجاء بشرّة قد كان منها | على خوف، فجاء بها يصيح |
قال الزمخشريّ: روي أن آدم رثاه بشعر. وهو كذب بحت. وما الشعر إلا منحول ملحون. وقد صح أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر. انتهى.
قال الشرّاح: (المليح) في النظم المذكور، إن رفع فخطأ. لأنه صفة الوجه المجرور، وإن خفض فإقواء وهو عيب قبيح، وإن كثر. وقول من قال (الوجه فاعل قلّ.
وبشاشة منصوب على التمييز بحذف التنوين، إجراء للوصل مجرى الوقف) ألحن، وقيل: إن آدم عليه الصلاة والسلام رثاه بكلام منثور بالسريانيّ. فلم يزل ينقل إلى أن وصل إلى يعرب بن قحطان- وهو أول من خطّ بالعربية- فقدم وأخّر وجعله شعرا عربيا. انتهى.
(١) الأثر رقم ١١٧٦٥ من التفسير.
(٢) الأثر رقم ١١٧٢١ من التفسير.
(٢) الأثر رقم ١١٧٢١ من التفسير.
112
قال الخفاجي. لا شك أن لوائح الوضع عليه رائحة لركاكته، لكن ما استصعبوه من الإقواء، وترك التنوين، ليس بصعب، لما في أشعار الجاهلية والشعراء من أمثاله.
مع أنه قد يخرج بأنه نعت جرى على المحل. لأن الوجه فاعل المصدر، وهو بشاشة.
السادس: حكمة تخصيص الغراب كون دأبه المواراة.
قال أبو مسلم: عادة الغراب دفن الأشياء. فجاء غراب فدفن شيئا فتعلم ذلك منه. انتهى.
والغراب هو الطائر الأسود المعروف. وقسموه إلى أنواع. وفي الحديث: أنه ﷺ غيّر اسم غراب لما فيه من البعد. ولأنه من أخبث الطيور. والعرب تقول: أبصر من غراب، وأحذر من غراب، وأزهى من غراب، وأصفى عيشا من غراب، وأشد سوادا من غراب، وهذا بأبيه أشبه من الغراب بالغراب. وإذا نعتوا أرضا بالخصب قالوا: وقع في أرض لا يطير غرابها. ويقولون وجد تمرة الغراب، وذلك أنه يتبع أجود التمر فينتقيه. ويقولون: أشأم من غراب وأفسق من غراب. ويقولون: طار غراب فلان، إذا شاب رأسه. وغراب غارب على المبالغة. كما قالوا: شعر شاعر، وموت مائت. قال رؤية:
فازجر من الطير الغراب الغاربا
قالوا: وليس شيء في الأرض يتشاءم به إلّا والغراب أشأم منه. وللبديع الهمذانيّ فصل بديع في وصفه. ذكره في (المضاف والمنسوب) وأورد ما يضاف إليه الغراب ويضاف إلى الغراب. والأبيات في غراب البين كثيرة، ملئت بها الدفاتر.
وحقق الإمام أبو عبد الله الشريف الغرناطيّ- قاضي غرناطة- في شرحه على (مقصورة حازم) أن غراب البين في الحقيقة هو الإبل التي تنقلهم من بلاد إلى بلاد.
وأنشد في ذلك مقاطيع. منها:
غلط الذين رأيتهم بجهالة... يلحون كلّهم غرابا ينعق
ما الذنب إلا للأباعر إنها... مما يشتّت جمعهم ويفرّق
إن الغراب بيمنه تدنو النوى... وتشتت الشمل الجميع الأينق
وأنشد ابن المسناويّ لابن عبد ربّه:
زعق الغراب فقلت: أكذب طائر... إن لم يصدقه رغاء بعير
مع أنه قد يخرج بأنه نعت جرى على المحل. لأن الوجه فاعل المصدر، وهو بشاشة.
السادس: حكمة تخصيص الغراب كون دأبه المواراة.
قال أبو مسلم: عادة الغراب دفن الأشياء. فجاء غراب فدفن شيئا فتعلم ذلك منه. انتهى.
والغراب هو الطائر الأسود المعروف. وقسموه إلى أنواع. وفي الحديث: أنه ﷺ غيّر اسم غراب لما فيه من البعد. ولأنه من أخبث الطيور. والعرب تقول: أبصر من غراب، وأحذر من غراب، وأزهى من غراب، وأصفى عيشا من غراب، وأشد سوادا من غراب، وهذا بأبيه أشبه من الغراب بالغراب. وإذا نعتوا أرضا بالخصب قالوا: وقع في أرض لا يطير غرابها. ويقولون وجد تمرة الغراب، وذلك أنه يتبع أجود التمر فينتقيه. ويقولون: أشأم من غراب وأفسق من غراب. ويقولون: طار غراب فلان، إذا شاب رأسه. وغراب غارب على المبالغة. كما قالوا: شعر شاعر، وموت مائت. قال رؤية:
فازجر من الطير الغراب الغاربا
قالوا: وليس شيء في الأرض يتشاءم به إلّا والغراب أشأم منه. وللبديع الهمذانيّ فصل بديع في وصفه. ذكره في (المضاف والمنسوب) وأورد ما يضاف إليه الغراب ويضاف إلى الغراب. والأبيات في غراب البين كثيرة، ملئت بها الدفاتر.
وحقق الإمام أبو عبد الله الشريف الغرناطيّ- قاضي غرناطة- في شرحه على (مقصورة حازم) أن غراب البين في الحقيقة هو الإبل التي تنقلهم من بلاد إلى بلاد.
وأنشد في ذلك مقاطيع. منها:
غلط الذين رأيتهم بجهالة... يلحون كلّهم غرابا ينعق
ما الذنب إلا للأباعر إنها... مما يشتّت جمعهم ويفرّق
إن الغراب بيمنه تدنو النوى... وتشتت الشمل الجميع الأينق
وأنشد ابن المسناويّ لابن عبد ربّه:
زعق الغراب فقلت: أكذب طائر... إن لم يصدقه رغاء بعير
113
كذا في «تاج العروس» شرح القاموس.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٣٢]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أي: بسبب قتل قابيل هابيل ظلما كَتَبْنا أي فرضنا وأوحينا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ وإنما خصّوا بالذكر لأنهم أول من تعبدوا بذلك. وقوله تعالى: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أي: بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ أي: أو بغير فساد يوجب إهدار دمها- كالكفر مع الحراب، والارتداد، وقطع الطريق الآتي بعد، وزنا المحصن- فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً أي:
من حيث إنه هتك حرمة الدماء، وسنّ القتل، وجرّأ الناس عليه. أو من حيث إنّ قتل الواحد وقتل الجميع سواء، في استجلاب غضب الله سبحانه وتعالى والعذاب العظيم وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً أي: ومن تسبب لبقاء حياتها بعفو أو منع عن القتل أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة. فكأنما فعل ذلك بالناس جميعا.
والمقصود منه: تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ترهيبا عن التعرض لها، وترغيبا في المحاماة عليها. أفاده البيضاوي.
وقال أبو مسلم في معنى الآية: من قتل وجب على المؤمنين معاداته. وأن يكونوا خصومه، كما لو قتلهم جميعا. لأن المسلمين يد واحدة على من سواهم.
ومن أحيا وجب موالاته عليهم، كما لو أحياهم. انتهى.
وقيل للحسن البصري «١» : هذه الآية لنا كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال: إي والذي لا إله غيره كما كانت لهم. وما جعل دماءهم أكرم من دمائنا.
أقول القاعدة في ذلك أن جميع ما يحكى في القرآن من شرائع الأولين وأحكامهم، ولم ينبّه على إفسادهم وافترائهم فيه، فهو حقّ. وقد أوضح ذلك الإمام الشاطبيّ في (الموافقات) فانظره فإنه مهمّ.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٣٢]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أي: بسبب قتل قابيل هابيل ظلما كَتَبْنا أي فرضنا وأوحينا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ وإنما خصّوا بالذكر لأنهم أول من تعبدوا بذلك. وقوله تعالى: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أي: بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ أي: أو بغير فساد يوجب إهدار دمها- كالكفر مع الحراب، والارتداد، وقطع الطريق الآتي بعد، وزنا المحصن- فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً أي:
من حيث إنه هتك حرمة الدماء، وسنّ القتل، وجرّأ الناس عليه. أو من حيث إنّ قتل الواحد وقتل الجميع سواء، في استجلاب غضب الله سبحانه وتعالى والعذاب العظيم وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً أي: ومن تسبب لبقاء حياتها بعفو أو منع عن القتل أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة. فكأنما فعل ذلك بالناس جميعا.
والمقصود منه: تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ترهيبا عن التعرض لها، وترغيبا في المحاماة عليها. أفاده البيضاوي.
وقال أبو مسلم في معنى الآية: من قتل وجب على المؤمنين معاداته. وأن يكونوا خصومه، كما لو قتلهم جميعا. لأن المسلمين يد واحدة على من سواهم.
ومن أحيا وجب موالاته عليهم، كما لو أحياهم. انتهى.
وقيل للحسن البصري «١» : هذه الآية لنا كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال: إي والذي لا إله غيره كما كانت لهم. وما جعل دماءهم أكرم من دمائنا.
أقول القاعدة في ذلك أن جميع ما يحكى في القرآن من شرائع الأولين وأحكامهم، ولم ينبّه على إفسادهم وافترائهم فيه، فهو حقّ. وقد أوضح ذلك الإمام الشاطبيّ في (الموافقات) فانظره فإنه مهمّ.
(١) الأثر رقم ١١٨٠٠ من تفسير ابن جرير.
114
وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: دخلت على عثمان يوم الدار فقلت: جئت لأنصرك. وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين! فقال: يا أبا هريرة! أيسرّك أن تقتل الناس جميعا وإياي معهم؟ قلت: لا! قال: فإنك إن قتلت رجلا واحدا فكأنما قتلت الناس جميعا، فانصرف مأذونا لك، مأجورا غير مأزور. قال:
فانصرفت ولم أقاتل.
وروى الإمام أحمد «١» عن عبد الله بن عمرو قال: «جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله! اجعلني على شيء أعيش به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حمزة! نفس تحييها أحبّ إليك أم نفس تميتها؟ قال: بل نفس أحييها. قال: عليك بنفسك».
وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ يعني: بني إسرائيل رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ أي: الآيات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم، تأكيدا لوجوب مراعاته، وتأييدا لتحتم المحافظة عليه، ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ أي: من بني إسرائيل بَعْدَ ذلِكَ أي: بعد ما كتبنا عليهم، وبعد مجيء الرسل بالآيات والزجر المسموع منهم لَمُسْرِفُونَ يعني:
بالفساد والقتل. لا يبالون بعظمة ذلك.
قال ابن كثير: هذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها.
كما كانت بنو قريظة والنضير وغيرهم من بني قينقاع، ممن حول المدينة من اليهود الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج، إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها فدوا من أسروه، وودوا من قتلوه. وقد أنكر الله تعالى عليهم ذلك في (سورة البقرة) حيث يقول: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ [البقرة: ٨٤- ٨٥] الآيات.
وقال الرازيّ: المقصود من شرح هذه المبالغة- يعني قوله تعالى: فَكَأَنَّما قَتَلَ الآية- أن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة أقدموا على قتل الأنبياء والرسل، وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم ونهاية بعدهم عن طاعة الله تعالى. ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص تسلية الرسول ﷺ في الواقعة التي ذكرنا أنهم عزموا على الفتك برسول الله ﷺ وبأكابر أصحابه- كان تخصيص بني إسرائيل في هذه القصة، في هذه المبالغة العظيمة، مناسبا للكلام ومؤكّدا للمقصود.
فانصرفت ولم أقاتل.
وروى الإمام أحمد «١» عن عبد الله بن عمرو قال: «جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله! اجعلني على شيء أعيش به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حمزة! نفس تحييها أحبّ إليك أم نفس تميتها؟ قال: بل نفس أحييها. قال: عليك بنفسك».
وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ يعني: بني إسرائيل رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ أي: الآيات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم، تأكيدا لوجوب مراعاته، وتأييدا لتحتم المحافظة عليه، ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ أي: من بني إسرائيل بَعْدَ ذلِكَ أي: بعد ما كتبنا عليهم، وبعد مجيء الرسل بالآيات والزجر المسموع منهم لَمُسْرِفُونَ يعني:
بالفساد والقتل. لا يبالون بعظمة ذلك.
قال ابن كثير: هذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها.
كما كانت بنو قريظة والنضير وغيرهم من بني قينقاع، ممن حول المدينة من اليهود الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج، إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها فدوا من أسروه، وودوا من قتلوه. وقد أنكر الله تعالى عليهم ذلك في (سورة البقرة) حيث يقول: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ [البقرة: ٨٤- ٨٥] الآيات.
وقال الرازيّ: المقصود من شرح هذه المبالغة- يعني قوله تعالى: فَكَأَنَّما قَتَلَ الآية- أن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة أقدموا على قتل الأنبياء والرسل، وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم ونهاية بعدهم عن طاعة الله تعالى. ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص تسلية الرسول ﷺ في الواقعة التي ذكرنا أنهم عزموا على الفتك برسول الله ﷺ وبأكابر أصحابه- كان تخصيص بني إسرائيل في هذه القصة، في هذه المبالغة العظيمة، مناسبا للكلام ومؤكّدا للمقصود.
(١) أخرجه في المسند ٢/ ١٧٥ وحديث ٦٦٣٩.
115
ولما ذكر الله تعالى تغليظ الإثم في قتل النفس بغير نفس ولا فساد- أتبعه ببيان الفساد المبيح للقتل بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٣٣]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣)
إِنَّما جَزاءُ أي مكافأة الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي: يخالفونهما ويعصون أمرهما وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي: يعملون في الأرض بالمعاصي وهو القتل وأخذ المال ظلما أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ.
أي: أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ أي: يطردوا منها وينحّوا عنها. وهو التغريب عن المدن، فلا يقرّون فيها ذلِكَ أي: الجزاء المذكور لَهُمْ خِزْيٌ ذل وفضيحة فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وهو عذاب النار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٣٤]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا أي من المحاربين مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وفي هذه الآية مسائل:
الأولى- روى ابن جرير «١» وأبو داود والنسائيّ عن ابن عباس، أنها نزلت في المشركين. وروى ابن جرير عن أبيّ، أنها نزلت في قوم من أهل الكتاب نقضوا عهدهم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم. وظاهر أنها عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٣٣]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣)
إِنَّما جَزاءُ أي مكافأة الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي: يخالفونهما ويعصون أمرهما وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي: يعملون في الأرض بالمعاصي وهو القتل وأخذ المال ظلما أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ.
أي: أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ أي: يطردوا منها وينحّوا عنها. وهو التغريب عن المدن، فلا يقرّون فيها ذلِكَ أي: الجزاء المذكور لَهُمْ خِزْيٌ ذل وفضيحة فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وهو عذاب النار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٣٤]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا أي من المحاربين مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وفي هذه الآية مسائل:
الأولى- روى ابن جرير «١» وأبو داود والنسائيّ عن ابن عباس، أنها نزلت في المشركين. وروى ابن جرير عن أبيّ، أنها نزلت في قوم من أهل الكتاب نقضوا عهدهم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم. وظاهر أنها عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه
(١) أخرجه أبو داود في: الحدود، ٣- باب ما جاء في المحاربة، حديث ٤٣٧٢ ونصه: عن ابن عباس قال: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ إلى قوله غَفُورٌ رَحِيمٌ نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحدّ الذي أصابه.
116
الصفات. كما روى الشيخان «١» وأهل السنن وابن مردويه وهذا لفظه: عن أنس بن مالك أن ناسا من عرينة قدموا المدينة فاجتووها. فبعثهم رسول الله ﷺ في إبل الصدقة وأمرهم أن يشربوا من أبوالها ففعلوا فصحّوا، فارتدّوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي وساقوا الإبل. فأرسل رسول الله ﷺ في آثارهم، فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمل أعينهم وألقاهم في الحرّة. قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشا، حتى ماتوا. ونزلت: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.. الآية. ولمسلم «٢» عن أنس قال: إنما سمل النبيّ ﷺ أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء. وعند البخاريّ: قال أبو قلابة «٣» : فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله.
الثانية- زعم بعضهم أن الآية نزلت نسخا لعقوبة العرنيين المتقدمة.
قال ابن جرير «٤» : حدثنا عليّ بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم قال: ذاكرت الليث بن سعد: ما كان سمل النبيّ ﷺ أعينهم وتركه حسمهم حتى ماتوا. فقال:
سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ معاتبة في ذلك. وعلّمه عقوبة مثلهم من القطع والقتل والنفي، ولم يسمل بعدهم غيرهم. قال:
وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو- بعني الأوزاعيّ- فأنكر أن تكون نزلت معاتبة، وقال: بلى. كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم. ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممّن حارب بعدهم. فرفع عنهم السمل.
وروى «٥» ابن جرير أيضا في القصة عن
الثانية- زعم بعضهم أن الآية نزلت نسخا لعقوبة العرنيين المتقدمة.
قال ابن جرير «٤» : حدثنا عليّ بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم قال: ذاكرت الليث بن سعد: ما كان سمل النبيّ ﷺ أعينهم وتركه حسمهم حتى ماتوا. فقال:
سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ معاتبة في ذلك. وعلّمه عقوبة مثلهم من القطع والقتل والنفي، ولم يسمل بعدهم غيرهم. قال:
وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو- بعني الأوزاعيّ- فأنكر أن تكون نزلت معاتبة، وقال: بلى. كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم. ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممّن حارب بعدهم. فرفع عنهم السمل.
وروى «٥» ابن جرير أيضا في القصة عن
(١) أخرجه البخاري في: الوضوء، ٦٦- باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها، حديث ١٧٣.
وأخرجه مسلم في: القسامة، حديث ٩- ١٤.
(٢) أخرجه مسلم في: القسامة، حديث ١٤.
(٣) أخرجه البخاريّ في: الوضوء، ٦٦- باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها، حديث ١٧٣.
(٤) الأثر رقم ١١٨١٨ من التفسير.
(٥)
الأثر رقم ١١٨١٠ من التفسير ونصه: عن عبد الكريم وسئل عن أبوال الإبل فقال: حدثني سعيد ابن جبير عن المحاربين فقال: كان ناس أتوا النبيّ ﷺ فقالوا: نبايعك على الإسلام. فبايعوه، وهم كذبة، وليس الإسلام يريدون. ثم قالوا: إنا نجتوي المدينة. فقال النبيّ ﷺ «هذه اللقاح تغدو عليكم وتروح، فاشربوا من أبوالها وألبانها». قال، فبينما هم كذلك، إذ جاء الصريخ، فصرخ إلى رسول الله ﷺ فقال: قتلوا الراعي وساقوا النّعم. فأمر نبيّ الله فنودي في الناس: أن «يا خيل الله اركبي» قال، فركبوا، لا ينتظر فارس فارسا. قال: فركب رسول الله ﷺ على أثرهم. فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنهم. فرجع صحابة رسول الله ﷺ وقد أسروا منهم، فأتوا بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:
وأخرجه مسلم في: القسامة، حديث ٩- ١٤.
(٢) أخرجه مسلم في: القسامة، حديث ١٤.
(٣) أخرجه البخاريّ في: الوضوء، ٦٦- باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها، حديث ١٧٣.
(٤) الأثر رقم ١١٨١٨ من التفسير.
(٥)
الأثر رقم ١١٨١٠ من التفسير ونصه: عن عبد الكريم وسئل عن أبوال الإبل فقال: حدثني سعيد ابن جبير عن المحاربين فقال: كان ناس أتوا النبيّ ﷺ فقالوا: نبايعك على الإسلام. فبايعوه، وهم كذبة، وليس الإسلام يريدون. ثم قالوا: إنا نجتوي المدينة. فقال النبيّ ﷺ «هذه اللقاح تغدو عليكم وتروح، فاشربوا من أبوالها وألبانها». قال، فبينما هم كذلك، إذ جاء الصريخ، فصرخ إلى رسول الله ﷺ فقال: قتلوا الراعي وساقوا النّعم. فأمر نبيّ الله فنودي في الناس: أن «يا خيل الله اركبي» قال، فركبوا، لا ينتظر فارس فارسا. قال: فركب رسول الله ﷺ على أثرهم. فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنهم. فرجع صحابة رسول الله ﷺ وقد أسروا منهم، فأتوا بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: