ﰡ
قال صاحب « الكشاف » : العقد : العَهْد الموثّق شبّه بعقد الحبل ونحوه قال الحطيئة :
قوم إذا عَقدوا عقداً لجارهم | شدوا العناج وشدوا فوقه الكَرَبا |
قومٌ هم الأنْفُ والأَذْنابُ غيرُهم | ومَنْ يُسَوّى بأنف النّاقةِ الذنبا |
﴿ بَهِيمَةُ الأنعام ﴾ : البهيمة ما لا نطق له وذلك لما في صوته من الإبهام، وخص في العرف بما عدا السباع والطير، أفاده الراغب، والأنعام جمع نَعَم بفتحتين وهي الإبل، والبقر، والغنم.
﴿ حُرُمٌ ﴾ : جمع حرام بمعنى مُحْرِم، ومعنى الآية : غير مستحلي الصيد وأنتم في حالة الإحرام.
﴿ شَعَآئِرَ الله ﴾ : ما جعله عَلَماً على طاعته واحدها شعيرة، والمراد بالشعائر هنا مناسك الحج وهو مروي عن ابن عباس، وقيل : المراد بها حدود الله وهو منقول عن عكرمة وعطاء.
﴿ القلائد ﴾ : جمع قلادة وهي ما قلّد به الهدي، وكان الرجل يقلّد بعيره من لحاء شجر الحرم فيأمن بذلك حيث سلك.
﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ ﴾ : أي يَكسبنّكم يقال : جرم ذنباً أي كسبه، وفلان جارمُ أهلِه أي كاسبهم.
﴿ شَنَآنُ ﴾ : أي بغض يقال : شنأته إذا أبغضته، والشانيء المبغض قال تعالى :﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر ﴾ [ الكوثر : ٣ ].
والمعنى : لا يكسبنكم بغض قوم لأن صدوكم عن المسجد الحرام الاعتداء عليهم.
﴿ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله ﴾ : أي ذبح لغير الله، وذكر عند ذبحه غير اسم الله وهو كقولهم : باسم اللات والعزى.
﴿ والموقوذة ﴾ : التي تضرب حتى تشرف على الموت، ثم تترك حتى تموت وتؤكل بغير ذكاة.
﴿ والمتردية ﴾ : الواقعة من جبلٍ أو حائطٍ أو في بئر، يقال : تردّى أي سقط.
﴿ والنطيحة ﴾ : التي نطحتها شاة أخرى فمات بالنطح، ( فعيلة ) بمعنى ( مفعولة ) أي منطوحة.
﴿ ذَكَّيْتُمْ ﴾ : ذبحتموه الذبح الشرعي مع ذكر اسم الله تعالى عند الذبح.
﴿ النصب ﴾ : قال في « اللسان » : النّصبُ صنمٌ أو حجر، وكانت الجاهلية تنصبه وتذبح عنده وجمعه أنصاب.
﴿ بالأزلام ﴾ : أي بالقداح جمع زَلَم، والاستقسام بها أن يضرب بها ثم يعمل بما يخرج فيها من أمر أو نهي.
﴿ مَخْمَصَةٍ ﴾ : أي مجاعة، والخَمْصَ : الجوع، قال حاتم يذم رجلاً :
يرى الخَمْص تعذيباً وإن يلقَ شِبْعة | يَبِتْ قلبُه من قلة الهمّ مبهماً |
﴿ الجوارح ﴾ : جمع جارحة وهي الكواسب من سباع البهائم والطير، من جَرَحَ إذا كسب قال تعالى :﴿ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار ﴾ [ الأنعام : ٦٠ ] أي كسبتم وقيل : المراد كلاب الصيد.
المعنى الإجمالي
خاطب الله سبحانه المؤمنين، فأمرهم بالوفاء بالعهود التي بينهم وبين الله والناس، ثم ذكر ما أباح لهم من لحوم الإبل والبقر والغنم بعد الذبح، وما حرّم عليهم من الميتة والدم ولحم الخنزير إلى آخر ما ذكر في آية المحرمات التالية، كما ذكر الله تعالى أنه أباح الصيد لعباده إلا في حالة الإحرام.
ونهى الله تعالى في الآية الثانية عن إحلال الشعائر كالصيد في الإحرام، والقتال في الشهر الحرام، والتعرض للهدي والقلائد التي تهدى لبيت الله، والتعرض لقاصدي المسجد الحرام الذين يبتغون الفضل والرضوان من الله بقتالهم أو الاعتداء عليهم، ثم أباح الله تعالى الصيد لعباده بعد التحلل من الإحرام، وزجرهم عن الاعتداء على الغير بسبب بغضهم لهم، فإن الظلم ممقوت وقد حرم الله البغي والعدوان بجميع صوره وضروبه، وأمر بالتعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان وختم الآية بالتهديد، والوعيد لمن خالف أمر الله.
وفي الآية الثالثة عدّد الله تعالى المحرمات التي ذكرها بالإجمال في أول السورة ﴿ إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ ﴾ فبينها هنا بالتفصيل وهي أحد عشر شيئاً كلها من قبيل المطعوم إلا الأخير وهو ( الإستقسام بالأزلام ) وهذه المحرمات هي التي كان أهل الجاهلية يستحلونها فحرمتها الشريعة الإسلامية وهي ( الميتة، الدم، لحم الخنزير، ما ذبح لغير الله، المنخنقة، الموقوذة ( المقتولة ضرباً ) المتردية ( الساقطة من علو فماتت ) النطيحة ( المقتولة بنطح أخرى ) ( ما أكل السبع ) بعضه إلا إذا أدرك قبل الموت من هذه الأشياء فذبح، الذبح الشرعي، وما قصد بذبحه النصب ( الأصنام ) وكذلك حرّم الله تعالى الاستقسام بالأقداح التي هي - على زعمهم - استشارة للآلهة في أمورهم، فإن أمرتهم ائتمروا، وإن نهتهم انتهوا، وبيّن الله تعالى أن هذا فسق من عمل الشيطان.
وختم الله تعالى الآيات الكريمة بأنه أكمل الدين وأتم الشريعة، وأحل الطيبات، وحرّم الخبائث إلا في حالة الاضطرار، التي يباح فيها للإنسان ما حرّمه الله تعالى عليه.
سبب النزول
روى ابن عباس رضي الله عنهما أن المشركين كانوا يحجون البيت، ويهدون الهدايا، ويعظّمون المشاعر وينحرون، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فأنزل الله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله ﴾.
وجوه القراءات
١ - قرأ الجمهور ﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ ﴾ بفتح النون في ( شنَآنُ )، وقرأ ابن عامر بسكون النون.
٢ - قرأ الجمهور ﴿ أَن صَدُّوكُمْ ﴾ أي من أجل أن صدوكم، وقرأ ابن كثير بالكسر ( إن صدوكم ) على أنها شرطية.
٣ - قرأ الجمهور ﴿ وَمَآ أَكَلَ السبع ﴾ بضم الباء، وقرأ أبو رزين ( السّبْعُ ) بسكون الباء.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : نهى الله تعالى عن التعرض للهدي ثم خصّ بالذكر ( القلائد ) أي ذوات القلائد فيكون هذا من باب عطف الخاص على العام كقوله تعالى :﴿ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال ﴾ [ البقرة : ٩٨ ] للتنبيه على زيادة الشرف والفضل، ويجوز أن يكون المراد القلائد نفسها، فنهى عن التعرض لقلائد الهدي مبالغة في النهي عن التعرض للهدي أي لا تحِلّوا قلائدها فضلاً عن أن تحلوها كما في قوله تعالى :﴿ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ﴾ [ النور : ٣١ ] نهى عن إبداء الزينة مبالغة عن إبداء مواقعها.
اللطيفة الثانية : جرت سنة الجاهلية على مبدأ العصبيّة العمياء ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ) وهو المبدأ الذي عبّر عنه الشاعر الجاهلي بقوله :
وهل أنا إلاّ من غُزَيَّة إن غوتْ | غويتُ وإن ترشد غُزيةُ أرشد |
اللطيفة الثالثة : الاستقسام بالأزلام أي بالقداح، وقد كانوا في الجاهلية إذا أرادوا سفراً، أو غزواً، أو تجارةً أو نكاحاً، أو اختلفوا في أمر نسبٍ، أو أمر قتيل، أو تحمل عقل، أو غير ذلك من الأمور العظام، جاءوا إلى ( هُبل ) أعظم أصنامهم بمكة وجاءوا بمائة درهم فأعطوها صاحب القداح، حتى يجيلُها لهم ويستشيروا آلهتهم ( الأصنام ) فإن خرج أمرني ربي فعلوا ذلك الأمر، وإن خرج نهاني ربي لم يفعلوا، وإن خرج غُفْل أجالوا ثانياً حتى يخرج المكتوب عليهم، فنهاهم الله عن ذلك وسمّاه فسقاً.
اللطيفة الرابعة : في قوله تعالى :﴿ اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ ﴾ لم يرد يوماً بعينه، وإنما أراد به الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الماضية والآتية كقول الرجل : كنتُ بالأمس شاباً وأنا اليوم أشَيَبُ، فلا يريد بالأمس الذي قبل اليوم، ولا باليومِ اليوم الذي هو فيه، بل يريد به الزمان الماضي والحاضر.
اللطيفة الخامسة : نزلت هذه الآية الكريمة ﴿ اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً ﴾ على رسول الله ﷺ في حجة الوداع، ورسول الله ﷺ بعرفة، في يوم جمعة، فكان ذلك اليومُ عيداً على عيد، روي أن رجلاً من اليهود جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين : آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال : أيَّ آية تعني؟ قال :﴿ اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ الآية فقال عمر : والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله ﷺ فيه، والساعة التي نزلت فيها، نزلت على رسول الله عشية عرفة في يوم جمعة.
و « روي أنه لما نزلت هذه الآية بكى عمر، فقال له النبي ﷺ : ما يبكيك يا عمر؟ قال : أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا، وإنه لا يكمل شيء إلا نقص، فقال : صدقت، فكانت هذه الآية نَعيَ رسول الله ﷺ فما لبث بعد ذلك إلاّ إحدى وثمانين يوماً ».
الحكم الأول : ما المراد بالعقود في الآية الكريمة؟
قال بعض العلماء : المراد بالعقود عقود الدّيْن والمعاملة، وهي ما عقدة الإنسان على نفسه من بيع، وشراء، وإجارة، وغير ذلك ممّا يتعامل به الناس، وهو قول الحسن.
وقال آخرون : المراد بها عقود الشريعة من حج، وصيام، واعتكاف، وقيام، ونذور وما أشبه ذلك من الطاعات، وهو قول ابن عباس ومجاهد، ورجّحه الطبري.
والصحيح كما قال القرطبي وجمهور المفسرين أن المراد بالعقود ما يشمل عقود المعاملة وعقود الشريعة وهي التكاليف والواجبات الشرعية التي فرضها الله على عباده، وما أُحل وحرّم عليهم.
قال القرطبي : قال الزجاج : المعنى أوفوا بعقد الله عليكم، وبعقد بعضكم على بعض. وهذا كله راجع إلى القول بالعموم، وهو الصحيح في الباب، لقوله عليه السلام :« المؤمنون عند شروطهم ».
الحكم الثاني : المحرمات من الأنعام التي أشارت إليها الآية الكريمة.
ذكرت الآية الكريمة المحرمات من الأنعام بالتفصيل وهي ( الميتة، الدم، لحم الخنزير، ما ذبح للأصنام أو ذكر عليه اسم غير الله، المنخنقة، الموقوذة، المتردية، النطيحة، فما أكله السبع أي ما افترسه ذو ناب وأظفار كالذئب والأسد ) وقد استثنى الباري جل وعلا من ( الموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكله السبع ) ما أدركه الإنسان حياً فذكاه التذكية الشرعية.
وقد اختلف الفقهاء في الذكاء هل تحل هذه الأنواع التي لها حكم الميتة؟ فالمشهور من مذهب الشافعية وهو مذهب الحنفية أن الحيوان إذا أُدرك وبه أثر حياة كأن يكون ذنبه يتحرك، أو رجله تركض ثم ذَكّي فهو حلال.
وقال بعضهم : يشترط في الحياة أن تكون مستقرة، وهي التي لا تكون على شرف الزوال، وعلامتها على ما قيل : أن يضطرب بعد الذبح لا وقته.
وروي عن مالك أنه إذا غلب على الظن أنه يهلك فلا يحل ولا يؤثر فيه الذكاة، وروي عنه قول آخر مثل قول الشافعية والحنفية أنه يحلّ إذا كان به أدنى ما يدرك به الذكاة.
وسبب الخلاف بين الفقهاء هو الاستثناء في الآية الكريمة ﴿ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ﴾ هل هو استثناء متصل أم منقطع؟ فمن رأى أنه متصل يرى أنه أخرج من حكم التحريم ويكون معنى الآية : إلاّ ما أدركتموه وفيه بقية حياة وذكيتموه فإنه حلال لكم أكله.
ومن رأى أنه منقطع يرى أن التذكية لا تحلّ هذه الأنواع، وأن الاستثناء من التحريم لا من المحرمات، ومعنى الآية : حرّم عليكم سائر ما ذكر لكن ما ذكيتم مما أحله الله تعالى بالتذكية فإنه لحلال لكم.
الحكم الثالث : كيف تكون الذكاة الشرعية؟
أ - قال مالك : لا تصح الذكاة إلا بقطع الحلقوم والودجين.
ب - وقال الشافعي : يصح بقطع الحلقوم والمريء ولا يحتاج إلى الودجين، لأنهما مجرى الطعام والشراب.
ج - وقال أبو حنيفة : يجزئ قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين.
والتفصيل في كتب الفقه، إلا أن مالكاً وأبا حنيفة اعتبروا الموت على وجهٍ يطيب معه اللحم، ويفترق فيه الحلال - وهو اللحم - من الحرام، وذلك بقطع الأوداج التي يسيل منها الدم كقوله عليه السلام :« ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ».
وأما الآلة التي تجوز بها الذكاة فهي كل ما أنهر الدم، وفرى الأوداج سوى السن والظفر.
وأجاز أبو حنيفة الذكاة بالسن والظفر إذا كانا منزوعين.
فأما البعير إذا توحش، أو تردّى في بئر، فهو بمنزلة الصيد ذكاته عقْرُه، لما رواه البخاري والنسائي وأبو داود عن ( رافع بن خديج ) قال :« كنّا مع رسول الله ﷺ في سفره، فندّ بعير من إبل القوم، ولم يكن معهم خيل، فرماه رجلٌ بسهم فحبسه، فقال رسول الله ﷺ : إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما فعل منها هذا فافعلوا به هكذا ».
وقال مالك : ذكاتُه ذكاةُ المقدور عليه. قال الإمام أحمد : لعلّ مالكاً لم يسمع حديث رافع بن خديج.
وقد تأويل ابن العربي في تفسيره « أحكام القرآن » : الحديث بأن مفاده جواز حبس ما ندّ من البهائم بالرمي وغيره، لأنّ ذلك ذكاة لها، وأنه لا بدّ من الذبح للأنعام.
الحكم الرابع : حكم صيد السباع والجوارح.
دلّ قوله تعالى :﴿ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ ﴾ أي معلمين لها الصيد، على جواز أكل ما صاده سباع البهائم والجوارح، كالكلب والفَهْد، والصقر والبازي، بشرط أن يكون الحيوان أو الطير معلّماً.
وقد اتفق الفقهاء على جواز صيد كل كلب معلّم لقوله عليه السلام لعدي بن حاتم :« إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم الله تعالى فكل مما أمسك عليك، فإن أكل منه فلا تأكل ».
وشرط بعضهم في الكلب المعلّم شروطاً ينبغي أن تتوفر حتى يحل صيده منها :
١ - أن يكون معلّماً يجيب إذا دعي، وينزجر إذا زجر لقوله تعالى :﴿ تُعَلِّمُونَهُنَّ ﴾.
٢ - أن لا يأكل من صيده الذي صاده لقوله تعالى :﴿ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ﴾.
٣ - أن يذكر اسم الله تعالى عند إرساله لقوله تعالى :﴿ واذكروا اسم الله عَلَيْهِ ﴾ وقوله ﷺ :« وذكرت اسم الله تعالى ».
٤- أن يكون الذي يصيد بهذا الحيوان مسلماً، وشرط بعضهم ألا يكون الكلب أسود.
وفي بعض هذه الشروط خلاف بين الفقهاء يعلم من كتب الفقه والله أعلم.
التحليل اللفظي
﴿ وَطَعَامُ ﴾ : الطعام اسمٌ لما يؤكل وهو هنا خاص بالذبائح، يعني ذبيحة اليهودي والنصراني حلال لنا، كما أن ذبيحتنا حلال لهم.
﴿ والمحصنات ﴾ : العفائف من النساء قال الشعبي : أن تحصن فرجها فلا تزني، وقد تقدم.
﴿ متخذي أَخْدَانٍ ﴾ : جمع خِدْن بمعنى صديق، والخدْن يعق على الذكر والأنثى كذا قال صاحب « الكشاف ». وقد كان الرجل في الجاهلية يتخذ صديقة فيزني بها، والمرأة تتخذ صديقاً فيزني بها فحرم الإسلام ذلك.
﴿ يَكْفُرْ بالإيمان ﴾ : أي يجحد بشرائع الإسلام ومن ضمنها أحكام الحلال والحرام.
﴿ حَبِطَ عَمَلُهُ ﴾ : بطل ثوابه لأن الكفر يذهب ثواب العمل الصالح ﴿ وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً ﴾ [ الفرقان : ٢٣ ].
﴿ إِذَا قُمْتُمْ ﴾ : قال الزجاج : المعنى إذا أردتم القيام إلى الصلاة كقوله ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله ﴾ [ النحل : ٩٨ ]. فليس المراد القيام فعلاً وإنما المراد إرادة الفعل، كما تقول : إذا ضربت فاتق الوجه أي إذا أردت الضرب.
﴿ فاغسلوا ﴾ : الغَسْل بالفتح إسالة الماء على الشيء لإزالة ما عليه من وسخ وغيره.
﴿ وُجُوهَكُمْ ﴾ : لفظ الوجه مأخوذ من المواجهة، وحدّه من أعلى الجبهة إلى أسفل الذقن طولاً، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضاً.
﴿ إِلَى الكعبين ﴾ : الكعبان : العظمان الناتئان من جانبي القدم، وسمّي كعباً لعلوه وارتفاعه.
﴿ مِّنْ حَرَجٍ ﴾ : أي من ضيق في الدين، فقد وسّع الله على المؤمنين حين رخّص لهم في التيمم.
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : أحل لكم أيها المؤمنون المستطاب من الأطعمة ما كان منها حلالاً، وذبائح أهل الكتاب حلال لكم وذبائحكم حلال لهم، والعفائف من المؤمنات والعفائف الحوائر من نساء أهل الكتاب حلال لكم نكاحهن، إذا دفعتم إليهن مهورهن، محصنين أنفسكم بالزواج، غير زانين ولا متخذين عشيقات وصديقات، تزنون بهن في السرّ، ومن يرتد عن الإسلام فقد ذهب وبطل ثوابه، وهو في الآخرة من الخاسرين.
ثمّ بيّن الله تعالى أحكام الوضوء والتيمم فقال : إذا أردتم أيها المؤمنون القيام إلى الصلاة، وأنتم محدثون، فاغسلوا بالماء الطاهر وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا رؤوسكم، واغسلوا أقدامكم إلى الكعبين، وإذا كنتم محدثين حدثاً أكبر فاغتسلوا بالماء، وإن كنتم في حالة المرض أو السفر أو محدثين حدثاً أصغر، أو غشيتم النساء ولم تجدوا ماءً تتوضؤون به أو تغتسلون، فتيمّموا بالتراب الطاهر، فامسحوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق بذلك التراب، ما يريد الله أن يضيّق عليكم في أحكام الدين، ولكنه تعالى يريد أن يطهركم من الذنوب والآثام، ومن الأقذار والنجاسات، ويتم نعمته عليكم ببيان شرائع الإسلام لتشكروه على نعمه، وتحمدوه على آلائه.
وجوه القراءات
١ - قرأ الجمهور ﴿ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين ﴾ بفتح اللام، وقرأ حمزة وأبو عمرو ( وأرجُلِكُمْ ) بالكسر، فقراءة النصب بالعطف على الوجوه والأيدي أي فاغسلوا وجوهكم وأيديَكم وأرجلَكم، وقراءة الجر للمجاورة، قال ابن الأنباري : لمّا تأخرت الأرجل بعد الرؤوس نسقت عليها للقرب والجوار.
١ - قوله تعالى :﴿ وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ ﴾ طعام مبتدأ، وحلّ لكم خبره.
٢ - قوله تعالى :﴿ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ﴾ محصنين حال من الضمير المرفوع في آتيتموهن.
٣ - قوله تعالى :﴿ إِلَى المرافق ﴾ قال العكبري : قيل إن ( إلى ) بمعنى ( مع ) كقوله تعالى ﴿ وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ ﴾ [ هود : ٥٢ ] أي مع قوتكم، وليس هذا المختار والصحيح أنها على بابها لانتهاء الغاية. وإنما وجب غسل المرافق بالسنة.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : تقديم المحصنات من المؤمنات على الكتابيات يدل على تفضيل الزواج بالمؤنة فالكتابية وإن كان يحل التزوج بها، لكنّ المؤمنة خير منها فيكون الزواج بها أفضل لقوله عليه السلام :« ألا أخبركم عن خير ما يكنز المرء المرأة الصالحة... » الحديث والصلاح إنما يكون في المؤمنة الفاضلة، وهذا هو السر في تقييد النكاح بالمؤمنات في سورة الأحزاب ﴿ ياأيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ﴾ [ الأحزاب : ٤٩ ].
اللطيفة الثانية : تقييد التحليل بإيتاء الأجور، يدل على تأكيد وجوب المهور، وأن من تزوج امرأة وعزم ألاّ يعطيها صداقها كان في صورة الزاني، وتسمية ( المهر ) بالأجر دلالة على أن الصداق ليس له قدر محدود، كما أن الأجر لا يتقدر وإنما يكون حسب الاتفاق.
اللطيفة الثالثة : التعبير بقوله تعالى :﴿ وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان ﴾ هو من إطلاق اسم الشيء على لازمه فهو ( مجاز مرسل ) لأن المراد ومن يكفر بكلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) فجعل كلمة التوحيد إيماناً، لأنها تستلزم الإيمان، وقيل : المراد ومن يكفر بشرائع الله، أو بدين الله فقد حبط عمله، وكلاهما متقارب من حيث إرادة المجاز.
اللطيفة الرابعة : مجيء المسح في آية الوضوء ضمن الأعضاء المفروض غسلها. فيه إشارة لطيفة إلى أنه ينبغي مراعاة الترتيب في الوضوء، فيغسل الوجه أولاً، ثم اليدين إلى المرفقين ثانياً، ثم يمسح الرأس، ثم يغسل القدمين، وهذا الترتيب - وإن لم يكن واجباً في بعض الأقوال - إلاّ أنه على كل حال مطلوب ومندوب، فيكون اتباع الهدي النبوي أكمل وأولى.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : حكم ذبائح أهل الكتاب.
ذهب جمهور المفسرين إلى أن المراد من قوله تعالى :﴿ وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ ﴾ أي ذبائح أهل الكتاب وهو الصحيح لا الخبز والفاكهة ولا جميع المطعومات كما قال البعض، لأن الذبائح هي التي تصير بفعلهم حلا، وأما الخبز والفاكهة فهي مباحة للمؤمنين قبل أن تكون لأهل الكتاب وبعد أن تكون لهم، فلا وجه لتخصيصها بأهل الكتاب.
وخُصّ هذا الحكم بأهل الكتاب لأن الوثنيّين لا يحل أكل ذبائحهم، ولا التزوج بنسائهم، لقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ ﴾
أما أهل الكتاب فلهم حكم خاص من حيث الذبائح، والنكاح، وأما المجوس فقد سُنّ بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم.
وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه استثنى نصارى ( بني تغلب ) وقال : ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر، وبه أخذ الشافعي رحمه الله.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال : لا بأس به، وبه أخذ أبو حنيفة رحمه الله.
وإنما قال تعالى :﴿ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ﴾ ولم يذكر النساء للتنبيه على أن الحكم مختلف في الذبائح والمناكحة، فإن إباحة الذبائح حاصلة من الجانبين، بخلاف إباحة المناكحات فإنها في جانب واحد، والفرق واضح لأنه لو أبيح لأهل الكتاب التزوج بالمسلمات، لكان لأزواجهن الكفار ولاية شرعية عليهن، والله تعالى لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، بخلاف إباحة الطعام من الجانبين فإنها لا تستلزم محظوراً.
الحكم الثاني : حكم نكاح اليهودية أو النصرانية.
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يحل التزوج بالذمية من اليهود والنصارى، واستدلوا بهذه الآية الكريمة ﴿ والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ ﴾.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يرى ذلك ويحتج بقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ ﴾ [ البقرة : ٢٢١ ] ويقول : لا أعلم شركاً أعظم من قولها : إن ربها عيسى، واستدل أيضاً بأن الله أوجب المباعدة عن الكفار في قوله :﴿ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ ﴾ [ الممتحنة : ١ ].
أقول : الآية صريحة في جواز نكاح الكتابيات، وهي دليل واضح لما ذهب إليه الجمهور، ولعلّ ابن عمر كره الزواج بالكتابيات ومنع منه، خشية على الزواج أو على الأولاد من الفتنة، فإن الحياة الزوجية تدعو إلى المحبة، وربما قويت المحبة فصارت سبباً إلى ميل الزوج إلى دينها، والأولاد يميلون إلى أمهم أكثر، فربما كان هذا سبباً في تأثرهم بدين النصرانية أو اليهودية فيكون هذا الزواج خطراً على الأولاد، فإذا كان ثمة خشية من الفتنة على الزوج أو الأولاد فيكون الزواج قطعاً محرماً، وأمّا إذا لم يكن هناك خطراً، أو كان هناك طمع في إسلامها فلا وجه للقول بالتحريم والله أعلم.
الحكم الثالث : هل يجب الوضوء على غير المحدث؟
ظاهر قوله تعالى :﴿ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة ﴾ يوجب الوضوء على كل قائم وإن لم يكن محدثاً، وقد أجمع العلماء على أن الوضوء لا يجب إلا على المحدث، فيكون قيد الحدث مضمراً في الآية ويصبح المعنى ( إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون ) وإنما أوّلوا الآية بهذا التأويل للإجماع على أن الوجوب لا يجب إلا على المحدث، ولأن في الآية ما يدل عليه، فإن التيمم يدل عن الوضوء وقائم مقامه، وقد قيد وجوب التيمم في الآية بوجود الحديث، فالأصل يجب أن يكون مقيداً به، ليتأتى أن يكون البدل قائماً مقام الأصل، ولأن الأمر بالوضوء نظير الأمر بالاغتسال وهو مقيد بالحدث الأكبر في قوله تعالى :﴿ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا ﴾ فيكون نظيره وهو الأمر بالوضوء مقيداً بالحدث الأصغر.
وأما ما ورد من أنه عليه السلام وخلفاءه كانوا يتوضؤون لكل صلاة، فإن ذلك لم يكن بطريق الوجوب، وإنما كان بطريق الاستحباب، والرسول ﷺ كان دائماً يحب الأفضل، فليس في فعله ما يدل على وجوب الوضوء لكل صلاة.
الحكم الرابع : ما هو حكم مسح الرأس وما مقداره؟
اتفق الفقهاء على أن مسح الرأس من فرائض الوضوء لقوله تعالى :﴿ وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ ﴾ ولكنهم اختلفوا في مقدار المسح على أقوال :
أ - قال المالكية والحنابلة : يجب مسح جميع الرأس أخذاً بالاحتياط.
ب - وقال الحنفية : يفترض مسح ربع الرأس أخذاً بفعل النبي ﷺ بمسحه على الناصية.
ح - وقال الشافعية : يكفي أن يمسح أقل شيء يطلق عليه اسم المسح ولو شعرات أخذاً باليقين.
دليل المالكية والحنابلة : استدل المالكية والحنابلة على وجوب مسح جميع الرأس بأن الباء كما تكون أصلية تكون زائدة للتأكيد، واعتبارها هنا زائدة أولى، والمعنى : امسحوا رؤوسكم، وقالوا : إن آية الوضوء تشبه آية التيمم، وقد أمر الله تعالى بمسح جميع الوجه في التيمم ﴿ فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ ﴾ ولمّا كان المسح في التيمم عاماً لجميع الوجه، فكذلك هنا يجب مسح جميع الرأس ولا يجزئ مسح البعض، وقد تأكد ذلك بفعل النبي ﷺ حيث ثبت أنه كان إذا توضأ مسح رأسه كله.
دليل الحنفية والشافعية : واستدل الحنفية والشافعية بأن الباء ( للتبعيض ) وليست زائدة، والمعنى : امسحوا بعض رؤوسكم، إلاّ أن الحنفية قدروه بربع الرأس لما روى عن المغيرة بن شعبة أن النبي ﷺ كان في سفر، فنزل لحاجته ثم جاء فتوضأ ومسح على ناصيته.
وأما الشافعية فقالوا : الباء للتبعيض، وأقل ما يطلق عليه اسم المسح داخل بيقين، وما عداه لا يقين فيه فلا يكون فرضاً، وإنما يحمل على الندب.
قال الشافعي :« احتمل قوله تعالى :﴿ وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ ﴾ بعض الرأس، ومسح جميعه، فدلت السنة على أن مسح بعضه يجزئ، وهو أن النبي ﷺ مسح بناصيته، وقال في موضع آخر : فإن قيل قد قال الله تعالى ﴿ فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ ﴾ في التيمم أيجزئ بعض الوجه فيه؟ قيل له مسحُ الوجه في التيمم بدل من غسله، فلا بدّ أن يأتي بالمسح على جميع موْضِع الغسل منه، ومسحُ الرأس أصلٌ فهذا فرق ما بينهما ».
أقول : الباء في اللغة العربية موضوعة للتبعيض، وكونها زائدة خلاف الأصل، ومتى أمكن استعمالها على حقيقة ما وضعت له وجب استعمالها على ذلك النحو، فالفرض يجزئ بمسح البعض، والسنّة مسح الكل، فما ذهب إليه الشافعية والحنفية أظهر، وما ذهب إليه المالكية والحنابلة أحوط والله أعلم.
الحكم الخامس : ما هي الجنابة وماذا يحرم بها؟
الجنابة معنى شرعي يستلزم اجتناب الصلاة، وقراءة القرآن، ومسّ المصحف، ودخول المسجد إلى أن يغتسل الجنب لقوله تعالى :﴿ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا ﴾، وقد بيّن النبي ﷺ لحصول الجنابة سببين :
الأول : نزول المني للحديث الشريف « الماء من الماء » أي يجب الاغتسال بالماء من أجل الماء أي المني.
والثاني : التقاء الختانين لقوله عليه السلام :« إذا التقى الختانان وجب الغسل ».
وكما يجب الغسل للجنابة يجب عند انقطاع الحيض والنفاس لقوله تعالى في الحيض :﴿ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ ﴾ [ البقرة : ٢٢٢ ] ولحديث فاطمة بنت أبي حبيش أنه ﷺ قال لها :« إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصليّ » والإجماع على أن النفاس كالحيض.
الحكم السادس : حكم المضمضة والاستنشاق في الغسل.
اختلف الفقهاء في ( المضمضة ) و ( الاستنشاق ) في الغسل، فقال المالكية والشافعية لا يجبان فيه، وقال الحنفية والحنابلة يجبان.
حجة المالكية والشافعية ما روي أن قوماً كانوا يتحدثون في مجلس رسول الله ﷺ في أمر الغسل، وكلٌ يبيّن ما يعمل فقال عليه السلام « أمّا أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت ».
وحجة الحنفية والحنابلة أن الأمر بالتطهر يعم جميع أجزاء البدن الظاهرة والباطنة، التي ميكن غسلها وهي ( الفم ) و ( الأنف ) فكانت المضمضة والاستنشاق من الواجبات لقوله تعالى :﴿ فاطهروا ﴾.
وأجابوا عما تمسك به ( المالكية والشافعية ) بأن الغرض من الحديث بيان أنه لا يجب الوضوء بعد الغسل كما فهم ذلك كثير من الصحابة، فبيّن عليه السلام أن الواجب الغسل فقط، وأن الطهارة الصغرى تدخل في الطهارة الكبرى.
الحكم السابع : حكم المريض والمسافر إذا وجد الماء.
ظاهر الآية الكريمة يدل على جواز التيمم للمريض مطلقاً، ولكنّه مقيّد بمن يضره الماء كما روي عن ابن عباس وجماعة من التابعين من أن المراد بالمريض المجدور ومن يضره الماء، ولذلك رأى الفقهاء أن المرض أنواع :
الأول : ما يؤدي استعمال الماء فيه إلى التلف في النفس أو العضو، بغلبة الظن أو بإخبار الطبيب المسلم الحاذق، وفي هذه الحالة يجوز التيمم باتفاق.
الثالث : ما لا يخاف معه تلفاً ولا بطأً ولا زيادة في العلة، وفي هذه الحالة لا يجوز التيمم عند الحنفية والشافعية، لأنه لم يخرج عن كونه قادراً عن استعمال الماء، فلا يرخص له في التيمم، وعند المالكية يجوز له التيمم لإطلاق النص ﴿ وَإِن كُنتُم مرضى ﴾.
الرابع : أن يكون المرض حاصلاً لبعض الأعضاء، فإن كان الأكثر صحيحاً وجب غسل الصحيح ومسح الجريح ولا يجوز التيمم، وإن كان الأكثر جريحاً يجوز التيمم عند الحنفية، ومذهب الشافعية أنه يغسل الصحيح ثم يتيمم مطلقاً، وعند المالكية يجوز له التيمم مطلقاً.
ومن ذلك يتبين أن المريض يرخص له في التيمم ولو كان الماء موجوداً بخلاف المسافر فإن الرخصة له مقيّدة بعدم الماء.
الحكم الثامن : هل يجب في التيمم مسح اليدين إلى المرفقين؟
تقدم أن المراد بالصعيد هو التراب الطاهر على القول المختار، والتيمم المطلوب شرعاً هو استعمال الصعيد في عضوين مخصوصين بقصد التطهير، والعضوان هما ( الوجه ) و ( اليدان ) إلى المرفقين عند الحنفية، وهو أرجح القولين عند الشافعية، وإلى الرسغين عند المالكية والحنابلة.
حجة الحنفية والشافعية أن لا أيدي في قوله تعالى :﴿ فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ ﴾ تشمل العضو كله، إلاّ أن التيمم لمّا كان بدلاً عن الوضوء، والبدل لا يخالف الأصل إلا بدليل، وقد وجب الغسل إلى المرافق في الوضوء فيجب أن يكون المسح إلى المرافق في التيمم. واستدلوا بحديث جابر بن عبد الله « التيمم ضربتان ضربة للوجه، وضربة للذراعين إلى المرفقين ».
حجة المالكية والحنابلة : أن اليد تطلق على الكف بدليل قوله تعالى :﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا ﴾ [ المائدة : ٣٨ ] وقطع اليد إنما يكون إلى الرسغ باتفاق، فيجزئ في التيمم ذلك.
قال في « البحر المحيط » : وروي عن أبي حنيفة والشافعي أنه يمسح إلى المرفقين فرضاً واجباً، وذهب طائفة إلى أنه يبلغ به إلى الرسغين وهو قول أحمد والطبري والشافعي في القديم وروي عن مالك. وروي عن الشعبي أنه يمسح كفيه فقط، وبه قال بعض فقهاء الحديث، وهو الذي ينبغي أن يذهب إليه لصحته في الحديث، ففي « مسلم » من حديث عمار
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : إباحة الأكل من ذبائح أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ).
ثانياً : إباحة نكح المحصنات المؤمنات والمحصنات الكتابيات.
ثالثاً : الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر شرط لصحة الصلاة.
رابعاً : إذا فقد الماء أو تعذّر استعماله يباح حينئذٍ التيمم.
خامساً : الإسلام دين اليسر وليس في الشريعة حرج أو ضيق.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
من أهداف الشريعة الغراء العناية بطهارة الإنسان، وتخليصه من الأقذار الحسية والمعنوية في الباطن والظاهر، وإعداده الإعداد الروحي الذي يؤهله للوقوف في حضرة القدس، ويسمو به آفاق مشرقة من الجلال والبهاء والكمال.
وقد شرع الإسلام الوضوء والغسل للمؤمن ليكون مظهراً دالاً على طهارة الظاهر، كما دعا إلى اجتناب المعاصي والآثام ليكون عنواناً على طهارة الباطن، فالوضوء والغسل إنما يقصد منهما النظافة وهي ( طهارة حسية ) تعوّد الإنسان على حياة الطهر في النفس، والخُلُق، والدين، وتجعله يعتاد طريق النظافة في شتى شؤون حياته، وفي بدنه وملبسه ومطعمه، وقد حضّ الإسلام على ذلك لأنه دين الطهارة والنظافة ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ [ المدثر : ٤ ] وطهارةُ الظاهر جزء من طهارة الباطن.
ولا عجب أن تُعنى الشريعة الغراء بطهارة الإنسان ( فالطهور شطر الإيمان ) كما قال ﷺ، وقد بين جل ثناؤه الحكمة من تشريع هذه الأحكام في ختام الآية الكريمة بقوله ﴿ مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ فالطهارة أساس في حياة المسلم، وإذا كان الله تعالى لا يقبل الصلاة إلا بطهارة الظاهر، فكيف يقبل من تلطخ بالقاذورات والنجاسات المعنوية فيدخله دار الإنس في جواره الكريم يوم القيامة؟!
إن الإسلام دين الطهارة وطهارة الظاهر فرع، وطهارة الباطن أصل، وطهارة الظاهر شرط لصحة الصلاة، كما أن طهارة الباطن شرط لدخول الجنة ﴿ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [ الشعراء : ٨٨-٨٩ ] وهما جميعاً سبب لمحبة الله ﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين ﴾ [ البقرة : ٢٢٢ ].
التحليل اللفظي
﴿ يُحَارِبُونَ ﴾ : المحاربة من الحرب ضد السلم، والأصل في معنى كلمة الحرب التعدي وسلب المال، والمراد بها في الآية محاربة أولياء الله وأولياء رسوله.
﴿ فَسَاداً ﴾ : الفساد ضد الصلاح، وكل ما يخرج عن وضعه الذي يكون به صالحاً نافعاً يقال إنه فسد، والمراد بالإفساد في الأرض إخافة السبيل، والقتل والجراح وسلب الأموال.
﴿ يقتلوا ﴾ : التقتيل : المبالغة في القتل بحيث يكون حتماً لا هوادة فيه ولا عفو من ولي الدم.
﴿ يصلبوا ﴾ : التصليب : المبالغة في الصلب، أو تكرار الصلب كما قال الشافعي، ومعنى الصلب أن يُربط على خشبة منتصب القامة، ممدود اليدين، وربما طعنوه ليعجلوا قتله.
﴿ مِّنْ خِلافٍ ﴾ : معنى تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف أن تقطع اليد اليمنى وتقطع الرجل اليسرى بالعكس.
﴿ يُنفَوْاْ ﴾ : النفي أصله الإهلاك، ومنه النّفاية لرديء المتاع، والنفي من الأرض هو النفي من بلد إلى بلد، لا يزال يطلب وهو هارب فزعاً، وقيل : المراد بالنفي الحبسُ.
﴿ خِزْيٌ ﴾ : الخزي الذي والفضيحة يقال أخزاه الله أي فضحه وأذلّه.
﴿ الوسيلة ﴾ : كل ما يتوسل به إلى الله تعالى من فعل الطاعات وترك المعاصي.
﴿ نَكَالاً ﴾ : أي عقوبة قال في « المصباح » : نكل به ينكل من باب قتل نكلة قبيحة أصابه بنازلة، ونكّل به بالتشديد مبالغة، والاسم النَّكال.
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : لا جزاء للمفسرين في الأرض إلاّ القتل، والصلب، وقطع اليد والرجل من خلاف، أو النفي من الأرض عقوبة لهم وخزياً، ذلك العذاب المذكور هو المعجّل لهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم هو عذاب النار، إلاّ الذين تابوا من قطاع الطريق من قبل أن تتمكنوا منهم فاعلموا أنه غفور رحيم يغفر الذنب ويرحم العبد.
ثم أمر الله تعالى المؤمنين بتقواه سبحانه، والتقرب إليه بطاعته والعمل بما يرضيه، والجهاد في سبيله لإعلاء دينه ليفوزا بالدرجات الرفيعة، ويكونوا من السعداء المفلحين.
ثم أخبر تعالى أن الذين كفروا بآياته ورسله لو أنّ لأحدهم ملك الدنيا بأجمعه وأضعافه معه، ثم أراد أن يقدمه فداءً وعوضاً ليخلّص نفسه من عذاب الله، ما تقبلّه الله منه، لأن الله تعالى حكم بالخلود في عذاب جهنم على كل كافر، وأن هؤلاء يتمنون أن يخرجوا من النار، ولكن لا سبيل لهم إلى النجاة بوجه من الوجوه، فهم في عذاب مستمر دائم. ثم ذكر تعالى عقاب كل من السارق والسارقة، وأمر بقطع أيمانهما عند توفر الشروط، وبيّن أن تلك العقوبة جزاء ما كسباه من السرقة، عقوبة من الله لهما لإقدامهما على هذه الجريمة المنكرة، وليكون هذا العقاب الصارم عبرة للناس حتى يرتدع أهل البغي والفساد، ويأمن الناس على أموالهم وأرواحهم، وهذا التشريع هو تشريع العزيز في سلطانه الحكيم في أمره ونهيه، الذي لا تخفى عليه مصالح العباد، ومن ضمن حكمته أن يعفو عمن تاب وأناب، وأصلح عمله، وسلك طريق الأخيار
سبب النزول
روي أن ناساً من عرينة قدموا المدينة فاجتووها، فبعثهم رسول الله ﷺ إلى إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها، ففعلوا فصحوا، وارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، فأرسل رسول الله ﷺ في آثارهم، فجيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمّر أعينهم، وألقاهم بالحرة حتى ماتوا فنزلت هذه الآية ﴿ إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ... ﴾ الآية.
وجه الارتباط بالآيات السابقة
بعد أن ذكر تبارك وتعالى قصة ( قابيل وهابيل ) ابني آدم عليه السلام، وأبان فظاعة جُرم القتل، وشدّد في تبعة القاتل فذكر أن من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً، ذكر تعالى هنا العقاب الذي يؤخذ به المفسدون في الأرض، حتى لا يتجرأ غيرهم على مثل فعلهم، وأوضح عقوبة السارق أيضاً لأنها نوع من إخلال الأمن في الأرض، وضربٌ من ضروب الإفساد، وقد شرع الله جل وعلا الحدود لتكون زواجر للناس عن ارتكاب الجرائم، فناسب ذكر ( حد السرقة ) و ( حد قطع الطريق ) بعد ذكر جريمة القتل.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : ذكرُ المحاربة لله عزّ وجل ﴿ يُحَارِبُونَ الله ﴾ مجاز، إذ الله سبحانه وتعالى لا يُحارب ولا يُغالب، لما له من صفات الكمال، وتنزهه عن الأضداد والأنداد، فالكلام على ( حذف مضاف ) أي يحاربون أولياء الله، فعبّر بنفسه العزيزة عن أوليائه إكباراً لإذايتهم، كما عبّر بنفسه عن الفقراء والضعفاء في قوله :﴿ مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً ﴾ [ البقرة : ٢٤٥ ] حثاً على الاستعطاف عليهم، ومثله ما ورد في صحيح السنة « ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني ».
اللطيفة الثانية : النفي من الأرض كما يكون بالطرد والإبعاد، يكون بالحبس، فقد روي عن مالك أنه قال : النفي السجن، ينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها، فكأنه إذا سجن نفي من الأرض، لأنه لا يرى أحبابه، ولا ينتفع بشيء من لذائذ الدنيا وطيباتها.
قال الإمام الفخر : ولما حبسوا ( صالح بن عبد القدوس ) في حبس ضيّق على تهمة الزندقة وطال مكثه أنشد :
خرجنا عن الدنيا وعن وصل أهلها | فلسنا من الأحيا ولسنا من الموتى |
إذا جاءنا السجّان يوماً لحاجة | عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا |
اللطيفة الخامسة : قال الأصمعي : قرأت هذه الآية وإلى جنبي أعرابي فقلت :( والله غفور رحيم ) سهواً، فقال الأعرابي : كلامُ مَنْ هذا؟ قلت : كلام الله، قال : أعد فاعدت : والله غفور رحيم، فقال : ليس هذا كلام الله فتنبهّتُ فقلت ﴿ والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ فقال : أصبتَ، هذا كلام الله، فقلت : أتقرأ القرآن؟ قال : لا، قلت : فمن أين علمتَ أني أخطأتُ؟ فقال : يا هذا، عزّ، فحكم، فقطع، ولو غفر، ورحم لما قطع « أقول : هذا يدل على ذكاء الأعرابي وشدة الترابط والانسجام بين صدر الآية وآخرها.
اللطيفة السادسة : قال بعض الملحدين في الاعتراض على الشريعة الغراء بقطع اليد بسرقة القليل، ونظم ذلك شعراً :
يدٌ بخمس مئينَ عَسْجَدٍ ودُيتْ | ما بالُها قُطِعتُ في ربع دينار |
تحكّمٌ ما لنا إلا السكوتُ له | وأنْ نَعوذَ بمولانا من النّار |
عزّ الأمانة أغلاها وأرخصها | ذلّ الخيانةِ فافهم حكمة الباري |
الحكم الأول : من هو المحارب الذي تجري عليه أحكام قطاع الطريق؟
دلت الآية الكريمة على حكم المحاربة والإفساد في الأرض، وقد حكم الله تعالى على المحاربين بالقتل، أو الصلب، أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض وقد اختلف الفقهاء فيمن يستحق اسم المحاربة.
ا - فقال مالك : المحارب عندنا من حمل الناس السلاح وأخافهم في مصرٍ أو برية.
ب - وقال أبو حنيفة : المحارب الذي تجري عليه أحكام قطّاع الطريق من حمل السلاح في صحراء أو برية، وأمّا في المصر فلا يكون قاطعاً لأن المجني عليه يلحقه الغوث.
ج - وقال الشافعي : من كابر في المصر باللصوصية كان محارباً وسواء في ذلك المنازل، والطرق، وديار أهل البادية، والقرى حكمها واحد.
قال ابن المنذر : الكتاب على العموم، وليس لأحد أن يخرج من جملة الآية قوماً بغير حجة، لأن كلاً يقع عليه اسم المحاربة.
أقول : ولعلّ هذا هو الأرجح لعموم الآية الكريمة، وربما كانت هناك عصابة في البلد تخيف الناس في أموالهم وأرواحهم أكثر من قطّاع الطريق في الصحراء.
الحكم الثاني : هل الأحكام الواردة في الآية على التخيير؟
قال بعض العلماء الإمام مخيّر في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها الله تعالى من القتل، أو الصلب، أو القطع، أو النفي لظاهر الآية الكريمة ﴿ أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا ﴾ وهذا قول مجاهد، والضحاك والنخعي، وهو مذهب المالكية.
قال ابن عباس : ما كان في القرآن بلفظ ( أو ) فصاحبه بالخيار.
وأبو حنيفة يحمل الآية على التخيير، لكن لا في مطلق المحارب، بل في محارب خاص وهو الذي قتل النفس وأخذ المال فالإمام مخير في أمور أربعة :
أ - إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم.
ب - وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبهم.
ج - وإن شاء صلبهم فقط دون قطع الأيدي والأرجل.
د -وإن شاء قتلهم فقط حسب ما تقتضيه المصلحة.
ولا بد عنده من انضمام القتل أو الصلب إلى قطع الأيدي، لأن الجناية كانت بالقتل وأخذ المال، والقتلُ وحده عقوبته القتل، وأخذُ المال وحده عقوبته القطع، ففيهما مع الإخافة والإزعاج لا يعقل أن يكون القطع وحده، هذا مذهب الإمام أبي حنيفة.
الحكم الثالث : كيف تكون عقوبة الصلب؟
جمهور الفقهاء على أن الإمام مخيّر على ظاهر الآية، وأنه يجوز له صلب المجرم المحارب لقوله تعالى :﴿ أَوْ يصلبوا ﴾ وكيفية الصلب أن يصلب حيّاً على الطريق العام يوماً واحداً، أو ثلاثة أيام لينزجر الأشقياء، ثم يطعن برمح حتى يموت وهو مذهب المالكية والحنفية وقال قوم : لا ينبغي أن يُصلب قبل القتل ولكن بعده لئلا يحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب، فيقتل أولاً ثم يُصلّى عليه ثم يصلب، وهو مذهب الشافعية.
قال الإمام الشافعي رحمه الله : أكره أن يُقتل مصلوباً لنهي رسول الله ﷺ عن المًثْلة.
وقال الألوسي :« والصلبُ قبل القتل بأن يُصلبوا أحياء وتبعج بطونهم برمح حتى يموتوا ».
الحكم الرابع : متى تقطع يد السارق، وما هي الشروط في حد السرقة؟
السرقة في اللغة أخذ المال في خفاء وحيلة، وأما في الشرع فقد عرفها الفقهاء بأنها ( أخذ العاقل البالغ مقداراً مخصوصاً من المال خفية من حرزٍ معلوم بدون حق ولا شبهة ).
والسارق إنما سمي سارقاً لأنه يأخذ الشيء في خفاء، واسترق السمع : إذا تسمّع مستخفياً، فقطعُ اليد لا يكون في مطلق السرقة، بل في سرقة شخص معين، مقداراً معيناً، من حرز مثله، بهذا ورد الشرع الحنيف.
أما العقل والبلوغ فلأن السرقة جناية، وهي لا تتحقق بدونهما، والمجنون والصغير غير مكلفين، فما يصدر منهما لا يدخل في دائرة التكليف الذي يعاقب عليه الفاعل، وإن كانت السرقة من الصغير لا قطع فيها إلا أنها تدخل في باب التعزير.
وأما المقدار الذي تقطع فيه اليد فقد اختلف الفقهاء فيه، فقال أبو حنيفة والثوري : لا قطع إلا في عشرة دراهم فصاعداً أو قيمتها من غيرها.
حجة الحنفية : أ - ما روي عن النبي ﷺ أنه قال :« لا قطع فيما دون عشرة دراهم ».
ب - ما نقل عن ابن عباس، وابن مسعود، وابن عمر، وعطاء أنهم قالوا : لا قطع إلا في عشرة دراهم.
حجة المالكية والشافعية : أ - ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :« كان النبي ﷺ يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً »
ب - ما روي عن ابن عمر أن النبي ﷺ قطع في مجنّ ثمنة ثلاثة دراهم.
ج - ما روي عن النبي ﷺ أنه قال :« لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً » وهذا القول منقول عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
قال فضيلة الشيخ السايس :« وإذا لوحظ أن الحدود تدرأ بالشبهات، وأن الاحتياط أمر لا يجوز الإغضاء عنه، وأن الحظر مقدّم على الإباحة، أمكن ترجيح ( مذهب الحنفية ) لأن المجنّ المسروق في عهده عليه السلام الذي قطعت فيه يد السارق، قدّره بعضهم بثلاثة دراهم، وبعضهم بأربعة، وبعضهم بخمسة، وبعضهم بربع دينار، وبعضهم بعشرة دراهم، والأخذ بالأكثر أرجح، لأن الأقل فيه شبهة عدم الجناية، والحدود تدرأ بالشبهات ولأن التقدير بالأقل يبيح الحد في أقل من العشرة، والتقدير بالعشرة يحظر الحد فيما هو أقل منها، والحاظر مقدم على المبيح.
وأما اعتبار الحرز فلقوله عليه السلام :» لا قطع في ثَمَر معلق ولا في حريسة جبل، فإذا أواه المُرَاحُ أو الجرينُ فالقطع فيما بلغ ثمن المجن «.
والحرز هو ما نصب عادةً لحفظ أموال الناس كالدور والخيم والفسطاط، التي يسكنها الناس ويحفظون أمتعتهم بها، وقد يكون الحرز بالحافظ الذي يجلس ليحفظ متاعه، فإذا كان الحافظ قطع لما روي عن ( صفوان بن أمية ) أنه قال : كنت نائماً في المسجد على خميصة ( عباءة أو ما أشبهها ) لي ثمن ثلاثين درهماً، فجاء رجلٌ فاختلسها مني، فأخذت الرجل فأتيت به النبي ﷺ فأمر به ليقطع، فقلت : اتقطعه من أجل ثلاثين درهماً؟ أنا أبيعه وأُنْسئه ثمنها، قال : فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به »؟
وأما اعتبار عدم الشبهة فلما روي عن النبي ﷺ أنه قال :« أدرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم » وقد اشتهر هذا فأصبح كالمعلوم بالضرورة، فلا يقطع العبد إذا سرق من مال سيده، ولا الأب من مال ابنه، ولا الشريك من شريكه، ولا الدائن من مدينة لوجود الشبهة.
الحكم الخامس : من أين تقطع يد السارق؟
دل قوله تعالى :﴿ فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا ﴾ على وجوب قطع اليد في السرقة، وقد أجمع الفقهاء على أن اليد التي تقطع هي ( اليمنى ) لقراءة ابن مسعود ( فاقطعوا أيمانهما ).
حجة الجمهور ما روي « أن رسول الله ﷺ قطع يد السارق من الرسغ »، وكذلك ثبت عن ( علي ) و ( عمر بن الخطاب ) أنهما كانا يقطعان يد السارق من مفصل الرسغ، فكان هو المعول عليه.
وإذا عاد إلى السرقة ثانياً قطعت رجله اليسرى باتفاق الفقهاء لما رواه ( الدارقطني ) عنه عليه السلام أنه قال :« إذا سرق السارق فاقطعوا يده، ثم إذا عاد فاقطعوا رجله اليسرى » ولفعل ( علي ) و ( عمر ) من قطع يد سارق ثم قطع رجله، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليهما أحد فكان ذلك إجماعاً.
وأما إذا عاد إلى السرقة ثالثاً فلا قطع عند الحنفية والحنابلة، ولكنّه يضمن المسروق ويسجن حتى يتوب، وقال المالكية والشافعية : إذا سرق تقطع يده اليسرى، وإن عاد إلى السرقة رابعاً تقطع رجله اليمنى.
ويروى أن أبا حنيفة قال :« إني استحيي من الله أن أدعه بلا يدٍ يأكل بها، وبلا رجل يمشي عليها » وهذا القول مروي عن ( علي ) و ( عمر ) وغيرهما من الصحابة.
خاتمة البحث
حكمة التشريع
صان الإسلام بتشريعه الخالد كرامة الإنسان، وجعل الاعتداء على النفس أو المال أو العرض جريمة خطيرة، تستوجب أشد أنواع العقوبات، فالبغي في الأرض بالقتل والسلب، والاعتداء على الآمنين بسرقة الأموال، كل هذه جرائم ينبغي معالجتها بشدّة وصرامة، حتى لا يعيث المجرمون في الأرض فساداً، ولا يكون هناك ما يُخل بأمن الأفراد والمجتمعات.
وقد وضع الإسلام للمحارب الباغي أنواعاً من العقوبات ( القتل، الصلب، تقطيع الأيدي والأرجل، النفي من الأرض ) كما وضع للسارق عقوبة ( قطع اليد ) وهذه العقوبات تعتبر بحقٍ رادعة زاجرة، تقتلع الشر من جذوره، وتقضي على الجريمة في مهدها وتجعل الناس في أمنٍ، وطمأنينة، واستقرار.
وأعداء الإنسانية يستعظمون قتل القاتل، وقطع يد السارق، ويزعمون أن هؤلاء المجرمين ينبغي أن يَحْظَوا بعطف المجتمع، لأنهم مرضى بمرضٍ نفساني، وأن هذه العقوبات الصارمة لا تليق بمجتمع متحضر يسعى لحياة سعيدة كريمة إنهم يرحمون المجرم من المجتمع، ولا يرحمون المجتمع من المجرم الأثيم الذي سلب الناس أمنهم واستقرارهم، وأقلق مضاجعهم، وجعلهم مهدّدين بين كل لحظة ولحظة في الأنفس والأموال والأرواح.
وقد كان من أثر هذه النظريات التي لا تستند على عقل ولا منطق سليم، أن أصبح في كثير من البلاد ( عصابات ) للقتل وسفك الدماء وسلب الأموال، وزادت الجرائم، واختل الأمن، وفسد المجتمع، وأصبحت السجون ممتلئة بالمجرمين وقطّاع الطريق.
قتلُ امرىءٍ في غابةٍ... جريمةٌ لا تغتفر
وقتلُ شعبٍ آمنٍ... مسألة فيها نظر
نعم إن الإسلام شرع عقوبة قطع يد السارق، وهي عقوبة صارمة ولكنه أمّن الناس على أموالهم وأرواحهم، وهذه اليد الخائنة التي قطعت إنما هي عضو أشل تأصل فيها الداء والمرض، وليس من المصلحة أن نتركها حتى يسري المرض إلى جميع الجسد، ولكنّ الرحمة أن نبترها ليسلم سائر البدن، ويدٌ واحدة تقطع كفيلة بردع المجرمين، وكف عدوانهم وتأمين الأمن والاستقرار للمجتمع، فأين تشريع هؤلاء من تشريع الحكيم العليم، الذي صان به النفوس والأموال والأرواح!!
التحليل اللفظي
﴿ عَقَّدتُّمُ ﴾ : عقّدتم من العقد وهو على ضربين : حسّي كعقد الحبل، ومعنوي كعقد البيع، فاليمين المنعقدة هي اليمن التي انعقد عليها العزم بالفعل أو الترك.
ومعنى عقدّتم الأيمان أي وكّدتموها ووثقّتموها بذكر اسم الله تعالى.
﴿ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾ : التحرير الإخراج من الرق، ويستعمل في الأسر، والمشقات، وتعب الدنيا ونحوها ومنه قول مريم ﴿ نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ﴾ [ آل عمران : ٣٥ ] وقال الفرزدق :
أبني غُدانة إنني حرّرتكم | فوهبتكم لعطيّة بن جِعَال |
﴿ رِجْسٌ ﴾ : أي قذر تعافه العقول قال الزجاج : الرجس اسم لكل ما استقذر من عمل، يقال رَجُسَ الرجل يرجُس إذا عمل عملاً قبيحاً. ويقال للنتن والعذِرة والأقذار رجسٌ لأنها قذارة ونجس.
﴿ فاجتنبوه ﴾ : يعني أبعدوه واجعلوه في ناحية، فالاجتناب في اللغة : الابتعاد وقد أمر تعالى باجتناب هذه الأمور المحرمة، واقترنت بصيغة الأمر فكان ذلك على جهة التحريم القطعي.
﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ : أي راجين الفوز والفلاح بهذا الاجتناب.
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : لا يؤاخذكم الله - أيها المؤمنون - بما جرى على ألسنتكم من لغو اليمين، الذي لم تتقصدوا فيه الكذب، أو لم تتعمد قلوبكم العزم على الحلف به، ولكن يؤاخذكم بما وثّقتموه من الأيمان فكفارة هذا النوع من الأيمان أن تطعموا عشرة مساكين من الطعام الوسط الذي تُطعمون منه أهليكم، أو تكسوهم بكسوة وسط، أو تعتقوا عبداً مملوكاً أو أمة لوجه الله، فإذا لم يقدر الشخص على الإطعام أو الكسوة أو الإعتاق، فليصم ثلاثة أيام متتابعة، ذلك كفارة أيمانكم أيها المؤمنون فاحفظوا أيمانكم عن الابتذال وأقلوا من الحلف لغير الضرورة.
ثم أخبر تعالى في الآية الثانية بأن الخمر، والقمار، والذبح للأصنام، والاستقسام بالأزلام ( الأقداح ) كل ذلك رجسٌ مستقذر لا يليق بالمؤمن فعله وهو من تزيين الشيطان للإنسان، فيجب اجتنابه والبعد عنه، لأن غرض الشيطان أن يوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين، ويمنعهم عن ذكر الله وأداء الصلاة، بسبب هذه المنكرات والفواحش التي يزينها للناس، فانتهوا أيها المؤمنون عن ذلك. ثم ختم تعالى الآيات بالأمر بطاعته وطاعة رسوله، والحذر من مخالفة أوامر الله تعالى، فإذا لم ينته الإنسان عن مقارفة المعاصي فقد استحق الوعيد والعذاب الشديد يوم القيامة.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : التعبير بقوله تعالى :﴿ فاجتنبو ﴾ أبلغ في النهي والتحريم من لفظ ( حُرّم ) لأن معناه البعد عنه بالكلية فهو مثل قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى ﴾ [ الإسراء : ٣٢ ] لأن القرب منه إذا كان حراماً فيكون الفعل محرماً من باب أولى فقوله ﴿ فاجتنبو ﴾ معناه كونوا في جانبٍ آخر منه، وكلّما كانت الحرمة شديدة جاء التعبير بلفظ الاجتناب كما قال تعالى :
اللطيفة الثانية : قوله تعالى :﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾ ؟ استفهام ومعناه الأمر أي انتهوا، فقد خرج عن صيغته الأصلية إلى معنى الأمر أي انتهوا عن ذلك.
قال الفرّاء : ردّد عليّ أعرابي : هل أنتَ ساكتٌ؟ وهو يريد : اسكت، اسكت. أقول : ومما يدل على ذلك قول عمر رضي الله عنه لما سمع الآية : انتهينا ربنا، انتهينا ربنا.
اللطيفة الثانية : لم يُذكر في القرآن الكريم تعليلُ الأحكام إلاّ بالإيجاز، أمّا هنا فقد ذكر بالإطناب والتفصيل، وذكرت فيه الأسباب لتحريم الخمر والميسر بالإسهاب، منها : إلقاء العداوة والبغضاء بين المؤمنين، والصدّ عن ذكر الله، وشغل المؤمنين عن الصلاة، كما وصفت الخمر والميسر بأنها رجس، وأنها من عمل الشيطان إلخ وكل ذلك ليشير إلى الضرر العظيم، والخطر الجسيم، من جراء اقتراف هاتين الرذيلتين ( جريمة القمار ) و ( جريمة تناول المسكرات ) استمع إلى قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾ ؟
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى :﴿ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين ﴾ ظاهر اللفظ الإخبار، وحقيقته الوعيد والتهديد، فكأنه تعالى يقول : ليس على رسولي إلا أن يبلّغكم وحسابكم عليّ يوم الدين ﴿ إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ [ الغاشية : ٢٥-٢٦ ].
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هي أنواع اليمين؟
قسم العلماء اليمين إلى ثلاثة أقسام :( لغو، ومنعقدة، وغموس ).
فأما اللغو : فهي اليمين التي لا يتعلق بها حكم، وقد ورد عن عائشة أنها قالت : اللغو هو كلام الرجل : لا والله، وبلى والله، روي ذلك عنها مرفوعاً.
وروي عن ابن عباس في لغو اليمين أن تحلف على الأمر أنه كذلك وليس كذلك، أي أن يحلف على ظنه واعتقاده فيتبيّن الأمر خلافه، وقد تقدم هذا في سورة البقرة.
وأمّا المنعقدة : فهي أن يحلف على أمرٍ في المستقبل بأن يفعله أو لا يفعله ثم يحنث في يمينه، فهذه يجب فيها الكفارة كما فصّلها القرآن الكريم.
وأما الغموس : فهي اليمين التي يتعمد فيها الإنسان الكذب كقوله : والله ما فعلت كذا وقد فعله، أو والله لقد فعلتُ كذا ولم يفعله، وسمّي غموساً لأنه يغمس صاحبه في نار جهنم، وذنبه أعظم من أن يكفّر؛ لأنه استهان بعظمة الله جلّ وعلا حين حلف كاذباً. روى الدارقطني في « سننه » عن علقمة عن عبد الله أنه قال : الأيمان أربعة : يمينان يُكفّران، ويمينان لا يُكفّران، فاليمينان اللذان يُكفّران فالرجلُ الذي يحلف والله لا أفعل كذا وكذا فيفعل، والرجل الذي يقول : والله لأفعلنّ كذا وكذا فلا يفعل، واليمينان اللذان لا يُكفّران فالرجل يحلف والله ما فعلتُ كذا وكذا وقد فعل، والرجل يحلف لقد فعلتُ كذا وكذا ولم يفعله.
وقال الشافعي : هي يمين منعقدة لأنها مكتسبة بالقلب، معقودة بخبر، مقرونة باسم الله تعالى وفيها الكفارة. والصحيح الأول، قال ابن المنذر : وهذا قول مالك ومن تبعه من أهل المدينة، وبه قال أحمد : وأصحاب الحديث، وأصحاب الرأي من أهل الكوفة.
أخرج البخاري في « صحيحه » « أن أعرابياً سأل رسول الله ﷺ ما الكبائر؟ قال : الإشراك بالله، قال : ثم ماذا؟ قال : عقوق الوالدين، قال : ثم ماذا؟ قال : اليمين الغموس، قلت : وما اليمين الغموس؟ قال : التي يقتطع بها مال امرئ مسلمٍ هو فيها كاذب ».
الحكم الثاني : هل تصح الكفارة قبل الحنث في اليمين؟
ذهب الشافعية إلى جواز إخراج الكفارة قبل الحنث إذا كانت مالاً، وأمّا إذا كانت صوماً فلا يجوز حتى يتحقق السبب بالحنث، واستدلوا بظاهر هذه الآية ﴿ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ... ﴾ حيث ذكر الكفارة مرتبة على اليمين من غير ذكر الحنث، واستدلوا كذلك بقوله تعالى :﴿ ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ﴾ وقاسوها أيضاً على إخراج الزكاة قبل الحول.
وأما الصوم فلا ينتقل إليه إلا بعد العجز عن الخصال الثلاثة قبله، ولا يتحقق العجز إلاّ بعد الحنث ووجوب التكفير، واستدلوا بحديث « لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفّرتُ عن يميني وأتيتُ الذي هو خير » وهذا القول هو مشهور مذهب مالك رحمه الله.
وذهب الحنفية إلى عدم جواز إخراج الكفارة قبل الحنث، وقالوا : إن في الآية إضمار الحنث فكأنه تعالى يقول : فكفارته إذا حنثتم، وهو على حد قوله تعالى :﴿ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [ البقرة : ١٨٤ ] أي إذا أفطر في رمضان، واستدلوا بما روي عنه ﷺ أنه قال :« من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ».
واستدلوا أيضاً بالمعقول فقالوا : إن الكفارة إنما تجب لرفع الإثم، وإذا لم يحنث لم يكن هناك إثم حتى يرفع فلا معنى للكفارة.
واستدلوا أيضاً بأن كل عبادة فعلت قبل وجوبها لم تصحّ اعتباراً بالصلوات وسائر العبادات، وهذا القول في رواية أشهب عن مالك رحمه الله.
الحكم الثالث : هل يشترط التتابع في صيام كفارة اليمين؟
نصت الآية الكريمة على جواز الصيام عند العجز عن الإطعام، وقد اختلف الفقهاء في الصيام هل يشترط فيه التتابع أم يجزئه التفريق؟
أ - فذهب الحنفية إلى اشتراط التتابع لقراءة ابن مسعود ( فصيامُ ثلاثة أيام متتابعات ) وهو مروي عن عباس ومجاهد.
ب - وذهب الشافعية إلى عدم اشتراط التتابع، وأنه يجزئ التفريق فيها وهو قول مالك.
وقال مالك والشافعي في قوله الآخر : يجزئه التفريقُ، لأن التتابع صفة لا تجب إلاّ بنص، أو قياس منصوص وقد عُدما ».
الحكم الرابع : هل الخمر تتناول جميع المسكرات.
الخمر اسم لما خامر العقل وغطّاه من الأشربة هذا رأي جمهور الفقهاء، وقال الحنفية : الخمر خاصٌ بما كان من ماء العنب النِّيء إذا غلا واشتد وقذف بالزبد، فالخمر عندهم اسم لهذا النوع فقط، وما وجد فيه مخامرة للعقل من غير هذا النوع لا يسمى خمراً وإن كان حراماً. والجمهور على أن الخمر ليست خاصة بعصير العنب، فغير ماء العنب حرام بالنص، وكل مسكر خمر لما روي عن أنس أنه قال :« حرمت الخمر وهي من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والذرة » والجميع متفقون على حرمة كل مسكر والخلاف يكاد يكون شكلياً وقد تقدم في سورة البقرة.
الحكم الخامس : هل الخمر نجسة أم أنها حرام فقط؟
فهم العلماء من تحريم الخمر، واستخباث الشرع لها، وإطلاق الرجس عليها، والأمر باجتنابها، الحكم بنجاستها، وخالفهم في ذلك ( المزني ) صاحب الشافعي، وبعض المتأخرين من فقهاء الحنفية فرأوا أنها طاهرة، وأن المحرّم إنما هو شربها، وقالوا لا يلزم من كون الشيء محرماً أن يكون نجساً، فكم من محرم في الشرع ليس بنجس!
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، لأن قوله تعالى :﴿ رِجْسٌ ﴾ يدل على نجاستها، فإن الرجس في اللغة القذر والنجاسة، وقد دلّ على نجاستها أيضاً ما روي أن بعض الصحابة قالوا يا رسول الله : إنّا نمر في سفرنا على أهل كتاب يطبخون في قدورهم الخنزير، ويشربون في آنيتهم الخمر فماذا نصنع؟ فأمرهم عليه السلام بعدم الأكل أو الشرب منها، فإن لم يجدوا غيرها غسلوها ثم استعملوها.
فالأمر بالغسل يدل على عدم الطهارت إذ لو كانت طاهرة غير متنجسة لما أمرهم بغسلها.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
١ - اليمين اللغو لا كفارة فيها وإنما تجب في اليمين المنعقدة.
٢ - لا تصح الكفارة بالصيام إلا عند العجز عن الإطعام أو الكسوة أو العتق.
٣ - الخمر والميسر من أخطر الجرائم الإجتماعية ولهذا قرنا بالأنصاب والأزلام.
٤ - العداوة والبغضاء تتولدان من جريمتي ( الخمر ) و ( القمار ).
٥- القمار مرض اجتماعي خطير يهدّم البيوت ويخرّب الأسر ويقضي على الاقتصاد.
٦ - وجوب الابتعاد عن كل ما حرّمه الله تعالى وخاصة الكبائر كالخمر والميسر.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
شدّد المولى جل وعلا في الآية الكريمة النكير على أمر ( الخمر ) و ( الميسر ) تشديداً بالغاً يضرف النفوس عنهما إلى غير عودة، وقرنهما بالأنصاب والأزلام - وهما من أشنع المنكرات، وأقبح الفواحش في نظر الإسلام - ليشير إلى ما في الخمر والميسر من ضررٍ بالغ، وخطورة عظيمة، تهدّد الأمة والمجتمع، وتقوّض دعائم الحياة.
وأما الميسر ( القمار ) فإنه يفقد الإنسان الإحساس والشعور حال انشغاله باللعب، حتى لا يبالي بالمال يخرج من يده إلى غير رجعة، طمعاً في أن ينال أكثر منه، فإذا رجع خاسراً أكل قلبَه الحسدُ، وامتلأت نفسه حقداً وغيظاً على من سلبه المال، وربما أداه ذلك إلى قتل من كان سبباً في خسارته، أو عزم على قتل نفسه بطريق الانتحار، وكم من أسرةٍ تهدّمت، وكم من عائلةٍ تشرّدت، بسبب ( القمار ) وأصبحت في ذل وفاقة، بعد أن كانت في عزّ ورفاهية، والحوادث التي نسمعها كل يوم أصدق شاهد على ما يجره ( القمار ) من ويلاتٍ ونكبات على الأشخاص والأسر التي بليت في بعض أفرادها بأناسٍ مقامرين.. دعْ ما يتخذه المقامرون من وسائل خسيسة وأيمان كاذبة يستعملونها في سبيل تحقيق أطماعهم وصدق الله حيث يقول :﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾ ؟