تفسير سورة المائدة

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

قال ابن أبي حاتم عن معن وعوف، أو أحدهما : أن رجلاً أتى عبد الله بن مسعود، فقال : اعهد إليّ، فقال : إذا سمعت الله يقول :﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ ﴾ فأرعها سمعك، فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه. وعن خيثمة قال : كل شيء في القرآن ﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ ﴾ فهو في التوراة يا أيها المساكين. وكتب رسول الله ﷺ كتاباً لعمرو بن حزم، حين بعثه إلى اليمن يفقه أهلها ويعلمهم السنّة، ويأخذ صدقاتهم، فكتب له كتاباً وعهداً، وأمره فيه بأمره، فكتب :« بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله ورسوله ﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود ﴾ عهد من محمد رسول الله ﷺ لعمرو ابن حزم حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى الله في أمره كله، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون » وقوله تعالى :﴿ أَوْفُواْ بالعقود ﴾، قال ابن عباس يعني بالعقود : العهود؛ قال : والعهود : ما كانوا يتعاقدون عليه من الحلف وغيره؛ وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس العهود : يعني ما أحل الله وما حرم، وما فرض وما حد في القرآن كله، ولا تغدروا ولا تنكثوا، ثم شدد في ذلك فقال تعالى :﴿ والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ ﴾ [ الرعد : ٢٥ ]، إلى قوله :﴿ سواء الدار ﴾ [ الرعد : ٢٥ ] وقال الضحاك :﴿ أَوْفُواْ بالعقود ﴾ قال : ما أحل الله وحرم، وما أخذ الله من الميثاق على من أقر بالإيمان بالنبي والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم من الفرائض من الحلال والحرام، وقال زيد بن أسلم :﴿ أَوْفُواْ بالعقود ﴾ قال : هي ستة، عهد الله، وعقد الحلف، وعقد الشركة، وعقد البيع، وعقد النكاح، وعقد اليمين، وقد استدل بعض من ذهب إلى أنه لا خيار في مجلس البيع بهذه الآية ﴿ أَوْفُواْ بالعقود ﴾، قال : فهذا يدل على لزوم العقد وثبوته، ويقتضي نفي خيار المجلس، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، وخالفهما في ذلك الشافعي وأحمد والجمهور، والحجة في ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال : قال رسول الله ﷺ :« البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا »، وفي لفظ آخر للبخاري؛ « إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا »، وهذا صريح في إثبات خيار المجلس المتعقب لعقد البيع، وليس هذا منافياً للزوم العقد، بل هو من مقتضياته شرعاً، فالتزامه من تمام الوفاء بالعقود.
وقوله تعالى :﴿ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام ﴾ هي الإبل والبقر والغنم، قاله قتادة وغير واحد، قال ابن جرير : وكذلك هو عند العرب، وقد استدل ابن عمر وابن عباس وغير واحد بهذه الآية على إباحة الجنين إذا وجد ميتاً في بطن أمه إذا ذبحت، وقد ورد في ذلك حديث في السنن.
599
عن أبي سعيد قال :« قلنا يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة أو الشاة، في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟ فقال :» كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه «، وقال أبو داود عن جابر بن عبد الله عن رسول الله ﷺ قال :» ذكاة الجنين ذكاة أمه « وقوله :﴿ إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ ﴾ قال ابن عباس : يعني بذلك الميتة والدم ولحم الخنزير، وقال قتادة : يعني بذلك الميتة وما لم يذكر اسم الله عليه، والظاهر - والله أعلم - أن المراد بذلك قوله :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع ﴾ [ المائدة : ٣ ]، فإن هذه وإن كانت من الأنعام، إلا أنها تحرم بهذه العوارض، ولهذا قال :﴿ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب ﴾ [ المائدة : ٣ ] يعني منها، فإنه حرام لا يمكن استدراكه وتلاحقه، ولهذا قال تعالى :﴿ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ ﴾ أي إلا ما سيتلى عليكم من تحريم بعضها في بعض الأحوال، والمراد بالأنعام ما تعم الإنسي من الإبل والبقر والغنم، وما يعم الوحشي كالظباء والبقر والحمر، فاستثني من الإنسي ما تقدم، واستثنى من الوحشي الصيد في حال الإحرام : وقيل المراد، أحللنا لكم الأنعام إلا ما استثني منها لمن التزم تحريم الصيد وهو حرام، لقوله :﴿ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ النحل : ١١٥ ]، أي أبحنا تناول الميتة للمضطر بشرط أن يكون غير باغ ولا متعد، وهكذا هنا، أي كما أحللنا الأنعام في جميع الأحوال، فحرموا الصيد في حال الإحرام، فإن الله قد حكم بهذا، وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه، ولهذا قال الله تعالى :﴿ إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله ﴾ قال ابن عباس : يعني بذلك مناسك الحج، وقال مجاهد : الصفا والمروة، والهدي والبدن من شعائر الله، وقيل : شعائر الله محارمه، أي لا تحلوا محارم الله التي حرمها الله تعالى، ولهذا قال تعالى :﴿ وَلاَ الشهر الحرام ﴾ يعني بذلك تحريمه والاعتراف بتعظيمه وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه من الابتداء بالقتال، وتأكيد اجتناب المحارم، كما قال تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾ [ البقرة : ٢١٧ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً ﴾ [ التوبة : ٣٦ ] الآية، وفي صحيح البخاري : عن أبي بكرة أن رسول الله ﷺ قال في حجة الوداع :»
إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض. السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاث متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان «
600
وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت كما هو مذهب طائفة من السلف. وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى :﴿ وَلاَ الشهر الحرام ﴾ يعني لا تستحلوا القتال فيه، واختاره ابن جرير أيضاً، وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم، واحتجوا بقوله تعالى :﴿ فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾ [ التوبة : ٥ ] قالوا : فلم يستثن شهراً حراماً من غيره، وقد حكى الإمام أبو جعفر الإجماع على أن الله قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها من شهور السنة.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد ﴾ يعني لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام، فإن فيه تعظيم شعائر الله ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام، وليعلم أنها هدي إلى الكعبة فيجتنبها من يريدها بسوء، وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها، فإن من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ولهذا لما حج رسول الله ﷺ بات بذي الحليفة وهو وادي العقيق، فلما أصبح طاف على نسائه وكن تسعاً، ثم اغتسل وتطيب وصلى ركعتين، ثم أشعر هديه وقلده، وأهلَّ للحج والعمرة، وكان هديه إبلاً كثيرة تنيف على الستين من أحسن الأشكال والألوان؛ كما قال تعالى :﴿ ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب ﴾ [ الحج : ٣٢ ]. وقال بعض السلف : إعظامها استحسانها واستسمانها، قال علي بن أبي طالب : أمرنا رسول الله ﷺ أن نستشرف العين والأذن. « رواه أهل السنن »، وقال مقاتل بن حيان قوله :﴿ وَلاَ القلائد ﴾ فلا تستحلوها، وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم قلدوا أنفسهم بالشعر والوبر، وتقلد مشركو الحرم من لحاء شجره فيأمنون به. وقوله تعالى :﴿ ولا آمِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً ﴾ أي ولا تستحلوا قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام الذي من دخله كان آمناً، وكذا من قصده طالباً فضل الله، وراغباً في رضوانه فلا تصدوه ولا تمنعوه ولا تهيجوه، قال مجاهد وعطاء في قوله :﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ ﴾ يعني بذلك التجارة، وهذا كما تقدم في قوله :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٩٨ ] وقوله :﴿ وَرِضْوَاناً ﴾ قال ابن عباس : يترضون الله بحجهم، وقد ذكر عكرمة والسدي وابن جرير أن هذه الآية نزلت في ( الحطيم بن هند البكري )، كان قد أغار على سرح المدينة، فلما كان من العام المقبل اعتمر إلى البيت، فأراد بعض الصحابة أن يعترضوا في طريقه إلى البيت، فأنزل الله :﴿ ولا آمِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً ﴾.
601
وقد حكى ابن جرير الإجماع على أن المشرك يجوز قتله إذا لم يكن له أمان، وإن أمَّ البيت الحرام أو بيت المقدس، وأن هذا الحكم منسوخ في حقهم، والله أعلم. فأما من قصده بالإلحاد فيه والشرك عنده والكفر به فهذا يمنع، قال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا ﴾ [ التوبة : ٢٨ ]، ولهذا بعث رسول الله ﷺ عام تسع لما أمَّر الصديقُ على الحجيج علياً، وأمره أن ينادي على سبيل النيابة عن رسول الله ﷺ ببراءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. وقال ابن عباس قوله :﴿ ولا آمِّينَ البيت الحرام ﴾ : يعني من توجه قِبَل البيت الحرام، فكان المؤمنون والمشركون يحجون، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحداً من مؤمن أو كافر، ثم أنزل الله بعدها :﴿ إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا ﴾ [ التوبة : ٢٨ ] الآية، وقال تعالى :﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله ﴾ [ التوبة : ١٧ ] وقال :﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر ﴾ [ التوبة : ١٨ ] فنفى المشركين من المسجد الحرام. وقال قتادة في قوله ﴿ وَلاَ القلائد ولا آمِّينَ البيت الحرام ﴾ قال : منسوخ. كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من الشجر، فلم يعرض له أحد، فإذا رجع تقلد قلادة من شعر، فلم يعرض له أحد، وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت، فنسخها قوله :﴿ فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾ [ التوبة : ٥ ].
وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا ﴾ أي إذا فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه، فقد أبحنا لكم ما كان محرماً عليكم في حال الإحرام من الصيد، وهذا أمر بعد الحظر، وقوله :﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ ﴾ أي لا يحملنكم بغض قوم قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام، وذلك عام الحديبية على أن تعتدوا حكم الله فيهم فتقتصوا منهم ظلماً وعدواناً بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد، وهذه الآية كما سيأتي من قوله :﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى ﴾ [ المائدة : ٨ ]، وقال بعض السلف : ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، والعدل به قامت السماوات والأرض. وقال ابن أبي حاتم، عن زيد بن أسلم قال : كان رسول الله ﷺ بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة، فقال أصحاب النبي ﷺ : نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم، فأنزل الله هذه الآية. والشنآن : هو البغض، قاله ابن عباس وغيره، وهو مصدر من شنأته أشنؤه شنآناً بالتحريك، وقال ابن جرير : من العرب من يسقط التحريك في شنآن فيقول : شنان، ولم أعلم أحداً قرأ بها ومنه قول الشاعر :
602
وما العيش إلا ما تحب وتشتهي وإن لام فيه ذو الشنان وفنّدا
وقوله تعالى :﴿ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان ﴾ يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر، وترك المنكرات وهو التقوى، وينهاهم عن التناصر على الباطل والتعاون على المآثم والمحارم، قال ابن جرير الإثم : ترك ما أمر الله بفعله، والعدوان مجاوزة ما حد الله في دينكم ومجاوزة ما فرض الله عليكم في أنفسكم وفي غيركم. وقد قال رسول الله ﷺ :« » انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً «، قيل : يا رسول الله هذا نصرته مظلوماً فكيف أنصره إذا كان ظالماً؟ قال :» تحجزه وتمنعه من الظلم فذاك نصره «، وقال أحمد عن يحيى بن وثاب - رجل من أصحاب النبي ﷺ - قال :» المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم « وقال رسول الله ﷺ :» الدال على الخير كفاعله « وفي الصحيح :» من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً «.
603
يخبر تعالى عباده خبراً متضمناً النهي عن تعاطي هذه المحرمات من الميتة، وهي ما مات من الحيوانات حتف أنفه من غير ذكاة ولا اصطياد، وما ذاك إلا لما فيها من المضرة، لما فيها من الدم المحتقن، فهي ضارة للدين وللبدن، فلهذا حرمها الله عزَّ وجلَّ، ويستثنى من الميتة السمك فإنه حلال سواء مات بتذكية أو غيرها، لما رواه مالك والترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ سئل عن ماء البحر؟ فقال :« هو الطهور ماؤه، والحل ميتته » وقوله :﴿ والدم ﴾ يعني به المسفوح كقوله :﴿ أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً ﴾ [ الأنعام : ١٤٥ ]، قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه سئل عن الطحال؟ فقال : كلوه. فقالوا : إنه دم، فقال : إنما حرم عليكم الدم المسفوح. وعن عائشة قالت : إنما نهي عن الدم السافح، وقد قال رسول الله ﷺ :« أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال » وقال ابن أبي حاتم عن أبي أمامة وهو ( صدي بن عجلان ) قال : بعثني رسول الله ﷺ إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله وأعرض عليهم شرائع الإسلام، فأتيتهم؛ فبينما نحن كذلك إذ جاءوا بقصعة من دم، فاجتمعوا عليها يأكلونها، فقالوا : هلمَّ يا صدي، فكل، قال قلت : ويحكم إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم، فأقبلوا عليه، قالوا : وما ذاك؟ فتلوت عليهم هذه الآية :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم ﴾ الآية، وما أحسن ما أنشد الأعشى في قصيدته التي ذكرها ابن إسحاق :
وإياك والميتات لا تقربَنَّها ولا تأخذن عظماً حديداً فتفصدا
أي لا تفعل فعل الجاهلية، وذلك أن أحدهم كان إذا جاع يأخذ شيئاً محدداً من عظم ونحوه، فيفصد به بعيره أو حيواناً من أي صنف كان، فيجمع ما يخرج منه من الدم فيشربه، ولهذا حرم الله الدم على هذه الأمة.
قوله تعالى :﴿ وَلَحْمُ الخنزير ﴾ يعني إنسيه ووحشيه، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم، ولا يحتاج إلى تحذلق « الظاهرية » في جمودهم هاهنا، وتعسفهم في الاحتجاج بقوله :﴿ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً ﴾ [ الأنعام : ١٤٥ ] يعنون قوله تعالى :﴿ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ﴾ [ الأنعام : ١٤٥ ] أعادوا الضمير فيما فهموه على الخنزير حتى يعم جميع أجزائه، وهذا بعيد من حيث اللغة، فإنه لا يعود الضمير إلا إلى المضاف دون المضاف إليه، والأظهر أن اللحم يعم جميع الأجزاء، كما هو المفهوم من لغة العرب ومن العرف المطرد. وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الخصيب الأسلمي رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه »
604
، فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس، فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به!؟ وفيه دلالة على شمول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره. وفي الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال :« » إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام « فقيل : يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال :» لا، هو حرام « وفي صحيح البخاري من حديث أبي سفيان أنه قال لهرقل ملك الروم : نهانا عن الميتة والدم. وقوله :﴿ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ ﴾ أي ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله، فهو حرام، لأن الله تعالى أوجب أن تذبح مخلوقات على اسمه العظيم، فمتى عدل بها عن ذلك، وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات، فإنها حرام بالإجماع.
وقوله تعالى :﴿ والمنخنقة ﴾ وهي التي تموت بالخنق، إما قصداً، وإما اتفاقاً، بأن تتخبل في وثاقتها فتموت به فهي حرام؛ وأما ﴿ الموقوذة ﴾ فهي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت، كما قال ابن عباس وغير واحد : هي التي تضرب بالخشبة حتى يوقذها فتموت، قال قتادة : كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصي حتى إذا ماتت أكلوها. وفي الصحيح أن عدي بن حاتم قال، قلت : يا رسول الله إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب، قال :»
إذا رميت بالمعراض فخرق، فكله، وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله «، ففرق بين ما أصابه بالسهم أو بالمزراق ونحوه بحده فأحله، وما أصاب بعرضه فجعله وقيذاً لم يحله، وهذا مجمع عليه عند الفقهاء واختلفوا فيما إذا صدم الجارحة الصيد فقتله بثقله ولم يجرحه على قولين، هما قولان للشافعي رحمه الله :( أحدهما ) لا يحل كما في السهم والجامع أن كلا منهما ميت بغير جرح فهو وقيذ، ( والثاني ) : أنه يحل لأنه حكم بإباحة ما صاده الكلب ولم يستفصل، فدل على إباحة ما ذكرناه لأنه قد دخل في العموم. ( فإن قيل ) : فلم لا فصل في حكم الكلب، فقال ما ذكرتم : إن جرحه فهو حلال وإن لم يجرحه فهو حرام؟ ( فالجواب ) : أن ذلك نادر لأن من شأن الكلب أن يقتل بظفره أو نابه أو بهما معاً، وأما اصطدامه هو والصيد فنادر وكذا قتله إياه بثقله، فلم يحتج إلى الإحتراز من ذلك لندوره، أو لظهور حكمه عند من علم تحريم الميتة والمنخنقة والموقوذة والمترديه والنطيحة. وأما السهم والمعراض فتارة يخطىء لسوء رمي راميه أو للهو أو لنحو ذلك، بل خطؤه أكثر من إصابته، فلهذا ذكر كلا من حكميه مفصلاً، والله أعلم. ولهذا لما كان الكلب من شأنه أنه قد يأكل من الصيد ذكر حكم ما إذا أكل من الصيد فقال :» إن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه «، وهذا صحيح ثابت في الصحيحين، وهو أيضاً مخصوص من عموم آية التحليل عند كثيرين، فقالوا : لا يحل ما أكل منه الكلب.
605
حكي ذلك عن أبي هريرة وابن عباس، وإليه ذهب أبو حنيفة وصاحباه وأحمد بن حنبل والشافعي في المشهور عنه، وروى ابن جرير في تفسيره عن ابن عمر وابن عباس : أن الصيد يؤكل وإن أكل منه الكلب، حتى قال سعيد وسلمان وأبو هريرة وغيرهم : يؤكل ولو لم يبق منه إلا بضعة، وإلى ذلك ذهب مالك والشافعي في قوله القديم، وأومأ في الجديد إلى قولين، وقد روى أبو داود بإسناد جيد قوي عن أبي ثعلبة الخشني عن رسول الله ﷺ أنه قال في صيد الكلب :« إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه، وكل ما ردت عليك يدك ».
فأما الجوارح من الطيور، فنص الشافعي على أنها كالكلب، فيحرم ما أكلت منه عند الجمهور، ولا يحرم عند الآخرين، واختار المزني من أصحابنا أنه لا يحرم أكل ما أكلت منه الطيور والجوارح، وهو مذهب أي حنيفة وأحمد، قالوا : لأنه لا يمكن تعليمها كما يعلم الكلب بالضرب ونحوه، وأيضاً فإنها لا تعلم إلا بأكلها من الصيد، فيعفى عن ذلك، وأيضاً فالنص إنما ورد في الكلب لا في الطير، وأما ﴿ المتردية ﴾ فهي التي تقع من شاهق أو موضع عال فتموت بذلك فلا تحل، قال ابن عباس : المتردية التي تسقط من جبل، وقال قتادة : هي التي تتردى في بئر، وقال السدي : هي التي تقع من جبل أو تتردى في بئر، وأما ﴿ النطيحة ﴾ فهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها فهي حرام، وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها، والنطيحة فعيلة بمعنى مفعولة أي منطوحة، وأكثر ما ترد هذه البنية في كلام العرب بدون تاء التأنيث، فيقولون : عين كحيل، وكف خضيب، ولا يقولون : كف خضيبة، ولا عين كحيلة، وأما هذه فقال بعض النحاة إنما استعمل فيها تاء التانيث لأنها أجريت مجرى الأسماء، كما في قولهم طريقة طويلة، وقال بعضهم : إنما أتى بتاء التأنيث فيها لتدل على التأنيث من أول وهلة، بخلاف عين كحيل وكف خضيب، لأن التأنيث مستفاد من أول الكلام. وقوله تعالى :﴿ وَمَآ أَكَلَ السبع ﴾ أي ما عدا عليها أسد أو فهد أو نمر أو ذئب أو كلب فأكل بعضها فماتت بذلك فهي حرام، وإن كان قد سال منها الدم، ولو من مذبحها، فلا تحل بالإجماع، وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة أو البعير أو البقرة أو نحو ذلك، فحرم الله ذلك على المؤمنين.
606
وقوله :﴿ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ﴾ عائد على ما يمكن عوده عليه مما انعقد سبب موته، فأمكن تداركه بذكاة وفيه حياة مستقرة، وذلك إنما يعود على قوله :﴿ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع ﴾.
وقال ابن عباس في قوله ﴿ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ﴾ يقول : إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح فكلوه فهو ذكي، وقال ابن أبي حاتم عن علي في الآية قال : إن مصعت بذنبها أو ركضت برجلها أو طرفت بعينها فكل، وقال ابن جرير، عن علي قال : إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة وهي تحرك يداً أو رجلاً فكلها، وهكذا روي عن طاووس والحسن : أن المُذكاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح فهي حلال؛ وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل. وقال ابن وهب : سئل مالك عن الشاة التي يخرق جوفها السبع حتى تخرج أمعاؤها؟ فقال مالك : لا ارى أن تذكى، أي شيء يذكى منها. وقال أشهب سئل مالك عن الضبع يعدو على الكبش فيدق ظهره أترى أن يذكى قبل أن يموت فيؤكل؟ فقال : إن كان قد بلغ السحر؟؟ فلا أرى أن يؤكل، وإن كان أصاب أطرافه فلا أرى بذلك بأساً، قيل له : وثب عليه فدق ظهره، فقال : لا يعجبني، هذا لا يعيش منه، قيل له : فالذئب يعدو على الشاة فيثقب بطنها ولا يثقب الأمعاء، فقال : إذا شق بطنها فلا أرى أن تؤكل، هذا مذهب مالك C؛ وظاهر الآية عام فيما استثناه مالك رحمه الله من الصور التي بلغ الحيوان فيها إلى حالة لا يعيش بعدها، فيحتاج إلى دليل مخصص للآية والله أعلم. وفي الصحيحين عن رافع بن خديج أنه قال، « قلت : يا رسول الله إنا لاقوا العدو غداً وليس معنا مُدَى أفنذبح بالقصب؟ فقال :» ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ليس السن والظفر. وسأحدثكم عن ذلك : أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة «، وفي الحديث الذي رواه الدار قطني مرفوعاً، وروي عن عمر موقوفاً وهو أصح :» ألا إن الذكاة في الحلق واللبة ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق « وفي الحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن عن أبي العشراء الدارمي عن أبيه قال، » قلت : يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا من اللبة والحلق؟ فقال :« لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك » وهو حديث صحيح، ولكنه محمول على ما لا يقدر على ذبحه في الحلق واللبة.
وقوله تعالى :﴿ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب ﴾ كانت النصب حجارة حول الكعبة، قال ابن جريج : وهي ثلثمائة وستون نصباً، كانت العرب في جاهليتها يذبحون عندها وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب، فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله.
607
فالذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، وينبغي أن يحمل هذا على هذا، لأنه قد تقدم تحريم ما أُهِلَّ به لغير الله. وقوله تعالى :﴿ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام ﴾ أي حرم عليكم أيها المؤمنون الاستقسام بالأزلام، واحدها زلم، وقد تفتح الزاي فيقال : زلم، وقد كانت العرب في جاهليتها يتعاطون ذلك، وهي عبارة عن قداح ثلاثة على أحدها مكتوب إفعل، وعلى الآخر لا تفعل والثالث غفل ليس عليه شيء، ومن الناس من قال : مكتوب على الواحد أمرني ربي، وعلى الآخر نهاني ربي، والثالث غفل ليس عليه شيء، فإذا أجالها فطلع سهم الأمر فعله، أو النهي تركه، وإن طلع الفارغ أعاد، والاستقسام مأخوذ من طلب القسم من هذه الأزلام، هكذا قرر ابن جرير، وعن ابن عباس ﴿ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام ﴾ قال : والأزلام قداح كانوا يستقسمون بها في الأمور، وذكر محمد بن إسحاق وغيره : أن أعظم أصنام قريش صنم كان يقال له هبل منصوب على بئر داخل الكعبة فيها توضع الهدايا وأموال الكعبة فيه، وكان عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه مما أشكل عليهم، فلما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه، وثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ لما دخل الكعبة وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها، وفي أيديهما الأزلام فقال :« قاتلهم الله، لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبداً » وفي الصحيحين أن ( سراقة بن مالك بن جعشم ) لما خرج في طلب النبي ﷺ وأبي بكر وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين قال : فاستقسمت بالأزلام هل أضرهم أم لا فخرج الذي أكره : لا تضرهم، قال : فعصيت الأزلام، واتبعتهم، ثم إنه استقسم بها ثانية، وثالثة، كل ذلك يخرج الذي يكره : لا تضرهم، وكان كذلك، وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك ثم أسلم بعد ذلك.
﴿ ذلكم فِسْقٌ ﴾ أي تعاطيه فسق وغي وضلالة وجهالة وشرك؛ وقد أمر الله المؤمنين إذا ترددوا في أمورهم أن يتسخيروه بأن يعبدوه ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه، كما روى الإمام أحمد والبخاري عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله ﷺ يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن، ويقول :« إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك. وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر - ويسميه باسمه - خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال : عاجل أمري وآجله - فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، اللهم! وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفني عنه، واصرفه عني، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رَضِّني به ».
608
وقوله تعالى :﴿ اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ ﴾ قال ابن عباس : يعني يئسوا أن يراجعوا دينهم، وكذا روي عن عطاء ومقاتل وعلى هذا المعنى يرد الحديث الثابت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال :« إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن بالتحريش بينهم » ويحتمل أن يكون المراد أنهم يئسوا من مشابهة المسلمين لما تميز به المسلمون من هذه الصفات المخالفة للشرك وأهله، ولهذا قال تعالى آمراً لعباده المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفار ولا يخافوا أحداً إلاّ الله، فقال :﴿ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون ﴾ أي لا تخافوهم في مخالفتكم إياهم واخشوني أنصركم عليهم وأوؤيدكم وأظفركم بهم، وأشف صدوركم منهم، وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة. وقوله :﴿ اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً ﴾ هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلاّ ما أحله ولا حرام إلاّ ما حرمه، ولا دين إلاّ ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف، كما قال تعالى :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ﴾ [ الأنعام : ١١٥ ] أي صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي. فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة، ولهذا قال تعالى :﴿ اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً ﴾ أي فارضوه أنتم لأنفسكم فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه وبعث به أفضل الرسل الكرام، وأنزل به أشرف كتبه، وقال ابن عباس قوله :﴿ اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ وهو الإسلام أخبر الله نبيه ﷺ والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبداً، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبداً. وقال السدي : نزلت هذه الآية يوم عرفة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام. وقال ابن جرير : مات رسول الله ﷺ بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوماً.
لما نزلت ﴿ اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ وذلك يوم الحج الأكبر بكى عمر، فقال له النبي ﷺ :« ما يبكيك »؟ قال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا أكمل فإنه لم يكمل شيء إلاّ نقص، فقال :« صدقت »، ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت :
609
« إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء »، وقال الإمام أحمد : جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب، فقال : يا أمير المؤمنين إنكم تقرأون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال : واي آية؟ قال قوله :﴿ اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾، فقال عمر : والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله ﷺ، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله ﷺ، عشية عرفة في يوم جمعة. ولفظ البخاري قال، قالت اليهود لعمر : إنكم تقرأون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً، فقال عمر : إني لأعلم حين أنزلت، وأين أنزلت، وأين رسول الله ﷺ حيث أنزلت : يوم عرفة وأنا والله بعرفة، قال سفيان : وأشك كان يوم الجمعة أم لا ﴿ اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ الآية، وقال كعب : لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه، فقال عمر : أي آية يا كعب؟ فقال :﴿ اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ فقال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت، والمكان الذي أنزلت فيه : في يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد. وعن علي قال : نزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ وهو قائم عشية عرفة ﴿ اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه المحرمات التي ذكرها الله تعالى لضرورة ألجأته إلى ذلك، فله تناوله، والله غفور رحيم له، لأنه تعالى يعلم حاجة عبده المضطر وافتقاره إلى ذلك فيتجاوز عنه ويغفر له. وفي المسند عن ابن عمر مرفوعاً قال، قال رسول الله ﷺ :« إن الله يحب أن تؤتى رخصته كما يكره أن تؤتى معصيته » لفظ ابن حبان؛ وفي لفظ لأحمد :« من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة »، ولهذا قال الفقهاء : قد يكون تناول الميتة واجباً في بعض الأحيان، وهو ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها، وقد يكون مندوباً، وقد يكون مباحاً بحسب الأحوال، واختلفوا هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق، أو له أن يشبع أو يشبع ويتزود؟ على أقوال؛ كما هو مقرر في كتاب الأحكام، وليس من شرط جواز تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاماً، كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم، بل متى اضطر إلى ذلك جاز له. وقد قال الإمام أحمد، عن أبي واقد الليثي، أنهم قالوا :
610
« يا رسول الله، إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة فمتى تحل لنا بها الميتة؟ فقال :» إذا لم تصطبحوا، ولم تغتبقوا، ولم تحتفئوا بها بقلاً فشأنكم بها «، وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين ومعنى قوله :» ما لم تصطبحوا « يعني به الغداء » وما لم تغتبقوا « يعني به العشاء » أو تحتفئوا بقلاً فشأنكم بها « فكلوا منها. وقال ابن جرير : يروى هذا الحرف يعني قوله » أو تحتفئوا « على أربعة أوجه : تحتفئوا بالهمزة، وتحتفيوا : بتخفيف الياء والحاء، وتحتفوا بتشديد الفاء، وتحتفوا بالحاء والتخفيف ويحتمل الهمز، كذا رواه في التفسير. ( حديث آخر ) : قال أبو داود عن النجيع العامري أنه أتى رسول الله ﷺ فقال : ما يحل لنا من الميتة؟ قال :» ما طعامكم؟ « قلنا : نصطبح ونغتبق. قال أبو نعيم : فسره لي عقبة، قدح غدوة وقدح عشية، قال : ذاك وأبي الجوع، وأحل لهم الميتة على هذه الحال. تفرد به أبو داود، وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئاً لا يكفيهم، فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم، وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حد الشبع، ولا يتقيد ذلك بسد الرمق والله أعلم. ( حديث آخر ) : قال أبو داود عن جابر عن سمرة : أن رجلاً نزل الحرة ومعه أهل وولده، فقال له رجل : إن ناقتي ضلت فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها ولم يجد صاحبها، فمرضت فقالت له امرأته : انحرها، فأبى، فنفقت، فقالت له امرأته : أسلخها حتى تقدد شحمها ولحمها فنأكله، قال : لا، حتى أسأل رسول الله ﷺ، فأتاه فسأله، فقال :» هل عندك غنى يغنيك « قال : لا، قال :» فكلوها «، قال : فجاء صاحبها فأخبره الخبر فقال : هلا كنت نحرتها؟ قال : استحييت منك. وقد يحتج به من يجوز الأكل والشبع والتزود منها مدة يغلب على ظنه الإحتياج إليها، والله أعلم. وقوله :﴿ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ ﴾ أي متعاط لمعصية الله، فإن الله قد أباح ذلك له، وسكت عن الآخر، كما قال في سورة البقرة :﴿ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ الآية : ١٧٣ ]، وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر لأن الرخص لا تنال بالمعاصي، والله أعلم.
611
لما ذكر تعالى ما حرمه في الآية المتقدمة من الخبائث الضارة لمتناولها، إما في بدنه أو في دينه أو فيهما، واستثنى ما استثناه في حالة الضرورة كما قال تعالى :﴿ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ [ الأنعام : ١١٩ ] قال بعدها :﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات ﴾ كما في سورة الأعراف في صفة محمد ﷺ أنه يحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث. قال ابن أبي حاتم عن عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين سألا رسول الله ﷺ فقالا : يا رسول الله قد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت :﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات ﴾ قال سعيد : يعني الذبائح الحلال الطيبة لهم. وقال مقاتل : الطيبات ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه وهو الحلال من الرزق. وقوله تعالى :﴿ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ ﴾ أي أحل لكم الذبائح التي ذكر اسم الله عليها والطيبات من الرزق وأحل لكم ما صدتموه بالجوارح وهي :( الكلاب والفهود والصقور وأشباهها )، كما هو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة، وممن قال ذلك ابن عباس في قوله :﴿ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ ﴾، وهن الكلاب المعلمة والبازي وكل طير يعلم للصيد، والجوارح يعني الكلاب الضواري، والفهود والصقور وأشباهها. رواه ابن أبي حاتم، وروي عن الحسن أنه قال : البازي والصقر من الجوارح، ثم روي عن مجاهد أنه كره صيد الطير كله، وقرأ قوله :﴿ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ ﴾، ثم قال : أخبرنا ابن جريج عن نافع عن ابن عمر قال : أما ما صاد من الطير البازات وغيرها من الطير فما أدركت فهو لك وإلاّ فلا تطعمه. قلت : والمحكي عن الجمهور أن الصيد بالطيور كالصيد بالكلاب لأنها تكلب الصيد بمخالبها كما تكلبه الكلاب فلا فرق، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، واختاره ابن جرير. واحتج في ذلك بما رواه عن عدي بن حاتم قال : سألت رسول الله ﷺ عن صيد البازي فقال :« ما أمسك عليك فكل »، وسميت هذه الحيوانات التي يصطاد بهن جوارح : من الجرح وهو الكسب، كما تقول العرب : فلان جرح أهله خيراً أي كسبهم خيراً، ويقولون. فلان لا جارح له أي لا كاسب له، وقال الله تعالى :﴿ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار ﴾ [ الأنعام : ٦٠ ] أي ما كسبتم من خير وشر، وقد ذكر في سبب نزول هذه الآية الشريفة الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم عن أبي رافع مولى رسول الله ﷺ :« أن رسول الله ﷺ أمر بقتل الكلاب، فقلت، فجاء الناس فقالوا : يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فسكت؛ فأنزل الله :﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ ﴾ الآية، فقال النبي ﷺ : إذا أرسل الرجل كلبه وسمى فأمسك عليه فليأكل ما لم يأكل ».
612
وقوله تعالى :﴿ مُكَلِّبِينَ ﴾ يحتمل أن يكون حالاً من الضمير في ﴿ عَلَّمْتُمْ ﴾ فيكون حالاً من الفاعل، ويحتمل أين يكون حالاً من المفعول وهو ﴿ الجوارح ﴾ أي وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلبات للصيد، وذلك أن تقتنصه بمخالبها أو أظفارها، فيستدل بذلك والحالة هذه على أن الجارح إذا قتل الصيد بصدمته وبمخلابه وظفره أنه لا يحل له كما هو أحد قولي الشافعي وطائفة من العلماء، ولهذا قال :﴿ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله ﴾ وهو أنه إذا أرسله استرسل، وإذا أشلاه استشلى، وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه ولا يمسكه لنفسه، ولهذا قال تعالى :﴿ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ واذكروا اسم الله عَلَيْهِ ﴾ فمتى كان الجارح معلماً وأمسك على صاحبه، وكان قد ذكر السم الله عليه وقت إرساله، حل الصيد وإن قتله بالإجماع. وقد وردت السنّة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة، كما ثبت في الصحيحين عن عدي بن حاتم قال :« قلت يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلمة وأذكر اسم الله، فقال :» إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك « قلت : وإن قتلن؟ قال :» وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس منها، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره «. قلت له : فإني ارمي بالمعراض الصيد فأصيب؟ فقال :» إذا رميت بالمعراض فخزق فكله، وإن أصابه بعرض فإنه وقيذ فلا تأكله «، وفي لفظ لهما » إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أمسك عليك فأدركته حياً فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب ذكاته «، وفي رواية لهما :» فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه «، فهذا دليل للجمهور وهو الصحيح من مذهب الشافعي، وهو أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقاً ولم يستفصلوا، كما ورد بذلك الحديث، وحكي عن طائفة من السلف أنهم قال لا يحرم مطلقاً.
وقوله تعالى :﴿ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ واذكروا اسم الله عَلَيْهِ ﴾ أي عند إرساله، كما قال النبي ﷺ لعدي ابن حاتم :»
إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك «، وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في الصحيحين أيضاً :» إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله «، ولهذا اشترط من اشترط من الأئمة، كالإمام أحمد رحمه الله في المشهور عنه التسمية عند إرسال الكلب والرمي بالسهم لهذه الآية، وهذا الحديث، وهذا القول هو المشهور عن الجمهور، أن المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الإرسال.
613
كما قال السدي وغيره. وقال ابن عباس في قوله :﴿ واذكروا اسم الله عَلَيْهِ ﴾ يقول : إذا أرسلت جارحك فقل باسم الله وإن نسيت فلا حرج، وقال بعض الناس : المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الأكل، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ علَّم ربيبه عمر بن أبي سلمة فقال :« سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك » وفي صحيح البخاري عن عائشة أنهم قالوا : يا رسول الله إن قوماً يأتوننا حديث عهدهم بكفر بلحمان لا ندري أذكر اسم الله عليها أم لا؟ فقال :« سموا الله أنتم وكلوا » ( وحديث آخر ) : وقال الإمام أحمد عن عائشة :« أن رسول الله ﷺ كان يأكل الطعام في ستة نفر من أصحابه، فجاء أعرابي فأكله بلقمتين، فقال النبي ﷺ :» أما أنه لو كان ذكر اسم الله لكفاكم، فإذا أكل أحدكم طعاماً فليذكر اسم الله، فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوله فليقل باسم الله أوله وآخره « ( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن حذيفة، قال :» كنا إذا حضرنا مع النبي على طعام لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله، فيضع يده، وإنا حضرنا معه طعاماً فجاءت جارية كأنما تدفع، فذهبت تضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله ﷺ بيدها، وجاء أعرابي كأنما يدفع فذهب يضع يده في الطعام فأخذ رسول الله [ ﷺ ] بيده، فقال رسول الله ﷺ :« إن الشيطان يستحل الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها فأخذت بيدها، وجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذت بيده، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يديهما »، يعني الشيطان وكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي. ( حديث آخر ) : روى مسلم وأهل السنن إلاّ الترمذي عن جابر بن عبد الله عن النبي ﷺ قال :« إذا دخل الرجل بيته فذكر اسم الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان : لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل ولم يذكر اسم الله عند دخوله قال الشيطان : أدركتم المبيت، فإذا لم يذكر اسم الله عند طعامه قال : أدركتم المبيت والعشاء »، لفظ أبي داود. ( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن وحشي بن حرب عن أبيه عن جده أن رجلاً قال للنبي ﷺ :« إنا نأكل وما نشبع، قال :» فلعلكم تأكلون متفرقين، اجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه «، ورواه أبو داود وابن ماجه.
614
لما ذكر تعالى ما حرمه على عباده المؤمنين من الخبائث وما أحله لهم من الطيبات قال بعده :﴿ اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات ﴾، ثم ذكر حكم ذبائح أهل الكتابين من اليهود والنصارى، فقال :﴿ وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ ﴾، قال ابن عباس : يعني ذبائحهم، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء، إن ذبائحهم حلال للمسلمن لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، ولا يذكرون على ذبائحهم إلاّ اسم الله، وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عنه تعالى وتقدس. وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مغفل قال : أدلي بجراب من شحم يوم خيبر، فحضنته، وقلت : لا أعطي اليوم من هذا أحداً والتفت فإذا النبي ﷺ يتبسم، وفي الصحيح أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله ﷺ شاة مصلية وقد سموا ذراعها، وكان يعجبه الذراع، فتناوله فنهش منه نهشة، فأخبره الذراع أنه مسموم فلفظه، وأثر ذلك في ثنايا رسول الله ﷺ وفي أبهره، وأكل معه منها بشر بن البراء بن معرور فمات، فقتل اليهودية التي سمتها، وكان اسمها زينب، وقال ابن أبي حاتم، عن مكحول قال : أنزل الله :﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ ﴾ [ الأنعام : ١٢١ ]، ثم نسخه الرب عزَّ وجلَّ ورحم المسلمين فقال :﴿ اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ ﴾ فنسخها بذلك وأحل طعام أهل الكتاب، وفي هذا الذي قاله مكحول رحمه الله نظر، فإنه لا يلزم من إباحته طعام أهل الكتاب إباحة أكل ما لم يذكر اسم الله عليه لأنهم يذكرون اسم الله على ذبائحهم وقرابينهم وهم متعبدون بذلك، ولهذا لم يبح ذبائح من عداهم من أهل الشرك ومن شابههم لأنهم لم يذكرا اسم الله على ذبائحهم، بل ولا يتوقفون فيما يأكلونه من اللحم على ذكاة، بل يأكلون الميتة بخلاف أهل الكتابين ومن شاكلهم من السامرة والصائبة ومن يتمسك بدين إبراهيم وشيث وغيرهما من الأنبياء على أحد قولي العلماء، ونصارى العرب كبني تغلب وتنوخ وبهرا وجذام ولخم وعاملة ومن أشبههم، لا تؤكل ذبائحهم عند الجمهور.
وقال أبو جعفر بن جرير عن محمد بن عبيدة قال، قال علي : لا تأكلوا ذبائح بني تغلب لأنهم إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر، وكذا قال غير واحد من الخلف والسلف. وقوله تعالى :﴿ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ﴾ أي ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم، وليس هذا إخباراً عن الحكم عندهم، اللهم إلاّ أن يكون خبراً عما أمروا به من الأكل من كل طعام ذكر اسم الله عليه، سواء كان من أهل ملتهم أو غيرها، والأول أظهر في المعنى أي ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم، وهذا من باب المكافأة والمقابلة والمجازاة، كما ألبس النبي ﷺ ثوبه لعبد الله بن أبي بن سلول حين مات ودفنه فيه، قالوا : لأنه كان قد كسا العباس حين قدم المدينة ثوبه، فجازاه النبي ﷺ بذلك، فأما الحديث الذي فيه :« لا تصحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلاّ تقي » فمحمول على الندب والاستحباب، والله أعلم.
615
وقوله تعالى :﴿ والمحصنات مِنَ المؤمنات ﴾ أي وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات، وذكر هذا توطئة لما بعده وهو قوله تعالى :﴿ والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ ﴾ فقيل أراد بالمحصنات الحرائر دون الإماء حكاه ابن جرير عن مجاهد، وإنما قال مجاهد : المحصنات الحرائر، فيحتمل أن يكون أراد ما حكاه عنه، ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة، كما قال في الرواية الأخرى عنه، وهو قول الجمهور هاهنا، وهو الأشبه لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية، وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل :« حشفاً وسوء كيله ». والظاهر من الآية أن المراد من المحصنات : العفيفات عن الزنا كما قال تعالى في الآية الأخرى :﴿ محصنات غَيْرَ مسافحات وَلاَ متخذات أَخْدَانٍ ﴾ [ النساء : ٢٥ ] ؛ وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية، ويقول : لا أعلم شركاً أعظم من أن تقول إن ربها عيسى، وقد قال الله تعالى :﴿ وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ ﴾ [ البقرة : ٢٢١ ] الآية. وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس : نزلت هذه الآية ﴿ وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ ﴾ [ البقرة : ٢٢١ ] قال : فحجز الناس عنهن حتى نزلت الآية التي بعدها :﴿ والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ ﴾ فنكح الناس نساء أهل الكتاب، وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأساً أخذاً بهذه الآية الكريمة ﴿ والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ ﴾ فجعلوا هذه مخصصة للتي في سورة البقرة ﴿ وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ ﴾ [ الآية : ٢٢١ ] إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها، وإلا فلا معارضة بينها وبينها لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع، كقوله تعالى :﴿ لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين مُنفَكِّينَ حتى تَأْتِيَهُمُ البينة ﴾ [ البينة : ١ ]، وقوله :﴿ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾ أي مهورهن، أي كما هن محصنات عفائف، فابذلوا لهن المهور عن طيب نفس. وقد أفتى جابر بن عبد الله وإبراهيم النخعي والحسن البصري : بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها أنه يفرق بينهما، وترد عليه ما بذل لها من المهر، رواه ابن جرير عنهم.
وقوله تعالى :﴿ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ ﴾. فكما شرط الإحصان في النساء، وهي العفة عن الزنا، كذلك شرطها في الرجال، وهو أن يكون الرجل أيضاً محصناً عفيفاً، ولهذا قال غير مسافحين، وهم الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية ولا يردون أنفسهم عمن جاءهم ﴿ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ ﴾ أي ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلاّ معهن، ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إلى أنه لا يصح نكاح المرأة البغي حتى تتوب، وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف، وكذلك لا يصح عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنا لهذا الآية، وللحديث :
616
« لا ينكح الزاني المجلود إلاّ مثله »، وقال ابن جرير عن الحسن قال، قال عمر بن الخطاب : لقد هممت أن لا أدع أحداً أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة، فقال له أبي بن كعب : يا أمير المؤمنين الشرك أعظم من ذلك، وقد يقبل منه إذا تاب، وسيأتي الكلام على هذه المسألة مستقصى عند قوله :﴿ الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ﴾ [ النور : ٣ ] ولهذا قال تعالى هاهنا :﴿ وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين ﴾.
617
قال كثيرون من السلف في قوله تعالى :﴿ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة ﴾ يعني وأنتم محدثون، وقال آخرون إذا قمتم من النوم إلى الصلاة وكلاهما قريب. وقال آخرون : بل المعنى أعم من ذلك، فالآية آمرة بالوضوء عند القيام إلى الصلاة ولكن هو في حق المحدث واجب، وفي حق المتطهر ندب، وكان النبي ﷺ يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر : يا رسول الله إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله، قال :« إني عمداً فعلته يا عمر » رواه مسلم وأهل السنن.
وقال ابن جرير عن الفضل بن المبشر قال : رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات بوضوء واحد، فإذا بال أو أحدث توضأ ومسح بفضل طهوره الخفين، فقلت : أبا عبد الله أشيء تصنعه برأيك؟ قال : بل رأيت النبي ﷺ يصنعه فأنا أصنعه كما رأيت رسول الله يصنعه، وفي فعل ابن عمر ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة دلالة على استحباب ذلك كما هو مذهب الجمهور.
وكان علي رضي الله عنه يتوضأ عند كل صلاة ويقرأ هذه الآية :﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة ﴾ الآية.
وقال ابن جرير عن أنس قال : توضأ عمر بن الخطاب وضوءاً فيه تجوز خفيفاً فقال : هذا وضوء من لم يحدث، وهذا إسناد صحيح. وقال محمد بن سيرين : كان الخلفاء يتوضأون لكل صلاة، أما مشروعيته استحباباً فقد دلت السنّة على ذلك، فعن أنس بن مالك قال : كان النبي ﷺ يتوضأ عند كل صلاة، قال : قلت : فأنتم كيف كنتم تصنعون؟ قال : كنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم نحدث. وقد رواه البخاري وأهل السنن. وقال ابن جرير عن ابن عمر قال، قال رسول الله ﷺ :« من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات ».
وقال ابن جرير، وقد قال قوم : إن هذه الآية نزلت إعلاماً من الله أن الوضوء لا يجب إلاّ عند القيام إلى الصلاة دون غيرها من الأعمال، وذلك لأنه عليه السلام كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى يتوضأ، وعن عبد الله بن علقمة بن وقاص عن أبيه قال : كان رسول الله ﷺ إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا ونسلم عليه فلا يرد علينا، حتى نزلت آية الرخصة :﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة ﴾ الآية، وقال أبو داود عن عبد الله بن عباس :« أن رسول الله ﷺ خرج من الخلاء فقدم إليه طعام فقالوا : ألا نأتيك بوضوء؟ فقال :» إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة «
618
وقوله :﴿ فاغسلوا وُجُوهَكُمْ ﴾ قد استدل طائفة من العلماء بقوله تعالى :﴿ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ ﴾ على وجوب النية في الوضوء، لأن تقدير الكلام : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم لها، كما تقول العرب إذا رأيت الأمير فقم، . أي له. وقد ثبت في الصحيحين حديث :« الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى »، ويستحب قبل غسل الوجه أن يذكر اسم الله تعالى على وضوئه، لما ورد في الحديث من طرق جيدة عن جماعة من الصحابة، عن النبي ﷺ أنه قال :« لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه »، ويستحب أن يغسل كفيه قبل إدخالهما في الإناء، ويتأكد ذلك عند القيام من النوم، لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال :« إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثاً، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده » وحد الوجه عند الفقهاء ما بين منابت شعر الرأس، ولا اعتبار بالصلع ولا بالغمم إلى منتهى اللحيين والذقن طولاً، ومن الإذن إلى الإذن عرضاً، ويستحب للمتوضىء أن يخلل لحيته إذا كانت كثيفة.
قال أبو داود عن أنس بن مالك :« أن رسول الله ﷺ كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماء فأدخله تحت حنكه يخلل به لحيته، وقال :» هكذا أمرني به ربي عزَّ وجلَّ « قال البيهقي : وروينا في تخليل اللحية عن عمار وعائشة وأم سلمة عن النبي ﷺ، وروينا في الرخصة في تركه عن ابن عمر والحسن بن علي، وقد ثبت عن النبي ﷺ من غير وجه في الصحاح وغيرها أنه كان إذا توضأ تمضمض واستنشق، فاختلف الأئمة في ذلك، هل هما واجبان في الوضوء والغسل كما هو مذهب أحمد بن حنبل رحمه الله، أو مستحبان فيهما كما هو مذهب الشافعي ومالك، أو يجبان في الغسل دون الوضوء، كما هو مذهب أي حنيفة، أو يجب الاستنشاق دون المضمضة كما هو رواية عن الإمام أحمد، لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال :» من توضأ فليستنشق «، وفي رواية :» إذا توضأ أحدكم فليجعل في منخريه من الماء ثم لينثر « والانتثار هو المبالغة في الاستنشاق.
وقال الإمام أحمد عن ابن عباس : أنه توضأ فغسل وجهه، أخذ غرفة من ماء فتمضمض بها واستنثر، ثم أخذ غرفة فجعل بها هكذا، يعني أضافها إلى يده الأخرى فغسل بها وجهه، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى، ثم مسح رأسه ثم أخذ غرفة من ماء ثم رش على رجله اليمنى حتى غسلها ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها رجله اليسرى ثم قال : هكذا رأيت رسول الله يعني يتوضأ.
619
ورواه البخاري. وقوله :﴿ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق ﴾ أي مع المرافق كما قال تعالى :﴿ وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ﴾ [ النساء : ٢ ] ويستحب للمتوضىء أن يشرع في العضد فيغسله مع ذراعيه لما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال، قال رسول الله ﷺ :« إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل » وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : سمعت خليلي يقول :« تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء ».
وقوله تعالى :﴿ وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ ﴾ اختلفوا في هذه الباء هل هي للإلصاق وهو الأظهر أو للتبعيض؟ وفيه نظر على قولين ومن الأصوليين من قال : هذا مجمل فليرجع في بيانه إلى السنة. وقد ثبت في الصحيحين عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رجلاً قال لعبد الله بن زيد بن عاصم - وهو جد عمرو بن يحيى وكان من أصحاب النبي ﷺ - : هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد : نعم فدعا بوضوء فأفرغ على يديه فغسل يديه مرتين مرتين ثم مضمض واستنشق ثلاثاً وغسل وجهه ثلاثاً ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ثم غسل رجليه.
وروى أبو داود عن معاوية والمقداد بن معد يكرب في صفة وضوء رسول الله ﷺ مثله ففي هذه الأحاديث دلالة لمن ذهب إلى وجوب تكميل مسح جميع الرأس كما هو مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل لا سيما على قول من زعم أنها خرجت مخرج البيان لما أجمل في القرآن. وقد ذهب الحنفية إلى وجوب ربع الرأس وهو مقدار الناصية وذهب أصحابنا إلى أنه إنما يجب ما يطلق عليه اسم مسح ولا يتقدر ذلك بحد بل لو مسح بعض شعرة من راسه أجزأه لحديث المغيرة بن شعبة قال : تخلف النبي فتخلفت معه فلما قضى حاجته قال : هل معك ماء؟ فأتيته بمطهرة فغسل كفيه ووجهه ثم ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كم الجبة فأخرج يديه من تحت الجبة وألقى الجبة على منكبيه فغسل ذراعيه ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خفيه. وذكر باقي الحديث وهو في صحيح مسلم وغيره ثم اختلفوا في أنه هل يستحب تكرار مسح الرأس ثلاثاً كما هو المشهور من مذهب الشافعي أو إنما يستحب مسحة واحدة كما هو مذهب أحمد بن حنبل ومن تابعه لحديث حمران بن أبان قال : رأيت عثمان بن عفان توضأ فأفرغ على يديه ثلاثاً فغسلهما ثم تمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا ثم غسل اليسرى مثل ذلك ثم مسح براسه ثم غسل قدمه اليمنى ثلاثاً ثم اليسرى ثلاثاً مثل ذلك ثم قال : رأيت رسول الله ﷺ توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال :
620
« من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه » وفي سنن أبي داود عن عثمان في صفة الوضوء ومسح برأسه مرة واحدة واحتج من استحب تكرار مسح الرأس بعموم الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وقال أبو داود عن حمران قال : رأيت عثمان بن عفان توضأ فذكر نحوه ولم يذكر المضمضة والاستنشاق قال فيه : ثم مسح رأسه ثلاثاً ثم غسل رجليه ثلاثاً ثم قال رأيت رسول الله ﷺ توضأ هكذا، وقال :« من توضأ هكذا كفاه » تفرد به أبو داود، ثم قال : وأحاديث عثمان في الصحاح تدل على أنه مسح الرأس مرة واحدة.
وقوله تعالى :﴿ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين ﴾ قرىء ﴿ وَأَرْجُلَكُمْ ﴾ بالنصب عطفاً على ﴿ فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ﴾ رجعت إلى الغسل وهذه قراءة ظاهرة في وجوب الغسل، كما قاله السلف. ومن هاهنا ذهب من ذهب إلى وجوب الترتيب في الوضوء كما هو مذهب الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة حيث لم يشترط الترتيب، بل لو غسل قدميه ثم مسح رأسه وغسل يديه ووجهه أجزأه ذلك؛ لأن الآية أمرت بغسل هذه الأعضاء، والواو لا تدل على الترتيب قال بعضهم : لما ذكر الله تعالى هذه الصفة في هذه الآية على هذا الترتيب، فقطع النظير عن النظير، وأدخل الممسوح بين المغسولين دل ذلك على إرادة الترتيب، وأما القراءة الأخرى، وهي قراءة من قرأ ﴿ وأرجلِكم ﴾ بالخفض، فقد احتج بها الشيعة في قولهم بوجوب مسح الرجلين لأنها عندهم معطوفة على مسح الرأس. وإنما جاءت هذه القراءة بالخفض إما على المجاورة وتناسب الكلام، كما في قول العرب : جحر ضب خرب، وكقوله تعالى :﴿ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ﴾ [ الإنسان : ٢١ ] وهذا ذائع شائع في لغة العرب سائغ، ومنهم من قال : هي محمولة على مسح القدمين إذا كان عليهما الخفان، قال الشافعي رحمه الله، ومنهم من قال : هي دالة على مسح الرجلين. ولكن المراد بذلك الغسل الخفيف كما وردت به السنّة. وعلى كل تقدير فالواجب غسل الرجلين فرضاً لا بد منه للآية والأحاديث التي سنوردها، ومن أحسن ما يستدل به على أن المسح يطلق على الغسل الخفيف ما رواه الحافظ البيهقي عن علي ابن أبي طالب أنه صلى الظهر، ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر، ثم أتى بكوز من ماء، فأخذ منه حفنة واحدة فمسح بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه، ثم قام فشرب فضلته وهو قائم، ثم قال : إن ناساً يكرهون الشرب قائماً وإن رسول الله ﷺ صنع كما صنعت، وقال :
621
« هذا وضوء من لم يحدث »، رواه البخاري في الصحيح ببعض معناه. ومن أوجب من الشيعة مسحهما كما يمسح الخف فقد ضل وأضل، وكذا من جوز مسحهما وجوز غسلهما فقد أخطأ أيضاً، ومن نقل عن أبي جعفر بن جرير أنه أوجب غسلهما للأحاديث وأوجب مسحهما للآية فلم يحقق مذهبه في ذلك، فإن كلامه في تفسيره إنما يدل على أنه أراد أنه يجب دلك الرجلين من دون سائر أعضاء الوضوء لأنهما يليان الأرض والطين وغير ذلك، فأوجب دلكهما ليذهب ما عليهما، ولكنه عبر عن الدلك بالمسح، فاعتقد من لم يتأمل كلامه أنه أراد وجوب الجمع بين غسل الرجلين ومسحهما فحكاه من حكاه كذلك؛ ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء وهو معذور، فإنه لا معنى للجمع بين المسح والغسل سواء تقدمه أو تأخر عليه لاندارجه فيه، وإنما أراد الرجل ما ذكرته والله أعلم، ثم تأملت كلامه أيضاً فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين في قوله :﴿ وأرجلكم ﴾ خفضاً على المسح وهو الدلك، ونصباً على الغسل فأوجبهما أخذاً بالجمع بين هذه وهذه.
( ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وأنه لا بد منه )
قد تقدم في حديث أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه : أن رسول الله ﷺ غسل الرجلين في وضوئه إما مرة وإما مرتين أو ثلاثاً على اختلاف رواياتهم، وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ توضأ فغسل قدميه ثم قال :« هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به » وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو قال :« تخلف عنا رسول الله ﷺ في سفرة سافرناها فأدركنا، وقد أرهقتنا الصلاة : صلاة العصر، ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته :» أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار «، وفي رواية :» ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار «، رواه البيهقي والحاكم. وقال الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال :» رأى النبي ﷺ في رِجل رجلٍ مثل الدرهم لم يغسله فقال :« ويل للأعقاب من النار » وقال ابن جرير عن أبي أمامة : أن رسول الله ﷺ أبصر قوماً يصلون وفي عقب أحدهم أو كعب أحدهم مثل موضع الدرهم أو موضع الظفر لم يمسه الماء فقال :
622
« ويل للأعقاب من النار »، قال : فجعل الرجل إذا رأى في عقبه شيئاً لم يصبه الماء أعاد وضوءه. ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهر، وذلك أنه لو كان فرض الرجلين مسحهما أو أنه يجوز ذلك فيهما لما توعد على تركه، لأن المسح لا يستوعب جميع الرجل بل يجري فيه ما يجري في مسح الخف، وهكذا وجه هذه الدلالة على الشيعة الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى، وقد روى مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب :« أن رجلاً توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي ﷺ وقال :» ارجع فأحسن وضوءك « وقال الإمام أحمد عن خالد بن معدان عن بعض أزواج النبي ﷺ أنه رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره رسول الله ﷺ أن يعيد الوضوء. ورواه أبو داود وزاد » والصلاة « وهذا إسناد جيد قوي صحيح، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد، قال أبو أمامة : حدثنا عمرو بن عبسة، قال، قلت : يا رسول الله أخبرني عن الوضوء؟ قال :»
ما منكم من أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر، إلاّ خرت خطايه من فمه وخياشيمه مع الماء حين ينتثر، ثم يغسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلاّ خرت خطايا يديه من أطراف أنامله، ثم يمسح رأسه إلاّ خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله إلاّ خرت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء ثم يقوم فيحمد الله ويثني عليه بالذي هو له أهل، ثم يركع ركعتين إلاّ خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه « قال أبو أمامة : يا عمرو انظر ما تقول، سمعت هذا من رسول الله ﷺ، أيعطي هذا الرجل كله في مقامه؟ فقال عمرو بن عبسة : يا أبا أمامة لقد كبرت سني، ورق عظمي، واقترب أجلي، وما بي حاجة أن أكذب على الله وعلى رسول الله ﷺ، لو لم أسمعه من رسول الله ﷺ إلاّ مرة أو مرتين أو ثلاثاً لقد سمعته سبع مرات أو أكثر من ذلك، وهذا إسناد صحيح، وهو في صحيح مسلم من وجه آخر، وفيه : ثم يغسل قدميه كما أمره الله فدل على أن القرآن يأمر بالغسل، وهكذا روي عن علي بن ابي طالب رضي الله عنه أنه قال : اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أمرتم، وقد روى أبو داود عن أوس بن ابي أوس، قال : رأيت رسول الله ﷺ أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على نعليه وقدميه.
623
وقد رواه ابن جرير من طريق شعبة ثم قال : وهذا محمول على أنه توضأ كذلك وهو غير محدث، إذ كان غير جائز أن تكون فرائض الله وسنن رسوله متنافية متعارضة، وقد صح عنه ﷺ الأمر بعموم غسل القدمين في الوضوء بالماء بالنقل المستفيض القاطع عذر من انتهى إليه وبلغه، ولما كان القرآن آمراً بغسل الرجلين كما في قراءة النصب، وكما هو الواجب في حمل قراءة الخفض عليها توهم بعض السلف أن هذه الآية ناسخة لرخصة المسح على الخفين، وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب، ولكن لم يصح إسناده، ثم الثابت عنه خلافه وليس كما زعموه، فإنه قد ثبت أن النبي ﷺ مسح على الخفين بعد نزول هذه الآية الكريمة. وقال الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله البجلي قال : أنا أسلمت بعد نزول المائدة، وأنا رأيت رسول الله ﷺ يمسح بعدما أسلمت، وفي الصحيحين عن همام قال : بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه فقيل : تفعل هذا؟ فقال : نعم، رأيت رسول الله ﷺ بال ثم توضأ ومسح على خفيه. قال الأعمش، قال إبراهيم : فكان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة، لفظ مسلم. وقد ثبت بالتواتر عن رسول الله ﷺ مشروعية المسح على الخفين قولاً منه وفعلاً، وقد خالفت الروافض في ذلك بلا مستند بل بجهل وضلال، مع أنه ثابت في صحيح مسلم من رواية أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، كما ثبت في الصحيحين عنه عن النبي ﷺ النهي عن نكاح المتعة وهم يستبيحونها، وكذلك هذه الآية الكريمة دالة على وجوب غسل الرجلين مع ما ثبت بالتواتر من فعل رسول الله ﷺ على وفق ما دلت عليه الآية الكريمة، وهم مخالفون لذلك كله وليس لهم دليل صحيح في نفس الأمر ولله الحمد، وهكذا خالفوا الأئمة والسلف في الكعبين اللذين في القدمين، فعندهم أنهما في ظهر القدم فعندهم في كل رجل كعب، وعند الجمهور أن الكعبين هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم. قال الربيع، قال الشافعي : لم أعلم مخالفاً في أن الكعبين اللذين ذكرهما الله في كتابه في الوضوء هما الناتئان وهما مجمع مفصل الساق والقدم هذا لفظه.
قوله تعالى :﴿ وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ ﴾ كل ذلك قد تقدم الكلام عليه في تفسير آية النساء، فلا حاجة بنا إلى إعادته لئلا يطول الكلام، وقد ذكرنا سبب نزول آية التيمم هناك، ولكن البخاري روى هاهنا حديثاً خاصاً بهذه الآية الكريمة، فقال عن عائشة قالت : سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة فأناخ رسول الله ﷺ ونزل فثنى رأسه في حجري راقداً، فأقبل ابو بكر فلكزني لكزة شديدة، وقال : حبست الناس في قلادة فتمنيت الموت لمكان رسول الله مني؛ وقد أوجعني، ثم إن النبي استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد فنزلت :﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ ﴾ إلى آخر الآية، فقال أسيد بن الحضير : لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر ما أنتم إلا بركة لهم.
624
وقوله تعالى :﴿ مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ﴾ أي فلهذا سهل عليكم ويسر ولم يعسر بل أباح التيمم عند المرض وعند فقد الماء توسعة عليكم ورحمة بكم، وجعله في حق من شرع له يقوم مقام الماء إلاّ من بعض الوجوه كما تقدم بيانه.
وقوله تعالى :﴿ ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ أي لعلكم تشكرون نعمه عليكم فيما شرعه لكم من التوسعة والرأفة والرحمة والتسهيل والسماحة، وقد وردت السنّة بالحث على الدعاء عقب الوضوء بأن يجعل فاعله من المتطهرين الداخلين في امتثال هذه الآية الكريمة، كما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن عن عقبة بن عامر قال :« كانت علينا رعاية الإبل فجاءت نوبتي فروحتها بعشي، فأدركت رسول الله ﷺ قائماً يحدث الناس، فأدركت من قوله :» ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبلاً عليهما بقلبه ووجهه إلاّ وجبت له الجنة « قال، قلت : ما أجود هذه! فإذا قائل بين يدي يقول : التي قبلها أجود منها، فنظرت فإذا عمر رضي الله عنه فقال : إني قد رأيتك جئت آنفاً، قال :» ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء يقول أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء « لفظ مسلم. وروي عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال :» إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب «
625
رواه مسلم. وروى ابن جرير عن أبي أمامة قال، قال رسول الله ﷺ :« من توضأ فأحسن الوضوء، ثم قام إلى الصلاة خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه » وروى مسلم في صحيحه عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله ﷺ قال :« الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض، والصوم جنة، والصبر ضياء، والصدقة برهان، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدوا فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها » وفي صحيح مسلم عن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ :« لا يقبل الله صدقة من غلول، ولا صلاة بغير طهور ».
626
يقول تعالى مذكراً عباده المؤمنين نعمته عليهم في شرعه لهم هذا الدين العظيم، وإرساله إليهم هذا الرسول الكريم، وما أخذ عليهم من العهد والميثاق في مبايعته على متابعته ومناصرته ومؤازرته، والقيام بدينه، وإبلاغه عنه، وقبوله منه فقال تعالى :﴿ واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ وهذه هي البيعة التي كانوا يبايعون عليها رسول الله ﷺ عند إسلامهم كما قالوا : بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله. وقال الله تعالى :﴿ وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله والرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ [ الحديد : ٨ ] وقيل هذا تذكار لليهود بما أخذ عليهم من المواثيق والعهود في متابعة محمد ﷺ والانقياد لشرعه. وقيل : هو تذكار بما أخذ تعالى من العهد على ذرية آدم حين استخرجهم من صلبه وأشهدهم على أنفسهم ﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ]. قاله مجاهد والقول الأول أظهر، وهو المحكي عن ابن عباس والسدي، واختاره ابن جرير. ثم قال تعالى :﴿ واتقوا الله ﴾ تأكيد وتحريض على مواظبة التقوى في كل حال ثم أعلمهم أنه يعلم ما يختلج في الضمائر من الأسرار والخواطر، فقال :﴿ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور ﴾ وقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ ﴾ أي كونوا قوامين بالحق لله عزَّ وجلَّ لا لأجل الناس والسمعة، وكونوا ﴿ شُهَدَآءَ بالقسط ﴾ أي بالعدل لا بالجور، وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير أنه قال :« نحلني أبي نحلاً، فقالت أمي عمرة بنت رواحة : لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله ﷺ، فجاءه ليشهده على صدقتي فقال :» أكلَّ ولدك نحلتَ مثله؟ « قال : لا، فقال :» اتقوا الله واعدلوا في أولادكم «، وقال :» إني لا أشهد على جور « قال فرجع أبي فرد تلك الصدقة ».
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ ﴾ أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحد صديقاً كان أو عدواً، ولهذا قال :﴿ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى ﴾ أي عدلكم أقرب إلى التقوى من تركه، ودلَّ الفعل على المصدر الذي عاد الضمير عليه، كما في قوله :﴿ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا هُوَ أزكى لَكُمْ ﴾ [ النور : ٢٨ ] وقوله :﴿ هُوَ أَقْرَبُ للتقوى ﴾ من باب استعمال أفعل التفضيل في المحل الذي ليس في الجانب الآخر منه شيء، كما في قوله تعالى :﴿ أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٤ ]، وكقول بعض الصحابيات لعمر : أنت أفظَّ وأغلظ من رسول الله ﷺ، ثم قال تعالى :﴿ واتقوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ أي وسيجزيكم على ما علم من أفعالكم التي عملتموها إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ولهذا قال بعده :﴿ وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ ﴾ أي لذنوبهم ﴿ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ وهو الجنة التي هي من رحمته على عباده، لا ينالونها بأعمالهم بل برحمة منه وفضل، وإن كان سبب وصول الرحمة إليهم أعمالهم، وهو تعالى الذي جعلها أسباباً إلى نيل رحمته وفضله وعفوه ورضوانه، فالكل منه وله، فله الحمد والمنة، ثم قال :﴿ والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ الجحيم ﴾ وهذا من عدله تعالى وحكمته وحكمه الذي لا يجوز فيه، بل هو الحكم العدل الحكيم القدير.
627
وقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ﴾، روي أن النبي ﷺ نزل منزلاً وتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها، وعلق النبي ﷺ سلاحه بشجرة، فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله ﷺ فأخذه فسله، ثم أقبل على النبي ﷺ فقال : من يمنعك مني؟ قال :« الله عزَّ وجلَّ » قال الأعرابي مرتين أو ثلاثاً : من يمنعك مني؟ والنبي ﷺ يقول :« الله »، قال فَشَامَ الأعرابي السيف، فدعا النبي ﷺ أصحابه، فأخبرهم خبر الأعرابي وهو جالس إلى جنبه ولم يعاقبه. وقصة هذا الأعرابي وهو ( غورث ابن الحارث ) ثابتة في الصحيح. وقال ابن عباس : إن قوماً من اليهود صنعوا لرسول الله ﷺ ولأصحابه طعاماً ليقتلوهم، فأوحى الله إليه بشأنهم، وقال أبو مالك : نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه حين أرادوا أن يغدروا بمحمد وأصحابه في دار كعب بن الأشرف وذكر محمد بن إسحاق بن يسار : أنها نزلت في شأن بني النضير حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله ﷺ الرحى لما جاءهم يستعينهم في دية العامريين، ووكلوا ( عمرو بن جحاش ) بذلك، وأمروه إن جلس النبي ﷺ تحت الجداء أن يلقي تلك الرحى من فوقه، فأطلع الله النبي ﷺ على ما تمالأوا عليه، فرجع إلى المدينة وتبعه أصحابه، فأنزل الله في ذلك هذه الآية. وقوله تعالى :﴿ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون ﴾ يعني من توكل على الله كفاه الله ما أهمه، وحفظه من شر الناس وعصمه.
628
لما أمر تعالى عباده المؤمنين بالوفاء بعهده وميثاقه الذي أخذه عليهم على لسان عبده ورسوله محمد ﷺ وأمرهم بالقيام بالحق والشهادة بالعدل، وذكرهم نعمه عليهم الظاهرة والباطنة فيما هداهم له من الحق والهدى، شرع يبين لهم كيف أخذ العهود والمواثيق على من كان قبلهم من أهل الكتابين ( اليهود والنصارى ) فلما نقضوا عهوده ومواثيقه أعقبهم ذلك لعناً منه لهم، وطرداً عن بابه وجنابه، وحجاباً لقلوبهم عن الوصول إلى الهدى ودين الحق وهو العلم النافع والعمل الصالح فقال تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً ﴾ يعني عرفاء على قبائلهم بالمبايعة والسمع والطاعة لله ولرسوله ولكتابه، وقد ذكر ابن عباس أن هذا كان لما توجه موسى عليه السلام لقتال الجبابرة، فأمر بأن يقيم نقباء من كل سبط نقيب، وهكذا لما بايع رسول الله الأنصار ليلة العقبة كان فيهم اثنا عشر نقيباً، ثلاثة من الأوس وهم : أسيد بن الحضير وسعد بن خيثمة وأبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنهم، وتسعة من الخزرج وهم : أبو أمامة أسعد بن زرارة، وسعد بن الربيع، وعبد الله بن رواحة، ورافع بن مالك بن العجلان، والبراء بن معرور، وعبادة بن الصامت، وسعد بن عبادة، وعبد الله بن عمرو بن حرام، والمنذر بن عمر بن خنيس رضي الله عنهم، وقد ذكرهم كعب بن مالك في شعر له، كما أورده ابن إسحاق رحمه الله. والمقصود أن هؤلاء كانوا عرفاء على قومهم ليلتئذ عن أمر النبي ﷺ لهم بذلك، وهم الذين ولوا المعاقدة والمبايعة عن قومهم للنبي ﷺ على السمع والطاعة.
قال الإمام أحمد عن مسروق قال :« كنا جلوساً عند عبد الله بن مسعود، وهو يقرئنا القرآن فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول ﷺ الله كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبد الله : ما سألني منها أحد منذ قدمت العراق قبلك، ثم قال : نعم، ولقد سألنا رسول الله ﷺ فقال :» إثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل « وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين من حديث جابر بن سمرة قال : سمعت النبي ﷺ يقول :» لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً «، ثم تكلم النبي ﷺ بكلمة خفيت عليَّ، فسألت، أي ماذا قال النبي ﷺ ؟ قال :» كلهم من قريش «. ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحاً يقيم الحق ويعدل فيهم، ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم، بل قد وجد أربعة على نسق، وهم الخلفاء الأربعة : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ومنهم ( عمر بن عبد العزيز ) بلا شك عند الأئمة، وبعض بني العباس، ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة، والظاهر أن منهم ( المهدي ) المبشر به في الأحاديث الواردة بذكره، فذكر أنه يواطىء اسمه اسم النبي ﷺ واسم أبيه، فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، وليس هذا بالمنتظر الذي تتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب سامرا، فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية بل هو من هوس العقول السخيفة، وتوهم الخيالات الضعيفة وليس المراد بهؤلاء الخلفاء الاثني عشر الأئمة الاثني عشر الذين يعتقد فيهم الروافض لجهلهم وقلة عقلهم.
629
وفي التوراة البشارة بإسماعيل عليه السلام وأن الله يقيم من صلبه اثني عشر عظيماً وهم هؤلاء الخلفاء الاثنا عشر المذكورون في حديث ابن مسعود وجابر بن سمرة. وبعض الجهلة ممن أسلم من اليهود إذا اقترن بهم بعض الشيعة يوهمونهم أنهم الأئمة الاثنا عشر فيتشيع كثير منهم جهلاً وسفهاً لقلة علمهم وعلم من لقنهم ذلك بالسنن الثابتة عن النبي ﷺ.
وقوله تعالى :﴿ وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ ﴾ أي بحفظي وكلاءتي ونصري ﴿ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَآتَيْتُمُ الزكاة وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي ﴾ أي صدقتموهم فيم يجيئونكم به من الوحي ﴿ وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ﴾ أي نصرتموهم ووازرتموهم على الحق ﴿ وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً ﴾ وهو الإنفاق في سبيله وابتغاء مرضاته ﴿ لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ أي ذنوبكم أمحوها وأسترها ولا أؤاخذكم بها ﴿ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ أي أدفع عنكم المحذور وأحصل لكم المقصود وقوله :﴿ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل ﴾ أي فمن خالف هذا الميثاق بعد عقده وتوكيده فقد أخطأ الطريق الواضح وعدل عن الهدى إلى الضلال. ثم أخبر تعالى عما حل بهم من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده فقال :﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ ﴾ أي فبسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم لعناهم أي أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى ﴿ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ﴾ أي فلا يتعظون بموعظة لغلظها وقساوتها، ﴿ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ ﴾ أي فسدت فهومهم وساء تصرفهم في آيات الله، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله وحملوه على غير مراده وقالوا عليه ما لم يقل، عياذاً بالله من ذلك ﴿ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ ﴾ أي وتركوا العمل به رغبة عنه. وقال الحسن : تركوا عرى دينهم ووظائف الله تعالى التي لا يقبل العمل إلاّ بها. وقال غيره : تركوا العمل فصاروا إلى حالة رديئة فلا قلوب سليمة ولا فطر مستقيمة ولا أعمال قويمة ﴿ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ ﴾ يعني مكرهم وغدرهم لك ولأصحابك. وقال مجاهد : يعني بذلك تمالؤهم على الفتك برسول الله ﷺ :﴿ فاعف عَنْهُمْ واصفح ﴾، وهذا هو عين النصر والظفر كما قال بعض السلف « ما عاملتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه » وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق ولعل الله أن يهديهم، ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين ﴾ يعني به الصفح عمن أساء إليك.
630
وقال قتادة : هذه الآية :﴿ فاعف عَنْهُمْ واصفح ﴾ منسوخة بقوله :﴿ قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر ﴾ [ التوبة : ٢٩ ] الآية.
وقوله تعالى :﴿ وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ ﴾ أي ومن الذين ادعوا أنهم نصارى متابعون المسيح ابن مريم عليه السلام وليسو كذلك، أخذنا عليهم العهود والمواثيق على متابعة الرسول ﷺ ومناصرته وموازرته واقتفاء آثاره، وعلى الإيمان بكل نبي يرسله الله إلى أهل الأرض، ففعلوا كما فعل اليهود : خالفوا المواثيق ونقضوا العهود، ولهذا قال تعالى :﴿ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة ﴾ أي فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضاً ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة. وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين يكفر بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً، فكل فرقة تحرم الأخرى ولا تدعها تلج معبدها : فالملكية تكفر اليعقوبية، وكذلك الآخرون، وكذلك النسطورية والأريوسية، كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. ثم قال تعالى :﴿ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾ وهذا تهديد ووعيد أكيد للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله وعلى رسوله، وما نسبوه إلى الرب عزَّ وجلَّ وتقدس عن قولهم علواً كبيراً من جعلهم له صاحبة وولداً، تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
631
يقول تعالى مخبراً عن نفسه الكريمة أنه قد أرسل رسوله محمداً ﷺ بالهدى ودين الحق إلى جميع أهل الأرض، عربهم وعجمهم، أميهم وكتابيهم، وأنه بعثه بالبينات والفرق بين الحق والباطل، فقال تعالى :﴿ يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ﴾ أي يبين ما بدلوه وحرفوه وأولوه وافتروا على الله فيه، ويسكت عن كثير مما غيروه ولا فائدة في بيانه. وقد روى الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنه قال : من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب لقوله تعالى :﴿ يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب ﴾ فكان الرجم مما أخفوه. ثم أخبر تعالى عن القرآن العظيم الذي أنزله على نبيه الكريم فقال :﴿ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام ﴾ أي طرق النجاة والسلامة ومناهج الاستقامة ﴿ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ أي ينجيهم من المهالك، ويوضح لهم أبين المسالك، فيصرف عنهم المحذور، ويحصل لهم أحب الأمور، وينفي عنهم الضلالة ويرشدهم إلى أقوم حالة.
يقول تعالى مخبراً وحاكياً بكفر النصارى في ادعائهم في المسيح بن مريم وهو عبد من عباد الله، وخلق من خلقه أنه هو الله، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، ثم قال مخبراً عن قدرته على الأشياء وكونها تحت قهره وسلطانه ﴿ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً ﴾ أي لو أراد ذلك فمن ذا الذي كان يمنعه منه؟ أو من ذا الذي يقدر على صرفه عن ذلك؟ ثم قال :﴿ وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾ أي جميع الموجودات ملكه وخلقه وهو القادر على ما يشاء لا يسأل عما يفعل بقدرته وسلطانه وعدله وعظمته، هذا رد على النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، ثم قال تعالى راداً على اليهود والنصارى في كذبهم وافترائهم :﴿ وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾ أي نحن منتسبون إلى أنبيائه وهم بنوه وله بهم عناية وهو يحبنا، ونقلوا عن كتابهم أن الله تعالى قال لعبده إسرائيل : أنت ابني بكري، فحملوا هذا على غير تأويله وحرفوه، وقد رد عليهم غير واحد ممن أسلم من عقلائهم. وقالوا : هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام، كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم يعني ربي وربكم، ومعلوم أنهم لم يدعوا لأنفسهم من البنوة ما ادعوها في عيسى عليه السلام، وإنما أرادوا من ذلك معزتهم لديه وحظوتهم عنده، ولهذا قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه. قال الله تعالى راداً عليهم :﴿ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ﴾ أي لو كنتم كما تدعون أبناءه وأحباءه فلم أعد لكم نار جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم؟ وقد قال بعض شيوخ الصوفية لبعض الفقهاء : أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فلم يرد عليه، فتلا عليه الصوفي هذه الآية :﴿ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ﴾ ؟ وهذا الذي قال حسن.
﴿ بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ﴾ أي لكم أسوة أمثالكم من بني آدم وهو سبحانه الحاكم في جميع عباده ﴿ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ﴾ أي هو فعال لما يريد لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، ﴿ وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ أي الجميع ملكه وتحت قهره وسلطانه ﴿ وَإِلَيْهِ المصير ﴾ أي المرجع والمآب إليه فيحكم في عباده بما يشاء وهو العادل الذي لا يجوز. وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال : أتى رسول الله ﷺ نعمانُ بن آصا، وبحري بن عمرو، وشاس بن عدي فكلموه وكلمهم رسول الله ﷺ، ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته، فقالوا : ما تخوفنا يا محمد! نحن والله أبناء الله وأحباؤه؛ كقول النصارى، فأنزل الله فيهم :﴿ وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾ الآية.
يقول تعالى مخاطباً أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأنه أرسل إليهم رسوله محمداً ﷺ خاتم النبيين الذي لا نبي بعده ولا رسول بل هو المعقب لجميعهم، ولهذا قال : على فترة من الرسل، أي بعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى ابن مريم، وقد اختلفوا في مقدار هذه الفترة كم هي، فقال قتادة : كانت ستمائة سنة، ورواه البخاري عن سلمان الفارسي وعن قتادة : خمسمائة وستون سنة، وقال الضحاك : أربعمائة وبضع وثلاثون سنة، وذكر ابن عساكر عن الشعبي أنه قال : ومن رفع المسيح إلى هجرة النبي ﷺ تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة. والمشهور هو القول الأول وهو أنها ستمائة سنة. وكانت الفترة بين عيسى بن مريم آخر أنبياء بني إسرائيل، وبين محمد خاتم النبيين من بني آدم على الإطلاق، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال :« أنا أولى الناس بابن مريم لأنه ليس بيني وبينه نبي » وهذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبي يقال له خالد بن سنان، والمقصود أن الله بعث محمداً ﷺ على فترة من الرسل، وطموس من السبل، وتغير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان، فكانت النعمة به أتم النعم، والحاجة إليه أمر عمم، فإن الفساد كان قد عم جميع البلاد، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد إلا قليلاً من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين، من بعض أحبار اليهود والنصارى والصابئين، كما قال الإمام أحمد : حدث يحيى بن سعيد عن عياض بن حماد المجاشعي أن النبي ﷺ خطب ذات يوم فقال في خطبته :« وإن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا : كل مال نحلته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإن الشياطين أتتهم فأضلتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم. وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، ثم إن الله عزَّ وجلَّ نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلاّ بقايا من بني إسرائيل. وقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرأه نائماً ويقظان. ثم إن الله أمرني أن أحرق قريشاً فقلت : يا رب إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، فقال : استخرجهم كما استخرجوك، واعزهم نغزك، وأنفق عليهم فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة أمثاله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك وأهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط موفق متصدق، ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم، ورجل عفيف فقير ذو عيال. وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا دين له، والذين هم فيكم تبع أو تبعاً - شك يحيى - لا يبتغون أهلاً ولا مالاً، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلاّ خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلاّ وهو يخادعك عن أهلك ومالك، وذكر البخل أو الكذب، والشنظير : الفاحش ».
634
والمقصود من إيراد هذا الحديث قوله :« وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عجمهم وعربهم إلاّ بقايا من بني إسرائيل »، وفي لفظ مسلم - من أهل الكتاب، وكان الدين قد التبس على الأرض حتى بعث الله محمداً ﷺ، فهدى الخلائق وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، وتركهم على المحجة البيضاء والشريعة الغراء، ولهذا قال تعالى :﴿ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ ﴾ أي لئلا تحتجوا وتقولوا : ما جاءنا من رسول يبشر بالخير وينذر من الشر، ﴿ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ﴾ يعني محمداً ﷺ، ﴿ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ قال ابن جرير : معناه إني قادر على عقاب من عصاني وثواب من أطاعني.
635
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وكليمه ( موسى بن عمران ) عليه السلام، فيما ذكر به قومه من نعم الله عليه وآلائه لديهم في جمعه لهم خير الدنيا والآخرة لو استقاموا على طريقتهم المستقيمة، فقال تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ ﴾، أي كلما هلك نبي قام فيكم نبي من لدن أبيكم إبراهيم إلى من بعده، وكذلك كانوا لا يزال فيهم الأنبياء يدعون إلى الله، ويحذرون نقمته حتى ختموا بعيسى ابن مريم عليه السلام، ثم أوحى الله إلى خاتم الأنبياء والرسل على الإطلاق محمد بن عبد الله المنسوب إلى إسماعيل ابن إبراهيم عليه السلام وهو أشرف من كل من تقدمه منهم ﷺ. وقوله :﴿ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً ﴾ قال عبد الرزاق عن ابن عباس في قوله ﴿ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً ﴾ قال : الخادم والمرأة والبيت وعنه قال : كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له الزوجة والخادم والدار سمي ملكاً. وقال ابن جرير عن عبد الله بن عمرو بن العاص وساله رجل فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد الله : ألك امرأة تأوي إليها؟ قال : نعم، قال : ألك مسكن تسكنه؟ قال : نعم، قال : فأنت من الأغنياء. فقال : إن لي خادماً، قال : فأنت من الملوك. وقال الحسن البصري : هل الملك إلاّ مركب وخادم ودار، ورواه ابن جرير. وقال السدي قي قوله ﴿ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً ﴾ قال : يملك الرجل منكم نفسه وماله وأهله، وقد ورد في الحديث :« من أصبح منكم معافى في جسده، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فكأنهما حيزت له الدنيا بحذافيرها ».
وقوله تعالى :﴿ وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين ﴾ يعني عالمي زمانكم، فإنهم كانوا أشرف الناس في زمانهم من اليونان والقبط وسائر أصناف بني آدم كما قال :﴿ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العالمين ﴾ [ الجاثية : ١٦ ]. وقال تعالى إخباراً عن موسى :﴿ قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين ﴾ [ الأعراف : ١٤٠ ] والمقصود أنهم كانوا أفضل أمم زمانهم، وإلا فهذه الأمة أشرف منهم، وأفضل عند الله، وأكمل شريعة، وأقوم منهاجاً، وأكرم نبياً، وأعظم ملوكاً، وأغزر أرزاقاً، وأكثر أموالاً وأولاداً، وأوسع مملكة، وأدوم عزاً. قال الله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ]. وقد ذكرنا الأحاديث المتواترة في فضل هذه الأمة وشرفها وكرمها عند الله عند قوله تعالى :﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [ آل عمران : ١١٠ ]، وقيل : المراد ﴿ وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين ﴾ يعني بذلك ما كان تعالى نزله عليهم من المن والسلوى، ويظللهم به من الغمام، وغير ذلك مما كان تعالى يخصهم به من خوارق العادات، فالله أعلم. ثم قال تعالى مخبراً عن تحريض موسى عليه السلام لبني إسرائيل على الجهاد، والدخول إلى بيت المقدس الذي كان بأيديهم في زمان أبيهم يعقوب، لما ارتحل هو وبنوه وأهله إلى بلاد مصر أيام يوسف عليه السلام ثم لم يزالوا بها، حتى خرجوا مع موسى، فوجدوا فيها قوماً من العمالقة الجبارين قد استحوذوا عليها وتملكوها، فأمرهم رسول الله موسى عليه السلام بالدخول إليها، وبقتال أعدائهم، وبشرهم بالنصر والظفر عليهم، فنكلوا بالذهاب وعصوا وخالفوا أمره، فعوقبوا في التيه، والتمادي في سيرهم حائرين لا يدرون كيف يتوجهون فيه إلى مقصد مدة أربعين سنة، عقوبة لهم على تفريطهم في أمر الله تعالى، فقال تعالى مخبراً عن موسى أنه قال :﴿ يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ ﴾ أي المطهرة.
636
عن ابن عباس قال : هي الطور وما حوله، وكذا قال مجاهد وغير واحد.
وقوله تعالى :﴿ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ أي التي وعدكموها الله على لسان أبيكم إسرائيل أنه وراثة من آمن منكم، ﴿ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ ﴾ أي تنكلوا عن الجهاد ﴿ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا ياموسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ﴾ أي اعتذروا بأن في هذه البلدة التي أمرتنا بدخولها وقتال أهلها قوماً جبارين ذوي خلق هائلة وقوى شديدةأ وإنا لا نقدر على مقاومتهم ولا مصاولتهم، ولا يمكننا الدخول إليها ما داموا فيها، فإن يخرجوا منها دخلناها، وإلا فلا طاقة لنا بهم.
وقوله تعالى :﴿ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا ﴾ أي فلما نكل بنوا إسرائيل عن طاعة الله ومتابعة رسول الله ﷺ موسى حرضهم رجلان، لله عليهما نعمة عظيمة وهما ممن يخاف أمر الله ويخشى عقابه. وقرأ بعضهم :﴿ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ ﴾ أي ممن لهم مهابة وموضع من الناس، ويقال إنهما ( يوشع بن نون ) و ( كالب بن يوفنا ) ؛ قاله ابن عباس ومجاهد عكرمة وغير واحد من السلف والخلف رحمهم الله، فقالا :﴿ ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى الله فتوكلوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ أي إن توكلتم على الله واتبعتم أمره ووافقتم رسوله نصركم الله على أعدائكم، وأيدكم وظفركم بهم، ودخلتم البلد التي كتبها الله لكم؛ فلم ينفع ذلك فيهم شيئاً ﴿ قَالُواْ ياموسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾، وهذا نكول منهم عن الجهاد ومخالفة لرسولهم، وتخلف عن مقاتلة الأعداء، ويقال : إنهم لما نكلوا على الجهاد، وعزموا على الإنصراف والرجوع إلى مصر، سجد موسى وهارون عليهما السلام قدام ملأ من بني إسرائيل إعظاماً لما هموا به، وشق يوشع بن نون وكالب بن يوفنا ثيابهما، ولاما قومهما على ذلك، فيقال : إنهم رجموهما، وجرى أمر عظيم وخطر جليل.
وما أحسن ما أجاب به الصحابة رضي الله عنهم يوم بدر رسول الله ﷺ، حين استشارهم في قتال النفير فتكلم أبو بكر رضي الله عنه فأحسن، ثم تكلم من تكلم من الصحابة من المهاجرين ورسول الله ﷺ يقول :
637
« أشيروا عليَّ أيها المسلمون » وما يقول ذلك إلاّ ليستعلم ما عند الأنصار لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذ، فقال سعد بن معاذ : كأنك تعرض بنا يا رسول الله فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلَّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبرٌ في الحرب، صُدق في اللقاء لعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله. فسُرَّ رسول الله ﷺ بقول سعد ونشطه ذلك. وممن أجاب يومئذ ( المقداد بن عمرو الكندي ) رضي الله عنه، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : لقد شهدت من المقداد مشهداً، لأن أكون أنا صاحبه أحب إليّ مما عدل به، أتى رسول الله ﷺ وهو يدعو على المشركين فقال : والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنوا إسرائيل لموسى ﴿ فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ ولكنا نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن بين يديك ومن خلفك، فرأيت وجه رسول الله ﷺ أشرق لذلك وسره ذلك، وهكذا رواه البخاري في المغازي، ولفظه في كتاب التفسير عن عبد الله قال، قال المقداد يوم بدر يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى ﴿ فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾، ولكن امض ونحن معك. فكأنه سري عن رسول الله ﷺ.
وقوله تعالى :﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين ﴾ يعني لما نكل بنو إسرائيل عن القتال غضب عليهم موسى عليه السلام، وقال داعياً عليهم :﴿ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي ﴾ أي ليس أحد يطيعني منهم فيمتثل أمر الله ويجيب إلى ما دعوت إليه إلا أنا وأخي هارون ﴿ فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين ﴾ قال ابن عباس : يعني اقض بيني وبينهم، وكذا قال الضحاك : اقض بيننا وبينهم، وافتح بيننا وبينهم، وقال غيره : افرق افصل بيننا وبينهم، كما قال الشاعر :
يا رب فافرق بينه وبيني أشد ما فرَّقت بين اثنين
وقوله تعالى :﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض ﴾ الآية، لما دعا عليهم موسى عليه السلام حين نكلوا عن الجهاد حكم الله بتحريم دخولها عليهم قدر مدة أربعين سنة، فوقعوا في التيه يسيرون دائماً لا يهتدون للخروج منه. وفيه كانت أمور عجيبة وخوارق كثيرة : من تظليلهم بالغمام، وإنزال المن والسلوى عليهم، ومن إخراج الماء الجاري من صخرة صماء تحمل معهم على دابة، فإذا ضربها موسى بعصاه انفجرت من ذلك الحجر اثنتا عشرة عيناً : تجري لكل شعب عين، وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها موسى بن عمران.
638
وهناك نزلت التوراة، وشرعت لهم الأحكام. عن سعيد بن جبير : سألت ابن عباس عن قوله :﴿ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض ﴾ الآية. قال : فتاهوا في الأرض أربعين سنة يصبحون كل يوم يسيرون ليس لهم قرار، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه، وأنزل عليهم المن والسلوى. وهذا قطعة من حديث الفتون. ثم كانت وفاة هارون عليه السلام، ثم بعده بمدة ثلاث سنين وفاة موسى الكليم عليه السلام، وأقام الله فيهم ( يوشع بن نون ) عليه السلام نبياً خليفة عن موسى بن عمران، ومات أكثر بني إسرائيل هناك في تلك المدة، ويقال : إنه لم يبق منهم أحد سوى يوشع وكالب، فلما انقضت المدة خرج بهم يوشع بن نون عليه السلام، أو بمن بقي منهم وبسائر بني إسرائيل من الجيل الثاني، فقصد بهم بيت المقدس فحاصرها، فكان فتحها يوم الجمعة بعد العصر. فلما تضيفت الشمس للغروب وخشي دخول السبت عليهم قال : إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي؛ فحبسها الله تعالى حتى فتحها. وأمر الله ( يوشع بن نون ) أن يأمر بني إسرائيل حين يدخلون بيت المقدس أن يدخلوا بابها سجداً، وهم يقولون حطة : أي حط عنا ذنوبنا، فبدلوا ما أمروا به، ودخلوا يزحفون على أستاههم، هم يقولون : حبة في شعرة، وقد تقدم هذا كله في سورة البقرة.
وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه قوله :﴿ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض ﴾ قال : فتاهوا أربعين سنة، قال : فهلك موسى وهارون في التيه وكل من جاوز الأربعين سنة، فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم يوشع بن نون، وهو الذي قام بالأمر بعد موسى، وهو الذي افتتحها، فوجد فيها من الأموال ما لم ير مثله قط، فقربوه إلى النار، فلم تأته، فقال : فيكم الغلول، فدعا رؤوس الأسباط، وهم اثنا عشر رجلاً، فبايعهم، والتصقت يد رجل منهم بيده، فقال : الغلول عندك، فأخرجه، فأخرج رأس بقرة من ذهب فوضعه مع القربان فأتت النار فأكلته. وهذا السياق له شاهد في الصحيح. وقد اختار ابن جرير أن قوله :﴿ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ﴾ هو العامل في أربعين سنة، وأنهم مكثوا لا يدخلونها أربعين سنة، وهم تائهون في البرية لا يهتدون لمقصد، قال : خرجوا مع موسى عليه السلام ففتح بهم بيت المقدس، ثم احتج على ذلك بإجماع علماء أخبار الأولين أن ( عوج ابن عنق ) قتله موسى عليه السلام قال : فلو كان قتله إياه قبل التيه لما رهبت بنو إسرائيل من العماليق، فدل على أنه كان بعد التيه قال : وأجمعوا على أن ( بلعام بن باعورا ) أعان الجبارين بالدعاء على موسى، قال : وما ذاك إلاّ بعد التيه، لأنهم كانوا قبل التيه لا يخافون من موسى وقومه.
639
وقوله تعالى :﴿ فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين ﴾ تسلية لموسى عليه السلام عنهم، أي لا تأسف ولا تحزن عليهم فيما حكمت عليهم به فإنهم مستحقون ذلك، وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود بينا فضائحم ومخالفتهم لله ولرسوله، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمرهم به من الجهاد فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم ومقاتلتهم، مع أن بين أظهرهم رسول الله ﷺ وكليمه وصفيه من خلقه في ذلك الزمان، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم، هذا مع ما شهدوا من فعل الله بعدوهم فرعون من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليم، وهم ينظرون لتقر به أعينهم وما بالعهد من قدم، ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازي عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم، فظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل، ولا يسترها الذيل، هذا وهم في جهلهم يعمهون، وفي غيهم يترددون، وهم البغضاء إلى الله وأعداؤه، ويقولون مع ذلك نحن أبناء الله وأحباؤه، فقبح الله وجوههم التي مسخ منها الخنازير والقرود، وألزمهم لعنة تصحبهم إلى النار ذات الوقود، ويقضي لهم فيه بتأبيد الخلود، وقد فعل، وله الحمد من جميع الوجود.
640
يقول تعالى مبيناً وخيم عاقبة البغي والحسد والظلم في خبر ابني آدم وهما ( قابيل وهابيل )، كيف عدا أحدهم على الآخر، فقتله بغياً عليه وحسداً له، فيما وهبه الله من النعمة وتقبل القربان الذي أخلص فيه لله عزَّ وجلَّ، ففاز المقتول بوضع الآثان والدخول إلى الجنة، وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدارين، فقال تعالى :﴿ واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابني ءَادَمَ بالحق ﴾ أي اقصص على هؤلاء البغاة الحسدة أخوان الخنازير والقردة من اليهود وأمثالهم وأشباههم خبر ابني آدم. وهما ( هابيل وقابيل ) فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف. وقوله :﴿ بالحق ﴾ أي على الجلية والأمر الذي لا لبس فيه ولا كذب، ولا وهم ولا تبديل، ولا زيادة ولا نقصان، كقوله تعالى :﴿ إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق ﴾ [ آل عمران : ٦٢ ]، وقوله تعالى :﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق ﴾ [ الكهف : ١٣ ]، كان من خبرهما فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف، أن الله تعالى شرع لآدم عليه السلام أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال، ولكن قالوا : كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى، فكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر، وكانت أخت ( هابيل ) دميمة وأخت ( قابيل ) وضيئة، فأراد أن يستأثر بها على أخيه، فأبى آدم ذلك إلاّ أن يقربا قرباناً، فمن تقبل منه فهي له، فتقبل من هابيل، ولم يتقبل من قابيل، فكان من أمرهما ما قصه الله في كتابه.
قال السدي عن ابن عباس وعن ابن مسعود : أنه كان لا يولد لآدم مولود إلاّ ومعه جارية، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر، ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر. حتى ولد له ابنان يقال لهما هابيل وقابيل، كان قابيل صاحب زرع، وكان هابيل صاحب ضرع، وكان قابيل أكبرهما، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل، وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل، فأبى عليه، وقال هي أختي ولدت معي، وهي أحسن من أختك، وأنا أحق أن أتزوج بها، وأنهما قربا قرباناً إلى الله عزَّ وجلَّ أيهما أحق بالجارية، قرب هابيل جذعة سمينة، وقرب قابيل حزمة سنبل، فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها وأكلها، فنزلت النار فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، فغضب، وقال لأقتلنك حتى لا تنكح أختي، فقال هابيل :﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين ﴾. وقال ابن جرير عن عبد الله بن عمرو قال : إن ابني آدم اللذين قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، كان أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، وإنهما أمرا أن يقربا قرباناً، وإن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها طيبة بها نفسه، وإن صاحب الحرث قرب أشر حرثه الكوزن والزوان، غير طيبة بها نفسه، وإن الله تقبل قربان صاحب الغنم، ولم يتقبل قربان صاحب الحرث، وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه، قال : وايم الله إن كان المقتول لأشد الرجلين، ولكن منعه التحرج أن يبسط يده إلى أخيه.
641
وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول : أن آدم أمر ابنه قابيل أن ينكح أخته توأمة هابيل، وأمر هابيل أن ينكح أخته توأمة قابيل، فسلم لذلك هابيل ورضي، وأبى ذلك قابيل وكره تكرماً عن هابيل، ورغب بأخته عن هابيل، وقال : نحن من ولادة الجنة، وهما من ولادة الأرض، وأنا أحق بأختي ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول : كانت أخت قابيل من أحسن الناس، فضن بها على أخيه وأرادها لنفسه فقال له أبوه : يا بني إنها لا تحل لك، فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه، قال له أبوه : يا بني قرب قرباناً ويقرب أخوك هابيل قرباناً فأيكما تقبل قربانه فهو أحق بها، وكان قابيل على بذر الأرض، وكان هابيل على رعاية الماشية، فقرب قابيل قمحاً وقرب هابيل أبكاراً من أبكار غنمه، وبعضهم يقول : قرب بقرة، فأرسل الله ناراً بيضاء فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله. رواه ابن جرير، ثم المشهور عند الجمهور أن الذي قرب الشاة هو هابيل، وأن الذي قرب الطعام هو قابيل، وأنه تقبل من هابيل شاته، حتى قال ابن عباس وغيره : إنها الكبش الذي فدي به الذبيح وهو مناسب، والله أعلم. ولم يتقبل من قابيل، كذلك نص عليه غير واحد من السلف والخلف وهو المشهور عن مجاهد أيضاً.
ومعنى قوله :﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين ﴾ أي ممن اتقى الله في فعله ذلك. وفي الحديث عن معاذ بن جبل، قال : يحبس الناس في بقيع واحد ينادي مناد، أي المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر، قلت : من المتقون؟ قال : قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا العبادة فيمرون إلى الجنة.
وقوله تعالى :﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين ﴾ يقول له أخوه الرجل الصالح الذي تقبل الله قربانه لتقواه، حين توعده أخوه بالقتل عن غير ما ذنب منه إليه ﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ ﴾ أي لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله، فأكون أنا وأنت سواء في الخطيئة ﴿ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين ﴾ أي من أن أصنع كما تريد أن تصنع بل أصبر وأحتسب، قال عبد الله بن عمرو : وايم الله إن كان لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج يعني الورع؛ ولهذا ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال :
642
« » إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار « قالوا : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال :» إنه كان حريصاً على قتل صاحبه « وقال الإمام أحمد عن بشر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال، عند فتنة عثمان : أشهد أن رسول الله ﷺ قال :» « إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي » قال : أفرأيت إن دخل على بيتي فبسط يده إليَّ ليقتلني؟ فقال :« كن كابن آدم » قال أيوب السختياني : إن أول من أخذ بهذه الآية من هذه الأمة ﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين ﴾ لعثمان بن عفان رضي الله عنه، رواه ابن أبي حاتم.
وقوله تعالى :﴿ إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النار وَذَلِكَ جَزَآءُ الظالمين ﴾ قال ابن عباس ومجاهد : أي بإثم قتلي وإثمك الذي عليك قبل ذلك، وقال آخرون : يعني بذلك إني أريد أن تبوء بخطيئتي فتتحمل وزرها وإثمك في قتلك إياي. عن مجاهد ﴿ إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ﴾ يقول : إني أريد أن يكون عليك خطيئتي ودمي فتبوء بهما جميعاً. ( قلت ) : وقد يتوهم كثير من الناس هذا القول ويذكرون في ذلك حديثاً لا أصل له « ما ترك القاتل على المقتول من ذنب ». وقد روى الحافط أبو بكر البزار حديثاً يشبه هذا ولكن ليس به فقال عن عائشة، قالت، قال رسول الله ﷺ :« قتل الصبر لا يمر بذنب إلاّ محاه »، وهذا بهذا لا يصح، ولو صح فمعناه أن الله يكفر عن المقتول بألم القتل ذنوبه، فأما أن تحمل على القاتل فلا، ولكن قد يتفق هذا في بعض الأشخاص وهو الغالب، فإن المقتول يطالب القاتل في العرصات، فيؤخذ له من حسناته بقدر مظلمته، فإن نفدت ولم يستوف حقه أخذ من سيئات المقتول فطرحت على القاتل، فربما لا يبقى على المقتول خطيئة إلاّ وضعت على القاتل. وقد صح الحديث بذلك عن رسول الله ﷺ في المظالم كلها، والقتل من أعظمها وأشدها والله أعلم. فإن قيل : كيف أراد هابيل أن يكون على أخيه قابيل إثم قتله؟ والجواب أن هابيل أخبر عن نفسه بأنه لا يقاتل أخاه إن قاتله بل يكف عنه يده طالباً إن وقع قتل أن يكون من أخيه لا منه. وهذا الكلام متضمن موعظة له لو اتعظ وزجراً لو انزجر، ولهذا قال :﴿ إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ﴾ أي تتحمل إثمي وإثمك ﴿ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النار وَذَلِكَ جَزَآءُ الظالمين ﴾ وقال ابن عباس : خوفه بالنار فلم ينته ولم ينزجر.
643
وقوله تعالى :﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين ﴾ أي فحسنت وسولت له نفسه وشجعته على قتل أخيه فقتله أي بعد هذه الموعظة، وهذا الزجر. وقد تقدم أنه قتله بحديدة في يده، وقال السدي :﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ﴾ فطلبه ليقتله فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال، فأتاه يوماً من الأيام، وهن يرعى غنماً له، وهو نائم، فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات، فتركه بالعراء. رواه ابن جرير. وعن بعض أهل الكتاب أنه قتله خنقاً وعضاً كما تقتل السباع. وقال ابن جرير : لما أراد أن يقتله جعل يلوي عنقه، فأخذ إبليس دابة ووضع رأسها على حجر ثم أخذ حجراً آخر فضرب به رأسها حتى قتلها، وابن آدم ينظر، ففعل بأخيه مثل ذلك. وقال عبد الله ابن وهب : أخذ برأسه ليقتله فاضطجع له وجعل يغمز رأسه وعظامه ولا يدري كيف يقتله، فجاءه إبليس فقال : أتريد أن تقتله قال : نعم قال : فخذ هذه الصخرة فاطرحها على رأسه، قال : فأخذها فألقاها عليه فشدخ رأسه، ثم جاء إبليس إلى حواء مسرعاً، فقال : يا حواء إن قابيل قتل هابيل فقالت له : ويحك وأي شيء يكون القتل؟ قال : لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك، قالت : ذلك الموت؟ قال : فهو الموت، فجعلت تصيح حتى دخل عليها آدم وهي تصيح، فقال : مالك؟ فلم تكلمه فرجع إليها مرتين فلم تكلمه، فقال : عليك الصيحة وعلى بناتك، وأنا وبني منها برآء. رواه ابن أبي حاتم. وقوله :﴿ فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين ﴾ أي في الدنيا والآخرة وأي خسارة أعظم من هذه. عن عبد الله بن مسعود قال، قال رسول الله ﷺ :« لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل »، وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود.
وقوله تعالى :﴿ فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين ﴾ قال السدي : لما مات الغلام تركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفن، فبعث الله غرابين أخوين، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له ثم حثى عليه، فلما رآه قال :﴿ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ﴾ ؟ وقال ابن عباس : جاء غراب إلى غراب ميت فبحث عليه من التراب حتى وراه، فقال الذي قتل أخاه ﴿ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ﴾، وقال الضحاك عن ابن عباس : مكث يحمل أخاه في جراب على عاتقه سنة حتى بعث الله الغرابين فرآهما يبحثان فقال :﴿ أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب ﴾ فدفن أخاه. وزعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل قال له الله عزَّ وجلَّ : يا قابيل أين أخوك هابيل؟ قال : ما أدري ما كنت عليه رقيباً، فقال الله : إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض الآن، أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها، فتلقت دم أخيك من يدك، فإن أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها، حتى تكون فزعاً تائهاً في الأرض.
644
وقوله تعالى :﴿ فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين ﴾ قال الحسن البصري : علاه الله بندامة بعد خسران. فهذه أقوال المفسرين في هذه القصة، وكلهم متفقون على أن هذين ابنا آدم لصلبه كما هو ظاهر القرآن، وكما نطق به الحديث في قوله :« إلاّ كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل »، وهذا ظاهر جلي. وقال رسول الله ﷺ :« إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلاً فخذوا من خيرهم ودعوا شرهم »، والظاهر أن قابيل عوجل بالعقوبة، كما ذكره مجاهد وابن جبير : أنه علقت ساقه بفخذه يوم قتله وجعل الله وجهه إلى الشمس حيث دارت عقوبة له وتنكيلاً به. وقد ورد في الحديث أن النبي ﷺ قال :« ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم »، وقد اجتمع في فعل قابيل هذا وهذا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
645
يقول تعالى من أجل قتل ابن آدم أخاه ظلماً وعدواناً ﴿ كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ ﴾ أي شرعنا لهم وأعلمناهم ﴿ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً ﴾ أي من قتل نفساً بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض، واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية، فكأنما قتل الناس جميعاً، لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس، ومن أحياها أي حرم قتلها واعتقد ذلك فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار، ولهذا قال :﴿ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ﴾. وقال الأعمش عن أبي هريرة قال : دخلت على عثمان يوم الدار فقلت : جئت لأنصرك، وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين، فقال : يا أبا هريرة أيسرك أن تقتل الناس جميعاً وإياي معهم؟ قلت : لا. قال : فإنك إن قتلت رجلاً واحداً فكأنهما قتلت الناس جميعاً، فانصرف مأذوناً لك، مأجوراً غير مأزور، قال : فانصرفت ولم أقاتل. وقال ابن عباس هو كما قال الله تعالى :﴿ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ﴾ وإحياؤها ألا يقتل نفساً حرمها الله فذلك الذي أحيا الناس جميعاً، يعني أنه من حرم قتلها إلاّ بحق حيي الناس منه؛ وهكذا قال مجاهد، ومن أحياها أي كف عن قتلها. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله ﴿ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً ﴾ يقول : من قتل نفساً واحدة حرمها الله فهو مثل من قتل الناس جميعاً. وقال سعيد بن جبير : من استحل دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس جميعاً، ومن حرم دم مسلم فكأنما حرم دماء الناس جميعاً، هذا قول وهو الأظهر، وقال مجاهد في رواية أخرى عنه : من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً وذلك لأن من قتل النفس فله النار فهو كما لو قتل الناس كلهم. وقال مجاهد في رواية ﴿ وَمَنْ أَحْيَاهَا ﴾ أي أنجاها من غرق أو حرق أو هلكة. وقال الحسن وقتادة في قوله : أنه ﴿ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً ﴾ هذا تعظيم لتعاطي القتل. قال قتادة عظيم والله وزرها، وعظيم والله أجرها. وقال ابن المبارك عن سليمان الربعي قال، قلت للحسن : هذه الآية لنا يا أبا سعيد كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال : أي والذي لا إله غيره كما كانت لبني إسرائيل، وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا. وقال الإمام أحمد :« جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله ﷺ : فقال : يا رسول الله اجعلني على شيء أعيش به، فقال رسول الله ﷺ :» يا حمزة نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها « قال : بل نفس أحييها، قال :» عليك بنفسك «
646
، وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات ﴾ أي بالحجج والبراهين والدلائل الواضحة ﴿ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلك فِي الأرض لَمُسْرِفُونَ ﴾ وهذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها، كما كانت ( بنو قريظة ) و ( النضير ) يقاتلون مع الأوس والخزرج إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية، ثم إذا وضعت الحروب أوزارها فدوا من أسروه وودوا من قتلوه، وقد أنكر الله عليهم ذلك في سورة البقرة حيث يقول :﴿ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بالإثم وَالْعُدْوَانِ ﴾ [ الآية : ٨٥ ].
وقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض ﴾ الآية. المحاربة هي المضادة والمخالفة، وهي صادقة على الكفر وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر، حتى قال كثير من السلف منهم سعيد بن المسيب : إن قبض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض، وقد قال الله تعالى :﴿ وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد ﴾ [ البقرة : ٢٠٥ ]، ثم قال بعضهم : نزلت هذه الآية الكريمة في المشركين، كما قال ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري قالا :﴿ إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ إلى - أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه لم يكن عليه سبيل، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصاب. ورواه ابو داود والنسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً : نزلت في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه. وقال ابن عباس في قوله :﴿ إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً ﴾ الآية. قال : كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي ﷺ عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فخيّر الله رسوله إن شاء أن يقتل وإن شاء أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. رواه ابن جرير.
وروي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال : نزلت في الحرورية ﴿ إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً ﴾ رواه ابن مردويه، والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات كما رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك : أن نفراً من عكل ثمانية قدموا على رسول الله ﷺ فبايعوه على الإسلام فاستوخموا المدينة، وسقمت أجسامهم، فشكوا إلى رسول الله ﷺ ذلك، فقال :« ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبوا من أبوالها وألبانها » فقالوا : بلى، فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها، فصحوا، فقتلوا الراعي وطردوا الإبل، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فبعث في آثارهم فأدركوا فجيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا، لفظ مسلم.
647
وفي لفظ : وألقوا في الحرة فجعلوا يستسقون فلا يسقون، وعند البخاري، قال أبو قلابة : فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله.
وقال حماد بن سلمة عن أنس بن مالك : أن ناساً من عرينة قدموا المدينة فاجتووها، فبعثهم رسول الله ﷺ في إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا، فصحوا، فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، فأرسل رسول الله ﷺ في آثارهم، فجيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمر أعينهم، وألقاهم في الحرة؛ قال أنس : فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشاً حتى ماتوا، ونزلت :﴿ إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ ﴾ الآية. وقد رواه ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : ما ندمت على حديث ما ندمت على حديث سألني عنه الحجاج، قال : أخبرني عن أشد عقوبة عاقب بها رسول الله ﷺ ؟ قال : قلت : قدم على رسول الله ﷺ قوم من عرينة من البحرين، فشكوا إلى رسول الله ﷺ ما لقوا من بطونهم، وقد اصفرت ألوانهم، وضمرت بطونهم، فأمرهم رسول الله ﷺ أن يأتوا إبل الصدقة، فيشربوا من أبوالها وألبانها، حتى إذا رجعت إليهم ألوانهم وانخمصت بطونهم، عمدوا إلى الراعي فقتلوه، واستاقوا الإبل، فأرسل رسول الله ﷺ في آثارهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم، ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا، فكان الحجاج إذا صعد المنبر يقول : إن رسول الله ﷺ قطع أيدي قوم وأرجلهم ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا، بحال ذود من الإبل، فكان الحجاج يحتج بهذا الحديث على الناس.
وقد اعتنى الحافظ الجليل أبو بكر بن مردويه بتطريق هذا الحديث من وجوه كثيرة جداً فرحمه الله وأثابه. وقال ابن جرير : كان أناس أتوا رسول الله ﷺ فقالوا : نبايعك على الإسلام، فبايعوه وهم كذبة وليس الإسلام يريدون، ثم قالوا : إنا نجتوي المدينة، فقال النبي ﷺ : هذه اللقاح تغدو عليكم وتروح، فاشربوا من أبوالها وألبانها، قال : فبينما هم كذلك إذا جاءهم الصريخ، فصرخ إلى رسول الله ﷺ فقال : قتلوا الراعي، واستاقوا النعم، فأمر النبي ﷺ فنودي في الناس :« أن يا خيل الله اركبي » قال : فركبوا، لا ينتظر فارس فارساً، قال : وركب رسول الله ﷺ على أثرهم، فلم يزالوا يطلبونهم، حتى أدخلوهم مأمنهم، فرجع صحابة رسول الله ﷺ وقد أسروا منهم، فأتوا بهم النبي ﷺ، فأنزل الله :﴿ إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ ﴾ الآية، قال : فكان نفيهم أن نفوهم حتى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم ونفوهم من أرض المسلمين، وقتل نبي الله ﷺ منهم، وصلب، وقطع، وسمر الأعين، قال : فما مثل رسول الله ﷺ قبل ولا بعد، قال : ونهى عن المثلة، وقال :« ولا تمثلوا بشيء ».
648
وقد اختلف الأئمة في حكم هؤلاء العرنيين هل هو منسوخ أو محكم؟ فقال بعضهم : هو منسوخ بهذه الآية، وزعموا أن فيها عتاباً للنبي ﷺ، ومنهم من قال : هو منسوخ بنهي النبي ﷺ عن المثلة، وهذا القول فيه نظر. ثم قائله مطالب ببيان تأخر الناسخ الذي ادعاه عن المنسوخ، وقال بعضهم : كان هذا قبل أن تنزل الحدود، وفيه نظر، فإن قصته متأخرة. ومنهم من قال : لم يسمل النبي ﷺ أعينهم، وإنما عزم على ذلك حتى نزل القرآن فبين حكم المحاربين، وهذا القول أيضاً فيه نظر. فإنه قد تقدم في الحديث المتفق عليه أنه سمل، وفي رواية سمر أعينهم.
ثم قد احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء في ذهابهم إلى أن حكم المحاربة في الأمصار وفي السبلان على السواء لقوله :﴿ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً ﴾، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتاً فيقتله ويأخذ ما معه : إن هذه محاربة ودمه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول، ولا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط القتل. وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا تكون المحاربة إلاّ في الطرقات، فأما في الأمصار فلا، لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث، بخلاف الطريق لبعده ممن يغيثه ويعينه. وقوله تعالى :﴿ أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض ﴾ قال ابن عباس في الآية : من شهَرَ السلاح في فئة الإسلام، وأخاف السبيل، ثم ظُفِرَ به وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار إن شاء قتله وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله، وكذا قال سعيد بن المسيب ومجاهد والضحاك، ومستند هذا القول أن ظاهر ( أو ) للتخيير كما في نظائر ذلك في القرآن، كقوله في كفارة الفدية :
649
﴿ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ [ البقرة : ١٩٦ ]، وكقوله في كفارة اليمين :﴿ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾ [ المائدة : ٨٩ ] وهذه كلها على التخيير، فكذلك فلتكن هذه الآية. وقال الجمهور : هذه الآية منزلة على أحوال، كما قال الشافعي عن ابن عباس في قطاع الطريق : إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض. وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة. واختلفوا، هل يصلب حياً ويترك حتى يموت بمنعه من الطعام والشراب، أو يقتله برمح أو نحوه، أو يقتل أولاً ثم يصلب، تنكيلاً وتشديداً لغيره من المفسدين؟ في ذلك كله خلاف محرر في موضعه، وبالله الثقة، وعليه التكلان. وأما قوله تعالى :﴿ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض ﴾ قال بعضهم : هو أن يطلب حتى يقدر عليه فيقام عليه الحد أو يهرب من دار الإسلام، رواه ابن جرير عن ابن عباس، وقال آخرون : هو أن ينفى من بلده إلى بلد آخر، أو يخرجه السلطان أو نائبه من معاملته بالكلية. وقال عطاء الخراساني : ينفى من جند إلى جند سنين ولا يخرج من دار الإسلام، وكذا قال سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان : أنه ينفى ولا يخرج من أرض الإسلام. وقال آخرون : المراد بالنفي هاهنا السجن، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واختار ابن جرير : أن المراد بالنفي هاهنا أن يخرج من بلده إلى بلد آخر فيسجن فيه.
وقوله تعالى :﴿ ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ أي هذا الذي ذكرته من قتلهم ومن صلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ونفيهم، خزيٌ لهم بين الناس في هذه الحياة الدنيا، مع ما ادخر الله لهم من العذاب العظيم يوم القيامة، وهذا يؤيد قول من قال : إنها نزلت في المشركين، فأما أهل الإسلام ففي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : أخذ علينا رسول الله ﷺ كما أخذ على النساء ألا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا يَعْضَهُ بعضنا بعضاً، فمن وفى منكم فأجره على الله تعالى، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب فهو كفارة له، ومن ستره الله فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه. وعن علي قال : قال رسول الله ﷺ :« من أذنب ذنباً في الدنيا فعوقب به فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنباً في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود عليه في شيء قد عفا عنه » وقال ابن جرير ﴿ ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا ﴾ : يعني شر وعار ونكال وذلة وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة ﴿ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ أي إذا لم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا فلهم في الآخرة مع الجزاء الذي جازيتهم به في الدنيا والعقوبة التي عاقبتهم بها في الدنيا عذاب عظيم يعني عذاب جهنم.
650
وقوله تعالى :﴿ إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فاعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أما على قول من قال : إنها في أهل الشرك، فظاهر. وأما المحاربون المسلمون فإذا تابوا قبل القدرة عليهم فإنه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرجل، وهل يسقط قطع اليد أم لا؟ فيه قولان للعلماء، وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع وعليه عمل الصحابة.
وروى ابن جرير عن عامر الشعبي قال : جاء رجل من مراد إلى أبي موسى، وهو على الكوفة في إمارة عثمان رضي الله عنه بعدما صلى المكتوبة، فقال : يا أبا موسى هذا مقام العائذ بك، أنا فلان بن فلان المرادي، وإني كنت حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض فساداً، وإني تبت من قبل أن تقدروا علي، فقال أبو موسى : إن هذا فلان بن فلان، وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً، وإنه تاب من قبل أن نقدر عليه، فمن لقيه فلا يعرض له إلاّ بخير. فإن يك صادقاً فسبيل من صدق، وإن يك كاذباً تدركه ذنوبه، فأقام الرجل ما شاء الله، ثم إنه خرج فأدركه الله تعالى بذنوبه فقتله. ثم روى ابن جرير أن علياً الأسدي حارب، وأخاف السبيل، وأصاب الدم والمال، فطلبه الأئمة والعامة فامتنع، ولم يقدروا عليه حتى جاء تائباً، وذلك أنه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية :﴿ قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم ﴾ [ الزمر : ٥٣ ] فوقف عليه، فقال : يا عبد الله أعد قراءتها فأعادها عليه، فغمد سيفه، ثم جاء تائباً، حتى قدم المدينة من السحر، فاغتسل، ثم أتى مسجد رسول الله ﷺ فصلى الصبح، ثم قعد إلى أبي هريرة في أغمار أصحابه، فلما أسفروا عرفه الناس، فقاموا إليه، فقال : لا سبيل لكم علي، جئت تائباً من قبل أن تقدروا علي، فقال أبو هريرة : صدق، وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم، وهو أمير على المدينة في زمن معاوية فقال : هذا جاء تائباً ولا سبيل لكم عليه، ولا قتل، فترك من ذلك كله، قال : وخرج علي تائباً مجاهداً في سبيل الله في البحر، فلقوا الروم، فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم، فاقتحم على الروم في سفينتهم فهربوا منه إلى شقها الآخر، فمالت به وبهم، فغرقوا جميعاً.
651
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بتقواه، وهي إذا قرنت بطاعته كان المراد بها الانكفاف من المحارم وترك المنهيات، وقد قال بعدها ﴿ وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة ﴾ قال ابن عباس : أي القربة، وقال قتادة : أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه، والوسيلة هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود، والوسيلة أيضاً عَلَمٌ على أعلى منزلة في الجنة، وهي منزلة رسول الله ﷺ وداره في الجنة، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش، وقد ثبت في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله قال، قال رسول الله ﷺ :« من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، إلاّ حلت له الشفاعة يوم القيامة »، ( حديث آخر ) : في صحيح مسلم قال ﷺ :« إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ فإنه من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه عشراً، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلاّ لعبد من عباد الله، وأرجوا أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة » ( حديث آخر ) : عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال :« » إذا صليتم عليّ فسلوا لي الوسيلة «، قيل : يا رسول الله وما الوسيلة؟ قال :» أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلاّ رجل واحد، وأرجوا أن أكون أنا هو « عن ابن عباس قال، قال رسول الله ﷺ :» سلوا الله لي الوسيلة فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلاّ كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة «.
وقوله تعالى :﴿ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ لما أمرهم بترك المحارم وفعل الطاعات أمرهم بقتال الأعداء، من الكفار والمشركين الخارجين عن الطريق المستقيم. والتاركين للدين القويم، ورغبهم في ذلك بالذي أعده للمجاهدين في سبيله يوم القيامة، من الفلاح والسعادة العظيمة الخالدة المستمرة، التي لا تبيد ولا تحول ولا تزول في الغرف العالية الرفيعة، الآمنة الحسنة مناظرها، الطيبة مساكنها، التي من سكنها ينعم لا ييأس، ويحيى لا يموت لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه، ثم أخبر تعالى بما أعد لأعدائه الكفار من العذاب والنكال يوم القيامة فقال :﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي لو أن أحدهم جاء يوم القيامة بملء الأرض ذهباً وبمثله ليفتدي بذلك من عذاب الله الذي قد أحاط به، وتيقن وصوله إليه ما تقبل ذلك منه بل لا مندوحة عنه ولا محيص ولا مناص ولهذا قال.
652
﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي موجع، ﴿ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾، كما قال تعالى :﴿ كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا ﴾ [ الحج : ٢٢ ] الآية. فلا يزالون يريدون الخروج مما هم فيه من شدته وأليم مسه ولا سبيل لهم إلى ذلك، كلما رفعهم اللهب فصاروا في أعلى جهنم ضربتهم الزبانية بالمقامع الحديد فيردوهم إلى أسفلها ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾ أي دائم مستمر لا خروج لهم منها، ولا محيد لهم عنها، وقد قال رسول الله ﷺ :« يؤتى بالرجل من أهل النار، فيقال له يا ابن آدم كيف وجدت مضجعك؟ فيقول شر مضجع، فيقال له تفتدي بقراب الأرض ذهباً؟ قال فيقول : نعم يا رب، فيقول الله تعالى : كذبت قد سألتك أقل من ذلك فلم تفعل فيؤمر به إلى النار » وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال :« يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة » قال : فقلت لجابر بن عبد الله يقول الله :﴿ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا ﴾ قال : أتل أول الآية ﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ ﴾ الآية، ألا إنهم الذين كفروا. وعن طلق بن حبيب قال : كنت من أشد الناس تكذيباً بالشفاعة، حتى لقيت جابر بن عبد الله، فقرأت عليه كل آية أقدر عليها يذكر الله فيها خلود أهل النار فقال : يا طلق أتراك أقرأ لكتاب الله وأعلم بسنّة رسول الله مني؟ إن الذين قرأت هم أهلها هم المشركون، ولكن هؤلاء قوم أصابوا ذنوباً فعذبوا ثم أخرجوا منها ثم أهوى بيديه إلى أذنيه، فقال : صمَّتا إن لم أكن سمعت رسول الله ﷺ يقول :« يخرجون من النار بعدما دخلوا » ونحن نقرأ كما قرأت. رواه ابن مردويه.
653
يقول تعالى حاكماً وآمراً بقطع يد السارق والسارقة، وقد كان القطع معمولاً به في الجاهلية، فقرر في الإسلام وزيدت شروط أخر، كما سنذكره إن شاء الله تعالى، كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه وزيادات هي من تمام المصالح، وقد ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئاً قطعت يده به، سواء كان قليلاً أو كثيراً لعموم هذه الآية ﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا ﴾ فلم يعتبروا نصاباً ولا حرزاً، بل أخذوا بمجرد السرقة، وتمسكوا بما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال :« لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده »، وأما الجمهور فاعتبروا النصاب في السرقة، وإن كان قد وقع بينهم الخلاف في قدره، فذهب كل من الأئمة الأربعة إلى قول على حدة، فعند الإمام مالك رحمه الله النصاب ثلاثة دراهم مضروبة خالصة فمتى سرقها أو ما يبلغ ثمنها فما فوقه وجب القطع واحتج في ذلك بما رواه عن نافع عن ابن عمر : أن رسول الله ﷺ قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم، أخرجاه في الصحيحين، وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن الاعتبار في قطع يد السارق بربع دينار أو ما يساويه من الأثمان أو العروض فصاعداً، والحجة في ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال :« تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً »، ولمسلم أن رسول الله ﷺ قال :« لا تقطع يد السارق إلاّ في ربع دينار فصاعداً » قال أصحابنا : فهذا الحديث فاصل في المسألة، ونص في اعتبار ربع الدينار لا ما ساواه. قالوا : وحديث ثمن المجن، وأنه كان ثلاثة دراهم لا ينافي هذا، لأنه إذ ذاك كان الدينار باثني عشر درهماً فهي ثمن ربع دينار، فأمكن الجمع بهذا الطريق.
وذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى أن كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مرد شرعي، فمن سرق واحداً منهما أو ما يساويه قطع، عملاً بحديث ابن عمر وبحديث عائشة رضي الله عنها، ووقع في لفظ عند الإمام أحمد عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال :« اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك » وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم اثني عشر درهماً، وفي لفظ للنسائي :« لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن » قيل لعائشة : ما ثمن المجن؟ قالت : ربع دينار.
654
فهذه كلها نصوص دالة على عدم اشتراط عشرة دراهم، والله أعلم.
وأما الإمام أبو حنيفة وزفر وسفيان الثوري رحمهم الله فإنهم ذهبوا إلى أن النصاب به عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة، واحتجوا بأن ثمن المجن الذي قطع فيه السارق على عهد رسول الله ﷺ كان ثمنه عشرة دراهم. وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة عن ابن عباس قال : كان ثمن المجن على عهد النبي ﷺ عشرة دراهم. ثم قال : حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله ﷺ :« لا تقطع يد السارق في دون ثمن المجن » وكان ثمن المجن عشرة دراهم قالوا : فهذا ابن عباس وعبد الله بن عمرو قد خالفا ابن عمر في ثمن المجن، فالاحتياط الأخذ بالأكثر لأن الحدود تدرأ بالشبهات. وذهب بعض السلف إلى أنه تقطع يد السارق في عشرة دراهم أو دينار أو ما يبلغ قيمته واحداً منهما يحكي هذا عن علي وابن مسعود وإبراهيم النخعي رحمهم الله تعالى.
وقال بعض السلف : لا تقطع الخمس إلاّ في خمس أي في خمسة دنانير أو خمسين درهماً، وينقل هذا عن سعيد بن جبير رحمه الله، وقد أجاب الجمهور عما تمسك به الظاهرية من حديث أبي هريرة :« يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده » بأجوبة ( أحدها ) : أنه منسوخ بحديث عائشة، ( والثاني ) : أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن قاله الأعمش فيما حكاه البخاري وغيره عنه، ( والثالث ) : أن هذه وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده، ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في الجاهلية، حيث كانوا يقطعون في القليل والكثير، فلعن السارق الذي يبذل يده الثمينة في الأشياء المهينة، وقد ذكروا أن ابا العلاء المعري لما قدم بغداد اشتهر عنه أنه أورد إشكالاً على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار ونظم في ذلك شعراً دل على جهله، وقلة عقله فقال :
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار؟
تناقض مالنا إلاّ السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النار
ولما قال ذلك واشتهر عنه تطلبه الفقهاء فهرب منهم، وقد أجابه الناس في ذلك، فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله أن قال : لما كانت أمينة كانت ثمينة، ولما خانت هانت، ومنهم من قال : هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة، فإن في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار لئلا يجنى عليها، وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب، ولهذا قال :﴿ جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ أي مجازاة على صنيعها السيء في أخذها أموال الناس بأيديهم فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك ﴿ نَكَالاً مِّنَ الله ﴾ أي تنكيلاً من الله بهما على ارتكاب ذلك، ﴿ والله عَزِيزٌ ﴾ أي في انتقامه ﴿ حَكِيمٌ ﴾ أي في أمره ونهية وشرعه وقدره.
655
ثم قال تعالى :﴿ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله، فإن الله يتوب عليه فيما بينه وبينه، فأما أموال الناس فلا بد من ردها إليهم أو بدلها عند الجمهور، وقال أبو حنيفة : متى قطع، وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها.
وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو :« أن امرأة سرقت على عهد الرسول ﷺ، فجاء بها الذين سرقتهم، فقالوا : يا رسول الله إن هذه المرأة سرقتنا، قال قومها : فنحن نفديها، فقال رسول الله ﷺ :» اقطعوا يدها «، قالوا : نحن نفديها بخمسمائة دينار، فقال :» اقطعوا يدها «، فقطعت يدها اليمنى، فقالت المرأة هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال :» نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك «، فأنزل الله في سورة المائدة :﴿ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، وهذه المرأة المخزومية التي سرقت، وحديثها ثابت في الصحيحين. وعن ابن عمر قال : كانت امرأة مخزومية تستعير متاعاً على ألسنة جارتها وتجحده فأمر النبي ﷺ بقطع يدها. رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي. وقد ورد في أحكام السرقة أحاديث كثيرة مذكورة في كتاب الأحكام، ولله الحمد والمنة. ثم قال تعالى :﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض ﴾ أي هو المالك لجميع ذلك الحاكم فيه الذي لا معقب لحكمه وهو الفعال لما يريد، ﴿ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
656
نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عزَّ وجلَّ ﴿ مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ﴾، أي أظهروا بألسنتهم وقلوبهم خراب خاوية منه وهؤلاء هم المنافقون، ﴿ وَمِنَ الذين هَادُواْ ﴾ أعداء الإسلام وأهله وأهله وهؤلاء كلهم ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ﴾ أي مستجيبون له منفعلون عنه، ﴿ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ﴾ أي يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد، وقيل : المراد أنهم يتسمعون الكلام وينهونه إلى قوم آخرين ممن لا يحضر عندك من أعدائك، ﴿ يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ﴾ أي يتأولونه على غير تأويله ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون، ﴿ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا ﴾. قيل : نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلاً، وقالوا : تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد، فإن حكم بالدية فاقبلوه، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه. والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم، من الأمر برجم من أحصن منهم، فحرفوه، واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة، والتحميم، والإركاب على حمار مقلوبين، فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم : تعالوا حتى نتحاكم إليه، فإن حكم بالجلد والتحميم، فخذوا عنه، واجعلوه حجة بينكم وبين الله، يكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك.
وقد وردت الأحاديث بذلك، فقال مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما :« أن اليهود جاءوا إلى رسول الله ﷺ فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله ﷺ :» ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ « فقالو : نفضحهم ويجلدون، قال عبد الله بن سلام : كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك، فرفع يده، فإذا آية الرجم، فقالوا : صدق يا محمد، فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله ﷺ فرجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة » أخرجاه، وهذا لفظ البخاري وعند مسلم « أن رسول الله ﷺ أتي بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول الله ﷺ حتى جاء يهود فقال :» ما تجدون في التوراة على من زنى؟ « قالوا : نسود وجوههما ونحممها ونحملهما، ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما قال :﴿ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ آل عمران : ٩٣ ] قال فجاءوا بها فقرأوها، حتى إذا مر بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ ما بين يديها وما وراءها. فقال له عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله ﷺ : مره فليرفع يده، فرفع يده فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله ﷺ فرجما. قال عبد الله بن عمر : كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه »
657
عن البراء بن عازب قال :« مر على رسول الله ﷺ يهودي محمّم مجلود، فدعاهم، فقال :» أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ « فقالوا : نعم، فدعا رجلاً من علمائهم، فقال :» أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى! أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ « فقال : لا والله، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا : الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا : تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد، فقال النبي ﷺ :» اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه «، قال : فأمر به فرجم »، قال : فأنزل الله عزَّ وجلَّ :﴿ ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر ﴾ إلى قوله :﴿ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ ﴾ أي يقولون : ائتوا محمداً فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذورا إلى قوله :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون ﴾ قال في اليهود، إلى قوله :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون ﴾ [ المائدة : ٤٥ ] قال في اليهود :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون ﴾ [ المائدة : ٤٧ ] قال : في الكفار كلها، انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري.
فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله ﷺ حكم بموافقة حكم التوراة، وليس هذا من باب الإكرام لهم بما يعتقدون صحته، لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة، ولكن هذا بوحي خاص من الله عزَّ وجلَّ إليه بذلك وسؤاله إياهم عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم مما تواطأوا على كتمانه وجحده، وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة. فلما اعترفوا به مع عملهم على خلافه، بان زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، وعدولهم إلى تحكيم الرسول ﷺ، إنما كان عن هوى منهم وشهوة لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به، ولهذا قالوا :﴿ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا ﴾ أي الجلد والتحميم فخذوه أي اقبلوه ﴿ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا ﴾ أي من قبوله واتباعه. قال الله تعالى :﴿ وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ﴾ أي الباطل ﴿ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ﴾ أي الحرام وهو الرشوة كما قاله ابن مسعود وغير واحد، أي ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه وأنى يستجيب له؟ ثم قال لنبيه :﴿ فَإِن جَآءُوكَ ﴾ أي يتحاكمون إليك ﴿ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً ﴾ أي فلا عليك أن لا تحكم بينهم، لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم.
658
قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغير واحد هي منسوخة بقوله :﴿ وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله ﴾ [ المائدة : ٤٩ ]، ﴿ وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط ﴾ أي بالحق والعدل، وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل ﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين ﴾.
ثم قال تعالى منكراً عليهم في آرائهم الفاسدة ومقاصدهم الزائغة، في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، الذي يزعمون إنهم مأمورون بالتمسك به أبداً، ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم، فقال :﴿ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك وَمَآ أولئك بالمؤمنين ﴾ ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران فقال :﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ ﴾ أي لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها، ﴿ والربانيون والأحبار ﴾ أي وكذلك الربانيون منهم وهم العلماء والعبّاد، والأحبار وهم العلماء ﴿ بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله ﴾ أي بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به ﴿ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون ﴾ أي لا تخافوا منهم وخافوا مني ﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون ﴾ فيه قولان سيأتي بيانهما.
( سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات )
قال أبو جعفر بن جرير، عن عكرمة عن ابن عباس : إن الآيات التي في المائدة قوله :﴿ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ - إلى المقسطين ﴾ إنما أنزلت في الدية في ( بني النضير ) و ( بني قريظة )، وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف تؤدي الدية كاملة، وأن قريظة كانوا يؤدى لهم نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله ﷺ فأنزل الله ذلك فيهم فحملهم رسول الله ﷺ على الحق في ذلك، فجعل الدية في ذلك سواء، والله أعلم أي ذلك كان، ورواه أحمد وأبو داود والنسائي، ثم قال ابن جرير، عن ابن عباس قال : كانت قريظة والنضير، وكانت النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل القريظي رجلاً من النضير قتل به، وإذا قتل النضيري رجلاً من قريظة ودي بمائة وسق من تمر، فلما بعث رسول الله ﷺ قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة فقالوا : ادفعوه إليه، فقالوا : بيننا وبينكم رسول الله ﷺ فنزلت :﴿ وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط ﴾ ورواه أبو داود والنسائي، وابن حبان، والحاكم في المستدرك.
659
وقد روى العوفي عن ابن عباس : أن هذه الآيات نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، كما تقدمت الأحاديث بذلك. وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد، فنزلت هذه الآيات في ذلك كله، والله أعلم. ولهذا قال بعد ذلك :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين ﴾ [ المائدة : ٤٥ ] إلى آخرها، وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون ﴾ قال البراء بن عازب، وابن عباس، والحسن البصري، وغيرهم : نزلت في أهل الكتاب. زاد الحسن البصري : وهي علينا واجبة، وقال عبد الرزاق عن إبراهيم، قال : نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ورضي الله لهذه الأمة بها، وقال السدي :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون ﴾ يقول : من لم يحكم بما أنزلت فتركه عمداً، أو جار وهو يعلم، فهو من الكافرين. وقال ابن عباس قوله :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون ﴾ قال : من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق. رواه ابن جرير ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب، أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب. وقال ابن جرير عن الشعبي ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون ﴾ قال : هذا في المسلمين، ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون ﴾ [ المائدة : ٤٥ ] قال : هذا في اليهود ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون ﴾ [ المائدة : ٤٧ ] قال : هذا في النصارى، وقال الثوري عن عطاء أنه قال : كفر دون كفر وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وقال وكيع عن طاووس ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون ﴾ قال : ليس بكفر ينقل عن الملة.
660
وهذا أيضاً مما وبخت به اليهود وقرعوا عليه، فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس، وهم يخالفون حكم ذلك عمداً وعناداً، ويقيدون النضري من القرظي، ولا يقيدون القرظي من النضري، بل يعدلون إلى الدية، كما خالفوا حكم التوارة المنصوص عندهم في رجم الزاني المحصن، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار، ولهذا قال هناك :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون ﴾ [ المائدة : ٤٤ ] لأنهم جحدوا حكم الله قصداً منهم وعناداً وعمداً، وقال هاهنا ﴿ فأولئك هُمُ الظالمون ﴾ لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه، فخالفوا وظلمو وتعدوا بعضهم على بعض. وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا، إذا حكي مقرراً ولم ينسخ كما هو المشهور عند الجمهور، والحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة. وقال الحسن البصري : هي عليهم على الناس عامة، وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة بعموم هذه الآية الكريمة، وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره أن رسول الله ﷺ كتب في كتاب عمرو بن حزم :« أن الرجل يقتل بالمرأة »، وفي الحديث الآخر :« المسلمون تتكافأ دماؤهم »، وهذا قول جمهور العلماء، وعن أمير المؤمنين ( علي بن أبي طالب ) أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها إلاّ أن يدفع وليها إلى أوليائه نصف الدية، لأن ديتها على النصف من دية الرجل، وإليه ذهب أحمد في رواية، واحتج أبو حنيفة رحمه الله تعالى بعموم هذه الآية على أنه يقتل المسلم بالكافر الذمي، وعلى قتل الحر بالعبد، وقد خالفه الجمهور فيهما. ففي الصحيحين قال رسول الله ﷺ :« لا يقتل مسلم بكافر »، وأما العبد ففيه عن السلف آثار متعددة، أنهم لم يكونوا يقيدون العبد من الحر، ولا يقتلون حراً بعبد، وجاء في ذلك أحاديث لا تصح، وحكى الشافعي الإجماع على خلاف قول الحنفية في ذلك، ولكن لا يلزم من ذلك بطلان قولهم إلاّ بدليل مخصص للآية الكريمة.
ويؤيد الاحتجاج بهذه الآية الكريمة الحديث الثابت عن أنس بن مالك، « أن الربيع عمة أنس كسرت ثنية جارية، فطلبوا إلى القوم العفو، فأتوا رسول الله ﷺ فقال :» القصاص «، فقال أخوها أنس بن النضر : يا رسول الله تكسر ثنية فلانة؟ فقال رسول الله ﷺ :» يا أنس كتاب الله القصاص « قال، فقال : لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية فلانة، قال : فرضي القوم، فعفوا، وتركوا القصاص. فقال رسول الله ﷺ :» إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره «
661
أخرجاه في الصحيحين. وروى أبو داود عن عمران بن حصين : أن غلاماً لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء، فأتى أهله النبي ﷺ فقالوا : يا رسول الله إنا أناس فقراء فلم يجعل عليه شيئاً وهو حديث مشكل، اللهم إلاّ أن يقال : إن الجاني كان قبل البلوغ فلا قصاص عليه، ولعله تحمل أرش ما نقص من غلام الأغنياء عن الفقراء أو استعفاهم عنه.
وقوله تعالى :﴿ والجروح قِصَاصٌ ﴾ قال ابن عباس : تقتل النفس بالنفس، وتفقأ العين بالعين، ويقطع الأنف بالأنف، وتنزع السن بالسن، وتقتص الجراح بالجراح، فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين فيما بينهم رجالهم ونساؤهم إذا كان عمداً في النفس وما دون النفس، ويستوي فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم إذا كان عمداً في النفس وما دون النفس، رواه ابن جرير.
( قاعدة مهمة )
الجراح تارة تكون في مفصل، فيجب فيه القصاص بالإجماع كقطع اليد والرجل والكف والقدم ونحو ذلك؛ وأما إذا لم تكن الجراح في مفصل بل في عظم، فقال مالك رحمه الله : فيه القصاص إلاّ في الفخذ وشبهها لأنه مخوف خطر. وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يجب القصاص في شيء من العظام إلاّ في السن. وقال الشافعي : لا يجب القاص في شيء من العظام مطلقاً. وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابن عباس. وهو المشهور من مذهب أحمد. وقد احتج أبو حنيفة رحمه الله بحديث ( الربيع بنت النضر ) على مذهبه أنه لا قصاص في عظم إلاّ في السن. وحديث الربيع لا حجة فيه لأنه ورد بلفظ كسرت ثنية جارية، وجائز أن تكون سقطت من غير كسر فيجب القصاص والحالة هذه بالإجماع، وتمموا الدلالة بما رواه ابن ماجة عن ( جارية بن ظفر الحنفي ) أن رجلاً ضرب رجلاً على ساعده بالسيف من غير المفصل، فقطعها، فاستعدى النبي ﷺ، فأمر له بالدية، فقال : يا رسول الله اريد القصاص فقال : خذ الدية بارك الله لك فيها. ولم يقض بالقصاص، ثم قالوا : لا يجوز أن يقتص من الجراحة حتى تندمل جراحة المجنى عليه، فإن اقتص منه قبل الاندمال ثم عاد جرحه فلا شيء له. والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده :« أن رجلاً طعن رجلاً بقرن في ركبته فجاء إلى النبي ﷺ فقال : أقدني، فقال :» حتى تبرأ «، ثم جاء إليه، فقال : أقدني فأقاده، فقال : يا رسول الله عرجت، فقال :» قد نهيتك فعصيتني فأبعدك الله وبطل عرجك « ثم نهى رسول الله ﷺ أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه »
662
، تفرد به أحمد.
( مسالة ) : فلو اقتص المجنى عليه من الجاني فمات من القصاص فلا شيء عليه عند مالك والشافعي وأحمد ابن حنبل، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وغيرهم. وقال أبو حنيفة : تجب الدية في مال المقتص. وقال عطاء : تجب الدية على عاقلة المقتص له. وقال ابن مسعود والنخعي : يسقط عن المقتص له قدر تلك الجراحة، ويجب الباقي في ماله. وقوله تعالى :﴿ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ﴾. قال ابن عباس : أي فمن عفا عنه وتصدق عليه فهو كفارة للمطلوب وأجر للطالب. وقال سفيان الثوري : فمن تصدق به فهو كفارة للجارح، وأجر المجروح على الله عزَّ وجلَّ. ( الوجه الثاني ) : قال ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله في قول الله عزَّ وجلَّ :﴿ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ﴾ قال : للمجروح. وقال ابن مسعود : يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به. وروى الإمام أحمد عن أبي السفر قال : كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار فاستعدى عليه معاوية فقال معاوية : إنا سنرضيه فألح الأنصاري، فقال معاوية : شأنك بصاحبك، وأبو الدرداء جالس، فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله ﷺ يقول :« ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيتصدق به إلاّ رفعه الله به درجة وحط به عنه خطيئة، فقال الأنصاري : فإني قد عفوت »، وهكذا رواه الترمذي. وعن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :« ما من رجل يجرح من جسده جراحه فيتصدق بها إلاّ كفر الله عنه مثل ما تصدق به »، رواه النسائي. وقوله :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون ﴾، قد تقدم عن طاووس وعطاء أنهما قالا : كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.
663
يقول تعالى :﴿ وَقَفَّيْنَا ﴾ أي اتبعنا على آثارهم يعني أنبياء بني إسرائيل ﴿ بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة ﴾ أي مؤمناً بها حاكماً بما فيها، ﴿ وَآتَيْنَاهُ الإنجيل فِيهِ هُدًى وَنُورٌ ﴾ أي هدى إلى الحق ونور يستضاء به في إزالة الشبهات وحل المشكلات ﴿ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة ﴾ أي متبعاً لها غير مخالف لما فيها إلاّ في القليل مما بين لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه، كما قال تعالى إخباراً عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل :﴿ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ [ آل عمران : ٥٠ ] ولهذا كان المشهور من قولي العلماء أن الإنجيل نسخ بعض أحكام التوراة.
وقوله تعالى :﴿ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ أي وجعلنا الإنجيل هدى يهتدى به، وموعظة أي زاجراً عن ارتكاب المحارم والمآثم للمتقين، أي لمن اتقى الله وخاف وعيده وعقابه. وقوله تعالى :﴿ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَآ أَنزَلَ الله فِيهِ ﴾ قرىء ﴿ ولِيَحكُم ﴾ أهل الإنجيل بالنصب على أن اللام لام كي أي وآتيناه الإنجيل ليحكم أهل ملته به في زمانهم، وقرىء ﴿ وليحكم ﴾ بالجزم على أن اللام لام الأمر، أي ليؤمنوا بجميع ما فيه وليقيموا ما أمروا به فيه وبما فيه البشارة ببعثة محمد والأمر باتباعه وتصديقه إذا وجد، كما قال تعالى :﴿ قُلْ ياأهل الكتاب لَسْتُمْ على شَيْءٍ حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ [ المائدة : ٦٨ ] الآية، وقال تعالى :﴿ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ] إلى قوله :﴿ المفلحون ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ] ولهذا قال هاهنا :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون ﴾ أي الخارجون عن طاعة ربهم، المائلون إلى الباطل، والتاركون للحق، وقد تقدم أن هذه الآية نزلت في النصارى وهو ظاهر من السياق.
لما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمه، ومدحها وأثنى عليها وأمر باتباعها حيث كانت سائغة الاتباع، وذكر الإنجيل ومدحه وأمر أهله بإقامته واتباع ما فيه كما تقدم بيانه، شرع في ذكر القرآن العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم، قال تعالى :﴿ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق ﴾ أي بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله ﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب ﴾ أي من الكتب المتقدمة المتضمنة ذكره ومدحه، وأنه سينزل من عند الله على عبده ورسوله محمد ﷺ، فكان نزوله كما أخبرت به مما زادها صدقاً عند حامليها من ذوي البصائر، الذين انقادوا لأمر الله واتبعوا شرائع الله، وصدقوا رسل الله، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ﴾ [ الإسراء : ١٠٧-١٠٨ ] أي إن كان ما وعدنا الله على ألسنة رسله المتقدمة من مجيء محمد عليه السلام لمفعولاً أي لكائناً لا محالة ولا بد. وقوله تعالى :﴿ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ﴾ قال ابن عباس : أي مؤتمناً عليه، وعنه أيضاً المهيمن : الأمين، قال : القرآن أمين على كل كتاب قبله. وقال ابن جريج : القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل. وعن الوالبي عن ابن عباس ﴿ وَمُهَيْمِناً ﴾ أي شهيداً، وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي، وقال العوفي عن ابن عباس ﴿ وَمُهَيْمِناً ﴾ أي حاكماً على ما قبله من الكتب. وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو : أمين، وشاهد، وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها أشملها وأعظمها وأكملها، حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهداً وأميناً وحاكماً عليها كلها، وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة، فقال تعالى :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [ الحجر : ٩ ].
وقوله تعالى :﴿ فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله ﴾ أي فاحكم يا محمد بين الناس بما أنزل الله إليك في هذا الكتاب العظيم، وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في شرعك، ﴿ وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ ﴾ فأمر رسول الله ﷺ أن يحكم بينهم بما في كتابنا، وقوله :﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ ﴾ أي آراءهم التي اصطلحوا عليها وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسله، ولهذا قال تعالى :﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الحق ﴾ أي لا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء. وقوله تعالى :﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾ عن ابن عباس :﴿ شِرْعَةً ﴾ قال : سبيلاً، ﴿ وَمِنْهَاجاً ﴾ قال : وسنة، وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد ﴿ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾ : أي سنة وسبيلاً والأول أنسب، فإن الشرعة وهي الشريعة أيضاً هي ما يبتدأ فيه إلى الشيء، ومنه يقال شرع في كذا : أي ابتدأ فيه، وكذا الشريعة وهي ما يشرع فيها إلى الماء، أما المنهاج فهو الطريق الواضح السهل، والسنن الطرائق.
665
فتفسير قوله :﴿ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾ بالسبيل والسنة أظهر في المناسبة من العكس والله أعلم. ثم هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد، كما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله ﷺ قال :« نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات ديننا واحد »، يعني بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله وضمنه كل كتاب أنزله كما قال تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون ﴾ [ الأنبياء : ٢٥ ].
وقال تعالى :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ﴾ [ النحل : ٣٦ ] الآية، وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراماً، ثم يحل في الشريعة الأخرى، وبالعكس، وخفيفاً فيزاد في الشدة في هذه دون هذه، وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، قال قتادة قوله :﴿ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾ يقول : سبيلاً وسنة، والسنن مختلفة هي في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة وفي الفرقان شريعة. يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الذي لا يقبل الله غيره التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، ﴿ وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً ﴾ هذا خطاب لجميع الأمم وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة لا ينسخ شيء منها. ولكنه تعالى شرّع لكل رسول شريعة على حدة، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده، حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمداً ﷺ الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة وجعله خاتم الأنبياء كلهم، ولهذا قال تعالى :﴿ ولكن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم ﴾ أي أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة ليختبر عباده فيما شرع لهم ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله ﴿ فِي مَآ آتَاكُم ﴾ يعني من الكتاب، ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها فقال :﴿ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ ﴾ وهي طاعة الله واتباع شرعه الذي جعله ناسخاً لما قبله والتصديق بكتابة القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله، ثم قال تعالى :﴿ إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ﴾ أي معادكم أيها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة ﴿ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ أي فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق فيجزي الصادقين بصدقهم، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق العادلين عنه بلا دليل ولا برهان.
666
وقوله تعالى :﴿ وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ ﴾ تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك والنهي عن خلافه. ثم قال :﴿ واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ الله إِلَيْكَ ﴾ أي واحذر أعداءك اليهود أن يدلسوا عليك الحق فيما ينهونه إليك من الأمور، فلا تغتر بهم فإنهم كذبة كفرة خونة، ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ أي عما تحكم به بينهم من الحق وخالفوا شرع الله ﴿ فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ﴾، أي فاعلم أن ذلك كائن عن قدرة الله وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما لهم من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم، ﴿ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس لَفَاسِقُونَ ﴾ أي إن أكثر الناس لخارجون عن طاعة ربهم مخالفون للحق ناكبون عنه، كما قال تعالى :﴿ وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ يوسف : ١٠٣ ] وقال تعالى :﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله ﴾ [ الأنعام : ١١٦ ] الآية. وقال محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال : قال كعب بن أسد، وعبد الله بن صوريا، وشاس بن قيس، بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا : يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قومنا خصومة، فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله ﷺ فأنزل الله عزَّ وجلَّ فيهم :﴿ وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ الله إِلَيْكَ ﴾ إلى قوله :﴿ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾. رواه ابن جرير.
وقوله تعالى :﴿ أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجل بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير. قال تعالى :﴿ أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ ﴾ أي يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ أي ومن أعدل من الله في حكمه، لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن، وعلم أن الله أحكم الحاكمين وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، عن الحسن قال : من حكم بغير حكم الله فحكم الجاهلية، وكان طاووس إذا سأله رجل : أفضل بين ولدي في النحل؟ قرأ :﴿ أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ ﴾ الآية، وقال الحافظ الطبراني عن ابن عباس قال، قال رسول الله ﷺ :« أبغض الناس إلى الله عزَّ وجلَّ من يبتغي في الإسلام سنة الجاهلية، وطالب دم امرىء بغير حق ليريق دمه » وروى البخاري بإسناده نحوه بزيادة.
667
ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى الذين هم أعداء الإسلام وأهله قاتلهم الله، ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض، ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك، فقال :﴿ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾ الآية. قال ابن أبي حاتم، عن سماك بن حرب عن عياض : أن عمر أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد، وكان له كاتب نصراني، فرفع إليه ذلك، فعجب عمر، وقال : إن هذا لحفيظ، هل أنت قارىء لنا كتاباً في المسجد جاء من الشام؟ فقال : إنه لا يستطيع، فقال عمر : أجنب هو؟ قال : لا، بل نصراني، قال : فانتهرني وضرب فخذي، ثم قال : أخرجوه، ثم قرأ :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ ﴾ الآية. وقوله تعالى :﴿ فَتَرَى الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ أي شك وريب ونفاق يسارعون فيهم أي يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر ﴿ يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ ﴾ أي يتأولون في مودتهم، وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكافرين بالمسلمين، فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى فينفعهم ذلك عند ذلك قال الله تعالى :﴿ فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح ﴾ يعني فتح مكة، وقيل : يعني القضاء والفصل ﴿ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ ﴾ قال السدي : يعني ضرب الجزية على اليهود والنصارى ﴿ فَيُصْبِحُواْ ﴾ يعني الذين والوا اليهود والنصارى من المنافقين ﴿ على مَآ أَسَرُّواْ في أَنْفُسِهِمْ ﴾ من الموالاة ﴿ نَادِمِينَ ﴾ أي على ما كان منهم مما لم يجد عنهم شيئاً، ولا دفع عنهم محذوراً، بل كان عين المفسدة فإنهم فضحوا وأظهر الله أمرهم في الدنيا لعباده المؤمنين، بعد أن كانوا مستورين لا يدري كيف حالهم، فلما انعقدت الأسباب الفاضحة لهم تبين أمرهم لعباد الله المؤمنين، فتعجبوا منهم كيف كانوا يظهرون أنهم من المؤمنين ويحلفون على ذلك ويتأولون، فبان كذبهم وافتراؤهم، ولهذا قال تعالى :﴿ وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ ﴾.
اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآيات الكريمات، فذكر السدي : أنها نزلت في رجلين قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أحد : أما أنا فإني ذاهب إلى ذلك اليهودي فآوي إليه وأتهوَّد معه، لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث، وقال الآخر : أما أنا فإني ذاهب إلى فلان النصراني بالشام فآوي إليه وأتنصر معه، فأنزل الله :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ ﴾ الآيات. وقال عكرمة : نزلت في ( أبي لبابة بن عبد المنذر ) حين بعثه رسول الله ﷺ إلى بني قريظة فسألوه ماذا هو صانع بنا؟ فأشار بيده إلى حلقه، أي أنه الذبح. قيل : نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول كما قال ابن جرير :
668
« جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله ﷺ فقال : يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله، فقال عبد الله بن أبي : إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي، فقال رسول الله ﷺ لعبد الله بن أبي :» يا أبا الحباب ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه «، قال : قد قبلت »، فأنزل الله عزَّ وجلَّ :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ ﴾ الآيتين. وقال محمد ابن إسحاق : لما حاربت بنو قينقاع رسول الله ﷺ تشبث بأمرهم ( عبد الله بن أبي ) وقام دونهم ومشى ( عبادة بن الصامت ) إلى رسول الله ﷺ، وكان أحد بني عوف بن الخزرج له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أبي، فجعلهم إلى رسول الله ﷺ وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم، وقال : يا رسول الله أبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم، ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾ إلى قوله :﴿ وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون ﴾ [ المائدة : ٥٦ ]. وقال الإمام أحمد عن أسامة بن زيد قال : دخلت مع رسول الله ﷺ على عبد الله بن أبي نعوده، فقال له النبي ﷺ :« قد كنت أنهاك عن حبّ يهود »، فقال عبد الله : فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات، وكذا رواه أبو داود.
669
يقول تعالى مخبراً عن قدرته العظيمة : إنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته، فإن الله سيستبدل به من هو خير لها منه، وأشد منعة وأقوم سبيلاً كما قال تعالى :﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم ﴾ [ محمد : ٣٨ ]، وقال تعالى :﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ﴾ [ النساء : ١٣٣ ]، وقال تعالى :﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ ﴾ [ إبراهيم : ١٩-٢٠ ] أي بممتنع ولا صعب. وقال تعالى هاهنا :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ ﴾ أي يرجع عن الحق إلى الباطل. قال محمد بن كعب : نزلت في الولاة من قريش، وقال الحسن البصري : نزلت في أهل الردة أيام أبي بكر. ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ قال الحسن : هو والله أبو بكر وأصحابه، وقال ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري قال : لما نزلت ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ قال رسول الله ﷺ :« هم قوم هذا »، ورواه ابن جرير بنحوه. وقوله تعالى :﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين ﴾ هذه صفات المؤمنين الكُمَّل، أن يكون أحدكم متواضعاً لأخيه ووليه متعززاً على خصمه وعدوه كما قال تعالى :﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [ الفتح : ٢٩ ]، وفي صفة رسول الله ﷺ أنه الضحوك القتال، فهو ضحوك لأوليائه، قتال لأعدائه. وقوله عزَّ وجل :﴿ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم ﴾ أي لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله، وإقامة الحدود، وقتال أعدائه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يردهم عن ذلك رادّ ولا يصدهم عنه صاد. قال الإمام أحمد عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال :« أمرني خليلي ﷺ بسبع : أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرني أن لا أسال أحداً شيئاً، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مراً، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر من قول : لا حول ولا قوة إلاّ بالله، فإنهن من كنز تحت العرش » وقال الإمام أحمد أيضاً عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ﷺ :« ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده، فإنه لا يقرّب من أجل، ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو أن يذكر بعظيم » وقال أحمد عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ﷺ :« لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمراً لله فيه مقال فلا يقول فيه، فيقال له يوم القيامة : ما منعك أن تكون قلت في كذا وكذا؟ فيقول : مخافة الناس : فيقول : إياي أحق أن تخاف »
670
، وثبت في الصحيح :« » ما ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه « قالوا : وكيف يذل نفسه يا رسول الله؟ قال :» يتحمل من البلاء ما لا يطيق «، ﴿ ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ﴾ أي من اتصف بهذه الصفات فإنما هو من فضل الله عليه وتوفيقه له، ﴿ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ أي واسع الفضل عليم بمن يستحق ذلك ممن يحرمه إياه.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ ﴾ أي ليس اليهود بأوليائكم، بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين، وقوله :﴿ الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة ﴾ أي المؤمنون المتصفون بهذه الصفات من إقام الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام، وهي له وحده لا شريك له، وإيتاء الزكاة التي هي حق المخلوقين ومساعدة للمحتاجين من الضعفاء والمساكين، وأما قوله :﴿ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة في موضع الحال من قوله :﴿ وَيُؤْتُونَ الزكاة ﴾ أي في حال ركوعهم، ولو كان هذا كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره لأنه ممدوح، وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء. قال السدي : نزلت هذه الآية في جميع المؤمنين ولكن عليّ بن أبي طالب مر به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه، وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها أن هذه الآيات نزلت في عبادة بن الصامت رضي الله عنه حين تبرأ من حلف اليهود، ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله :﴿ وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون ﴾ كما قال تعالى :﴿ كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ * لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان ﴾ [ المجادلة : ٢١-٢٢ ] الآية. فكل من رضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين فهو مفلح في الدنيا والآخرة ومنصور في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون ﴾.
671
هذا تنفير من موالاة أعداء الإسلام الذين يتخذون شرائع الإسلام المطهرة المحكمة، المشتملة على كل خير دنيوي وأخروي، يتخذونها هزواً ويستهزئون بها، ولعباً يعتقدون أنها نوع من اللعب في نظرهم الفاسد، وفكرهم البارد، وقوله تعالى :﴿ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ والكفار ﴾ « من » هاهنا لبيان الجنس كقوله :﴿ فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان ﴾ [ الحج : ٣٠ ]، والمراد بالكفار هاهنا ( المشركون )، ﴿ واتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ أي اتقوا الله أن تتخذوا هؤلاء الأعداء لكم ولدينكم أولياء، أن كنتم مؤمنين بشرع الله الذي اتخذه هؤلاء هزواً ولعباً، كما قال تعالى :﴿ لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين ﴾ [ آل عمران : ٢٨ ]، وقوله :﴿ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة اتخذوها هُزُواً وَلَعِباً ﴾ أي وكذلك إذا أذنتم داعين إلى الصلاة التي هي أفضل الأعمال لمن يعقل ويعلم من ذوي الألباب ﴿ اتخذوها ﴾ أيضاً ﴿ هُزُواً وَلَعِباً ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ﴾ معاني عبادة الله وشرائعه، وهذه صفات اتباع الشيطان الذي إذا سمع الأذان أدبر، فإذا قضى التأذين أقبل، فإذا ثوَّب للصلاة أدبر، فإذى قضى التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء وقلبه، فيقول : اذكر كذا، اذكر كذا، ما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى، فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين قبل السلام. كما هو في الصحيحين، وقال الزهري : قد ذكر الله التأذين في كتابه فقال :﴿ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة اتخذوها هُزُواً وَلَعِباً ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ﴾.
وقال السدي في قوله :﴿ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة اتخذوها هُزُواً وَلَعِباً ﴾ قال : كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي : أشهد أن محمداً رسول الله، قال : حرق الكذاب، فدخلت خادمه ليلة من الليالي بنار وهو نائم وأهله نيام فسقطت شرارة، فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وذكر محمد بن إسحاق في السيرة « أن رسول الله ﷺ دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال، فأمره أن يؤذن وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب بن أسيد : لقد أكرم الله أسيداً أن لا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه، وقال الحارث بن هشام : أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته، فقال أبو سفيان لا أقول شيئاً لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى، فخرج عليه النبي ﷺ فقال :» قد علمت الذي قلتم «، ثم ذكر ذلك لهم فقال الحارث وعتاب : نشهد أنك رسول، ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك » وقال الإمام أحمد « عن عبد الله بن محيريز وكان يتيماً في حجر أبي محذورة قال : قلت لأبي محذورة يا عم إني خارج إلى الشام، وأخشى أن أسأل عن تأذينك، فأخبرني أن أبا محذورة قال له : نعم، خرجت في نفر وكنا في بعض طريق حنين، مقفل رسول الله ﷺ من حنين، فلقينا رسول الله ﷺ ببعض الطريق، فأذن مؤذن رسول الله ﷺ عند رسول الله ﷺ فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون، فصرخنا نحكيه ونستهزىء به، فسمع رسول الله ﷺ فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه، فقال رسول الله ﷺ :» أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع «؟ فأشار القوم كلهم إلي، وصدقوا، فأرسل كلهم وحبسني، وقال :» قم فأذن «. فقمت ولا شيء أكره إلي من رسول الله ﷺ، ولا مما يأمرني به، فقمت بين يدي رسول الله ﷺ، فألقي عليَّ رسول الله ﷺ التأذين هو بنفسه، قال :» قل : الله أكبر، أشهد أن لا إله إلاّ الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله «، ثم دعاني حين قضيت التأذين، فأعطاني صرة فيها شيء من فضة، ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة، ثم أمرَّها على وجهه، ثم بين ثدييه، ثم على كبده حتى بلغت يد رسول الله ﷺ سرة أبي محذورة ثم قال رسول الله ﷺ :» بارك الله فيك وبارك عليك «، فقلت : يا رسول الله مرني بالتأذين بمكة، فقال :» قد أمرتك به «، وذهب كل شيء كان لرسول الله ﷺ من كراهة، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله ﷺ، فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله ﷺ فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله ﷺ، وأخبرني ذلك من أدركت من أهلي ممن أدرك ابا محذروة على نحو ما أخبرني عبد الله بن محيريز »
672
هكذا رواه الإمام أحمد، وقد أخرجه مسلم في صحيحه وأهل السنن الأربعة.
673
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من أهل الكتاب :﴿ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ ﴾ أي هل لكم علينا مطعن أو عيب إلاّ هذا؟ وهذا ليس بعيب ولا مذمة، فيكون الاستثناء منقطعاً كما في قوله تعالى :﴿ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد ﴾ [ البروج : ٨ ] وكقوله :﴿ وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ [ التوبة : ٧٤ ]. وقوله :﴿ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ﴾ معطوف على ﴿ أَنْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ ﴾ أي وآمنا بأن أكثركم فاسقون أي خارجون عن الطريق المستقيم.
ثم قال :﴿ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله ﴾ أي هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا؟ وهم أنتم المتصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله :﴿ مَن لَّعَنَهُ الله ﴾ أي أبعده من رحمته، ﴿ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ﴾ أي غضباً لا يرضى بعده أبداً، ﴿ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير ﴾ كما تقدم بيانه في سورة البقرة، وقد قال سفيان الثوري عن ابن مسعود قال :« سئل رسول الله ﷺ عن القردة والخنازير أهي مما مسخ الله؟ فقال :» إن الله لم يهلك قوماً - أو قال لم يمسخ قوماً - فيجعل لهم نسلاً ولا عقباً، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك «، رواه مسلم، وقال أبو داود الطيالسي عن ابن مسعود قال :» سألنا رسول الله ﷺ عن القردة والخنازير أهي من نسل اليهود؟ فقال :« لا، إن الله لم يلعن قوماً قط فيمسخهم فكان لهم نسل، ولكن هذا خلق كان، فلما غضب الله على اليهود فمسخهم جعلهم مثلهم » وقوله تعالى :﴿ وَعَبَدَ الطاغوت ﴾ قرىء ﴿ وعَبَدَ الطاغوتَ ﴾ على أنه فعل ماض، والطاغوت منصوب به، أي وجعل منهم من عبد الطاغوت، وقرىء ﴿ وعَبَدِ الطاغوت ﴾ بالإضافة، على أن المعنى وجعل منهم خدم الطاغوت أي خدامه وعبيده، والمعنى يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا الذي هو توحيد الله وإفراده بالعبادات دون ما سواه، كيف يصدر منكم هذا وأنتم قد وجد منكم جميع ما ذكر؟ ولهذا قال ﴿ أولئك شَرٌّ مَّكَاناً ﴾ أي مما تظنون بنا ﴿ وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل ﴾ وهذا من باب استعمال أفعال التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر مشاركة.
وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ ﴾، وهذه صفة المنافقين منهم أنهم يصانعون المؤمنين في الظاهر وقلوبهم منطوية على الكفر، ولهذا قال :﴿ وَقَدْ دَّخَلُواْ ﴾ أي عندك يا محمد ﴿ بالكفر ﴾ أي مستصحبين الكفر في قلوبهم ثم خرجوا وهو كامن فيها لم ينتفعوا بما قد سمعوا منك من العلم، ولا نجعت فيهم المواعظ ولا الزواجر، ولهذا قال :﴿ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ ﴾ فخصهم به دون غيرهم، وقوله تعالى :﴿ والله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ ﴾ أي عالم بسرائرهم وما تنطوي عليه ضمائرهم وإن أظهروا لخلقه خلاف ذلك وتزينوا بما ليس فيهم، فإن الله عالم الغيب والشهادة أعلم بهم منهم، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء.
674
وقوله :﴿ وترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثم والعدوان وَأَكْلِهِمُ السحت ﴾ أي يبادرون إلى ذلك من تعاطي المآثم والمحارم والاعتداء على الناس وأكلهم أموالهم بالباطل ﴿ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أي لبئس العمل كان عملهم وبئس الاعتداء اعتداؤهم.
وقوله تعالى :﴿ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون والأحبار عَن قَوْلِهِمُ الإثم وَأَكْلِهِمُ السحت لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾ يعني : هلا كان ينهاهم الربانيون والأحبار منهم عن تعاطي ذلك؟ و ﴿ الربانيون ﴾ هم العلماء العمال، أرباب الولايات عليهم. والأحبار هم العلماء فقط ﴿ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾ يعني من تركهم ذلك، قاله ابن عباس. وقال ابن جرير عن ابن عباس قال : ما في القرآن آية أشد توبيخاً من هذه الآية :﴿ لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون ﴾، قال : كذا قرأ. وكذا قال الضحاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها إنا لا ننهى. وقال ابن أبي حاتم عن يحيى بن يعمر قال : خطب ( علي بن أبي طالب ) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :« أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي، ولم ينههم الربانيون والأحبار، فلما تمادوا في المعاصي أخذتهم العقوبات، فمروا بالمعروف وأنهوا عن المنكر، قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقاً ولا يقرب أجلاً » وروى أبو داود عن جرير قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :« ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه فلا يغيرون إلاّ أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا ».
675
يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة بأنهم وصفوه بأنه بخيل كما وصفوه بأنه فقير، وهم أغنياء وعبروا عن البخل بأن قالوا :﴿ يَدُ الله مَغْلُولَةٌ ﴾، قال ابن عباس :﴿ مَغْلُولَةٌ ﴾ : أي بخيلة. لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة، ولكن يقولون : بخيل، يعني أمسك ما عنده بخلاً، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. وقد قال عكرمة إنها نزلت في ( فنحاص اليهودي ) عليه لعنة الله، وقد تقدم أنه الذي قال :﴿ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ ﴾ [ آل عمران : ١٨١ ]، فضربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وقال محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال، قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس : إن ربك بخيل لا ينفق، فأنزل الله :﴿ وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ ﴾ وقد رد الله عزَّ وجلَّ عليهم ما قالوه وقابلهم فيما اختلقوه وافترواه وائتفكوه فقال :﴿ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ ﴾، وهكذا وقع لهم، فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة أمر عظيم، كما قال تعالى :﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتاهم الله مِن فَضْلِهِ ﴾ [ النساء : ٥٤ ]، وقال تعالى :﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة ﴾ [ آل عمران : ١١٢ ] الآية، ثم قال تعالى :﴿ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ ﴾ أي بل هو الواسع الجزيل العطاء الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه الذي خلق لنا كل شيء مما نحتاج إليه، كما قال :﴿ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [ إبراهيم : ٣٤ ] والآيات في هذا كثيرة. وقد قال أبو هريرة قال، قال رسول الله ﷺ :« إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه - قال - وعرشه على الماء وفي يده الأخرى الفيض - أو القبض - يرفع ويخفض، وقال : يقول الله تعالى :» أنفق أنفق عليك « أخرجاه في الصحيحين. وقوله تعالى :﴿ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً ﴾ أي يكون ما آتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم، فكما يزداد به المؤمنون تصديقاً وعملاً صالحاً وعلماً نافعاً، يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك طغياناً وهو المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء ﴿ وَكُفْراً ﴾ أي تكذيباً كما قال تعالى :﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ [ فصلت : ٤٤ ]، وقال تعالى :﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً ﴾ [ الإسراء : ٨٢ ]، وقوله تعالى :﴿ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة ﴾ يعني أنه لا تجتمع قلوبهم، بل العداوة واقعة بين فرقهم بعضهم في بعض دائماً، لأنهم لا يجتمعون على حق وقد خالفوك وكذبوك.
676
وقوله تعالى :﴿ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله ﴾ أي كلما عقدوا أسباباً يكيدونك بها، وكلما أبرموا أموراً يحاربونك بها أبطلها الله ورد كيدهم عليهم وحاق مكرهم السيء بهم، ﴿ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً والله لاَ يُحِبُّ المفسدين ﴾ أي من سجيتهم أنهم دائما يسعون في الإفساد في الأرض فساداً، والله لا يحب من هذه صفته، ثم قال جلَّ وعلا :﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب آمَنُواْ واتقوا ﴾ أي لو أنهم آمنوا بالله ورسوله، واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المآثم والمحارم ﴿ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النعيم ﴾، أي لأزلنا عنهم المحذور وأنلناهم المقصود، ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ ﴾ قال ابن عباس : هو القرآن، ﴿ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ﴾، أي لو أنهم عملوا بما في الكتب التي بأديهم عن الأنبياء، على ما هي عليه من غير تحريف ولا تبديل ولا تغيير، لقادهم ذلك إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى ما بعث الله به محمداً ﷺ، فإن كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه حتماً لا محالة. وقوله تعالى :﴿ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ﴾ يعني بذلك كثرة الرزق النازل عليهم من السماء، والنابت لهم من الأرض، وقال ابن عباس :﴿ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ ﴾ يعني لأرسل السماء عليهم مدراراً، ﴿ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ﴾ يعني يخرج من الأرض بركاتها، كما قال تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض ﴾ [ الأعراف : ٩٦ ] الآية، وقال تعالى :﴿ ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس ﴾ [ الروم : ٤١ ] الآية. وقال بعضهم : معناه ﴿ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ﴾ يعني من غير كد ولا تعب ولا شقاء ولا عناء.
وقد ذكر ابن أبي حاتم أن رسول الله ﷺ قال :« » يوشك أن يرفع العلم «، فقال زياد بن لبيد يا رسول الله وكيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا فقال :» ثكلتك أمك يا ابن لبيد إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة، أو ليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله «، ثم قرأ :﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل ﴾، وقوله تعالى :﴿ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴾ كقوله :﴿ وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٥٩ ] فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد وهو أوسط مقامات هذه الأمة، وفوق ذلك رتبة السابقين، كما في قوله عزَّ وجلَّ :﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ﴾ [ فاطر : ٣٢-٣٣ ] الآية، والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة كلهم يدخلون الجنة.
677
يقول تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً ﷺ باسم الرسالة، وآمراً بإبلاغ جميع ما أرسله الله به، وقد امتثل عليه أفضل الصلاة والسلام ذلك وقام به أتم القيام، قال البخاري عند تفسير هذه الآية عن عائشة رضي الله عنها قالت : من حدثك أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد كذب، وهو يقول :﴿ ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ﴾ الآية، وفي الصحيحين عنها أيضاً أنها قالت : لو كان محمد ﷺ كاتماً شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية :﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ﴾ [ الأحزاب : ٣٧ ]. وقال ابن أبي حاتم عن هارون بن عنترة عن أبيه قال : كنت عند ابن عباس فجاء رجل فقال له : إن ناساً يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئاً لم يبده رسول الله ﷺ للناس، فقال ابن عباس : ألم تعلم أن الله تعالى قال :﴿ ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ﴾، والله ما ورَّثنا رسول الله ﷺ سوداء في بيضاء. وهذا إسناد جيد. وفي صحيح البخاري عن وهب بن عبد الله السوائي قال : قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال : لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلاّ فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت : وما في هذه الصحيفة؟ قال : العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر.
وقال البخاري، قال الزهري : من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، وقد شهدت له أمته بإبلاغ الرسالة وأداء الأمانة، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع، وقد كان هناك من أصحابه نحو من أربعين ألفاً، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال في خطبته يومئذٍ :« » أيها الناس إنكم مسؤولون عني، فما أنتم قائلون؟ « قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكسها إليهم، ويقول :» اللهم هل بلغت «!؟ ».
وقوله تعالى :﴿ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ يعني وإن لم تؤد إلى الناس ما أرسلتك به فما بلغت رسالته قال ابن عباس :﴿ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ : يعني إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته، وعن مجاهد قال : لما نزلت :﴿ ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ﴾ قال : يا رب كيف أصنع وأنا وحدي يجتمعون علي؟ فنزلت :﴿ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ وقوله تعالى :﴿ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس ﴾ أي بلغ أنت رسالتي وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك ومظفرك بهم، فلا تخف ولا تحزن، فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك.
678
وقد كان النبي ﷺ قبل نزول هذه الآية يحرس. كما قال الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها كانت تحدث « أن رسول الله ﷺ سهر ذات ليلة وهي إلى جنبه قالت، فقلت : ما شأنك يا رسول الله؟ قال :» ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة « قالت : فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح، فقال :» من هذا «؟ فقال : أنا سعد بن مالك، فقال :» ما جاء بك «؟ قال : جئت لأحرسك يا رسول الله، قالت : فسمعت غطيط رسول الله ﷺ في نومه »، أخرجاه في الصحيحين. وفي لفظ : سهر رسول الله ﷺ ذات ليلة مقدمة المدينة، يعني على أثر هجرته بعد دخوله بعائشة رضي الله عنها وكان ذلك في سنة ثنتين منها، وعنها قالت : كان النبي ﷺ يحرس حتى نزلت هذه الآية :﴿ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس ﴾ قالت فأخرج النبي ﷺ رأسه من القبة، وقال :« يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمنا الله عزَّ وجلَّ ».
ومن عصمة الله لرسوله حفظه له من أهل مكة وصناديدها وحسادها ومعانديها ومترفيها، مع شدة العداوة والبغضة ونصب المحاربة له ليلاً ونهاراً، بما يخلقه الله من الأسباب العظيمة بقدرته وحكمته العظيمة، فصانه في ابتداء الرسالة بعمه ابي طالب إذ كان رئيساً مطاعاً كبيراً في قريش، وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله ﷺ لا شرعية، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه، فلما مات عمه ( أبو طالب ) نال منه المشركون أذى يسيراً ثم قيض الله له الأنصار فبايعوه على الإسلام، وعلى أن يتحول إلى دارهم وهي المدينة، فلما صار إليها منعوه من الأحمر والأسود، وكلما همَّ أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله ورد كيده عليه، كما كاده اليهود بالسحر، فحماه الله منهم، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء، ولما سمّه اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر أعلمه الله به وحماه منه، ولهذا أشباه كثيرة جداً يطول ذكرها. وقوله :﴿ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين ﴾ أي بلغ أنت والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، كما قال تعالى :﴿ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ [ البقرة : ٢٧٢ ]، وقال :﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب ﴾ [ الرعد : ٤٠ ].
679
يقول تعالى : قل يا محمد :﴿ ياأهل الكتاب لَسْتُمْ على شَيْءٍ ﴾ أي من الدين حتى تقيموا التوراة والإنجيل، أي حتى تؤمنوا بجميع ما بأيديكم من الكتب المنزلة من الله على الأنبياء، وتعملوا بما فيها، ومما فيها الإيمان بمحمد والأمر باتباعه ﷺ والإيمان بمبعثه والاقتداء بشريعته، ولهذا قال ليث بن أبي سليم عن مجاهد في قوله ﴿ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ : يعني القرآن العظيم، وقوله :﴿ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً ﴾ تقدم تفسيره، ﴿ فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين ﴾ : أي فلا تحزن عليهم ولا يهيبنك ذلك منهم، ثم قال :﴿ إِنَّ الذين آمَنُواْ ﴾ وهم المسلمون، ﴿ والذين هَادُواْ ﴾ وهم حملة التوراة، ﴿ والصابئون ﴾، لما طال الفصل حسن العطف بالرفع، والصابئون طائفة من النصارى والمجوس، قاله مجاهد، وعنه : من اليهود والمجوس. وقال قتادة : هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى غير القبلة ويقرأون الزبور. وقيل : غير ذلك. وأما النصارى فمعروفون وهم حملة الإنجيل، والمقصود أن كل فرقة آمنت بالله وباليوم الآخر، وهو الميعاد والجزاء يوم الدين، وعملت عملاً صالحاً، ولا يكون ذلك كذلك حتى يكون موافقاً للشريعة المحمدية بعد إرسال صاحبها المبعوث إلى جميع الثقلين، فمن اتصف بذلك فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه، ولا على ما تركوا وراء ظهورهم ولا هم يحزنون. وقد تقدم الكلام على نظيرتها في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ها هنا.
يذكر تعالى أنه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل على السمع والطاعة لله ولرسوله فنقضوا تلك العهود والمواثيق واتبعوا آراءهم وأهواءهم وقدموها على الشرائع فما وافقهم منها قبلوه وما خالفهم ردوه ولهذا قال تعالى :﴿ كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ * وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ أي وحسبوا أن لا يترتب لهم شر على ما صنعوا، فترتب، وهو أنهم عموا عن الحق وصموا فلا يسمعون حقاً ولا يهتدون إليه، ثم تاب الله عليهم أي مما كانوا فيه، ﴿ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ ﴾ أي بعد ذلك، ﴿ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ أي مطلع عليهم وعليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية منهم.
يقول تعالى حاكماً بتكفير فرق النصارى ممن قال منهم بأن المسيح هو الله، - تعالى الله عن قولهم وتنزه وتقدس علواً كبيراً - هذا وقد تقدم لهم أن المسيح عبد الله ورسوله، وكان أول كلمة نطق بها وهو صغير في المهد أن قال :﴿ إِنِّي عَبْدُ الله ﴾ [ مريم : ٣٠ ]، ولم يقل إني أنا الله ولا ابن الله، بل قال :﴿ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً ﴾ [ مريم : ٣٠ ]، وكذلك قال لهم في حلا كهولته ونبوته آمراً لهم بعبادة الله ربه وربهم وحده لا شريك له، ولهذا قال تعالى :﴿ وَقَالَ المسيح يابني إِسْرَائِيلَ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بالله ﴾ أي فيعبد معه غيره ﴿ فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة وَمَأْوَاهُ النار ﴾ أي فقد أوجب له النار وحرم عليه الجنة، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾ [ النساء : ٤٨، ١١٦ ] وفي الصحيح أن النبي ﷺ بعث منادياً ينادي في الناس :« إن الجنة لا يدخلها إلاّ نفس مسلمة » وفي لفظ « مؤمنة »، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ﴾ أي وما له عند الله ناصر ولا معين ولا منقذ مما هو فيه. وقوله :﴿ لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ﴾، الصحيح أنها أنزلت في النصارى خاصة، قاله مجاهد وغير واحد، ثم اختلفوا في ذلك، فقيل : المراد بذلك كفارهم في قولهم بالأقانيم الثلاثة، وهو أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم الكلمة المنبثقة من الأب إلى الابن، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. قال ابن جرير وغيره : والطوائف الثلاثة من الملكية واليعقوبية والنسطورية تقول بهذه الأقانيم، وهم مختلفون فيها اختلافاً متبايناً، ليس هذا موضع بسطه، وكل فرقة منهم تكفر الأخرى، والحق أن الثلاثة كافرة. وقال السدي وغيره : نزلت في جعلهم المسيح وأمه إلهين مع الله، فجعلوا الله ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار، وهي كقوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ ﴾ [ المائدة : ١١٦ ] الآية، وهذا القول هو الأظهر، والله أعلم.
قال الله تعالى :﴿ وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله وَاحِدٌ ﴾ أي ليس متعدداً بل هو وحده لا شريك له، إله جميع الكائنات وسائر الموجودت، ثم قال تعالى متوعداً لهم ومتهددا :﴿ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ ﴾ أي من هذا الإفتراء والكذب ﴿ لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي في الآخرة من الأغلال والنكال، ثم قال :﴿ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ؟ وهذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه مع هذا الذنب العظيم، وهذا الافتراء والكذب والإفك يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، فكل من تاب إليه تاب عليه.
682
وقوله تعالى :﴿ مَّا المسيح ابن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل ﴾ أي له أسوة أمثاله من سائر المرسلين المتقدمين عليه، وأنه عبد من عباد الله ورسول من رسله الكرام، كما قال :﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لبني إِسْرَائِيلَ ﴾ [ الزخرف : ٥٩ ]، وقوله :﴿ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ﴾ أي مؤمنة به مصدقة له، وهذا أعلى مقاماتها، فدل على أنها ليست بنبية كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة ( أم إسحاق ) ونبوة ( أم موسى ) ونبوة ( أم عيسى ) استدلالاً منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم، وبقوله :﴿ وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ ﴾ [ القصص : ٧ ]، وهذا معنى النبوة، والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبياً إلاّ من الرجال، قال الله تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى ﴾ [ يوسف : ١٠٩ ]، وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري رحمه الله الإجماع على ذلك، وقوله تعالى :﴿ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام ﴾ أي يحتاجان إلى التغذية به وإلى خروجه منهما، فهما عبدان كسائر الناس، وليسا بإلهين كما زعمت فرق النصارى الجهلة عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. ثم قال تعالى :﴿ انظر كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيات ﴾ أي نوضحها ونظهرها، ﴿ ثُمَّ انظر أنى يُؤْفَكُونَ ﴾ أي ثم انظر بعد هذا البيان والوضوح والجلاء أين يذهبون، وبأي قول يتمسكون، وإلى أي مذهب من الضلال يذهبون؟.
683
يقول تعالى منكراً على من عبد غيره من الأصنام والأنداد والأوثان، ومبيناً له أنها لا تستحق شيئاً من الإلهية، فقال تعالى :﴿ قُلْ ﴾ أي يا محمد لهؤلاء العابدين غير الله من سائر فرق بني آدم ودخل في ذلك النصارى وغيرهم ﴿ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً ﴾ أي لا يقدر على دفع ضر عنكم ولا إيصال نفع إليكم، ﴿ والله هُوَ السميع العليم ﴾ أي السميع لأقوال عباده العليم بكل شيء، فلمَ عدلتم عنه إلى عبادة جماد لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئاً ولا يملك ضراً ولا نفعاً لغيره ولا لنفسه؟ ثم قال :﴿ قُلْ ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق ﴾ أي لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق، ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه، فتبالغوا فيه حتى تخرجوه عن حيز النبوة إلى مقام الإلهية، كما صنعتم في المسيح وهو نبي من الأنبياء، فجعلتموه إلهاً من دون الله، وما ذاك إلاّ لاقتدائكم بشيوخكم شيوخ الضلال الذين هم سلفكم ممن ضل قديماً ﴿ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل ﴾ أي وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال إلى طريق الغواية والضلال.
يخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل فيما أنزله على داود نبيه عليه السلام، وعلى لسان عيسى ابن مريم بسبب عصيانهم لله واعتداءهم على خلقه. قال ابن عباس : لعنوا في التوراة والإنجيل وفي الزبور، وفي الفرقان، ثم بين حالهم فيما كانوا يعتمدونه في زمانهم، فقال تعالى :﴿ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ أي كان لا ينهى أحد منهم أحداً عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليحذر أن يركب مثل الذي ارتكبوه فقال :﴿ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾، وقال الإمام أحمد عن عبد الله قال، قال رسول الله ﷺ :« لما وقعت بنوا إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم، ﴿ ذلك بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴾ » وكان رسول الله ﷺ متكئاً فجلس فقال :« لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطراً » وقال أبو داود عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله ﷺ :« إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال :﴿ لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ ﴾ إلى قوله :﴿ فَاسِقُونَ ﴾، ثم قال : كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً، أو تقصرنه على الحق قصراً ».
والأحاديث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جداً، ولنذكر منها ما يناسب هذا المقام عن حذيفة بن اليمان أن النبي ﷺ قال :« والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم » وعن عائشة قالت : سمعت رسول الله ﷺ يقول :« مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم »، وفي الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول الله ﷺ :« من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان »، رواه مسلم، وقال ﷺ :« إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة »
685
وعن النبي ﷺ قال :« إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها، كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها، كان كمن شهدها » وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قام خطيباً فكان فيما قال :« ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول الحق إذا علمه »، فبكى أبو سعيد، وقال : قد والله رأينا أشياء فهبنا وفي الحديث قال رسول الله ﷺ :« أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر » وعن أنس بن مالك قال : قال : قيل :« يا رسول الله متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال :» إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم «، قلنا يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال :» الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم، والعلم في رذالكم « قال زيد : تفسير معنى قول النبي ﷺ والعلم في رذالكم : إذا كان العلم في الفساق. وقوله تعالى :﴿ ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ ﴾ قال مجاهد : يعني بذلك المنافقين. وقوله :﴿ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ ﴾ يعني بذلك موالاتهم للكافرين وتركهم موالاة المؤمنين التي أعقبتهم نفاقاً في قلوبهم وأسخطت الله عليهم سخطاً مستمراً إلى يوم معادهم، ولهذا قال :﴿ أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ ﴾ وفسر بذلك ما ذمهم به ثم أخبر عنهم أنهم ﴿ وَفِي العذاب هُمْ خَالِدُونَ ﴾ يعني يوم القيامة. وقوله تعالى :﴿ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ ﴾ أي لو آمنوا حق الإيمان بالله والرسول والقرآن لما ارتكبوا من موالاة الكافرين في الباطن ومعاداة المؤمنين بالله والنبي وما أنزل إليه، ﴿ ولكن كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ أي خارجون عن طاعة الله ورسوله مخالفون لآيات وحيه وتنزيله.
686
قال ابن عباس : نزلت هذه الآيات في النجاشي وأصحابه، الذين حين تلا عليهم ( جعفر بن أبي طالب ) بالحبشة القرآن بكوا، حتى أخضلوا لحاهم. وهذا القول فيه نظر، لأن هذه الآية مدنية، وقصة جعفر مع النجاشي قبل الهجرة، وقال سعيد بن جبير والسدي وغيرهما : نزلت في وفد بعثهم النجاشي إلى النبي ﷺ ليسمعوا كلامه ويروا صفاته، فلما رأوه وقرأ عليهم القرآن أسلموا وبكوا وخشعوا. ثم رجعوا إلى النجاشي فأخبروه. وقال عطاء بن أبي رباح : هم قوم من أهل الحبشة أسلموا حين قدم عليهم مهاجرة الحبشة من المسلمين، وقال قتادة : هم قوم كانوا على دين عيسى بن مريم فلما رأوا المسلمين وسمعوا القرآن أسلموا ولم يتلعثموا، واختار ابن جرير أن هذه الآيات نزلت في صفة أقوام بهذه المثابة سواء كانوا من الحبشة أو غيرها. فقوله تعالى :﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ ﴾ ما ذاك إلاّ لأن كفر اليهود كفر عناد وجحود، ومباهتة للحق، وغمط للناس، وتنقص بحملة العلم، ولهذا قتلوا كثيراً من الأنبياء، حتى هموا بقتل رسول الله ﷺ غير مرة وسمّوه وسحروه، وألبوا عليه أشباههم من المشركين عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. قال رسول الله ﷺ :« ما خلا يهودي بمسلم قط إلاّ هم بقتله ».
وقوله تعالى :﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى ﴾ أي الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة، وما ذاك إلاّ لما في قلوبهم إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة، كما قال تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ﴾ [ الحديد : ٢٧ ]، وفي كتابهم : من ضربك على خدك الإيمن فأدر له خدك الأيسر، وليس القتال مشروعاً في ملتهم، ولهذا قال تعالى :﴿ ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ أي يوجد فيهم القسيسون، وهم خطباؤهم وعلماؤهم، واحدهم قسيس وقس أيضاً، وقد يجمع على قسوس، والرهبان جمع راهب وهو العابد، مشتق من الرهبة وهي الخوف كراكب وركبان وفارس وفرسان. قال ابن جرير : وقد يكون الرهبان واحداً وجملة، رهابين، مثل قربان وقرابين، وقد يجمع على رهابنة، ومن الدليل على أنه يكون عند العرب واحداً قول الشاعر :
لو عاينت رهبان دير في القلل لانحدر الرهبان يمشي ونزل
وقال ابن أبي حاتم عن جاثمة بن رئاب قال : سمعت سلمان، وسئل عن قوله :﴿ ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً ﴾ فقال : هم الرهبان الذين هم في الصوامع والخرب، فدعوهم فيها، قال سلمان : وقرأت على النبي ﷺ :﴿ ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ﴾، فأقرأني :« ذلك بأن منهم صدّيقين ورهباناً ».
687
فقوله :﴿ ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾، تضمن وصفهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع، ثم وصفهم بالانقياد للحق واتباعه والإنصاف، فقال :﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق ﴾ أي مما عندهم من البشارة ببعثة محمد ﷺ ﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين ﴾ أي مع من يشهد بصحة هذا ويؤمن به، وقد روى النسائي عن عبد الله بن الزبير قال : نزلت هذه الآية في النجاشي وفي أصحابه :﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين ﴾. عن ابن عباس في قوله :﴿ فاكتبنا مَعَ الشاهدين ﴾ أي مع محمد ﷺ وأمته، هم الشاهدون يشهدون لنبيهم ﷺ أنه قد بلغ وللرسل أنهم قد بلغوا، وكانوا ( كرّابين ) يعني فلاحين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة، فلما قرأ رسول الله ﷺ عليهم القرآن آمنوا وفاضت أعينهم. قال تعالى :﴿ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله وَمَا جَآءَنَا مِنَ الحق وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين ﴾، وهذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خاشعين للَّهِ ﴾ [ آل عمران : ١٩٩ ] الآية، وهم الذين قال الله فيهم :﴿ وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ﴾ [ القصص : ٥٣ ]، ولهذا قال تعالى هاهنا :﴿ فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ أي فجازاهم على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق، ﴿ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ أي ماكثين فيها أبداً لا يحولون ولا يزولون، ﴿ وذلك جَزَآءُ المحسنين ﴾ أي في اتباعهم الحق وانقيادهم له حيث كان وأين كان ومع من كان، ثم أخبر عن حال الإشقياء فقال :﴿ والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ ﴾ أي جحدوا بها وخالفوها، ﴿ أولئك أَصْحَابُ الجحيم ﴾ أي هم أهلها والداخلون فيها.
688
قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبي ﷺ قالوا : نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان، فبلغ ذلك النبي ﷺ، فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك، فقالوا : نعم، فقال النبي ﷺ :« لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني ومن لمن يأخذ بسنتي فليس مني »، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن ناساً من أصحاب رسول الله ﷺ سألوا أزواج النبي ﷺ عن عمله في السر، فقال بعضهم : لا آكل اللحم، وقال بعضهم : لا أتزوج النساء، وقال بعضهم : لا أنام على فراش، فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال :« ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر، وأنام واقوم وآكل اللحم وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني » وعن ابن عباس : أن رجلاً أتى النبي ﷺ فقال : يا رسول الله إني إذا أكلت من هذا اللحم انتشرت للنساء، وإني حرمت عليَّ اللحم، فنزلت :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ ﴾، وقال سفيان الثوري عن عبد الله بن مسعود قال : كنا نغزو مع النبي ﷺ، وليس معنا نساء فقلنا : ألا نستخصي، فنهانا رسول الله ﷺ عن ذلك، ورخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ ﴾ الآية، وهذا كان قبل تحريم نكاح المتعة، والله أعلم. وعن مسروق قال : كنا عند عبد الله بن مسعود فجيء بضرع فتنحّى رجل، فقال له عبد الله : أدن. فقال : إني حرمت أن آكله، فقال عبد الله : ادن فأطعم وكفر عن يمينك، وتلا هذه الآية :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ ﴾ الآية.
وقد ذهب بعض العلماء كالشافعي وغيره إلى أن من حرم مأكلاً أو ملبساً أو شيئاً ما عدا النساء أنه لا يحرم عليه ولا كفارة عليه أيضاً لقوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ ﴾، ولأن الذي حرّم اللحم على نفسه لم يأمره النبي ﷺ بكفارة، وذهب آخرون منهم الإمام ( أحمد بن حنبل ) إلى أن من حرّم مأكلاً أو مشرباً أو ملبساً أو شيئاً من الأشياء فإنه يجب عليه بذلك كفارة يمين كما إذا التزم تركه باليمين، فكذلك يؤاخذ بمجرد تحريمه على نفسه إلزاماً له بما التزمه كما أفتى بذلك ابن عباس، وكما في قوله تعالى :
689
﴿ ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ التحريم : ١ ] ثم قال :﴿ قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ﴾ [ التحريم : ٢ ] الآية. وكذلك ها هنا لما ذكر هذا الحكم عقبة بالآية المبينة لتكفير اليمين، فدل على أن هذا منزل منزلة اليمين في اقتضاء التكفير، والله أعلم. وقال ابن جرير : أراد رجالا منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو أن يتبتلوا ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح، فنزلت هذه الآية. وقال ابن جريج عن عكرمة : إن عثمان بن مظعون، وعلي بن أي طالب، وابن مسعود، والمقداد بن الأسود، وسالماً مولى أبي حذيفة في أصحابه تبتلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح، وحرموا طيبات الطعام واللباس إلاّ ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهموا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار، فنزلت هذه الآية :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين ﴾، يقول : لا تسيروا بغير سنّة المسلمين، يريد ما حرموا من النساء والطعام واللباس وما أجمعوا له من قيام الليل وصيام النهار وما هموا به من الاختصاء، فلما نزلت فيهم، بعث إليهم رسول الله ﷺ فقال :« إن لأنفسكم حقاً، وإن لأعينكم حقاً، صوموا وأفطروا، وصلوا وناموا، فليس منا من ترك سنتنا » فقالوا : اللهم سلمنا واتبعنا ما أنزلت.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تعتدوا ﴾ يحتمل أن يكون المراد منه : لا تبالغوا في التضييق على أنفسكم بتحريم المباحات عليكم كما قاله من قاله من السلف، ويحتمل أن يكون المراد كما لا تحرموا الحلال فلا تعتدوا في تناول الحلال، بل خذوا منه بقدر كفايتكم وحاجتكم ولا تجاوزوا الحد فيه، كما قال تعالى :﴿ وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا ﴾ [ الأعراف : ٢١ ] وقال :﴿ والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ﴾ [ الفرقان : ٦٧ ] فشرع الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه، لا إفراط ولا تفريط. ولهذا قال :﴿ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين ﴾ ثم قال :﴿ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً ﴾ أي في حال كونه حلالاً طيباً، ﴿ واتقوا الله ﴾ أي في جميع أموركم واتبعوا طاعته ورضوانه واتركوا مخالفته وعصيانه ﴿ الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾.
690
قد تقدم الكلام على اللغو في اليمين في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا ولله الحمد والمنة؛ وأنه قول الرجل في الكلام من غير قصد ( لا والله، وبلى والله ). وهذا مذهب الشافعي، وقيل : هو في الهزل، وقيل : في المعصية، وقيل : على غلبة الظن، وهو قول أبي حنيفة وأحمد، وقيل : في اليمين في الغضب، وقيل : في النسيان، وقيل : هو الحلف على ترك المأكل والمشرب والملبس ونحو ذلك، واستدلوا بقوله :﴿ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ ﴾، والصحيح أنه اليمين من غير قصد بدليل قوله :﴿ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان ﴾ أي بما صممتم عليه منها وقصدتموها ﴿ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ﴾ يعني محاويج من الفقراء ومن لا يجد ما يكفيه. وقوله :﴿ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ﴾ قال ابن عباس : أي من أعدل ما تطعمون أهليكم، وقال عطاء : من أمثل ما تطعمون أهليكم. وقد كان الرجل يقوت بعض أهله قوت دون، وبعضهم قوتاً فيه سعة، فقال الله تعالى :﴿ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ﴾ أي من الخبز والزيت. عن ابن عمر في قوله :﴿ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ﴾ قال : الخبز والسمن، والخبز واللبن، والخبز والزيت، والخبز والتمر. ومن أفضل ما تطعمون أهليكم : الخبز واللحم. واختار ابن جرير أن المراد بقوله :﴿ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ﴾، أي في القلة والكثرة، ثم اختلف العلماء في مقدار ما يطعمهم، فقال علي : يغديهم ويعشيهم، وقال الحسن ومحمد بن سيرين : يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلةً واحدة خبزاً ولحماً فإن لم يجد، فخبزاً وسمناً ولبناً، فإن لم يجد فخبزاً وزيتاً وخلاً حتى يشبعوا. وقال آخرون : يطعم كل واحد من العشرة نصف صاع من بر أو تمر ونحوهما. وقال أبو حنيفة : نصف صاع بر وصاع مما عداه، لما روي عن ابن عباس قال : كفّر رسول الله ﷺ بصاع من تمر وأمر الناس به ومن لم يجد فنصف صاع من بر؛ وقال الشافعي : الواجب في كفارة اليمين مد بمد النبي ﷺ لكل مسكين ولم يتعرض للأدم، واحتج بأمر النبي ﷺ للذي جامع في رمضان بأن يطعم ستين مسكيناً من مكتل يسع خمسة عشر صاعاً لكل واحد منهم، وقال أحمد : مد من بر أو مدان من غيره والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ أَوْ كِسْوَتُهُمْ ﴾ قال الشافعي رحمه الله : لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة من قميص أو سراويل أو إزار أو عمامة أو مقنعة أجزأه ذلك، وقال مالك وأحمد بن حنبل : لا بد أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصح أن يصلي فيه إن كان رجلاً أو امرأة كل بحسبه والله أعلم، وقال الحسن : ثوب ثوب، وقال الثوري : عمامة يلف بها رأسه وعباءة يلتحف بها.
691
وقوله :﴿ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾ أخذ أبو حنيفة بإطلاقها فقال : تجزىء الكافرة كما تجزىء المؤمنة، وقال الشافعي وآخرون : لا بد أن تكون مؤمنة، وأخذ تقييدها بالإيمان من كفارة القتل لاتحاد الموجب، وإن اختلف السبب، ومن حديث معاوية بن الحكم السلمي أنه ذكر أن عليه عتق رقبة وجاء معه بجارية سوداء، فقال لها رسول الله :« » أين الله؟ « قالت : في السماء، قال :» من أنا « قالت : رسول الله، قال :» أعتقها فإنها مؤمنة « الحديث بطوله، فهذه خصال ثلاث في كفارة اليمنين أيها فعل الحانث أجزأ عنه بالإجماع، وقد بدأ بالأسهل فالأسهل، فالإطعام أسهل، وأيسر من الكسوة، كما أن الكسوة أيسر من العتق، فيرقى فيها من الأدنى إلى الأعلى، فإن لم يقدر الملكف على واحدة من هذه الخصال الثلاث كفّر بصيام ثلاثة أيام، كما قال تعالى :﴿ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ﴾، وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير والحسن البصري أنهما قالا : من وجد ثلاثة دراهم لزمه الإطعام وإلاّ صام، واختلف العلماء هل يجب فيها التتابع أو يستحب ويجزىء التفريق؟ قولان : أحدهما لا يجب، ولهذا منصوص الشافعي في كتاب الأيمان، وهو قول مالك لإطلاف قوله :﴿ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ﴾، وهو صادق على المجموعة والمفرقة كما في قضاء رمضان لقوله :﴿ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [ البقرة : ١٨٤، ١٨٥ ] ونص الشافعي في موضع آخر في » الأم « على وجوب التتابع كما هو قول الحنفية والحنابلة، لأنه قد روي عن أبي بن كعب وغيره أنهم كانوا يقرأونها :( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ). وهذه إذا لم يثبت كونها قرآناً متواتراً فلا أقل أن يكون خبر واحد، أو تفسيراً من الصحابة، وهو في حكم المرفوع. وقوله :﴿ ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ﴾ أي هذه كفارة اليمين الشرعية ﴿ واحفظوا أَيْمَانَكُمْ ﴾ قال ابن جرير : لا تتركوها بغير تكفير، ﴿ كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ ﴾ أي يوضحها ويفسرها ﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾.
692
يقول تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن تعاطي الخمر والميسر وهو القمار، وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : الشطرنج من الميسر، رواه ابن أبي حاتم، قال مجاهد وعطاء : كل شيء من القمار فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز. وروي عن راشد بن سعد وضمرة بن حبيب مثله، وقالا : حتى الكعاب والجوز والبيض التي تلعب بها الصبيان، وقال ابن عمر وابن عباس : الميسر هو القمار، كانوا يتقامرون في الجاهلية إلى مجيء الإسلام، فنهاهم الله عن هذه الأخلاق القبيحة. وقال مالك : كان ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين وقال الزهري : الميسر الضرب بالقداح على الأموال والثمار. وقال القاسم بن محمد : كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو من الميسر، وكأن المراد بهذا هو النرد الذي ورد الحديث به في صحيح مسلم. قال رسول الله ﷺ :« من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه »، وفي موطأ مالك عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله ﷺ :« من لعب النرد فقد عصى الله ورسوله »، وأما الشطرنج فقد قال عبد الله بن عمر : إنه شر من النرد، وتقدم عن علي أنه قال : هو من الميسر، ونص على تحريمه مالك وأبو حنيفة وأحمد، وكرهه الشافعي رحمهم الله تعالى، وأما الأنصاب فقال ابن عباس ومجاهد : هي حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها، وأما الأزلام فقالوا أيضاً : هي قداح كانوا يستقسمون بها، وقوله تعالى :﴿ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان ﴾، قال ابن عباس : أي سخط من عمل الشيطان، وقال سعيد بن جبير : إثم، وقال زيد بن أسلم : أي شر من عمل الشيطان، ﴿ فاجتنبوه ﴾ الضمير عائد على الرجس أي اتركوه، ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ وهذا ترغيب، ثم قال تعالى :﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾ وهذا تهديد وترهيب.
( ذكر الأحاديث الواردة في بيان تحريم الخمر )
قال الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : حرمت الخمر ثلاث مرات : قدم رسول الله ﷺ المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله ﷺ عنهما فأنزل الله :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ] إلى آخر الآية، فقال الناس ما حرما علينا، إنما قال :﴿ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ] وكانوا يشربون الخمر حتى كان يوماً من الأيام صلى رجل من المهاجرين، أم أصحابه في المغرب، فخلط في قراءته، فأنزل الله آية أغلظ منها :﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ﴾، فكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مغبق، ثم أنزلت آية أغلظ منها :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ قالوا : انتهينا ربنا، وقال الناس : يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله وماتوا على سرفهم، كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر، وقد جعله الله رجساً من عمل الشيطان فأنزل الله تعالى :﴿ لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا ﴾ إلى آخر الآية، فقال النبي ﷺ :
693
« لو حرم عليهم لتركوه كما تركتم »، وقال الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب أنه قال : لما نزل تحريم الخمر قال : اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية في البقرة :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ﴾ [ الآية : ٢١٩ ]، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال : اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في سورة النساء :﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى ﴾ [ الآية : ٤٣ ]، فكان منادي رسول الله ﷺ إذا قال : حي على الصلاة نادى : لا يقربن الصلاة سكران. فدعي عمر فقرئت عليه، فقال : اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه، فلما بلغ قول الله تعالى :﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾ قال عمر : انتهينا انتهينا. وقد ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قال في خطبته على منبر رسول الله : أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة : العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير. والخمر ما خامر العقل. وقال البخاري عن ابن عمر قال : نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربه ما فيها شراب العنب.
( حديث آخر ) : عن عبد الرحمن بن وعلة قال :« سألت ابن عباس عن بيع الخمر؟ فقال : كان لرسول الله ﷺ صديق من ثقيف أو من دوس، فلقيه يوم الفتح براوية خمر يهديها إليه. فقال رسول الله ﷺ :» يا فلان أما علمت أن الله حرمها « فأقبل الرجل على غلامه فقال : اذهب فبعها. فقال رسول الله ﷺ :» يا فلان بماذا أمرته «؟ فقال : أمرته أن يبيعها. قال :» إن الذي حرم شربها حرم بيعها « فأمر بها فأفرغت في البطحاء ».
( حديث آخر ) قال الحافظ أبو يعلى الموصلي عن تميم الداري :« أنه كان يهدى لرسول الله ﷺ كل عام راوية من خمر فلما أنزل الله تحريم الخمر جاء بها، فلما رآها رسول الله ﷺ ضحك وقال :» إنها قد حرمت بعدك « قال : يا رسول الله فأبيعها وأنتفع بثمنها؟ فقال رسول الله ﷺ :» لعن الله اليهود حرمت عليهم شحوم البقر والغنم فأذابوه وباعوه والله حرم الخمر وثمنها « ».
694
( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن نافع بن كيسان :« أن أباه أخبره أنه كان يتجر في الخمر في زمن رسول الله ﷺ، وأنه أقبل من الشام ومعه خمر في الزقاق، يريد بها التجارة، فأتى بها رسول الله ﷺ فقال : يا رسول الله إني جئتك بشراب طيب، فقال رسول الله ﷺ :» يا كيسان إنها قد حرمت بعدك «، قال : فأبيعها يا رسول الله؟ فقال رسول الله ﷺ :» إنها قد حرمت وحرم ثمنها « فانطلق كيسان إلى الزقاق فأخذ بأرجلها ثم أهراقها ».
( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن أنس. قال : كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب وسهيل بن بيضاء ونفراً من أصحابه عند أبي طلحة، حتى كاد الشراب يأخذ منهم، فأتى آت من المسلمين فقال : أما شعرتم أن الخمر قد حرمت؟ فقالوا : حتى ننظر، ونسأل، فقالوا : يا أنس اسكب ما بقي في إنائك فوالله ما عادوا فيها، وما هي إلاّ التمر والبسر وهي خمرهم يومئذ. وفي رواية عن أنس قال : كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة وما شرابهم إلى الفضيخ البسر والتمر، فإذا مناد ينادي قال : اخرج فانظر، فإذا مناد ينادي : ألا إن الخمر قد حرمت، فجريت في سكك المدينة، قال : فقال لي أبو طلحة : أخرج فأهرقها فهرقتها، فقالوا : أو قال بعضهم قتل فلان وفلان وهي في بطونهم، قال : فأنزل الله :﴿ لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا ﴾ الآية. وعنه قال : بينما أنا أدير الكأس على أبي طلحة وأبي عبيدة بن الجراح وأبي دجانة ومعاذ بن جبل وسهيل ابن بيضاء حتى مالت رؤوسهم من خليط بسر وتمر، فسمعت منادياً ينادي : ألا إن الخمر حرمت، قال : فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج حتى أهرقنا الشراب، وكسرنا القلال، وتوضأ بعضنا، واغتسل بعضنا، وأصبنا من طيب أم سليم، ثم خرجنا إلى المسجد، فإذا رسول الله ﷺ يقرأ :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه ﴾، إلى قوله :﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾ فقال رجل : يا رسول الله فما ترى فيمن مات وهو يشربها؟ فأنزل الله تعالى :﴿ لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا ﴾ الآية، فقال رجل لقتادة : أنت سمعته من أنس بن مالك؟ قال : نعم، وقال رجل لأنس بن مالك أنت سمعته من رسول الله ﷺ ؟ قال : نعم.
695
ما كنا نكذب ولا ندري ما الكذب.
( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ﷺ قال :« إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وكل مسكر حرام »، وعن أبي طعمة سمعت ابن عمر يقول :« خرج رسول الله ﷺ إلى المربد، فخرجت معه فكنت عن يمنيه، وأقبل أبو بكر فتأخرت عنه فكان عن يمينه؟ وكنت عن يساره، ثم أقبل عمر فتنحيت له فكان عن يساره، فأتى رسول الله ﷺ المربد، فإذا بزقاق على المربد فيها خمر، قال ابن عمر : فدعاني رسول الله ﷺ بالمدية، قال ابن عمر : وما عرفت المدية إلاّ يومئذٍ، فأمر بالزقاق فشقت، ثم قال :» لعنت الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وحاملها والمحمولة إليه وعاصرها ومعتصرها وآكل ثمنها « ».
( حديث آخر ) عن مصعب بن سعد عن سعد قال : أنزلت في الخمر أربع آيات، فذكر الحديث، قال : وضع رجل من الأنصار طعاماً فدعانها فشربنا الخمر، قبل أن تحرم حتى انتشينا فتفاخرنا، فقالت الأنصار : نحن أفضل، وقالت قريش : نحن أفضل، فأخذ رجل من الأنصار لحي جزور، فضرب به أنف سعد ففزره، وكانت أنف سعد مفزورة، فنزلت :﴿ إِنَّمَا الخمر والميسر ﴾، إلى قوله تعالى :﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾. ( حديث آخر ) : عن ابن عباس قال : إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا، فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ورأسه ولحيته، فيقول : صنع بي هذا أخي فلان، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فيقول : والله لو كان بي رؤوفاً رحيماً ما صنع بي هذا، حتى وقعت الضغائن في قلوبهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾ فقال أناس من المتكلفين : هي رجس وهي في بطن فلان، وقد قتل يوم أحد، فأنزل الله تعالى :﴿ لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا ﴾ إلى آخر الآية ( حديث آخر ) : قال ابن جرير عن أبي بريدة عن أبيه قال : بينما نحن قعود على شراب لنا، ونحن على رملة، ونحن ثلاثة أو أربعة وعندنا باطية لنا ونحن نشرب الخمر حلاً، إذ قمت حتى آتي رسول الله ﷺ فأسلم عليه، إذ نزل تحريم الخمر :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر ﴾ إلى آخر الآيتين ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾، فجئت إلى أصحابي، فقرأتها عليهم، إلى قوله :﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾ قال : وبعض القوم شربته في يده قد شرب بعضها، وبقي بعض في الإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام ثم صبوا ما في باطيتهم، فقالوا : انتهينا ربنا.
696
( حديث آخر ) قال البخاري عن جابر قال : صبّح أناس غداة أُحُد فقتلوا من يومهم جميعاً شهداء، وذلك قبل تحريمها.
( حديث آخر ) : قال أبو داود الطيالسي عن البراء بن عازب قال : لما نزل تحريم الخمر قالوا : كيف بمن كان يشربها قبل أن تحرم؟ فنزلت ﴿ لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا ﴾ الآية. ( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن أنس بن مالك :« أن أبا طلحة سأل رسول الله ﷺ عن أيتام في حجره ورثوا خمراً، فقال :» أهرقها « قال : أفلا نجعلها خلاً؟ قال :» لا « ».
( حديث آخر ) : عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال :« من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة » وعن نافع عن ابن عمر قال، قال رسول الله ﷺ :« كل مسكر حرام، ومن شرب الخمر فمات وهو يدمنها ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة » ( حديث آخر ) : عن أبي سعيد عن النبي ﷺ قال :« لا يدخل الجنة منّان، ولا عاق، ولا مدمن خمر » وقال الزهري عن عثمان بن عفان قال :« اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس فعلقته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها أن تدعوه لشهادة فدخل معها، فطفقت كلما دخل باباً أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر، فقالت : إني والله ما دعوتك لشهادة، ولكن دعوتك لتقع علي، أو تقتل هذا الغلام، أو تشرب هذا الخمر. فسقته كأساً فقال : زيدوني، فلم يرم حتى وقع عليها، وقتل النفس. فاجتنبوا الخمر، فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبداً إلاّ أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه ». وله شاهد في الصحيحين عن رسول الله ﷺ أنه قال :« لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق سرقة حين يسرقها وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن » قال الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد أنها سمعت النبي ﷺ يقول :« » من شرب الخمر لم يرض الله عنه أربعين ليلة إن مات؛ مات كافراً، وإن تاب تاب الله عليه، وإن عاد كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال «، قالت، قلت : يا رسول الله! وما طينة الخبال؟ قال :» صديد أهل النار « ».
697
قال ابن عباس في قوله :﴿ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مِّنَ الصيد تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ ﴾ قال : هو الضعيف من الصيد وصغيره. يبتلي الله به عباده في إحرامهم حتى لو شاءوا لتناولوه بأيديهم فنهاهم الله أن يقربوه، وقال مجاهد :﴿ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ ﴾ يعني صغار الصيد وفراخه. ﴿ وَرِمَاحُكُمْ ﴾ يعني كباره، وقال مقاتل بن حيان : أنزل هذه الآية في عمرة الحديبية، فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط فيما حلا، فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون، ﴿ لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب ﴾ يعني أنه تعالى يبتليهم بالصيد يغشاهم في رحالهم يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سراً وجهراً، لتظهر طاعة من يطيع منهم في سره أو جهره، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [ الملك : ١٢ ] وقوله ها هنا :﴿ فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك ﴾، قال السدي وغيره : يعني بعد هذا الإعلام والإنذار والتقدم ﴿ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾، أي لمخالفته أمر الله وشرعه، ثم قال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾، وهذا تحريم منه تعالى لقتل الصيد في حال الإحرام ونهي عن تعاطيه فيه، وهذا إنما يتناول من حيث المعنى المأكول، ولو ما تولد منه ومن غيره، فأما غير المأكول من حيوانات البر، فعند الشافعي يجوز للمحرم قتلها، والجمهور على تحريم قتلها أيضاً، ولا يستثنى من ذلك إلاّ ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله ﷺ قال :« خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور » وقال مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال :« خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب والحدأة والفأرة والكلب العقور » قال أيوب : فقلت لنافع فالحية؟ قال : الحية لا شك فيها ولا يختلف في قتلها، ومن العلماء كمالك وأحمد من ألحق بالكلب العقور « الذئب والسبع والفهد » لأنها أشد ضرراً منه. فالله أعلم. وقال زيد بن أسلم : الكلب العقور يشمل هذه السباع العادية كلها، واستأنس من قال بهذا بما روي أن رسول الله ﷺ لما دعا على عتبة بن أبي لهب قال :« اللهم سلط عليه كلبك بالشام، فأكله السبع بالزرقاء ».
وقوله تعالى :﴿ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم ﴾. الذي عليه الجمهور أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه، وقال الزهري : دل الكتاب على العامد وجرت السنّة على الناسي، ومعنى هذا أن القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمد وعلى تأثيمه بقوله :﴿ لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا الله عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ ﴾ وجاءت السنّة من أحكام النبي ﷺ وأحكام أصحابه بوجوب الجزاء في الخطأ كما دل الكتاب عليه في العمد، وأيضاً فإن قتل الصيد إتلاف والإتلاف مضمون في العمد وفي النسيان، لكن المتعمد مأثوم والمخطىء غير ملوم، وقوله تعالى :﴿ فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم ﴾ قرأ بعضهم بالإضافة، وقرأ آخرون بعطفها، وحكى ابن جرير أن ابن مسعود قرأ :( فجزاؤه مثلُ ما قتل من النعم )، وفي قوله :﴿ فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم ﴾ على كل من القراءتين دليل لما ذهب إليه الجمهور من وجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم إذا كان له مثل من الحيوان الإنسي، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله حيث أوجب القيمة سواء كان الصيد المقتول مثلياً أو غير مثلي.
698
وقوله تعالى :﴿ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ ﴾ يعني أنه يحكم بالجزاء في المثل أو بالقيمة من غير المثل عدلان من المسلمين، واختلف العلماء في القاتل هل يجوز أن يكون أحد الحكمين على قولين ( أحدهما ) : لا، لأنه قد يتهم في حكمه على نفسه وهذا مذهب مالك، ( والثاني ) : نعم لعموم الآية وهو مذهب الشافعي وأحمد، قال ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران : أن أعرابياً أتى أبا بكر فقال : قتلت صيداً وأنا محرم، فما ترى علي من الجزاء؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه لأبي بن كعب وهو جالس عنده : ما ترى فيها؟ قال فقال الأعرابي : أتيتك وأنت خليفة رسول الله ﷺ أسألك، فإذا أنت تسأل غيرك؟ فقال أبو بكر : وما تنكر؟ يقول الله تعالى :﴿ فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ ﴾، فشاورت صاحبي، حتى إذا اتفقنا على أمر أمرناك به. فبين له الصديق الحكم برفق وتؤدة لما رآه أعرابياً جاهلاً، وإنما دواء الجهل التعليم. وقال ابن جرير عن أبي وائل. أخبرني ابن جرير البجلي قال : اصبت ظبياً وأنا محرم، فذكرت ذلك لعمر، فقال : ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك، فأتيت عبد الرحمن وسعداً فحكما علي بتيس أعفر.
واختلفوا : هل تستأنف الحكومة في كل ما يصيبه المحرم، فيجب أن يحكم فيه ذوا عدل، وإن كان قد حكم في مثله الصحابة، أو يكتفي بأحكام الصحابة المتقدمة؟ على قولين : فقال الشافعي وأحمد : يتبع في ذلك ما حكمت به الصحابة وجعلاه شرعاً مقرراً لا يعدل عنه وما لم يحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى عدلين، وقال مالك وابو حنيفة : بل يجب الحكم في كل فرد فرد سواء وجد للصحابة في مثله حكم أم لا لقوله تعالى :﴿ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ ﴾. وقوله تعالى :﴿ هَدْياً بَالِغَ الكعبة ﴾ أي واصلاً إلى الكعبة، والمراد وصوله إلى الحرم بأن يذبح هناك ويفرق لحمه على مساكين الحرم، وهذا أم متفق عليه في هذه الصورة.
699
وقوله :﴿ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً ﴾ أي إذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النعم أو لم يكن الصيد المقتول من ذوات الأمثال، أو قلنا بالتخيير في هذ المقام بين الجزاء والإطعام والصيام، كما هو قول مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي والمشهور عن أحمد رحمهم الله، لظاهر « أو » بأنها للتخيير. والقول الآخر على الترتيب : فصورة ذلك أن يعدل إلى القيمة، فيقوّم الصيد المقتول عند مالك وابي حنيفة وأصحابه، وقال الشافعي : يقوم مثله من النعم لو كان موجوداً، ثم يشتري به طعام فيتصدق به فيصرف لكل مسكين مد منه عند الشافعي ومالك وفقهاء الحجاز واختاره ابن جرير وقال أبو حنيفة وأصحابه : يطعم كل مسكين مُدَيْن، وهو قول مجاهد. وقال أحمد : مد من حنطة أو مدان من غيره، فإن لم يجد أو قلنا بالتخيير صام عن إطعام كل مسكين يوماً، واختلفوا في مكان هذا الإطعام، فقال الشافعي : مكانه الحرم وهو قول عطاء، وقال مالك : يطعم في المكان الذي أصاب فيه الصيد أو أقرب الأماكن إليه، وقال أبو حنيفة : إن شاء أطعم في الحرم وإن شاء أطعم في غيره.
وقوله تعالى :﴿ لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ﴾ أي أوجبنا عليه الكفارة ليذوق عقوبة فعله الذي ارتكب فيه المخالفة، ﴿ عَفَا الله عَمَّا سَلَف ﴾ أي في زمان الجاهلية لمن أحسن في الإسلام واتبع شرع الله ولم يرتكب المعصية، ثم قال :﴿ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ ﴾ أي ومن فعل ذلك بعد تحريمه في الإسلام وبلوغ الحكم الشرعي إليه ﴿ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام ﴾. قال ابن جريج : قلت لعطاء : ما ﴿ عَفَا الله عَمَّا سَلَف ﴾ ؟ قال : عما كان في الجاهلية. قال، قلت : وما ﴿ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ ﴾ ؟ قال : ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه، وعليه مع ذلك الكفارة، قال، قلت : فهل في العود من حد تعلمه! قال : لا، قال، قلت : فترى حقاً على الإمام أن يعاقبه؟ قال : لا، هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله عزَّ وجلَّ، ولكن يفتدي، رواه ابن جرير. وقيل : معناه : فينتقم الله منه بالكفارة؛ قاله سعيد بن جبير وعطاء ثم الجمهور من السلف والخلف : على أنه متى قتل المحرم الصيد وجب الجزاء، ولا فرق بين الأولى والثانية والثالثة، وإن تكرر سواء الخطأ في ذلك والعمد. وقال ابن جرير عن ابن عباس فيمن أصاب صيداً يحكم عليه ثم عاد، قال : لا يحكم عليه، ينتقم الله منه. قوله ﴿ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام ﴾ أي : والله منيع في سلطانه لا يقهره قاهر، ولا يمنعه من الإنتقام ممن انتقم منه، ولا من عقوبة من أرد عقوبته مانع لأن الخلق خلقه، والأمر أمره، له العزة والمنعة. وقوله :﴿ ذُو انتقام ﴾ يعني أنه ذو معاقبة لمن عصاه على معصيته إياه.
700
قال ابن عباس وسعيد بن جبير في قوله تعالى :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر ﴾ يعني ما يصطاد منه طرياً ﴿ وَطَعَامُهُ ﴾ ما يتزود منه مليحاً يابساً، وقال ابن عباس في الرواية المشهورة عنه : صيده ما أخذ منه حياً ﴿ وَطَعَامُهُ ﴾ ما لفظه ميتاً. قال سفيان بن عيينة عن أبي بكر الصديق أنه قال :﴿ طَعَامُهُ ﴾ كل ما فيه. وقال ابن جرير خطب أبو بكر الناس فقال :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ ﴾ وطعامه ما قذف. وقال عكرمة عن ابن عباس قال : طعامه ما لفظ من ميتة. وقال ابن جرير إن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر فقال : إن البحر قد قذف حيتاناً كثيرة ميتة أفنأكلها كلها؟ فقال : لا تأكلوها، فلما رجع عبد الله إلى أهله أخذ المصحف فقرأ سورة المائدة، فأتى هذه الآية :﴿ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ﴾ فقال : اذهب، فقل له فليأكله فإنه طعامه. وهكذا اختار ابن جرير أن المراد بطعامه ما مات فيه. وقوله :﴿ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ﴾ أي منفعة وقوتاً لكم أيها المخاطبون، ﴿ وَلِلسَّيَّارَةِ ﴾، وهم جمع سيار، قال عكرمة : لمن كان بحضرة البحر والسفر. وقال غيره. والطري منه لمن يصطاده من حاضرة البحر، وطعامه ما مات فيه أو اصطيد منه وملح، وقد يكون زاداً للمسافرين والنائين عن البحر. وقد استدل الجمهور على حل ميتته بهذه الآية الكريمة، وبما رواه الإمام مالك عن جابر بن عبد الله قال : بعث رسول الله ﷺ بعثاً قِبَل الساحل، فأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وهم ثلثمائة، وأنا فيهم، قال : فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش، فجمع ذلك كله، فكان مزودي تمر، قال : فكان يقوتنا كل يوم قليلاً قليلاً حتى فني، فلم يكن يصيبنا إلاّ تمرة تمرة، فقال : فقد وجدنا فقدها حين فنيت، قال : ثم انتهينا إلى البحر، فإذا حوت مثل الظَّرِب، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبنا، ثم أمر براحلة، فرحلت ومرت تحتهما فلم تصبهما. وهذا الحديث مخرج في الصحيحين، وله طرق عن جابر.
وفي صحيح مسلم عن جابر : فإذا على ساحل البحر مثل الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا بدابة يقال لها العنبر، قال : قال أبو عبيدة : ميتة، ثم قال : لا، نحن رسل رسول الله ﷺ وقد اضطررتم فكلوا، قال : فأقمنا عليه شهراً ونحن ثلثمائة حتى سمنا، ولقد رايتنا نغترف من وقب عينيه بالقلال الدهن، ويقتطع منه القدر كالثور، قال : ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً، فأقعدهم في وقب عينيه، وأخذ ضلعاً من أضلاعه فأقامها، ثم رحّل أعظم بعير معنا فمر من تحته، وتزودنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله ﷺ فذكرنا ذلك له، فقال :
701
« هو رزق أخرجه الله لكم، هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ » قال : فأرسلنا إلى رسول الله ﷺ منه فأكله. وقال مالك سأل رجل رسول الله ﷺ، فقال : يا رسول الله إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله ﷺ :« هو الطهور ماؤه الحل ميتته ».
وقد احتج بهذه الآية الكريمة من ذهب من الفقهاء إلى أنه تؤكل دواب البحر، ولم يستثن من ذلك شيئاً، وقد تقدم عن الصديق أنه قال : طعامه كل ما فيه، وقد استثنى بعضهم الضفادع واباح ما سواها، لما رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي عبد الرحمن بن عثمان التيمي أن رسول الله ﷺ نهى عن قتل الضفدع، وللنسائي عن عبد الله بن عمرو قال : نهى رسول الله ﷺ عن قتل الضفدع، وقال : نقيقها تسبيح. وقال آخرون : يؤكل من صيد البحر السمك. ولا يؤكل الضفدع، واختلفوا فيما سواهما فقيل : يؤكل سائر ذلك، وقيل : لا يؤكل، وقيل : ما أكل شبهه من البر أكل مثله في البحر، وما لا يؤكل شبهه لا يؤكل. وهذه كلها وجوه في مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : لا يؤكل ما مات في البحر كما لا يؤكل ما مات في البر، لعموم قوله تعالى :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة ﴾ [ المائدة : ٣ ]، وقد ورد حديث بنحو ذلك. فقال ابن مردويه عن جابر قال، قال رسول الله ﷺ :« ما صدتموه وهو حي فمات فكلوه وما ألقى البحر ميتاً طافياً فلا تأكلوه ».
وقد احتج الجمهور من أصحاب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل بحديث العنبر المتقدم ذكره، وبحديث :« هو الطهور ماؤه الحل ميتته »، وقد تقدم أيضاً. وروى الإمام الشافعي عن ابن عمر قال، قال رسول الله ﷺ :« أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال »، وقوله :﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً ﴾ أي في حال إحرامكم يحرم عليكم الاصطياد، ففيه دلالة على تحريم ذلك، فإذا اصطاد المحرم الصيد متعمداً أثم وغرم، أو مخطئاً غرم وحرم عليه أكله لأنه في حقه كالميتة، وكذا في حق غيره من المحرمين والمحلين عند مالك والشافعي في أحد قوليه. فإن أكله أو شيئاً منه فهل يلزمه جزاء ثان؟ فيه قولان للعلماء ( أحدهما ) : نعم وإليه ذهب طائفة. ( والثاني ) : لا جزاء عليه في أكله، نص عليه مالك بن أنس.
702
قال أبو عمر بن عبد البر : وعلى هذا مذاهب فقهاء الأمصار وجمهور العلماء، وقال أبو حنيفة : عليه قيمة ما أكل. وأما إذا صاد حلال صيداً فأهداه إلى محرم، فقد ذهب ذاهبون إلى إباحته مطلقاً، ولم يستفصلوا بين أن يكون قد صاده من أجله أم لا، وبه قال الكوفيون، قال ابن جرير عن أبي هريرة : أنه سئل عن لحم صيد صاده حلال أيأكله المحرم؟ قال : فأفتاهم بأكله، ثم لقي عمر بن الخطاب فأخبره بما كان من أمره، فقال : لو أفتيتهم بغير هذا لأوجعت لك رأسك. وقال آخرون : لا يجوز أكل الصيد للمحرم بالكلية، ومنعوا من ذلك مطلقاً لعموم هذه الآية الكريمة.
روي عن ابن عباس : أنه كره أكل الصيد للمحرم، وقال : هي مبهمة، يعني قوله :﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً ﴾. وعن ابن عمر أنه كان يكره للمحرم أن يأكل من لحم الصيد على كل حال. وقد روي أن علياً كره أكل لحم الصيد للمحرم على كل حال. وقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل والجمهور : إن كان الحلال قد قصد المحرم بذلك الصيد لم يجز للمحرم أكله، لحديث الصعب بن جثامة « أنه أهدى للنبي ﷺ حماراً وحشياً، وهو بالأبواء أو بودّان فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال :» إنا لم نرده عليك إلاّ أنا حُرُم « قالوا : فوجهه أن النبي ﷺ ظن أن هذا إنما صاده من أجله فرده لذلك، فأما إذا لم يقصده بالاصطياد، فإنه يجوز له الأكل منه، لحديث أبي قتادة » حين صاد حمار وحش وكان حلالاً لم يحرم وكان أصحابه محرمين. فتوقفوا في أكله، ثم سألوا رسول الله ﷺ فقال :« هل كان منكم أحد أشار إليها أو أعان في قتلها »؟ قالوا : لا قال :« فكلوا »، وأكل منها رسول الله ﷺ «، وهذه القصة ثابتة أيضاً في الصحيحين بألفاظ كثيرة.
703
يقول الله تعالى لرسوله ﷺ :﴿ قُل ﴾ يا محمد ﴿ لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب وَلَوْ أَعْجَبَكَ ﴾ أي يا أيها الإنسان ﴿ كَثْرَةُ الخبيث ﴾ يعني أن القليل الحلال النافع خير من الكثير الحرام الضار كما جاء في الحديث :« ما قل وكفى خير مما كثر وألهى » وقال أبو القاسم البغوي عن أبي أمامة : إن ثعلبة بن حاطب الأنصاري قال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً، فقال النبي ﷺ :« قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه »، ﴿ فاتقوا الله ياأولي الألباب ﴾ أي يا ذوي العقول الصحيحة المستقيمة وتجنبوا الحرام ودعوه واقنعوا بالحلال واكتفوا به ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ أي في الدنيا والآخرة. ثم قال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ هذا تأديب من الله تعالى لعباده المؤمنين، ونهي لهم عن أن يسألوه عن أشياء مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها، لأنها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم وشق عليهم سماعها، كما جاء في الحديث أن رسول الله ﷺ قال :« لا يبلغني أحد عن أحد شيئاً، إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر »، وقال البخاري عن أنس بن مالك قال : خطب رسول الله ﷺ خطبة ما سمعت مثلها قط، وقال فيها :« لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً » قال فغطى أصحاب رسول الله ﷺ وجوههم، لهم حنين، فقال رجل : من أبي؟ قال :« فلان »، فنزلت هذه الآية :﴿ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ ﴾، وعن أبي هريرة قال :« خرج رسول الله ﷺ وهو غضبان محمار وجهه، حتى جلس على المنبر فقام إليه رجل، فقال : أين أبي؟ قال :» في النار «، فقام آخر فقال : من أبي؟ فقال :» أبوك حذافة «، فقام عمر بن الخطاب فقال : رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد ﷺ نبياً، وبالقرآن إماماً، إنَّا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك. والله أعلم من آباؤنا. قال : فسكن غضبه. ونزلت هذه الآية :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ الآية »، إسناده جيد، وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من السلف، منهم السدي. قال البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال : كان قوم يسألون رسول الله ﷺ استهزاء، فيقول الرجل : من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته : أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾، حتى فرغ من الآية كلها.
704
وظاهر الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته، فالأولى الإعراض عنها وتركها، وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال، قال رسول الله ﷺ لأصحابه :« لا يبلغني أحد عن أحد شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر »، الحديث.
وقوله تعالى :﴿ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ لَكُمْ ﴾ أي وإن تسألوا عن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها حين ينزل الوحي على رسول الله ﷺ تبين لكم، وذلك على الله يسير، ثم قال :﴿ عَفَا الله عَنْهَا ﴾ أي عما كان منكم قبل ذلك ﴿ والله غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾، وقيل المراد بقوله :﴿ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ لَكُمْ ﴾ أي لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها فلعله قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق، وقد ورد في الحديث :« أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته »، ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة فسألتم عن بيانها بينت لكم حينئذٍ لاحتياجكم إليها، ﴿ عَفَا الله عَنْهَا ﴾ أي ما لم يذكره في كتابه، فهو مما عفا عنه فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها. وفي الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال :« ذروني وما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم »، وفي الحديث الصحيح أيضاً :« إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها »، ثم قال تعالى :﴿ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ ﴾ أي قد سأل هذه المسائل المنهى عنها قوم من قبلكم فأجيبوا عنها ثم لم يؤمنوا بها فأصبحوا بها كافرين، أي بسببها، أي بينت لهم فلم ينتفعوا بها، لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد بل على وجه الاستهزاء والعناد. وقال العوفي عن ابن عباس في الآية :« إن رسول الله ﷺ أذّن في الناس فقال :» يا قوم كتب عليكم الحج « فقام رجل من بني أسد فقال : يا رسول الله أفي كل عام؟ فأغضب رسول الله ﷺ غضباً شديداً فقال :» والذي نفسي بيده لو قلت : نعم، لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، وإذا لكفرتم فاتركوني ما تركتكم، وإذا أمرتكم بشيء فافعلوا، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه «، فأنزل الله هذه الآية نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت عنه النصارى من المائدة فأصبحوا بها كافرين، فنهى الله عن ذلك، وقال : لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك، ولكن انتظروا، فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلاّ وجدتم بيانه.
705
ثم قال :﴿ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ ﴾. روي عن عكرمة رحمه الله : أن المراد بهذا النهي عن سؤال وقوع الآيات، كما سألت قريش أن يجري لهم أنهاراً وأن يجعل لهم الصفا ذهباً وغير ذلك، وكما سألت اليهود أن ينزل عليهم كتاباً من السماء، وقد قال الله تعالى :﴿ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون ﴾ [ الإسراء : ٥٩ ] الآية. وقال تعالى :﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٠٩ ].
706
قال البخاري عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب قال : البحيرة التي يمنع درُّها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة : كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء. قال، وقال أبو هريرة، قال رسول الله ﷺ :« رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قُصْبَه في النار كان أول من سيَّب السوائب » والوصيلة : الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل، ثم تثني بعد بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر، والحام : فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت، وأعفوه عن الحمل، فلم يحمل عليه شيء، وسموه الحامي. ثم قال البخاري عن الزهري عن عروة، أن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله ﷺ :« رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً، ورأيت عمراً يجر قصبه وهو أول من سيَّب السوائب » وقال الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ، قال :« إن أول من سيَّب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإني رأيته يجر أمعاءه في النار » وقال عبد الرزاق عن زيد بن أسلم قال، قال رسول الله ﷺ :« إني لأعرف أول من سيَّب السوائب، وأول من غيَّر دين إبراهيم عليه السلام، قالوا : ومن هو يا رسول الله؟ قال :» عمرو بن لحي أخو بني كعب، لقد رأيته يجر قصبه في النار تؤذي رائحته أهل النار، وإني لأعرف أول من بحر البحائر «، قالوا : ومن هو يا رسول الله؟ قال :» رجل من بني مدلج، كانت له ناقتان، فجدع آذانهما، وحرم ألبانهما، ثم شرب ألبانهما، بعد ذلك، فلقد رأيته في النار وهما يعضانه بأفواههما ويطآنه فأخفافهما «، فعمرو هذا هو ابن لحي بن قمعة أحد رؤساء خزاعة الذين ولوا البيت بعد جرهم، وكان أول من غيَّر دين إبراهيم الخليل، فأدخل الأصنام إلى الحجاز، ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها والتقرب بها، وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها، كما ذكره الله تعالى في سورة الأنعام عند قوله تعالى :﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً ﴾ [ الأنعام : ١٣٦ ] إلى آخر الآيات في ذلك.
فأما البحيرة فقال ابن عباس رضي الله عنهما : هي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن نظروا إلى الخامس، فإن كان ذكراً ذبحوه فأكله الرجال دون النساء، وإن كان أنثى جدعوا آذانها، فقالوا : هذه بحيرة. وذكر السدي وغيره قريباً من هذا؛ وأما السائبة : فقال مجاهد : هي من الغنم نحو ما فسر من البحيرة، إلا أنها ما ولدت من ولد كان بينها وبينه ستة أولاد كانت على هيئتها، فإذا ولدت السابع ذكراً أو ذكرين ذبحوه فأكله رجالهم دون نسائهم، وقال محمد بن إسحاق : السائبة : هي الناقة إذا ولدت عشر إناث من الولد ليس بينهن ذكر سيبت فلم تركب ولم يجزّ وبرها ولم يحلب لبنها إلاّ لضيف.
707
وقال أبو روق : السائبة، كان الرجل إذا خرج فقضيت حاجته سيب من ماله ناقة أو غيرها فجعلها للطواغيت، فما ولدت من شيء كان لها. وقال السدي : كان الرجل منهم إذا قضيت حاجته أو عوفي من مرض أو كثر ماله سيَّب شيئاً من ماله للأوثان، فمن عرض له من الناس عوقب بعقوبة في الدنيا.
وأما الوصيلة فقال ابن عباس : هي الشاة إذا نتجت سبعة أبطن نظروا إلى السابع، فإن كان ذكراً وهو ميت اشترك فيه الرجال دون النساء، وإن كان أنثى استحيوها، وإن كان ذكراً وأنثى في بطن واحد استحيوهما وقالوا وصلته أخته فحرمته علينا. وقال محمد بن إسحاق : الوصيلة من الغنم إذا ولدت عشر إناث في خمسة أبطن توأمين توأمين في كل بطن سميت الوصيلة وتركت، فما ولدت بعد ذلك من ذكر أو أنثى جعلت للذكور دون الإناث، وإن كانت ميته اشتركوا فيها. وأما الحامي، فقال ابن عباس : كان الرجل إذا لقح فحله عشراً قيل حام فاتركوه، وكذا قال قتادة، وروي عنه أن الحام : الفحل من الإبل إذا ولد لولده، قالوا حمى هذا ظهره فلا يحملون عليه شيئاً ولا يجزون له وبراً، ولا يمنعونه من حمى رعي ومن حوض يشرب منه، وإن كان الحوض لغير صاحبه. وقال ابن وهب، سمعت مالكاً يقول : أما الحام فمن الإبل كان يضرب في الإبل، فإذا انقضى ضرابه جعلوا عليه ريش الطواويس وسيبوه. وقد قيل غير ذلك في تفسير هذه الآية. وقوله تعالى :﴿ ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ أي ما شرع الله هذه الأشياء ولا هي عنده قربة. ولكن المشركون افتروا ذلك وجعلوه شرعاً لهم وقربة يتقربون بها إليه، وليس ذلك بحاصل بل هو وبال عليهم ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ ﴾ أي إذا دعوا إلى دين الله وشرعه وما أوجبه وتكر ما حرمه قالوا : يكفينا ما وجدنا عليه الآباء والأجداد من الطرائق والمسالك، قال الله تعالى :﴿ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾ أي لا يفهمون حقاً ولا يعرفونه ولا يهتدون إليه. فكيف يتبعونها والحالة هذه لا يتبعهم إلاّ من هو أجهل منهم وأضل سبيلاً؟.
708
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم، ومخبراً لهم أنه من أصلح أمره لا يضره فساد من فسد من الناس، سواء كان قريباً منه أو بعيداً. قال ابن عباس في تفسير هذه الآية يقول تعالى : إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته به من الحلال، ونهيته عنه من الحرام، فلا يضره من ضل بعده إذا عمل بما أمرته به، وهكذا قال مقاتل بن حيان. فقوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ نصب على الإغراء ﴿ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ أي فيجازي كل عامل بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر. وليس فيها دليل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان فعل ذلك ممكناً، وقد قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال : أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم ﴾، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول :« إن الناس إذا رأو المنكر ولا يغيرونه يوشك الله عزَّ وجلَّ أن يعمهم بعقابه » قال الترمذي عن أبي أمية الشعباني قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني، فقلت له : كيف تصنع في هذه الآية؟ قال : أية آية؟ قلت : قول الله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم ﴾ قال : أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله ﷺ فقال :« بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أياماً، الصابر فيهن مثل القابض عن الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون كعملكم »، وفي رواية قيل :« يا رسول الله أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟ قال :» بل أجر خمسين منكم « ».
وروى الرازي عن أبي العالية عن ابن مسعود في قوله :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ ﴾ الآية، قال : كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوساً فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه فقال رجل من جلساء عبد الله : ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر، فقال آخر إلى جنبه : عليك بنفسك، فإن الله يقول :﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ الآية، قال : فسمعها ابن مسعود، قال : مه لم يجيء تأويل هذه بعد؛ إن القرآن أنزل حيث أنزل، ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله ﷺ، ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي ﷺ بيسير، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم، ومنه آي تأويلهن عند الساعة وما ذكر من الساعة، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب ما ذكر من الحساب والجنة والنار فما دامت قلبوكم واحدة وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعاً، ولم يذق بعضكم بأس بعض، فامروا وانهوا، وإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعاً، وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه، وعند ذلك جاءنا تأويل هذه الآية رواه ابن جرير، وقال ابن جرير تلا الحسن هذه الآية :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم ﴾ فقال الحسن : الحمد لله بها، والحمد لله عليها، ما كان مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلاّ وإلى جنبه منافق يكره عمله.
709
وقال سعيد بن المسيب : إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، فلا يضرك من ضل إذا اهتديت.
710
اشتملت هذه الآية الكريمة على حكم عزيز، قيل إنه منسوخ، وقال آخرون وهم الأكثرون بل هو محكم، ومن ادعى نسخه فعليه البيان، فقوله تعالى :﴿ يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية اثنان ﴾. هذا هو الخبر لقوله شهادة بينكم. فقيل : تقديره شهادة اثنين شهادة اثنين حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل : دل الكلام على تقدير : أن يشهد اثنان، وقوله تعالى :﴿ ذَوَا عَدْلٍ ﴾ وصف الاثنين بأن يكونا عدلين، وقوله :﴿ مِّنْكُمْ ﴾ أي من المسلمين، قاله الجمهور. قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله ﴿ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ ﴾، قال : من المسليمن. قال ابن جرير : وقال آخرون عنى ذلك ﴿ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ ﴾ أي من أهل الموصي، وقوله :﴿ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ﴾ قال ابن أبي حاتم، قال ابن عباس في قوله ﴿ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ﴾ قال : من غير المسلمين، يعني أهل الكتاب، وعلى ما حكاه ابن جرير عن عكرمة وعبيدة في قوله :﴿ مِّنْكُمْ ﴾ أن المراد من قبيلة الموصي، يكون المراد هاهنا ﴿ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ﴾ أي من غير قبيلة الموصي، وقوله تعالى :﴿ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض ﴾ أي سافرتم ﴿ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت ﴾ وهذان شرطان لجواز استشهاد الذميين عند فقد المؤمنين أن يكون ذلك في سفر، وأن يكون في وصية، كما قال ابن جرير عن شريح : لا تجوز شهادة شهادة اليهود والنصارى إلاّ في سفر، ولا تجوز في سفر إلاّ في الوصية، وروي نحوه عن الإمام أحمد بن حنبل وخالفه الثلاثة، فقالوا : لا تجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين، وأجازها أبو حنيفة فيما بين بعضهم بعضاً.
وقال ابن جرير عن الزهري قال : مضت السنة أن لا تجوز شهادة الكافر في حضر ولا سفر، إنما هي في المسلمين. وقال ابن زيد : نزلت هذه الآية في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام، وذلك في أول الإسلام والأرض حرب، والناس كفار، وكان الناس يتوارثون بالوصية، ثم نسخت الوصية وفرضت الفرائض وعمل الناس بها، رواه ابن جرير. وفي هذا نظر والله أعلم. وقال ابن جرير : اختلف في قوله :﴿ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ﴾ هل المراد به أن يوصي إليهما أو يشهدهما؟ على قولين ( أحدهما ) : أن يوصي إليهما، سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآية قال : هذا رجل سافر ومعه مال فأدركه قدره، فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته وأشهد عليهما عدلين من المسلمين، ( والقول الثاني ) : أنهما يكونا شاهدين، وهو ظاهر سياق الآية الكريمة، فإن لم يكن وصي ثالث معهما اجتمع فيهما الوصفان الوصاية والشهادة، كما في قصة تميم الداري وعدي بن بداء كما سيأتي ذكرها إن شاء الله وبه الوفيق.
711
وقوله تعالى :﴿ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة ﴾ قال ابن عباس : يعني صلاة العصر، وقال الزهري : يعني صلاة المسلمين، وقال السدي عن ابن عباس : يعني صلاة أهل دينهما، والمقصود أن يقام هذان الشاهدان بعد صلاة اجتمع الناس فيها بحضرتهم، ﴿ فَيُقْسِمَانِ بالله ﴾ أي فيحلفان بالله أي فيحلفان بالله ﴿ إِنِ ارتبتم ﴾ أي إن ظهرت لكم منهما ريبة أنهما خانا أو غلا فيحلفان حينئذٍ بالله ﴿ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ﴾ أي بأيماننا ﴿ ثَمَناً ﴾ أي لا نعتاض عنه بعوض قليل من الدنيا الفانية الزائلة ﴿ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى ﴾ أي ولو كان المشهود عليه قريباً لنا لا نحابيه، ﴿ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله ﴾ أضافها إلى الله تشريفاً لها وتعظيماً لأمرها.
﴿ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين ﴾ أي فعلنا شيئاً من ذلك من تحريف الشهادة أو تبديلها أو تغييرها أو كتمها بالكلية، ثم قال تعالى :﴿ فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقآ إِثْماً ﴾ أي فإن اشتهر وظهر وتحقق من الشاهدين الوصيين أنهما خانا أو غلا شيئاً من المال الموصى به إليهما وظهر عليهما بذلك ﴿ فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ الأوليان ﴾ أي متى تحقق بالخبر الصحيح خيانتهما، فليقم اثنان من الورثة المستحقين للتركة وليكونا من أولى من يرث ذلك المال ﴿ فَيُقْسِمَانِ بالله لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا ﴾، أي لقولنا إنهما خانا أحق وأصح وأثبت من شهادتهما المتقدمة، ﴿ وَمَا اعتدينآ ﴾ أي فيما قلنا فيهما من الخيانة ﴿ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظالمين ﴾، أي إن كنا قد كذبنا عليهما، وهذا التحليف للورثة والرجوع إلى قولهما والحالة هذه كما يحلف أولياء المقتول إذا ظهر لوث في جانب القاتل، فيقسم المتسحقون على القاتل فيدفع برمته إليم كما هو مقرر في باب القسامة من الأحكام.
وقد روي عن ابن عباس قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري، وعدي بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدما بتركته، فقدوا جاما من فضة مخوصاً بالذهب، فأحلفهما رسول الله ﷺ، ووجدوا الجام بمكة، فقيل : اشتريناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي، فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما، وإن الجام لصاحبهم، وفيهم نزلت :﴿ يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ﴾ الآية، ومن الشواهد لصحة هذه القصة ما رواه أبو جعفر بن جرير عن الشعبي أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه، قال فحضرته الوفاة ولم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، قال : فقدما الكوفة، فأتيا الأشعري يعني ( أبا موسى الأشعري ) رضي الله عنه، فأخبراه وقدما الكوفة بتركته ووصيته، فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله ﷺ، وقال : فأحلفهما بعد العصر، بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيّرا، وإنها لوصية الرجل وتركته، قال : فأمضى شهادتهما، فقوله : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله ﷺ الظاهر - والله أعلم - أنه إنما أراد بذلك قصة تميم وعدي بن بداء، وقد ذكروا أن إسلام تميم بن أوس الداري رضي الله عنه كان سنة تسع من الهجرة، فعلى هذا يكون هذا الحكم متأخراً يحتاج مدعي نسخه إلى دليل فاصل في هذا المقام، والله أعلم.
712
وقال السدي في الآية ﴿ يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ ﴾ قال : هذا في الوصية عند الموت يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ماله وما عليه، قال : هذا في الحضر ﴿ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ﴾ في السفر ﴿ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت ﴾ هذا الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس، فيوصي إليهما ويدفع إليهما ميراثه فيقبلان به، فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا ما لصاحبهم تركوهما، وإن ارتابوا رفعوهما إلى السلطان، فذلك قوله تعالى :﴿ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة فَيُقْسِمَانِ بالله إِنِ ارتبتم ﴾، قال ابن عباس رضي الله عنه : كأني أنظر إلى العلجين حين انتهي بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره، ففتح الصحيفة، فأنكر أهل الميت وخوفوهما، فأراد أبو موسى أن يستحفلهما بعد العصر، فقلت : إنهما لا يباليان صلاة العصر ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما فيحلفان بالله لا نشتري به ثمناً قليلاً ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين : أن صاحبهم لهذا أوصى، وأن هذه لتركته، فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا : إنكما إن كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما ولم نجز لكما شهادة وعاقبتكما، فإذا قال لهما ذلك فإن ﴿ ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَآ ﴾، رواه ابن جرير، وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية : فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا - بعد العصر - بالله ما اشترينا بشهادتنا ثمناً قليلاً، فإن اطلع الأولياء على ان الكافرين كذبا في شهادتهما قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله أن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد، فذلك قوله تعالى :﴿ فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقآ إِثْماً ﴾ يقول : إن اطلع على أن الكافرين كذبا ﴿ فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا ﴾ يقول من الأولياء، فحلفا بالله أن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد، فترد شهادة الكافرين : وتجوز شهادة الأولياء، وهكذا قرر هذا الحكم على مقتضى هذه الآية غير واحد من أئمة التابعين والسلف رضي الله عنهم، وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
وقوله تعالى :﴿ ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَآ ﴾ أي شرعية هذه الحكم على هذا الوجه المرضي من تحليف الشاهدين الذميين إن استريب بهما أقرب إلى إقامتهما الشهادة على الوجه المرضي. وقوله :﴿ أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾ أي يكون الحامل لهم على الإتيان بها على وجهها هو تعظيم الحلف بالله مراعاة جانبه وإجلاله، والخوف من الفضيحة بين الناس، وإن ردت اليمين على الورثة، فيحلفون ويستحقون ما يدعون، ولهذا قال :﴿ أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾ ثم قال :﴿ واتقوا الله ﴾ أي في جميع أموركم، ﴿ واسمعوا ﴾ أي وأطيعوا، ﴿ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين ﴾ أي الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته.
713
هذا إخبار عما يخاطب الله به المرسلين يوم القيامة عما أجيبوا به من أممهم الذين أرسلهم إليهم، كما قال تعالى :﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين ﴾ [ الأعراف : ٦ ]، وقال تعالى :﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ الحجر : ٩٢-٩٣ ] وقول الرسل ﴿ لاَ عِلْمَ لَنَآ ﴾. قال مجاهد والحسن البصري والسدي : إنما قالوا ذلك من هو ذلك اليوم، وقال الأعمش عن مجاهد يفزعون فيقولون ﴿ لاَ عِلْمَ لَنَآ ﴾، وقال السدي : نزلوا منزلاً ذهلت فيه العقول فلما سئلوا قالوا :﴿ لاَ عِلْمَ لَنَآ ﴾، ثم نزلوا منزلاً آخر فشهدوا على قومهم، وقال ابن عباس ﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب ﴾ يقولون للرب عزَّ وجلَّ : لا عِلْمَ لنَا إلاّ عِلْمٌ أَنْتَ أَعْلَمْ به منا، رواه ابن جرير واختاره على هذه الأقوال ولا شك أنه قول حسن، وهو من باب التأدب مع الرب جلَّ جلاله : أي لا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء، فنحن وإن كنا أجبنا وعرفنا من أجابنا ولكن منهم من كنا إنما نطلع على ظاهره لا علم لنا بباطنه، وأنت العليم بكل شيء، المطلع على كل شيء، فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا عِلْم فإنك ﴿ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب ﴾.
يذكر تعالى ما من به على عبده ورسوله عيسى بن مريم عليه السلام مما أجراه على يديه من المعجزات وخوارق العادات، فقال :﴿ اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ ﴾ أي في خلقي إياك من أم بلا ذكر، وجعلي إياك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتي على الأشياء، ﴿ وعلى وَالِدَتِكَ ﴾ حيث جعلتك لها برهاناً على براءتها مما نسبه الظالمون والجاهلون إليها من الفاحشة، ﴿ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس ﴾، وهو جبريل عليه السلام، وجعلتك نبياً داعياً إلى الله في صغرك وكبرك، فأنطقتك في المهد صغيراً فشهدت ببراءة أمك من كل عيب، واعترفت لي بالعبودية، وأخبرت عن رسالتي إياك، ودعوت إلى عبادتي. ولهذا قال :﴿ تُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً ﴾ أي تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك، وضمن ﴿ تُكَلِّمُ ﴾ تدعو، لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب، وقوله :﴿ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب والحكمة ﴾ أي الخط والفهم، ﴿ والتوراة ﴾ وهي المنزلة على موسى الكليم، وقوله :﴿ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِي ﴾ أي تصورة وتشكله على هيئة الطائر بإذني لك في ذلك، فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني، أي فتنفخ في تلك الصورة التي شكلتها بإذني لك في ذلك، فتكون طيراً ذا روح تطير بإذن الله وخلقه.
وقوله تعالى :﴿ وَتُبْرِىءُ الأكمه والأبرص بِإِذْنِي ﴾ قد تقدم الكلام عليه في سورة آل عمران بما أغنى عن إعادته. وقوله :﴿ وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى بِإِذْنِيِ ﴾ أي تدعوهم فيقومون من قبورهم بإذن الله وقدرته وإرادته ومشيئته، وقوله تعالى :﴿ وَإِذْ كَفَفْتُ بني إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ أي واذكر نعمتي عليك في كفي إياهم عنك حين جئتهم بالبراهين والحجج القاطعة على نبوتك ورسالتك من الله إليهم، فكذبوك، واتهموك بأنك ساحر، وسعوا في قتلك وصلبك، فنجيتك منهم، ورفعتك إليّ، وطهرتك من دنسهم، وكفيتك شرهم، وهذا يدل على أن هذا الامتنان كان من الله إليه بعد رفعه إلى السماء أو يكون هذا الامتنان واقعاً يوم القيامة، وعبر عنه بصيغة الماضي دلالة على وقوعه لا محالة، وهذا من أسرار الغيوب التي أطلع الله عليها نبيه محمداً ﷺ وقوله :﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي ﴾ وهذا أيضاً من الامتنان عليه، عليه السلام بأن جعل له أصحاباً وأنصاراً، ثم قيل : إن المراد بهذا الوحي وحي إلهام كما قال تعالى :﴿ وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ ﴾ [ القصص : ٧ ] الآية، وهو وحي إلهام بلا خلاف، وكما قال تعالى :﴿ وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً ﴾ [ النحل : ٦٨ ] الآية، وهكذا قال بعض السلف في هذه الآية ﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قالوا آمَنَّا واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ﴾، أي ألهموا ذلك فامتثلوا ما ألهموا، قال الحسن البصري : ألهمهم الله عزَّ وجلَّ ذلك. وقال السدي : قذف في قلوبهم ذلك، ويحتمل أن يكون المراد : وإذا أوحيت إليهم بواسطتك فدعوتهم إلى الإيمان بالله وبرسوله، واستجابوا وانقادوا وتابعوك، فقالوا :﴿ آمَنَّا واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ﴾.
هذه قصة المائدة، وإليها تنسب السورة، فيقال سورة المائدة، وهي مما امتن الله به على عبده ورسوله عيسى لما أجاب دعاءه بنزولها، فأنزل الله آية باهرة وحجة قاطعة، وقد ذكر بعض الأئمة أن قصتها ليست مذكروة في الإنجيل ولا يعرفها النصارى إلا من المسلمين فالله أعلم، فقوله تعالى :﴿ إِذْ قَالَ الحواريون ﴾ وهم أتباع عيسى عليه السلام ﴿ ياعيسى ابن مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ﴾ : هذه قراءة كثيرين، ﴿ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء ﴾ والمائدة هي الخوان عليه طعام، وذكر بعضهم أنهم إنما سألوا ذلك لحاجتهم وفقرهم فسألوه أن ينزل عليهم مائدة كل يوم يقتاتون بها، ويتقوون بها على العبادة، ﴿ قَالَ اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ أي فأجابهم المسيح عليه السلام قائلاً لهم : اتقوا الله ولا تسألوا هذا فعساه أن يكون فتنه لكم، وتوكلوا على الله في طلب الرزق إن كنتم مؤمنين ﴿ قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا ﴾ أي نحن محتاجون إلى الأكل منها ﴿ وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا ﴾ إذا شاهدنا نزولها رزقاً لنا من السماء ﴿ وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا ﴾ أي ونزداد إيماناً بك وعلماً برسالتك ﴿ وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين ﴾ أي ونشهد أنها آية من عند الله، ودلالة وحجة على نبوتك وصدق ما جئت به، ﴿ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ اللهم رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا ﴾، قال السدي : أي نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا، وقال سفيان الثوري : يعني يوماً نصلي فيه، وقال قتادة، أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم، وعن سلمان الفارسي : عظة لنا ولمن بعدنا، وقيل : كافية لأولنا وآخرنا ﴿ وَآيَةً مِّنْكَ ﴾ أي دليلاً تنصبه على قدرتك على الأشياء وعلى إجابتك لدعوتي فيصدقوني فيما أبلغه عنك، ﴿ وارزقنا ﴾ أي من عندك رزقاً هنيئاً بلا كلفة ولا تعب، ﴿ وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين * قَالَ الله إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ ﴾، أي فمن كذب بها من أمتك يا عيسى وعاندها ﴿ فإني أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ العالمين ﴾، أي من عالمي زمانكم كقوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب ﴾ [ غافر : ٤٦ ]، وكقوله :﴿ إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار ﴾ [ النساء : ١٤٥ ]. وقد روى ابن جرير عن عبد الله بن عمرو قال : إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة ثلاثة : المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون.
( ذكر أخبار في نزول المائدة على الحواريين )
قال أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس، أنه كان يحدث عن عيسى، أنه قال لبني إسرائيل : هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم، فإن أجر العامل على من عمل له، ففعلوا، ثم قالوا : يا معلم الخير قلت لنا : إن أجر العامل على من عمل له، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً ففعلنا، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوماً إلاّ أطعمنا حين نفرغ طعاماً، فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ قال عيسى :﴿ اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ اللهم رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ وارزقنا وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين قَالَ الله إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فإني أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ العالمين ﴾، قال : فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء، عليها سبعة حيتان وسبعة أرغفه حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم.
716
كذا رواه ابن جرير، ورواه ابن أبي حاتم فذكر نحوه. وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس : أن عيسى بن مريم قالوا له : ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء، قال : فنزلت الملائكة بالمائدة يحملونها عليها سبعة حيتان وسبعة أرغفة، حتى وضعتها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس، كما أكل منها أولهم. وقال ابن أبي حاتم عن عمار بن ياسر عن النبي ﷺ قال : نزلت المائدة من السماء عليها خبز ولحم، وأمروا أن لا يخونوا، ولا يرفعوا لغد، فخانوا وادخروا ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير. وكل الآثار دالة على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل أيام عيسى ابن مريم إجابة من الله لدعوته كما دل على ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم ﴿ قَالَ الله إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ﴾ الآية.
وقال قائلون : إنها لم تنزل، روي عن قتادة قال : كان الحسن يقول : لما قيل لهم ﴿ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فإني أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ العالمين ﴾ قالوا : لا حاجة لنا فيها فلم تنزل، ولكن الذي عليه الجمهور أنها نزلت، وهو الذي اختاره ابن جرير، لأن الله تعالى أخبر بنزولها في قوله تعالى :﴿ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فإني أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ العالمين ﴾، قال : ووعد الله ووعيده حق وصدق، وهذا القول هو - والله أعلم - الصواب، كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم. وقد قال الإمام أحمد عن ابن عباس قال :« قالت قريش للنبي ﷺ : ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً ونؤمن بك، قال :» وتفعلون « قالوا : نعم، قال : فدعا، فأتاه جبريل، فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك : أن شئت أصبح لهم الصفا ذهباً، فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة. قال :» بل باب التوبة والرحمة « ».
717
هذا أيضاً مما يخاطب الله به عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام قائلاً له يوم القيامة بحضرة من اتخذه وأمه إلهين من دون الله ﴿ ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله ﴾ وهذا تهديد للنصارى وتوبيخ وتقريع على رؤوس الأشهاد، هكذا قاله قتادة وغيره، واستدل قتادة على ذلك بقوله تعالى :﴿ هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ ﴾، وقال السدي : هذا الخطاب والجواب في الدنيا، وصوبه ابن جرير، قال : وكان ذلك حين رفعه إلى السماء واحتج ابن جرير على ذلك بمعنيين ( أحدهما ) : أن الكلام بلفظ المضي، ( والثاني ) قوله :﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ ﴾ ﴿ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ وهذان الدليلان فيهما نظر، لأن كثيراً من أمور يوم القيامة ذكر بلفظ المضي ليدل على الوقوع والثبوت. ومعنى قوله :﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ﴾ الآية. التبري منهم ورد المشيئة فيهم إلى الله، وتعليق ذلك على الشرط لا يقتضي وقوعه، كما في نظائر ذلك من الآيات، والذي قاله قتادة وغيره هو الأظهر - والله أعلم - أن ذلك كائن يوم القيامة ليدل على تهديد النصارى وتقريعهم وتوبيخهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة. وقد روي بذلك حديث مرفوع، ررواه الحافظ ابن عساكر عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله ﷺ :« إذا كان يوم القيامة دعي بالأنبياء وأممهم، ثم يدعى بعيسى فيذكره الله نعمته عليه فيقر بها، فيقول ﴿ ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى وَالِدَتِكَ ﴾ [ المائدة : ١١٠ ] الآية، ثم يقول :﴿ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله ﴾ فينكر أن يكون قال ذلك، فيؤتى بالنصارى فيسألون فيقولون : نعم هو أمرنا بذلك قال : فيطول شعر عيسى عليه السلام فيأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعرة من شعر رأسه وجسده، فيجاثيهم بين يدي الله عزَّ وجلَّ مقدار ألف عام حتى ترفع عليهم الحجة، ويرفع لهم الصليب، وينطلق بهم إلى النار ».
وقوله تعالى :﴿ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ﴾، هذا توفيق للتأدب في الجواب الكامل، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان عن عمرو عن طاووس عن أبي هريرة قال : يلقي عيسى حجته، ولقاه الله تعالى في قوله :﴿ إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله ﴾، قال أبو هريرة عن النبي ﷺ فلقاه الله ﴿ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ﴾ إلى آخر الآية، وقد رواه الثوري عن معمر عن ابن طاووس عن طاووس بنحوه. وقوله :﴿ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ﴾ أي إن كان صدر مني هذا فقد علمته يا رب فإنه لا يخفى عليك شيء، فما قلته ولا أردته في نفسي لا أضمرته، ولهذا قال :﴿ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ ﴾ بإبلاغه ﴿ أَنِ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾ أي ما دعوتهم إلاّ إلى الذي أرسلتني به وأمرتني بإبلاغه ﴿ أَنِ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾ أي هذا هو الذي قلت لهم.
718
وقوله :﴿ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ﴾ أي كنت أشهد على أعمالهم حين كنت بين أظهرهم، ﴿ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾.
قال أبو داود الطيالسي عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله ﷺ بموعظة فقال :« أيها الناس إنكم محشورون إلى الله عزَّ وجلَّ حفاة عراة غرلا ﴿ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٤ ]، وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : أصحابي، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح ﴿ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم ﴾ فيقال : إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ».
وقوله تعالى :﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم ﴾ هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله عزَّ وجلَّ، فإنه الفعال لما يشاء الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ويتضمن التبري من النصارى الذين كذبوا على الله وعلى رسوله، وجعلوا لله نداً وصاحبة وولداً، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وهذه الآية لها شأن عظيم ونبأ عجيب، وقد ورد في الحديث « أن النبي ﷺ قام بها ليلة حتى الصباح يرددها، قال الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال : صلى النبي ﷺ ذات ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها ﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم ﴾ فلما أصبح، قلت : يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها؟ قال :» إني سالت ربي تعالىَّ الشفاعة لأمتي فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئاً « وقال ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو بن العاص » أن النبي ﷺ تلا قول عيسى ﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم ﴾ فرفع يديه فقال :« اللهم أمتي » وبكى، فقال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فاسأله ما يبكيه! فأتاه جبريل فساله فأخبره رسول الله ﷺ بما قال وهو أعلم، فقال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد فقال : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك. وقال الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان قال غاب عنا رسول الله ﷺ يوماً فلم يخرج، حتى ظننا أن لن يخرج، فلما خرج سجد سجدة، ظننا أن نفسه قد قبضت فيها فلما رفع رأسه قال :« إن ربي عزَّ وجلَّ استشارني في أمتي ماذا أفعل بهم؟ فقلت : ما شئت يا رب هم خلقك وعبادك فاستشارني الثانية فقلت له كذلك، فقال لي : لا أخزيك في أمتك يا محمد، وبشرني أن أول من يدخل الجنة من أمتي معي سبعون ألفاً مع كل ألف سبعون ألفاً ليس عليهم حساب، ثم أرسل إليّ فقال : ادع تجب وسل تعط، فقلت لرسوله : أو معطي ربي سؤلي؟ فقال : ما ارسلني إليك إلاّ ليعطيك، ولقد أعطاني ربي - ولا فخر - وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر. وأنا أمشي حياً صحيحاً، وأعطاني أن لا تجوع أمتي ولا تغلب، وأعطاني الكوثر وهو نهر في الجنة يسيل في حوضي. وأعطاني العز، والنصر، والرعب يسعى بين يدي أمتي شهراً، وأعطاني أني أول الأنبياء يدخل الجنة، وطيب لي ولأمتي الغنيمة، وأحل لنا كثيراً مما شدد على من قبلنا، ولم يجعل علينا في الدين من حرج. »
719
يقول تعالى مجيباً لعبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام فيما أنهاه إليه من التبري من النصارى الملحدين الكاذبين على الله وعلى رسوله، ومن رد المشيئة فيهم إلى ربه عزَّ وجلَّ، فعند ذلك يقول تعالى :﴿ هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ ﴾ قال ابن عباس : يوم ينفع الموحدين توحيدهم ﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ ﴾ [ التوبة : ٧٢ ] وسيأتي ما يتعلق بتلك الآية من الحديث، وروى ابن أبي حاتم عن أنس مرفوعاً قال : قال رسول الله ﷺ فيه :« ثم يتجلى لهم الرب جل جلاله فيقول : سلوني سلوني أعطكم - قال - فيسألونه الرضا فيقول : رضاي أحلكم داري، وأنالكم كرامتي، فسلوني أعطكم فيسألونه الرضا - قال فيشهدهم أنه قد رضي عنهم. سبحانه وتعالى »، وقوله :﴿ ذلك الفوز العظيم ﴾ أي هذا الفوز الكبير الذي لا أعظم منه، كما قال تعالى :﴿ لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون ﴾ [ الصافات : ٦١ ]، وكما قال :﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون ﴾ [ المطففين : ٢٦ ].
وقوله تعالى :﴿ للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ أي هو الخالق للأشياء المالك لها، المتصرف فيها، القادر عليها. فالجميع ملكه وتحت قهره وقدرته وفي مشئيته، فلا نظير له ولا وزير ولا عديل ولا والد ولا ولد ولا صاحبة، ولا إله غيره ولا رب سواه. قال ابن وهب : آخر سورة أنزل سورة المائدة.
Icon