تفسير سورة المائدة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ

[المجلد الثاني]

سورة المائدة
مدنية. وهى مائة وعشرون آية، وألفان وثمان مائة وأربع كلمات، وقرأها النبي صلى الله عليه وسلّم فى حجة الوداع، وقال:
«يا أيها الناسُ، إِن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها» «١». وقال ابن عمر: (أنزلت سورة المائدة والنبي صلّى الله عليه وسلّم على راحلته، فلم تستطع أن تحمله حتى نزل). وهى مكملة لما تضمنته سورة النساء من عقود الأحكام الستة، ولذلك افتتحها بالتوصية على الوفاء بها، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١)
أي: بالعهود التي عَهِدْتُ إليكم أن تحفظوها، وهي حفظ الأموال، وحفظ الأنساب، وحفظ الأديان، وحفظ الأبدان، وحفظ اللسان، وحفظ الأيمان، ثم مرَّ معها على الترتيب، فما ذكره هناك مُستوفَى، لم يُعِدْ منه هنا إلا أصله، وما بقي هناك في أصل من الأصول الستّة كمّلهُ هنا، ولمّا ذكر فيما تقدم في أول السورة حُكْم الأموال باعتبار المِلك، ولم يتكلم على ما يحلّ منها وما يحرم، تكلم هنا على ذلك، فقال: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ...
قلت: إضافة (بهيمة الأنعام) : للبيان، كثوب خزّ، إي: البهيمة من الإنعام، و (غير مُحِلِّي الصيد) : حال، قال الأخفش: من فاعل «أوفوا»، وفيه معنى النّهي، وقال الكسائي: من ضمير (لكم) كما تقول: أُحِلّ لكم الطعام غير مُفسِدين فيه، فإن قُلتَ: الحال قيد لعامِلها، والحِلِّيَّة غير خاصّة بوقت حُرمَة الصيد؟ قلت: لمّا كانت الحاجة إليها في ذلك الوقت أكثر، خصّ الحِلِّيَّة به ليكون أدعى للشكر، ويؤخَذ عموم الحِلِّيَّة من سورة الحج «٢».
يقول الحق جلّ جلاله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ أي: الأنعام كلها، وهي الإبل والبقر والغنم، إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ بعدُ في قوله:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ الآية «٣»، حال كونكم غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ
(١) أخرجه الحاكم فى المستدرك (التفسير ٢/ ٣١١) موقوفا على (أم المؤمنين عائشة) رضى الله عنها. وصححه ووافقه الذهبي.
وفى الفتح السماوي (٢/ ٥٥٢) نقلا عن الحافظ ابن حجر: لم نقف عليه مرفوعا.
(٢) فى قول الله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ.. الآية/ ٣٠.
(٣) الآية الثالثة من السورة نفسها.
في حال الإحرام، ومعنى الآية في الجملة: أُحِلَّت الأنعام كلها إِلاَّ مَا يُتلى عَلَيْكُمْ من الميتة وأخواتها، لكن الصيد في حال الإحرام حرام عليكم، إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ من تحليل أو تحريم.
الإشارة: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود التي عقدتموها على نفوسكم في حال سيركم إلى حضرة ربَكم، من مجاهدة ومُكابَدة، فمَن عقد عقدة مع ربّه فلا يحلّها، فإن النفس إذا استأنست بحلّ العقود لم ترتبط بحال، ولعبت بصاحبها كيف شاءت، وأوفوا بالعقود التي عقدتموها مع أشياخكمْ بالاستماع والاتّباع إلى مماتكم، وأوفوا بالعقود التي عقدها عليكم الحق تعالى، من القيام بوظائف العبودية، ودوام مشاهدة عظمة الربوبية، فإن أوفيتم بذلك، فقد أُحِلَّت لكم الأشياء كلها تتصرّفون فيها بهِمّتكم لأنكم إذا كنتم مع المُكَوِّنِ كانت الأكوان معكم. إِلاَّ مَا يُتلَى عَلَيْكُمْ مما ليس من مقدوركم مما أحاطت به أسوار الأقدار، «فإن سوابق الهِمَم لا تخرق أسوار الأقدار»، غير مُتَعَرِّضين لشهود السّوى وأنتم في حرم حضرة المولى. والله تعالى أعلم.
ولما نهى عن التعرض للصيد فى الحرم، نهى عن تغيير المناسك والتعرض للحجّاج لأنه من تعظيم حرمة الحرم، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)
قلت: الشعائر: جمع شَعيرة، وهي اسم ما أشعر، أي: جعل علامة على مناسك الحج ومواقفة، و (لا يجرمنّكم) أي: يحملنّكم، أو يكسبنّكم، يُقال: جرم فلان فلانًا هذا الأمر، إذا أكسبه إيّاه وحمله عليه. والشنآن: هو البغض والحقد، يقال: بفتح النون وإسكانها، و (أن صدّوكم) مفعول من أجله، و (أن تعتدوا) مفعول ثانٍ ليجرمنكم. ومَن قرأ: (إن صدّوكم)، بالكسر فشرط، أغنى عن جوابه: (لا بجرمنكم).
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ أي: لا تستحلّوا شيئًا من ترك المناسك، وذلك أن الأنصار كانوا لا يسعون بين الصفا والعروة، وكان أهل مكة لا يخرجون إلى عرفات، وكان أهل اليمن يرجعون من عرفات، فأمرهم الله ألاّ يتركوا شيئًا من المناسك، أي: لا تحلّوا ترك شعائر الله وَلَا تحلّوا
4
الشَّهْرَ الْحَرامَ بالقتال أو السَّبْي، وهذا قبل النسخ، وَلَا تحلّوا الْهَدْيَ، أي: ما أُهْدِيَ إلى الكعبة، فلا تتعرّضوا له ولو من كافر، وَلَا تحلّوا الْقَلائِدَ أي: ذوات القلائد، وهي الهَدْي المقلّدة، وعطفها على الهَدْي للاختصاص فإنها أشرف الهَدْي، أي: لا تتعرضوا للهَدْي مطلقًا. والقلائد جمع قِلادة، وهي: ما قُلِّدَ به الهَدْي من نَعْل أو لِحاء الشجر، أو غيرهما، ليُعلَم به أنه هَدْي فلا يُتَعَرَّض له، وَلَا تحلّوا آمِّينَ أي: قاصِدين البيت الحرام، أي: قاصدين لزيارته، يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً أي: يطلبون رزقًا بالتجارة التي قصدوها، ورضوانًا بزعمهم لأنهم كانوا كُفّارًا.
وذلك، أن الآية نزلت في الحُطَم بن ضُبَيْعة، وذلك أنه أتى المدينة، فخلَّف خَيْلَه خَارجَ المدِينةَ، ودخل وحده إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: إلامَ تدعُو النَّاس إليه؟ فقال له: «إلى شَهادة أنْ لا إله إلا اللهُ وإقَام الصَّلاةِ وإيتَاءِ الزَّكاة».
فقال: حَسَنٌ، إلاّ أن لي أُمَرَاءَ لا أقطعُ أمْرًا دُونَهُمْ، ولَعَلَّي أُسْلِم، فخرج وغار على سَرْحِ المدينة فاسْتَاقَهُ، فلما كان في العام المقبل خرج حاجًا مع أهل اليمامة، ومعه تجارة عظيمة، وقد قلّد الهَدْيَ، فقال المسلمون للنبى صلّى الله عليه وسلّم: هذا الحُطَمُ قد خرج حاجًا فخَلِّ بيننا وبينه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنه قلّد الهَدْيَ»، فقالوا يا رسول الله: هذا شيء كنّا نفعله في الجاهلية- أي: تقيه-، فأبى عليهم النبي صلى الله عليه وسلّم، فنزلت الآية «١».
وقال ابنُ عباس: كان المشركون يحجّون ويهدون، فأرادَ المسلمون أن يُغِيرُوا عليهم، فنهاهم الله تعالى بالآية.
وَإِذا حَلَلْتُمْ من الحج والعمرة فَاصْطادُوا، أمْر إباحة لأنه وقع بعد الحَظْر، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ أي:
لا يحملنّكم، أو لا يكسبنّكم شَنَآنُ قَوْمٍ أي: شدّة بغضكم لهم لأجل أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ عام الحديبية أَنْ تَعْتَدُوا بالانتقام منهم بأن تحلّوا هداياهم وتتعرّضوا لهم في الحرم. قال ابن جزيّ: نزلت عام الفتح حين ظفر المسلمون بأهل مكة، فأرادوا أن يستأصلوهم بالقتل لأنهم كانوا قد صدّوهم عن المسجد الحرام عام الحديبية، فنهاهم الله عن قتلهم لأن الله عَلِمَ أنهم يؤمنون. هـ. ثم نسخ ذلك بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. «٢»
ثم قال تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى كالعفو، والإغضاء، ومتابعة الأمر، ومُجانَبة الهوى. وقال ابن جزيّ: وصية عامّة، والفرق بين البرّ والتقوى أن البرّ عامّ في الواجبات والمندوبات، فالبرّ أعمّ من التقوى هـ.
وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ كالتشفّي والانتقام. قال ابن جُزَيّ: الإثم: كل ذنب بين الله وعبده، والعدوان: على الناس. هـ. وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فانتقامه أشد.
الإشارة: قد أمر الحق- جل جلاله- بتعظيم عباده، وحِفظ حُرمتهم كيفما كانوا، «فالخلق كلّهم عِيال اللَّهِ، وَأَحَبُّ الخَلْقِِِ إلى اللهِ أنفعُهُمْ لِعِياله»، فيجب على العبد كفّ أذاه عنهم وحمل الجفا منهم، وألاَّ ينتقم لنفسه ممَّن آذاه
(١) أخرجه ابن جرير عن عكرمة. وذكره الواحدي فى الأسباب، عن ابن عباس.
(٢) من الآية ٥ من سورة التوبة.
5
منهم، ولا يحمله ما أصابه منهم على أن يعتدي عليهم ولو بالدعاء، بل إن وسَع الله صدره بالمعرفة قابلهم بالإحسان، ودعا لعدوّه بصلاح حاله حتى يأخذ الله بيده، وهذا مقام الصّديقيَة العظمى والولاية الكبرى، وهذا غاية البرّ والتقوى الذي أمر الله- تعالى- بالتعاون عليه، والاجتماع إليه، دون الاجتماع على الإثم والعدوان، وهو الانتصار للنفس والانتقام من الأعداء، فإن هذا من شأن العوامّ، الذين هم في طرف مقام الإسلام. والله تعالى أعلم.
ثم بيّن ما وعد به في قوله: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)
يقول الحق جلّ جلاله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ أي: ما ماتت حَتْفَ أنفها بلا ذكاه، وَالدَّمُ المسفوح، أي: المهروق، وكانت الجاهلية يصبّونه في الأمعاء، ويشوونها، ورُخِّصَ في الباقي في العروق بعد التذكية، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ، وكذا شحمه وسائر أجزائه المتصلة، بخلاف الشعر المجزوّ، وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي: رفع الصوت عليه عند ذبحه بغير الله، كقولهم: باسم اللاّت والعزّى، وكذا ما تُرِكَ عليه اسم الله عَمْدًا، عند مالك وَالْمُنْخَنِقَةُ بحبل وشبهه حتى ماتت، وَالْمَوْقُوذَةُ أي: المضروبة بعصا أو بحجر أو شبهه، من: وقذته وقذًا:
ضربته، وَالْمُتَرَدِّيَةُ أي: الساقطة من جبل أو في بئر وشبهه فماتت، وَالنَّطِيحَةُ التي نطحتها أخرى فماتت، فإن لم تمت فإن كان في العصران الأعلى فكذلك، لا في الأسفل أو الكرش.
وَما أَكَلَ السَّبُعُ أي: أكل بعضه وأنفذ مقتله، والسبّع: كل حيوان مفترس كالذئب والأسد والنّمر والثعلب والنّمس والعُقاب والنّسر إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أي: إلا ما أدركتم ذكاته وفيه حياة مستقرة من ذلك. قاله البيضاوي.
وقال ابن جزي: قيل: إنه استثناء منقطع، وذلك إذا أُريد بالمنخنقة وأخواتها: مامات من ذلك بالخنق وما بعده، أي: حُرِّمَت عليكم هذه الأشياء، لكن ما ذكَّيتم من غيرها فهو حلال، وهذا ضعيف، وقيل: إنه استثناء متصل، وذلك إن أُريد بالمنخنقة وأخواتها ما أصابته تلك الأسباب وأدركت حياته. والمعنى: إلا ما أدركتم حياته من هذه الأشياء، فهو حلال، واختلف أهل هذا القول هل يُشتَرَط أن يكون لم تنفذ مقاتله، أم لا؟ فالأئمة كلهم على عدم الاشتراط إلا مالكًا- رحمه الله-، وأما مَن لم تُشرِف على الموت من هذه الأسباب، فذكاتها جائزة باتفاق. هـ.
وَحرم عليكم أيضًا: ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، وهي أحجار كانت منصوبة حول البيت، يذبحون عليها ويعدُّون ذلك قُرْبَة، وليست بالأصنام لأن الأصنام مُصَوّرة، والنُّصُب غير مُصَوَّرة، وقيل: (على) بمعنى اللام، أي: وما ذُبِحَ للنُّصُب، والمراد: كلّ ما ذُبحَ لغير الله.
6
وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ أي: تطلبوا ما قسم لكم في الأزل من المقادير بالأزلام، جمع زلم- بضم الزاي وفتحها- وهي الأقداح على قدر السهام. وكانت في الجاهلية ثلاثة، قد كُتب على أحدها: افعل، وعلى الآخر:
لا تفعل، وعلى الثالث: مهمل، فإذا أراد الإنسان أن يعمل أمرًا جعلها في خريطة، وأدخل يده وأخرج أحدها، فإن خرج له الذي فيه «افعل» فعل ما أراد، وإن خرج الذي فيه «لا تفعل»، تركه، وإن خرج المهمل أعاد الضرب، ويقاس عليه كل ما يدخل في علم الغيب، كالقريعة والحظ والنصبة والكهانة، وشبهها.
ذلِكُمْ فِسْقٌ، الإشارة إلى المحرمات المذكورة، أو إلى الاستقسام بالأزلام، وإنما كان فسقًا لأنه دخول في علم الغيب الذي انفرد الله به، وفيه تجسس على سر الملك، وهو حرام، ولا يعارض ما ثبت جوازه من القرعة، في أمور مخصوصة كتمييز الأنصبة في القسمة، «وقد كان- عليه الصلاة والسلام- يقترع بين نسائه»، وغير ذلك مما تفيد تطييب القلوب، دون الاطلاع على علم الغيوب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: حرمت عليكم يا معشر المريدين طلب الحظوظ والشهوات، وما تموت به قلوبكم من الانهماك في الغفلات، وتناول ما أعطِيكم لغير وجه الله، وقبضتموه من غير يد الله، بأن نظرتم حين قبضه إلى الواسطة، وغفلتم عن المعطي حقيقة، فمقتضى شريعة الخواص: إخراجه عن الملك، وحرمان النفس من الانتفاع به، كما وقع لبعض الأولياء، ولا تتناولوا من الطعام إلاّ ما ذكيتموه بأن شهدتم فيه المنعم دون الوقوف مع النعمة، ونزلتم إليه بالإذن، دون قصد الشهوة والمتعة، وهذا يحتاج إلى تيقظ كبير ومراقبة قوية. والله يتجاوز عن أمثالنا بحلمه وكرمه. آمين.
ولمَا حرم الله تعالى هذه الاشياء حصل للمشركين الإياس من موافقة المسلمين لهم في دينهم، فلذلك ذكره الحق تعالى بإثر تحريمها، فقال:
... الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً...
يقول الحق جلّ جلاله: الْيَوْمَ الذي أنتم فيه، وهو يوم الجمعة، ويوم عرفة في حجة الوداع، يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ أن يبطلوه، أو يظهروا عليه بحصول المباينة لهم في أمورهم كلها، ولظهور الإسلام فيه وكثرة المسلمين، قيل: إنه وقف معه صلّى الله عليه وسلّم في هذه الحجة: مائة ألف وأربعة عشر ألفًا، ويحتمل أن يريد باليوم الزمان الحاضر، وما يتصل به من الأزمنة الآتية، فَلا تَخْشَوْهُمْ أن يظهروا عليكم، وَاخْشَوْنِ وحدي فأمرهم بيدي.
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بالنصر والإظهار على الأديان كلها، أو بالتنصيص على قواعد العقائد، والتوقيف على أحوال الشرائع وقوانين الاجتهاد، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بالهداية والتوفيق، أو بإكمال الدين، وبالفتح والتمكين، بهدم منار الكفر، ومحو علل الملحدين، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً أي: اخترته لكم من بين الأديان، الذي لا نرتضي غيره ولا نقبل سواه.
7
الإشارة: إذا حصل المريد على أسرار التوحيد، وخاض بحار التفريد، وذاق حلاوة أسرار المعاني، وغاب عن شهود حس الأواني، وحصل له الرسوخ والتمكين في ذلك، أيِسَ منه الشيطان وسائر القواطع، فلا يخشى أحدًا إلا الله، ولا يركن إلى شيء سواه، وأمِنَ من الرجوع في الغالب، إلا لأمر غالب، وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ. ولذلك قال بعضهم: (والله ما رجع مَن رجع إلا من الطريق، وأما من وصل فلا يرجع).
والوصول هو التمكين فيما ذكرنا، فإذا حصل على كمال المعرفة، ووقف على عرفة المعارف، فقد كمل دينه واستقام أمره، وظهرت أنواره، وتحققت أسراره، وما بقي إلا الترقي في الأسرار أبدًا سرمدًا، والسير في المقامات كسير الشمس في المنازل، ينتقل فيها من مقام إلى مقام، بحسب ما يبرز من عنصر القدرة، فتارة يبرز معه ما يوجب الخوف، وتارة ما يوجب الرجاء، وتارة ما يوجب الرضا والتسليم، وتارة ما يوجب التوكل، وهكذا يتلون مع كل مقام ويقوم بحقة، ولا يقف مع مقام ولا مع حال، لأنه خليفة الله في أرضه، وقد قال تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ «١»، وهذا هو التلوين بعد التمكين. والله تعالى أعلم.
ثم استثنى من تلك المحرمات حالة المضطر، فقال:
... فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال البيضاوي: هو متصل بذكر المحرمات، وما بينهما اعتراض مما يوجب التجنب عنها، وهو أن تناولها فسوق، وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المرضي. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: فَمَنِ اضْطُرَّ إلى تناول شيء من هذه المحرمات فِي مَخْمَصَةٍ أي: مجاعة، حال كونه غَيْرَ مُتَجانِفٍ أي: مائل للإثم وقاصد له، بأن يأكلها تلذذًا أو متجاوزًا حد الرخصة، قيل: هو سد الرمق، وقال ابن أبي زيد: يأكل منها ويتزود، فإن استغنى عنها طرحها. هـ. فإن تناولها للضرورة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ له رَحِيمٌ به حيث أباحها له في تلك الحالة.
الإشارة: قال بعض الحكماء: الدنيا كلها كالميتة، لا يحل منها للذاكر إلا قدر الضرورة أكلاً وشربًا، وملبسًا ومركبًا، حتى يتحقق له الوصول، فما بقي لأحد حينئٍذ ما يقول، وعلامة الوصول: هو الاكتفاء بالله دون الاحتياج لشيء سواه، إن افتقر اغتنى في فقره، وإن ذل عز في ذله، وإن فقد وجد في فقده، وهكذا في تقلبات الأحوال لا يتضعضع ولا يتزلزل، ولو سقطت السماء على الأرض. والله تعالى أعلم.
ولما ذكر ما حرّم عليهم ذكر ما أحل لهم، فقال:
(١) من الآية/ ٢٩ من سورة الرحمن.
8

[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤ الى ٥]

يَسْئَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)
قلت: لم يقل ماذا أحل لنا لأن «يسألونك» بلفظ الغيبة، وكلا الوجهين شائع في أمثاله. قاله البيضاوي.
يقول الحق جلّ جلاله: يَسْئَلُونَكَ يا محمد عن الذي أُحِلَّ لَهُمْ من المآكل، بعد الذي حرم عليهم من الخبائث، فقل لهم. أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وهو عند مالك: ما لم يدل دليل على تحريمه من كتاب ولا سنة، وعند الشافعي: ما يستلذه الطبع السليم ولم يفّر عنه، فحرم الخنافس وشبهها، وَأحل لكم صيد ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ أي: الكواسب، وهي الكلاب ونحوها، مما يصطاد به ويكسب الصيد على أهله، من سباع وذوات أربع، وطير، ونحوها، حال كونكم مُكَلِّبِينَ أي: معلمين لها الاصطياد، أي: مؤدبين لها، تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من الحيل وصدق التأديب، فإن العلم بها إلهام من الله، أو مكتسب بالعقل الذي هو منحة من الله لابن آدم.
وحد التعليم عند ابن القاسم: أن يفهم الجارح الإشلاء والزجر، وقيل: الإشلاء أي: التسلط- فقط، وقيل: الزجر فقط، وقيل: أن يجيب إذا دُعي.
فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ولم يأكل منه، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «وإن أكَلَ، فلاَ تَأكُل فَإنَّما أمسكَ عَلَى نَفسِه» «١».
وهو مذهب الشافعي، وقال مالك: يؤكل مطلقًا لما في بعض الأحاديث: «وإن أكلَ فكُل» «٢»، وقال بعضهم: لا يشترط ذلك في سَباع الطير لأن تأديبها إلى هذا الحد متعذر.
وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أي: على ما علمتم عند إرساله، ولو لم ير المرسل عليه، وكذا عند الرمي بالمحدد ونحوه، فإن سمي على شيء مُعين ووجد غيره لم يؤكل، أو التبس مع غيره، وإن سمي على ما وجد أكل الجميع، ولا بد من نية الذكاة عند الإرسال أو الرمي، واختلف في حكم التسمية، فقال الظاهرية: أنها واجبة مطلقًا، فإن تركت عمدًا أو سهوًا لم تؤكل عندهم، وقال الشافعي: مستحبة، حملاً للأمر على الندب، فإن تركت عمدًا أو سهوًا أكلت عنده.
(١) بعض حديث أخرجه البخاري في (الذبائح والصيد، باب إذا أكل الكلب) ومسلم فى (الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة) من حديث عدى بن حاتم.
(٢) أخرجه ابو داود فى (الصيد، باب فى الصيد) عن أبى ثعلبه الخشني.
وفى التوفيق بين الحديثين قال الخطابي فى معالم السنن: يجعل حديث أبى ثعلبه أصلا فى الإباحة، وأن يكون النهى فى حديث عدى على معنى التنزيه دون التحريم. ويحتمل أن يكون الأصل فى ذلك: حديث عدى بن حاتم، ويكون النهى على التحريم البات، ويكون المراد بقوله: وإن أكل، فيما مضى من الزمان وتقدم منه، لا فى هذه الحال، فكأنه قال: كل منه وإن كان قد أكل فيما تقدم، إذا لم يكن قد أكل فى هذه الحالة. انظر معالم السنن على هامش سنن أبى داود ٣/ ٢٧٢، وانظر أيضا: فتح الباري ٩/ ٤٩٤.
9
وجعل بعضُهم الضمير في عَلَيْهِ، عائدًا على الأكل، فليس فيها على هذا أمر بالتسمية على الصيد، ومذهب مالك: أنه إن تركت التسمية عمدًا لم تؤكل، وإن تركت سهوًا أكلت، فهي عنده واجبة بالذكر ساقطة بالنسيان، وهذا الخلاف جار في الذكاة كلها.
وَاتَّقُوا اللَّهَ في اجتناب محرماته، إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ، فيؤاخذكم على ما جلّ ودق.
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ فيتناول الذبائح وغيرها، ويعم أهل الكتاب اليهود والنصارى، واستثنى عليٌّ- كرم الله وجهه- نصارى بني تغلب، وقال: (ليسوا على النصرانية، ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر). ولا يلحق بهم المجوس في ذلك، وإن ألحقوا بهم فى الجزية، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «سنوا بهم سنة أهل الكِتاب، غير ألا تنكحوا نساءهم، ولا تأكلوا ذبائحهم» «١» وكذلك المرتد مطلقًا لا تؤكل ذكاته.
قال ابن جزي: وأمَّا الطعام، فهو على ثلاثة أقسام: أحدها: الذبائح، وقد اتفق العلماء على أنها مرادة في الآية، فأجازوا أكل ذبائح اليهود والنصارى، واختلفوا فيما هو محرم عليهم في دينهم، على ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع، والكراهة، وهو مبني على: هل هو من طعامهم أم لا؟ فإن أريد بطعامهم ما ذبحوه، جازت، وإن أريد ما يحل لهم، مُنع، والكراهة توسط بين القولين. الثاني: ما لا محاولة لهم فيه، كالقمح والفاكهة، فهو جائز لنا اتفاقًا. والثالث: ما فيه محاولة كالخبز وتعصير الزيت وعقد الجبن، وشبه ذلك مما يمكن استعمال النجاسة فيه، فمنعه ابن عباس لأنه رأى أن طعامهم هو الذبائح خاصة، وأجازه الجمهور، لأنه رأوه داخلاً في طعامهم، وهذا إذا كان استعمال النجاسة فيه محتملاً، أما إذا تحققنا استعمال النجاسة فيه كالخمر والخنزير والميتة، فلا يجوز أصلاً، وقد صنف الطرطوشي في تحريم جبن النصارى، وقال: إنه يُنجس البائع والمشتري والآلة لأنهم يعقدونه على أنفحه الميتة. هـ.
وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ، فلا بأس أن تُطعموهم من طعامكم، وتبيعوه لهم، وأما ما حرم عليهم، فلا يجوز بيعه منهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يسألونك أيها العارف الرباني ماذا أحل للفقراء من الأعمال والأحوال، قل لهم: أحل لكم الطيبات، أي: الخالص من الأعمال، والصافي من الأحوال، والتلذذ بحلاوة المشاهدة والمكالمة، وما اصطادت لكم أنفسكم من العلوم اللدنية والأسرار القدسية، بقدر تزكيتها وتربيتها، فكلوا مما أمسكن عليكم، أي: تمتعوا بما أتت به لكم من
(١) أخرجه مالك فى الموطأ (الزكاة، باب جزية أهل الكتاب والمجوس) من حديث عبد الرحمن بن عوف، بدون ذكر: (غير ألا تنكحوا نساءهم ولا تأكلوا ذبائحهم) وجاءت هذه العبارة بنحوها فى حديث أخرجه عبد الرزاق فى المصنف (٦/ ٦٩ ح ١٠٠٢٨) والبيهقي فى الكبرى (٩/ ١٩٢) عن الحسن بن محمد بن على قال: (كتب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام، فمن أسلم قبل، ومن أصر ضربت عليهم الجزية، على أن لا تؤكل لهم ذبيحة، ولا ينكح لهم امرأة).
10
أبكار الحِكَم وعرائس الحقائق، فإن أتت بشىء من علوم الحس، فاذكروا اسم الله عليه ينقلب معاني، واتقوا الله أن تقفوا مع شيء سواه، (إن الله سريع الحساب) فيحاسبكم على الخواطر والطوارق إن لم تعرفوا فيها. اليوم أحل لكم الطيبات، أي: حين دخلتم بلاد المعاني ورسختم فيها، أحل لكم التمتع بالمشاهدات والمناجاة، وطعام العلوم الظاهرة حِلٌّ لكم تتوسعون بها، وطعامكم حل لهم، أي: وتذكيركم بما يقدرون عليه حِلٌّ لهم لأن العارف الكامل يُسير كل واحد على سيره، ويتلون معه بلونه، يُقره في بلده ويحوشه إلى ربه. نفعنا الله بذكره. آمين.
ثم تكلم على ما بقي من حفظ الأنساب، وهو جواز نكاح الكتابية إذ لم يتكلم عليه في سورة النساء، فقال:
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ يقول الحق جلّ جلاله: وأحل لكم الْمُحْصَناتُ أي: الحرائر مِنَ الْمُؤْمِناتِ دون الإماء، إلا لخوف العنت، أو العفيفات دون البغايا، فإن نكاحها مكروه، وَأحل لكم الْمُحْصَناتُ أي: الحرائر مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، فأحل الله نكاح اليهودية والنصرانية الحُرتين دون إمائهم، إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ
أي:
أعطيتموهن مهورهن. فلا يجوز نكاح الكتابية إلا بصداق شرعي. حال كونكم مُحْصِنِينَ، أي: متعففين عن الزنى بنكاحها، غَيْرَ مُسافِحِينَ أي: مجاهرين بالزنى، وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ أي: أصحاب تُسرون معهن بالزنى، والخدن: الصاحب، يقع على الذكر والأنثى. والمعنى: أحللنا لكم نكاح الكتابيات، توسعة عليكم لتتعففوا عن الزنى سرًّا وجهرًا.
ولما نزل إباحة الكتابيات قال بعض الناس: كيف أتزوج من ليس على ديني؟ فأنزل الله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أي: بشرائع الإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ، ومن الكفر به إنكاره والامتناع منه.
الإشارة: قد تقدم أن علوم الحقائق أبكار، لأنها عرائس مخدّرة، مهرها النفوس، وما سواها من العلوم ثيبات وإماء لرخص مهرها، فإذا اتصل العارف بعلوم الحقائق ورسخ فيها أحل له أن ينكح المحصنات من علوم الطريقة- وهى مبادئ التصوف، أي: التفنن فيها مع أهلها على وجه التركيز أو التعليم، والمحصنات من علوم الشريعة إذا أعطاها مهرها من الإخلاص وقصد التوسع بها وتعليمها لأهلها، وهذه العلوم كلها مشروعة، والمشتغل بها متوجه إلى الله تعالى، قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ، فمن كفر بها فقد حبط عمله، وهو عند الله من الخاسرين.
11
ثم تكلم على ما بقي من حفظ الأديان، وهو الوضوء إذ لم يتكلم عليه فى النساء، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)
قلت: إِذا قُمْتُمْ: أردتم القيام، كقوله: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ «١»، حذف الإرادة للإيجاز، وللتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها، بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة، وقوله: بِرُؤُسِكُمْ الباء للإلصاق، تقول: أمسكتُ بثوب زيد، أي: ألصقت يدي به، أي: ألصقوا المسح برؤوسكم، أو للتبعيض، وهذا سبب الخلاف في مسحه كله أو بعضه، فقال مالك: واجب كله، وقال الشافعي: أقل ما يقع عليه اسم الرأس، ولو قلّ. وقال أبو حنيفة: الربع.
وَأَرْجُلَكُمْ، مَن نَصَبَ عطف على الوجه، ومن خفض فعلى الجوار، وفائدته: التنبيه على قلة صبَّ الماء، حتى يكون غسلاً يقرب من المسح. قاله البيضاوي. ورده في المُغني فقال: الجوار يكون في النعت قليلاً، وفي التوكيد نادرًا، ولا يكون في النسق لأن العاطف يمنع من التجاور، وقال الزمخشري: لمّا كانت الأرجل بين الأعضاء الثلاثة مغسولات، تغسل بصب الماء عليها، كان مظنة الإسراف المذموم شرعًا، فعطف على الممسوح لا لتمسح، ولكن لينبه على وجوب الاقتصار في صب الماء عليها، وجيء فيهما بالغاية إماطة لظن من يظن أنها ممسوحة لأن المسح لم يضرب له غاية في الشريعة. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا أردتم القيام إِلَى الصَّلاةِ، وأنتم محدثون فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ من منابت شعر الرأس المعتاد إلى الذقن، ومن الأذن إلى الأذن، وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ أي: معها، وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ أي: جميعها أو بعضها على الخلاف، وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ العظمين الناتئين في مفصلي الساقين، فهذه أربعة فرائض، وبقيت النية لقوله: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ «٢»، ولقوله
(١) من الآية: ٩٨ من سورة النحل.
(٢) من الآية: ٥ من سورة البينة. [.....]
12
عليه الصلاة السّلام-: «إنما الأعمال بالنيات». والدلك إذًا لا يسمى غسلاً إلا به، وإلا كان غمسًا، والفور لأن العبادة إذا لم تتصل كانت عبثًا. ولمّا عطفت بالواو، وهي لا ترتب، علمنا أن الترتيب سنة.
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى لم تقدروا على الماء أَوْ عَلى سَفَرٍ ولم تجدوه، أو فى الحضر وجاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ بالجماع أو غيره فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ أي: جميعه وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ، وقيد الحضر بفقد الماء دون السفر لأن السفر مظنة إعوازه، فالآية نص في تيمم الحاضر الصحيح للصلوات كلها. قال البيضاوي: وإنما كرره، - يعني مع ما في النساء- ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة. هـ.
ثم قال تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ حتى يكلفكم بالطهارة في المرض أو الفقد من غير انتقال للتيمم، وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ أي: ينظفكم بالماء أو بدله، أو يطهركم من الذنوب، فإن الذنوب تذهب مع صب الماء في كل عضو، كما في الحديث، وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بشرعه، ما هو مَطهَرَةٌ لأبدانكم، ومكفرة لذنوبكم، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمه فيزيدكم من فضله.
الإشارة: كما أمر الحق جلّ جلاله بتطهير الظاهر لدخول حضرة الصلاة، التي هل محل المناجاة ومعدن المصافاة، أمر أيضًا بتطهير الباطن من لوث السهو والغفلات، فمن طهر ظاهره من الأوساخ والنجاسات، ولوّث باطنه بالوساوس والغفلات، كان بعيدًا من حضرة الصلاة إذ لا عبرة بحركة الأبدان، وإنما المطلوب حضور الجنان.
قال القشيري: وكما أن للظاهر طهارةً فللسرائر طهارة، فطهارة الظاهر بماء السماء، أي: المطر، وطهارة القلوب بماء الندم والخجل، ثم بماء الحياء والوجل، ويجب غسلُ الوجه عند القيام إلى الصلاة، ويجب- في بيان الإشارة- صيانة الوجه عن التبذل للأشكال عند طلب خسائس الأغراض، وكما يجب مسحُ الرأس، يجب صونه عن التواضع لكل أحد- أي: في طلب الحظوظ والأغراض- وكما يجب غسل الرجلين في الطهارة الظاهرة، يجب صونها- في الطهارة الباطنة- عن التنقل فيما لا يجوز هـ.
وقال عند قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا: وكما يجب طهارة الأعلى، أي: الظاهر، فيقتضي غسل جميع البدن، فقد يقع للمريد فترة- توجب عليه الاستقصاء في الطهارة الباطنية- فذلك تجديد عقد وتأكيد عهد، وكما أنه إذا لم يجد المتطهر الماء ففرضه التيمم، فكذلك إذا لم يجد المريد مَن يفيض عليه صَوبَ همته، ويغسله ببركات إشارته، اشتغل بما يُنشر له من اقتفاء آثارهم، والاسترواح إلى ما يجد من سالف سيرتهم، ومأثور حكايتهم. هـ.
قلت: محصل كلامه أن من سقط على شيخ التربية، كان كمن وجد الماء فاستعمل الطهارة الأصلية الحقيقية، ومن لم يسقط على شيخ التربية، كان كالمستعمل للطهارة الفرعية المجازية وهي التيمم، وإلى ذلك أشار الغزالي، لما سقط على الشيخ، ولامه ابن العربي الفقيه على التجريد، فقال:
13
ثم قال، لمَّا طَلَعَ قمرُ السَّعَادةِ في ملك الإرَادَة وأشرقت شمسُ الوُصوُلِ على أُفقِ الأُصُول:
قّد تَيَمَّمت بالصَّعِيدِ زَمَانًا والآن قّد ظَفِرتَ بالمَاء
مَن سَرَى مطبقَ الجُفُونِ وأضحى فَاتِحًا لا يردُّها للعَمَاء
تَرَكتُ هَوَى لَيلَى وسُعدَى بمعزلٍ ومِلتُ إلى عَليَاءِ أول مَنزلِ
فنادَتني الأوطانُ أهلاً ومرحَبًا إلا أيها السَّارِي رُوَيدَكَ فانزِلِ
غَزَلْتُ لهم غَزلاً رقِيقًا فلم أجِد لِغزلِي نَسَّاجًا فَكسَّرتُ مِغزَلِي
ثم ذكّرهم الحقّ جلّ جلاله العهد الذي اخذه عليهم في الجهاد والطاعة، حين بايعوا نبيه- عليه الصلاة السّلام- فى العقبة وغيرها، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ٧]
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بالهداية والعز والنصر، وَاذكروا مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ حين بايعتم نبيه في بيعة العقبة وبيعة الرضوان على الجهاد وإظهار الدين، وعلى السمع والطاعة فى المنشط والمكره، حين قُلْتُمْ له: سَمِعْنا وَأَطَعْنا فيما تأمرنا به في عسرنا ويسرنا، فى منشطنا ومكر هنا، وَاتَّقُوا اللَّهَ في نقض العهود، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: خفياتها، فيجازيكم عليها، فضلاً عن جليات أعمالكم، والمقصود: الترغيب في الجهاد الذي هو من كمال الدين.
الإشارة: يقال للفقراء الذين مَنَّ اللهُ عليهم بصُحبة شيوخ التربية، وأخذوا عنهم العهد ألا يخالفوهم: اذكروا نعمةَ الله عليكم، حيث يسَّر لكم من يُسَيّركم إلى حضرة ربكم، ويعرفكم به، وغيركم يقول: إنه معدوم، أو خفي لا يعرفه أحد، وهذا الكنز الذي سقطتم عليه، قلَّ من وجده، واذكروا أيضًا ميثاقه الذي واثقه عليكم ألا تخالفوهم، ولو أدى الأمر إلى حتف أنفكم.
كان شيخ شيوخنا- سيدي العربي بن عبد الله، يقول: الفقير الصادق، هو الذي إذا قال له شيخه: ادخل في عين الإبرة، يقوم مبادرًا يُحاول ذلك، ولا يتردد. وقال أيضًا: (صاحبي هو الذي نقتله بشعرة)، وقد تقرر أن من قال لشيخه: لِمَ، لا يفلح، وهذا أمر مقرر في علم التربية كما في قضية الخضر مع سيدنا موسى- عليه السلام-.
واتقوا الله في اعتقاد مخالفتهم سرًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فإن الاعتراض سرًا أقبح لانه خيانة، فليبادر المريد بالتوبة منه ويغسله من قلبه. والله تعالى أعلم.
ولما كان الجهاد لا يقوم إلا بنصب الإمام، ذكر ما يتعلق به من العدل فى الأحكام، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨ الى ١٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠)
قلت: (وعد) : يتعدى إلى مفعولين، وحذف هنا الثاني، أي: وعدهم أجرًا عظيمًا، دل عليه الجملة بعده.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَامٌّ أريد به خاص، وهم أولوا الأمر منهم، الذين يلُون الحكم بين الناس، وما تقدم في سورة النساء «١» باقٍ على عمومه، أي: كُونُوا قَوَّامِينَ على من تحت حكمكم، راعين لهم فإنكم مسئولون عن رعيتكم، وكونوا مخلصين لِلَّهِ في قيامكم وولايتكم، شُهَداءَ على أنفسكم بالعدل، تشهدون عليها بالحق إن توجه عليها، ولا تمنعكم الرئاسة من الإنصاف في الحق، إن توجه عليكم، أو على أقاربكم وأصدقائكم، ولا على عدوكم وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ أي: ولا يحملنكم شَنَآنُ قَوْمٍ أي: شدّة بغضهم لكم، عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا فيهم، فتمنعوهم من حقهم، أو تزيدوا في نكالهم، تشفيًا وغيظًا.
اعْدِلُوا هُوَ أي: العدل أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، قال البيضاوي: صرح لهم بالأمر بالعدل، وبيَّن أنه بمكان من التقوى بعد ما نهاهم عن الجور، وبيَّن أنه مقتضى الهوى. فإذا كان هذا العدل مع الكفار، فما بالك مع المؤمنين؟.
هـ وَاتَّقُوا اللَّهَ ولا تراقبوا سواه، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فيجازي كلاًّ على عمله، من عدل أو جور.
ثم ذكر ثواب من امتثل، فقال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، وأفضل الأعمال: العدل في الأحكام. قال عليه الصلاة السّلام: «المُقسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِن نُورٍ يومَ القيامة» «٢»... الحديث، وهو من السبعة الذين يظلهم الله في ظله.
ثم ذكر وعيد ضدهم، فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ كما هو عادته تعالى، يشفع بضد الفريق الذي يذكر أولاً، وفاءً لحق الدعوة، وفيه مزيد وعد للمؤمنين وتطييب لقلوبهم. وهذه الآية في مقابلة قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ «٣» وتكميل لها. والله تعالى أعلم.
(١) في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ... الآية ١٣٥.
(٢) أخرجه مسلم فى (الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل..) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
(٣) من الآية ٥٨ من سورة النساء.
الإشارة: أمر الحق جل جلاله شيوخ التربية أن يعدلوا بين الفقراء في النظرة والإمداد، ولا يحملهم سوء آدب أحدهم، أو قلة محبته وصدقه، أن يبعده أو يمقته لأن قلوبهم صافية، لا تحمل الكدر، فهم يحسنون إلى مَن أساء إليهم من العوام، فضلاً عن أصحابهم فهم مأمورون بالتسوية بينهم في التذكير والإمداد. والله تعالى يقسم بينهم على قدر صدقهم ومحبتهم، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنما أنا قاسمٌ والله مُعطي» أي: إنما أنا أُبين كيفية التوصل إلى الحق، والله- تعالى- يتولى إعطاء ذلك لمن يشاء من خلقه، فالأنبياء والأولياء مثلهم في بيان الطريق بالوعظ والتذكير، كمن يُبين قسمة التركة بالقلم، والحاكم هو الذي يوصل إلى كل واحد من الورثة ما كان يَنُوبُه في التركة، كذلك المذكِّر والمربي، يبين المقامات، والله يعطي ذلك بحكمته وفضله. والله تعالى أعلم.
ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلّم بشكر نعمة حفظه ورعايته، وتنسحب على الأمراء من بعده، إذ لا يخلو أحد منهم من عدو أو حاسد، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بحفظه إياكم من عدوكم إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أي: حين هَمَّ الكفار أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالقتل، فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ، ولما كانت مصيبة قتل النبي صلى الله عليه وسلّم- لو قُتل- تَعُمُّ المؤمنين كلهم، خاطبهم جميعاً، وهي إشارة إلى ما همت به بنو قريظة، من قتله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم أتى بني قريظة، ومعه الخلفاءُ الأربعة يَستَعينهم في دية رجلين مسلمين، قتلهما عَمرو بنُ أمية الضمري، خطأ، يظنهما مشركَين، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، قد آن لنا أن نعينك فاجلس حتى تطعم، فأجلسوه، وهموا بقتله، فعمد عَمرُو بن جُحَاش إلى رَحى عظيمةٍ ليَطرحَها عليه، فأمسَكَ اللهُ يده، ونزل جِبرِيلُ فأخبَرُه، فخَرَج النَّبي صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة ولحقه أصحابُه، وهذا كان سبب قتلهم فى غزوة بنى قريظة.
وقيل: نزلت في قضية غَورث، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان ببطن نخلة حاصرًا لغطفان، فقال رجل منهم: هل لكم في أن أقتل محمدًا فأفتك به؟ قالوا: وددنا ذلك. فأتى النبي صلى الله عليه وسلّم متقلدًا سيفه، فَوجد النبي صلى الله عليه وسلّم نازلاً تحت شجرة قد تفرق أصحابه عنه، وقد علق سيفه في الشجرة، فسله الأعرابي وقال: من يمنعك مني؟ وفي رواية: وجد النبي صلى الله عليه وسلّم نائمًا فاستل السيف، فما استيقظ النبي إلا والسيف في يد الأعرابي، فقال: من يمنعك منى يا محمد؟ فقال: «الله»، فأسقطه جبريل من يده، وأخذه النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: «وأنت، من يمنعك مني؟» فقال: كن خير آخذ، فعفى عنه- عليه الصلاة السلام «١» -. زاد البيضاوي: أنه أسلم.
(١) أخرجه القصة: البخاري فى (الجهاد، باب من علق سيفه بالشجر) وفى مواضع أخرى، ومسلم فى (الفضائل، باب توكله صلّى الله عليه وسلّم على الله) عن جابر رضي الله عنه.
وقيل نزلت في صلاة الخوف حين همَّ المشركون أن يُغِيرُوا على المسلمين في الصلاة. فالله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ فلا تشهدوا معه سواه، وتوكلوا عليه يكفكم أمر عدوكم، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فإنه يكفيكم أمرهم جلبًا ودفعًا، مَن توكل على الله كفاه.
الإشارة: ما جرى على النبي صلى الله عليه وسلّم من قصد القتل والإذاية يجري على خواص ورثته، وهم الأولياء- رضى الله عنهم- والعلماء الأتقياء، فقد هَمَّ قوم بقتلهم وسجنهم وضربهم، وإجلائهم من أوطانهم، فكف الله أيديهم عنهم، وكفاهم شرهم، لمّا صححوا التوكل عليه، وأخلصوا الوجهة إليه، ومنهم من لحقه شيء من ذلك، كما لحق بعض الأنبياء- عليهم السلام- زيادة في شرفهم وكرامتهم، جمع الله لهم بين مقام الشهادة والصديقية، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
ثم ذكر وبال مَن نقض العهد ترهيبا وترغيبا، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٢ الى ١٣]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣)
قلت: النقيب: هو كبير القوم والمقدَّم عليهم، ينقب عن أحوالهم ويفتش عليها. والخائنة: إما مصدر كالعاقبة واللاغية، أو اسم فاعل، والتاء للمبالغة، مثل: راوية ونسَّابة وعلاَّمة.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ على أن يجاهدوا مع موسى- عليه السلام- وينصروه، ويلتزموا أحكام التوراة، وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً اخترناهم وقدمناهم، على كل سبط نقيبًا ينقب عن أحوال قومه، ويقوم بأمرهم، ويتكفل بهم فيما أمروا به.
رُوِي إن بني إسرائيل لمَّا خرجوا عن فرعون، واستقروا بأوائل الشام، أمرهم الله تعالى بالمسير إلى بيت المقدس، وهي في الأرض المقدسة، وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون، وقال: إني كتبتها لكم دارًا وقرارًا، فأخرجوا إليها، وجاهدوا مَن فيها من العدو، فإني ناصركم. وقال لموسى عليه السلام: خذ من قومك اثني عشر نقيبًا، من كل
17
سبط نقيبًا، يكون أمينًا وكفيلاً على قومه بالوفاء على ما أمروا به. فاختار موسى النقباء، فسار بهم حتى إذا دنوا من أرض كنعان، وهي أريحا، بعث هؤلاء النقباء يتجسسون الأخبار، ونهاهم أن يحدثوا قومهم بما يرون، فلما قربوا من الأرض المقدسة رأوا أجرامًا عظامًا وبأسًا شديدًا، فهابوا ورجعوا وحدثوا قومهم، إلا كالب بن يوقنا- من سبط يهوذا- ويوشع بن نون- من سبط إفرائيم بن يوسف- ثم قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ إلى آخر ما يأتي من قصتهم. وأما ما ذكره الثعلبي هنا، وغيره، من قصة عوج بن عناق، فقال القسطلاني: هي باطلة من وضع الزنادقة، فلا يجوز ذكرها في تفسير كتاب الله الصادق المصدوق.
وَقالَ اللَّهُ لبني إسرائيل: إِنِّي مَعَكُمْ بالنصر والمعونة لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي التي أرسلتُ بعد موسى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ أي: نصرتموهم وقويتموهم، وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً بالإنفاق في سُبُل الخير، لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أي: أستر عنكم ذنوبكم فلا نفضحكم بها، وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ العهد المؤكد، المعلَق عليه هذا الوعد العظيم، فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي: تلف عن وسط الطريق، تلفًا لا شبهة فيه ولا عذر معه، بخلاف من كفر قبل أخذ العهد فيمكن أن تكون له شبهة، ويتوهم له معذرة.
ثم إن بني إسرائيل نقضوا المواثيق التي أُخذت عليهم، فكفروا وقتلوا الأنبياء، قال تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ أي: طردناهم وأبعدناهم، أو مسخناهم، وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً أي: يابسة صلبة لا ينفع فيها الوعظ والتذكير، أو رديَّة مغشوشة بمرض الذنوب والكفر.
ثم بيَّن نتيجة قسوة قلوبهم فقال: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ لفظًا أو تأويلاً. ولا قسوة أعظم من الجرأة على تغيير كتاب الله وتحريفه، وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أي: تركوا نصيبًا واجبًا مما ذُكروا به من التوراة.
فلو عملوا بما ذكَّرهم الله في التوراة ما نقضوا العهود وحرّفوا كلام الله من بعد ما علموه، لكن رَين الذنوب والأنهماك في المعاصي، غطت قلوبهم فقست ويبست، وَلا تَزالُ يا محمد تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ أي: خيانة مِنْهُمْ أو على طائفة خائنة منهم، لأن الخيانة والغدر من عادتهم وعادة أسلافهم، فلا تزال ترى ذلك منهم إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ لم يخونوا، وهم الذين أسلموا منهم، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ حتى يأتيك أمر الله فيهم، أو إن تابوا وآمنوا، أو إن عاهدوا والتزموا الجزية، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ إلى عباده كيفما كانوا. ومن الإحسان إليهم:
جبرهم على الإيمان بالسيف وسوقهم إلى الجنة بسلاسل الامتحان.
الإشارة: قد أخذ الله على هذه الأمة أن يلتزموا أحكام القرآن، ويحافظوا على مراسم الإسلام والإيمان، ويجاهدوا نفوسهم في تحصيل مقام الإحسان، وبَعث من يقوم ببيان شرائع الإسلام والإيمان، ومن يعرف الطريق إلى مقام الإحسان، وقال الله لهم: (إني معكم) بالنصر والتأييد، لئن أقمتم شرائع الإسلام، وحققتم قواعد الإيمان، وعظمتم من يعرفكم بطريق الإحسان، لأغطين مساوئكم، ولأمحقن دعاويكم، فأوصلكم بما مني إليكم من الكرم
18
والجود، ولأدخلنكم جنة المعارف تجري من تحتها أنهار العلوم وأنواع الحِكَم، فمن لم يقم بهذا، أو جحده فقد ضل عن طريق الرشاد، ومن نقض عهد الشيوخ المعرفين بمقام الإحسان، فقد طرد وأبعد غاية الإبعاد، وقسا قلبه بعد اللين. وقد ذكرنا في تفسير الفاتحة الكبير معنى النقباء والنجباء وسائر مراتب الأولياء، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولما ذكر نقض اليهود ذكر نقض النصارى، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٤]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤)
يقول الحق جلّ جلاله: وأخذنا أيضًا عهدًا وميثاقًا من النصارى، الذين سموا أنفسهم نصارى ادعاء لنصرة عيسى عليه السلام ولم يقوموا بواجب ذلك عملاً واعتقادًا، أخذناه عليهم بالتزام أحكام الإنجيل، وأن يؤمنوا بالله وحده لا شريك له، ولا صاحبة ولا ولد، وأن يؤمنوا بمحمد- عليه الصلاة والسّلام- إن أدركوه ويتبعوه، فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ
أي: نسوا ما ذكرناهم به، وتركوا حظًا واجبًا مما كلفوا به، فَأَغْرَيْنا أي: سلطنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، فهم يقتتلون في البر والبحر، ويتحاربون إلى يوم القيامة، فكل فرقة تلعن أختها وتكفرها، أو بينهم وبين اليهود، فالعداوة بينهم دائمة، وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ بالجزاء والعقاب.
الإشارة: يؤخذ من الآية أن من نقض العهد مع الله بمخالفة ما أمره به أو نهاه عنه، أو مع أولياء الله، بالانتقاد عليهم وعدم موالاتهم، ألقى الله في قلب عباده العداوة والبغضاء له، فيبغضه الله، ويبغضه عبادُ الله، ومن أوفى بما أخذه الله عليه من العهد بوفاء ما كلفه به، واجتناب ما نهاه عنه، وتودد إلى أوليائه، ألقى الله في قلب عباده المحبة والوداد، فيحبه الله، ويحبه عباد الله، ويتعطف عليه أولياء الله، كما في الحديث: «إذا أحب الله عبدا نادى جبريلُ، إنَّ اللهَ يُحب فلاناً فأحِبَّه، فيُحِبَّهُ جبرِيلُ. ثم يُنَادِي في الملائكة: إن اللهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فأحِبُّوه.
فيُحِبُّه أهلُ السَّمَاءِ، ثم يُلقَى له القَبولُ في الأرض»
«١»... الحديث.
(١) أخرجه البخاري فى (الأدب، باب المقة «المحبه» من الله) ومسلم فى (البر والصلة، باب إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده) من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.
ثم دعا أهل الكتابين إلى الإيمان برسوله صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٥ الى ١٦]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)
قلت: الضمير في: (به)، يعود إلى النور والكتاب، ووحَّدَه لأن المراد به شيء واحد، لأن النور هو الكتاب المبين، أو لأنهما جنس واحد.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَهْلَ الْكِتابِ اليهود والنصارى قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد صلّى الله عليه وسلّم يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ كصفة محمد صلى الله عليه وسلّم، وآية الرجم التي في التوراة، وكبشارة عيسى بأحمد التي فى الإنجيل، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ مما تخفونه وتحرفونه، فلم يخبر به، ولم يفضحكم، حيث لم يؤمر به، أو عن كثير منكم، فلا يؤاخذه بجرمه وسوء أدبه معه.
قَدْ جاءَكُمْ يا أهل الكتاب مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ، عطف تفسير، فالنور هو الكتاب المبين، أو النور: محمد- عليه الصلاة السّلام- والكتاب المبين: القرآن لأنه الكاشف لظلمات الشك والضلال، والواضح الإعجاز والبيان، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ أي: من اتبع رضى الله بالإيمان به، والعمل بما فيه، سُبُلَ السَّلامِ أي: طرق السلامة من العذاب، أو طرق الله الموصلة إليه، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من ظلمات الكفر، إلى نور الإسلام بِإِذْنِهِ أي: بإرادته وتوفيقه، وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي:
طريق توصلهم إليه لاعوج فيها.
الإشارة: قد أطْلَع الله علماء الباطن على مقامات علماء الظاهر وأحوالهم وجل مساوئهم، ولا سيما من كان عالمًا بالظاهر ثم انتقل إلى علم الباطن، كالغزالي وابن عباد وغيرهما. فقد تكلم الغزالي في صدر الإحياء مع علماء الظاهر، ففضح كثيرًا من مساوئهم. وكذلك ابن عباد في شرح الحكم، وعفوًا عن كثير- فهم على قدم رسول الله ﷺ وخواص ورثته، لأنهم حازوا الوراثة كلها، كما في المباحث:
فالولي نور من نور الله، وسر من أسراره، يُخرج به مَن سبقت له العناية من ظلمات الحجاب إلى نور الشهود، ويهدي به من اصطفاه لحضرته تعالى طريق الوصول إليه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر مساوئ أهل الكتاب وضلالتهم، تحريضا على قتالهم إن لم يسلموا أو يعطوا الجزية، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٧]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)
يقول الحق جلّ جلاله: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، والقائل بهذه المقالة هي الطائفة اليعقوبية من النصارى، كما تقدم. وقيل: لم يصرح بهذه المقالة أحدٌ منهم. ولكن لزمهم حيث قالوا بأن اللاهوت حل في ناسوت عيسى- مع أنهم يقولون الإله واحد، فلزمَهم أن يكون هو المسيح، ولزمهم الاتحاد والحلول فنسب إليهم لازم قولهم، توضيحًا لجهلهم، وتقبيحًا لمعتقدهم.
ثم رد عليهم بقوله: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: من يمنع من قدرته وإرادته شَيْئاً، إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، وبيان الرد عليهم: أن المسيح مقدورٌ ومقهور، قابل للفناء كسائر الممكنات، ومن كان كذلك فهو معزول عن الألوهية. ثم أزال شبهتهم بحجة أخرى فقال: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يتصرف فيهما كيف شاء، يَخْلُقُ ما يَشاءُ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فقدرته عامة فيخلق من غير أصل كالسموات والأرض، ومن أصل كخلق ما بينهما، وينشىء من أصل ليس هو جنسه كآدم وكثير من الحيوانات، ومن أصل يجانسه، إما من ذكر وحده كحواء، أو من أنثى وحدها:
كعيسى، أو منهما كسائر الناس. قاله البيضاوي.
الإشارة: قد رُمي كثير من الأولياء المحققين بالاتحاد والحلول كابن العربي الحاتمي، وابن الفارض، وابن سبعين، والششتري والحلاج، وغيرهم- رضى الله عنهم- وهم بُرءاء منه. وسبب ذلك أنهم لما خاضوا بحار التوحيد، وكُوشفوا بأسرار التفريد، أو أسرار المعاني قائمة بالأواني، سارية في كل شيء، ماحية لكل شيء، كما قال في الحِكَم: «الأكوان ثابتة بإثباته ممحوة بأحدية ذاته» فأرادوا أن يعبروا عن تلك المعاني فضاقت عبارتهم عنها لأنها خارجة عن مدارك العقول، لا تدرك بالسطور ولا بالنقول. وإنما هي أذواق ووجدان فمن عبَّر عنها
بعبارة اللسان كفَّر وزندق، وهذه المعاني هي الخمرة الأزلية التي كانت خفية لطيفة، ثم ظهرت محاسنها، وأبدت أنوارها وأسرارها، وهي أسرار الذات وأنوار الصفات، فمن عرفها وكوشف بها. اتحد عنده الوجود، وأفضى إلى مقام الشهود. وهي منزهة عن الحلول والاتحاد، إذ لا ثاني لها حتى تحل فيه أو تتحد معه، وقد أشرت إلى هذا المعنى في تائيتي الخمرية، حيث قلت:
تَبِعَةُ العَالِم في الأقوال والعابد الزاهد في الأفعال
وفيهما الصوفي في السباق لكنه قّد زَادَ بالأخلاَق
تنزهت عن حكم الحلول في وصفها فليس لها سِوَى في شَكلِه حَلَّتِ
تجلت عروسا في مرائي جمالها وأرخت ستور الكبرياء لعِزَّتِي
فَمَا ظَاهِرٌ في الكون غير بهائها وما احتَجَبَت إلا لَحجِب سَرِيرتِي
فمن كوشف بأسرار هذه الخمرة، لم ير مع الحق سواه. كما قال بعضُ العارفين: (لو كُلفتُ أن أرى غيره لم أستطع فإنه لا غير معه حتى أشهده). ولو أظهرها الله تعالى للكفار لوجدوا أنفسهم عابدة لله دون شيء سواه، وفي هذا المعنى يقول ابن الفارض على لسان الحقيقة:
فما قَصَدُوا غيرَه وإن كان قَصدهُم سِوَاي وإن لم يُظهِروا عَقدَ نِيّه
والنصارى- دمرهم الله في مقام الفرق والضلال- حملهم الجهل والتقليد الرديّ على مقالالتهم التي قالوا في عيسى عليه السلام.
ثم ذكر مقالة أخرى لليهود والنصارى، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٨]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨)
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ أي: أولاد بنيه فاليهود يقولون:
نحن أولاد عزير، والنصارى يقولون: نحن أشياع عيسى. أو: فينا أبناء الله ونحن أحباؤه، أو: نحن مقربون عند الله كقرب الولد من والده. وهذه دعوى ردَّها عليهم بقوله: قُلْ لهم: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ، وهل رأيتم والدًا يُعذب ابنه، وقد عذبكم في الدنيا بالمسخ والقتل والذل، وقد اعترفتم أنه يعذبكم بالنار أيامًا معدودة، بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ أي: ممن خلقه الله، يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ بفضله وهو من آمن منهم بالله ورسله، وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ
بعدله وهو من مات منهم على كفره، فأنتم كسائر البشر يعاملكم معاملتهم، لا مزية لكم عليهم، وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما كلها سواء في كونها ملكًا وعبيدًا الله- سبحانه- وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقى.
الإشارة: قوله تعالى: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أي: فلو كنتم أحباءه لما عذبكم لأن الحبيب لا يعذب حبيبه، حكى عن الشبلي رضى الله عنه أنه كان إذا لبس ثوبًا جديدًا مزقه، فأراد ابن مجاهد أن يعجزه بمحضر الوزير، فقال له:
أين تجد في العلم فساد ما ينتفع به؟ فقال له الشبلي: أين في العلم: فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ «١» ؟
فسكت، فقال له الشبلي: أنت مقرىء عند الناس، فأين في القرآن: إن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فسكت ابن مجاهد، ثم قال: قل يا أبا بكر، فقرأ له الشبلي قوله تعالى وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ، فقال ابن مجاهد: كأني والله ما سمعتها قط. هـ.
وفي الحديث: «إذا أحَبَّ اللهُ عبدًا لاَ يضُرُّه ذَنبٌ»، ذكره في القوت. وفي المثل الشائع: (مَن سبقت له العناية لا تضره الجناية). وفي الصحيح: «لعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أهلِ بَدرِ فَقَالَ: افعلوا ما شئتم فقد غَفَرتُ لَكم» «٢»، وسببه معلوم، وفي القوت عن زيد بن أسلم: (إن الله- عزّ وجل- ليُحب العبد حتى يبلغ من حبه له أن يقول له: اصنع ما شئت فقد غفرتُ لك). وفي القصد للشيخ أبي الحسن الشاذلي- رضي الله عنه- قال: يبلغ الولي مبلغا يقال له:
أصحبناك السلامة، وأسقطنا عنك الملامة، فاصنع ما شئت. هـ.
وليس معناه إباحة الذنوب، ولكنه لمّا أحبه عصمه أو حفظه، وإذا قضى عليه بشيء ألهمه التوبة، وهي ماحية للذنوب، وصاحبها محبوب، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ. والله تعالى أعلم.
ثم دعاهم إلى اتباع رسوله- عليه الصلاة والسّلام، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٩]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)
قلت: جملة (يُبين) : حال، أي: جاءكم رسولنا مبينًا لكم، و (على فترة) : متعلق بجاء، أي: جاءكم على حين فترة وانقطاع من الوحي، و (أن تقولوا) : مفعول من أجله، أي: كراهية أن تقولوا.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَهْلَ الْكِتابِ اليهود والنصارى قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد صلى الله عليه وسلّم يُبَيِّنُ لَكُمْ ما اختلفتم فيه، أو ما كتمتم من أوامر الدين، أو مطلق البيان. جاءكم عَلى حين فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ
(١) من الآية ٣٣ من سورة (ص).
(٢) حديث صحيح أخرجه البخاري فى (المغازي- باب فضل من شهد بدرا) ومسلم فى (فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر) عن سيدنا على رضي الله عنه.
وانقطاع من الوحي، أرسلناه كراهية أَنْ تَقُولُوا يوم القيامة: ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ، فتعتذروا بذلك، فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ فلا عذر لكم، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على الإرسال من غير فترة، كما في أنبياء بني إسرائيل فقد كان بين موسى وعيسى ألف نبي، وبينهما ألف وسبعمائة سنة، وعلى الإرسال على الفترة كما بين عيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم. كان بينهما ستمائة سنة، أو خمسمائة سنة وتسع وستون سنة. قاله البيضاوي.
والذي في الصحيح: أن الفترة ستمائة سنة «١»، وفي الصحيح أيضًا عنه- عليه الصلاة السلام-: «أنا أولى النَّاس بعِيسَى في الأُوَلى والآخرة وليس بَينَنَا نبي» «٢». وهو يرد ما حكاه الزمخشري وغيره: أَن بينهما أربعة أنبياء: ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب، وهو خالد بن سِنان العبسي لأن النكرة في سياق النفي تعم. قاله المحشي.
الإشارة: ظهور أهل التربية بعد زمان الفترة، وخمود أنوار الطريقة وأسرار الحقيقة، حجة على العباد، ونعمة كبيرة على أهلِ العشق والوداد، من انتكب عنهم لقي الله بقلب سقيم، وقامت بهم الحجة عليهم عند الملك الكريم، ومن اتبعهم وحطَ رأسه لهم فاز بالخير الجسيم، والنعيم المقيم حيث لقي الله بقلب سليم، وقد ظهروا في زماننا هذا بعد اندراس أنوار الطريقة، وخمود أسرار الحقيقة، فجدد الله بهم الطريقة، وأحيا بهم أسرار الحقيقة، منهم شيخنا أبو المواهب صاحب العلوم اللدنية والأسرار الربانية، البحر الفياض، سيدي محمد بن أحمد البوزيدي الحسني، وشيخه القطب الواضح، والجبل الراسخ، شيخ المشايخ، مولاي العربي الدرقاوي الحسني، أطال الله بركاتهما للأنام، فقد تخرج على أيديهما الجم الغفير من الأولياء. وليس الخبر كالعيان. وبالله التوفيق.
ثم ذكّرهم بالنعم على لسان نبيه موسى- عليه السلام- فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ٢٠]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ: يا بني إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ يسُوسُونكم، كلما مات نبي خلفه نبي، فقد شرفكم بهم دون غيركم، إذ لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء، وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً أي: جعل منكم ملوكًا، وقد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء، فكان كل نبي معه ملك ينفذ أحكامه، فكانت دار النبوة ودار المملكة معلومة، يخلف بعضهم بعضًا في النبوة والمُلك، استمر ذلك لهم، حتى قتلوا يحيى، وهموا بقتل عيسى، فنزع الله منهم الملك، وأنزل عليهم الذل والهوان.
وقيل: لمّا كانوا مملوكين في أيدي القبط، فأنقذهم الله وجعلهم مالكين لأنفسهم، سماهم ملوكا.
(١) جاء ذلك فيما أخرجه البخاري فى (مناقب الأنصار- باب إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه) عن سلمان قال: (فتره بين عيسى ومحمد صلّى الله عليهما- ستمائة سنة).
(٢) أخرجه البخاري فى (كتاب الأنبياء، باب: واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ) ومسلم فى (الفضائل، باب فضائل عيسى عليه السلام) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من فلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، ونحوها، أو المراد عالمي زمانهم، وعن أبي سعيد الخدري قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «كَانَ بنو إسرَائيل إذا كَانَ لأحَدِهم خَادِمٌ وامرَأة يُكتَب مَلِكًا» «١». وقال ابن عباس: (من كان له بيت وخادم وامراة فهو مَلِك)، وعن أبي الدرداء قال: قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «مَن أصبَحَ مُعَافّى في بَدَنِه، آمنًا في سِربِه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، يكفيكَ منها، يا ابنَ آدم، ما سَدَّ جوعَتَكَ، وَوَارَ عَورَتك، فإن كان بيتٌ يُوارِيك فذاك، وإن كانت دابة فبخ بخ، فلق الخبز، وماء الجر «٢» وما فَوق الإزار حِسَابٌ عليك» «٣».
وقال الضحاك: (كانت منازلهم واسعة، فيها مياه جارية، فمن كان مسكنه واسعًا وفيه ماء جارٍ، فهو ملك).
وقال قتادة: كانوا أول من ملك الخدم، وأول من سخر لهم الخدم من بني آدم. هـ.
الإشارة: كل من رزقه الله من يأخذ بيده ومن يستعين به على ذكر ربه، فليذكر نعمة الله عليه، فقد أسبغ الله عليه نعمه ظاهرة وباطنة. وكل من ملك نفسه وهواه، وأغناه الله عما سواه، فهو ملك من الملوك. وكل من خرجت فكرته عن دائرة الأكوان، واتصل بفضاء الشهود والعيان، فقد آتاه الله ما لم يؤت أحدا من العالمين. وقد كُنتُ ذات يوم جالسًا في الجامع الأعظم من مدينة تطوان، فانتبهت فإذا مصحف إلى جنبي، فقال لي الهاتف:
انظر تجد مقامك، فأعرضت عنه، فأعاد عليَّ الهاتف ثلاث مرات، فرفعته، ونظرت، فإذا في أول الورقة:
وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ، فحمدت الله تعالى وأثنيت عليه.
ثم أمرهم بجهاد عدوهم، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢١ الى ٢٦]
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥)
قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)
(١) عزاه السيوطي فى الدر المنثور لابن أبي حاتم، عن أبي سعيد الخدري.
(٢) الجرّ والجرار: جمع جرة: وهو الإناء المعروف من الفخار.
(٣) أخرجه إلى قوله: (حيزت له الدنيا) البخاري فى الأدب المفرد (باب مِن أَصْبَحَ آمِناً فِي سربه) والترمذي فى (الزهد باب ٣٤) وابن ماجه فى (الزهد، باب القناعة)
25
قلت: (فتنقلبوا) : منصوب بأن في جواب النهي، أو عطف على المجزوم، و (ما داموا) : بدل من (أبدًا) بدل بعض، و (أخي) يحتمل النصب عطف على (نفسي)، أو رفع عطف على (أن) مع اسمها، أو مبتدأ حُذف خبره، أو جر عطف على ياء المضاف، على مذهب الكوفيين.
يقول الحق جلّ جلاله حاكياً عن موسى- عليه السلام-: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ أرض بيت المقدس، قدسها الله، حيث جعلها قرار أنبيائه ومسكن المؤمنين. وفي مدحها أحاديث كثيرة. وقيل: الطور وما حوله، أو دمشق وفلسطين، أو الشام، الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي: التي كتب اللهُ في اللوح المحفوظ، أنها لكم مسكنًا إن جاهدتم وأطعتم نبيكم، وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ أي: لا ترجعوا مدبرين هاربين خوفًا من الجبابرة، أو: لا ترتدوا عن دينكم بالعصيان، وعدم الوثوق بالله، فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ الدنيا والآخرة. رُوِي أنهم لما سمعوا حالهم من النقباء بكوا، وقالوا: ليتنا متنا بمصر، تعالوا نجعل علينا رأسًا ينصرف بنا إلى مصر، ثم قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ أقوياء متغالبين، لا طاقة لنا بمقاومتهم، وهم قوم من العمالقة، من بقية قوم عاد، وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها بأمر سماوي، أو يُسلط عليهم مَن يُخرجهم من غيرنا، فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ فيها.
قالَ رَجُلانِ كالب بن يوقنّا، ويوشع بن نون- ابن آخت موسى وخادمه- مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ الله، أو رجلان من الجبابرة أسلما وصارا إلى موسى، وعليه قراءة يُخافان بضم الياء، أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالإسلام والتثبت، قالا: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ أي: باب المدينة، أي: باغِتوهم بالقتال، فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ أي: ظاهرون عليهم، فإنهم أجسام لا قلوب فيها. يحتمل أن يكون علمهما بذلك من قِبل موسى، أو من قوله تعالى: الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، أو من عادته سبحانه في نصر رسله وأوليائه، وما عَهِدا من صنيعه تعالى مع موسى من قهر أعدائه. ثم قال: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ به، ومصدقين لوعده.
قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها، وهذا من تعنتهم وعصيانهم، وأشنعُ منه قولهم:
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ، قالوه استهزاء بالله ورسوله وعدم مبالاة بهما، وانظر فضيلة الأمة
26
المحمدية، وكمال أدبها مع نبيها- عليه الصلاة والسّلام- فإن النبي صلى الله عليه وسلّم قال يوم الحديبية لأصحابه حين صُد عن البيت: إني ذاهب بالهدي فناحِرُه عند البيت، فقال المقداد بنُ الأسود: أما والله ما تقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ، ولكن نقاتل عن يمينك وشمالك، ومن بين يديك ومن خلفك، ولو خُضت البحر لخضناه معك، ولو تسنَمت جبلاً لعلوناه معك، ولو ذهبت بنا إلى بَرك الغماد لتبعناك، فلما سمعها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم تابعوه على ذلك، فَسُرَ صلّى الله عليه وسلّم بذلك وأشرق وجهه «١». هـ.
ولما سمع موسى عليه السلام مقالة قومه له غضب، ودعا ربه فقال: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي أي:
لا أثق إلا بنفسي وأخي، ولا قدرة لي على غيرهما، والرجلان المذكوران، وإن كانا موافقين له، لكنه لم يوثق عليهما، لما كبد من تلوّن قومه، ثم دعا عليهم فقال: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي: احكم بيننا وبينهم بما يستحق كل واحد منا ومنهم، أو بالتبعيد بيننا وبينهم، وتخليصنا من صحبتهم.
رُوِي أنه لما دعا عليهم ظهر فوقهم الغمام، وأوحى الله إليه: يا موسى إلى متى يعصي هذا الشعب؟ لأُهلكنهم جميعًا، فشفع فيهم موسى عليه السلام فقال الله تعالى له: قد غفرت لهم بشفاعتك، ولكن بعد ما سَميتَهم فاسقين، ودعوت عليهم، بي حلفت لأحرمنَّ عليهم دخول الأرض المقدسة، وذلك قوله تعالى: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ يحتمل أن يكون «أربعين» متعلقًا بمحرمة، فيكون التحريم عليهم مؤقتًا غير مؤبد فيوافق ظاهر قوله: الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ.
ويؤيد هذا ما رُوِي أن موسى- عليه السلام- لما خرج من التيه، سار بمن بقي معه من بني إسرائيل، ويوشع على مقدمته، ففتح بيت المقدس، فبقي فيها ما شاء الله، ثم قبض. ويحتمل أن يكون «أربعين» متعلقًا ب (يتيهون)، فيكون التحريم مؤبدًا، وعلى هذا لم يبق أحد ممن دخل التيه إلا يوشع وكالب، ولم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال له: (اذهب أنت وربك... )، بل كلهم هلكوا في التيه، وإنما دخلها أشياعهم.
رُوِي أن موسى عليه السلام لما حضره الموت في التيه أخبرهم بأن يوشع بعده نبي، وأن الله أمره بقتال الجبابرة، فسار بهم يوشع، وقاتل الجبابرة، وكان القتال يوم الجمعة، فبقيت منهم بقية، وكادت الشمس أن تغرب ليلة السبت، فخشي أن يعجزوه، فقال: اللهم اردد الشمس عليَّ، وقال للشمس: إنك في طاعة الله وأنا في طاعته، فوقفت مثل يوم حتى قتلهم، ثم قتل ملوك الأرمانيين، وقتل مِن ملوك الشام أحدًا وثلاثين ملكًا، فصارت الشام كلها لبني إسرائيل، وفرّق عماله فى نواحيها، وبقيت بنو إسرائيل في التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض في ستة فراسخ، بين فلسطين وأيلة، متحيرين، يسيرون من الصباح إلى المساء جادين في السير، فإذا هم بحيث ارتحلوا عنه، ثم
(١) المشهور أن قول المقداد كان يوم بدر. وقال العلامة ابن كثير: وهذا- إن كان محفوظا يوم الحديبية- فيحتمل أنه كرر هذه المقالة يومئذ، كما قاله يوم بدر. انظر: تفسير ابن كثير.
27
يسيرون بالليل كذلك فيصبحون حيث ارتحلوا، وكان الغمام يظلهم من الشمس وعمود من نور يطلع بالليل فيضيء لهم، وكان طعامهم المن والسلوى، وماؤهم من الحجر الذي يحمله موسى، واختلف في الكسوة، فقيل: أبقى الله كسوتهم معجزة لموسى، وقيل: كساهم مثل الظفر. والأكثر أن موسى وهارون كانا معهم زيادة في درجاتهما، وكان عقوبة لقومهما وأنهما ماتا فيه، مات هارون أولاً ودفنه أخوه في كهف، وقيل: رُفع على سرير في قبة، ثم مات موسى- عليه السلام- ودفن بقرب من الأرض المقدسة، رمية بحجر، كما في الحديث، ثم دخل يوشع الأرض المقدسة بعد ثلاثة أشهر. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى لموسى عليه السلام: فَلا تَأْسَ أي: لا تحزن، عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ، خاطبه الحق تعالى بذلك لمَّا ندم على الدعاء عليهم، فقال له: أنهم أحق بذلك لفسقهم وعصيانهم.
الإشارة: يقول الحق جلّ جلاله للمتوجهين إليه من المريدين: ادخلوا الحضرة المقدسة التي كتب الله لكم، إن دمتم على جهاد أنفسكم، وصدقتم في طلب ربكم، وبقيتم في تربية شيوخكم، ولا ترتدوا على أدباركم بالرجوع عن صحبة شيوخكم من الملل مع طول الأمل، فتنقلبوا خاسرين، فإن حضرتي محفوفة بالمكاره، والطريقة الموصلة إليها مرصودة للقواطع والعوائق، فإن كان ممن لم يكتب له فيها نصيب، قال: لن ندخلها أبدا مادام القواطع فيها، ورجع على عقبيه، يتيه في مهامه شكوكه وأوهامه، وإن كان ممن سبقتَ له العناية وحقت به الرعاية قال:
ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فيبادر إلى قتل نفسه، من غير تأن ولا خوف ولا فزع، فحضرة التحقيق لا ينالها إلا الشجعان، ولا يسكنها إلا الأكابر من أهل العرفان، وإلى ذلك أشار صاحب العينية بقوله:
وإيَّاك جَزعًا لا يَهُولُكَ أمرُهَا فَمَا نَالَهَا إلاَّ الشُّجاعُ المُقّارعُ
وقال الورتجبي في قوله تعالى: لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي: من بلغ عين التمكين ملك نفسه وملك نفوس المريدين لأنه عرفها بمعرفة الله، وقمعها من الله بسلطان سائس قاهر، من نظر إليه يفزع من الله، لا يطيق عصيانه ظاهرًا وباطنًا، فأخبر عليه السلام عن محلّ تمكينه وقدرته على نفسه ونفس أخيه، وأعلمنا أن بينهما اتحادًا، بحيث إنه إذا حكم على نفسه صار «١» نفس أخيه مطمئنة طائعة لله بالانفعال. قال صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمنون كنفس واحدة» «٢». هـ.
ثم تكلم الحق جل جلاله على بقية حفظ الأبدان، فبيّن أوَّلُ من سَنَّ القَتل ووبال من تبعه، فقال:
(١) هكذا فى الأصول وكذا فى تفسير الورتجبي، وأرى أنها (صارت). [.....]
(٢) أخرجه مسلم فى (البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم) عن النعمان بن بشير، بلفظ: (المؤمنون كرجل واحد..).
28

[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٧ الى ٣٠]

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠)
قلت: الضمير في (عليهم) : لبني إسرائيل لتقدم شأنهم، ولاختصاصهم بعلم قصة ابني آدم، ولإقامة الحجة عليهم بهمهم ببسط اليد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الحق جل جلاله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي: على بني إسرائيل إذ الكلام كان معهم، أو على جميع الأمة، أو على جميع الناس، إذ هو أول الكلام على بقية حفظ الأبدان- نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ وهو قابيل وهابيل بِالْحَقِّ أي:
تلاوة ملتبسة بالحق، أو نبأ ملتبسًا بالحق موافقًا لما في كتب الأوائل.
إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وهو هابيل، وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ وهو قابيل، وسبب تقريبهما القربان أن آدم- عليه السلام- كان يُولد له من حواء توأمان في كل بطن: غلام وجارية، إلا شيتًا، فإنه ولد منفردًا، وكان جميع ما ولدته حواء أربعين، بين ذكر وأنثى، في عشرين بطنًا، أولهم قابيل، وتوأمته أقليما، وآخرهم عبد المغيث، ثم بارك الله في نسل آدم. قال ابن عباس: لم يمت آدم حتى بلغ ولده، وولد ولده، أربعين ألفًا، ورأى فيهم الزنا وشُرب الخمر والفساد، وكان غشيان آدم لحواء بعد مهبطهما إلى الأرض، وقال ابن إسحاق عن بعض العلماء بالكتاب الأول: إن آدم كان يغشى حواء في الجنة، قبل أن يصيب الخطيئة، فحملت في الجنة بقابيل وتوأمته، ولم تجد عليهما وحمًا ولا غيره، وحملت في الأرض بهابيل وتوأمته، فوجدت عليهما الوحم والوصب والطلق والدم.
وكان آدم إذا كبر ولده يزوج غلام هذا البطن بجارية بطن آخر، فكان الرجل يتزوج أيّ أخواته شاء إلا تَوأمَته، لأنه لم يكن نساء يومئٍذ، فأمر الله تعالى آدم أن يزوج قابيل لَودَاء توأمة هابيل، وينكح هابيل أقليما أخت قابيل، وكانت أحسن الناس، فرضي هابيل وسخط قابيل، وقال: أختي أحسن، وهي من ولادة الجنة، وأنا أحق بها، فقال له أبوه: لا تحل لك، فأبى، فقال لهما آدم: قربا قربانا، فأيكما قُبل قربانه فهو أحق بها.
وكان قابيل صاحب زرع، فقرَّب حِملاً من زرع رديء، وأضمر في نفسه: لا أُبالي قُبل أو لا، لا يتزوج أختي أبدًا، وكان هابيل صاحب غنم، فقرّب أحسن كبش عنده، وأضمر في نفسه الرضا لله تعالى، وكانت العادة حينئٍذ
29
أن تنزل نارٌ من السماء فتأكل القربان المقبول، وإن لم يقبل لم تنزل، فنزلت نار من السماء فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، فحسذه، وقال له: لَأَقْتُلَنَّكَ، حسدًا على تقبل قربانه دونه، فقال له أخوه: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ الكفر، أي: إنما أُوتيت من قبل نفسك بترك التقوى، لا من قِبلي، فِلمَ تقتلني؟
قال البيضاوي: وفيه إشارة إلى أنَّ الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره، ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظًا، لا في إزالة حظه، فإن ذلك مما يضره ولا ينفعه، وأن الطاعة لا تقبل إلا من مؤمن متقي. هـ.
وفيه نظر: فإن تقوى المعاصي ليست شرطًا في قبول الأعمال بإجماع أهل السنة، إلا أن يُحمل على تقوى الرياء والعجب. انظر الحاشية.
ثم قال له أخوه هابيل: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ أي: لئن بدأتني بالقتل لم أبدأك به، أو لم أدفعك عني، وهل تركه للدفع تورع، وهو الظاهر، أو كان واجبًا عندهم، وهو قول مجاهد؟ وأما في شرعنا: فيجوز الدفع، بل يجب، قاله ابن جزي. وقال البيضاوي:
قيل: كان هابيل أقوى منه، فتحرج عن قتله، واستسلم له خوفًا من الله، لأن الدفع لم يُبح بعدُ، أو تحريًا لِمَا هو الأفضل. قال صلّى الله عليه وسلّم: «كُن عبدَ الله المقتُول، ولا تكُن عبدَ الله القاتل» «١». وإنما قال: (ما أنا بباسط) في جواب (لئن بسطت) للتبري من هذا الفعل الشنيع، والتحرز من أن يوصف به، ولذلك أكد النفي بالباء. هـ.
ثم قال له هابيل: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ أي: إني أريد بالاستسلام وعدم الدفع أن تنقلب إلى الله ملتبسًا بإثمي، أي: حاملاً لإثمي لو بسطت إليك يدي، وإثمك ببسطك يديك إلىّ، ونحوه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المُستَبَّان ما قَالاَ فَعَلى البادئ منهما مَا لَم يَعتَدِ المَظلُومُ» «٢». أو بإثم قتلى وبإثمك الذي لم يتقبل من أجله قربانك، أو بسائر ذنوبي فتحملها عني بسبب قتلك لي فإن الظالم يجعل عليه يوم القيامة ذنوب المظلوم ثم يطرح في النار، ولذلك قال: وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ، يحتمل أن يكون من كلام هابيل، أو استئناف من كلام الله تعالى، أي: جزاؤهم يوم القيامة أن يحملوا أوزار المظلومين، ثم يطرحون في النار، كما في حديث المفلس.
ولم يرد هابيل بقوله: إِنِّي أُرِيدُ، أنه يُحب معصية أخيه وشقاوته، بل قصد بذلك الكلام أنه إن كان القتل لا محالة واقعًا فأريد أن يكون لك لا لي، والمقصود بالذات: ألا يكون له، لا أن يكون لأخيه. ويجوز أن يكون المراد بالإثم عقوبته. وإرادة عقاب العاصي جائزة. قاله البيضاوي.
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ أي: سهلت له ووسِعته ولم تضق منه، أو طاوعته عليه وزينته له، فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ دينًا ودنيا، فبقي مدة عمره مطرودًا محزونًا. قال السدي: لما قصد قابيلُ قتل هابيل،
(١) أخرجه بنحوه أحمد فى المسند (٥/ ١١٠) من حديث خباب بن الأرت.
(٢) أخرجه مسلم فى (البر والصلة، باب النهى عن السباب) عن أبى هريرة رضي الله عنه، ومعنى الحديث: أن إثم السباب الواقع من اثنين مختص بالبادىء منهما كله، إلا أن يتجاوز الثاني قدر الانتصار فيقول للبادئ أكثر مما قاله له.
30
راغ هابيل في رؤوس الجبال، ثم أتاه يومًا من الأيام، فوجده نائمًا فشدخ رأسه بصخرة فمات، وقال ابن جريج: لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل؟ فتمثل له إبليس، وأخذ طيرًا فوضع رأسه على حجر، ثم شدخه بحجر آخر، وقابيل ينظر، فعلمه القتل، فوضع رأس أخيه على حجر وشدخه بحجر آخر. وكان لهابيل يوم قتل عشرون سنة، وقبره قيل: عند عقبة حراء، وقال ابن عباس: عند ثور، وقال جعفر الصادق: بالبصرة، في موضع المسجد الأعظم.
الإشارة: قد تضمنت هذه الآية من طريق الإشارة ثلاث خصال، يجب التحقق بها على كل مؤمن متوجه إلى الله تعالى: أولها: التطهير من رذيلة الحسد، الذي هو أول معصية ظهرت في السماء والأرض، وقد تقدّم الكلام عليه في النساء «١»، الثانية: التطهير من الشرك الجلي والخفي، والتغلغل في التبري من الذنوب التي تُوجب عدم قبول الإعمال، ويتحصل ذلك بتحقيق الإخلاص، والثالثة: عدم الانتصار للنفس والدفع عنها إلا فيما وجب شرعًا، فقد قالوا: (الصوفي دمه هدر، وماله مباح) فلا ينتصر لنفسه ولو بالدعاء، فإما أن يسكت، أو يدعو لظالمه بالرحمة والهداية، حتى يأخذ الله بيده اقتداء برسوله صلّى الله عليه وسلّم، حيث قال: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».
ولمّا قتل قابيل أخاه، لم يدر ما يفعل به لأنه أول من مات من بني آدم، فعلّمه الله كيفية دفنه، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ٣١]
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)
قلت: (ليريه) أي: يعلمه، وضمير الفاعل يعود على «الله» أو الغراب، و (كيف) : حال من الضمير في (يُواري) والجملة مفعول ثان ليرى، أي: ليعلمه الله، أو الغراب، كيفية مواراة أخيه، و (يا ويلتا) : كلمة جزع وتحسر، والألف فيها بدل من ياء المتكلم، كيا حسرتا ويا أسفا، و «أصبح» هنا بمعنى صار.
يقول الحق جلّ جلاله: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ أي: يحفر فيها، لِيُرِيَهُ أي: الله، أو الغراب، كَيْفَ يُوارِي أي: يستر سَوْأَةَ أَخِيهِ أي: جسده لأنه مما يستقبح أن يرى، وخصت بالذكر لأنها أحق بالستر من سائر الجسد، فعلَّم اللهُ قابيل كيف يصنع بأخيه لأنه لم يدرِ ما يصنع به، إذ هو أول ميت مات من بني آدم، فتحير في أمره، فبعث الله غرابين فاقتتلا، فقتل أحدُهما الآخر، فحفر له بمنقاره ورجليه، ثم ألقاه في الحفرة وغطاه بالتراب.
قال قابيل لما رأى ذلك: يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فأهتَدِي إلى ما اهتدى إليه، فحفر لأخيه ودفنه فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ على قتله لِما كابد فيه من التحير في أمره، وحَملِه على رقبته سنة أو أكثر، وتلمذة الغراب له، واسوداد لونه، وتبرّي أبويه منه، إذ رُوِي أنه لما قتله اسود وجهه،
(١) عند إشارة الآية ٥٤.
فسأله آدم عن أخيه، فقال: ما كنتُ عليه وكيلاً. فقال: بل قتلته فلذلك اسود جسدك، وتبرأ منه، ومكث بعد ذلك مائة سنة لم يضحك، وعدم الظفر بما فعله من أجله. قاله البيضاوي، فانظره مع ما سيأتي عن الثعلبي.
واختلف في كفره فقال ابن عطية: الظاهر أنه لم يكن قابيل كافرًا، وإنما كان مؤمنا عاصيا، ولو كان كافرا ما تحرج أخوه من قتله، إذ لا يتحرج من قتل كافر لأن المؤمن يأبى أن يقتل موحدًا، ويرضى بأن يُظلَمَ ليجازي في الآخرة. ونحو هذا فعل عثمان رضي الله عنه لما قصد أهل مصر قتله مع عبد الرحمن بن أبي بكر، لشُبهةٍ، وكانوا أربعة آلاف، فأراد أهل المدينة أن يدفعوا عنه، فأبى واستسلم لأمر الله. قال عياض: منعه من الدفع إعلام رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأن ذلك سَبَقَ به القدر. حيث بشره بالجنة على بلوى تصيبه، كما في البخاري «١»، ونقل عن بعض أهل التاريخ: أن شيتًا سار إلى أخيه قابيل، فقاتله بوصية أبيه له بذلك، متقلدًا بسيف أبيه. وهو أول من تقلد بالسيف، فأخذ أخاه أسيرًا وسلسله، ولم يزل كذلك حتى قبض كافرًا. هـ.
قلت: ولعل تحرّج أخيه من قتله لأنه حين قصد قتله لم يُظهِر كفره، وظهر بعد ذلك، فلذلك قاتله أخوه شيت بعد ذلك وأسره، وذكر الثعلبي: أن قابيل لما طرده أبوه، أخذ بيد أخته أقليمًا، فهرب بها إلى أرض اليمن، فأتاه إبليس فقال له: إنما أكلت النار قربان هابيل، لأنه كان يخدم النار ويعبدها، فانصب أنت أيضًا نارًا تكون لك ولعقبك، فبنى بيت نار، وهو أول من عبد النار. هـ. فهذا صريح في كفره. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا كان الحق جل جلاله يدل العصاة من عباده إذا تحيروا على ما يزيل حيرتهم، فكيف لا يدل الطائعين إذا تحيروا على ما يزيل شبهتهم، إذا فزعوا إليه والتجئوا إلى حماه؟! فكل من وقع في حيرة دينية أو دنيوية وفزع إلى الله تعالى، مضطرًا إليه، فلا شك أن الله تعالى يجعل له فرجًا ومخرجًا من أمره، إما بواسطة أو بلا واسطة. كن صادقا تجد مرشدا، فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر وبال مَن قتل نفسا بغير حق، كما فعل قابيل، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٢]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)
قلت: (من أجل ذلك) : يتعلق بكتبنا، فيوقف على ما قبله، وقيل: بالنادمين، فيوقف على (ذلك)، وهو ضعيف، قاله ابن جزي، وأصل (أجْل) : مصدر أجُل يأجل، كأخذ يأخذ، أجلاً، أي: جنا جناية، استعمل في تعليل الجنايات، ثم اتسع فيه، فاستعمل في كل تعليل.
(١) انظر صحيح البخاري (كتاب أصحاب النبي، باب مناقب عثمان بن عفان- رضى الله عنه-).
32
يقول الحق جلّ جلاله: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ القتل الذي صدر من قابيل لأخيه هابيل، وما نشأ عنه من التجرؤ على الدماء والمفاسد، حيث سَنَّه أولاً ولم يكن يعرفه أحد، فاقتدى به من بعده، كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ في التوراة الذي حكمه متصل بشريعتكم، أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أي: في غير قصاص، وبغير فساد في الأرض، كقطع الطريق والكفر، فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً من حيث إنه هتك حرمة الدماء، وسن القتل، وجرأ الناس عليه.
وفي البخاري عن ابن مسعود قال: قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تُقتَلُ نَفسٌ مسلمةٌ بغير حق إلاَّ كَانَ على ابنِ آدَمَ الأولِ كِفلٌ من دَمِها لأنَّهُ أوَّلُ من سَنَّ القَتل» «١». أو من حيث إن قتل الواحد والجميع سواء في استجلاب غضب الله والعذاب العظيم، أو يكون الناس خصماءه يوم القيامة لأن هتك حرمة البعض كالكل.
وَمَنْ أَحْياها أي: تسبب في حياتها بعفو أو منع من القتل، أو استبقاء من بعض أسباب الهلكة كإنقاذ الغريق والحريق وشبه ذلك، فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً أُعطِي من الأجر مثل ما لو أحيا الناس جميعًا، وفي البخاري: «من أحياها- أي مَن حَرَّمَ قتلَها إلا بحق حيى الناس منه جميعًا». قال ابن جزي: والقصد بالآية تعظيم قتل النفس والتشديد فيه، ليزدجر الناس عنه وكذلك الثواب في إحيائها كثواب إحياء الجميع لتعظيم الأمر والترغيب فيه. هـ. فما كتبه الله على بني إسرائيل هو أيضًا شرع لنا. قال أبو سعيد: (والذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ ما جعل دم بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا).
وإنما خصّهم بالذكر لأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل النفس في كتاب، وغلظ عليهم بسبب طغيانهم، ولتلوح مذمتهم. انظر ابن عطية. وعنه صلّى الله عليه وسلّم: «مَن سَقَى مؤمنًا شربَة ماء والماءُ موجودٌ، فكأنما أعتقَ سبعين رقبة، ومَن سقَى في غيرِ مَوطِنِه فكأنما أحيا الناس جميعا».
الإشارة: كل من صدَّ نفسًا عن إحياء قلبها وعوّقها عن من يعرفها بربها فكأنما قتلها، ومن قتل نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا لأن المؤمنين كلهم كالجسد الواحد، كما في الحديث، ومن أحياها بأن أنقذها من الغفلة إلى اليقظة، ومن الجهل إلى المعرفة، فكأنما أحيا الناس جميعًا لأن الأرواح جنس واحد، فإحياء البعض كإحياء الكل.
وبهذا يظهر شرف مقدار العارفين، الدالين على الله، الدعاة إلى معرفة الله، الذين أحيا الله بهم البلاد والعباد، وفي بعض الأثر إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسُ محمدٍ بيده لئن شئتُم لأُقسِمَنَّ لكم: إنَّ أحبَّ عبادِ اللهِ إلى الله الذين يحببون الله إلى عباده، ويحببون عباد الله إلى اللهِ، ويمشُون في الأرضِ بالنصيحة».
(١) أخرجه البخاري فى (كتاب الأنبياء، باب خلق آدم) ومسلم فى (القسامة، باب بيان إثم من سنّ القتل).
33
وهذه حالة شيوخ التربية: يحببون الله إلى عباده لأنهم يطهرون القلوب من دنس الغفلة حتى ينكشف لها جمال الحق فتحبه وتعشقه، ويذكرون لهم إحسانه تعالى وآلاءه فيحبونه، فإذا أحبوه أطاعوه فيحبهم الله ويقربهم، والله تعالى أعلم. وقال الورتجبي: فيه إشارة لطيفة من الحق سبحانه أن النية إذا وقعت من قبل النفس الأمارة في شيء، وباشرته، فكأنها باشرت جميع عصيان الله تعالى لأنها لو قدرت على جميعها لفعلت، لأنها أمارة بالسوء، ومن السوء خلقت، فالجزاء يتعلق بالنية. وكذلك إذا وقعت النية من قبل القلب الروحاني في خير، وباشره، فكأنه باشر جميع الخيرات لأنه لو قدر لفعل. قال صلّى الله عليه وسلّم: «نيةُ المؤمن أبلغُ مَن عَمله».
وفيه إشارة أخرى أن الله سبحانه خلق النفوس من قبضة واحدة مجتمعة، بعضها من بعض وصرّفها مختلفة، وتعلقت بعضها من بعض من جهة الاستعداد والخلقة. فمن قتل واحدًا منها أثرَّ قتلها في جميع النفوس عالمة بذلك أو جاهلة، ومن أحيا نفس مؤمن بذكر الله وتوحيده، ووصف جلاله وجماله، حتى تحب خالقها، وتحيا بمعرفته، وجمال مشاهدته، فأثِرِ حياتها وتزكيتها في جميع النفوس، فكأنما أحيا جميع النفوس. وفيه تهديد لأئمة الضلالة، وعز وشرف وثناء حسن لأئمة الهدى. انتهى كلامه.
وقوله في النفس الأمارة: (من السوء خلقت)، فيه نظر فإن النفس هي الروح عند المحققين، فما دامت الطينية غالبة عليها، وهي مائلة إلى الحظوظ والهوى، سميت نفسًا، فإن كانت منهمكة سميت أمارة، وإن خف عثارها، وغلب عليها الخوف، سميت لوامة، فإذا انكشف عنها الحجاب، وعرَفت ربها، واستراحت من تعب المجاهدة، سميت روحًا، وإن تطهرت من غبش الحس بالكلية سميت سرًا، وأصلها من حيث هي نور رباني وسر لاهوتي.
ولذلك قال تعالى فيها: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، «١» فالسوء عارض لها، لا ذاتي، فما خلقت إلا من نور القدس. والله تعالى أعلم.
ثم عاتب بني إسرائيل على سفك الدماء والإفساد في الأرض، بعد ما حرم ذلك عليهم في التوراة، فقال:
وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ أي: بني إسرائيل، رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ أي: بالمعجزات الواضحات، ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ بسفك الدماء وكثرة المعاصي.
قال البيضاوي: أي: بعد ما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم من أجل إتيان تلك الجناية، وأرسلنا إليهم الرسل بالآيات الواضحة تأكيدًا للأمر وتجديدًا للعهد، كي يتحاموا عنها، كثير منهم يسرفون في الأرض بالقتل ولا يبالون، وبهذا اتصلت القصة بما قبلها، والإسراف: التباعد عن حد الاعتدال فى الأمر. هـ.
(١) من الآية ٨٥ من سورة الإسراء.
34
الإشارة: قد قيض الله لهذه الأمة المحمدية من يقوم بأمر دينها، ظاهرا وباطنًا، وهم ورثته في الظاهر والباطن، وفي الخبر: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»، فلكل زمان رجال يقومون بالشريعة الظاهرة وهم العلماء، ورجال يقومون بالحقيقة الباطنة، وهم الأولياء، فمن قصر في الجهتين قامت عليه الحجة، ولله الحجة البالغة، فمن أسرف أو طغى أدبته الشريعة وأبعدته الحقيقة. وبالله التوفيق.
ثم ذكر وبال المسرفين من بنى إسرائيل وغيرهم، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)
قلت: سبب نزول الآية عند ابن عباس: قوم من اليهود كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم عهد، فنقضوا العهد وقطعوا السبيل. وهو مناسب لما قبله، وقال جماعة: نزلت في نفر من عُكل وعُرينَة، أظهروا الإسلام بالمدينة، ثم خرجوا وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلّم وأخذوا إبله، فبعث في إثرهم، فأُخذوا، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم «١»، فماتوا، ثم حُكمُها جارِ في كل محارب، والمحاربة عند مالك: هي حمل السلاح على الناس في بلد أو في خارج عنه، وقال أبو حنيفة: لا يكون المحارب إلا خارج البلد، و (فسادًا) : منصوب على العلة، أو المصدر، أو على حذف الجار.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ حيث حاربوا عباده. فهو تغليظ ومبالغة، وَيحاربون رَسُولَهُ كما فعل العُرَينيون أو غيرهم، وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً بالفساد كإخافة الناس، ونَهب أموالهم. قال ابن جزي: هو بيان للحرابة، وهي درجات فأدناها: إخافة الطريق، ثم أخذ الأموال، ثم قتل النفس.
فجزاؤهم أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا، فالصلب مضاف للقتل، فقيل: يقتل ثم يصلب، إرهابًا لغيره، وهو قول أشهب، وقيل: يصلب حيًا ويُقتل في الخشبة، وهو قول ابن القاسم، أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ،
(١) سمل أعينهم، أي: فقأها بحديدة محماة، أو غيرها.
فيقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، وإن عاد قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى، وقطع اليد من الرسغ، والرجل من المفصل كالسرقة، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ أي: ينفوا من بلد إلى بلد، ويسجنوا فيه حتى تظهر توبتهم. وقال أبو حنيفة: يسجن في البلد بعينه. ومذهب مالك: أن الإمام مخير في المحارب بين ما تقدم، إلا أنه قال: إن كان قتل فلا بد من قتله، وإن لم يقتل فالأحسن أن يؤخذ فيه بأيسر العقاب.
أولئك المحاربون لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا: ذل وفضيحة، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ لعظم ذنوبهم.
ظاهره أن العقوبة في الدنيا لا تكون كفارة للمحاربين بخلاف سائر الحدود. ويحتمل أن يكون الخزي في الدنيا لمن عوقب، وفي الآخرة لمن لم يعاقب، إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ بأن جاءوا تائبين فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فيسقط عنهم حكم الحرابة، واخُتلف: هل يطالب بما عليه من حقوق الناس كالدماء أم لا؟
فقال الشافعي: يسقط عنه بالتوبة حد الحرابة، ولا يسقط حقوق بني آدم، وقال مالك: يسقط عنه جميع ذلك، إلا أن يُوجد معه مال رجل بعينه، فَيُرَدَّ إلى صاحبه، أو يطلبه ولي دم بدم تقوم البينة فيه، فيقاد به، وأما الدماء والأموال التي لم يطالب بها، فلا يتبعه الإمام بشيء منها.
وتقييد التوبة بالتقدم على القدرة، يدل على أنها بعد القدرة لا تسقط الحد، وإن أسقطت العذاب، والآية في قُطَّاع المسلمين لأن توبة المشرك تدرأ عنه العقوبة قبل القدرة وبعدها. هـ. قاله البيضاوي. والله تعالى أعلم.
الإشارة: فرق كبير بين من يرجع إلى الله بملاطفة الإحسان، وبين من يقاد إليه بسلاسل الامتحان، هؤلاء المحاربون لم يرجعوا إلى الله حتى أُخذوا وقُتلوا وصُلبوا أو قطعت أيديهم وأرجلهم. وإن رجعوا إليه اختيارًا قبلهم، وتاب عليهم ورحمهم وتعطف عليهم، وكذلك العباد: من رجع إلى الله قبل هجوم منيته قَبِله وتاب عليه، وإن جد في الطاعة قرَّبه وأدناه، وإن تقدمت له جنايات، وقد خرج من اللصوص كثير من الخصوص، كالفضيل، وابن أدهم، وغيرهما، ممن لا يحصى، سبقت لهم العناية فلم تضرهم الجناية. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم حَضَّ على التقوى التي هي مجمع الخير والفوز من كل شر، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥)
يقول الحق جلّ جلاله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ، ولا تسلكوا سبيل بنى إسرائيل الذين جاءتهم الرسل، فعصوا وأفسدوا وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ أي: اطلبوا ما تتوسلون به إلى رضوانه، والقرب من جناب قدسه
من الطاعات، وترك المخالفات، وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ بمحاربة أعدائه الظاهرة والباطنة لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بالوصول إلى الله والفوز بكرامته.
الإشارة: لا وسيلة أقرب من صحبة العارفين، والجلوس بين أيديهم وخدمتهم، والتزام طاعتهم، فمن رام وسيلة توصله إلى الحضرة غير هذه فهو جاهل بعلم الطريق. قال أبو عمرو الزجّاجى رضي الله عنه: لو أن رجلاً كشف له عن الغيب، ولا يكون له استاذ لا يجيءُ منه شيء.
وقال إبراهيم بن شيبان رضي الله عنه: لو أن رجلاً جمع العلوم كلها، وصحب طوائف الناس، لا يبلغ مبلغ الرجال إلا بالرياضة من شيخ أو إمام أو مؤدب ناصح، ومن لا يأخذ أدبه من آمر له وناهٍ يريه عيوبَ أعماله ورُعونات نفسه، لا يجوز الاقتداء به في تصحيح المعاملات. هـ.
وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: كل من لا يكون له في هذا الطريق شيخ لا يفرح به. هـ. ولو كان وافر العقل منقاد النفس، واقتصر على ما يلقى إليه شيخ التعليم فقط، فلا يكمل كمال من تقيد بالشيخ المربي لأن النفس أبدًا كثيفة الحجاب عظيمة الإشراك، فلابد من بقاء شيء من الرعونات فيها، ولا يزول عنها ذلك، بالكلية، إلا بالانقياد للغير والدخول تحت الحكم والقهر، وكذلك لو كان سبقت إليه من الله عناية وأخذه الحق إليه، وجذبه إلى حضرته، لا يؤهل للمشيخة، ولو بلغ ما بلغ، والحاصل: أن الوسيلة العظمى، والفتح الكبير، إنما هو في التحكيم للشيخ لأن الخضوع لمن هو من جنسك تأنفه النفس، ولا تخضع له إلا النفس المطمئنة، التي سبقت لها من الله العناية. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر ضد أهل التقوى، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧)
قلت: (لو أن لهم) : الجار متعلق بالاستقرار، لأنه خبر «إن» مقدمًا، والضمير في (به) : يعود على ما ومثله، ووحده باعتبار ما ذكر كقوله: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ «١».
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا حين يشاهدون العذاب يتمنون الفداء، فلو أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من الأموال والعقار وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ
(١) من الآية ٦٨ من سورة البقرة.
ولا ينفعهم وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ لا خلاص لهم منه، وهذا كما ترى في الكفار، وأما عصاة المؤمنين فيخرجون منها بشفاعة نبيهم- عليه الصلاة والسلام- ولا حجة للمعتزلة في الآية، خلافًا لجهالة الزمخشري.
الإشارة: كل من مات تحت قهر الحجاب، ونكّبته المشيئة عن دخول الحضرة مع الأحباب، حصل له الندم يوم القيامة، فلو رام أن يفتدى منه بملء الأرض ذهبا ما تقبل منه، بل يبقى مقيمًا في غم الحجاب، معزولاً عن رؤية الأحباب، يتسلى عنهم بالحور والولدان، وتفوته نظرة الشهود والعيان في كل حين وأوان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم ذكر حكم السارق الذي تقدم ذكره فى قضية طعمة بن أبيرق لما تقدم أن هذه السورة مكملة لما قبلها، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠)
قلت: (السارق) : مبتدأ والخبر محذوف عند سيبويه، وهو الجار والمجرور، أي: مما يُتلى عليكم حكم السارق والسارقة، وقال المبرد: الخبر هو جملة: (فاقطعوا)، ودخلت الفاء لمعنى الشرط لأن الموصول- وهو «أل» - فيه معنى الشرط، ومثله: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا «١»، قلت: وهو أظهر، فإن قلت: ما الحكمة في تقديم المُذكر في هذه الآية، وفي أية الزنا قدم المؤنث، فقال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي؟ فالجواب: أن السرقة في الرجال أكثر، والزنى في النساء أكثر، فقدّم الأكثر وقوعًا. وقدّم العذاب هنا على المغفرة لأنه قابل بذلك تقدم السرقة على التوبة، أو لأنَّ المراد به القطع، وهو مقدم فى الدنيا، و (جزاء) و (نكالاً) : علة أو مصدر.
يقول الحق جلّ جلاله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما أي: أيمانهما من الرسغ، بشروط، منها: ألاَّ يكون مضطرًا بالجوع، على قول مالك، فيقدم السرقة على الميتة، إن عُلِم تصديقه. ومنها: ألاَّ يكون السارق أبًا أو عبدًا سرق مال ولده أو سيده. ومنها: أن يكون سرق من حرز، وأن يكون نِصَابًا، وهو ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، أو ما يساويهما عند مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا قطع في أقل من عشرة دراهم، وقال عثمان البَتى: يُقطع في درهم فما فوق. وفي السرقة أحكام مبسوطة في كتب الفقه.
(١) من الآية ٢ من سورة النور.
وعلة القطع: الزجر، ولذلك قال: جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. فإن قلت: ما الحكمة في قطعها في ربع دينار، مع أن دِيتَهَا أن قطعت، خمسمائة دينار؟ قلت: ذل الخيانة أسقطت حرمتها بعد عز الصيانة. فافهم حكمة الباري.
فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ أي: بعد سرقته، كقوله في سورة يوسف: كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ «١» أي: السارقين، وَأَصْلَحَ بأن ردّ ما سرق، وتخلص من التبعات ما استطاع، وعزم ألا يعود، فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فيتقبل توبته، فلا يعذبه في الآخرة، وأما القطع: فهل يسقط، وهو مذهب الشافعي لظاهر الآية، أو لا يسقط، وهو مذهب مالك، لأن الحدود لا تسقط عنده بالتوبة إلا عن المحارب؟.. قاله ابن جزي، تبعًا لابن عطية، وفيه نظر، فإن مشهور مذهب الشافعي موافق لمالك، ولعله تصحف عنده الشافعي بالشعبي، كما نقل الثعلبي عنه. والله أعلم.
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يتصرف فيهما كيف شاء، فالخطاب للرسول- عليه الصلاة السّلام- أو لكل أحد، يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ قال السدي: يُعذب من مات على كفره، ويغفر لمن تاب من كفره. وقال الكلبي: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ على الصغيرة إذا أقام عليها وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ على الكبيرة إذا نزع منها، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لا يعجزه شيء.
الإشارة: كما أمر الحق- جلّ جلاله- بقطع سارق الأموال، أمر بقطع سارق القلوب، وهو الشيطان، وجنوده الخواطر الردية فإن القلب بيت كنز السر- أي: سر الربوبية- لأن القلب بيت الرب، والبصيرة حارسة له، فإذا طرقه الشيطان بجنوده، فإن وجد البصيرة متيقظة دفعته وأحرقته بأنوار ذكرها، وأن وجدها نائمة فإن كان نومها خفيفًا اختلس منها وفطنت له، وإن كان نومها ثقيلاً بتراكم الغفلات، خرب البيت ولم تفطن له، فيسكن فيه بجنوده الخواطر وهي نائمة. فالواجب على الإنسان حفظ قلبه، قبل أن يسكنه الشيطان، فيصعب دفعه، وحفظه بدوام ذكر الله القلبي، فإن لم يستطع فبدوام اللسان، فإن لم يستطع فبالنية الصالحة. وربنا المستعان.
ثم تكلم على ما يتعلق باللسان، وهو الأمر الخامس مما تضمنته السورة، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ٤١]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١)
قلت: الباء في: (بأفواههم) - متعلقة بقالوا.
(١) من الآية ٧٥.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ صنع المنافقين، الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ أي: يقعون فيه سريعًا، فيظهرونه إن وجدوا فرصة، ثم بينهم بقوله: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا، قالوه بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ، فلا يهولنّك شأنهم ولا تحتفل بكيدهم، فإن الله سيكفيك أمرهم.
الإشارة: من شأن العارفين بالله تذكير عباد الله، ثم ينظرون إلى ما يفعل الله، فلا يحزنون على من لم تنفعه الموعظة، ولا يفرحون بسبب نجاح موعظتهم، إلا من حيث موافقة رضا ربهم، فهم في ذلك على قدم نبيهم، آخذين بوصية ربهم. والله تعالى أعلم.
ثم رجع إلى عتاب اليهود، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣)
قلت: (ومن الذين هادوا) : يُحتمل أن يكون عطفًا على (الذين قالوا) أي: لا يحزنك شأن المنافقين واليهود، و (سماعون) : خبر، أي: هم سماعون، ويحتمل أن يكون استئنافاً، فيكون (سماعون) : مبتدأ على حذف الموصوف، و (من) : خبر، أي: ومن الذين هادوا قوم سماعون، واللام في: (للكذب) : إما مزيدة للتأكيد، أو لتضمين السماع معنى القبول، وجملة (لم يأتوك) : صفة لقوم، وجملة (يحرّفون) : صفة أخرى له.
يقول الحق جلّ جلاله: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا صنف سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أي: كثيروا السماع للكذب والقبول له، وهم يهود بني قريظة، سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ وهم يهود خيبر، لَمْ يَأْتُوكَ أي: لم يحضروا مجلسك، تكبرًا وبغضًا، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي: يميلونه عن مواضعه الذي وضعه الله فيها، إما
40
لفظًا أو تأويلاً: يَقُولُونَ: أي: الذين لم يأتوا النبي صلى الله عليه وسلّم، وهم يهود خيبر: إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ أي: إن أوتيتم هذا المحرّف وأفتاكم محمد بما يوافقه فخذوه، وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ بأن أفتاكم بغيره فَاحْذَرُوا أن تقبلوا منه.
وسبب نزولها: أن شريفًا مِن يهود خَيْبَرَ زنى بِشريفة منهم، وكانا مُحصنَين، وكرهوا رجمهما، فأرسلوا مع رَهطِ منهم إلى بَني قريظة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقالوا لهم: إن أمَرَكُم بالجَلّد والتَّحمِيم «١» فَاقبلُوا، وإن أمَرَكُم بالرَّجم فاحذروا أن تقبلوه منه، فأتوا رسولَ الله ﷺ بالزَّانِيين، ومعَهما ابن صوريا، فاستفتوه صلّى الله عليه وسلّم، فقال لابن صوريا:
أنشُدكَ اللهَ الذي لاَ إله إِلاَّ هُو، الذِي فَلَق البَحرَ لمُوسى، ورفع فوقكم الطور، وأنجاكُم وأغْرَقَ آلَ فِرعَونَ، والذِي أنزل علَيكُم كِتَابه، وأحلَّ حَلاله وحرَّم حرامه، هل تجد فيه الرَّجمَ على من أحصن؟ فقال: نعم، فوثبوا عليه، فقال:
خِفتُ إن كَذبتَه أن ينزل علينا العذاب، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالزَّانِيين فرُجِمَا عندَ باب المسجد، وفي رواية: دعاهم إلى التوراة فأتوا بها، فوضع ابن صوريا يده على آية الرجم، وقرأ ما حولها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فإذا آية الرجم تلوح، فرجما. وفي القصة اضطراب كثير. ولعل القضية تعددت.
قال تعالى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ أي: ضلالته أو فضيحته، فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: تقدر على دفعها عنه، أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ من الكفر والشرك، لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أي:
هوان وذل بضرب الجزية والخوف من المؤمنين، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وهو الخلود في النيران.
هم سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ، كرر للتأكيد، وليرتب عليه قوله: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي: الحرام، كالرشا وغيرها، وسُمي سحتًا لأنه يسحت البركة ويستأصل المال، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «من جمع المال من نهاوش أذهبه الله في نهابر» «٢».
ثم خيَّر نبيه- عليه الصلاة والسّلام- في الحكم بينهم، فقال: فَإِنْ جاؤُكَ متحاكمين إليك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ، وقيل: نسخ بقوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ «٣». والجمهور: أن ما كان من باب التظالم والتعدي فإن الحاكم يتعرض بهم ويبحث عنه، وأما النوازل التي لا ظلم فيها، وإنما هي دعاوي، فإن رضوا بحكمنا فالإمام مُخير، وإن لم يرضوا فلا نتعرض لهم، انظر ابن عطية، وقال البيضاوي: ولو تحاكم كتابيان إلى القاضي لم يجب عليه الحكم، وهو قول الشافعي، والأصح: وجوبه إذا كان المترافعان أو أحدهما ذميًا، لأنا التزمنا الذب عنهم، ومذهب أبي حنيفة: يجب مطلقًا. هـ.
وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً لأن الله عصمك من الناس، وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي: العدل الذي أمر الله به إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، فيحفظهم ويعظم شأنهم.
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وهم لا يؤمنون بك، وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ أي: والحال أن الحكم منصوص عليه في الكتاب الذي هو عندهم ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، أو ثم يتولون عن حكمك
(١) التحميم: تسويد الوجه بالفحم.
(٢) النهاوش: المظالم. والنهابر: المهالك والأمور المتبددة.
(٣) من الآية ٤٩ من السورة [.....]
41
الموافق لكتابهم من بعد التحكيم، وفيه تنبيه على أنهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع، وإنما قصدوا به ما يكون عونًا لهم على هواهم، وإن لم يكن حكم الله في زعمهم، وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ بكتابهم ولا بكتابك لإعراضهم عنه أولاً، وعنك ثانيًا، بل أولئك هم الفاسقون التابعون لأهوائهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل من تعرض للشيخوخة وادعى مقام التربية، وهو يأمر أصحابه باتباع رخص الشريعة، والبقاء مع العوائد، ويقول لهم: (إن أوتيتم هذا فخذوه) ويزعم أنه سنة، وإن لم تؤتوه، ولقيتم من يأمركم بقتل النفوس، وحط الرؤوس ودفع الفلوس، وخرق العوائد فاحذروه. فمن كان حاله هذا، فالآية تجر ذيلها عليه، لأنه تعرض لفتنة نفسه بحب الجاه وغرور أولاد الناس، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ من الهوى، ولا بصيرتهم من شهود السِّوى لأن تطهير القلوب مشروط بقتل النفوس، وقتل النفوس إنما يكون باتباع ما يثقل عليها من خرق عوائدها، كالذل والفقر وغير ذلك من الأعمال الشاقة عليها، ومن لم يطهر قلبه من الهوى يعش في الدنيا في ذل الحجاب مسجونا بمحيط انه، محصورًا في هيكل ذاته، وله في الآخرة أشد العتاب، حيث تعرض لمقام الرجال وهو عنه بمعزل، ويقال لمن تبعه في اتباع الرخص:
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ قال الشيخ أبو العباس المرسى رضى الله عنه: من كان من فقراء الزمان يسمع الغناء، ويأكل أموال الظلمة، ففيه نزعة يهودية، قال تعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ. هـ فإن جاءوك أيها العارف، يستخبرونك، ويخاصمونك في الأمر بخرق العوائد، ويزعمون أنهم موافقون للسنة، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، وهو الأخذ بكل ما يقتل النفوس، ويجهز عليها، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وكيف يحكمونك أو يخاصمونك، وعندهم القرآن فيه حكم الله بذلك، قال تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا «١»، ولا يكون جهاد النفس إلا بمخالفتها، وقتلها بترك حظوظها وهواها. والله تعالى أعلم.
ثم قرر صحة كتابه التوراة، ووبال من أعرض عنه من اليهود، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٤]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤)
(١) من الآية ٦٩ من سورة العنكبوت.
42
قلت: (للذين هادوا) : متعلق بيحكم، أو بأنزلنا، أو بهدى ونور، و (الربانيون) : عطف على (النبيون)، وهم العباد والزهاد منهم، والأحبار: علماؤهم، جمع حبر- بكسر الحاء وفتحها، وهو أشهر استعمالاً للفرق بينه وبين المداد، و (بما استحفظوا) : سببية متعلق بيحكم، أو بدل من (بها) والعائد إلى «ما» محذوف، أي: استحفظوه.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً أي: ما يهدي إلى إصلاح الظواهر من النواهي والأوامر، ونُورٌ تستنير به السرائر، وتشرق به القلوب والضمائر، من الاعتقادات الصحيحة والعقائد الراجحة، والعلوم الدينية والأسرار الربانية. يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الذين أتوا بعد موسى- عليه السلام- إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهم الَّذِينَ أَسْلَمُوا إي: انقادوا بكليتهم إلى ربهم، ولم تبق بقية لغير محبوبهم، وفيه تنويه بشأن الإسلام وأهله، وتعريض باليهود فإنهم بمعزل عن دين الأنبياء واقتفاء هديهم، حيث لم يتصفوا به، يحكم بها لِلَّذِينَ هادُوا وعليهم، وهم اليهود، وَيحكم بها أيضًا الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ أي: زهادهم وعلماؤهم السالكون طريقة أنبيائهم، بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ أي: بسبب أمر الله تعالى لهم أن يحفظوا كتابه من التضييع والتحريف. وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ أي: رقباء، فلا يتركون من يُغيرها أو يحرفها، ولما طال العهد عليهم حرفوا وغيروا، بخلاف كتابنا، حيث تولى حفظه الحق ربنا، فلا يزال محفوظًا لفظًا ومعنى إلى قيام الساعة، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «١». فللَّه الحمد.
ثم خاطب الحكام، فقال: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ أي: فلا تداهنوا في حكوماتكم خشية ظالم أو مراقبة كبير، فكل كبير في جانب الحق صغير، وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا أي: لا تستبدلوا بالحكم بالحق ثمنًا قليلاً كالرشوة والجاه، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مستهينًا به ومنكرًا له فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ لاستهانتهم به.
قال ابن عباس: نزلت الثلاثة في اليهود، الكافرون والظالمون والفاسقون، وقد رُوِي في هذا أحاديثُ عن النبي صلى الله عليه وسلّم وقالت جماعة: هي عامة، فكل من لم يحكم بما أنزل الله من اليهود والمسلمين وغيرهم، إلا أن الكفر في حق المسلمين كفر معصية، وقال الشافعي: الكافرون في المسلمين، والظالمون في اليهود، والفاسقون في النصارى، وهو أنسب لسياق الكلام، والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد وصف الله تعالى القرآن بأعظم مما وصف به التوراة. قال تعالى: قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً «٢» فجعل التوراة ظرفًا للهداية والنور، وجعل القرآن نفس النور والهداية. وربانيو هذه الأمة: أولياؤها العارفون بالله، الذين يربون الناس ويرشدونهم إلى معرفة الشهود والعيان، وأحبارها: علماؤها.
(١) الآية ٩ من سورة الحجر.
(٢) الآية ١٧٤ من سورة النساء.
43
وقال الورتجبي: الرباني الذي نسب إلى الرب بالمعرفة والمحبة والتوحيد، فإذا وصل إلى الحق بهذه المراتب، واستقام في شهود جلاله وجماله، صار متصفًا بصفات الله- جل جلاله-، حاملاً أنوار ذاته، فإذا فنى عن نفسه وبقي بربه، صار ربانيًا، مثل الحديد في النار، إذا لم يكن في النار كان مستعدًا لقبول النار، فإذا وصل إلى النار واحمر، صار ناريًّا، هكذا شأن العارف، فإذا كان منورًا بتجلي الرب، صار ربانيًا نورانيًّا ملكوتيًّا جبروتيًّا، كلامه من الرب إلى الرب مع الرب، ثم قال: العارف مخاطب من الله فى جميع أنفاسه، وحركاته، ينزل على قلبه من الله وحي الإلهام، وربما يخاطبه بنفسه، ويكلمه بكلامه، ويحدثه بحديثه، لقوله- عليه الصلاة السّلام-: «إنَّ في أُمَتي محدَثين أو مُكَلَّمين وإِنَّ عُمَرِ منهم» «١». هـ.
ثم بيَّن الحق تعالى ما كتب على بني إسرائيل في التوراة، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٥]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)
قلت: من نصب الجميع: فعطف على النفس، وقصاص: خبر إن، ومن رفع العين: فيحتمل أن يكون مستأنفًا مرفوعًا بالابتداء، و «قصاص» : خبر، من عطف الجمل، أو يكون عطفًا على موضع النفس لأن المعنى: قلنا لهم:
النفس بالنفس، أو على الضمير المستكن في الخبر، ومن رفع الجروح فقط، فعلى ما تقدم في العين.
يقول الحق جلّ جلاله: وَكَتَبْنا على بني إسرائيل، أي: فرضنا وألزمنا عليهم في التوراة أَنَّ النَّفْسَ تقتل بالنفس في القتل العمد إن كان المقتول مسلمًا حرًا، فلا يقتل مسلم بكافر إلا إن قتله غيلة، ولا حر بعبد، للحديث، وَالْعَيْنَ تُفقأ بِالْعَيْنِ، وَالْأَنْفَ تُجدع بِالْأَنْفِ، وَالْأُذُنَ تُصلم بِالْأُذُنِ، وَالسِّنَّ تُقلع بِالسِّنِّ، وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ يقتص من الجارح بمثل ما فَعل، إلا ما يخاف منه كالمأمومة «٢»، والجائفة، وكسر الفخذ، فيعطي الدية، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ أي: بالدم، بأن عَفى عن الجارح أو القاتل فلم يقتص، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ أي للمقتول، يغفر الله ذنوبه ويعظم أجره، أو كفارة للقاتل أو الجارح، يعفو الله بذلك عن القاتل لأن صاحب الحق قد عفا عنه، أو كفارة للعافي لأنه مسامح في حقه، أو من تصدق بنفسه ومكنها من القصاص فهو كفارة له، اقتص منه أو عُفي عنه.
(١) أخرجه البخاري فى (أحاديث الأنبياء، باب ٥٤) ومسلم فى (فضائل الصحابة، باب فضائل عمر رضى الله عنه) عن أبى هريرة، بلفظ:
«إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون وإنه إن كان فى أمتى هذه، فإنه عمر بن الخطاب»
(٢) المأمومة: هى الشجة التي تبلغ أم الرأس، وهى الجلدة التي تجمع الدماغ.
وفيه دليل على أنَّ الحدود مكفرة لا زواجر، وزعم ابن العربي: أن المقتول يُطالب يوم القيامة، ولو قتل في الدنيا قصاصًا لأنه لم يتحصل للمقتول من قتل قاتله شيء، وأن القصاص إنما هو ردع، وأجيب بمنع أنه لم يتحصل له شيء، بل حصلت له الشهادة وتكفير لذنوبة، كما في الحديث: «السيف محاء للخطايا» «١». ولو كان القصاص للردع خاصة لم يشرع العفو، قاله ابن حجر، وفي حديث البخاري: «من أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا، فهو كفارة له، وإن ستره الله فهو في المشيئة».
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ من القصاص وغيره فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ المتجاوزون حدود الله، وما كتب الله على بني إسرائيل هو أيضًا مكتوب علينا، لأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ، ولا ناسخ هنا، بل قررته السنة والإجماع. والله تعالى أعلم.
الإشارة: القصاص مشروع وهو من حقوق النفس لأنها تطلبه تشفيًا وغيظًا، والعفو مطلوب ومرغب فيه، وهو من حقوق الله، هو طالبه منك، وأين ما تطلبه لنفسك مما هو طالبه منك؟ ومن شأن الصوفية الأخذ بالعزائم، واتباع أحسن المذاهب، قال تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ «٢»، ومن شأنهم أيضًا: الغيبة عن حظوظ النفس، ولذلك قالوا: (الصوفي دمه هدر، وماله مباح)، وقالوا أيضا: (الصوفي كالأرض، يطرح عليها كل قبيح، وهي تُنبت كلَّ مليح)، - ومن أوكد الأمور عندهم عدم الانتصار لأنفسهم. وبالله التوفيق.
ولما فرغ من الكلام مع اليهود شرع يتكلم مع النصارى، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧)
قلت: (قفينا) : اتبعنا، مشتق من القفا كأن مجيء عيسى كان في قفا مجيء النبيين وخلفهم، وحذف المفعول الأول، أي: أتبعناهم، وبِعِيسَى مفعول ثان، وجملة: (فيه هدى ونور) : حال من «الإنجيل»، و (مصدقًا) : عطف عليه.
يقول الحق جلّ جلاله: وأتبعنا النبيين المتقدمين وجئنا على إثرهم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي: ما تقدم أمامه مِنَ التَّوْراةِ وتصديقه للتوراة إما لكونه مذكورًا فيها ثم ظهر، أو بموافقة ما جاء به من التوحيد والأحكامِ لما فيها، أو لكونه صدَّق بها وعمل بما فيها.
(١) جزء من حديث أخرجه أحمد فى المسند ٤/ ١٨٥. من حديث عتبة بن عبد السلمى.
(٢) من الآية: ١٨ من سورة الزمر.
وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ فالهدى لإصلاح الظواهر بالشرائع، والنور لإصلاح الضمائر بالعقائد الصحيحة والحقائق الربانية، وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ بتقرير أحكامها، والشهادة على صحتها، وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أي: وإرشادًا وتذكيرًا للمتقين لأنهم هم الذين ينفع فيهم الموعظة والتذكير، دون المنهمكين في الغفلة، قد طبع اللهُ على قلوبهم فهم لا يسمعون.
ثم أمر الله أهل الإنجيل بالحكم بما فيه، فقال: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ من الأحكام، وقرأ حمزة: (وليحكم) بلام الجر أي: وآتيناه الإنجيل ليحكم أهل الإنجيل بما فيه، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن طاعة الحق. قال البيضاوي: والآية تدل على أن الإنجيل مشتملة على الأحكام، وأن اليهودية منسوخة ببعث عيسى عليه السلام، وأنه كان مستقلاً بالشرع. وحمَلها على: وليحكموا بما أنزل الله، فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة خلاف الظاهر. هـ.
الإشارة: قد جمع الله في هذه الأمة المحمدية ما افترق في غيرها في الأزمنة المتقدمة، فعلماؤها وأولياؤها كالأنبياء والرّسل، كلما مات عالم أو ولي قفاه الله بآخر، أما العلماء فأمرهم متفق وحالهم متقارب، فمدار أمرهم على تحصيل العلوم الرسمية والأعمال الظاهرية، وأما الأولياء- رضى الله عنهم-، فأحوالهم مختلفة، فمنهم من يكون على قدم نوح عليه السلام في القوة والشدة، ومنهم من يكون على قدم إبراهيم عليه السلام في الحنانة والشفقة. ومنهم من يكون على قدم موسى عليه السلام في القوة أيضًا، ومنهم من يكون على قدم عيسى عليه السلام في الزهد والانقطاع إلى الله تعالى، ومنهم من يكون على قدم نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو أعظمهم لجمعه ما افترق في غيره، وكل واحد يؤتيه الله نورًا في الباطن يجذب به القلوب إلى الحضرة، وهدى في الظاهر يصلح به الظواهر في الشريعة. والله تعالى أعلم.
ثم شرع يتكلم مع الأمة الإسلامية المحمدية، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٨]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨)
قلت: (مهيمنًا) أي: شاهدًا، والشرعة والمنهاج: قال ابن عطية: معناهما واحد، وقال ابن عباس: أي: سبيلاً وسنة. قلت: والظاهر: أن الشرعة يراد بها الأحكام الظاهرة، وهي التي تًصلح الظواهر، والمنهاج يراد به علوم الطريقة الباطنية، وهي التي تصلح الضمائر، وهو مضمن علم التصوف.
46
يقول الحق جلّ جلاله: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا محمد الْكِتابَ أي: القرآن ملتبسًا بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من جنس الكتاب، أي: مصدقًا لما تقدمه من الكتب، بموافقته لهم في الأخبار والتوحيد، وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ أي: شاهدًا عليه بالصحة، أو راقبًا عليه من التغيير في المعنى، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ إليك وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ منحرفًا عما جاءك من الحق إلى ما يشتهونه، لكل نبي جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً ظاهرة يصلح بها الظواهر، وَمِنْهاجاً أي: طريقًا واضحًا يسلك منها إلى معرفة الحق، وهو ما يتعلق بإصلاح السرائر، واستُدل به على أنا غير متعبدين بالشرائع المتقدمة.
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي: جماعة واحدة متفقة على دين واحد، وَلكِنْ عدد الشرائع وخالف بينها لِيَبْلُوَكُمْ أي: يختبركم فيما آتاكم من الشرائع المختلفة، أيكم ينقاد ويخضع للحق أينما ظهر، فإن اختلاف الأحوال وتنقلات الأطوار فيه يظهر الإقرار والإنكار، فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أي: بادروا إلى الانقياد إلى الطاعات واتباع الحق والخضوع لمن جاء به أينما ظهر، انتهازًا للفرصة، وحيَازة لفضل السبق والتقدم، إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فيظهر السابقون من المقصرين، فَيُنَبِّئُكُمْ أي: يخبركم بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمر الدين بالجزاء الفاصل بين المحق والمبطل، والمبادر والمقصر، واختلاف الشرائع إنما هي باعتبار الفروع، وأما الأصول كالتوحيد والإيمان بالرّسل، والبعث، وغير ذلك من القواعد الأصولية، فهى متفقة قال- عليه الصلاة السّلام-: «نحنُ أبناء علات، أمهاتُنا شَتَّى وأبونا واحد» «١». يعني التوحيد. والله تعالى أعلم.
الإشارة: اعلم أن نبينا- عليه الصلاة والسّلام- جمع الله له ما افترق في غيره، فذاته الشريفة جمعت المحاسن كلها ظاهرة وباطنة، وكتابُه جمع ما في الكتب كلها فهو شاهد عليها، وشريعته جمعت الشرائع كلها، ولذلك كان الولي المحمدي هو أعظم الأولياء.
واعلم أن الحق- جلّ جلاله- جعل لكل عصر تربية مخصوصة بحسب ما يناسب ذلك العصر، كما جعل لكل أمة شرعة ومنهاجًا بحسب الحكمة، فمن سلك بالمريدين تربية واحدة، وأراد أن يسيرهم على تربية المتقدمين، فهو جاهل بسلوك الطريق، فلو كان السلوك على نمط واحد ما جدد الله الرسل بتجديد الأزمنة والأعصار، فكل نبي وولي يبعثه الله تعالى بخرق عوائد زمانه، وهي مختلفة جدَا، فتارة يغلب على الناس التحاسد والتباغض، فيبعث بإصلاح ذات البين والتآلف والتودد وتارة يغلب حب الرياسة والجاه فيربى بالخمول وإسقاط المنزلة، وتارة يغلب حب الدنيا وجمعها فيربى بالزهد فيها والتجريد والانقطاع إلى الله.
وهكذا فليقس مالم يقل. والله تعالى أعلم.
(١) أخرجه بنحوه البخاري فى (أحاديث الأنبياء، باب «واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ..» ) ومسلم فى (الفضائل، باب فضائل عيسى عليه السلام) عن أبي هريرة.
47
ولما قصدت اليهود أن يفتنوا النبي صلى الله عليه وسلّم بأن يحكم لهم بما يشتهون، أنزل الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)
قلت: (وأن احكم) : عطف على الكتاب، أي: وأنزلنا إليك الكتاب والحكم بينهم بما أنزل الله، أو على الحق، أي: أنزلناه بالحق وبالحكم بما أنزل الله، و (أن يفتنوك) : بدل اشتمال من الضمير، أي: احذر فتنتهم، واللام في قوله: (لقوم) : للبيان، أي: هذا الاستفهام لقوم يوقنون، فإنهم هم الذين يعلمون ألاَّ أحسن حكمًا من الله.
يقول الحق جلّ جلاله لرسوله- عليه الصلاة والسّلام-: وَأمرناك أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ أي: بين اليهود بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، قيل هو ناسخ للتخيير المتقدم، وقيل: لا، والمعنى أنت مخير، فإن أردت أن تحكم بينهم فاحكم بما أنزل الله وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ الباطلة، التي أرادوا أن يفتنوك بها، وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ، فيصرفوك عن الحكم به.
رُوِي أن أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فقالوا: يا محمد، قد عرفت أنَّا أحبار اليهود، وأنّا إن اتبعناك اتبعتك اليهود كلهم، وإن بيننا وبين قومنا خصومة، فنتحاكم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وردَّهم، فنزلت الآية «١».
قال تعالى لنبيه- عليه الصلاة السّلام-: فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإيمان، بل وأعرضوا عن اتباعك، فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ في الدنيا، ويدخر جُلَّها للآخرة، وقد أنجز الله وعده، فأجلى بني النضير، وقتل بني قريظة، وسبا نساءهم وذراريهم، وباعهم في الأسواق، وفتح خيبر، وضرب عليه الجزية، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ خارجون عن طاعة الله ورسوله، أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ أي: يطلبون منك حكم الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي: لا أحد أحسن حكمًا من الله تعالى عند أهل الإيقان لأنهم هم الذين يتدبرون الأمر، ويتحققون الأشياء بأنظارهم، فيعلمون ألاَّ أحسن حكمًا من الله عزّ وجل.
الإشارة: إذا كثرت عليك الخصوم الوهمية أو الواردات القلبية، والتبس عليك أمرهم، ولم تدر أيهما تتبع؟
فاحكم بينهم بالكتاب والسنة، فمن وافق كتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاتبعه، فإن من أمَّر الكتاب والسُّنة على نفسه نطق بالحكمة، وإن وافق أكثرُ من واحد الكتاب أو السنة، فانظر أثقلهم على النفس، فإنه لا يَثْقُل عليها إلا ما هو
(١) أخرجه ابن جرير فى تفسير الآية، والبيهقي فى دلائل النبوة (باب ما جاء فى دخول عبد الله بن سلام على رسول الله صلى الله عليه وسلّم) عن ابن عباس.
حق، ولا تتبع أهواء النفوس والخواطر، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل على قلبك من العلوم والأسرار، فإن متابعة الهوى يُعمي القلب عن مطالعة الأسرار، إلا إن وافق السُّنة.
قيل لعمرَ بن عبد العزيز: ما الدّ الأشياءِ عندك؟ قال: حق وافق هواي. وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلّم «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يكُون هواه تابعاً لما جئتُ به»، وفي الحِكَم: «يخاف عليك أن تلتبس الطرقُ عليك، إنما يُخاف عليك من غلبة الهوى عليك».
فمن تولى عن هذا المنهاج الواضح، وجعل يتبع الهوى ويسلك طريق الرخص، فليعلم أن الله أراد أن يعاقبه ببعض سوء أدبه، حتى يخرج عن منهاج السالكين، والعياذ بالله، أو يؤدبه في الدنيا إن كان متوجهًا إليه.
ثم حذّر من صحبة أهل الأهواء، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣)
قلت: (يقول الذين آمنوا) قرىء بغير واو استئنافًا، وكأنه جواب عن سؤال، أي: ماذا يقول المؤمنون حينئٍذ؟
فقال: يقول... الخ، وقرىء بالواو والرفع عطف جملة على جملة، وقرىء بالواو والنصب عطف على (فيصبحوا) أو (يأتي).
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ تنتصرون بهم، أو تعاشرونهم معاشرة الأحباب، أو تتوددون إليهم، وأما معاملتهم من غير مودة فلا بأس، ثم علل النهي عن موالاتهم فقال: هم بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي: لأنهم متفقون على خلافكم، يوالي بعضهم بعضا لاتحادهم في الدين، وإجماعهم على مضادتكم، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أي: من والاهم منكم فإنه من جملتهم.
قال البيضاوي: وهذا تشديد في وجوب مجانبتهم، كما قال صلّى الله عليه وسلّم «المؤمنُ والمشركُ لا تَتَراءى نَارهَمَا» «١» أو لأن الموالين لهم كانوا منافقين. هـ.
(١) أخرجه أبو داود فى (الجهاد، باب النهى عن قتل من اعتصم بالسجود) والترمذي فى (السير، باب كراهة المقام بين أظهر المشركين) من حديث جرير: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعث سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس بالسجود.. الحديث، وفيه: وقال: أنا برىء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا: ولم؟ «لا تترأى نارهما».
ومعناه: لا ينبغى لمسلم أن يساكن الكفار حتى إذا أوقدوا نارا كان منهم بحيث يراها. أنظر معالم السنن للخطابى على هامش سنن أبى داود ٣/ ١٠٥.
49
وقال ابن عطية: من تولهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر واستحقاق النقمة والخلود في النار، ومن تولاهم بأفعاله من العَضد ونحوه، دون معتقد ولا إخلال بإيمان، فهو منهم في المقت والمذمة الواقعة عليهم وعليه. هـ.
وسُئل ابن سيرين عن رجل أراد بيع داره للنصارى يتخذونها كنيسة، فتلا هذه الآية: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ. هـ. وفي أبي الحسن الصغير: أن بيع غير السلاح للعدو الكافر فسق، وبيع السلاح له كفر.
قلت: ولعله إذا قصد تقويتهم على حرب المسلمين، وأما الفداء بالسلاح إذا لم يقبلوا غيره، فيجوز في القليل دون الكثير. وأجازه سحنون مطلقاً، إذا لم يرج فداؤه بالمال. انظر الحاشية.
إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي: ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار.
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وهم المنافقون، يُسارِعُونَ فِيهِمْ أي: في موالاتهم ومناصرتهم، يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ أي: يعتذرون بأنهم يخافون أن تصيبهم دائرة من الدوائر، بأن ينقلب الأمر وتكون الدولة للكفار. رُوِي أن عبادة بن الصامت قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن لي موالي من اليهود، كثير عددهم، وإني أبرأُ إلى الله ورسوله من ولايتهم، فقال ابن أبي: إني امرؤ أخاف الدوائر، لا أبرأ من ولاية موالي، فنزلت الآية، قال تعالى ردًا عليه: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ لرسول الله صلى الله عليه وسلّم على أعدائه وإظهار المسلمين ونصرهم، أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ، يقطع شأفة اليهود، من القتل والإجلاء، فَيُصْبِحُوا أي: هؤلاء المنافقون، عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ من الكفر والنفاق، ومن مظاهرة اليهود نادِمِينَ.
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا حينئٍذ- أي: حين فتح الله على رسوله وفضح سريرة المنافقين-: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ، يقولهُ المؤمنون بعضهم لبعض، تعجبًا من حال المنافقين وتبجحًا بما منَّ الله عليهم من الإخلاص، أو يقولونه لليهود لأن المنافقين حلفوا لهم بالمناصرة، كما حكى تعالى عنهم وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ «١» قاله البيضاوي. وقوله: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ. يحتمل أن يكون من كلام المؤمنين، أو من قول الله تعالى، شهادة عليهم بحبوط أعمالهم، وفيه معنى التعجب، كأنه قال: ما أحبط أعمالهم وما أخسرهم! والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد تقدّم مراراً النهيُ عن موالاة الغافلين، وخصوصًا الفجار منهم، ويلتحق بهم القراء المداهنون وهم فسقة الطلبة الذين هم على سبيل الشيطان، والفقراء الجاهلون وهم من لا شيخ لهم يصلح للتربية، والعلماء المتجمدون، فصحبة هؤلاء تقدح في صفاء البصيرة، وتخمد نور السريرة، وكل من تراه من الفقراء يميل إلى هؤلاء خشية الدوائر، ففيه نزعة من المنافقين. والله تعالى أعلم.
(١) من الآية ١١ من سورة الحشر.
50
ثم تكلم على بقية حفظ الإيمان، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٤ الى ٥٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦)
قلت: (من) : شرطية، و (يرتدد) «١» : فعل الشرط، فمن قرأه بالتفكيك فعلى الأصل، ومن قرأه بالإدغام ففتحه تخفيفًا. وجملة (فسوف يأتي) : جواب، والعائد من الجملة محذوف، أي: فسوف يأتي الله بقوم مكانهم.. الخ.
و (أذلة) : نعت ثان لقوم، جمع ذليل، وأتى به مع علي لتضمنه معنى العطف والحنو، و (لا يخافون) : عطف على يجاهدون، وجملة: (وهم راكعون) : حال، إن نزلت في علىّ رضى الله عنه، أو عطف إن كانت عامة.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ويرجع عنه بعد الدخول فيه، فسيأتي الله بقوم مكانهم يُحِبُّهُمْ فيثبتهم على دينهم، وَيُحِبُّونَهُ فيجاهدون من رجع عن دينه، وهم أهل اليمن، والأظهر أنهم أبو بكر الصدّيق وأصحابه، الذين قاتلوا أهل الردة، ويدل على ذلك الأوصاف التي وصفهم الله بها من الجد في قتالهم، والعزم عليه، التي كانت من أوصاف الصدّيق، وكذلك قوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ فقد كان أبو بكر ضعيفًا في نفسه، قويًا في ذات الله، لم يخف في الله لومة لأئم، حين لامه بعض الصحابة في قتالهم.
وفي الآية إخبار بالغيب قبل وقوعه، فقد ارتد من العرب في أواخر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثلاث فرق: بنو مدلج، وكان رئيسهم الأسود العنسي، تنبأ باليمن، واستولى على بلادهم، ثم قتله فيروز الديلمي، ليلة قٌبض رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم من غدها، وأخبر بموته الرسول- عليه الصلاة والسّلام- فسُر المسلمون. وبنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب، تنبأ باليمامة، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من مسيلمةَ رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد: فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك، فأجابه صلّى الله عليه وسلّم: «من مُحمَّدٍ رَسُول اللهِ إلى مسيلمةَ الكَذَّابِ، أمَّا بَعدُ: فَإنَّ الأرض للهِ يورثها من يشاء من عِبَادِهِ والعَاقِبَة للمتّقِين»، فحاربه أبو بكر بجند المسلمين، وقتله وحشي قاتلُ حمزة، وبنو أسد قوم طليحة، تنبأ فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد فقاتله، فهرب إلى الشام، ثم أسلم وحسن إسلامه.
(١) قرأ نافع وابن عامر (يرتدد) بدالين، وقرأ الباقون (يرتد) بدال واحدة.
51
وفي عهد أبي بكر، بنو فزارة قومِ عُيينة بن حصن، وغطفان قوم قرة بن مسلمة، وبنو سليم، وبنو يربوع قوم مالك بن نَويرة، وبعض تميم، قوم سَجَاح المتنبئة زوجة مسيلمة، وكندة قوم الإشعث بن قيس، وبنو بكر بن وائل بالبحرين، فكفى الله أمرهم على يديه. وفي مدة عمر رضى الله عنه غسان، قوم جبلة بن الأيهم، الذي ارتد من اللطمة.
فهؤلاء جملة مَن ارتد من العرب. فأتى الله بقوم أحبهم وأحبوه، فجاهدوهم حتى ردوهم إلى دينهم. ومحبة الله للعبد: توفيقه وعصمته وتقريبه من حضرته. ومحبة العبد لله: طاعته والتحرز من معصيته، وسيأتي في الإشارة الكلام عليها.
ثم وصفهم بقوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي: عاطفين عليهم خافضين جناحهم لهم، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ شداد متغالبين عليهم، وهذا كقوله فيهم: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ، «١» يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ من ارتد عن دين الله، وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ لصلابتهم في دين الله، وفيه إشارة إلى خطأ من لام الصِّدِّيق في قتال أهل الردة، وقالوا له: كيف تقاتل قومًا يقولون: لا إله إلا الله؟ فقال: (والله لنقاتلن مَن فَّرق بين الصلاة والزكاة) - فلم يلتفت إلى لومهم. ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، الإشارة إلى ما خصهم الله به، من المحبة والأخلاق الكريمة، وَاللَّهُ واسِعٌ الفضل والعطاء عَلِيمٌ بمن هو أهله.
ولمّا نهى عن موالاة الكفار ذكر من هو أهل للموالاة فقال: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا لم يقل: أولياؤكم بالجمع، تنبيها على أن الولاية لله على الأصالة، ولرسوله وللمؤمنين على التبع، ثم وصفهم بقوله:
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ أي: خاضعون لله، ولعباده متواضعون، منقادون لأحكامه، أو يتصدقون في حال ركوعهم في الصلاة، حرصًا على الخير ومسارعة إليه، قيل: نزلت في علي- كرم الله وجهه- سأله سائل وهو راكع فى صلاة، فطَرح له خاتمه، وقيل: عامة، وذكر الركوع بعد الصلاة لأنه من أشرف أعمالها.
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا، أي يتخذهم أولياء، فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ أي: فإنهم الغالبون، ووضع الظاهر موضع المضمر ليكون كالبرهان عليه، فكأنه قال: ومن يتول هؤلاء فهم حزب الله، وحزب الله هم الغالبون، وتنويهًا بذكرهم وتعظيمًا لشأنهم، وتعريضًا بمن يوالي غير هؤلاء، فإنه حزب الشيطان، وأصل الحزب: القوم يجتمعون لأمر حَزَبَهُم. قاله البيضاوي.
الإشارة: محبة الحقّ تعالى لعبده سابقة على محبته له، كما أن توبته عليه سابقة لتوبته، قال تعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا «٢»، قال أبو يزيد رضى الله عنه: غلطت في ابتداء أمري في أربعة أشياء: توهمت أني أذكره وأعرفه وأحبه وأطلبه، فلما انتهيت، رأيت ذكره سبق ذكري، ومعرفته تقدمت معرفتي، ومحبته أقدم من محبتي، وطلبه لي من قبل طلبى له. هـ.
(١) من الآية ٢٩ من سورة الفتح.
(٢) من الآية ١١٨ من سورة التوبة. [.....]
52
وفي الحكم: «أنت الذاكر من قبل الذاكرين، وأنت البادئ بالإحسان من قبل توجه العابدين، وأنت الجواد بالعطاء من قبل طلب الطالبين، وأنت الوهاب ثم أنت لما وهبتنا من المستقرضين».
ومحبة الله لعبده: حفظه ورعايته، وتقريبه واصطفاؤه لحضرته، وقال القطب ابن مشيش- رضى الله عنه-:
المحبة أخذة من الله قلبَ من أحب، بما يكشف له من نور جماله، وقدس كمال جلاله، وشراب المحبة: مزج الأوصاف بالأوصاف، والأخلاق بالأخلاق، والأنوار بالأنوار، والأسماء بالأسماء، والنعوت بالنعوت، والأفعال بالأفعال.
قلت: ومعنى ذلك: غيبة العبد في شهود الحق، وهو مقام الفناء، ثم قال رضى الله عنه: والشراب- أي: الشرب- سقي القلوب والأوصال والعروق من هذا الشراب، حتى يسكر، ويكون الشرب بالتدريب بعد التدريب والتهذيب، أي يكون شرب الخمرة شيئًا فشيئًا، ووقتًا فوقتًا، حتى يتمكن من شهود المعاني بلا فترة، فذلك الرّي، وذلك بعد كمال التهذيب، فيسقى كل على قدره، فمنهم من يسقي بغير واسطة، والله سبحانه يتولى ذلك منه، (قلت: وهو نادر، والغالب عليه الانحراف)، ومنهم من يسقي من جهة الوسائط، كالملائكة والعلماء والأكابر من المقربين، (قلت:
قوله: كالملائكة... تمثيل للوسائط، فالملائكة للأنبياء، والعلماء بالله وأكابر المقربين لغيرهم)، ثم قال: فمنهم من يسكر بشهود الكأس، ولو لم يذق بعدُ شيئًا، فما ظنك بعدُ بالذوق، وبعدُ بالشرب، وبعدُ بالري، وبعدُ بالسكر بالمشروب، ؟! ثم الصحو بعد ذلك على مقادير شتى، كما أن السكر أيضًا كذلك. انظر بقية كلامه مع شرحه في شرحنا لخمرية ابن الفارض.
وقال شيخنا البوزيدى رضى الله عنه: المحبة لها ثلاث مراتب: بداية ووسط ونهاية فبدايتها لأهل الخدمة، كالعباد والزهاد والصالحين والعلماء المجتهدين. ووسطها لأهل الأحوال، الذين غلب عليهم الشوق حتى صدرت منهم شطحات ورقصات وأحوال غريبة ربما ينكرها أهل ظاهر الشريعة، فمنهم من يغلب عليه الجذب حتى يصطلم، ومنهم من يبقى معه شيء من الصحو، وهؤلاء تظهر عليهم كرامات وخوارق العادات، ونهايتها لأهل العرفان، أهل مقام الشهود والعيان، الذين شربوها من يد الوسائط وسكروا بها، وصحوا. هـ. بالمعنى.
وفي الورتجبي ما حاصله: أن محبتهم بعد المشاهدة، وإلا لم تكن محبة حقيقة لان محبة الآلاء والنعماء معلولة، ولا كذلك هذه، لأن من رآه عشقه، وكيف يرجع عنه من كان مسلوب القلب بعشقه لجماله؟ ولذلك لم يرتدوا عن دينهم الذي هو المحبة. هـ.
وللمحبة علامات وثمرات، ذكر بعضَها الحق تعالى بقوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي: متواضعين عاطفين عليهم، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ، أي: القواطع، غالبين عليهم، يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي:
53
أنفسهم وأهواءهم، وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ إذ لا يراقبون سوى المحبوب، وليس للمحبة طريق إلا محض الفضل والكرم. ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ لكن صحبة المحبوبين عند الله من أسبابها العادية، وهم أولياء الله الذين هم حزب الله، فولايتهم والقرب منهم من أسباب القرب والمحبة، ومن موجبات النظر والغلبة وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ ثم نهى عن صحبة ضدهم، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨)
قلت: (والكفار) : من نَصَبَ عطف على الموصول الأول، ومن جَرَّ فعلى الموصول الثاني.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً من شدة كفرهم، وغلبة سفههم مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ كاليهود والنصارى، وَلا تتخذوا أيضًا الْكُفَّارَ من المشركين أَوْلِياءَ وأصدقاء، أو: لا تتخذوا من اتخذ دينكم هزوًا ولعبًا من أهل الكتاب ومن المشركين أولياء، وَاتَّقُوا اللَّهَ في موالاتهم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان يقتضي الوقوف عند الأمر والنهي.
وكيف توالون من يستهزىء بدينكم، وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً، رُوِي أن نصرانيًا بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول: إشهد أن محمداً رسول الله، قال: أحرق الله الكاذب. فدخل خادمه ذات ليلة بنار، وأهله نيام، فطارت شرارة في البيت، فأحرقته وأهله). وفي الآية دلالة على مشروعية الأذان من القرآن. ثم قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ فإن السفه يؤدي إلى الجهل بالحق والهُزء به، والعقل يقتضي المنع من الجهل والإقرارَ بالحق وتعظيمه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد حذّر الحق جل جلاله من صحبة الأشرار، ويفهم منه الترغيب في موالاة الأخيار، وهم الصوفية الأبرار، ففي صحبتهم سر كبير وخير كثير، ولابن عباد رضى الله عنه في نظم الحكم:
إنَّ التَّواخي فضلُه لا يُنكَر وإن خلا مِن شرطِهِ لا يُشكَر
والشرطُ فِيه أن تُوَاخِي العَارفا عن الحظوظ واللحُوظ صَارِفَا
مقَالُه وَحَالهُ سِيّان مَا دَعَونَا إلاَّ إلىَ الرحمان
أنوارُه دائِمَة السِّرَايَة فِيكَ وقد حَفَّت به الرِّعَايه
وفي الحِكَم: «لا تصحب من لا يُنْهِضُكَ حاله، ولا يَدُلُّكَ على الله مَقَالُهُ». وبالله التوفيق.
ثم وبخ أهل الكتاب، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٩]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩)
قلت: نقم- بفتح القاف- ينقم- بالكسر-، بمعنى: عاب وأنكر، وانتقم إذا كافأه على إنكاره، ويقال: نقم- بالكسر- ينقم- بالفتح- وقرىء به في الشاذ، و (أن أكثركم) : عطف على (آمنا) أي: ما تعيبون منا إلا أنا مؤمنون وأنتم فاسقون.
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا أي: ما تنكرون علينا وتعيبونه مِنَّآ إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ من الكتب كلها، وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ خارجون عن هذا الإيمان، وهذا أمر لا ينكر ولا يعاب، ونظير هذا في الاستثناء العجيب قول النابغة:
لاَ عَيبَ فِيهِم غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ من قراع الكتائب.
الإشارة: أهل الخصوصية يقرون أحوال أهل الشريعة كلها، ولا ينكرون على أهلها شيئًا من أمورهم، وأهل الشريعة ينكرون كثيرًا من أحوال أهل الخصوصية ويعيبُونها عليهم، وهي من أفضل القربات إلى الله عندهم، فيقولون لهم: هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أن آمنا بشريعتكم، وأنتم خارجون عن حقيقتنا ورؤية خصوصيتنا، لكن أهل الشريعة معذورون في إنكارهم، إذ ذاك مبلغهم من العلم، فإن كان إنكارهم غيره على ما فهموا من الدين فعذرهم صحيح، وإن كان حسدًا أو حمية فهم ممقوتون عند الله. والله تعالى أعلم.
ولما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم جماعة من اليهود، فقالوا يا محمد: أخبرنا بمن تؤمن من الرسل، فتلا عليهم:
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ إلى قوله: وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى «١» فلما سمعوا ذكر عيسى قالوا: ما رأينا شرًا من دينك، فأنزل الله تعالى في الرد عليهم:
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٠]
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠)
قلت: مشاركة اسم التفضيل هنا باعتبار زعمهم واعتقادهم، وإلا فلا مشاركة بين المسلمين وبينهم في الشر والضلال، و (مثوبة) : تمييز عن شر، وضع موضع الجزاء، وأصل المثوبة: في الخير، والعقوبة: في الشر، فوضع هذا المثوبة موضع العقوبة تهكمًا بهم، كقوله:
تحَيَّةُ بَينِهِم، ضَرْبٌ وَجِيعُ.
(١) الآية ٨٤ من سورة آل عمران.
و (من لعنة الله) : إما خبر، أي: هو من لعنه الله، أو بدل من شر، ولا بد من حذف مضاف، إما من الأول أو الثاني، أي: بشر من أهل ذلك الدين من لعنه الله، أو دين من لعنه الله.
ومن قرأ: (عَبَدَ) بفتح الباء، ففعل ماض، صلة لموصول محذوف، أي: ومَن عبد، و (الطاغوت) : مفعول به، ومن قرأ بضم الباء، فاسم للمبالغة، كيقظ، أي: كثير اليقظة، وهو عطف على القردة، والطاغوت مضاف.
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ لهم: هَلْ أخبركم بأقبح من ذلك الدين الذي قلتم ما رأيتم شرًا منه، هو دين مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ، أو نفس من لعنه الله، أي: أبعده من رحمته وَغَضِبَ عَلَيْهِ بكفره وعصيانه، وهم اليهود، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ أي: مسخ بعضهم قردة وخنازير، وهم أصحاب السبت، مسخ شبابهم قردة، وشيوخهم خنازير، وَجعل منهم أيضًا من عَبَدَ الطَّاغُوتَ، وهم عباد العجل، أو الكهنة، أو كل من أطاعوه في معصية الله، أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً أي: أقبح مكانًا، أي: أقبح مرتبة وأخس حالاً، جعل مكانَهم شرًا، ليكون أبلغ في الدلالة على شريتهم، وَهم أيضًا أَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ أي: عن وسط الطريق، بل حادوا عنه إلى طرق تفريط أو إفراط، حيث تركوا طريق الإسلام، الذي هو الصراط المستقيم.
الإشارة: من كان متلطخًا بالمعاصي والذنوب، وباطنه محشو بالمساوئ والعيوب كالحسد والجاه وحب الدنيا وسائر أمراض القلوب، ثم جعل يطعن في طريق الخصوص، يقال له: هل أنبئك بشر من ذلك، هو من أبعده الله بسبب المعاصي والذنوب، وغضب عليه بسبب أمراض القلوب، ومسخ قلبه عن مطالعة أنوار الغيوب، فهذا أقبح مكانًا وأضل سبيلاً، فكل من أُولع بالطعن على الذاكرين، يمسخ قلبُه بالغفلة والقسوة، حتى يفضي إلى سوء الخاتمة. والعياذ بالله.
ثم وسمهم الحق تعالى بالنفاق، أي: اليهود، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ٦١]
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١)
قلت: جملة: (وقد دخلوا)، وجملة: (وهم قد خرجوا)، حالان من فاعل (قالوا)، ودخلت (قد) على دخلوا وخرجوا تقريبًا للماضي من الحال، ليصح وقوعه حالاً أي: ذلك حالهم في دخولهم وخروجهم على الدوام، وأفادت أيضًا- لما فيها من التوقع- أن أمارات النفاق كانت لائحة عليهم.
يقول الحق جلّ جلاله فى ذكر مساوئ اليهود: وَإِذا جاؤُكُمْ ودخلوا عليكم، أظهروا الوفاق لكم، وقالُوا آمَنَّا بدينكم وَهم قَدْ دَخَلُوا عليكم ملتبسين بِالْكُفْرِ في قلوبهم، وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا أيضًا بِهِ، فلم ينفع فيهم وعظ ولا تذكير، بل كتموا النفاق وأظهروا الوفاق، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ فيفضحهم على رؤوس الأشهاد.
الإشارة: مَن سبق له الطرد والإبعاد لا تنفعه خلطة أهل المحبة والوداد، بل يخرج من عندهم كما دخل عليهم، لا ينفع فيه وعظ ولا تذكير، ولا ينجح فيه زاجر ولا نذير، وأما مَن سبقت له العناية فلا يخرج من عندهم إلا مصحوبًا بالهداية والرعاية، إذا كان في أسفل سافلين أصبح في أعلى عليين لأنهم قوم لا يشقى جليسهم. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر بقية مساوئ اليهود، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣) وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤)
قلت: (لولا) : إذا دخلت على الماضي أفادت التوبيخ، وإذا دخلت على المستقبل أفادت التحضيض.
يقول الحق جلّ جلاله: وَتَرى يا محمد، أو يا مَن تصح منه الرؤية كَثِيراً من اليهود يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ أي: في الذنوب والمعاصي المتعلقة بهم في أنفسهم، وَالْعُدْوانِ المتعلقة بغيرهم، كالتعدي على أموال الغير وأعراضهم وأبدانهم، وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ: الحرام كالرشا والربا وغير ذلك، لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي:
قبح عملهم بذلك، وتناهى في القبح.
لَوْلا يَنْهاهُمُ أي: هلا ينهاهم الرَّبَّانِيُّونَ أي: عُبّادُهم ورهبانهم، (والأحبار) أي: علماؤهم وأساقفتهم، عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ أي: الكذب، وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ: الحرام، لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ من السكوت عنهم، وعدم الإنكار عليهم، عبّر أولاً بيعلمون وثانيًا بيصنعون لأن الصنع أبلغ، ولأن الصنع عمل بعد تدريب وتدقيق وتحري أجادته وجودته، بخلاف العمل، ولا شك أن ترك التغيير والسكوت على المعاصي من العلماء وأولى الأمر أقبح وأشنع من مواقعة المعاصي، فكان جديرًا بأبلغ الذم، وأيضًا: ترك التغيير لا يخلو من تصنع، فناسب التعبير بيصنعون، وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلّم: «مَا مِن رَجُل يُجَاورُ قَومًا فَيَعمَلُ بالمَعَاصِي بَين أظْهُرِهم إلاَّ أوشَكَ اللهُ تَعَالَى أن يَعُمَّهُمُ مِنه بِعِقَاب». وقد قال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً «١»، فالوبال الذي يترتب على ترك الحسبة أعظم من الوبال الذي يترتب على المعصية، فكان التوبيخ على ترك الحسبة أعظم.
(١) من الآية ٢٥ من سورة الأنفال.
57
ثم نعى عليهم مقالاتهم الشنيعة، التي هي من جملة قولهم الإثم، فقال: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ أي:
مقبوضة عن بسط الرزق. رُوِي أن اليهود أصابتهم سنة جدبة بشؤم تكذيبهم للنبى صلّى الله عليه وسلّم فقالوا هذه المقالة الشنيعة، والذي قالها فِنحاص، ونسبت إلى جملتهم لأنهم رضوا بقوله، فغل اليد كناية عن البخل، وبسطها كناية عن الجود، ومنه: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ «١».
ثم رد عليهم فقال: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ، يحتمل أن يكون دعاءً أو خبرًا، ويحتمل أن يكون في الدنيا بالأسر والقبض، أو في الآخرة بجعل الأغلال فيها إلى عنقهم في جهنم، قال تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ أي: نعمه مبسوطة على عباده، سحاء عليهم، الليل والنهار، وإنما ثنيت اليدان هنا، وأفردت في قول اليهود ليكون أبلغ في الرد عليهم، ومبالغة في وصفه تعالى بالجود والكرم، كما تقول: فلان يعطي بكلتا يديه إذا كان عظيم السخاء، أو كناية عن نعم الدنيا والآخرة، أو عن ما يعطيه استدارجًا وما يعطيه للإكرام. ثم أكده بقوله: يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ أي: هو مختار في إنفاقه، يوسع تارة ويضيق تارة أخرى، على حسب مشيئته ومقتضى حكمته.
ولمّا عميت بصيرتهم بالكفر، وقست قلوبهم بالذنوب، كانوا كلما ازدادوا تذكيرًا بالقرآن، زادوا في العتو والطغيان، كما قال تعالى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً إذ هم متعصبون بالكفر والطغيان، ويزدادون طغيانًا وكفرًا بما يسمعون من القرآن، كما يزداد المريض مرضًا من تناول الغذاء الصالح للأصحاء.
ومن مساوئهم أيضًا: تفريق قلوبهم بالعداوة والشحناء، كما قال تعالى: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فلا تتوافق قلوبهم ولا تجتمع آراؤهم كُلَّما أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ أي: كلما أرادوا حرب الرسول- عليه الصلاة السلام- وإثارة شر عليه، ردهم الله، وأبطل كيدهم، بأن أوقع بينهم منازعة كف بها شرهم، أو: كلما أرادوا حرب عدو لهم هزمهم الله، فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلط عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فسلط عليهم فطرس الرومي، ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط عليهم المسلمون. فكان شأنهم الفساد، ولذلك قال تعالى فيهم: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي: الفساد بإثارة الحروب والفتن، وهتك المحارم، واجتهادهم في الحيل والخدع للمسلمين، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ أي: لا يرضى فعلهم فلا يجازيهم إلا شرا وعقوبة.
(١) من الآية ٢٩ من سورة الإسراء.
58
الإشارة: قال الورتجبي: في الآية تحذير الربانيين العارفين بالله وبحقوق الله، والأحبار العلماء بالله وبعذاب الله لمن عصاه، وبثواب الله لمن أطاعه لئلا يسكنوا عن الزجر للمبطلين والمغالطين، المائلين عن طريق الحق إلى طريق النفس، وبيّن تعالى أن من داهن في دينه عذب وإن كان ربانيًا. هـ. وفي بعض الأثر: «إذا رأى العالمُ المنكَر وسكت، فعليه لعنة الله». والذي يظهر أن نهي الربانيين يكون بالهمة والحال، كقضية معروف الكرخي وغيره، ونهي الأحبار يكون بالمقال، وقد تقدم هذا. والله تعالى أعلم.
ثم ندبهم إلى الإسلام فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ اليهود والنصارى، آمَنُوا بمحمد صلى الله عليه وسلّم وبما جاء به، وَاتَّقَوْا ما ذكرنا من معاصيهم ومساويهم، لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ المتقدمة، ولم نؤاخذهم بها، وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ مع المؤمنين، وفيه تنبيه على أن الإسلام يجُب ما قبله ولو عظم، وأن الكتابي لا يدخل الجنة إلا أن يسلم.
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ بالإيمان بما فيهما، وإذاعة علمهما، والقيام بأحكامهما، من غير تفريق بينهما، وآمنوا بما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، يعني: بسائر الكتب المنزلة، ومن جملتها القرآن العظيم، فإنهم لما كلفوا بالإيمان بها صارت كأنها منزلة عليهم، فلو فعلوا ذلك لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي:
لوسعنا عليهم أرزاقهم، وبسطنا عليهم النعم بأن يفيض عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السمآء والأرض، أو: لأكلوا من فوقهم بكثرة ثمرة الأشجار، ومن تحت أرجلهم بكثرة الزروع، أو من فوقهم ما يجنون من ثمار أشجارهم، ومن تحت أرجلهم ما يتساقط منها، والمراد: بيان علة قبض الرزق عنهم، وأن ذلك بشؤم كفرهم ومعاصيهم، لا لقصور القدرة عن ذلك.
ولو أنهم أقاموا ما ذكرنا لو سعنا عليهم، ولحصل لهم خير الدارين، مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ أي: جماعة عادلة غير غالية ولا مقصرة، وهم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلّم، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ أي: قبح عملهم، وفيه معنى التعجب، أي: ما أسوأ عملهم!، وهو المعاندة وتحريف الحق والإعراض عنه، والإفراط في العداوة. قاله
البيضاوي. قال في الحاشية: وفي الآية شاهد لما ورد من افتراق أهل الكتابين على فرق، كما أن شاهد افتراق هذه الأمة آية: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ «١»، وهذه هي الناجية من هذه الأمة هـ. يعني التي تهدي بالحق إلى الحق، وتعدل به في جميع الأمور.
الإشارة: كل من حقّق الإيمان الكامل والتقوى الكاملة، وسع الله عليه فى أرزاق العلوم، وفتحت له مخازن الفهوم، ودخل جنة المعارف، فلم يشتق إلى جنة الزخارف، وقال الورتجبي: لو كانوا على محل التحقيق في المعرفة لأكلوا أرزاق الله بالله من خزائن غيبه، كأصحاب المن والسلوى والمائدة من السماء، ويفتح لهم كنوز الأرض وهم على ذلك، بإسقاط رؤية الوسائط. هـ.
وقال القشيري: لو سلكوا سبيل الطاعات لوسعنا عليهم أسباب المعيشة، وسهلنا لهم الحال، إن ضربوا يُمنة، لا يلقون غير اليُمن، وإن ضرَبوا يُسرةَ، لا يجدون إلا اليسر. هـ.
ثم أمر رسوله بالتبليغ من غير مبالاة بأهل التشغيب، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٧]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ جميع ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ غير مراقب أحدًا ولا خائف مكروهًا، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ بأن لم تبلغ جميع ما أمرتك وكتمت شيئًا منه، فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ أي:
كأنك ما بلغت شيئًا من رسالة ربك لأن كتمان بعضها يُخل بجميعها، كترك بعض أركان الصلاة. وأيضًا كتمان البعض يُخل بالأمانة الواجبة في حق الرسل، فتنتقض الدعوة للإخلال بالأمانة، وذلك محال. ولا يمنعك أيها الرسول عن التبليغ خوف الإذاية فإن اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ بضمان الله وحفظه، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أي: لا يمكنهم مما يريدونه منك. وقد قصده قوم بالقتل مرارًا، فمنعهم الله من ذلك كما في السير عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «بَعَثَني اللهُ بِرِسَالَتِه، فَضِقتُ بها ذَرعًا، فأوحَى اللهُ لي: إن لم تُبلِّغ رِسَالَتِي عَذَّبتُكَ، وَضَمِنَ لِيَ العصمة فقويت» «٢».
(١) من الآية ١٨١ من سورة الأعراف.
(٢) عزاه المناوى فى الفتح السماوي ٢/ ٥٧٤ لاسحاق بن راهويه فى مسنده من حديث أبى هريرة.
وعن أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحرس، حتى نزلت، فأخرج رأسه من قبة أدم، فقال: «انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس» «١». وظاهر الآية يوجب تبليغ جميع ما أنزل الله. ولعل المراد تبليغ ما يتعلق به مصالح العباد، وقصد بإنزاله إطلاعهم عليه، فإن من الأسرار الإلهية ما يحرم إفشاؤه. قاله البيضاوي.
الإشارة: قال الورتجبي: أمره بإبلاغ ما أنزل إليه من الذي يتعلق بأحكام العبودية، ولم يأمرهم بأنه يعرفهم أسرار ما بينه وبين الله، وما بين الله وبين أنبيائه وأوليائه. ثم قال: (والله يعصمك) أي: يعصمك أن يوقعك أحد فى التمويه والغلط والحيل في طريقك إليَّ، وهذا لكونه مختارًا بالرسالة، وحقائق الرسالة في الرسول: ظهور أنوار الربوبية في قلبه، وبيان أحكام العبودية في سرّه. وقال الأستاذ، يعني القشيري: يقال في قوله: (والله يعصمك من الناس) أي: حتى لا تغرق في بحر التوهم، بل تشاهدهم كما هُم وجودًا بين طرفي العَدَم. انتهى نقل الورتجبي.
وقال القشيري أيضًا: لا تكتم شيئًا مما أوحينا إليك مُلاحظةً غير، إذ لا غيرَ في التحقيقَ إلا رسومًا موضوعة، أحكام القدرة عليها جارية. ثم قال: (والله يعصمك) أي: يعصم ظاهرك من أن يَمَسَّك من أذاهم شيء، فلم يتسلط عليه بعد هذا عدو، أي: وما وقع له من الشج وغيره كان قبل ذلك، وقيل: المراد عصمته من القتل، ثم قال:
ونصون سِرَّك عنهم، حتى لا يقع على إحساسهم. وقال شيخنا السلمي: قيل: يعصمك منهم أن يكون منك إليهم التفات، أو يكون لك بهم اشتغال. انتهى.
قلت: صدق الباطن، لا ينفك عنه من أول الأمر لأنه من ضروريات كونه رسول الله بالله، وهذا قد يتحقق للمأذون من أتباعه، فضلاً عنه، والظاهر ما صدر به من عصمة ظاهره، أو أن يقع خلل في طريقه بتمويه أو غلط أو حيلة، كما أشار إليه الورتجبي. فللَّه دره. قاله المحشي الفاسي. والله تعالى أعلم.
ثم أبطل دين من حاد عن رسالة نبيه، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٨]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨)
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ يا محمد: يا أَهْلَ الْكِتابِ اليهود والنصارى، لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي:
لستم على دين يعتد به، حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ على لسان محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومن إقامتها الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلّم والإذعان لحكمه، فإن الكتب الإلهية بأسرها، أمرت بالإيمان والإذعان، لمن صدقته المعجزة، وهي ناطقة بوجوب الطاعة له، والمراد بإقامة الكتابين: إقامة أصولهما وما لم ينسخ من فروعهما، لا جميعهما. والله تعالى أعلم.
(١) أخرجه الترمذي فى (التفسير، سورة المائدة) والحاكم فى (التفسير ٢/ ٣١٣)، وصححه، ووافقه الذهبي، كما أخرجه البيهقي فى الدلائل (باب قول الله عز وجل: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من حديث السيدة عائشة رضى الله عنها.
الإشارة: ما قيل لأهل الكتاب يقال لهذه الأمة المحمدية على طريق الإشارة، فيقال لهم: لستم على شيء، يُعبَأ به من أعمالكم وأحوالكم، حتى تقيموا كتابكم القرآن، فتحلوا حلاله، وتحرموا حرامه، وتقفوا عند حدوده، وتمتثلوا أوامره، وتجتنبوا نواهيه، وتقيموا- أيضًا- سنة نبيّكم فتقتدوا بأفعاله، وتتأدبوا بآدابه، وتتخلقوا بأخلاقه، على جهد الاستطاعة، ولذلك قال بعض السلف: ليس عليّ في القرآن أشد من هذه الآية: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ الآية. كما في البخاري «١».
ثم ذكر عتوّ اليهود وطغيانهم، فقال:
... وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ يقول الحق جلّ جلاله: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً من اليهود ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن والوحي طُغْياناً وَكُفْراً على ما عندهم، فلا تحزن عليهم بزيادة طغيانهم وكفرهم بما تبلغه إليهم، فإن ضرر ذلك لا حق بهم، لا يتخطاهم، قال ابن عباس: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم رافعُ بن حارثة وسلام بن مشكم وملك بن الصيف ورافع بن حريملة في جماعة من اليهود، فقالوا: يا محمد، ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم، وأنك مؤمن بالتوراة وبنبوة موسى، وأن جميع ذلك حق؟ قال: بلى، ولكنكم أحدثتم وكتمتم وغيرتم». فقالوا: إنا نأخذ بما في أيدينا فإنه الحق، ولا نصدقك ولا نتبعك، فنزلت فيهم هذه الآية.
الإشارة: من شأن أهل المحبة والاعتقاد، الذين سبقت لهم من الله العناية والوداد، إذا ازداد على أشياخهم فيض علوم وأنوار وأسرار زادهم ذلك يقينًا وإيمانًا وعرفانًا، يجدون حلاوة ذلك في قلوبهم وأسرارهم فيزدادون قربًا وشهودًا، وأهل العناد الذين سبق لهم من الله الطرد والبعاد إذا سمعوا بزيادة علوم وأنوار على أولياء الله، زادهم ذلك طغيانًا وبُعدًا، فلا ينبغي الالتفات إليهم، ولا الاحتفال بشأنهم، فإن الله كاف شرهم، وبالله التوفيق.
ثم رغب أهل الملل فى الإسلام، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٩]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩)
قلت: (والصابئون) : مبتدأ، والخبر محذوف، أي: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصابئون كذلك. انظر البيضاوي وابن هشام.
(١) القائل هو سيدنا سفيان بن عيينة، وذكره البخاري فى (الرقاق- باب الرجاء والخوف).
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد صلى الله عليه وسلّم وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ: قوم بين النصارى والمجوس، أو عباد الكواكب، أو قوم بقوا على دين نوح- عليه السلام- وَالنَّصارى: قوم عيسى، مَنْ آمَنَ منهم بِاللَّهِ إيمانًا حقيقيًا بلا شرك ولا تفريق، وآمن باليوم الآخر، وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، قال ابن عباس: نسخها: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ «١»، وقيل: إن هؤلاء الطوائف من آمن منهم إيمانًا صحيحًا فله أجره، فيكون في حق المؤمنين: الثبات عليه إلى الموت، وفي حق غيرهم: الدخول في الإسلام، فلا نسخ. وقيل: إنها فيمن كان قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلّم فلا نسخ أيضًا. قاله ابن جزي.
الإشارة: الذي طلب الله من العباد ورغبهم في تحصيله، وجعله سببًا للنجاة من كل هول في الدنيا والآخرة ثلاثة أمور: أحدها: تحقيق الإيمان بالله، والترقي فيه إلى محل شهود المعبود، الثاني: تحقيق الإيمان بالبعث وما بعده، حتى يكون نصب عينيه، ويقربه كأنه واقع يشاهده إذ كل آت قريب. والثالث: إتقان العمل إظهارًا للعبودية، وتعظيمًا لكمال الربوبية، على قدر الاستطاعة من غير تفريط ولا إفراط، وبالله التوفيق.
ثم خص اليهود بالعتاب لعظم جرأتهم، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٠ الى ٧١]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١)
قلت: المضارع إذا وقع بعد العلم وجب إهمال (إن) معه، فتكون مخففة، وإن وقعت بعد الظن يصح فيها الوجهان، فمن قرأ: (وحسبوا ألا تكون) بالرفع، فأن مخففة، ومن قرأ بالنصب فأن مصدرية. والفرق بين العلم والظن، أن علم العبد إنما يتعلق بالحال، و (أن) تُخلص للاستقبال، فلا يصح وقوعها بعد العلم، فأهملت وكانت مخففة من الثقيلة، بخلاف الظن فيتعلق بالحال والاستقبال، فصح وقوع (أن) بعده. و (كلما) : ظرف لكذبوا أو يقتلون، و (كثير) : بدل من فاعل عموا وصموا.
يقول الحق جلّ جلاله: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ أن يعملوا بأحكام التوراة، وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا يجددون العهد ويحثون على الوفاء به، ثم إنهم طغوا وعتوا كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ من عند الله بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ من الشرائع التي تخالف أهواءهم ومشاق الطاعة، فَرِيقاً منهم كذبوهم وَفَرِيقاً يقتلونهم، أي: كذبوا فريقًا كداود وسليمان، وفريقًا قتلوهم بعد تكذيبهم كزكريا ويحيى، وقصدوا قتل عيسى عليه السلام فليس ما فعلوا معك ببدع منهم، فلهم سلف في ذلك.
(١) من الآية ٨٥ من سورة آل عمران.
وَحَسِبُوا أي: ظنوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي: لا يقع بهم بلاء وعذاب بقتل الأنبياء- عليهم السلام-، وتكذيبهم، فَعَمُوا عن أدلة الهدى، أو عن الدين، وَصَمُّوا عن استماع الوعظ والتذكير، كما فعلوا حين عبدوا العجل، ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لما تابوا، ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا لما قتلوا الأنبياء وسفكوا الدماء، واستمر على ذلك كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وقليل منهم بقوا على العهد وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيجازيهم وفق أعمالهم.
الإشارة: لقد أخذ الله العهد على جميع بني آدم في شأن حمل الأمانة، التي حملها أبوهم آدم، وبعث الأنبياء والأولياء يجددون العهد في حملها، ويعرفون الناس بشأنها، وهي المعرفة الخاصة، التي هي شهود عظمة الربوبية في مظاهر العبودية، وحملها لا يكون إلا بمخالفة الهوى وخرق عوائد النفوس، ولا يطيقها إلا الخصوص، فلذلك كثر الإنكار على الأنبياء والأولياء إذ لم يأت أحد بخرق العوائد إلا عودي وأنكر، فكلما جاءهم رسول أو ولي بما لا تهوي أنفسهم فريقًا منهم كذبوا وفريقًا يقتلون، وظنوا أن الله لا يعاقبهم على ذلك، ولا تصيبهم فتنة في قلوبهم على ما هنالك، فعموا عن مشاهدة أنوار الحق، وصموا عمن يذكرهم بالحق، وقد تلمع لهم تارة قبس من أنوارهم، فيتوبون، ثم يُصّرون على الإنكار. والله بصير بما يعملون.
ثم ذكر مساوئ النصارى، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٢ الى ٧٦]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦)
يقول الحق جلّ جلاله: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ لِما رأوا على يديه من الخوارق، وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ المعنى: لقد كفر من اتخذ عيسى إلهًا مع أنه كان يتبرأ من هذا الاعتقاد، ويقول لبني إسرائيل: اعبدوا الله خالقي وخالقكم.
64
والمشهور في الأخبار، أن النصارى هم الذين اعتقدوا هذا الاعتقاد دون بني إسرائيل، نعم، أصل دخول هذه الشبهة على النصارى من يهودي يقال له: بولس، حسدًا منه، وذلك أنه دخل في دينهم، وفرق أموالهم، وتأهب للتعبد معهم، ثم سار إلى بيت المقدس وقطّع نفسه تقربًا عند قبري مريم وعيسى- عليهما السلام- في زعمهم، وكان معه رجلان اسمهما: يعقوب وناسور، فأخذ يعلمهما ذلك الفساد ويقول لهما: عيسى هو الله أو ابن الله، فلما قطع نفسه صار الرجلان يُفشيان ذلك عنه، فشاع مذهب الرجلين، وكان منهما الطائفة اليعقوبية والناسورية.
ثم هددهم على الشرك فقال، أي: عيسى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ في عبادته، أو فيما يختص به من الصفات والأفعال، فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ أي: يمنع من دخولها لأنها دار الموحدين، وَمَأْواهُ النَّارُ أي: محله النار، لأنها معدة للمشركين، وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أي: وما لهم أحد ينصرهم من النار. ووضع المظهر موضع المضمر، تسجيلاً على أنهم ظلموا بالإشراك، وعدلوا عن طريق الحق، وهو يحتمل أن يكون من تمام كلام عيسى عليه السلام، أو من كلام الله تعالى.
ثم ذكر تعالى صنفًا آخر منهم، فقال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ أي: أحد ثلاثة، عيسى وأمه وهو ثالثهم، أو أحد الأقانيم الثلاثة، الأب والابن وروح القدس، يريدون بالأب الذات، وبالابن العلم، وبروح القدس الحياة، لكن في إطلاق هذا اللفظ إيهام وإيقاع للغير في الكفر، وهذه المقالة- أعني التثليث، هي قوله النسطورية والملكانية، وما سبق في قوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ قول اليعقوبية، القائلة بالاتحاد، وكلهم ضالون مضلون، وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ في ذاته وصفاته وأفعاله، لا شريك له في ألوهيته، متصلاً ولا منفصلاً، وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ، ولم يوحدوا لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي: ليمس الذين بقوا منهم على الكفر ولم يتوبوا، عذاب موجع.
أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ أي: أفلا يرجعون عن تلك العقائد الزائفة والأقوال الفاسدة، ويستغفرونه بالتوحيد والتوبة عن الاتحاد والحلول، فإن تابوا غفر الله لهم، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وهذا الاستفهام:
تعجب من إصرارهم، مع كون التوبة مقبولة منهم.
ثم رد عليهم بقوله: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ بشر قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، وخصه الله بآيات، كما خصهم بها، فإن كان قد أحيا الله الموتى على يديه، فقد أحيا العصى، وجعلها حية تسعى على يد موسى، بل هو أعجب، وإن كان قد خلقه الله من غير أب، فقد خلق آدم من غير أب وأم، وهو أغرب، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ فقط، كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق أو التصديق، كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ويفتقران إليه افتقار
65
الحيوانات، قال البيضاوي: بيّن أولاً أقصى مالهما من الكمال، ودل أنه لا يوجب لهما ألوهية لأن كثيرًا من الناس يشاركهما في مثله، ثم نبه على نقصهما، وذكر ما ينافي الربوبية ويقتضي أن يكون من عداد المركبات الكائنة الفاسدة، أي: القابلة للفساد، ثم عجب ممن يدعي الربوبية لهما مع أمثال هذه الأدلة الظاهرة، فقال: انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي: كيف يُصرفون عن استماع الحق وتأمله، و (ثم) للتفاوت بين العجبين، أي: أن بياننا للآيات عجب، وإعراضهم عنها أعجب. هـ ثم أبطل عبادتهم لعيسى عليه السلام فقال: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً بل هو عاجز عن صرفه عن نفسه وجلب الخير لها، فكيف يقدر أن يدفعه عن غيره؟ وعبَّر عنه بما، دون (من) - إشارة إلى أنه من جنس ما لا يعقل، وما كان مشاركًا في الحقيقة لجنس ما لا يعقل، يكون معزولاً عن الألوهية، وإنما قدّم الضر لأن التحرز منه أهم من تحري النفع، ثم هددهم بقوله: وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بالأقوال والعقائد، فيجازي عليهما، إن خيراً فخير، وإن شرًا فشر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للعبد أن يصفي مشرب توحيده، ويعتني بتربية يقينة، بصحبة أهل اليقين، وهم أهل التوحيد الخاص، فيترقى من توحيد الأفعال إلى توحيد الصفات، ومن توحيد الصفات إلى توحيد الذات، فنهاية توحيد الصالحين والعلماء المجتهدين تحقيق توحيد الأفعال، وهو ألاَّ يرى فاعلاً إلا الله، لا فاعل سواه، وثمرة هذا التوحيد:
الاعتماد على الله، والثقة بالله، وسقوط خوف الخلق من قلبه، لأنه يراهم كالآلات، والقدرة تحركهم، ليس بيدهم نفع ولا ضرر، عاجزون عن أنفسهم فكيف عن غيرهم؟ ونهاية توحيد العباد والزهاد والناسكين المنقطعين إلى الله تعالى توحيد الصفات، فلا يرون قادرًا ولا مريدًا ولا عالمًا ولا حيًّا ولا سميعًا ولا بصيرًا ولا متكلمًا إلا الله، قد انتفت عنه صفات الحدث وبقيت صفات القدم. وثمرة هذا التوحيد: الانحياش من الخلق والتأنس بالملك الحق، وحلاوة الطاعات ولذيذ المناجاة. ونهاية توحيد الواصلين من العارفين والمريدين السائرين: توحيد الذات فلا يشهدون إلا الله، ولا يرون معه سواه. قال بعضهم: لو كلفت أن أرى غيره لم أستطع، فإنه لا غير معه حتى أشهده.
وقال شاعرهم:
مُذْ عَرفْتُ الإِلَهَ لَمْ أَرَ غَيْراً وكَذّا الْغَيْرُ عندنا ممنوع
مُذْ تَجَمَّعْتْ مَا خَشيتُ افْتِراقًا فأَنّا اليَوْمَ وَاصلٌ مجمُوعُ
وقال في التنوير: أبى المحققون أن يشهدوا مع الله سواه لما حققهم به من شهود الأحدية وإحاطة القيومية. هـ.
وفي الحكم: «الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته». وهؤلاء هم الصديقون المقربون. نفعنا الله بذكرهم، وخرطنا فى سلكهم. آمين.
66
ثم نهى أهل الكتاب عن الغلو فى عيسى، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٧]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَهْلَ الْكِتابِ أي: النصارى، لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وتقولوا قولاً غَيْرَ الْحَقِّ وهو اعتقادكم في عيسى أنه إله، أو أنه لغير رشدة، ولا تفرطوا، وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ سلفوا قبلكم، وهم أئمتكم في الكفر، قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ أي: من قبل مبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم، وَأَضَلُّوا أناسًا كَثِيراً حملوهم على الاعتقاد الفاسد في عيسى وأمه، فقلدوهم وضلوا معهم، وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ أي: عن قصد السبيل المستقيم، وهو الإسلام بعد مبعثه صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: الضلال الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل، والثاني إشارة إلى ضلالهم عما جاء به الشرع. قاله البيضاوي.
الإشارة: الغلو كله مذموم كما تقدم، وخير الأمور أوسطها، كما تقدم. وقد رخص في الغلو في ثلاثة أمور:
أحدها: في مدح النبي صلى الله عليه وسلّم فلا بأس أن يبالغ فيه ما لم يخرجه عن طور البشرية، وهذا غلو ممدوح، مقرب إلى الله تعالى، قال في بردة المديح:
دع ما ادَّعَتهُ النَّصَارى في نَبيّهم واحكُم بما شِئتَ مَدحًا فيهِ واحتكَم
الثاني: في مدح الأشياخ والأولياء، ما لم يخرجهم أيضًا عن طورهم، أو يغض من مرتبة بعضهم، فقد رخصوا للمريد أن يبالغ في مدح شيخه، ويتغالى فيه، بالقيدين المتقدمين لأن ذلك يقربه من حضرة الحق تعالى.
والثالث: في تعظيم الحق جل جلاله. وهذا لا قيد فيه ولا حصر. حدث عن البحر ولا حرج، إذا كان ممن يحسن العبارة ويتقن الإشارة، بحيث لا يوهم نقصًا ولا حلولاً. وبالله التوفيق.
ولما ذكر مساوئ النصارى ذكر مساوئ اليهود، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٨ الى ٨١]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١)
يقول الحق جلّ جلاله: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ أي: لعنهم الله في الزبور على لسان نبيه داود عليه السّلام، وَلعنهم الله أيضًا في الإنجيل على لسان عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فالأول:
أهل أيلَة لما اعتدوا في السبت لعنهم داود عليه السلام، فمسخوا قردة وخنازير، والثاني أصحاب المائدة، لمّا كفروا دعا عليهم عيسى، ولعنهم، فمسخوا خنازير، وكانوا خمسة آلاف رجل، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ ذلك اللعن الشنيع المقتضى للمسخ بسبب عصيانهم واعتدائهم ما حَرُم عليهم.
كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ أي: لا ينهى بعضهم بعضًا عن معاودة منكر فعلوه، أو عن منكر أرادوا فعله وتهيأوا له، أو: لا ينتهون عنه ولا يمتنعون منه، لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ، وهو تعجيب من سوء فعلهم مؤكد بالقسم.
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ أي: من اليهود، يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: يوالون المشركين بُغضًا للرسول صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين، لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي: لبئس شيئًا قدموه، ليردوا عليه يوم القيامة، وهو أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ أي: بئس ما قدموا أمامهم، وهو سخط الله والخلود في النار، والعياذ بالله، وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِ
أي: نبيهم كما يزعمون، وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ من التوراة وغيره، مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ لأن النبي لا يأمر بموالاة الكفار، ولو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلّم وما أنزل إليه- كما هو الواجب عليهم- ما اتخذوا الكفار أولياء، وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي: خارجون عن دينهم، أو خارجون عن الدين الحق الذي لا يقبل غيره، وهو الإسلام.
الإشارة: ذكر الحق جلّ جلاله في هذه الآية ثلاثة أمور، وجعلها سببًا للعن والطرد، وموجبة للسخط والمقت، أولها: الانهماك في المعاصي والعدوان، والإصرار على الذنوب والطغيان. والثاني: عدم الإنكار على أهل المعاصي والسكوت عنهم والرضا بفعلهم، والثالث: موالاة الفجار والمودة مع الكفار، ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو أزواجهم أو عشيرتهم، وفي بعض الأخبار: (لو أن رجلاً قام الليل وصام النهار، ثم تودد مع الفجار لبعث معهم، ولو أن رجلاً عمل بالمعاصي ما عمل، ثم أحب الأبرار لحُشر معهم)، أو كما قال صلّى الله عليه وسلّم، ويعضده حديث: «المَرءُ مَعَ مَن أحبَّ».
والله تعالى أعلم.
ثم بيّن تفاوت عداوة الكفار للمسلمين، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٢ الى ٨٦]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦)
68
قلت: القسيس: العالم، والراهب: العابد، و (مما عرفوا) : سببية، و (من الحق) : بيان أو تبعيض، وجملة:
(لا نؤمن) : حال، والعامل فيها متعلق الجار، أي: أي شيء حصل لنا حال كوننا غير مؤمنين، و (نطمع) : عطف على (نؤمن)، أو خبر عن مضمر، أي: ونحن نطمع.
يقول الحق جلّ جلاله: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً للمؤمنين اليهود والمشركين، لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم، وانهماكهم في اتباع الهوى، وركونهم إلى التقليد، وبعدهم عن التحقيق، وتمرنهم على تكذيب الأنبياء، ومعاداتهم وعدوانهم لا ينقطع إلى الأبد.
وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى، للين جانبهم، ورقة قلوبهم، وقلة حرصهم على الدنيا بالنسبة لليهود، وكثرة اهتمامهم بالعلم والعمل، وإليه أشار بقوله: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ أي: علماء، ومن جملة علمهم: علمُهم بوصاية عيسى بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلّم، وَرُهْباناً أي: عبادًا، وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن قبول الحق إذا عرفوه، بخلاف اليهود لكثرة جحودهم، وفيه دليل على أنَّ التواضع والإقبال على العلم والعمل محمود، وإن كان من كافر. قاله البيضاوي وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ محمد صلى الله عليه وسلّم تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ من البكاء، جعل أعينهم من فرط البكاء كأنها تفيض بأنفسها، وإنما يفيض دمعها، وذلك مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ حين سمعوه، أو من بعض الحق، فما بالك لو عرفوا كله؟ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا بذلك، أو بمحمد صلى الله عليه وسلّم فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ بأنه حق، أو بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، أو من أمته الذين هم شهداء على الأمم.
نزلت في النجاشي وأصحابه، حين دعوا جعفرًا وأصحابه، وأحضروا القسيسين والرهبان، وأمره أن يقرأ عليهم القرآن، فقرأ سورة مريم، فبكوا وآمنوا بالقرآن. وقيل: نزلت في ثلاثين أو سبعين رجلاً من قومه، وفدوا من عنده من الحبشة بأمره على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقرأ عليهم سورة يَس، فبكوا وآمنوا، فصدر الآية عام، فالنصارى كلهم أقرب مودة للمسلمين، من آمن، ومن لم يؤمن، وإنما جاء التخصيص في قوله: وَإِذا سَمِعُوا، فالضمير إنما يرجع إلى من آمن منهم، كالنجاشي وأصحابه. وإنما جاء الضمير عامًا لأن الجماعة تحمد بفعل الواحد. انظر ابن عطية.
69
ولما دخل الإيمان في قلوبهم حين سمعوا القرآن، عاتبوا أنفسهم على التأخر عن الإيمان فقالوا: وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنحن نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ، وهي أمة محمد صلى الله عليه وسلّم التي هي أفضل الأمم، وهذا منهم استفهامُ إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام الداعي، وهو الطمع فى الانخراط مع الصالحين، والدخول في مداخلهم، فَأَثابَهُمُ اللَّهُ أي: جازاهم بِما قالُوا واعتقدوا، جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ الذي اعتادوا الإحسان في جميع الأمور، أو الذين أحسنوا النظر وأتقنوا العمل.
ثم ذكر ضدهم فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ، شفع بهم حال المؤمنين المصدقين، جمعًا بين الترغيب والترهيب، ليكون العبد بين خوف ورجاء. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أشد الناس إنكارًا على الفقراء، وأشدهم عداوة لهم، من تقدم في أسلافه رئاسة علم أو جاه أو صلاح أو نسبة شرف، وأقرب الناس مودة لهم من لم يتقدم له شيء من ذلك، فالعوام أقرب وأسهل للدخول في طريق الخصوص من غيرهم. والله تعالى أعلم.
ولمّا تضمن الكلام مدح النصارى على ترهبهم، والحث على حبس النفس، ورفض الشهوات، أعقبه بالنهى عن الإفراط فى ذلك والاعتداء عما حدّه الله بجعل الحلال حراما، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٧ الى ٨٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ أي: لا تحرموا ما طاب ولذ مما أحله الله لكم، وَلا تَعْتَدُوا فتحرموا ما أحللت لكم، ويجوز أن يراد: ولا تعتدوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم، فتكون الآية ناهية عن تحريم ما أحل وتحليل ما حرم، داعية إلى القصد بينهما، والوقوف على ما حد دون التجاوز إلى غيره. رُوِي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وصَفَ القِيامَة يومًا، وبالغ في إنذارهم، فَرَقوا، واجتمعوا في بيت عُثمان بن مظعون، واتفقوا على ألا يزالوا صائمين قائمين، وألا يناموا على الفُرُش، ولا يأكُلوا اللحمَ والودَك «١»، ولا يَقربُوا النساء والطَّيبَ، ويَرفضُوا الدُنيا، ويلَبسُوا المُسوح، ويَسيحُوا في الأرض، ويَجُبُّوا مَذَاكِرَهم، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم، فقال لهم: «إني لم أُومر بذلكَ، إنَّ لأنفُسِكُم عَليكُم حقًا، فصُومُوا وأفطِرُوا، وقُومُوا ونَاموا، فإنِّي أقُومُ وأنام، وأصُوم وأُفطِر، وآكُلُ اللحم والدَّسم، وآتى النساء، فَمَن رَغِبَ عَن سُنتي فَليس مني» «٢». ونزلت الآية.
(١) الودك: دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه.
(٢) ذكره الواحدي فى أسباب النزول عن المفسرين، بغير إسناد، وبنحوه أورده الطبري فى التفسير عن السدى. وهو منتزع من أحاديث، وأصله فى الصحيحين. راجع الفتح السماوي: (٥٧٩- ٥٨١).
ثم قال تعالى: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً أي: كلوا ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ فأحلوا حلاله واستعملوه، وحرموا حرامه واجتنبوه.
الإشارة: طريقةُ العباد والزهاد: رفض الشهوات والملذوذات بالكلية، زهدًا وورعًا وخوفًا من اشتغال النفس بطلبها، فيتعطل وقتهم عن العبادة، وطريقة المريدين السائرين: رفض ما تتعلق به النفس قبل الحصول، وتشره إليه رياضة وتعففًا، لئلا تتعلق هِممُهم بغير الله، فما جاءهم من غير طلب ولا شره أكلوه وشكروا الله عليه، ولا يقفون مع جوع ولا شبع. وطريقة الواصلين العارفين: تجنب ما يقبض من غير يد الله، فإذا أخذتهم سنة حتى غفلوا عن التوحيد فقبضوا شيئًا، مع رؤية الواسطة، أخرجوه عن ملكهم، كما وقع لأبى مدين رضى الله عنه ويأخذون ما سوى ذلك قَلّ أو كثر، ولا يقفون مع أخذ ولا ترك، وفي الحكم: «لا تمدن يديك إلى الأخذ من الخلائق، إلا أن ترى أن المعطي فيهم مولاك، فإن كنت كذلك فخذ- ما وافقك العلم».
ولما صدر من بعض الصحابة يمين على ترك ما تقدم، ذكر لهم الكفارة، وفيما تجب، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ٨٩]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)
قلت: (في أيمانكم) : يتعلق باللغو، أو بيؤاخذكم.
يقول الحق جلّ جلاله: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وهو ما يصدر من الإنسان بلا قصد، كقوله: لا والله، وبلى والله. وإليه ذهب الشافعي، وقيل: هو الحلف على ما يظن أنه كذلك ولم يكن، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة، وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ عليه، أي: بما جزمتم عليه بالنية والقصد، فَكَفَّارَتُهُ أي: ما عقدتم عليه إذا حلفتم، ويجوز التكفير قبل الحنث لظاهر الآية.
ثم بيَّن الكفارة، فقال: إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ، فمن أطعم غنيًا لم تجزه، واشترط مالك أن يكونوا أحرارًا، وليس في الآية ما يدل على ذلك، ثم بيَّن نوعه فقال: مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أي: من وسط طعام أهليكم في القدر أو في الصفة، أما القدر فقال مالك: يطعم مُدًا لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلّم إذا كان في المدينة
71
المشرفة، وفي غيرها وسط من الشبع، وقال الشافعي وابن القاسم: يجزىء المُد في كل مكان، وقال أبو حنيفة: إن غذاهم وعشاهم أجزأه. قلت: وهو قول في المدونة لمالك أيضًا. وأما الصنف، فاختلف: هل يطعم من عيش نفسه، أو من عيش بلده وهو المشهور؟
فمعنى الآية على هذا: مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أيها الناس أَهْلِيكُمْ على الجملة أَوْ كِسْوَتُهُمْ فيكسو كل مسكين ما تصح به الصلاة، فالرجل ثوب، والمرأة قميص وخمار، أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مؤمنة على مذهب مالك لتقييدها بذلك في كفارة القتل. وأجاز أبو حنيفة عتق الكافر، لإطلاق اللفظ هنا، واشترط مالك أيضًا أن تكون مسلمة من العيوب، وليس في الآية ما يدل عليه، فهذه الثلاثة بالتخيير.
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ واحدًا من هذه الثلاثة، ولم يقدر على شيء منها، بحيث لم يفضل له عن قوته وقوت عياله في يومه ما يطعم به، فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ يستحب تتابعها، واشترطه أبو حنيفة لأنه قرىء: (أيام متتابعات)، والشاذ ليس بحجة، ذلِكَ المذكور هو كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وحنثتم، وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أي: صونوا ألسنتكم عن كثرة الحلف، فيكون الله عرضة لأيمانكم، أو احفظوها بأن تبروا فيها ولا تحنثوا، إلا إن كان في الامتناع من الخير، فالحنث فيها أحسن، كما في الحديث. أو احفظوها بأن تكفروها إذا حنثتم، ولا تتهاونوا بها، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أي: مثل ذلك البيان يُبين لكم أعلام شرائعه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة التعليم، أو نعمه الواجب شكرها، فإن مثل هذا التبيين يُسهل لكم المخرج من ضيق اليمين، فهو نعمة يجب شكرها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ليس التشديد والتعقيد من شأن أهل التوحيد، إنما شأنهم الاسترسال مع ما يبرز من عنصر القدرة، ليس لهم وقت دون الوقت الذي هم فيه، قد حلّ التوحيد عُقدهم ودكّ عزائمهم، فهم في عموم أوقاتهم لا يدبرون ولا يختارون، وإن وقع منهم تدبير أو اختيار رجعوا إلى ما يفعل الواحد القهار، لا يبشطون إلى شيء ولا يهربون من شيء، إلا إن كان فيه مخالفة للشرع.
ولا يعقدون على ترك شيء من المباحات ولا على فعله، لأنهم لا يرون لأنفسهم فعلاً ولا تركًا، إن صدرت منهم طاعة شهدوا المنّة لله، وإن وقعت منهم زلّة أو غفلة تأدبوا مع الله، وبادروا بالتوبة إلى الله، وما صدر من الصحابة- رضوان الله عليهم- فلعل ذلك كان حالاً غالبة عليهم، قد أزعجهم وعظ النبي صلى الله عليه وسلّم، وأنهضهم حاله، فلما رءاهم غلب عليهم الحال ردّهم إلى حال الاعتدال، ولعل الحق- جل جلاله-، إنما جعل كفّارة اليمين جبرًا لخلل ذلك التعقيد، الذي صدر من الحالف مع تفريطه بالحنث، فكأنه حلف على فعل غيره، ففيه نوع من التألي على الله. والله تعالى أعلم.
72
ولما أمر الحق جل جلاله بأكل الحلال الطيب أخرج ضده، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٠ الى ٩٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢)
قلت: (رجس) : خبر، وأفرده لأنه على حذف مضاف، أي: تعاطي الخمر، أو خبر عن الخمر، وخبر المعطوفات محذوف، أي: كذلك.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا تناول الْخَمْرُ وهو كل ما غيب العقل، دون الحواس، مع النشوة والطرب، وَالْمَيْسِرُ وهو القمار وَالْأَنْصابُ وهو ما نصب ليُعبد من حجارة أو خشب، وَالْأَزْلامُ أي: الاستقسام بها، وقد تقدم تفسيرها «١»، رِجْسٌ قذر خبيث تعافه العقول السليمة، مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي: من تسويله وتزيينه، فَاجْتَنِبُوهُ أي: ما ذكر من تعاطي الخمر، وما بعده، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي:
تفوزون بالرضوان والنعيم المقيم.
قال البيضاوي: اعلم أن الحق تعالى أكد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية، بأن صدّر الجملة بإنما، وقرنها بالأنصاب والأزلام وسماهما رجسًا، وجعلهما من عمل الشيطان، تنبيهًا على أن الاشتغال بهما شر محض، وأمر بالاجتناب عن عينهما، وجعله سببًا يرجى منه الفلاح، ثم قرر ذلك بأن بيّن ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية المقتضية للتحريم فقال: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وقد وقع ذلك في زمن الصحابة، وهي كانت سبب تحريمه، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ إنما خصّ الخمر والميسر بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال تنبيهًا على أنهما المقصودان بالبيان. وذكر الأنصاب والأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة والشرارة لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «شَارِبُ الخَمرِ كَعَابِد الوَثَنِ» «٢».
وخصّ الصلاة من الذكر بالإفراد للتعظيم والإشعار بأن الصاد عنها كالصاد عن الإيمان من حيث إنها عماده، والفارق بينه وبين الكفر، ثم أعاد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتبًا على ما تقدم من أنواع
(١) راجع تفسير الآية ٣ من السورة نفسها.
(٢) أخرجه بلفظه البزار، كشف الأستار (الأشربة، باب فى شارب الخمر) من حديث عبد الله بن عمرو، وأخرجه ابن ماجه فى (الأشربة باب مدمن الخمر) بلفظ: (مدمن الخمر).
الصوارف فقال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟ إيذانًا بإن الأمر في المنع والتحذير بلغ الغاية، وأن الأعذار قد انقطعت. هـ ولذلك لما سمعها الفاروق رضى الله عنه حين نزلت، قال: (قد انتهينا يا ربنا).
وبهذا الآية وقع تحريم الخمر، وقد كان حلالاً قبلها، بدليل سكوته صلّى الله عليه وسلّم على شربها قبل نزول الآية، فإن قلت:
حفظ العقول من الكليات الخمس التي اتفقت الشرائع على تحريمها؟ قلنا: لا حُكم قبل الشرع، بل الأمر موقوف إلى وروده، ولما طالت الفترة، وانقطعت الشرائع عند العرب، رجعت الأشياء إلى أصلها من الإباحة بمقتضى قوله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «١»، حتى جاءت الشريعة المحمدية فحرمتها كالشرائع قبلها، فكانت حينئٍذ حرامًا، ودخلت في الكليات الخمس التي هي: حفظ العقول والأبدان والأموال والأنساب والأديان.
ثم أكد ذلك أيضًا بقوله: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما أمر ونهى، وَاحْذَرُوا غضبهما إن خالفتم، فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أو أعرضتم عن طاعتهما فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ لا تضرّه مخالفتكم، إنما عليه البلاغ وقد بلغ.
الإشارة: المقصود هو النهي عن كل ما يصد عن الله أو يشغل العبد عن شهود مولاه، وخص هذه الأربعة، لأنها أمهات الخطايا ومنبع الغفلة والبلايا، فالخمر فيه فساد العقل الذي هو محل الإيمان، والميسر فيه فساد المال وفساد القلب بالعداوة والشحناء، وفساد الفكر لاستعماله في الهوى، والأنصاب فيه فساد الدين الذي هو رأس المال، والأزلام فيه الفضول والاطلاع على علم الغيب، الذي هو سر الربوبية، وهو موجب للمقت والعطب، والعياذ بالله.
ثم عفا عما سلف من الخمر والميسر قبل التحريم، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٣]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣)
يقول الحق جلّ جلاله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ أي: إثم فِيما طَعِمُوا من الخمر والميسر قبل التحريم، إِذا مَا اتَّقَوْا أي: إذا اتقوا الشرك، وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا المحرمات وَآمَنُوا أي: حققوا مقام الإيمان، ثُمَّ اتَّقَوْا الشبهات والمكروهات وَأَحْسَنُوا أي: حصلوا مقام الإحسان، وهو إتقان العبادة، وتحقيق العبودية، ومشاهدة عظمة الربوبية، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أي: يقربهم
(١) من الآية ٢٩ من سورة البقرة.
ويصطفيهم لحضرته، رُوِي أنه لمّا نزل تحريم الخمر، قالت الصحابة- رضى الله عنهم-: يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر؟ فنزلت.
ويحتمل أن يكون هذا التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة، أي: الماضي والحال والاستقبال، أو باعتبارات الحالات الثلاثة. فيستعمل التقوى فيما بينه وبين نفسه بالتزكية والتحلية، وفيما بينه وبين الناس بالكف عن التعرض لهم، وفيما بينه وبين الله بامتثال أمره واجتناب نهيه والغيبة عن غيره، ولذلك بدل الإيمان بالإحسان في الكرة الثالثة، أو باعتبار المراتب الثلاثة المبدأ والوسط والنهاية، أو باعتبار ما يُتقى فإنه ينبغي أن يتقي المحرمات توقيًا من العقاب، ثم يتقي الشبهات تحفظًا من الحرام، ثم يتقي بعض المباحات تحفظًا للنفس عن خسة الشره، وتهذيبًا لها عن دنس الطبيعة، قال معناه البيضاوي.
الإشارة: المقامات التي يقطعها المريد ثلاث: مقام الإسلام، ومقام الإيمان، ومقام الإحسان، فما دام المريد مشتغلاً بالعمل الظاهر من صلاة وصيام وذكر اللسان، سُمي مقام الإسلام، فإذا انتقل لعمل الباطن من تخلية وتحلية وتهذيب وتصفية، سُمي مقام الإيمان، فإذا انتقل لعمل باطن الباطن من فكرة ونظرة وشهود وعيان سمي مقام الإحسان، وهذا اصطلاح الصوفية سموا ما يتعلق بإصلاح الظواهر: إسلامًا، وما يتعلق بإصلاح القلوب والضمائر: إيمانًا، وما يتعلق بإصلاح الأرواح والسرائر: إحسانًا. وجعل الساحلي في البغية كل مقام مركبًا من ثلاثة مقامات، فالإسلام مركب من التوبة والتقوى والاستقامة، والإيمانَ مركب من الإخلاص والصدق والطمأنينة، والإحسان مركب من مراقبة ومشاهدة ومعرفة. وأطال الكلام في كل مقام، لكن من سقط على شيخ التربية لم يحتج إلى شيء من هذا التفصيل. وبالله التوفيق.
ثم تكلم على حرمة الصيد فى الإحرام تبيينا لقوله: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٤ الى ٩٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦)
75
قلت: (فجزاء) : مبتدأ، والخبر محذوف، أي: فعليه جزاء، أو خبر عن مبتدأ محذوف، أي: فواجبه جزاء، و (مثل) : صفته، و (من النعم) : صفة ثانية لجزاء، أي: فعلية جزاء مماثل حاصل من النعم، ومن قرأ (مثل) بالجر، فعلى الإضافة، من إضافة المصدر إلى المفعول، أي: فعليه أن يجزي مثل ما قتل، أو يكون (مثل) مقحمة كما في قولهم: مثلى لا يقول كذا. وقرىء بالنصب، أي: فليجزأ جزاء مماثلاً. وجملة (يحكم) صفة لجزاء أيضًا، أو حال من ضمير الخبر.
و (هَديًا) : حال من ضمير (به)، أو من جزاء لتخصيصه بالإضافة أو الصفة فيمن نون، و (بالغ) : صفة للحال، أو بدل من مثل باعتبار محله، أو لفظه فيمن نصبه، أو (كفارة) عطف على (جزاء) إن رفعته، وإن نصبت جزاء فهو خبر، أي: وعليه كفارة، و (طعام مساكين) : عطف بيان، أو بدل منه، أو خبر عن محذوف، أي: هي طعام، ومن جرا طعامًا فبالإضافة للبيان، كقوله: خاتم فضة، أو (عدل) عطف على (طعام) فيمن رفعه، أو خبر فيمن جره، أي: عليه كفارة طعام، أو عليه عدل ذلك، و (ليذوق) : متعلق بمحذوف، أي: فيجب عليه الجزاء أو الطعام أو الصوم ليذوق سوء عاقبة فعله، و (متاعًا لكم) : مفعول من أجله، و (حُرُمًا) : حال، أي: ما دمتم محرمين، أو خبر دام على النقص، ويقال: دام يدوم دُمت، كقال يقول قلت، ودام يَدام دِمت، كخاف يخاف خفت. وبه قٌرىء في الشاذ.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ أي: والله ليختبرنكم اللَّهُ بِشَيْءٍ قليل مِنَ الصَّيْدِ يسلطه عليكم وَيُذَلِّلُهُ لكم حتى تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ بالأخذ وَرِماحُكُمْ بالطعن لِيَعْلَمَ اللَّهُ علم ظهور وشهادة تقوم به الحجة، مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فيكف عن أخذه حذرًا من عقاب ربه، نزل عام الحديبية، ابتلاهم الله بالصيد، كانت الوحوش تغشاهم في رحالهم، بحيث يتمكنون من صيده، أخذًا بأيديهم وطعنًا برماحهم، وهم مُحرمون، وكان الصيد هو معاش العرب ومستعملاً عندهم، فاختبروا بتركه مع التمكن منه، كما اخُتبر بنو إسرائيل بالحوت في السبت.
وإنما قلَّلَهُ بقوله: بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ إشعارًا بأنه ليس من الفتن العظام كبذل الأنفس والأموال، وإنما هو من الأمور التي يمكن الصبر عنها، فمن لم يصبر عنده فكيف يصبر بما هو أشد منه؟ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ الابتلاء بأن قتل بعد التحريم، فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة، لأن من لا يملك نفسه فى مثل هذه فكيف يملكها فيما تكون النفس فيه أميل وعليه أحرص؟!.
ثم صرح بالحرمة، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أي: محرمون جمع حَرَم، والمراد من دخل في الإحرام أو في الحرم، وذكر القتل ليفيد العموم، فيصدق بالذبح وغيره، وما صاده المحرم
76
أو صيد له ميتة لا يؤكل، والمراد بالصيد المنهي عن قتله: ما صيد وما لم يُصَد مما شأنه أن يصاد، وورد هذا النهي عن قتله قبل أن يصاد، وبعده، وأما النهي عن الاصطياد فيؤخذ من قوله: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً، وخصص الحديث: الغراب والحدأة، والفأرة والعقرب والكلب العقور «١»، فلا بأس بقتلهم، في الحل والحرم، وأدخل مالك في الكلب العقور كل ما يؤذي الناس من السباع وغيرها، وقاس الشافعي على هذه الخمسة كل ما لا يؤكل لحمه.
ثم ذكر جزاء قتله فقال: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ أي: فعليه جزاء مثل ما يماثله من النعم، وهي الإبل والبقر والغنم، ففي النعامة بدنةَ، وفي الفيل ذات سنامين، وفي حمار الوحش وبقره بَقَرة، وفي الغزالة شاة، فالمثلية عند مالك والشافعي في الخلِقة والمقدار، فإن لم يكن له مثلٌ أطعم أو صام، يُقوّم بالطعام فيتصدق به، أو يصوم لكل مدِّ يومًا، ومَذهب أبي حنيفة أن المثلية: القيمة، يُقوم الصيد المقتول، ويُخير القاتل بين أن يتصدق بالقيمة أو يشتري بها من النعم ما يهديه. وذكر العمد ليس بتقييد عند جمهور الفقهاء، خلافًا للظاهرية بل المتعمد، والناسي في وجوب الجزاء سواء، وإنما ذكره ليرتب عليه قوله: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ، ولأن الآية نزلت فيمن تعمد، إذ رُوِي أنهم عرض لهم حمار وحشي، فطعنه أبو اليسر برمحه فقتله، فنزلت الآية.
ولا بد من حكم الحكَمين على القاتل لقوله: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ، فكما أن التقويم يحتاج إلى نظر واجتهاد، فكذلك تحتاج المماثلة في الخلقة والهيأة إليهما، فإن أخرج الجزاء قبل الحكم عليه فعليه إعادته، إلا حمام مكة فإنه لا يحتاج إلى حكمين، ويجب عند مالك التحكيم فيما حكمت به الصحابة وفيما لم تحكم، لعموم الآية.
وقال الشافعي: يكتفي في ذلك بما حكمت به الصحابة، حال كون المحكوم به هَدْياً بشرط أن يكون مما يصح به الهدي، وهو الجذع من الضأن، والثني مما سواه، وقال الشافعي: يخرج المثل في اللحم، ولا يشترط السن، بالِغَ الْكَعْبَةِ لم يرد الكعبة بعينها، وإنما أراد الحرم، وظاهره يقتضي أن يصنع به ما يصنع بالهدي من سوق من الحل إلى الحرم، وقال الشافعي وأبو حنيفة: إن اشتراه في الحرم أجزأه.
أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ مد لكل مسكين، أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً يوم لكل مد، عدد الحق- تعالى- ما يجب في قتل الصيد، فذكر أولاً الجزاء من النعم، ثم الطعام، ثم الصيام، ومذهب مالك والجمهور: أنها على
(١) أخرج ذلك البخاري فى (جزاء الصيد، باب ما يقتل من الدواب) ومسلم فى (الحجر، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب فى الحل والحرام) من حديث السيدة عائشة رضى الله عنها. [.....]
77
التخيير، وهو الذي يقتضيه العطف بأو، ومذهب ابن عباس أنها مرتبة. وقد نظم ابن غازي الكفارات التي فيها التخيير أو الترتيب فقال:
خَيَّر بِصَومٍ ثَمَّ صَيدٍ وَأذَى... وقُل لِكُلَّ خَصلَةٍ: يا حَبَّذا
وَرَتِّب الظِّهارَ والتَّمَتُّعا وَالقَتلَ ثَمّ في اليَمِينِ اجتَمَعَا
وكيفية التخيير هنا: أن يخير الحكمان القاتلَ فإن أراد الجزاء عينوا له ما يهدي، وإن أراد الإطعام قوموا الصيد بالطعام في ذلك المحل، فيطعم مُدًا لكل مسكين، وإن أراد الصيام صام يومًا لكل مُدّ، وكمل لكسره، فإذا قوم بعشرة مثلاً ونصف مُدّ، صام أحد عشر يومًا.
ثم ذكر حكمة الجزاء، فقال: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ أي: فعليه الجزاء أو الإطعام أو الصيام ليذوق عقوبة سوء فعله، وسوء هتكه لحرمة الإحرام، عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ في الجاهلية أو قبل التحريم، وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ في الآخرة، وليس فيه ما يمنع الكفارة على العائد كما حكى عن ابن عباس وشريح. وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ ممن أصر على عصيانه.
ثم استثنى صيد البحر فقال: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وهو ما لا يعيش إلا في الماء، وهو حلال كله لقوله صلّى الله عليه وسلّم في البحر: «هُو الطَّهُورُ ماَؤهُ، الحِلُّ مَيتَتُه» «١». وقال أبو حنيفة: لا يحل منه إلا السمك، وَطَعامُهُ أي: ما قذفه، أو طفا على وجهه لأنه ليس بصيد إنما هو طعام. وقال ابن عباس: طعامه: ما مُلِّح وبقي مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ، الخطاب بلكم للحاضرين في البحر، والسيارة: المسافرون في البر، أي: هو متاع تأتِدمون به في البر والبحر، وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ يحتمل أن يريد به المصدر، أي الاصطياد، أو الشيء المصيد، أو كلاهما، وتقدم أن ما صاده محرم أو صيد له: ميتة، وحد الحرمة: ما دُمْتُمْ حُرُماً فإذا حللتم فاصطادوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ في ترك ما حرم عليكم، الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيُجازيكم على ما فعلتم.
الإشارة: إذا عقد المريد مع الله عقدة السير والمجاهدة، قد يختبره الله- تعالى- في سيره بتيسير الشهوات، وتسليط العلائق والعوائق ليعلم الكاذب من الصادق، فإن كف عنها وأعرض، هيأه لدخول الحضرة، وإن انهمك فيها، واقتنص فى شبكتها، بقي مرهونًا في يدها، أسيرًا في قبضة قهرها، فإذا نهض حتى دخل حرم الحضرة قاصدًا لعرفة المعارف، حَرُم عليه صيد البر، وهو كل ما يخرج من بحر الحقيقة إلى شهود بَر السِّوى، فرقًا بلا جمع، كائنًا ما كان، رسومًا أو علوما أو أحوالا أو أقوالاً، وحلّ له صيد البحر وطعامه، من أسرارِ أو أنوارِ أو حقائق،
(١) أخرجه مالك فى (الطهارة، باب الطهور للوضوء) والبيهقي فى الكبرى (١/ ٣) وأبو داود فى (الطهارة، باب الوضوء بماء البحر) والترمذي فى (الطهارة، باب ما جاء فى ماء البحر) والنسائي فى (الطهارة، باب ماء البحر) وابن ماجه فى (الطهارة، باب الوضوء بماء البحر) من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.
78
متاعًا لروحه وسره، وللسيارة من أبناء جنسه، يطعمهم من تلك الأسرار، بالهمة أو الحال أو التذكار، واتقوا الله في الاشتغال بما سواه، الذي إليه تُحشرون، فيدخلكم جنة المعارف قبل جنة الزخارف. والله تعالى أعلم.
ولما عظّم شأن الحرم عظّم شأن الكعبة، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٧ الى ٩٩]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩)
قلت: (البيت الحرام) : عطف بيان على جهة المدح، و (قيامًا) : مفعول ثان.
يقول الحق جلّ جلاله: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ التي هي الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ أي: سبب انتعاشهم، يقوم بها أمر معاشهم ومعادهم، يلوذ به الخائف، ويأمن فيه الضعيف، ويربَحُ فيه التجار، ويتوجه إليه الحجاج والعُمار، أو يقوم به أمر دينهم بالحج إليه، وأمر دنياهم بِأمنِ داخله، وتُجبى ثمرات كل شيء إليه.
قال القشيري: حكَم الله- سبحانه- بأن يكون بيته اليومَ ملجأ يلوذ به كل مُؤمّل، ويستقيم ببركة زيارته كلُّ حائدٍ عن نهج الاستقامة، ويظفر بالانتقال هناك كل ذي أرَبٍ. هـ.
وَالشَّهْرَ الْحَرامَ جعله الله أيضًا قيامًا للناس والمراد به ذو الحجة، فهو قيام لمناسك الحج، وجَمعِ الوجود إليه بالأموال من كل جانب، أو الجنس، وهي أربعة: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، لأنهم كانوا يكفون عن القتال، ويأمن الناس فيها في كل مكان، وَالْهَدْيَ لأنه أمان لمن يسوقه لأنه لم يأت لحرب، وَالْقَلائِدَ، كان الرجل إذا خرج يريد الحج تقلد شيئًا من السمُر «١»، وإذا رجع تقلد شيئًا من شجر الحرم ليعلم أنه كان في عبادة، فلا يتعرض له أحد بشر، فالقلائد هنا: ما تقلده المحرم من الشجر، وقيل: قلائد الهدى.
ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي: جعل ذلك الأمور، قيامًا للناس لتعلموا أن الله يعلم تفاصيل الأمور، فشرع ذلك دفعًا للمضار وجلبًا للمنافع، وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لا يخفى عليه محل مصالح عباده ومضارهم، وهو تعميم بعد تخصيص، ومبالغة بعد إطلاق.
(١) السمر- بضم الميم والراء: ضرب من الشجر، صغار الورق قصار الشوك.
ثم قال تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن عصاه، وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن أطاعه وأقبل عليه، وهو وعيد ووعد لمن انتهك محارمه ولمن حافظ عليها، أو لمن أصرّ ورجع، ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وقد بلّغ، فلم يبق عذر لأحد، وهو تشديد في إيجاب القيام بما أمر، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ من تصديق وتكذيب وفعل وعزيمة.
الإشارة: كما جعل الله الكعبة قيامًا للناس، يقوم به أمر دينهم ودنياهم، جعل القلوب، التي هي كعبة الأنوار والأسرار، قيامًا للسائرين، يقوم بها أمر توحيدهم ويقينهم، أو أمر سيرهم ووصولهم. وفي الحديث: «إنَّ في الجسدِ مُضغةً إذا صلَحَت صلُحَ الجسدُ كلُّهُ وإذا فَسددَت فَسدَ الجَسدُ كلُّه ألاَ وَهي القَلبِ». وكما جعل الشهر الحرام والهدى والقلائد حرمة لأهلها، جعل النسبة والتزيي بها حفظًا لصاحبها، من تزيا بزي قوم فهو منهم، يجب احترامه وتعظيمه لأجل النسبة، فإن كان كاذبًا فعليه كذبه، وإِن يك صادقاً يُصبكم بعض الذي يعدكم، وقد أخذ اللصوص بعض الفقراء، وانتهكوا حرمته، وأخذوا ثيابه، فاشتكى لشيخه فقال له: هل كانت عليك مرقعتك؟ قال: لا، فقال له:
أنت فرَّطت والمفرط أولى بالخسارة. هـ. والله تعالى أعلم.
ولمّا كان مدار الأمر كله على صلاح القلوب وفسادها ذكره بإثره، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٠]
قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ عند الله، في القلوب والأحوال والأعمال والأموال والأشخاص، فالطيب من ذلك كله مقبول محبوب، والرديء مردود ممقوت، فالطيب مقبول وإن قلّ، والرديء مردود ولو جلّ، وهو معنى قوله: وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ، فالعبرة بالجودة والرداءة، دون القلة والكثرة، وقد جرت عادته- تعالى- بكثرة الخبيث من كل شيء، وقلة الطيب من كل شيء، قال تعالى:
وَقَلِيلٌ ما هُمْ «١»، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «٢»، وفي الحديث الصحيح: «النّاسُ كإبلٍ مِائةٍ لا تكادُ تَجِدُ فيها رَاحِلةَ» «٣»، وقال الشاعر:
إنّي لأفتَحُ عَينِيَ حِينَ أفتَحُها عَلَى كُثِيرٍ ولكن لا أرى أحَدا
فأهل الصفا قليل في كل زمان، ولذلك خاطبهم بقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ أي: القلوب الصافية في تجنب الخبيث وإن كثر، وأخذ الطيب وإن قلّ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بصلاح الدارين.
(١) من الآية ٢٤ من سورة ص.
(٢) من الآية ١٣ من سورة سبأ.
(٣) أخرجه البخاري فى (الرقاق باب رفع الأمانة) ومسلم فى (فضائل الصحابة، باب قوله صلّى الله عليه وسلّم: الناس كإبل مائة..) من حديث ابن عمر رضى الله عنه ومعنى الحديث: أن الزاهد فى الدنيا، الكامل فى الزهد فيها قليل جدا، كقلة الراحلة فى الإبل.
الإشارة: لا عبرة بالأحوال الظلمانية وإن كثرت، وإنما العبرة بالأحوال الصافية ولو قلّت، صاحب الأحوال الصافية موصول، وصاحب الأحوال الظلمانية مقطوع، ما لم يتب عنها، قال بعض الحكماء: (كما لا يصح دفن الزرع في أرض ردية، لا يجوز الخمول بحال غير مرضية).
والمراد بالأحوال الصافية: هي التي توافق مراسم الشريعة بحيث لا يكون عليها من الشارع اعتراض، بأن تكون مباحة في أصل الشريعة، ولو أخلت بالمروءة عند العوام، إذ المروءة إنما هي التقوى عند الخواص، والمراد بالأحوال، كل ما يثقل على النفس وتموت به سريعًا، كالمشي بالحفا وتعرية الرأس، والأكل في السوق، والسؤال، وغير ذلك من خرق عوائدها، التي هي شرط في حصول خصوصيتها، وفي الحِكَم: «كيف تخرق لك العوائد؟
وأنت لم تخرق من نفسك العوائد»
. وبالله التوفيق ومن جملة الأحوال الرديئة: كثرة الخوض فيما لا يعنى، التي أشار إليه بقوله:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠١ الى ١٠٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢)
قلت: الجملة الشرطية صفة لأشياء، وأشياء اسم جمع لشيء، أصله عند سيبويه: شيئَاءَ، مثل فَعلاء، قلبت إلى لفعاء، أي: قلبت لامه إلى فائه، لثقل اجتماع الهمزتين، وقال أبو حاتم: أشياء وزنها أفعال، وهو جمع شيء، وترك العرف فيه سماع، وقال الكسائي: لم ينصرف أشياء، لشبه آخره بآخر حمراء، انظر ابن عطية. وجملة (عفا الله عنها) : صفة أخرى لأشياء، أي: عن أشياء عفا الله عنها، ولم يكلف بها.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ ليس لكم فيها نفع، إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ أي: إن تظهر لكم وتجابوا عنها تسؤكم بالأخبار بما لا يعجيكم وبما يشق عليكم، قيل: سبب نزول الآية:
كثرة سؤال الناس له صلى الله عليه وسلّم من الأعراب والمنافقين والجُهال، فكان الرجل يقول للنبي- عليه الصلاة السلام-؟ أين ناقتي؟ وآخر يقول: ماذا ألقى في سفري؟ ونحو هذا من التعنيت، حتى صعد المنبر صلّى الله عليه وسلّم مغضبًا، فقال: «لا تَسألُوني اليوم عن شيء إلا أخبرتُكُم به». فقام رجل فقال: أين أنا؟ فقال: في النار، وقام عبَدُ الله بن حُذَافة- وكان يُطعَنُ في نسبِهِ فقال: مَن أبي؟ فقال: «أبوكِ حُذافة»، وقال آخر: من أبي؟ قال: «أبوك سَالم مولى شيبة»، فقام عمر بن الخطاب، فجثا على ركبتيه، فقال: رَضِينا بالله رَبًا، وبالإسلامِ دِينًا، وبمُحمَّدٍ نَبِيًا نعوذ بالله من الفتن.
فنزلت هذه الآية «١».
(١) أخرج بعضه البخاري فى: (مواقيت الصلاة، باب وقت الظهر عند الزوال) عن أنس، وأخرجه مختصرا فى (التفسير- سورة المائدة) عن ابن عباس، وانظر فتح الباري (ح ٢٦٢١) والفتح السماوي (٢/ ٥٩٤- ٥٩٥)
81
وقيل: سبب نزولها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم خطب فقال: «أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فقالوا:
يا رسول الله، أفي كل عام؟ فسكت، فأعادوا، فقال: لا، لو قُلتُ: نَعَم، لو جبت، وَلَو وَجَبت لَم تُطيقوه، ولَوَ تَركتُموه لهلكتم، فأترُكُوني مَا تَركتُكُم»
«١»، قال أبو ثعلبة الخشني رضى الله عنه: إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وعفا- من غير نسيان- عن أشياء، فلا تبحثوا عنها.
ثم قال تعالى: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ أي زمنه تُبْدَ لَكُمْ أي: تظهر لكم، وفيه معنى الوعيد على السؤال، كأنه قال: لا تسألوا، وإن سألتم أبدى لكم ما يسؤكم. والمراد بحين ينزل القرآن: زمان الوحي.
فلا تسألوا عن أشياء قد عَفَا اللَّهُ عَنْها ولم يكلف بها أو عفا الله عما سلف من سؤالكم، فلا تعودوا إلى مثلها، وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ لا يعاجلكم بعقوبة ما فرط منكم ويعفو عن كثير. قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ حيث لم يأتمروا بما سألوا، وجحدوا، وذلك أن بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء فإذا أُمروا بها تركوها، فهلكوا. فالكفر هنا عبارة عن ترك ما أُمروا به. وقال الطبري: كقوم صالح في سؤالهم الناقة، وكبني إسرائيل في سؤالهم المائدة. زاد الشلبي: وكقريش في سؤالهم أن يجعل الله الصفا ذهبًا. هـ. وكسؤالهم انشقاق القمر، وغير ذلك من تعنيتاتهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: مذهب الصوفية مبني على السكوت والتسليم والصدق والتصديق، مجلسهم مجلس حلم وعلم وسكينة ووقار، إن تكلم كبيرهم أنصتوا، كأن على رءوسهم الطير، كما كان الصحابة- رضى الله عنهم-، ولذلك قالوا: من قال لشيخه: (لِمَ) لَمْ يفلح أبدًا. وقال الشيخ أبو الحسن رضى الله عنه: إذا جلست مع الكبراء فدع ما تعلم وما لا تعلم لتفوز بالسر المكنون. هـ.
وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ اللهَ يَنهَاكُم عَن قِيلَ وقَالَ، وكَثرة السُّؤالِ، وإضَاعَة المَالِ» «٢». وقال الورتجبي:
في الآية تحذير المريدين عن كثرة سؤالهم في البداية عن حالات المشايخ. هـ. قلت: وعلة النهي: لعله يطلع، بكثرة البحث عن حالهم، على أمور توجب له نفرة أو غضًّا من مرتبتهم قبل تربية يقينة، فالصواب: السكوت عن أحوالهم، واعتقاد الكمال فيهم، وكذلك يجب عليه ترك السؤال عن أحوال الناس، والغيبة عما هم فيه شغلا بما هو متوجه إليه، وإلا ضاع وقته، وتشتت قلبه، ولله در القائل:
ولَستُ بِسائِلٍ مَا دُمتُ حَيًّا أسَارَ الجَيشُ أم رَكِبَ الأمِيرُ؟
والله تعالى أعلم.
(١) أخرجه أحمد فى المسند ٢/ ٥٠٨ ومسلم فى (الحج، باب فرض الحج فى العمر) عن أبى هريرة رضى الله عنه.
(٢) أخرجه البخاري فى (الأدب، باب عقوق الوالدين من الكبائر) ومسلم فى (الأقضية، باب النهى عن كثرة المسائل من غير حاجة..) عن حديث أبى هريرة رضى الله عنه.
82
ومن جملة ما وقع السؤال عنه: البحيرة وما معها، فأجابهم الحق- تعالى- بقوله:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٤]
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤)
قلت: البحيرة: فعلية بمعنى مفعولة، من بَحَرَ، إذا شق، وذلك أن الناقة كانت إذا ولدت عندهم في الجاهلية عشرة أبطن، شقوا أذنها، وتركوها ترعى، ولا ينتفع بها، وأما السائبة فكان الرجل يقول: إذا قدمت من سفري، أو برئت من مرضي، فناقتي سائبة، فإذا قدم أو برىء سيّبها لآلهتهم، فلا تُحلَب، ولا تُركب، ولا تُمنَع من شجر، وقد يُسَيّبُون غير الناقة، فإذا سيّبوا العبد فلا يكون عليه ولاء لأحد، وإن قال ذلك، اليوم، فحمله على العتق، وولاؤه للمسلمين، وفعل ذلك- اليوم- في الحيوان حرام، كما يفعله جهلة النساء في الديك الأبيض يحرر حتى يموت، فإذا فعل ذلك ذبح وأكل.
وأما الوصيلة: فكانوا إذا ولدت الناقة ذكرًا وأنثى متصلين، قالوا: وصلت الناقة أخاها، فلم يذبحوها، وأما الحام:
فكانوا إذا نتج من الجمل عشرة أبطن، قالوا: قد حُمي ظهرُه، فلا يُركب ولا يُحمل عليه.
يقول الحق جلّ جلاله في إبطال هذه الأشياء: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ أي: ما شرع الله شيئًا من ذلك، ولا أمر به، وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بتحريم ذلك، ونسبته إليه، وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ، أي: جُلهم لا عقل لهم، بل هم مقلدون غيرهم في تحريم ذلك، وتقليد الآباء والرؤساء في تحريم ما أحل الله- تعالى- شرك لأنهم نَزَّلَوا غير الله منزلته في التحريم والتحليل، وهو كفر، وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ من الحلال والحرام، قالُوا حَسْبُنا أي: يكفينا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا، وهذا بيان لقصور عقولهم وانهماكهم في التقليد، قال تعالى: أيتبعونهم وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ سبيلاً.
قال البيضاوي: الواو للحال، والهمزة دخلت عليها لإنكار الفعل على هذه الحال، أي: أحسَبُهم ما وجدوا عليه آباءهم ولو كانوا جهلة ضالين؟ والمعنى: أن الاقتداء إنما يصح لمن عُلِمَ أنه عالم مهتد، وذلك لا يعرف إلا بالحجة، فلا يكفي التقليد. هـ.
الإشارة: قد نفى الله تعالى الخصوصية عن أربعة أنفس من أنفس المدعين، منها: نفس دخلت بحر الحقيقة بالعلم، وتبحرت في علمها دون الحال والذوق، وأهملت مراسم الشريعة حتى سقطت هيبتها من قلبها، فانسل منها الإيمان والإسلام انسلال الشعرة من العجين. ومنها نفس سائبة أهملت المجاهدة وانسابت في الغفلة، وأخذت
الولاية بالوراثة من أسلافها، دعوى، أو ظهرت عليها خوارق، استدارجا، مع إصرارها على كبائر العيوب، ومنها:
نفس وصلت إلى الأولياء وصحبتهم، وخرجت عنهم قبل كمال التربية، وتصدرت للشيخوخة قبل إبانها، ومنها:
نفس حمت ظهرها من التجريد، ووفرت جاهها مع العبيد، وادعت كمال التوحيد وأسرار التفريد، لمجرد مطالعة الأوراق، من غير صحبة أهل الأذواق، وهؤلاء بعداء من حيث يظنون القرب، مردودون من حيث يظنون القبول، والعياذ بالله من الدعوى وغلبة الهوى، فإذا قيل لهؤلاء: تعالوا إلى من يعرفكم بربكم، ويخرجكم من سجن نفوسكم، قالوا: نتبعُ ما وجدنا عليه أسلافنا، فيقال لهم: أتتبعونهم ولو كانوا جاهلين بالله؟
ثم نهى الله تعالى أهل التحقيق عن التعرض لمثل هؤلاء بعد نصحهم، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
قلت: (عليكم) : اسم فعل، وفاعله مستتر فيه وجوبًا، و (أنفسكم) : مفعول به على حذف مضاف أي: الزموا شأن أنفسكم. قاله الأزهري.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ: احفظوها والزموا صلاحها، لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ أنتم، أي: لا يضركم ضلال غيركم إذا كنتم مهتدين ومن الاهتداء أن ينكر المنكر حسب طاقته، قال صلّى الله عليه وسلّم: «مَن رَأى مِنكُم مُنكَرًا، واستطَاعَ أن يُغيِّره بَيدِه، فَليغَيِّر، فإنَّ لم يَستَطِع فَبِلسانِه، فإن لم يَستَطعِ فَبقَلبِه». والآية نزلت حيث كان المؤمنون يحرصون على الكفرة، ويتمنون إيمانهم، وقيل: كان الرجل إذا أسلم قالوا له: سفهت آباءك، فلاموه، فنزلت.
وعن أبي ثعلبة الخشني قال: سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم عن قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ؟
فقال: «أئتِمَرُوا بالمَعرُوِفِ، وانهوا عن المُنكَرِ، فإذَا رَأيتَ دُنيا مُؤثَرةٍ، وشُحًا مُطاعًا، وإعجَابَ كُلِّ ذِي رأي بِرأيِه، فَعَليكَ بخويصة نَفسِك، وَذَر عوامَهم فإنّ وَراءكُم أيامًا، العامِلُ فيها كأجرِ خَمسِينَ مِنكُم» «١».
وعن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه بلغه أن بعض الناس تأول الآية على أنه لا يلزم معها أمر ولا نهي، فصعد المنبر، فقال: (يا أيها الناس: لا تغتروا بقول الله تعالى: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فيقول أحدكم: عليّ نفسي، والله لتأمُرن بالمعروف، ولتنهَوُنَّ عن المنكر أو ليستعملن عليكم شرارَكم فليسُومُنكم سوء العذاب). وعن ابن مسعود رضى الله عنه قال:
(ليس هذا بزمان هذه الآية، قولوا الحق ما قُبِلَ منكم، فإذا رُدّ عليكم فعليكم أنفسكم).
(١) أخرجه الترمذي فى: (التفسير، باب: ومن سورة المائدة) وابن ماجه فى (الفتن، باب قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وأبو داود فى (الملاحم باب الأمر والنهى) وصححه الحاكم فى المستدرك ٤/ ٣٢٢ ووافقه الذهبي.
قال ابن عطية: وجملة ما عليه أهلُ العلم في هذا: أن الأمر بالمعروف متعين متى رجى القبول، أو رجى رد المظالم، ولو بعُنف، ما لم يخف الآمِرُ ضررًا يلحقه في خاصته، أو فتنة يدخلها على المسلمين، إما بشق عصًا، وإما بضرر يلحق طائفة من الناس، فإذا خيف هذا فعليكم أنفسكم، حُكمٌ واجب أن يوقف عنده. هـ.
ثم هدَّد مَن لم ينته، فقال: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وفيه تنبيه على أن أحدًا لا يؤاخذ بذنب غيره، وتسليةٌ عن أمور الدنيا مكروهها ومحبوبها، بذكر الحشر وما بعده، وعن بعض الصالحين أنه قال: ما من يوم إلاَّ يجييئنى الشيطان فيقول: ما تأكل؟ وما تلبس؟ وأين تسكن؟ فأقول له: آكل الموت، وألبس الكفن، وأسكن القبور. هـ.
الإشارة: في الآية إغراء وتحضيض على الاعتناء بإصلاح النفوس وتطهيرها من الرذائل، وتحليتها بالفضائل، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عليكم بإصلاح أنفسكم أولاً، فإذا صلحت فأصلحوا غيركم، فعلى العبد أن يشتغل بشأن نفسه ولا يلتفت إلى غيره، حتى إذا كمل تطهيرُها، وفرغ من تأديبها، فإن أمره الحق- جل جلاله- بإصلاح غيره على لسان شيخ كامل، أو هاتف حقيقي، فليتقدم لذلك، فإنه حينئٍذ محمول محفوظ مأذون، وإلا فعليه بخاصة نفسه، كما تقدّم. والله- تعالى- أعلم.
ولما جرى ذكر المرجع وما بعده، ولا يكون إلا بالموت، ناسب أن يذكر الوصية، التي من شأنها أن تكون عندها، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨)
قلت: (شهادة) : مبتدأ، وخبره: (اثنان)، أي: مقيم شهادة بينكم اثنان، أو حذف الخبر، أي: فيما أمرتكم شهادة بينكم، و (اثنان) على هذا: فاعل شهادة، و (إذا) : ظرف لشهادة، و (حين الوصية) : بدل منه، ويجوز أن يكون (إذا) : شرطية حذف جوابها، أي: إذا حضر الموت فينبغي أن يشهد حين الوصية اثنان، و (ذوا عدل) : صفة
85
لاثنان، أو (آخران) : عطف على (اثنان)، (إن أنتم) : شرط حذف جوابه، دل عليه ما تقدم، أي: إن سافرتم، فأصابتكم مصيبة الموت في السفر، فشهادة بينكم اثنان.
و (تحبسونهما) : قال أبو علي الفارسي: هو صفة لآخران، واعترض بين الصفة والموصوف قوله: (إن أنتم) إلى قوله: (الموت)، ليفيدا العد، لأن (آخران) من غير الملة، إنما يجوز لضرورة الضرب في الأرض وحلول الموت في السفر. وقال الزمخشري: هو استئناف كلام، (إن ارتبتم) : شرطية، وجوابها محذوف، دلّ عليه (يقسمان)، و (لا نشتري) هو المقسم عليه، وجملة الشرط معترضة بين القسم والمقسَم عليه، والتقدير: إن ارتبتم في صدقهما فأقسما بالله لا نشتري به، أي: بالقسم، ثمنًا قليلاً من الدنيا، و (الأوليان) : خبر، فيمن قرأ بالبناء للمفعول، أو فاعل، فيمن قرأ بالبناء للفاعل، ومن قرأ (الأولين) - تثنية أول- فبدل من الذين، أو صفة له. قال مكّي: (هذه الآية أشكل آية في القرآن إعرابًا ومعنى).
وسبب نزولها: أن تميمًا الدَّاريَّ وعَدي بن بداء- وكانا أخوين-، خرجا إلى الشام للتجارة- وهما حينئٍذ نَصرانيّان- ومعهما بُدَيلٌ مولَى عمرو بن العاصَ، وكان مُسلمًا، فلمّا قَدِما الشام مَرِضَ بُديلٌ، فدون ما مَعَه في صَحيفةٍ، وطرحها في متَاعه، وشدّ عليها، ولم يُخبرهُما بها، وأوصى إليهمَا بان يَدفعا مَتَاعَه إلى أهلِه، ومات، ففتّشاه، وأخذا منه إنَاءً من فِضّة، قيمته: ثلاثُمائة مثقالٍ، مَنقُوشًا بالذَهبِ، فجنّباه ودفَعَا المتَاعَ إلى أهلِهِ، فأصَابُوا الصَّحِيفَةَ، فطَالبُوهُمَا بِالإناء، فجَحَدا، فترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إلى قوله: لَمِنَ الْآثِمِينَ فحلّفَهما رسول الله صلى الله عليه وسلّم، بعد صلاة العصر، عند المنبر، وخلا سبيلهما، ثم عثر بعد مدة على الإناء بمكة، فقيل لمن وجد عنده: من أين لك هذا؟ قال: اشتريته من تميم الداري وعديّ بن بداء، فرفع بنو سهم الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فنزلت: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما، فقام عمرو بن العاصَ والمطلب بن أبي وَداعة السهميان، فحلفا واستحقا الإناء «١».
ومعنى الآية: يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، مما نأمركم به: أن تقع شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ، وأراد الوصية فيحضر عدلان منكم، فإن كنتم في سفر وتعذر العدلان منكم، فليشهد آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ممن ليس على دينكم، ثم إن وقع ارتياب في شهادتهما، تَحْبِسُونَهُما بعد صلاة العصر فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ ما كتمنا، ولا خُنَّا، ولا نشتري بالقسم أو بالله عرضًا قليلاً من الدنيا، ولو كان المحلوف له قريبًا منا، وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً، إن كتمنا، لَمِنَ الْآثِمِينَ.
(١) أخرجه الترمذي فى: (التفسير، سورة المائدة) عن ابن عباس عن تميم الداري، وقال الترمذي: ليس إسناده بصحيحه. وأخرجه مختصرا البخاري فى (الوصايا، باب قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) عن ابن عباس قال: خرج رجل من بنى سهم مع تميم الداري وعديّ بن بداء. وذكره مختصرا.
86
فإذا حلفا خلّي سبيلهما، فَإِنْ عُثِرَ بعد ذلك عَلى كذبهما وأَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً بسبب كذبهما، فَآخَرانِ من رهط الميت يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ المال المسروق، اللذان هم الْأَوْلَيانِ أي: الأحقان بالشهادة، فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ فيقولان: والله لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما، وأصدق، وأولى بأن تقبل، وَمَا اعْتَدَيْنا: وما تجاوزنا فيها الحق، إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ، فإن حلفا غرم الشاهدان ما ظهر عليهما، وتحليف الشهود منسوخ، وهذا الحكم خاص بهذه القضية.
قال البيضاوي: الحكم منسوخ إن كان الاثنان شاهدين، فإنه لا يحلف الشاهد، ولا تُعارِضُ يمينه يمينَ الوارث، وثابت إن كانا وصيين. هـ. وكذا شهادة غير أهل الملة منسوخة أيضًا، واعتبار صلاة العصر للتغليظ، وتخصيص الحلف في الآية باثنين من أقرب الورثة لخصوص الواقعة. قاله السيوطي.
قال تعالى: ذلِكَ أي: تحليف الشهود، أَدْنى أي: أقرب أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها كما تحملوها من غير تحريف ولا خيانة فيها، أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ أي: أو أقرب لأن يخافوا أن ترد اليمين على المدعين بعد أيمانهم، فيفتضحوا بظهور الخيانة واليمين الكاذبة، وإنما جمع الضمير، لأنه حكم يعم الشهود كلهم، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا ما تُوصون به، فإن لم تتقوا ولم تسمعوا كنتم قومًا فاسقين، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي: لا يهديهم إلى حجة أو إلى طريق الجنة.
الإشارة: أمر الحق- جلّ جلاله- في الآية المتقدمة، بالاعتناء بشأن الأنفس، بتزكيتها وتحليتها وأمر في هذه الآية بالاعتناء بشأن الأموال بحفظها، والأمر بالإيصاء عليها ودفعها لمستحقها إذ كلاهما يقربان إلى رضوان الله، ويوصلان إلى حضرته، وقد كان في الصحابة من قربه ماله، وفيهم من قربه فقره، وكذلك الأولياء، منهم من نال الولاية من جهة المال أنفقه على شيخه فوصله من حينه، ومنهم من نال من جهة فقره أنفق نفسه في خدمة شيخه، وقد رُوِيَ أن سيدي يوسف الفاسي أنفق على شيخه قناطير من المال، قيل: أربعين، وقيل: أقل. والله تعالى أعلم.
ولما أمرهم بالتقوى، ذكر اليوم الذي تجنى فيه ثمراتها، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٩]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لاَ عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩)
قلت: (يوم) : بدل من (الله)، بدل اشتمال، أي: اتقوا يوم الجمع، أو ظرف لاذكُر، و (ماذا) : منصوب على المصدر، أي: أيّ إجابة أُجبتم.
يقول الحق جلّ جلاله: واذكر يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ والأمم يوم القيامة فَيَقُولُ للرسل: ماذا أُجِبْتُمْ؟ أي: ما الذي أجابكم به قومكم، هل هو كفر أو إيمان، طاعة أو عصيان؟ والمراد بهذا السؤال توبيخ مَن
كفر من الأمم، وإقامة الحجة عليهم، فيقولون له في الجواب: لا عِلْمَ لَنا مع علمك، تأدبوا فوكلوا العلم إليه، أو علمنا ساقط في جنب علمك إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ لأن من علم الخفيات لا تخفي عليه الظواهر والبواطن، وقرىء بنصب علام، على إن الكلام قد تم بقوله: إِنَّكَ أَنْتَ أي: إنك الموصوف بصفاتك المعروفة، وعلام نصب على الاختصاص أو النداء. قاله البيضاوي.
الإشارة: من حجة الله على عباده، أن بعث في كل أمة نذيرا يدعو إلى الله، أما عارفًا يعرف بالله، أو عالمًا يعلم أحكام الله، ثم يجمعهم يوم القيامة فيسألهم: ماذا أجيبوا، وهل قوبلوا بالتصديق والإقرار، أو قوبلوا بالتكذيب والإنكار؟ فتقوم الحجة على العوام بالعلماء، وعلى الخواص بالعارفين الكُبراء، أهل التربية النبوية، فلا ينجو من العتاب إلا من ارتفع عنه الحجاب، بصحبة العارفين وتعظيمهم وخدمتهم، إذ لا يتخلص من العيوب إلا من صحبهم وأحبهم وملّك نفسه إليهم. والله تعالى أعلم.
ثم خص عيسى عليه السّلام بتذكير النعم يوم الجمع توطئة لتوبيخ من عبده من دون الله، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١١٠ الى ١١١]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١)
قلت: (إذ) : بدل من (يوم يجمع)، أو باذكر، وجملة (تكلم) : حال من مفعول (أيدتك).
يقول الحق جلّ جلاله: واذكر إِذْ يقول الله- جل وعز- يوم القيامة: يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ بالنبوة والرسالة، وعلى أمك بالاصطفائية والصديقية، وذلك حين أَيَّدْتُكَ أي: قويتك بِرُوحِ الْقُدُسِ، وهو جبريل عليه السلام كان لا يفارقك في سفر ولا حضر، أو بالكلام الذي تحيا به الأنفس والأرواح، الحياة الأبدية. كنت تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ أي: كائنًا في المهد وَكَهْلًا أي: تكلم في الطفولة والكهولة بكلام يكون سببًا في حياة القلوب، وبه استدل أنه ينزل، لأنه رفع قبل أن يكتهل، وَاذكر إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ أي: الكتابة،
وَالْحِكْمَةَ: النبوة وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي، وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي، وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وتقدم تفسيرها في آل عمران. «١»
وكرر بِإِذْنِي مع كل معجزة إبطالا لدعوى الربوبية فيه، إذ قد عزله عن قدرته ومشيئته مع كل معجزة. قال ابن جزي: الضمير المؤنث- يعنى في «فيها» - يعود على الكاف، لأنها صفة الهيئة، وكذلك المذكور في آل عمران.
فَأَنْفُخُ فِيهِ يعود على الكاف لأنها بمعنى مثل، وإن شئت قلت: هو في الموضعين يعود على الموصوف المحذوف الذي وصف به كهيئة، فتقديره في التأنيث: صورة، وفي التذكير: شخصًا، أو خلقًا وشبه ذلك. هـ.
وَاذكر أيضًا إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ حين هموا بقتلك، إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا سحرًا، أو: قالوا في شأنك حين جئتهم: ما هذا إلا ساحر مبين، وَاذكر أيضًا إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أي: ألهمتهم، أو أمرتهم بأن آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي عيسى، فامتثلوا، وقالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ أي: منقادون ومخلصون.
الإشارة: قال الورتجبي: من تمام نعمة الله- تعالى- عليه صيرورة جسمه بنعت روحه في المهد على شبابه بالقوة الإلهية، بأن نطق بوصف تنزيه الله وقدسه وجلاله، وربويته وفناء العبودية فيه، وبقيت تلك القدرة فيه إلى كهولته، حتى عرّف عباد الله تنزيه الله وقدس صفات الله وحسن جلال الله، وهذا معنى قوله تعالى: تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا، وزاد في وصفه بقوله: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ، تجلى بقدرته بيده حتى يخط بغير تعلم.
هـ. فانظره، مع ما ورد في التاريخ أنه كان يذهب مع الصبيان للمكتب.
ثم ذكر معجزة المائدة، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١١٢ الى ١١٥]
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لآ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥)
(١) راجع تفسير الآية ٤٩ من سورة آل عمران.
89
قلت: (يا عيسى ابن مريم) : ابن هنا بدل، ولذلك كتب بالألف، و (أن ينزل) : مفعول (يستطيع)، ومن قرأ بالخطاب، فمفعول بالمصدر المقدر، أي: سؤال ربك إنزال مائدة، و (لأولنا وآخرنا) : بدل كل، من ضمير (لنا)، لإفادته الإحاطة والشمول كالتوكيد، و (ذلك) : شرط إبدال الظاهر من ضمير الحاضر، وأعيدت اللام مع البدل للفصل، وضمير (لا أعذبه) : ، نائب عن المصدر، أي: لا أعذب ذلك التعذيب أحدًا.
يقول الحق جلّ جلاله: واذكر إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ أي: هل يطيعك ربك في هذا الأمر، أم لا؟ فالاستفهام عن الإسعاف في القدرة، فهو كقول بعض الصحابة لعبد الله بن زيد: هل تستطيع أن ترينا كيف كان يتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ مع جزمهم بأن عبد الله كان قادرًا على تعليمهم الوضوء. فالحواريون جازمون بأن الله- تعالى- قادر على إنزال المائدة، لكنهم شكوا في إسعافه على ذلك.
قال ابن عباس: كان الحواريون أعلم بالله من أن يشكوا أن الله تعالى يقدر على ذلك، وإنما معناه، هل يستطيع لك أي: هل يطيعك، ومثله عن عائشة، وقد أثنى الله- تعالى- على الحواريين، في مواضع من كتابه، فدل أنهم مؤمنون كاملون في الإيمان.
قال لهم عيسى عليه السلام: اتَّقُوا اللَّهَ من أمثال هذا السؤال واقتراح الآيات، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بكمال قدرته وصحة نبوتي، فإنّ كمال الإيمان يوجب الحياء من طلب المعجزة، قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها أكلاً نتشرف به بين الناس، وليس مرادهم شهوة البطن، وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال، أي: نعاين الآية ضرورة ومُشاهدة، فلا تعرض لنا الشكوك التي في الاستدلال، وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا علمًا ضروريًا لا يختلجه وهم ولا شك، وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ أي: نشهد بها عند من لم يحضرها من الناس، أو من الشاهدين للعين، دون السامعين للخبر، وليس الخبر كالعيان، والحاصل: أنهم أرادوا الترقي إلى عين اليقين، دون الأكتفاء بعلم اليقين.
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مسعفًا لهم لما رأى لهم غرضًا صحيحًا في ذلك، رُوِي أنه لبس جبّة شعر، ورداء شعر، وقام يصلي ويدعو ويبكي، وقال: اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا أي: لمتقدمنا ومتأخرنا، يعود علينا وقت نزولها كل عام بالفرح والسرور، فنتخذه عيدًا نحن ومن يأتى بعدنا، وَيكون نزولها آيَةً مِنْكَ على كمال قدرتك وصحة نبوتي، وَارْزُقْنا المائدة والشكر عليها، وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي: خير من يرزق لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا عوض، ونسبة الرزق إلى غيره مجاز. قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ كما طلبتم، فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لآ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ أي: من عالمي زمانهم، أو مطلقًا.
90
قال ابن عمر: (أشدُّ الناس عذاباً يومَ القيامة: من كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون، والمنافقون.) رُوِي أنها نزلت سُفرة حمراء بين غمامتين، وهم ينظرون إليها، حتى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين، اللهم اجعلها رحمة، ولا تجعلها مثلة وعقوبة، ثم قام وتوضأ وصلى وبكى، ثم كشف المنديل، وقال:
بسم الله خير الرازقين، فإذا سمكة مشوية، تسيل دسمًا وعند ذنبها خل، وحولها من أنواع البقول ما خلا الكراث، وخمسة أرغفة، على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد. قال شمعون: يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ قال: ليس منهما، ولكنه اخترعه الله بقدرته، كلوا ما سألتم، واشكروا الله يمدُدكم ويزدكم من فضله، فقالوا: يا روح الله، لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى، فقال:
يا سمكة: احيَى بإذن الله، فاضطربت، ثم قال لها: عودي، فعادت كما كانت، فعادت مشوية، ثم طارت المائدة، ثم عصوا بعدها فمسخوا.
وقيل: كانت تأتيهم أربعين يومًا، غِبًّا «١»، يجتمع عليها الفقراء والأغنياء والصغار والكبار، يأكلون، فإذا فرغوا، طارت وهم ينظرون في ظلها، ولم يأكل منها فقير إلا غني مدة عمره، ولا مريض إلا برىء ولم يمرض أبدًا، ثم أوحى الله إلى عيسى: أن اجعل مائدتي في الفقراء والمرضى دون الأغنياء والأصحاء، فاضطرب الناس، فمسخ منهم ثلاثة وثمانون. وقيل: لما وعد الله إنزالها بهذه الشريطة، استغفروا وقالوا: لا نريد، فلم تنزل. قلت: المشهور أنها نزلت، ويحكى أن أرجلها باقية بجزيرة الأندلس. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في سؤال الحواريين لسيدنا عيسى عليه السلام قلة آدب من وجهين: أحدهما: خطابه بقوله: (يا عيسى ابن مريم) وقد كانت هذه الأمة المحمدية تخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يا رسول الله، يا نبي الله، لكمال أدبها، وبذلك شرفت وعظم قدرها، فالأدب عند الصوفية ركن عظيم، بل هو روح التصوف وقطب دائرته، قال بعضهم: (اجعل عَمَلك مِلحًا، وأدبك دقيقًا)، والكلام فيه عندهم طويل شهير.
والوجه الثاني: ما في قولهم: (هل يستطيع ربك) من بشاعة التعبير، وسوء اللفظ، حتى اتهموا بالكفر من أجله.
وقد تقدم تأويله، وأما سؤالهم المائدة، فقال بعض الصوفية: هي عبارة عن المعارف والأسرار الربانية التي هي قوت الأرواح السماوية، فقوت الأشباح الأرضية ما يخرج من الأرض من الأقوات الحسية، وقوت الأرواح السماوية ما ينزلُ من السماء من العلوم اللدنية والأسرار الربانية، ينزل على قلوب العارفين، ثم يبرز منها إلى قلوب عائلة المستمعين، ولما طلبوها قبل إبانها وقبل الاستعداد لها، قال لهم: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فلما ألحوا فى
(١) أي: يوما بعد يوم، ليكون أشهى وأحب- انظر حاشية الشهاب ٣/ ٣٠٢.
91
السؤال، بيَّن الحق لهم أن إنزالها سهل على قدرته، لكن فيه خطر وسوء عاقبة، لأن الحقائق قد تضر بالمريد إذا لم يكمل أدبه واستعداده، فلما بينوا مرادهم من كمال الطمأنية واليقين دعا الله- تعالى- فوعدهم بالإنزال مع دوام الإيمان وكمال الإيقان، فمن كفر بها، ولم يعرف قدرها، عذب بعذاب لم يعذبه أحد من العالمين، وهو الطرد والبعد من ساحة حضرة رب العالمين. والله تعالى أعلم.
ثم وبخ من عبد عيسى من الكفرة، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١١٦ الى ١٢٠]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)
قلت: (من دون الله) : صفة لإلاهين، أو صلة (اتخذوني)، و (أن أعبدوا) : تفسيرية للمأمور به، أو بدل من ضمير به، وليس من شرط البدل جواز طرح المبدل منه مطلقًا لئلا يلزم منه بقاء الموصول بلا راجع، أو عطف بيان له، أو خبر عن مضمر، أي: هو، أو مفعول به، أي: أعني، ولا يجوز إبداله من (ما) لأن المصدر لا يكون مفعولاً للقول لأنه مفرد، والقول لا يعمل إلا في الجمل أو ما في معناه.
(يوم ينفع) من نصب جعله ظرفًا لقال، أو ظرف، مستقر خبرِ (هذا) والمعنى: هذا الذي مَرّ من كلام عيسى، واقع يوم ينفع، الخ، وأجاز ابن مالك أن يكون مبنيًّا، قال في ألفيته:
وقَبل فَعل مُعَرب أو مُبتَدا أعرِب، ومَن بَنَا فَلَن يُفَنَّدَا «١»
ومَن رفع، فخبر، وهو ظرف متصرف.
(١) أنظر الألفية، باب الإضافة.
92
يقول الحق جلّ جلاله: واذكر إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى بعد رفعه إلى السماء، أو يقوله له يوم القيامة، وهو الصحيح، بدليل قوله: قالَ اللَّهُ هذا الخ، فإن اليوم الذي يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ هو يوم القيامة، فيقول له حينئذٍ: أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ يريد به توبيخ الكفار الذين عبدوه وتبكيتهم، وفيه تنبيه على أن من عبد مع الله غيره فكأنه لم يعبد الله قط، إذ لا عبرة بعبادة من أشرك معه غيره.
قالَ عيسى عليه السلام مبرءًا نفسه من ذلك وقد أرعد من الهيبة: سُبْحانَكَ أي: تنزيهًا لك من أن يكون لك شريك، ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ أي: ما ينبغي لي أنْ أقولَ ما لا يجوز لي أن أقوله، إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ، وكَلَ العلم إلى الله لتظهر براءته لأن الله علم أنه لم يقل ذلك، تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ أي: تعلم ما أخفيته في نفسي، كما تعلم ما أعلنته، ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك، سلك في اللفظ مسلك المشاكلة، فعبّر بالنفس عن الذات. إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ لا يخفى عليك شيء من الأقوال والأفعال.
ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ وهو عبادة الله وحده، فقلت لهم: اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ، وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً أي: رقيبًا عليهم، أمنعهم أن يقولوا ذلك أو يعتقدوه. ما دُمْتُ فِيهِمْ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي بالرفع إلى السماء، أي: توفيت أجلي من الأرض. والتوفي أخذ الشيء وافيًا، فلما رفعتني إلى السماء كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ أي: المراقب لأحوالهم وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ: مطّلع عليه مراقب له.
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وأنت مالك لهم، ولا اعتراض على المالك في ملكه، وفيه تنبيه على أنهم استحقوا العذاب، أي: لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فلا عجز ولا استقباح، فإنك القادر والقوي على الثواب والعقاب بلا سبب، ولا تُعاقب إلا عن حكمة وصواب، فإن عذبت فعدل، وإن غفرت ففضل، وعدم غفران الشرك مقتضى الوعيد، فلا امتناع فيه لذاته ليمتنع الترديد والتعليق بإن.
قاله البيضاوي.
وقال ابن جزي: فيه سؤالان: الأول: كيف قال: إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ وهم كفار، والكفار لا يغفر لهم؟
فالجواب: أن المعنى تسليم الأمر إلى الله، وإنه إن عذب أو غفر فلا اعتراض عليه لأن الخلق عباده، والمالك يفعل ما يشاء، ولا يلزم من هذا وقوع المغفرة للكفار، وإنما يقتضي جوازها في حكمة الله وعزته، وفَرقٌ بين الجواز والوقوع، وأما على قول من قال: إن هذا الخطاب وقع لعيسى عليه السلام حين رفعه الله إلى السماء فلا إشكال، لأن المعنى: إن تغفر لهم بالتوبة، وكانوا حينئذٍ أحياء، وكل حيى مُعرض للتوبة.
السؤال الثاني: ما مناسبة قوله: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لقوله: إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ، والأليق إن قال: فإنك أنت الغفور الرحيم؟ فالجواب: أنه لما قصد التسليم له والتعظيم، كان قوله: (فإنك أنت العزيز الحكيم) أليق، فإن الحكمة
93
تقتضي التسليم، والعزة تقتضي التعظيم، فإن العزيز هو الذي يفعل ما يريد، ولا يغلبه غيره، ولا يمتنع عليه شيء أراده، فاقتضى الكلام تفويضُ الأمر إلى الله في المغفرة لهم أو عدمها لأنه قادر على كلا الأمرين لعزته، وأيهما فعل فهو جميل لحكمته. وقال أبو جعفر بن الزبير: إنما لم يقل الغفور الرحيم لئلا يكون شفيعًا لهم بطلب المغفرة، فاقتصر على التسليم والتفويض، دون الطلب، إذ لا نصيب في المغفرة للكفار. انظر بقية كلامه.
قال التفتازاني: ذكر المغفرة، يوُهم أن الفاصلة: (الغفور الرحيم)، لكن يُعرف بعد التأمل أن الواجب هو العزيز الحكيم لأنه لا يغفر لمن يستحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه، وهو العزيز، أي: الغالب، ثم وجب أن يوصف بالحكمة على سبيل الاحتراس لئلا يتوهم أنه خارج عن الحكمة. هـ.
قال الله تعالى: هذا أي: يوم القيامة يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ أي: هنا ينتفع الصادقون في الدنيا بصدقهم، ويفتضح الكاذبون على الله بكذبهم. والمراد بالصادقين أهل التوحيد، الذين نزهوا الله تعالى عما لا يليق بجلاله وجماله، فصدقوا فيما وصفوا به ربهم.
ثم ذكر ما وعدهم به، فقال: لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ حيث رضوا بأحكامه القهرية والتكليفية، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وهذا تنبيه على تكذيب النصارى، وفساد دعواهم في المسيح وأمه، وإنما لم يقل: ومن فيهن، تغليبًا لغير العقلاء، وإنما غلبَ غير أولى العقل للإعلام بأنهم في غاية القصور عن معنى الربوبية، وإهانة لهم وتنبيهًا على أنهم جنس واحد، فمن يعقل منهم لقصور عقله ونظره كمن لا يعقل، فيبعد استحقاقهم للألوهية التي تنبىء عن تمام الحكمة وإحاطة العلم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل من صَدّر نفسه للشيخوخة من غير إذن، وأشار إلى تعظيمه بلسان الحال أو المقال يَلحَقُهُ العتاب يوم القيامة فيقال له: أأنت قلت للناس عظموني من دون الله؟ فإن كان مقصوده بالأمر بالتعظيم الوصول إلى تعظيم الحق تعالى، والأدب معه في الحضرة دون الوقوف مع الواسطة، وبذل جهده في توصيل المريدين إلى هذا المقام، يقول: سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق، إلى تمام ما قال السيد عيسى عليه السلام، فيقال له:
(هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم). وإن كان مقصوده بالتصدّر للتعظيم والآمر به، حظ نفسه، وفَرَح بتربية جاهه والإقبال عليه، افتضح وأُهين بما افتضح به الكاذبون المدعون. نسأل الله تعالى الحفظ والرعاية بمنِّه وكرمه، وسيدنا محمد رسوله ونبيه- صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه وسلّم-.
94
Icon