تفسير سورة المائدة

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه الجصاص . المتوفي سنة 370 هـ

مطلب : في عقود الجاهلية وعقود الإسلام
قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّها الّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بِالعُقُودِ ﴾ رُوي عن ابن عباس ومجاهد ومطرف والربيع والضحّاك والسدّي وابن جريج والثوري قالوا :" العقود في هذا الموضع أراد بها العهود ". وروى معمر عن قتادة قال :" هي عقود الجاهلية الحلف ". وروى جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لا حِلْفَ في الإِسْلامِ وأمّا حِلْفُ الجَاهِلِيَّةِ فلم يَزِدْهُ الإسْلامُ إلاّ شِدَّةً ". وروى ابن عيينة عن عاصم الأحول قال : سمعت أنس بن مالك يقول : حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا ؛ فقيل له : قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا حلف في الإسلامِ وما كان في الجاهلية فلم يَزِدْهُ الإسلامُ إلاّ شدَّةً " فقال : حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا. قال ابن عيينة :" إنما آخى بين المهاجرين والأنصار ".
قال أبو بكر : قال الله تعالى :﴿ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ﴾ [ النساء : ٣٣ ] فلم يختلف المفسرون أنهم في أول الإسلام قد كانوا يتوارثون بالحلف دون النسب وهو معنى قوله :﴿ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ﴾ [ النساء : ٣٣ ] إلى أن جعل الله ذوي الأرحام أوْلى من الحليف بقوله :﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين ﴾ [ الأنفال : ٧٥ ]، فقد كان حلف الإسلام على التناصر والتوارث ثابتاً صحيحاً. وأما قوله :" لا حلف في الإسلام " فإنه جائز أن يريد به الحِلْفَ على الوجوه التي كان عليه الحلف في الجاهلية، وكان هذا القول منه بعد نسخ التوارث بالحلف. وقد كان حِلْفُ الجاهلية على وجوه : منها الحلف في التناصر، فيقول أحدهما لصاحبه إذا حالفه :" دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك " فيتعاقدان الحلفَ على أن ينصر كل واحد منهما صاحبه فيدفع عنه ويحميه بحق كان ذلك أو بباطل ؛ ومثله لا يجوز في الإسلام لأنه لا يجوز أن يتعاقدا الحلف على أن ينصره على الباطل ولا أن يزوي ميراثه عن ذي أرحامه ويجعله لحليفه ؛ فهذا أحد وجوه الحلف الذي لا يجوز مثله في الإسلام. وقد كانوا يتعاقدون الحلف للحماية والدفع، وكانوا يدفعون إلى ضرورة لأنهم كانوا نَشَراً لا سلطان عليهم ينصف المظلوم من الظالم ويمنع القوي عن الضعيف، فكانت الضرورة تؤديهم إلى التحالف فيمتنع به بعضهم من بعض، وكان ذلك معظم ما يراد الحلف من أجله، ومن أجل ذلك كانوا يحتاجون إلى الجوار وهو أن يُجِيرَ الرجل أو الجماعة أو العير على قبيلة ويؤمنهم فلا ينداه مكروه منهم ؛ فجائز أن يكون أراد بقوله :" لا حلف في الإسلام " هذا الضرب من الحلف. وقد كانوا يحتاجون إلى الحلف في أول الإسلام لكثرة أعدائهم من سائر المشركين ومن يهود المدينة ومن المنافقين، فلما أعزّ الله الإسلام وكثر أهله وامتنعوا بأنفسهم وظهروا على أعدائهم، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم باستغنائهم عن التحالف لأنهم قد صاروا كلهم يداً واحدة على أعدائهم من الكفار بما أوجب الله عليهم من التناصر والموالاة بقوله تعالى :﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾ [ التوبة : ٧١ ]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" المُؤْمِنُونَ يَدٌ على مَنْ سِوَاهُمْ "، وقال :" ثَلاثٌ لا يُغَلُّ عليهنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ : إخْلاصُ العَمَلِ لله، والنَّصِيحَةُ لوُلاةِ الأمْرِ، ولُزُومُ جَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ، فإنّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ ". فزال التناصر بالحلف وزال الجوار، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعديّ بن حاتم :" ولَعَلَّكَ أَنْ تَعِيشَ حَتَّى تَرَى المَرْأَةَ تَخْرُجُ مِنَ القَادِسِيَّةِ إلى اليَمَنِ بِغَيْرِ جِوَارٍ "، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :" لا حلف في الإسلام ". وأما قوله :" وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة " فإنما يعني به الوفاء بالعهد مما هو مجوّز في العقول مستحسن فيها، نحو الحلف الذي عقده الزبير بن عبدالمطلب، قال النبي صلى الله عليه وسلم :" ما أحِبُّ أَنّ لي بحِلْفٍ حَضَرْتُهُ حُمْرَ النَّعَمِ في دَارِ ابْنِ جُدْعَانَ وأني أغدر به : هَاشِمٌ وزُهْرَةُ وتَيْمٌ تَحَالَفُوا أَنْ يَكُونُوا مَعَ المَظْلُومِ مَا بَلَّ بَحْرٌ صُوفَةً، ولو دُعِيتُ إلى مِثْلِهِ في الإِسْلامِ لأَجَبْتُ وهو حِلْفُ الفُضُولِ ". وقيل إن الحلف كان على منع المظلوم وعلى التأسّي في المعاش، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه حضر هذا الحلف قبل النبوّة وأنه لو دُعي إلى مثله في الإسلام لأجاب ؛ لأن الله تعالى قد أمر المؤمنين بذلك، وهو شيءٌ مستحسنٌ في العقول، بل واجب فيها قبل ورود الشرع ؛ فعلمنا أن قوله :" لا حلف في الإسلام " إنما أراد به الذي لا تُجَوِّزُهُ العقول ولا تُبيحه الشريعة. وقد رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" حَضَرْتُ حِلْفَ المُطَيّبِينَ وأنا غُلامٌ، وما أُحِبُّ أنْ أَنْكُثَهُ وأَنَّ لي حُمْرَ النَّعَمِ ". وقد كان حلف المطيبين بين قريش على أن يدفعوا عن الحرم من أراد انتهاك حرمته بالقتال فيه. وأما قوله :" وما كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدّة " فهو نحو حلف المطيّبين وحلف الفضول، وكل ما يلزم الوفاء به من المعاقدة دون ما كان منه معصية لا تجوّزه الشريعة.
والعَقْدُ في اللغة هو الشَّدُّ، تقول : عقدتُ الحبل، إذا شَدَدْتَهُ. واليمينُ على المستقبل تسمى عَقْداً، قال الله تعالى :﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ﴾ [ المائدة : ٨٩ ] ؛ والحلف يسمَّى عقداً، قال الله تعالى :﴿ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ﴾ [ النساء : ٣٣ ]. وقال أبو عبيدة في قوله :﴿ أوْفُوا بالعُقُودِ ﴾ قال :" هي العهود والأيمان ". ورُوي عن جابر في قوله :﴿ أوْفُوا بالعُقُودِ ﴾ قال :" هي عقدة النكاح والبيع والحلف والعهد "، وزاد زيد بن أسلم من قِبَلِهِ :" وعقد الشركة وعقد اليمين ". وروى وَكِيعٌ عن موسى بن عبيدة عن أخيه عبدالله بن عبيدة قال :" العقود ستة : عقد الأيمان، وعقد النكاح، وعقدة العهد، وعقدة الشِّرَى والبيع، وعقدة الحلف ".
وقال أبو بكر : العَقْدُ ما يعقده العاقد على أمْرٍ يفعله هو أن يعقد على غيره فعله على وجه إلزامه إياه ؛ لأن العقد إذا كان في أصل اللغة الشدّ ثم نُقل إلى الأيمان والعقود عقود المبايعات ونحوها، فإنما أُريد به إلزامُ الوفاء بما ذكره وإيجابه عليه، وهذا إنما يتناول منه ما كان منتظراً مراعًى في المستقبل من الأوقات، فيسمَّى البيع والنكاح والإجارة وسائر عقود المعاوضات عقوداً لأن كل واحد منهما قد ألزم نفسه التمام عليه والوفاء به، وسُمّي اليمينُ على المستقبل عَقْداً لأن الحالف قد أَلْزَمَ نفسه الوفاء بما حلف عليه من فِعْلٍ أو تَرْكٍ، والشركةُ والمضاربةُ ونحوها تسمَّى أيضاً عقوداً لما وصفنا من اقتضائه الوفاء بما شَرَطَهُ على كل واحد من الربح والعمل لصاحبه وألزمه نفسه، وكذلك العهد والأمان لأن معطيها قد ألزم نفسه الوفاء بها، وكذلك كل شَرْطٍ شَرَطَهُ إنسانٌ على نفسه في شيء يفعله في المستقبل فهو عَقْدٌ، وكذلك النذور وإيجاب القرب وما جرى مجرى ذلك. وما لا تعلق له بمعنى في المستقبل يُنتظر وقوعه وإنما هو على شيء ماضٍ قد وقع فإنه لا يسمَّى عقداً، ألا ترى أن من طلّق امرأته فإنه لا يسمَّى طلاقُهُ عَقْداً ؟ ولو قال لها :" إذا دخلت الدار فأنت طالق " كان ذلك عقداً ليمين ؟ ولو قال :" والله لقد دخلت الدار أمس " لم يكن عاقداً لشيء ؟ ولو قال :" لأدخلنها غداً " كان عاقداً ؟ ويدلُّكَ على ذلك أنه لا يصح إيجابه في الماضي ويصحّ في المستقبل لو قال :" عليَّ أن أدخل الدار أمس " كان لغواً من الكلام مستحيلاً، ولو قال :" عليّ أن أدخلها غداً " كان إيجاباً مفعولاً.
فالعقد ما يلزم به حكم في المستقبل، واليمين على المستقبل إنما كانت عقداً لأن الحالف قد أكّد على نفسه أن يفعل ما حَلَفَ عليه بذلك، وذلك معدوم في الماضي ؛ ألا ترى أن من قال :" والله لأكلمنّ زيداً " فهو مؤكدٌ على نفسه بذلك كلامه ؟ وكذلك لو قال :" والله لا كلمتُ زيداً " كان مؤكداً به نفي كلامه ملزماً نفسه به ما حلف عليه من نَفْي أو إثبات ؛ فسُمّي من أجل التأكيد الذي في اللفظ عقداً تشبيهاً بعقد الحبل الذي هو بيده والاستيثاق به، ومن أجله كان النذر عقداً ويميناً لأن الناذر ملزم نفسه ما نذره ومؤكد على نفسه أن يفعله أو يتركه. ومتى صُرِفَ الخبر إلى الماضي لم يكن ذلك عقداً كما لا يكون ذلك إيجاباً وإلزاماً ونذراً، وهذا يبين معنى ما ذكرنا من العقد على وجه التأكيد والإلزام.
ومما يدل على أن العقد هو ما تعلق بمعنى مستقبل دون الماضي، أن ضد العقْد هو الحَلُّ، ومعلوم أن ما قد وقع لا يُتوهم له حَلٌّ عما وقع عليه بل يستحيل ذلك فيه ؛ فلما لم يكن الحَلُّ ضدّاً لما وقع في الماضي عُلم أنه ليس بعَقْدٍ لأنه لو كان عقداً لكان له ضدٌّ من الحلِّ يوصف به كالعقد على المستقبل.
مطلب : شرط انعقاد البرّ إمكان البرِّ إمكاناً عقليّاً
فإن قيل : قوله :" إن دخلت الدار فأنت طالق " و " أَنت طالق إذا جاء غد " هو عقد ولا يلحقه الانتقاض والفسخ. قيل له : جائز أن لا يقع ذلك بموتها قبل وجود الشرط فهو مما يوصف بضده من الحلّ، ولذلك قال أبو حنيفة فيمن قال :" إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز فعبدي حرّ " وليس في الكوز ماء، إن يمينه لا تنعقد ولم يكن ذلك عقداً ؛ لأنه ليس له نقيض من الحل، ولو قال :" إن لم أصعد السماء فعبدي حرّ " حنث بعد انعقاد يمينه ؛ لأن لهذا العقد نقيضاً من الحلِّ، وإن كنا قد علمنا أنه لا يَبَرُّ فيه ؛ لأنه عقد اليمين على معنى متوهم معقول، إذ كان صعود السماء معنى متوهماً معقولاً، وكذلك تركه معقول جائز، وشربُ ما ليس بموجود مستحيل توهمه فلم يكن ذلك عقداً.
وقد اشتمل قوله تعالى :﴿ يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بالعُقُودِ ﴾ على إلزام الوفاء بالعهود والذمم التي نعقدها لأهل الحرب وأهل الذمة والخوارج وغيرهم من سائر الناس، وعلى إلزام الوفاء بالنذور والأيمان ؛ وهو نظير قوله تعالى :﴿ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ﴾ [ النحل : ٩١ ] وقوله تعالى :﴿ وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ﴾ [ البقرة : ٤٠ ] وعهد الله تعالى أوامره ونواهيه. وقد رُوي عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ أَوْفُوا بِالعُقُودِ ﴾ أي بعقود الله فيما حرم وحلل ؛ وعن الحسن قال :" يعني عقود الدين ". واقتضى أيضاً الوفاء بعقود البياعات والإجارات والنكاحات وجميع ما يتناوله اسم العقود، فمتى اختلفنا في جواز عقد أو فساده وفي صحة نذر ولزومه صحّ الاحتجاج بقوله تعالى :﴿ أَوْفُوا بِالعُقُودِ ﴾ لاقتضاء عمومه جواز جميعها من الكفالات والإجارات والبيوع وغيرها. ويجوز الاحتجاج به في جواز الكفالة بالنفس وبالمال وجواز تعلقها على الأخطار ؛ لأن الآية لم تفرق بين شيء منها. وقوله صلى الله عليه وسلم :" والمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوط
قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ﴾ رُوي عن السلف فيه وجوهٌ، فرُوي عن ابن عباس :" أن الشعائر مناسك الحج ". وقال مجاهد :" الصفا والمروة والهدي والبدن كل ذلك من الشعائر ". وقال عطاء :" فرائض الله التي حدّها لعباده ". وقال الحسن :" دين الله كله لقوله تعالى :﴿ ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ﴾ [ الحج : ٣٢ ] أي : دين الله ". وقيل : إنها أعلام الحرم نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إذا أرادوا دخول مكة. وهذه الوجوه كلها في احتمال الآية. والأصل في الشعائر أنها مأخوذة من الإشعار وهي الإعلام من جهة الإحساس، ومنها مَشَاعِرِ البَدَنِ وهي الحواسّ. والمشاعر أيضاً هي المواضع التي قد أُشعرت بالعلامات ؛ وتقول : قد شعرتُ به، أي علمته ؛ وقال تعالى :﴿ لا يشعرون ﴾ [ البقرة : ١٢ ] يعني : لا يعلمون. ومنه الشّاعِرُ لأنه يشعر بفطنته لما لا يشعر به غيره. وإذا كان الأصل على ما وصفنا فالشعائر العلامات واحدها شَعِيرَةٌ، وهي العلامة التي يُشْعَرُ بها الشيء ويُعْلَمُ ؛ فقوله تعالى :﴿ لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ الله ﴾ قد انتظم جميع معالم دين الله، وهو ما أعْلَمَنَاهُ الله تعالى وحَدَّهُ من فرائض دينه وعلاماتها بأن لا يتجاوزوا حدوده ولا يقصروا دونها ولا يضيعوها، فينتظم ذلك جميع المعاني التي رُويت عن السلف من تأويلها ؛ فاقتضى ذلك حظر دخول الحرم إلا محرماً، وحظر استحلاله بالقتال فيه، وحظر قتل من لجأ إليه، ويدل أيضاً على وجوب السعي بين الصفا والمروة لأنهما من شعائر الله على ما رُوي عن مجاهد ؛ لأن الطواف بهما كان من شريعة إبراهيم عليه السلام، وقد طاف النبي صلى الله عليه وسلم بهما، فثبت أنهما من شعائر الله.
وقوله عز وجل :﴿ وَلاَ الشَّهْرَ الحَرَامَ ﴾، رُوي عن ابن عباس وقتادة أن إحلاله هو القتال فيه ؛ قال الله تعالى في سورة البقرة :﴿ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ﴾ [ البقرة : ٢١٧ ] وقد بينا أنه منسوخ، وذكرنا قول من رُوي عنه ذلك وأن قوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ [ التوبة : ٥ ] نسخه. وقال عطاء :" حكمه ثابت، والقتال في الشهر الحرام محظور ". وقد اختلف في المراد بقوله :﴿ وَلا الشَّهْرَ الحَرَامَ ﴾ فقال قتادة :" معناه الأشهر الحرم ". وقال عكرمة :" هو ذو القعدة وذو الحجة ومحرّم ورجب ". وجائز أن يكون المراد بقوله :﴿ ولا الشَّهْرَ الحَرَامَ ﴾ هذه الأشهر كلها، وجائز أن يكون الذي يقتضيه اللفظ واحداً منها. وبقية الشهور معلوم حكمها من جهة دلالة اللفظ، إذْ كان جميعها في حكم واحد منها، فإذا بين حكم واحد منها فقد دل على حكم الجميع.
قوله تعالى :﴿ وَلا الهَدْيَ وَلا القَلاَئِدَ ﴾ أما الهَدْيُ فإنه يقع على كل ما يُتقرب به من الذبائح والصدقات، قال النبي صلى الله عليه وسلم :" المُبْكِرُ إلى الجُمُعَةِ كالمُهْدِي بَدَنَةً، ثم الَّذِي يَلِيهِ كالمُهْدِي بَقَرَةً، ثم الّذِي يَلِيهِ كالمُهْدِي شَاةً، ثم الّذِي يَلِيهِ كالمُهْدِي دَجَاجَةً، ثم الَّذِي يَلِيهِ كالمُهْدِي بَيْضَةً "، فسمَّى الدجاجة والبيضة هدياً، وأراد به الصدقة. وكذلك قال أصحابنا فيمن قال :" ثوبي هذا هَدْيٌ " أن عليه أن يتصدق به. إلاّ أن الإطلاق إنما يتناول أحد هذه الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم إلى الحرم وذبحه فيه، قال الله تعالى :﴿ فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ﴾ [ البقرة : ١٩٦ ] ولا خلاف بين السلف والخلف من أهل العلم أن أدناه شاة ؛ وقال تعالى :﴿ من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة ﴾ [ المائدة : ٩٥ ]، وقال :﴿ فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ﴾ [ البقرة : ١٩٦ ] وأقلّه شاة عند جميع الفقهاء ؛ فاسم الهدي إذا أُطلق يتناول ذبح أحد هذه الأصناف الثلاثة في الحرم.
وقوله :﴿ وَلاَ الهَدْيَ ﴾ أراد به النهي عن إحلال الهدي الذي قد جُعل للذبح في الحرم، وإحلالُهُ استباحته لغير ما سِيقَ إليه من القربة ؛ وفيه دلالة على حظر الانتفاع بالهدي إذا ساقه صاحبه إلى البيت أو أوجبه هَدْياً من جهة نَذْرٍ أو غيره. وفيه دلالة على حظر الأكل من الهدايا نذراً كان أو واجباً من إحصار أو جزاء صيد. وظاهره يمنع جواز الأكل مِنْ هدي المتعة والقرآن لشمول الاسم له، إلا أن الدلالة قد قامت عندنا على جواز الأكل منه.
وأما قوله عز وجل :﴿ وَلا القَلاَئِدَ ﴾ فإن معناه : لا تحلّوا القلائد. وقد رُوي في تأويل القلائد وجوه عن السلف، فقال ابن عباس :" أراد الهدي المقلَّد ". قال أبو بكر : هذا يدلّ على أن من الهدي ما يُقلَّد ومنه ما لا يُقلَّد، والذي يُقَلَّد الإبل والبقر، والذي لا يقلَّد الغنم، فحظر تعالى إحلال الهدي مقلَّداً وغير مقلّد. وقال مجاهد :" كانوا إذا أحرموا يقلّدون أنفسهم والبهائم من لحاء شجر الحرم، فكان ذلك أمناً لهم، فحظر الله تعالى استباحة ما هذا وصفه ؛ وذلك منسوخ في الناس وفي البهائم غير الهدايا ". ورُوي نحوه عن قتادة في تقليد الناس لحاء شجر الحرم. وقال بعض أهل العلم :" أراد به قلائد الهدي بأن يتصدقوا بها ولا ينتفعوا بها ". ورُوي عن الحسن أنه قال :" يقلَّد الهَدْيُ بالنعال، فإذا لم توجد فالجِفَافُ تُقَوَّرُ ثم تُجعل في أعناقها ثم يُتصدق بها ". وقيل : هو صوف يُفتل فيجعل في أعناق الهَدي.
قال أبو بكر : قد دلّت الآية على أن تقليد الهدي قربة، وأنه يتعلق به حكم كونه هدياً ؛ وذلك بأن يقلّده ويريد أن يهديه فيصير هدياً بذلك وإن لم يوجبه بالقول، فمتى وُجد على هذه الصفة فقد صار هدياً لا تجوز استباحته والانتفاع به إلا بأن يذبحه ويتصدق به. وقد دل أيضاً على أن قلائد الهدي يجب أن يُتصدق بها لاحتمال اللفظ لها، وكذلك رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في البُدْنِ التي نَحَرَ بعضها بمكة وأمر عليّاً بنحر بعضها، وقال له :" تَصَدَّقْ بِجِلاَلِهَا وخُطُمِهَا ولا تُعْطِ الجَزَّارَ مِنْهَا شيئاً فإنّا نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا ". وذلك دليل على أنه لا يجوز ركوب الهَدْي ولا حَلْبُهُ ولا الانتفاع بلبنه ؛ لأن قوله :﴿ وَلا الهَدْيَ وَلا القَلاَئِدَ ﴾ قد تضمن ذلك كله. وقد ذكر الله القلائد في غير هذا الموضع بما دل به على القربة فيها وتعلق الأحكام بها، وهو قوله تعالى :﴿ جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ﴾ [ المائدة : ٩٧ ] فلولا ما تعلق بالهدي والقلائد من الحُرُمات والحقوق التي هي لله تعالى كتعلّقها بالشهر الحرام وبالكعبة لما ضمّها إليهما عند الإخبار عما فيها من المنافع وصلاح الناس وقوامهم. وروى الحكم عن مجاهد قال : لم تُنسخ من المائدة إلاّ هاتان الآيتان :﴿ لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ﴾ [ المائدة : ٢ ] نسختها :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ [ التوبة : ٥ ] ؛ ﴿ فإن جاؤوك فاحكم بينهم ﴾ [ المائدة : ٤٢ ] الآية نسختها :﴿ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ﴾ [ المائدة : ٤٩ ]. قال أبو بكر : يريد به نسخ تحريم القتال في الشهر الحرام ونَسْخَ القلائد التي كانوا يقلِّدون بها أنفسهم وبهائمهم من لحاء شجر الحرم ليأمنوا به، ولا يجوز أن يريد نسخ قلائد الهدي لأن ذلك حكم ثابت بالنقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين بعدهم.
وروى مالك بن مِغْوَلٍ عن عطاء في قوله تعالى :﴿ وَلاَ القَلاَئِدَ ﴾ قال : كانوا يقلّدون لحاء شجر الحرم يأمنون به إذا خرجوا، فنزلت :﴿ لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ الله ﴾ قال أبو بكر : يجوز أن يكون حظر الله انتهاك حرمة من يفعل ذلك على ما كان عليه أهل الجاهلية ؛ لأن الناس كانوا مُقَرِّين بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم على ما كانوا عليه من الأمور التي لا يحظرها العقل، إلى أن نسخ الله منها ما شاء فنهى الله عن استحلال حرمة من تقلّد بلحاء شجر الحرم، ثم نسخ ذلك مِنْ قِبَلِ أنّ الله قد أمن المسلمين حيث كانوا بالإسلام، وأما المشركون فقد أمر الله بقتلهم حتى يسلموا بقوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ [ التوبة : ٥ ]، فصار حظر قتل المشرك الذي تقلد بلحاء شجر الحرم منسوخاً، والمسلمون قد استغنوا عن ذلك، فلم يبق له حكم، وبقي حكم قلائد الهدي ثابتاً.
وقد حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق المروزي قال : حدثنا الحسين بن أبي الربيع الجرجاني قال : أخبرنا عبدالرزاق قال : أخبرنا الثوري عن بيان عن الشعبي قال : لم تُنسخ من سورة المائدة إلا هذه الآية :﴿ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ﴾. وحدثنا عبدالله بن محمد قال : حدثنا الحسين بن أبي الربيع قال : أخبرنا عبدالرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى :﴿ لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الحَرَامَ ﴾ الآية، قال : منسوخٌ ؛ كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من السَّمُرِ فلم يَعْرُضْ له أحد، وإذا رجع تقلد قلادة شعر فلم يعرض له أحد، وكان المشرك يومئذ لا يُصدُّ عن البيت، فأُمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت، فنسختها قوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ [ التوبة : ٥ ]. وروى يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة في قوله تعالى :﴿ جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ﴾ [ المائدة : ٩٧ ] : حواجز جعلها الله بين الناس في الجاهلية، وكان الرجل إذا لقي قَاتِلَ أبيه في الشهر الحرام لم يَعْرُضْ له ولم يَقْرَبْهُ، وكان الرجل لو جَرَّ كل جَرِيَرَةٍ ثم لجأ إلى الحرم لم يُتناول ولم يُقرب، وكان الرجل إذا لقي الهدي مقلَّداً وهو يأكل العَصَبَ من الجوع لم يَعْرُضْ له ولم يَقْرَبْهُ، وكان الرجل إذا أراد البيت تقلّد قلادة من شَعَرٍ تمنعه من الناس، وكان إذا نفر تقلد قلادة من الإذخر أو من لحاء شجر الحرم فمَنَعَتِ الناس عنه. وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد الله قال : حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن بن عباس في قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الحَرَامَ ولا الهَدْيَ وَلاَ القَلاَئِدَ ولا آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ ﴾ قال : كان المسلمون والمشركون يحجّون البيت جميعاً، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يمنعوا أحداً أن يحجّ البيت أو يعرضوا له من مؤمن أو كافر، ثم أنزل الله بعد هذا :﴿ إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ﴾ [ التوبة : ٢٨ ]، وقال تعالى :﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ﴾ [ التوبة : ١٧ ]. وقد رَوَى إسحاق بن يوسف عن ابن عون قال : سألت الحسن هل نسخ من المائدة شيء ؟ فقال : لا. وهذا يدل على أن قوله تعالى :﴿ وَلا آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ ﴾ إنما أُريد به المؤمنون عند الحسن، لأنه إن كان قد أريد به الكفار فذلك منسوخ بقوله :﴿ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ﴾ [ التوبة : ٢٨ ]. وقوله أيضاً :﴿ ولا الشَّهْرَ الحَرَامَ ﴾ حَظْرُ القتال فيه م
قوله تعالى :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ ﴾ الآية. المَيْتَةُ ما فارقته الروح بغير تذكية مما شُرط علينا الذكاة في إباحته. وأما الدم فالمحرم منه هو المسفوح، لقوله تعالى :﴿ قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً ﴾ [ الأنعام : ١٤٥ ] وقد بينا ذلك في سورة البقرة. والدليل أيضاً على أن المحرم منه هو المسفوح اتفاقُ المسلمين على إباحة الكبد والطحال وهما دمان، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" أُحِلَّتْ لِي مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ "، يعني بالدمين الكبد والطحال ؛ فأباحهما وهما دمان، إذ ليسا بمسفوح، فدل على إباحة كل ما ليس بمسفوح من الدماء.
فإن قيل : لما حصر المباح منه بعدد دلّ على حظر ما عداه. قيل : هذا غلط ؛ لأن الحصر بالعدد لا يدل على أن ما عداه حكمه بخلافه، ومع ذلك فلا خلاف أن مما عداه من الدماء ما هو المباح وهو الدم الذي يبقى في خلل اللحم بعد الذبح وما يبقى منه في العروق، فدلّ على أن حصره الدَّمَيْنِ بالعدد وتخصيصهما بالذكر لَمْ يَقْتَضِ حَظْرَ جميع ما عداهما من الدماء. وأيضاً فإنه لما قال :﴿ أو دماً مسفوحاً ﴾ [ الأنعام : ١٤٥ ] ثم قال :﴿ وَالدَّمُ ﴾ كانت الألف واللام للمعهود، وهو الدم المخصوص بالصفة، وهو أن يكون مسفوحاً ؛ وقوله صلى الله عليه وسلم :" أُحلت لي ميتتان ودمان " إنما ورد مؤكداً لمقتضى قوله عز وجل :﴿ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً ﴾ [ الأنعام : ١٤٥ ] إذ ليسا بمسفوحين ؛ ولو لم يرد لكانت دلالة الآية كافية في الاقتصار بالتحريم على المسفوح منه دون غيره وأن الكبد والطحال غير محرمين.
وقوله تعالى :﴿ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ ﴾ فإنه قد تناول شحمه وعظمه وسائر أجزائه، ألا ترى أن الشحم المخالط للحم قد اقتضاه اللفظ لأن اسم اللحم يتناوله ؟ ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك، وإنما ذكر اللحم لأنه معظم منافعه ؛ وأيضاً إن تحريم الخنزير لما كان مُبْهَماً اقتضى ذلك تحريم سائر أجزائه كالميتة والدم، وقد ذكرنا حكم شعره وعظمه فيما تقدم.
وأما قوله :﴿ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ﴾ فإن ظاهره يقتضي تحريم ما سُمّي عليه غير الله ؛ لأن الإهلال هو إظهارُ الذكر والتسمية، وأصله استهلال الصبي إذا صاح حين يُولد، ومنه إهلال المحرم ؛ فينتظم ذلك تحريم ما سُمّي عليه الأوثان على ما كانت العرب تفعله، وينتظم أيضاً تحريمَ ما سُمِّي عليه اسم غير الله أي اسم كان، فيوجب ذلك أنه لو قال عند الذبح :" باسم زيد أو عمرو " أن يكون غير مُذَكَّى، وهذا يوجب أن يكون ترك التسمية عليه موجباً تحريمها ؛ وذلك لأن أحداً لا يفرق بين تسمية زيد على الذبيحة وبين ترك التسمية رأساً.
قوله تعالى :﴿ والمُنْخَنِقَةُ ﴾ فإنه روي عن الحسن وقتادة والسدي والضحاك أنها التي تختنق بحبل الصائد أو غيره حتى تموت، ومن نحوه حديث عِبَاية بن رفاعة عن رافع بن خديج، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ذَكُّوا بكلِّ شَيءٍ إلاّ السِّنَّ والظُّفُرَ " " وهذا عندنا على السنّ والظفر غير المنزوعين، لأنه يصير في معنى المخنوق.
وأما قوله تعالى :﴿ وَالمَوْقُوذَةُ ﴾ فإنه رُوي عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدي أنها المضروبة بالخشب ونحوه حتى تموت، يقال فيه : وَقَذَهُ يَقِذُهُ وَقْذاً وهو وَقِيذٌ. إذا ضربه حتى يُشْفي على الهلاك. ويدخل في الموقوذة كل ما قُتل منها على غير وجه الذكاة، وقد رَوَى أبو عامر العَقَدي عن زهير بن محمد عن زيد بن أسلم عن ابن عمر، أنه كان يقول في المقتولة بالبندقة :" تلك الموقوذة ". ورَوَى شعبة عن قتادة عن عقبة بن صهبان عن عبدالله بن المغفل، أن النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الخَذْفِ وقال :" إِنّها لا تَنْكَأُ العَدُوَّ ولا تَصِيدُ الصَّيْدَ ولكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وتَفْقَأُ العَيْنَ ". ونظير ذلك ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن عيسى قال : حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن همام عن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله أرمي بالمعراض فأصيب أفآكل ؟ قال :" إذا رَمَيْتَ بالمِعْرَاضِ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَأَصَابَ فَخَرَقَ فَكُلْ، وإنْ أَصَابَ بعَرْضِهِ فلا تَأْكُلْ ". حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا عبدالله بن أحمد قال : حدثنا هشيم عن مجالد وزكريا وغيرهما، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض، فقال :" ما أَصَابَ بِحَدِّهِ فَخَرَقَ فَكُلْ، وما أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فإنّه وَقِيذٌ فلا تَأْكُلْ "، فجعل ما أصاب بعرضه من غير جراحة موقوذةً وإن لم يكن مقدوراً عل ذكاته، وفي ذلك دليل على أن شرط ذكاة الصيد الجراحة وإسالة الدم وإن لم يكن مقدوراً على ذبحه واستيفاء شروط الذكاة فيه ؛ وعموم قوله :﴿ وَالمَوْقُوذَةُ ﴾ عامٌّ في المقدور على ذكاته وفي غيره مما لا يقدر على ذكاته. وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا أحمد بن محمد بن النضر قال : حدثنا معاوية بن عمر قال : حدثنا زائدة قال : حدثنا عاصم بن أبي النجود عن زرّ بن حبيش قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول :" يا أيها الناس هاجروا ولا تهجروا، وإياكم والأرنب يحذفها أحدكم بالعصا أو الحجر يأكلها، ولكن ليذكَّ لكم الأسَلُ الرّماحُ والنبلُ ".
وأما قوله تعالى :﴿ وَالمُتَرَدِّيَةُ ﴾ فإنه روي عن ابن عباس والحسن والضحاك وقتادة قالوا :" هي الساقطة من رأس جبل أو في بئر فتموت ". وروى مسروق عن عبدالله بن مسعود قال :" إذا رميت صيداً من على جبل فمات فلا تأكله فإني أخشى أن يكون التردِّي هو الذي قتله، وإذا رميت طيراً فوقع في ماء فمات فلا تطعمه فإني أخشى أن يكون الغرق قتله ". قال أبو بكر : لما وَجَدَ هناك سبباً آخر وهو التردّي وقد يحدث عنه الموت حَظَرَ أكْلَهُ، وكذلك الوقوع في الماء. وقد رُوي نحو ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل قال : حدثنا ابن عرفة قال : حدثنا ابن المبارك عن عاصم الأحول عن الشعبي عن عدي بن حاتم، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيد فقال :" إذا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ وَسَمَّيْتَ فَكُلْ إنْ قَتَلَ إلاّ أَنْ تُصِيبَهُ فِي الْمَاءِ فَلاَ تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ ". ونظيره ما رُوي عنه صلى الله عليه وسلم في صيد الكلاب أنه قال :" إذا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُعَلَّمَ وَسَمَّيْتَ فَكُلْ، وإنْ خَالَطَهُ كَلْبٌ آخَرُ فَلا تَأْكُلْ "، فحظر صلى الله عليه وسلم أكْلَهُ إذا وُجد مع الرمي سبب آخر يجوز حدوث الموت منه مما لا يكون ذكاة، وهو الوقوع في الماء ومشاركة كلب آخر معه. وكذلك قول عبدالله في الذي يرمي الصيد وهو على الجبل فيتردَّى إنه لا يؤكل لاجتماع سبب الحظر والإباحة في تَلَفِهِ، فجعل الحكم للحظر دون الإباحة. وكذلك لو اشترك مجوسيّ ومسلم في قتل صيد أو ذبحه لم يؤكل.
مطلب : إذا اجتمع سبب الحظر والإباحة كان الحكم للحظر دون الإباحة
وجميع ما ذكرنا أصل في أنه متى اجتمع سبب الحظر وسبب الإباحة كان الحكم للحظر دون الإباحة.
وأما قوله تعالى :﴿ والنَّطِيحَةُ ﴾ فإنه رُوي عن الحسن والضحاك وقتادة والسدي أنها المنطوحة حتى تموت. وقال بعضهم : هي الناطحة حتى تموت. قال أبو بكر : هو عليهما جميعاً، فلا فرق بين أن تموت من نطحها لغيرها وبين موتها من نطح غيرها لها.
وأما قوله :﴿ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ﴾ فإن معناه : ما أكل منه السبع حتى يموت، فحَذَفَ ؛ والعرب تسمِّي ما قتله السبع وأكل منه أكِيلَةَ السَّبُعِ، ويسمّون الباقي منه أيضاً أكِيلَةَ السَّبُعِ ؛ قال أبو عبيدة :﴿ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ﴾ مما أكل السبع فيأكل منه ويبقى بعضه وإنما هو فريسته. وجميع ما تقدم ذكره في الآية بالنهي عنه قد أُريد به الموت من ذلك. وقد كان أهل الجاهلية يأكلون جميع ذلك فحرمه الله تعالى، ودل بذلك على أن سائر الأسباب التي يحدث عنها الموت للأنعام محظور أكلها بعد أن لا يكون من فعل آدميّ على وجه التذكية.
وأما قوله تعالى :﴿ إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ﴾ فإنه معلوم أن الاستثناء راجع إلى بعض المذكور دون جميعه ؛ لأن قوله :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ﴾ لا خلاف أن الاستثناء غير راجع إليه، وأن ذلك لا يجوز أن تلحقه الذكاة، وقد كان حكم الاستثناء أن يرجع إلى ما يليه، وقد ثبت أنه لم يعد إلى ما قبل المنخنقة ؛ فكان حكم العموم فيه قائماً وكان الاستثناء عائداً إلى المذكور من عند قوله :﴿ وَالْمُنْخَنِقَةُ ﴾، لما رُوي ذلك عن علي وابن عباس والحسن وقتادة وقالوا كلهم :" إن أدركت ذكاته بأن توجد له عَيْنٌ تطرف أو ذَنَبٌ يتحرك فأكْلُه جائز ". وحُكي عن بعضهم أنه قال : الاستثناء عائد إلى قوله :﴿ وَمَا أَكَلَ السَّبْعُ ﴾ دون ما تقدم لأنه يليه ؛ وليس هذا بشيء، لاتفاق السلف على خلافه، ولأنه لا خلاف أن سَبُعاً لو أخذ قطعة من لحم البهيمة فأكلها أو تردَّى شاة من جبل ولم يُشْفِ بها ذلك على الموت فذكّاها صاحبها أن ذلك جائز مباح الأكل، وكذلك النطيحة وما ذكر معها، فثبت أن الاستثناء راجع إلى جميع المذكور من عند قوله :﴿ والمُنْخَنِقَةُ ﴾ ؛ وإنما قوله :﴿ إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ﴾ فإنه استثناء منقطع بمنزلة قوله :" لكن ما ذكيتم " كقوله :﴿ فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلاّ قوم يونس ﴾ [ يونس : ٩٨ ] ومعناه : لكن قوم يونس ؛ وقوله :﴿ طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى ﴾ [ طه : ١ ٣ ] معناه : لكن تذكرة لمن يخشى ؛ ونظائره في القرآن كثيرة.
وقد اختلف الفقهاء في ذكاة الموقوذة ونحوها، فذكر محمد في الأصل في المتردية : إذا أَدْرَكْتَ ذكاتها قبل أن تموت أكَلْتَ، وكذلك الموقوذة والنطيحة وما أكل السبع. وعن أبي يوسف في الإملاء : أنه إذا بلغ به ذلك إلى حال لا يعيش منه اليوم يُؤْكل وإن ذُكّي قبل الموت. وذكر ابن سماعة عن محمد : أنه إن كان يعيش منه اليوم ونحوه أو دونه فذكّاها حلّت، وإن كان لا يبقى إلا كبقاء المذبوح لم يؤكل وإن ذبح ؛ واحتج بأن عمر كانت به جراحة مُتْلِفَةٌ وصحت عهوده وأوامره، ولو قتله قاتل في ذلك الوقت كان عليه القَوَدُ. وقال مالك :" إذا أدركت ذكاتها وهي حية تطرف أكلت ". وقال الحسن بن صالح :" إذا صارت بحال لا تعيش أبداً لم تؤكل وإن ذبحت ". وقال الأوزاعي :" إذا كان فيها حياة فذبحت أكلت، والمصيودة إذا ذُبحت لم تؤكل ". وقال الليث :" إذا كانت حية وقد أخرج السبع ما في جَوْفِها أكلت إلاّ ما بان عنها ". وقال الشافعي في السبع إذا شق بطن الشاة ونستيقن أنها تموت : إن لم تذكّ فذكيت فلا بأس بأكلها.
قال أبو بكر : قوله تعالى :﴿ إلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ﴾ يقتضي ذكاتها ما دامت حية، فلا فرق في ذلك بين أن تعيش من مثله أو لا تعيش، وأن تبقى قصير المدة أو طويلها ؛ وكذلك رُوي عن علي وابن عباس أنه إذا تحرك شيء منها صحّت ذكاتها. ولم يختلفوا في الأنع
مطلب : اسم الطيبات يطلق على الحلال وعلى المستلذ
وقوله عز وجل :﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ﴾ اسم الطيبات يتناول معنيين، أحدهما : الطيب المستلذ، والآخر : الحلال ؛ وذلك لأن ضد الطيّب هو الخبيث، والخبيثُ حرامٌ، فإذاً الطيب حلال ؛ والأصل فيه الاستلذاذ، فشبه الحلال به في انتفاء المضرة منهما جميعاً ؛ وقال تعالى :﴿ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات ﴾ [ المؤمنون : ٥١ ] يعني الحلال، وقال :﴿ ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ] فجعل الطيبات في مقابلة الخبائث، والخبائثُ هي المحرمات ؛ وقال تعالى :﴿ فانكحوا ما طاب لكم من النساء ﴾ [ النساء : ٣ ] وهو يحتمل : ما حلَّ لكم، ويحتمل : ما استطبتموه.
مطلب : يحتج بظاهر هذه الآية في إباحة جميع المستلذات إلا ما خصه الدليل
فقوله :﴿ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ﴾ جائز أن يريد به ما استطبتموه واستلذتموه مما لا ضرر عليكم في تناوله من طريق الدين، فيرجع ذلك إلى معنى الحلال الذي لا تَبِعَةَ على متناوله، وجائز أن يحتج بظاهره في إباحة جميع الأشياء المستلذة إلاّ ما خصه الدليل.
مطلب : في أمره عليه السلام أبا رافع بقتل الكلاب
قوله تعالى :﴿ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ ﴾ حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا يعقوب بن غيلان العماني قال : حدثنا هناد بن السري قال : حدثنا يحيى بن زكريا قال : حدثنا إبراهيم بن عبيد قال : حدثني أبان بن صالح عن القعقاع بن حكيم عن سلمى عن أبي رافع قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقتل الكلاب، فقال الناس : يا رسول الله ما أُحِلَّ لنا من هذه الأمّة التي أمرت بقتلها ؟ فأنزل الله :﴿ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ ﴾ الآية. حدثنا عبدالباقي قال : حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل وابن عبدوس بن كامل قالا : حدثنا عبيدالله بن عمر الجشمي قال : حدثنا أبو معشر النواء قال : حدثنا عمرو بن بشير قال : حدثنا عامر الشعبي عن عديّ بن حاتم قال : لما سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد الكلاب لم يَدْرِ ما يقول لي حتى نزلت :﴿ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبَينَ ﴾.
قال أبو بكر : قد اقتضى ظاهر هذا الحديث الأول أن تكون الإباحةُ تناولت ما عَلَّمْنا من الجوارح، وهو ينتظم الكلب وسائر جوارح الطير، وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع بها، فدلّ على جواز بيع الكلاب والجوارح والانتفاع بها بسائر وجوه الانتفاع إلاّ ما خصه الدليل وهو الأكل. ومن الناس من يجعل في الكلام حذفاً، فجعله بمنزلة : قل أحل لكم الطيبات من صيد ما عَلَّمتم من الجوارح ؛ ويستدلّ عليه بحديث عدي بن حاتم الذي ذكرناه حين سأله عن صيد الكلاب فأنزل الله تعالى :﴿ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلَّبِينَ ﴾، وحديث أبي رافع فيه أنه سئل عما أحلّ من الكلاب التي أمروا بقتلها فأنزل الله تعالى الآية ؛ وليس يمتنع أن تكون الآية منتظمة لإباحة الانتفاع بالكلاب وبصيدها جميعاً، وحيقيقة اللفظ تقتضي الكلاب أنفسها ؛ لأن قوله :﴿ وَمَا عَلَّمْتُمْ ﴾ يوجب إباحة ما عَلَّمْنَا، وإضمار الصيد فيه يحتاج إلى دلالة، وفي فحوى الآية دليل على إباحة صيدها أيضاً وهو قوله :﴿ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ﴾ فحَمْلُ الآية على المعنيين واستعمالها فيهما على الفائدتين أوْلى من الاقتصار على أحدهما. وقد دلت الآية أيضاً على أن شرط إباحة الجوارح أن تكون معلَّمة، لقوله :﴿ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ ﴾ وقوله :﴿ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ﴾.
وأما الجوارح فإنه قد قيل إنها الكواسب للصيد على أهلها، وهي الكلاب وسباع الطير التي تصطاد وغيرها، واحدها " جارح " ومنه سُمّيت الجارحة لأنه يكسب بها، قال الله تعالى :﴿ ما جرحتم بالنهار ﴾ [ الأنعام : ٦٠ ] يعني : ما كسبتم ؛ ومنه :﴿ أم حسب الذين اجترحوا السيئات ﴾ [ الجاثية : ٢١ ] ؛ وذلك يدل على جواز الاصطياد بكل ما علم الاصطياد من سائر ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير. وقيل في الجوارح إنها ما تجرح بنابٍ أو مخلب، قال محمد في الزيادات : إذا صدم الكلب الصيد ولم يجرحه فمات لم يُؤكل لأنه لم يجرح بنابٍ أو مخلب ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ ﴾ فإنما يحلّ صيد ما يجرح بناب أو مخلب. وإذا كان الاسم يقع عليهما فليس يمتنع أن يكونا مرادين باللفظ، فيريد بالكواسب ما يُكْسَبُ بالاصطياد فيفيد الأصناف التي يصطاد بها من الكلاب والفهود وسباع الطير وجميع ما يقبل التعليم، ويفيد مع ذلك في شرط الذكاة وُقُوعَ الجراحة بالمقتول من الصيد وأن ذلك شرط ذكاته. ويدلّ أيضاً عَلى أن الجراحة مرادة حديث النبي صلى الله عليه وسلم في المعراض أنه :" إن خَزَقَ بِحَدِّهِ فَكُلْ وإنْ أَصَابَ بِعَرْضِهِ فلا تَأْكُلْ " ومتى وجدنا للنبي صلى الله عليه وسلم حُكْماً يواطىء معنى ما في القرآن، وجب حمل مراد القرآن عليه وأن ذلك مما أراد الله تعالى به.
وقوله تعالى :﴿ مُكَلِّبِينَ ﴾ قد قيل فيه وجهان، أحدهما : أن المُكَلِّبَ هو صاحبُ الكلب الذي يعلّمه الصيد ويؤدّبه. وقيل معناه : مضرِّين على الصيد كما تُضَرَّى الكلاب ؛ والتكليب هو التضرية يقال : كَلْبٌ كَلِبٌ إذا ضَرَّى بالناس. وليس في قوله :﴿ مُكَلِّبِينَ ﴾ تخصيص للكلاب دون غيرها من الجوارح، إذ كانت التَّضْرِيةُ عامة فيهن، وكذلك إن أراد به تأديب الكلب وتعليمه كان ذلك عموماً في سائر الجوارح.
وقد اختلف السلف فيما قتلته الجوارح غير الكلاب، فروى مروان العمري عن نافع عن علي بن الحسين قال :" الصقر والبازي من الجوارح مكلّبين ". وروى معمر عن ليث قال : سئل مجاهد عن البازي والفهد وما يُصَادُ به من السباع، فقال :" هذه كلها جوارح ". ورَوَى ابن جريج عن مجاهد في قوله تعالى :﴿ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ﴾ قال :" الطير والكلاب ". وروى معمر عن ابن طاوس عن أبيه :﴿ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ﴾ قال :" الجوارح الكلاب وما تعلّم من البزاة والفهود ". وروى أشعث عن الحسن :﴿ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ﴾ قال :" الصقر والبازي والفهد بمنزلة الكلب ". وروَى صخر بن جويرية عن نافع قال : وجدت في كتاب لعليّ بن أبي طالب قال :" لا يصلح أكْلُ ما قتلته البُزَاةُ ". وروى ابن جريج عن نافع قال : قال عبدالله : فأما ما صاد من الطير البزاة وغيرها فما أَدْرَكْتَ ذكاته فذكَّيْتَهُ فهو لك وإلاّ فلا تَطْعَمْهُ ". وروى سلمة بن علقمة عن نافع أن عليّاً كره ما قتلت الصقور. وروى أبو بشر عن مجاهد أنه كان يكره صيد الطير ويقول :﴿ مُكَلِّبِينَ ﴾ إنما هي الكلاب.
قال أبو بكر : فتأول بعضهم قوله :﴿ مُكَلِّبِينَ ﴾ على الكلاب خاصة، وتأوله بعضهم على الكلاب وغيرها ؛ ومعلوم أن قوله تعالى :﴿ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ ﴾ شامل للطير والكلاب، ثم قوله :﴿ مُكَلِّبِينَ ﴾ محتمل لأن يريد به الكلاب ويحتمل أن يريد به جميع ما تقدم ذكره من الجوارح والكلاب منها، ويكون قوله :﴿ مُكَلِّبِينَ ﴾ بمعنى مؤدِّبين أو مضرّين، ولا يخصص ذلك بالكلاب دون غيرها ؛ فوجب حمله على العموم وأن لا يخصص بالاحتمال. ولا نعلم خلافاً بين فقهاء الأمصار في إباحة صيد الطير وإنْ قَتَلَ وأنه كصيد الكلب ؛ قال أصحابنا ومالك والثوري والأوزاعي والليث والشافعي :" ما علَّمْتَ من كل ذي مخلب من الطير وذي ناب من السباع فإنه يجوز صيده ". وظاهر الآية يشهد لهذه المقالة ؛ لأنه أباح صيد الجوارح وهو مشتمل على جميع ما يجرح بناب أو بمخلب وعلى ما يكسب على أهله بالاصطياد لم يفرق فيه بين الكلب وبين غيره. وقوله تعالى :﴿ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ﴾ يدلّ على أن شرط إباحة صيد هذه الجوارح أن تكون معلَّمةً وأنها إذا لم تكن معلمة فَقَتَلَتْ لم يكن مذكَّى ؛ وذلك لأن الخطاب خرج على سؤال السائلين عما يحلّ من الصيد، فأطلق لهم إباحة صيد الجوارح المعلَّمة، وذلك شامل لجميع ما شملته الإباحة وانتظمه الإطلاق ؛ لأن السؤال وقع عن جميع ما يحل لهم من الصيد فخُصَّ الجواب بالأوصاف المذكورة، فلا تجوز استباحة شيء منه إلا على الوصف المذكور. ثم قال تعالى :﴿ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ﴾، فرُوي عن سلمان وسعد أن تعليمه أن يُضَرَّى على الصيد ويعود إلى إلْفِ صاحبه حتى يرجع إليه ولا يهرب عنه. وكذلك قال ابن عمر وسعيد بن المسيب، ولم يشرطوا فيه تَرْكَ الأكل. ورُوي عن غيرهما أن ذلك من تعليم الكلب، وأن من شرط إباحة صيده أن لا يأكل منه، فإن أكل منه لم يُؤكل ؛ وهو قول ابن عباس وعدي بن حاتم وأبي هريرة ؛ وقالوا جميعاً في صيد البازي إنه يُؤكل وإنْ أكَلَ منه ؛ وإنما تعليمه أن تدعوه فيجيبك.
ذكر اختلاف الفقهاء في ذلك
مطلب : لا يؤكل صيد الكلب المعلم إذا أكل منه ويؤكل صيد البازي وإن أكل منه
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر :" إذا أكل الكلب من الصيد فهو غير معلَّم لا يؤكل صيده، ويؤكل صيد البازي وإن أكل "، وهو قول الثوري. وقال مالك والأوزاعي والليث :" يؤكل وإن أكل الكلب منه ". وقال الشافعي :" لا يؤكل إذا أكل الكلب منه والبازي مثله في القياس ". قال أبو بكر : اتفق السلف المجيزون لصيد الجوارح من سباع الطير أن صيدها يؤكل وإن أكلت منه، منهم سعد وابن عباس وسلمان وابن عمر وأبو هريرة وسعيد بن المسيب ؛ وإنما اختلفوا في صيد الكلب، فقال علي بن أبي طالب وابن عباس وعدي بن حاتم وأبو هريرة وسعيد بن جبير وإبراهيم :" لا يؤكل صيد الكلب إذا أَكَلَ منه ". وقال سلمان وسعد وابن عمر :" يؤكل صيده وإن لم يَبْقَ منه إلا ثُلُثَهُ ". وهو قول الحسن وعبيد بن عمير، وإحدى الروايتين عن أبي هريرة وعطاء وسليمان بن يسار وابن شهاب. قال أبو بكر : معلوم من حال الكلب قبوله للتأديب في ترك الأكل، فجائز أن يعلم تركه ويكون تركه للأكل علماً للتعليم ودلالة عليه، فيكون تركه للأكل من شرائطه صحة ذكاته ووجودُ الأكل مانع من صحة ذكاته. وأما البازي فإنه معلوم أنه لا يمكن تعليمه بترك الأكل وأنه لا يقبل التعليم من هذه الجهة، فإذ كان الله قد أباح صيد جميع الجوارح على شرط التعليم فغير جائز أن يكون من شرط التعليم للبازي تركه الأكل، إذْ لا سبيل إلى تعليمه ذلك، ولا يجوز أن يكلفه الله تعليم ما لا يصحّ منه التعلم وقبول التأديب ؛ فثبت أن تَرْكَ الأكل ليس من شرائط تعلم البازي وجوارح الطير، وكان ذلك من شرائط تعلّم الكلب لأنه يقبله ويمكن تأديبه به. ويشبه أن يكون ما رُوي عن علي بن أبي طالب وغيره في حَظْرِ ما قتله البازي، منْ حيثُ كان عندهم أن من شرط التعليم ترك الأكل، وذلك غير ممكن في الطير فلم يكن معلَّماً فلا يكون ما قتله مُذَكَّى. إلا أن ذلك يؤدّي إلى أن لا تكون لذكر التعليم في الجوارح من الطير فائدة، إذ كان صيدها غير مذكَّى، وأن يكون المعلَّمُ وغير المعلَّمِ فيه سواء، وذلك غير جائز لأن الله
قوله تعالى :﴿ اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ﴾ فإنه جائز أن يريد به اليوم الذي نزلت فيه الآية، ويجوز أن يريد به اليوم الذي تقدم ذكره في موضعين، أحدهما قوله :﴿ اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ﴾ ؛ والآخر قوله تعالى :﴿ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ قيل : إنه يوم عرفة في عام حجة الوداع، وقيل : زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كله، على ما قدمنا من اختلاف السلف فيه. والطيبات ههنا يجوز أن يريد بها ما استطبناه واستلذذناه ما عدا ما بيَّن تحريمه في هذه الآيات وفي غيرها، فيكون عموماً في إباحة جميع المتلذذات إلاّ ما قام دليل حظره. ويحتمل أن يريد بالطيبات ما أباحه لنا من سائر الأشياء التي ذكر إباحتها في غير هذا الموضع.
وقوله تعالى :﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ ﴾. رُوي عن ابن عباس وأبي الدرداء والحسن ومجاهد وإبراهيم وقتادة والسدي : أنه ذبائحهم. وظاهره يقتضي ذلك ؛ لأن ذبائحهم من طعامهم، ولو استعلمنا اللفظ على عمومه لانْتَظَمَ جميع طعامهم من الذبائح وغيرها. والأظهر أن يكون المراد الذبائح خاصة ؛ لأن سائر طعامهم من الخبز والزيت وسائر الأدهان لا يختلف حكمها بمن يتولاه، ولا شبهة في ذلك على أحد، سواء كان المتولّي لصنعه واتخاذه مجوسيّاً أو كتابيّاً، ولا خلاف فيه بين المسلمين. وما كان منه غير مذكَّى لا يختلف حكمه في إيجاب حَظْرِهِ بمن تولَّى إماتته من مسلم أو كتابيّ أو مجوسيّ ؛ فلما خصَّ الله تعالى طعام أهل الكتاب بالإباحة وجب أن يكون محمولاً على الذبائح التي يختلف حكمها باختلاف الأديان.
مطلب : في أكله عليه السلام من الشاة التي أهدتها إليه اليهودية من دون أن يسألها أهي ذبيحة مسلم أم يهوديّ
وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الشاة المسمومة المشوية التي أهدت إليه اليهودية ولم يسألها عن ذبيحتها أهي من ذبيحة المسلم أم اليهودي.
واختلف الفقهاء فيمن انتحل دين أهل الكتاب من العرب، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر :" من كان يهوديّاً أو نصرانيّاً من العرب والعجم فذبيحته مذكاةٌ إذا سَمَّى الله عليها، وإن سَمَّى النصراني عليها باسم المسيح لم تؤكل، ولا فرق بين العرب والعجم في ذلك ". وقال مالك :" ما ذبحوه لكنائسهم أكْرَهُ أكْلَهُ، وما سُمِّي عليه باسم المسيح لا يؤكل والعرب والعجم فيه سواء ". وقال الثوري :" إذا ذبح وأُهِلَّ به لغير الله كرهته "، وهو قول إبراهيم. وقال الثوري : وبلغني عن عطاء أنه قال :" قد أحل الله ما أهلّ به لغير الله ؛ لأنه قد علم أنهم سيقولون هذا القول ". وقال الأوزاعي :" إذا سمعته يرسل كلبه باسم المسيح أكل ". وقال فيما ذبح أهل الكتابين لكنائسهم وأعْيادهم : كان مكحول لا يرى به بأساً، ويقول : هذه كانت ذبائحهم قبل نزول القرآن ثم أحلَّها الله تعالى في كتابه ؛ وهو قول الليث بن سعد. وقال الربيع عن الشافعي :" لا خير في ذبائح نصارى العرب من بني تغلب " قال :" ومن دان دين أهل الكتاب قبل نزول القرآن وخالف دين أهل الأوثان قبل نزول القرآن فهو خارج من أهل الأوثان وتُقبل منه الجزية عربيّاً كان أو عجميّاً، ومن دخل عليه الإسلام ولم يَدِنْ بدين أهل الكتاب فلا يُقبل منه إلا الإسلام أو السيف ". قال أبو بكر : وقد رُوي عن جماعة من السلف القَوْلُ في أهل الكتاب من العرب، لم يفرِّق أحدٌ منهم فيه بين مَنْ دان بذلك قبل نزول القرآن أو بعده، ولا نعلم أحداً من السلف والخلف اعتبر فيهم ما اعتبره الشافعي في ذلك، فهو منفرد بهذه المقالة خارج بها عن أقاويل أهل العلم.
ورَوَى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله :﴿ لا إكراه في الدين ﴾ [ البقرة : ١٥٦ ] قال :" كانت المرأة من الأنصار لا يعيش لها وَلَدٌ فتحلف لئن عاش لها ولد لتُهَوِّدَنَّهُ، فلما أُجليت بنو النضير إذا فيهم ناس من أبناء الأنصار، فقالت الأنصار : يا رسول الله أبناؤنا ! فأنزل الله :﴿ لا إكراه في الدين ﴾ [ البقرة : ١٥٦ ]. قال سعيد : فمن شاء لحق بهم ومن شاء دخل الإسلام ؛ فلم يفرق فيما ذكر بين من دان باليهودية قبل نزول القرآن وبعده. وروى عبادة بن نُسَيّ عن غضيف بن الحارث : أن عاملاً لعمر بن الخطاب كتب إليه أن ناساً من السامرة يقرؤون التوراة ويَسْبُتُون السبت ولا يؤمنون بالبعث، فما ترى ؟ فكتب إليه عمر :" إنهم طائفة من أهل الكتاب ". وروى محمد بن سيرين عن عبيدة قال : سألت عليّاً عن ذبائح نصارى العرب، فقال :" لا تحل ذبائحهم فإنهم لم يتعلقوا من دينهم بشيءٍ إلا بشرب الخمر ". وروى عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس قال : كُلُوا من ذبائح بني تغلب وتزوجوا من نسائهم، فإن الله تعالى قال في كتابه :﴿ ومن يتولهم منكم فإنه منهم ﴾ [ المائدة : ٥١ ] فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية كانوا منهم. ولم يفرق أحد من هؤلاء بين من دان بذلك قبل نزول القرآن وبعده، فهو إجماع منهم. ويدل على بطلان هذه المقالة من التفرقة بين من دان بدين أهل الكتاب قبل نزول القرآن أو بعده قولُ الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم ﴾ [ المائدة : ٥١ ]، وذلك إنما يقع على المستقبل، فأخبر تعالى بعد نزول القرآن أن من يتولاّهم من العرب فهو منهم، وذلك يقتضي أن يكون كتابيّاً ؛ لأنهم أهْلُ الكتاب، وأن تحلّ ذبائحهم، لقوله تعالى :﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ ﴾.
ومن الناس من يزعم أن أهل الكتاب هم بنو إسرائيل الذين ينتحلون اليهودية والنصرانية دون مَنْ سواهم من العرب والعجم الذين دانوا بدينهم، ولم يفرقوا في ذلك بين من دَانَ بذلك قبل نزول القرآن وبعده، ويحتجّون في ذلك بقوله :﴿ ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ﴾ [ الجاثية : ١٦ ]، فأخبر أن الذين آتاهم الكتاب هم بنو إسرائيل ؛ وبحديث عبيدة السلماني عن عليّ أنه قال :" لا تحلّ ذبائح نصارى العرب لأنهم لم يتعلقوا من دينهم بشيءٍ إلا بشرب الخمر ". أما الآية فلا دلالة فيها على قولهم ؛ لأنه إنما أخبر أنه آتى بني إسرائيل الكتاب ولم يَنْفِ بذلك أن يكون من انتحل دينهم في حكمهم. وقد قال ابن عباس : تحلّ ذبائحهم، لقوله تعالى :﴿ لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ﴾ [ المائدة : ٥١ ]، فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم. وقول عليّ رضي الله عنه في ذلك وحَظْرُ ذبائح نصارى العرب ليس من جهة أنهم من غير بني إسرائيل، لكن مِنْ قِبَلِ أنهم غير متمسكين بأحكام تلك الشريعة ؛ لأنه قال : إنهم لا يتعلقون من دينهم إلاّ بشرب الخمر، ولم يقل : لأنهم ليسوا من بني إسرائيل ؛ فقَوْلُ من قال إن أهل الكتاب لا يكونون إلاّ من بني إسرائيل وإن دانوا بدينهم قَوْلٌ ساقط مردود.
وروى هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي عبيدة عن حذيفة عن عدي بن حاتم قال : أتينا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ أَسْلِمْ تَسْلَمْ ! " فقلت له : إنّ لي ديناً، فقال :" أنا أَعْلَمُ بِدِينِكَ مِنْكَ " قلت : أنت أعلم بديني مني ؟ ! قال :" نَعَمْ ! أَلَسْتَ رَكُوسِيّاً " قال : قلت بلى ! قال :" أَلَسْتَ تَرْأَسُ قَوْمَكَ " قال : قلت بلى ! قال :" أَلَسْتَ تَأْخُذُ المِرْبَاعَ ؟ " قال : قلت بلى ! قال :" فإنّ ذَلِكَ لاَ يَحِلُّ لَكَ فِي دِينِكَ " قال : فكأني رأيت أن عليّ بها غضاضة، وكأني تواضعت بها. وروى عبدالسلام بن حرب عن غطيف بن أعْيَنٍ عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عُنُقي صليبُ ذهبٍ، فقال :" أَلْقِ هَذَا الوَثَنَ عَنْكَ " ثم قرأ :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ﴾ [ التوبة : ٣١ ] قال : قلت : يا رسول الله ما كنا نعبدهم ! قال :" أَلَيْسَ كَانُوا يُحِلُّونَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَتُحِلُّونَهُ ويُحَرِّمُونَ عَلَيْكُمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ " ؟ قال : فتلك عبادتهم. وفي هذين الخبرين ضروب من الدلالة على ما ذكرنا، أحدها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبه إلى متخذي الأحبار والرهبان أرباباً، وهم اليهود والنصارى، ولم يَنْفِ ذلك عنه من حيث كان عربيّاً، وقال في الحديث الأول :" ألست ركوسيّاً " وهم صنف من النصارى، فلم يخرجه عنهم بأخْذِهِمُ المِرْبَاعَ، وهو ربع الغنيمة ؛ وليس ذلك من دين النصارى، لأن في دينهم أن الغنائم لا تحلّ ؛ فهذا يدل على أن ترك التمسك بما ينتحله المنتحلون للأديان لا يخرجهم من أن يكونوا من أهل تلك الشريعة وذلك الدين، ويدل على أن العرب وبني إسرائيل سواءٌ فيما ينتحلون من دين أهل الكتاب وأنهم غير مختلفي الأحكام ؛ ولما لم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم عما انتحله من دين النصارى أكان قبل نزول القرآن أو بعده ونسبه إلى فرقة منهم من غير مسألة دلَّ على أنه لا فرق بين من انتحل ذلك قبل نزول القرآن أو بعده ؛ والله أعلم.

باب تزوج الكتابيات


قال الله تعالى :﴿ والمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾. قال أبو بكر : اخْتُلف في المراد بالمُحْصَنَاتِ هاهنا، فرُوي عن الحسن والشعبي وإبراهيم والسدي : أنهم العفائف. ورُوي عن عمر ما يدل على أن المعنى عنده ذلك، وهو ما حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا محمد بن يزيد عن الصلت بن بهرام عن شقيق بن سلمة قال : تزوج حُذَيفة بيهودية، فكتب إليه عمر أنْ خَلِّ سبيلها، فكتب إليه حذيفة : أحرام هي ؟ فكتب إليه عمر : لا، ولكني أخاف أن تُوَاقِعُوا المُومَسَاتِ منهنّ ؛ قال أبو عبيد : يعني العواهر. فهذا يدل على أن معنى الإحْصَانِ عنده ههنا كان على العفَّة. وقال مطرف عن الشعبي في قوله. ﴿ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ قال :" إحصان اليهودية والنصرانية أن تغتسل من الجنابة وأن تُحْصِنَ فَرْجَها ". وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد :﴿ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ قال :" الحرائر ".
قال أبو بكر : الاختلاف في نكاح الكتابية على أنحاء مختلفة، منها إباحة نكاح الحرائر منهن إذا كنّ ذميات، فهذا لا خلاف بين السلف وفقهاء الأمصار فيه إلا شيئاً يُرْوَى عن ابن عمر أنه كرهه ؛ حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا يحيى بن سعيد عن عبدالله بن نافع عن ابن عمر : أنه كان لا يرى بأساً بطعام أهل الكتاب ويكره نكاح نسائهم. قال جعفر : وحدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبدالله بن صالح عن الليث قال : حدثني نافع عن ابن عمر : أنه كان إذا سئل عن نكاح اليهودية والنصرانية قال :" إن الله حرَّم المشركات على المسلمين ولا أعلم من الشِّرْكِ شيئاً أعظم من أن تقول ربها عيسى ابن مريم وهو عبد من عبيد الله ". قال أبو عبيد : وحدثني علي بن معبد عن أبي المليح عن ميمون بن مهران قال : قلت لابن عمر : إِنّا بأرضٍ يخالطنا فيها

باب الوضوء بغير نية


قوله تعالى :﴿ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ﴾ يقتضي جواز الصلاة بوجود الغسل سواء قارَنَتْهُ النية أو لم تقارنه ؛ وذلك لأن الغسل اسم شرعي مفهوم المعنى في اللغة، وهو إمرارُ الماء على الموضع، وليس هوعبارة عن النية. فمن شَرَطَ فيه النية فهو زائد في النّص، وهذا فاسد من وجهين، أحدهما : أنه يوجب نسخ الآية، لأن الآية قد أباحت فعل الصلاة بوجود الغسل للطهارة من غير شرط النية، فمن حَظَرَ الصلاة ومَنَعَهَا إلا مع وجود نية الغسل فقد أوجب نسخها، وذلك لا يجوز إلا بنصّ مثله. والوجه الآخر : أن النصّ له حكمه ولا يجوز أن يُلْحق به ما ليس منه، كما لا يجوز أن يسقط منه ما هو منه. فإن قيل : فقد شَرَطْتَ في صحة الصلاة النية مع عدم ذكرها في اللفظ ! قيل له : إنما جاز ذلك فيها من وجهين، أحدهما : أن الصلاة اسم مجمل مفتقر إلى البيان غير موجب للحكم بنفسه إلا ببيان يَرِدُ فيه، وقد ورد فيه البيان بإيجاب النية فلذلك أوجبناها ؛ وليس كذلك الوضوء لأنه اسم شرعي ظاهر المعنى بَيِّنُ المراد، فمهما ألحقنا به ما ليس في اللفظ عبارة عنه فهو زيادة في النصّ ولا يجوز ذلك إلا بنصّ مثله. والوجه الآخر : اتفاق الجميع على إيجاب النية فيها، فلو كان اسم الصلاة عموماً ليس بمجمل لجاز إلحاق النية بها بالاتفاق، فهي إذاً كانت مُجْمَلاً أُجْري بإثبات النية فيها من جهة الإجماع.
ذكر اختلاف الفقهاء في فرض النية
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد :" كل طهارة بماء تجوز بغير نية ولا يجزي التيمم إلا بنية "، وهو قول الثوري. وقال الأوزاعي :" يجزي الوضوء بغير نية " ولم تحفظ عنه في التيمم. وقال مالك والليث والشافعي :" لا يجزي الوضوء ولا الغسل إلاّ بالنية، وكذلك التيمم ". وقال الحسن بن صالح :" يجزي الوضوء والتيمم جميعاً بغير نية "، قال أبو جعفر الطحاوي : ولم نجد هذا القول في التيمم عن غيره.
قال أبو بكر : قد قدمنا ذكر دلالة الآية على جواز الوضوء بغير نية، وقوله تعالى :﴿ ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ﴾ [ النساء : ٤٣ ] دالٌّ على جواز الاغتسال من الجنابة بغير نية، كذلك قوله تعالى :﴿ إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ﴾ على النحو الذي بيّنا. ويدل عليه أيضاً قوله تعالى :﴿ وأنزلنا من السماء ماء طهوراً ﴾ [ الفرقان : ٤٨ ] ومعناه : مطهراً ؛ فحيثما وجد فواجب أن يكون مطهراً. ولو شرطنا فيه النية كنا قد سلبناه الصفة التي وصفه الله بها من كونه طهوراً ؛ لأنه حينئذ لا يكون طهوراً إلا بغيره، والله تعالى جعله طهوراً من غير شرط معنى آخر فيه.
فإن قيل : إيجابُ شَرْطِ النية فيه لا يخرجه من أن يكون طهوراً كما وصفه الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :" جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطهوراً "، وقال :" التُّرَابُ طَهُورُ المُسْلِمِ ما لَمْ يَجِدِ المَاءَ " ولم يمنع ذلك إيجاب النية شرطاً فيه. قيل له : إنما سماه طهوراً على وجه المجاز تشبيهاً له بالماء في باب إباحة الصلاة، والدليل عليه أنه لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس، فعلمنا أنه سماه طهوراً استعارةً ومجازاً. ومن جهة أخرى أن إثبات النية شرطاً في التيمم جائز مع قوله :" التراب طهور المسلم " ولا يجوز مثله في الوضوء ؛ وذلك لأن قوله :﴿ فَتَيَمَّمُوا ﴾ يقتضي إيجاب النية، إذ كان التيمم هو القصد في اللغة ؛ وقوله :" التراب طهور المسلم " وارد من طريق الآحاد، فواجب أن يكون الخبر مرتباً على الآية، إذ غير جائز ترك حكم الآية بالخبر وتجوز الزيادة في حكم الخبر بالآية، وليس ذلك كقوله :﴿ وأنزلنا من السماء ماء طهوراً ﴾ [ الفرقان : ٤٨ ] لأنه غير جائز أن يُزاد في نصّ القرآن إلا بمثل ما يجوز به نسخه. ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى :﴿ وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ﴾ [ الأنفال : ١١ ] فأبان الله تعالى عن وقوع التطهير بالماء من غير شرط النية فيه.
فإن قيل : لما كان قوله تعالى :﴿ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ﴾ الآية، مقتضياً لفرض الطهارة، فمن حيث كان فرضاً وجب أن تكون النية شرطاً في صحته لاستحالة وقوع الفعل مَوْقِعَ الفرض إلا بالنية، وذلك لأن الفرض يحتاج في صحة وقوعه إلى نيتين إحداهما نية التقرب به إلى الله تعالى والأخرى نية الفرض، فإذا لم يَنْوِهِ لم توجد صحة الفرض، فلم يُجْزِ عن الفرض إذ هو غير فاعل للمأمور به. قيل له : إنما يجب ما ذكرتَ في الفروض التي هي مقصودة لأعيانها ولم تجعل سبباً لغيرها، فأما ما كان شرطاً لصحة فعل آخر فليس يجب ذلك فيه بنفس ورود الأمر إلاّ بدلالة تقارنه، فلما جعل الله الطهارة شرطاً لصحة الصلاة ولم تكن مفروضة لنفسها، لأن من لا صلاة عليه فليس عليه فرض الطهارة كالمريض المغمى عليه أياماً وكالحائض والنفساء، وقال تعالى :﴿ إذا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ﴾ وقال :﴿ ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ﴾ [ النساء : ٤٣ ] فجعله شرطاً في غيره ولم يجعله مأموراً به لنفسه، فاحتاج مُوجِب النية شرطاً فيه إلى دلالة من غيره، ألا ترى أن كثيراً مما هو شرطٌ في الفرض وليس بمفروض بعينه فجائز أن يكون من فعل غيره نحو الوقت الذي هو شرط في صحة أداء الصلاة ولا صنع للمصلي فيه، ونحو البلوغ والعقل اللذين هما شرط في صحة التكليف وليسا بفعل المكلف ؟ فبان بما وصفنا أن ورود لفظ الأمر بما جُعِلَ شرطاً في غيره لا يقتضي وقوعه طاعةً منه ولا إيجاب النية فيه، ألا ترى أن قوله تعالى :﴿ وثيابك فطهر ﴾ [ المدثر : ٤ ] وإن كان أمراً بتطهير الثوب من النجاسة فإنه لم يوجب كَوْنَ النية شرطاً في تطهيره ؟ إذْ لم تكن إزالة النجاسة مفروضة لنفسها وإنما هي شرط في غيرها، وإنما تقديره : لا تصلِّ إلا في ثوب طاهر ولا تصلِّ إلا مستور العورة. ويدل على ذلك أيضاً أن الشافعي قد وافَقَنَا على أن رجلاً لو قعد في المطر ينوي الطهارة فأصاب جميع أعضائه أنه يجزيه من غير فعل له فيه، ولو كان ذلك مفروضاً لنفسه لما أجزاه دون أن يفعله هو أو يأمر به غيره ؛ لأن هذا حكم المفروض.
فإن قيل : فالتيمم غير مفروض لنفسه ولا يصح مع ذلك إلا بالنية، فليس إيجاب النية مقصوراً على ما كان مفروضاً لنفسه. قيل له : هذا غير لازم لأنا لم نخرج هذا القول مخرج الاعتلال فتلزمنا عليه المناقضة، وإنما بينا أن لفظ الأمر إذا ورد فيما كان وصفه ما ذكرنا فإنه لا يقتضي إيجاب النية شرطاً فيه إلاّ بدلالة أخرى من غيره، فإنما أسقطنا بذلك احتجاج من احتجّ بظاهر ورود الأمر في إيجاب النية، وفي مضمون لفظ التيمم إيجاب النية إذ كان التيمم في اللغة اسماً للقصد، قال الله تعالى :﴿ ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ﴾ [ البقرة : ٢٦٧ ] يعني لا تقصدوا ؛ وقال الشاعر :
* ولَنْ يَلْبِثَ العَصْرَانِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ * إذا طُلِبَا أن يُدْرَكَا ما تَيَمَّمَا *
وقال آخر :
* فإنْ تَكُ خَيْلِي قَدْ أُصِيبَ صَمِيمُهَا * فَعَمْداً على عَيْنٍ تَيَمَّمْتُ مَالِكَا *
وقال الأعشى :
* تَيَمَّمْتُ قَيْساً وكَمْ دُونَهُ * مِنَ الأَرْضِ مِنْ مَهْمَهٍ ذي شَزَن *
يعني قصدته. فلما كان في لفظ الآية إيجابُ القصدِ والقَصْدُ هو النية لفعل ما أُمِر به، جعلنا النية شرطاً ولم يكن في إيجاب النية فيه إلحاقُ زيادةٍ بالآية غير مذكورة فيها. وأما الغسل فلا تنطوي تحتة النية، وفي إيجابها فيه إثبات زيادة فيها ليست منها، وذلك غير جائز. ووجه آخر في الفصل بين التيمم والوضوء : وهو أن التيمم قد يقع تارةً عن الغسل وتارةً عن الوضوء، وهو على صفة واحدة في الحالين، فاحْتِيجَ إلى النية للفصل بين حكميهما ؛ لأن النية إنما شُرطت لتمييز أحكام الأفعال، فلما كان حكم التيمم قد يختلف فيقع تارة عن الغسل وتارة عن الوضوء احتيج إلى النية فيه لتمييز ما يقع منه عن الغسل عما يقع منه عن الوضوء ؛ وأما الغسل لا يختلف حكمه في نفسه ولا فيما يقع له فاستغنى عن النية فيه والتمييز، إذ كان المقصد منه إيقاعَ الفعل كما قيل : لا تصلِّ حتى تغسل النجاسة من بدنك أو ثوبك، ولا تصلِّ إلا مستورَ العَوْرَةِ، وليس يقتضي شيءٌ من ذلك إيجابَ النية فيه.
ويدل على ما ذكرنا من جهة السنة حديثُ رفاعة بن رافع وأبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليمه الأعرابيّ الصلاة وقوله :" لا تَتِمُّ صَلاةُ امْرِىءٍ حَتّى يَضَعَ الطّهُورَ مَوَاضِعَهُ، فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ ويَدَيْهِ وَيَمْسَحَ برَأْسِهِ وَيَغْسِلَ رِجْلَيْهِ "، فقوله :" حتى يضع الطهور مواضعه " يقتضي جوازه بغير نية، لأن مواضع الطهور معلومة مذكورة في القرآن، فصار كقوله : حتى يغسل هذه الأعضاء، وقوله :" فيغسل وجهه ويديه " يوجب ذلك أيضاً، إذْ لم يشرط فيه النية، فظاهره يقتضي جوازه على أيّ وجه غسله. ويدل من جهة أخرى أنه معلوم أن الأعرابيّ كان جاهلاً بأحكام الصلاة والطهارة، فلو كانت النية شرطاً فيها لما أخْلاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من التوقيف عليها، وفي ذلك أوْضَحُ دليل على أنها ليست من فروضها. ويدل عليه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم في غسل الجنابة لأمّ سلمة :" إنّما يَكْفِيكِ أنْ تَحْثي عَلَى رَأْسِكِ ثَلاَثَ حَثْيَاتٍ وعلى سَائِرِ جَسَدِكِ فإذا أنْتِ قَدْ طَهُرْتِ "، ولم يشرط فيه النية. وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ مرة مرة ثم قال :" هذا وُضُوءٌ لا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلاَةَ إِلاّ بِهِ "، فأشار إلى الفعل المُشَاهَدِ دون النيّة التي هي ضمير لا تصحّ الإشارة إليه وأخبر بقبول الصلاة به، وقال :" إذا وَجَدْتَ المَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَكَ "، وقال :" إنّ تَحْتَ كُلّ شَعْرَةٍ جَنَابَةً، فبلُّوا الشَّعَرَ وَأَنْقُوا البَشَرَةَ ". ومن جهة النظر أن الوضوء طهارة بالماء كغسل النجاسة، وأيضاً هو سبب يُتوصل به إلى صحة أداء الصلاة لا على وجه البدل عن غيره، فأشْبَهَ غسل النجاسة وستر العورة والوقوف على مكان طاهر، ولا يلزم عليه التيمم لأنه بدل عن غيره.
فإن احتجّوا بقوله تعالى :﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ﴾ [ البينة : ٥ ] وذلك يقتضي إيجابَ النية له، لأن ذلك أقلّ أحوال الإخلاص. قيل له : ينبغي أن يثبت أن الوضوء عبادةٌ أو أنه من الدين، إذْ جائز أن يقال إن العبادات هي ما كان مقصوداً لعينه في التعبد، فأما ما أُمر به لأجل غيره أو جُعل شرطاً فيه أو سبباً له فليس يتناوله هذا الاسم، ولو لزم أن يكون تارك النية في الطهارة غير مخلص لله لوجب مثله في تارك النية في غسل النجاسة وستر العورة، فلما لم يَجُزْ أن يكون تارك النية فيما وصفنا غير مخلص إذ كان مأموراً به لأجل الصلاة كان كذلك في الطهارة.
مطلب : الإخلاص ضد الإشراك
وأيضاً فإن كل من اعتقد الإسلام فهو مخلصٌ لله تعالى فيما يفعله من العبادات، إذْ لم يشرك في النية بين الله وبين غيره ؛ لأن ضدّ الإخلاص هو الإشراك، فمتى لم يشرك فهو مخلص بنفس اعتقاد الإيمان في جميع ما يفعله من العبادات ما لم يُشْرِكْ غيره فيه.
واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم :" الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ " وهذا

باب القيام بالشهادة والعدل


قال الله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالقِسْطِ ﴾ ومعناه : كونوا قوامين لله بالحقّ في كل ما يُلْزمكم القيام به من الأمر بالمعروف والعمل به والنهي عن المنكر واجتنابه، فهذا هو القيام لله بالحق. وقوله :﴿ شُهَدَاءَ بالقِسْطِ ﴾ يعني بالعدل ؛ قد قيل في الشهادة إنها الشهادات في حقوق الناس، رُوي ذلك عن الحسن ؛ وهو مثل قوله :﴿ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شهداء لله ولو على أنفسكم ﴾ [ النساء : ١٣٥ ]. وقيل : إنه أراد الشهادة على الناس بمعاصيهم، كقوله تعالى :﴿ لتكونوا شهداء على الناس ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] فكان معناه : أن كونوا من أهل العدالة الذين حكم الله بأن مثلهم يكونون شهداء على الناس يوم القيامة. وقيل : أراد به الشهادة لأمر الله بأنه الحق. وجائز أن تكون هذه المعاني كلها مرادة لاحتمال اللفظ لها.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لاَ تَعْدِلُوا ﴾ رُوي أنها نزلت في شأن اليهود حين ذهب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستعينهم في دِيَةٍ، فهمُّوا أن يقتلوه. وقال الحسن :" نزلت في قريش لما صدّوا المسلمين عن المسجد الحرام ". قال أبو بكر : قد ذكر الله تعالى هذا المعنى في هذه السورة في قوله :﴿ ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أنْ صَدُّوكُمْ عَن المَسْجِدِ الحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا ﴾ فحمله الحسن على معنى الآية الأولى، والأوْلى أن تكون نزلت في غيرهم وأن لا تكون تكراراً.
مطلب : فيما تضمنته الآية من الأمر بالعدل مع المحق والمبطل
وقد تضمن ذلك الأمر بالعدل على المحق والمبطل، وحكم بأن كُفرَ الكافرين وظُلْمَهُمْ لا يمنع من العدل عليهم، وأن لا يتجاوز في قتالهم وقتلهم ما يستحقّون، وأن يقتصر بهم على المستحقّ من القتال والأسْرِ والاسترقاق دون المُثَلَةِ بهم وتعذيبهم وقَتْلِ أولادهم ونسائهم قصداً لإيصال الغمّ والألم إليهم. وكذلك قال عبدالله بن رواحة حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر خارصاً، فجمعوا له شيئاً من حليّهم وأرادوا دفعه إليه ليخفف في الخَرْصِ : إن هذا سُحْتٌ وإنكم لأَبْغَضُ إليّ من عدّتكم قردة وخنازير، وما يمنعني ذلك من أن أعدل عليكم ! فقالوا : بهذا قامت السموات والأرض.
فإن قيل : لما قال :﴿ هُوَ أَقْرَبُ للتَّقْوَى ﴾ ومعلوم أن العدل نفسه هو التقوى، فكيف يكون الشيء هو أقرب إلى نفسه ؟ قيل : معناه : هو أقرب إلى أن تكونوا متّقين باجتناب جميع السّيئات، فيكون العدل فيما ذكر داعياً إلى العدل في جميع الأشياء واجتناب جميع المعاصي ؛ ويحتمل : هو أقرب لاتقاء النار. وقوله :﴿ هُوَ أَقْرَبُ للتَّقْوَى ﴾ فقوله :" هو " راجع إلى المصدر الذي دل عليه الفعل، كأنه قال : العدل أقرب للتقوى، كقول القائل : من كذب كان شرّاً له ؛ يعني كان الكذب شرّاً له.
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَي عَشَرَ نَقِيباً ﴾ قد اختُلف في المراد بالنقيب ههنا، فقال الحسن :" الضمين ". وقال الربيع بن أنس :" الأمين ". وقال قتادة :" الشهيد على قومه ". وقيل إن أصل النقيب مأخوذ من النّقْبِ وهو الثقب الواسع، فقيل نقيب القوم لأنه ينقب على أحوالهم وعن مكنون ضمائرهم وأسرارهم، فسُمّي رئيس العرفاء نقيباً لهذا المعنى. وأما قول الحسن إنه الضمين، فإنما أراد به أنه الضمين لتعرُّف أحوالهم وأمورهم وصلاحهم وفسادهم واستقامتهم وعدولهم ليرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الأنصار اثني عشر نقيباً على هذا المعنى. وقول الربيع بن أنس إنه الأمين، وقول قتادة إنه الشهيد، يقارب ما قال الحسن أيضاً ؛ لأنه أمينٌ عليهم وشهيدٌ بما يعملون به ويجري عليهم أمورهم. وإنما نَقَّبَ النبي صلى الله عليه وسلم النقباء لشيئين : أحدهما لمراعاة أحوالهم وأمورهم وإعلامها النبي صلى الله عليه وسلم ليَدَّبَّرَ فيهم بما يرى. والثاني : أنهم إذا علموا أن عليهم نقيباً كانوا أقرب إلى الاستقامة، إذ علموا أن أخبارهم تنتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن كل واحد منهم يحتشم مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يَنُوبُهُ ويَعْرِضُ له من الحوائج قبله، فيقوم عنه النقيب فيه. وليس يجوز أن يكون النقيب ضامناً عنهم الوفاء بالعهد والميثاق ؛ لأن ذلك معنى لا يصح ضمانه ولا يمكن الضمين فعله ولا القيام به، فعلمنا أنه على المعنى الأولى.
وفي هذه الآية دلالةٌ على قبول خبر الواحد ؛ لأن نقيب كلّ قوم إنما نُصِبَ ليعرِّفَ أحوالَهُمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أو الإمامَ، فلولا أن خبره مقبولٌ لما كان لنصبه وجه. فإن قيل : إنما يدل ذلك على قبول خبر الاثني عشر دون الواحد. قيل له : إن الاثني عشر لم يكونوا نقباء على جميع بني إسرائيل بجملتهم، وإنما كان كل واحد منهم نقيباً على قومه خاصة دون الآخرين.
مطلب : في معنى التحريف
قوله :﴿ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ﴾ تحريفهم إياه يكون بوجهين، أحدهما : بسوء التأويل، والآخر : بالتغيير والتبديل. وأما ما قد استفاض وانتشر في أيدي الكافة فغير ممكن تغيير ألفاظه إلى غيرها لامتناع التواطؤ على مثلهم، وما لم يستفض في الكافة وإنما كان عِلْمُهُ عند قوم من الخاصة يجوز على مثلهم التواطؤ، فإنه جائز وقوع تغيير ألفاظه ومعانيه إلى غيرها وإثبات ألفاظ أُخَرَ سواها. وأما المستفيض الشائع في أيدي الكافّة فإنما تحريفهم على تأويلات فاسدة، كما تأولت المشبِّهة والمجبِّرة كثيراً من الآي المتشابهة على ما تعتقده من مذهبها وتدّعي من معانيها ما يوافق اعتقادها دون حَمْلِهَا على معاني الآي المحكمة. وإنما قلنا إنه غير جائز وقوعُ التحريف من جهة تغيير الألفاظ فيما استفاض وانتشر عند الكافة، مِنْ قِبَلِ أن ذلك لا يقع إلاّ بالتواطؤ عليه، ومثلهم مع اختلاف هِمَمِهِمْ وتباعُدِ أوطانهم لا يجوز وقوع التواطؤ منهم على مثله، كما لا يجوز وقوع التواطؤ من المسلمين على تغيير شيء من ألفاظ القرآن إلى غيره ؛ ولو جاز ذلك لجاز تواطؤهم على اختراع أخبار لا أصل لها، ولو جاز ذلك لما صحّ أن يعلم بالأخبار شيء ؛ وقد عُلم بطلان هذا القول اضطراراً.
قوله تعالى :﴿ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ ﴾ عن الحسن قال : إنما قال :﴿ قَالُوا إنَّا نَصَارَى ﴾ ولم يقل :" من النصارى " ليدلّ على أنهم ابتدعوا النصرانية وتسمَّوْا بها، وأنهم ليسوا على منهاج الذين اتّبعوا المسيح في زمانه من الحواريين، وهم الذين كانوا نصارى في الحقيقة نُسِبُوا إلى قرية بالشام تسمَّى " ناصرة " فانتسب هؤلاء إليهم وإن لم يكونوا منهم ؛ لأن أولئك كانوا مُوَحِّدَةً مؤمنين، وهؤلاء مُثَلِّثَةٌ مشركون. وقد أطلق الله تعالى في مواضع غيره اسم النصارى، لا على وجه الحكاية عنهم، في قوله تعالى :﴿ وقالت النصارى المسيح ابن الله ﴾ [ التوبة : ٣٠ ] وفي مواضع أُخر ؛ لأنهم قد عُرِفوا بذلك وصار ذلك سِمَةً لهم وعلامة.
قوله تعالى :﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ الله هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ﴾ إنما لحقتهم سِمَةُ الكفر لأنهم قالوا ذلك على جهة التديُّن به واعتقادهم إياه والإقرار بصحته ؛ لأنهم لو قالوا على جهة الحكاية عن غيرهم منكرين له لما كفروا ؛ والكُفْرُ هو التغطية، ويرجع معنى ما ذُكر عنهم إلى التغطية من وجهين، أحدهما : كفران النعمة بجَحْدِهَا أن يكون المنعم بها هو الله تعالى وإضافتها إلى غيره ممن ادّعوا له الإلهية. والآخر : كُفْرٌ من جهة الجهل بالله تعالى، وكل جاهل بالله كافرٌ لتضييعه حق نِعَم الله تعالى، فكان بمنزلة مضيفها إلى غيره. وقوله تعالى :﴿ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ﴾ معناه : من يقدر على دَفْعِ أمر الله تعالى إن أراد هلاك المسيح وأمه. وهذا من أظْهَرِ الاحتجاج وأوْضَحِهِ، لأنه لو كان المسيح إلهاً لقدر على دفع أمر الله تعالى إذا أراد الله تعالى إهلاكه وإهلاكَ غيره، فلما كان المسيح وسائر المخلوقين سواءً في جواز ورود الموت والهلاك عليهم، صح أنه ليس بإلهٍ، إذْ لم يكن سائر الناس آلهة وهو مثلهم في جواز الفناء والموت والهلاك عليهم.
قوله تعالى :﴿ وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾ قال ابن عباس :" هذا قولُ جماعة من اليهود حين حذّرهم النبي صلى الله عليه وسلم نقمات الله، فقالوا : لا تخوّفْنا فإنّا أبناء الله وأحباؤه ". وقال السدي :" تزعم اليهود أن الله تعالى أوْحَى إلى إسرائيل أنّ وَلَدَكَ بِكْرِي من الولد ". وقال الحسن :" إنما قالوا ذلك على معنى قُرْبِ الولد من الوالد "، وأما النصارى فقيل إنهم تأوّلوا ما في الإنجيل من قول المسيح عليه السلام :" إني ذاهبٌ إلى أبي وأبيكم " وقيل : إنهم لما قالوا المسيح ابن الله وكان منهم، جرى ذلك على قول العرب " هُذَيْلٌ شعراء " أي منهم شعراء، وعلى قولهم في رهط مسيلمة ؛ قالوا : نحن أبناء الله، أي قال قائل منهم وتابعوه عليه، فكان معنى قولهم على هذا الوجه " نحن أبناء الله " أي منّا ابن الله.
وقال تعالى :﴿ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبْكُمْ بذُنُوبِكُمْ ﴾ فيه إبطال دعواهم ذلك وتكذيبهم بها على لسانهم، لأنهم كانوا مقرّين بأنهم يعذّبون بالذنوب، ومعلوم أن الأب المشفق لا يعذب ولده.
مطلب : في معنى قوله تعالى :﴿ وجعلكم ملوكاً ﴾
قوله تعالى :﴿ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً ﴾ قال عبدالله بن عمر وزيد بن أسلم والحسن :" المَلِكُ من له دارٌ وامرأة وخادم ". وقال غيرهم :" هو الذي له ما يستغني به عن تكلّف الأعمال وتحمل المشاقّ للمعاش ". وقال ابن عباس ومجاهد :" جُعِلوا ملوكاً بالمنّ والسلوى والحجر والغمام ". وقال غيرهم :" بالأموال أيضاً ". وقال الحسن :" إنما سمّاهم ملوكاً لأنهم ملكوا أنفسهم بالتخلّص من القبط الذين كانوا يستعبدونهم ". وقال السدي :" ملك كل واحد منهم نفسه وأهله وماله ". وقال قتادة :" كانوا أول من ملك الخدم ".
قوله تعالى :﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ الله لَكُمْ ﴾ قال ابن عباس والسدي :" أرض بيت المقدس ". وقال مجاهد :" أرض الطُّور ". وقال قتادة :" أرض الشام ". وقيل :" دمشق وفلسطين وبعض الأردنّ ". والمقدسة هي المطهرة، لأن التقديس التطهير، وإنما سمّاها الله المقدسةَ لأنها طَهُرَتْ من كثير من الشرك وجُعلت مسكناً وقراراً للأنبياء والمؤمنين. فإن قيل : لم قال :﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ وقد قال :﴿ فإنَّها مُحَرَّمَةُ عَلَيْهِمْ ﴾ ؟ قيل له : رُوي عن ابن إسحاق أنها كانت هِبَةً من الله تعالى لهم ثم حَرَمَهُمْ إياها. قال أبو بكر : ينبغي أن يكون الله قد جعلها على شريطة القيام بطاعته واتباع أمره، فلما عَصَوْا حَرَمَهُمْ إيّاها. وقد قيل إنها على الخصوص وإن كان مخرجه مخرج العموم.
قوله تعالى :﴿ إنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ ﴾ فإنه قد قيل إن الجبّار هو من الإجبار على الأمر وهو الإكراه عليه، وجَبَرَ العظم لأنه كالإكراه على الصلاح، والجُبَارُ هَدْرُ الأرْش لأن فيه معنى الكرْه، والجبار من النخل ما فات اليد طولاً لأنه كالجبّار من الناس، والجبّارُ من الناس الذي يُجْبِرُهم على ما يريد. والجبّارُ صفةُ مَدْحٍ لله تعالى وهو ذمّ في صفة غيره ؛ لأن غيره يتعظّم بما ليس له والعظمةُ لله عز وجل وحده الجبّار المتعظّم بالاقتدار ؛ ولم يزل الله جبّاراً، والمعنى أن ذاته يدعو العارف به إلى تعظيمه. والفرق بين الجبّار والقهّار أن في القهّار مَعْنَى الغالب لمن ناواه أو كان في حكم المناوي بعصيانه إياه.
قوله تعالى :﴿ قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَليْهِمُ البَابَ ﴾ رُوي عن قتادة في قوله :﴿ يَخَافُونَ ﴾ أنهم يخافون الله تعالى. وقال غيره من أهل العلم :" يخافون الجبارين " ولم يمنعهم الخوف من أن يقولوا الحق فأثْنَى الله عليهما بذلك، فدلّ على فضيلة قول الحقّ عند الخوف وشرف منزلته ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" لا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ مَخَافَةُ النّاسِ أنْ يَقُولَ الحَقَّ إذا رَآهُ وَعَلِمَهُ فإنه لا يُبْعِدُ مِنْ رِزْقٍ ولا يُدْنِي مِنْ أَجَلٍ " وقال لأبي ذر رضوان الله عليه :" وأنْ لا يأخُذَكَ في الله لَوْمَةُ لاَئِمٍ " وقال حين سئل عن أفضل الجهاد، فقال :" كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ ".
قوله تعالى :﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾. قوله :﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ ﴾ يحتمل معنيين : أحدهما أنهم قالوه على وجه المجاز بمعنى " وربك معين لك ". والثاني : الذهاب الذي هو النقلة ؛ وهذا تشبيهٌ وكفرٌ من قائله، وهو أوْلى بمعنى الكلام، لأن الكلام خرج مخرج الإنكار عليهم والتعجب من جهلهم، وقد يقال على المجاز " قاتله الله " بمعنى أن عداوته لهم كعداوة المقاتل المستعلي عليهم بالاقتدار وعِظَمِ السلطان.
قوله تعالى :﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي ﴾ هذا مجازٌ، لأن الإنسان لا يملك نفسه ولا أخاه الحرّ على الحقيقة ؛ وذلك لأن أصل الملك القدرة ومحالٌ أن يقدر الإنسان على نفسه أو على أخيه، ثم أُطلق اسم الملك على التصرّف فجُعِلَ المملوك في حكم المقدور عليه، إذ كان له أن يُصَرِّفه تصرّف المقدور عليه ؛ وإنما معناه ههنا أنه يملك تصريف نفسه في طاعة الله، وأطلقه على أخيه أيضاً إذا كان يتصرف بأمره وينتهي إلى قوله ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" ما أحَدٌ أَمَنَّ عليَّ بنَفْسِهِ وذَاتِ يَدِهِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ " فبكى أبو بكر وقال : هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله ! يعني أني متصرف حيث صرفتني وأمْرُك جائز في مالي. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل :" أَنْتَ وَمَالُكَ لأبِيكَ " ولم يُرِدْ به حقيقة الملك.
قوله تعالى :﴿ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ ﴾ قال أكثر أهل العلم :" هو تحريم مَنْعٍ ؛ لأنهم كانوا يصبحون بحيث أمسوا ومقدار الموضع ستة فراسخ ". وقال بعض أهل العلم : يجوز أن يكون تحريم التعبد ؛ لأن التحريم أصله المنع قال الله تعالى :﴿ وحرمنا عليه المراضع من قبل ﴾ [ القصص : ١٢ ] يعني به المنع ؛ قال الشاعر يصف فرساً :
* حَالَتْ لتَصْرَعَني فقلتُ لها اقْصرِي * إنّي امْرُؤٌ صَرْعي عَلَيْكِ حَرَامُ *
يعني : إني فارس لا يمكنك صَرْعي. فهذا هو أصل التحريم، ثم أجري تحريم التعبد عليه لأن الله تعالى قد منعه بذلك حكماً وصار المحرم بمنزلة الممنوع، إذ كان من حكم الله فيه أن لا يقع كما لا يقع الممنوع منه، وقوله تعالى :﴿ حرمت عليكم الميتة والدم ﴾ [ المائدة : ٣ ] ونحوهما تحريم حكم وتعبّد ؛ لا تحريم منع في الحقيقة. ويستحيل اجتماع تحريم المنع وتحريم التعبد في شيء واحد ؛ لأن الممنوع لا يجوز حظره ولا إباحته إذ هو غير مقدور عليه، والحظر والإباحة يتعلق بأفعالنا، ولا يكون فِعْلٌ لنا إلاّ وقد كان قبل وقوعه منا مقدوراً لنا.
قوله تعالى :﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالحَقِّ إذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً ﴾. قال ابن عباس وعبدالله بن عمر ومجاهد وقتادة :" كانا ابني آدم لصلبه هابيل وقابيل، وكان هابيل مؤمناً وقابيل كافراً "، وقيل بل كان رجل سَوْءٍ. وقال الحسن : هما من بني إسرائيل ؛ لأن علامة تقبّل القربان لم يكن قبل ذلك ". والقربانُ ما يُقْصَدُ به القُرْب من رحمة الله تعالى من أعمال البرّ ؛ وهو " فُعْلانُ " من القُرْبِ كالفُرْقان من الفَرْق، والعُدْوانِ من العَدْوِ، والكُفْرانِ من الكُفْرِ. وقيل : إنما لم يتقبل من أحدهما لأنه قرّب شرَّ ماله وقرَّب الآخر خير ماله فتقبل منه. وقيل : بل ردّ قربانه لأنه كان فاجراً، وإنما يتقبل الله من المتقين. وقيل : كانت علامة القبول أن تجيء نارٌ فتأكل المتقبل ولا تأكل المردود، ومنه قوله تعالى :﴿ حتى يأتينا بقربان تأكله النار ﴾ [ آل عمران : ١٨٣ ] إلى قوله تعالى :﴿ وبالذي قلتم ﴾ [ آل عمران : ١٠٣ ].
قوله تعالى :﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إليَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ ﴾. قال ابن عباس :" معناه لئن بدأتني بقتل لم أبدأك به " ولم يُرِدْ أني لا أدفعك عن نفسي إذا قصدتَ قتلي ؛ فرُوي أنه قتله غيلة بأن أَلْقَى عليه صخرة وهو نائم فشدخه بها. ورُوي عن الحسن ومجاهد أنه كتب عليهم إذا أراد رجل قتله أن يتركه ولا يدفعه عن نفسه. قال أبو بكر : وجائز في العقل وُرُودُ العبادة بمثله، فإن كان التأويل هو الأوّل فلا دلالة فيه على جواز ترك الدفع عن نفسه بقتل من أراد قتله، وإنما فيه أنه لا يبدأ بقتل غيره ؛ وإن كان التأويل هو الثاني فهو منسوخ لا محالة، وجائز أن يكون نسخه بشريعة بعض الأنبياء المتقدمة، وجائز أن يكون نسخه بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم.
مطلب : يجب على من قصده إنسان بالقتل قتله إذا أمكنه
والذي يدل على أن هذا الحكم غير ثابت في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وأن الواجب على من قَصَدَهُ إنسانٌ بالقتل أنّ عليه قَتْلَه إذا أمكنه وأنه لا يَسَعُهُ ترك قتله مع الإمكان، قولُه تعالى :﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ﴾ [ الحجرات : ٩ ] فأمر الله بقتال الفئة الباغية، ولا بَغْيَ أشدُّ من قَصْدِ إنسان بالقتل بغير استحقاق، فاقتضت الآية قَتْلَ من قصد قَتْلَ غيره بغير حق ؛ وقال تعالى :﴿ ولكم في القصاص حياة ﴾ [ البقرة : ١٧٩ ] فأخبر أن في إيجابه القصاص حياة لنا، لأن القاصد لغيره بالقتل متى علم أنه يُقتصّ منه كفَّ عن قتله. وهذا المعنى موجود في حال قَصْدِهِ لقَتْلِ غيره ؛ لأن في قتله إحياء لمن لا يستحق القتل. وقال الله تعالى :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ﴾ [ البقرة : ١٩٣ ] فأمر بالقتال لنفي الفتنة، ومن الفتنة قَصْدُه قَتْلَ الناس بغير حقّ. وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا إسماعيل بن الفضل قال : حدثنا حسين بن حريث قال : حدثنا الفضل بن موسى عن معمر عن عبدالله بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ شَهَرَ سَيْفَهُ ثم وَضَعَهُ فَدَمُهُ هَدَرٌ ". وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أخبارٍ مستفيضة :" مَنْ قُتِلَ دُونَ نَفْسِهِ فهو شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فهو شَهِيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فهو شَهِيدٌ ". ورَوَى عبدالله بن الحسين عن عبدالرحمن الأعرج عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" مَنْ أُرِيدَ مَالُهُ فَقَاتَلَ فَقُتِلَ فَهو شَهِيدٌ " فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الدافع عن نفسه وأهله وماله شهيدٌ، ولا يكون مقتولاً دون ماله إلاّ وقد قاتل دونه ؛ ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري :" مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فإِنْ لم يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فإِنْ لم يَسْتَطِعْ فبِقَلْبِهِ، وذَاكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ " فأمر بتغيير المنكر باليد، وإذا لم يمكن تغييره إلا بقتله فعليه أن يقتله بمقتضى ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم. ولا نعلم خلافاً أن رجلاً لو شَهَرَ سيفه على رجل ليقتله بغير حقّ أن على المسلمين قَتْلَه، فكذلك جائز للمقصود بالقتل قتله ؛ وقد قتل علي بن أبي طالب الخوارج حين قصدوا قَتْلَ الناس وأصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم معه يوافقون له عليه. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم آثارٌ في وجوب قتلهم، منها حديث أبي سعيد الخدري وأنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلافٌ وفُرْقَةٌ فيهم قَوْمٌ يُحْسِنُونَ القَوْلَ وَيُسِيئُونَ العَمَلَ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، طُوبَى لمن قَتَلَهُمْ أَوْ قَتَلُوه ! " في آثارٍ كثيرة مشهورة، وقد تلقّتها السلف بالقبول واستعملتها في وجوب قتلهم وقتالهم. وروى أبو بكر بن عياش قال : حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن قابوس بن أبي المخارق عن أبيه قال : قال رجل : يا رسول الله الرجل يأتيني يريد مالي ؟ قال :" ذَكِّرْهُ اللَّهَ ! " قال : فإن لم يذكر ؟ قال :" اسْتعِنْ عليه مَنْ حَوْلَكَ مِنَ المُسْلِمِينَ " قال : فإن لم يكن حولي منهم ؟ قال :" فَاسْتَعِنْ عليه السُّلْطَانَ " قال : فإن نأى عني السلطان ؟ قال :" قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ حَتَّى تَمْنَعَ مَالَكَ أَوْ تَكُونَ شَهِيداً فِي الآخِرَةِ ".
وذهب قوم من الحشوية إلى أن على من قصده إنسانٌ بالقتل أن لا يقاتله ولا يدفعه عن نفسه حتى يقتله، وتأولوا فيه هذه الآية. وقد بيّنا أنه ليس في الآية دلالةٌ على أنه كفَّ يده عن قتله حين قصده بالقتل، وإنما الآية تدلّ على أنه لا يبدأ بالقتل على ما رُوي عن ابن عباس، ولو ثبت حكم الآية على ما ادَّعَوْه لكان منسوخاً بما ذكرنا من القرآن والسنة واتفاقِ المسلمين على أن على سائر الناس دَفْعَهُمْ عنه وإن أتى على نفسه. وتأولت هذه الطائفة التي ذكرنا قولها أحاديث رُوِيَتْ عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم :" إذا تَوَاجَهَ المُسْلِمَانِ بسَيْفَيْهِمَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَةُ فَالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النّارِ " فقيل : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال :" إِنه أراد قَتْلَ صَاحِبِهِ ". وروى علي بن زيد بن جدعان عن الحسن عن سعد بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ عَبْدَ اللَّهِ المَقْتُولَ فَافْعَلْ ولا تَقْتُلْ أَحَداً مِنْ أَهْلِ القِبْلَةِ ". ورَوَى الحسن عن الأحنف بن قيس قال : سمعت أبا بكر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا الْتَقَى المُسْلِمَانِ بسَيْفَيْهِمَا فالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ في النار " قلت : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال :" إنه كان حَرِيصاً على قَتْلِ صَاحِبِهِ ". وروى معمر عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنّ ابنيْ آدَمَ ضَرَبَا لهذه الأُمَّةِ مَثَلاً فَخُذُوا بالخَيِّرِ مِنْهُمَا ". وروى معمر عن أبي عمران الجوني عن عبدالله بن الصامت عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كَيْفَ بِكَ يا أَبَا ذَرٍّ إذا كَانَ بالمَدِينَةِ قَتْلٌ ؟ " قال : قلت : ألبس سلاحي، قال :" شَارَكْتَ القَوْمَ إذاً " قال : قلت : فكيف أصنع يا رسول الله ؟ قال :" إِنْ خَشِيتَ أَنْ يَبْهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ فَأَلْقِ نَاحِيَةَ ثَوْبِكَ عَلَى وَجْهِكَ يَبُؤْ بِإِثْمِكَ وإِثْمِهِ ". فاحتجّوا بهذه الآثار، ولا دلالة لهم فيها. فأما قول النبي صلى الله عليه وسلم :" إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " فإنما أراد بذلك إذا قصد كل واحد منهما صاحبه ظلماً على نحو ما يفعله أصحاب العصبية والفتنة. وأما قوله صلى الله عليه وسلم :" إن استطعت أن تكون عبدالله المقتول فافعل ولا تقتل أحداً من أهل القبلة " فإنما عَنَى به ترك القتال في الفتنة وكفَّ اليد عن الشبهة، فأما قتل من استحق القتل فمعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَنْفِهِ بذلك. وأما قوله صلى الله عليه وسلم :" كن كخير ابني آدم " فإنما عَنَى به أن لا يبدأ بالقتل، وأما دفع القاتل عن نفسه فلم يمنعه.
فإن احتجّوا بما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لا يَحلّ دَمُ امرىءٍ مسلم إلا بإِحْدَى ثلاثٍ : كُفْرٍ بَعْدَ إِيمانٍ، وزِناً بعد إِحصانٍ، وقَتْلِ نفسٍ بغير نفس " فلا يجوز قتله قبل أن يقتل، بقضية نفي النبي صلى الله عليه وسلم قتل المسلم إلا بإحدى ما ذكر، وهذا لم يقتل بعد فلا يستحقّ القتل. قيل له : هذا القاصد لقتل غيره ظلماً داخلٌ في هذا الخبر، لأنه أراد قتل غيره، فإنما قتلناه بنفس من قصد لقتله لئلا يقتله فأحْيَيْنَا نفس المقصود بقتلنا إياه، ولو كان الأمر في ذلك على ما ذَهَبَتْ إليه هذه الطائفة من حَظْرِ قتل من قصد قتل غيره ظلماً والإمساك عنه حتى يقتل من يريد قتله، لوجب مثله في سائر المحظورات إذا أراد الفاجر ارتكابها من الزنا وأخذ المال أن نمسك عنه حتى يفعلها، فيكون في ذلك ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واستيلاء الفجار وغَلَبَة الفساق والظّلَمَة ومحو آثار الشريعة ؛ وما أعلم مقالة أعظم ضرراً على الإسلام والمسلمين من هذه المقالة، ولعمري إنّها أدّت إلى غلبة الفسّاق على أمور المسلمين واستيلائهم على بلدانهم حتى تحكّموا فحكَموا فيها بغير حُكْمِ الله، وقد جرّ ذلك ذهاب الثغور وغلبة العدوّ حين رَكَنَ الناس إلى هذه المقالة في ترك قتال الفئة الباغية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإنكار على الولاة والجوّار والله المستعان.
ويدلّ على صحة قول الجمهور في ذلك وأن القاصد لقتل غيره ظلماً يستحقّ القتل وأن على الناس كلهم أن يقتلوه، قولُه تعالى :﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ﴾ فكان في مضمون الآية إباحة قتل المفسد في الأرض، ومن أعظم الفساد قَصْدُ قتل النفس المحرمة، فثبت بذلك أن القاصد لقتل غيره ظلماً مستحقّ للقتل مبيح لدمه.
مطلب : من أراد قلع سنّك فلك قتله إلى آخره
قال أبو بكر : ذكر ابن رستم عن محمد عن أبي حنيفة أنه قال في اللص ينقب البيوت : يَسَعُكَ قتله، لقوله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ قُتِلَ دون ماله فهو شهيدٌ " ولا يكون شهيداً إلا وهو مأمور بالقتال إن أمكنه، فقد تضمن ذلك إيجاب قتله إذا قدر عليه. وقال أيضاً في رجل يريد قلع سنّك، قال :" فلك أن تقتله إذا كنت في موضع لا يعينك الناس عليه ". قال أبو بكر : وذلك لأن قَلْعَ السنّ أعظمُ من أخْذِ المال، فإذا جاز قتله لحفظ ماله فهو أوْلى بجواز القتل من أجلها.
قوله تعالى :﴿ إنّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ﴾ فإنه رُوي عن ابن عباس وابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك :" إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي ". وقال غيرهم :" إثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك ". والمراد : إني أريد أن تبوء بعقاب إثمي وإثمك ؛ لأنه لا يجوز أن يكون مراده حقيقة الإثم، إذ غير جائز لأحد إرادة معصية الله من نفسه ولا من غيره كما لا يجوز أن يأمره بها. ومعنى تبوء ترجع، يقال : باء، إذا رجع إلى المَبَاءَةِ وهي المنزل، وباؤوا بغضب الله : رجعوا، والبواء : الرجوع بالقود، وهم في هذه الأمر بَوَاءٌ أي سواء، لأنهم يرجعون فيه إلى معنى واحد.
قوله تعالى :﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ﴾ قال مجاهد :" شجعته نفسه على قتل أخيه ". وقال قتادة :" زيّنت له نفسه قتل أخيه ". وقيل :" ساعدته نفسه على قتل أخيه ". والمعنى في جميع ذلك أنه فعله طَوْعاً من نفسه غير متكرّه له، ويقال إن العرب تقول : طاع لهذه الظبية أصولُ الشجر، وطاع لفلان كذا، أي أتاه طَوْعاً. ويقال : انطاع بمعنى انقاد ؛ ويقال : طوعت له نفسه، ولا يقال أطاعته نفسه، على هذا المعنى ؛ لأن قولهم :" أطاع " يقتضي قصداً منه لموافقة معنى الأمر، وذلك غير موجود في نفسه ؛ وليس كذلك الطّوْعُ لأنه يقتضي أمراً ولا يجوز أن يكون أمراً لنفسه ولا ناهياً لها، إذ كان موضوع الأمر والنهي ممن هو أعلى لمن دونه ؛ وقد يجوز أن يوصف بفعل يتناوله ولا يتعدّى إلى غيره كقوله :" حرَّك نفسه " و " قتل نفسه " كما يقال :" حرّك غيره " و " قتل غيره ".
قوله تعالى :﴿ فأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ يعني خسر نفسه بإهلاكه إياها، لقوله تعالى :﴿ إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ﴾ [ الزمر : ١٥ ] ولا دلالة في قوله :﴿ فَأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ على أن القتل كان ليلاً، وإنما المراد به وقت مبهم جائز أن يكون ليلاً وجائز أن يكون نهاراً، وهو كقول الشاعر :
* أصْبَحَت عاذِلَتي مُعْتَلَّهْ *
وليس المراد النهار دون الليل ؛ وكقول الآخر :
* بَكَرَتْ عليَّ عَواذلي * يَلْحَيْنَني وَأَلُومَهُنَّهْ *
ولم يُرِدْ بذلك أول النهار دون آخره. وهذا عادة العرب في إطلاق مثله والمراد به الوقت المبهم.

باب دفن الموتى


قال الله تعالى :﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ ﴾ قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد والسدي وقتادة والضحاك :" لم يَدْرِ كيف يصنع به حتى رأى غراباً جاء يدفن غراباً ميتاً "، وفي هذا دليل على فساد ما رُوي عن الحسن أنهما رجلان من بني إسرائيل ؛ لأنه لو كان كذلك لكان قد عرف الدفن بجريان العادة فيه قبل ذلك، وهو الأصل في سنّة دفن الموتى ؛ وقال تعالى :﴿ ثم أماته فأقبره ﴾ [ عبس : ٢١ ] وقال تعالى :﴿ ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياء وأمواتاً ﴾ [ المرسلات : ٢٦ ]. وقيل في معنى :﴿ سَوْأَةَ أَخِيهِ ﴾ وجهان، أحدهما : جيفة أخيه، لأنه لو تركه حتى ينتن لقيل لجيفته سوأة. والثاني : عورة أخيه ؛ وجائز أن يريد الأمرين جميعاً لاحتمالهما. وأصل السَّوْأة التَّكَرُّهُ، ومنه : ساءه يسوءه سَوْءاً ؛ إذا أتاه بما يتكرهه. وقصّ الله علينا قصته لنعتبر بها ونتجنب قُبْحَ ما فعله القاتل منهما. ورُوي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم :" إنَّ الله ضَرَبَ لَكُمُ ابْنَيْ أَدَمَ مَثَلاً فخُذُوا مِنْ خَيِّرِهما ودَعُوا شَرَّهُما ".
وقال الله تعالى :﴿ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴾ قيل إنه ندم على القتل على غير جهة القربة إلى الله تعالى منه وخوف عقابه، وإنما كان ندمه من حيث لم ينتفع بما فعل وناله ضرر بسببه من قِبَلِ أبيه وأمه، ولو ندم على الوجه المأمور به لقَبِلَ الله توبته وغفر ذنبه.
قوله تعالى :﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ الآية. فيه إبانة عن المعنى الذي من أجله كتب على بني إسرائيل ما ذكر في الآية، وهو لئلا يقتل بعضهم بعضاً ؛ فدل ذلك على أن النصوص قد ترد مضمَّنة بمعانٍ يجب اعتبارها في أغيارها في إثبات الأحكام. وفيه دليل على إثبات القياس ووجوب اعتبار المعاني التي عُلّق بها الأحكام وجُعلت عِلَلاً وأعلاماً لها.
وقوله تعالى :﴿ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ ﴾ يدلّ على أن من قتل نفساً بنفس فلا لَوْمَ عليه، وعلى أن من قتل نفساً بغير نفس فهو مستحقّ للقتل. ويدل أيضاً على أن الفساد في الأرض معنى يستحق به القتل.
وقوله تعالى :﴿ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ﴾ قد قيل فيه وجوه : أحدها تعظيم الوزر. والثاني : أن عليه مثل مأثم كل قاتل من الناس لأنه سَنَّ القتل وسهله لغيره فكان كالمشارك له فيه ؛ ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" ما مِنْ قَاتِلٍ ظُلْماً إلاَّ وعلى ابْنِ آدَمَ كِفْلٌ مِنَ الإِثْمِ لأنّهُ سَنَّ القَتْلَ "، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُها وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ ؛ ومَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بها إلى يَوْمِ القِيَامَةِ ". والثالث : أَن على الناس كلهم معونة وليّ المقتول حتى يُقِيدُوه منه، فيكون كلهم خصومه في ذلك حتى يُقاد منه، كأنه قتل أولياءهم جميعاً. وهذا يدل على وجوب القَوَدِ على الجماعة إذا قتلت واحداً إذ كانوا بمنزلة من قتل الناس جميعاً.
وقوله تعالى :﴿ وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ﴾ قال مجاهد :" من أحياها نجّاها من الهلاك ". وقال الحسن :" إذا عفا عن دمها وقد وجب القود ". وقال غيرهم من أهل العلم :" زَجَرَ عن قتلها بما فيه حياتها ". قال : أبو بكر : يحتمل أن يريد بإحيائها معونة الوليّ على قَتْلِ القاتل واستيفاء القصاص منه، لأن في القصاص حياة كما قال تعالى :﴿ ولكم في القصاص حياة ﴾ [ البقرة : ١٧٩ ] ويحتمل أن يريد بإحيائها أن يقتل القاصد لقتل غيره ظلماً فيكون محيياً لهذا المقصود بالقتل ويكون كمن أحيا الناس جميعاً ؛ لأن ذلك يردع القاصدين إلى قتل غيرهم عن مثله فيكون في ذلك حياة لسائر الناس من القاصدين للقتل والمقصودين به. فتضمنت هذه الآية ضروباً من الدلائل على الأحكام، منها : دلالتها على ورود الأحكام مضمنة بمعانٍ يجب اعتبارها بوجودها، وهذا يدلّ على صحة القول بالقياس. والثاني : إباحة قتل النفس بالنفس. والثالث : أن من قتل نفساً فهو مستحق للقتل. والرابع : من قصد قتل مسلم ظلماً فو مستحقّ القتل، لأن قوله تعالى :﴿ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ ﴾ كما دل على وجوب قتل النفس بالنفس فهو يدلّ على وجوب قتله إذا قصد قتل غيره، إذ هو مقتول بنفس إرادة إتلافها. والخامس : الفساد في الأرض يستحقّ به القتل. والسادس : احتمال قوله تعالى :﴿ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ﴾ أن عليه مأثم كل قاتل بعده، لأنه سَنَّ القتل وسهَّله لغيره. والسابع : أن على الناس كلهم معونة ولي المقتول حتى يُقِيدُوهُ منه. والثامن : دلالتها على وجوب القَوَدِ على الجماعة إذا قتلوا واحداً. والتاسع : دلالة قوله تعالى :﴿ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ﴾ على معونة الوليّ على قَتْلِ القاتل. والعاشر : دلالته أيضاً على قتل من قصد قتل غيره ظلماً ؛ والله أعلم بالصواب.

باب حدّ المحاربين


قال الله تعالى :﴿ إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً ﴾ الآية. قال أبو بكر : قوله تعالى :﴿ يحاربون الله ﴾ هو مجازٌ ليس بحقيقة ؛ لأن الله يستحيل أن يُحَارَبَ ؛ وهو يحتمل وجهين، أحدهما : أنه سمَّى الذين يخرجون ممتنعين مجاهرين بإظهار السلاح وقطع الطريق محاربين لما كانوا بمنزلة من حارب غيره من الناس ومانعه، فسُمُّوا محاربين تشبيهاً لهم بالمحاربين من الناس، كما قال تعالى :﴿ ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ﴾ [ الأنفال : ١٣ ] وقوله :﴿ إن الذين يحادّون الله ورسوله ﴾ [ المجادلة : ٥ و ٢٠ ] ومعنى المشاقة أن يصير كل واحد منهما في شقّ يُبَايِنُ صاحبه، ومعنى المحادّة أن يصير كل واحد منهما في حدّ على وجه المفارقة ؛ وذلك يستحيل على الله تعالى إذ ليس بذي مكان فيشاقّ أو يحادّ أو تجوز عليه المباينة والمفارقة، ولكنه تشبيه بالمعاديين إذ صار كل واحد منهما في شقّ وناحية على وجه المباينة. وذلك منه على وجه المبالغة في إظهار المخالفة والمباينة، فكذلك قوله تعالى :﴿ يُحَارِبُونَ اللَّهَ ﴾ يحتمل أن يكونوا سُمُّوا بذلك تشبيهاً بمظهري الخلاف على غيرهم ومحاربتهم إياهم من الناس. وخُصَّت هذه الفرقة بهذه السِّمَةِ لخروجها ممتنعة بأنفسها لمخالفة أمر الله تعالى وانتهاك الحريم وإظهار السلاح، ولم يُسَمَّ بذلك كل عاصٍ لله تعالى، إذ ليس بهذه المنزلة في الامتناع وإظهار السلاح، ولم يُسَمَّ بذلك كل عاصٍ لله تعالى، إذ ليس بهذه المنزلة في الامتناع وإظهار المغالبة في أخذ الأموال وقطع الطريق. ويحتمل أن يريد الذين يحاربون أولياء الله ورسوله، كما قال تعالى :﴿ إن الذين يؤذون الله ﴾ [ الأحزاب : ٥٧ ] والمعنى : يؤذون أولياء الله. ويدل على ذلك أنهم لو حاربوا رسول الله لكانوا مرتدّين بإظهار محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد يصحّ إطلاق لفظ المحاربة لله ولرسوله على من عَظُمَتْ جريرته بالمجاهرة بالمعصية وإن كان من أهل الملة، والدليل عليه ما روى زيد بن أسلم عن أبيه، أن عمر بن الخطاب رأى معاذاً يبكي فقال : ما يبكيك ؟ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" اليَسِيرُ مِنَ الرِّياءِ شِرْكٌ، مَنْ عَادَى أَوْلِيَاءَ اللَّه فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بالمُحَارَبَةِ "، فأطلق عليه اسم المحاربة، ولم يذكر الردّة ؛ ومن حارب مسلماً على أخذ ماله فهو معادٍ لأولياء الله تعالى محاربٌ لله تعالى بذلك. وروى أسباط عن السدي عن صبيح مولى أم سلمة عن زيد بن أرقم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعليّ وفاطمة والحسن والحسين :" أنا حَرْبٌ لمَنْ حَارَبْتُمْ سِلْمٌ لمَنْ سَالَمْتُمْ "، فاستحقّ من حاربهم اسم المحارب لله ورسوله وإن لم يكن مشركاً، فثبت بما ذكرنا أن قاطع الطريق يقع عليه اسم المحارب لله عز وجل ولرسوله. ويدلّ عليه أيضاً ما رَوَى أشعث عن الشعبي عن سعد بن قيس : أن حارثة بن بدر حارب الله ورسوله وسَعَى في الأرض فساداً وتاب من قبل أن يُقْدَرَ عليه، فكتب عليّ رضي الله عنه إلى عامله بالبصرة :" إن حارثة بن بدر حارب الله ورسوله وتاب من قبل أن نقدر عليه، فلا تعرضنّ له إلاّ بخير "، فأطلق عليه اسم المحارب لله ورسوله ولم يرتدّ وإنما قطع الطريق.
فهذه الأخبار وما ذكرنا من معنى الآية دليلٌ على أن هذا الاسم يلحق قطاع الطريق وإن لم يكونوا كفاراً ولا مشركين، مع أنه لا خلاف بين السلف والخلف من فقهاء الأمصار أن هذا الحكم غير مخصوص بأهل الردّة وأنه فيمن قطع الطريق وإن كان من أهل الملّة. وحُكي عن بعض المتأخرين ممن لا يعتدّ به أن ذلك مخصوص بالمرتدّين ؛ وهو قولٌ ساقطٌ مردودٌ مخالفٌ للآية وإجماع السلف والخلف. ويدل على أن المراد به قُطّاع الطريق من أهل الملة قوله تعالى :﴿ إلاّ الّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾. ومعلوم أن المرتدين لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقطها عنهم قبل القدرة، وقد فرق الله بين توبتهم قبل القدرة أو بعدها. وأيضاً فإن الإسلام لا يُسْقِطُ الحدَّ عمن وجب عليه، فعلمنا أن المراد قطاع الطريق من أهل الملة وأن توبتهم من الفعل قبل القدرة عليهم هي المسقطة للحدّ عنهم. وأيضاً فإن المرتد يستحقّ القتل بنفس الرِّدّة دون المحاربة، والمذكور في الآية من استحق القتل بالمحاربة، فعلمنا أنه لم يُرِدِ المرتدَّ. وأيضاً ذكر فيه نفي من لم يَتُبْ قبل القدرة عليه، والمرتد لا يُنْفَى، فعلمنا أن حكم الآية جارٍ في أهل الملّة. وأيضاً فإنه لا خلاف أن أحداً لا يستحق قطع اليد والرجل بالكفر، وإن الأسير من أهل الردة متى حصل في أيدينا عُرِض عليه الإسلام فإن أسلم وإلاّ قتل ولا تقطع يده ولا رجله. وأيضاً فإن الآية أوْجَبَتْ قَطْعَ يَدِ المحارب ورجله ولم توجب معه شيئاً آخر، ومعلوم أن المرتد لا يجوز أن تُقطع يده ورجله ويُخْلَى سبيله بل يقتل إن لم يُسْلِم، والله تعالى قد أوجب الاقتصار بهم في حال على قطع اليد والرجل دون غيره. وأيضاً ليس من حكم المرتدين الصلب، فعلمنا أن الآية في غير أهل الردة. ويدل عليه أيضاً قوله تعالى :﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ﴾ [ الأنفال : ٣٨ ] وقال في المحاربين :﴿ إلاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أنّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ فشرط في زوال الحدّ عن المحاربين وجود التوبة منهم قبل القدرة عليهم، وأسقط عقوبة الكفر بالتوبة قبل القدرة وبعدها. فلما عُلم أنه لم يُرِدْ بالمحاربين أهْلَ الردة، فهذه الوجوه التي ذكرناها كلها دالّة على بطلان قول من ادّعَى خصوص الآية في المرتدين.
فإن قال قائل : قد روى قتادة وعبدالعزيز بن صهيب وغيرهما عن أنس قال : قدم على النبي صلى الله عليه وسلم أناسٌ من عُرَيْنَةَ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لَوْ خَرَجْتُمْ إلى ذَوْدِنَا فَشَرِبْتُمْ مِنْ أَلْبَانِهَا وأَبْوَالِهَا " ففعلوا، فلما صَحُّوا قاموا إلى راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوه ورجعوا كفاراً واستاقوا ذَوْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل في طلبهم، فأُتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسَمَل أعينهم وتركهم في الحَرَّةِ حتى ماتوا. قيل له : إن خبر العُرَنِيِّينَ مختلَفٌ فيه، فذكر بعضهم عن أنس نحو ما ذكرنا، وزاد فيه : أنه كان سبب نزول الآية. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت في أصحاب أبي برزة الأسلمي وكان مُوادِعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فقطعوا الطريق على قوم جاؤوا يريدون الإسلام، فنزلت فيهم. وروى عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت في المشركين، فلم يذكر مثل قصة العُرَنِيّين. وروي عن ابن عمر أنها نزلت في العُرَنيين ولم يذكر رِدَّةً.
مطلب : الحكم لعموم اللفظ إلا أن تقوم الدلالة على الاقتصار به على السبب
ولا يخلو نزول الآية من أن يكون في شأن العرنيين أو الموادعين، فإن كان نزولُها في العُرَنيين وأنهم ارتدّوا، فإن نزولها في شأنهم لا يوجب الاقتصار بها عليهم ؛ لأنه لا حكم للسبب عندنا وإنما الحكم عندنا لعموم اللفظ إلا أن تقوم الدلالة على الاقتصار به على السبب. وأيضاً فإن مَنْ ذَكَرَ نزولها في شأن العُرَنيين فإنه ما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآية شيئاً، وإنما تركهم في الحَرَّةِ حتى ماتوا ؛ ويستحيل نزول الآية في الأمر بقَطْعِ من قد قُطِعَ وقَتْلِ مَنْ قُتِلَ لأن ذلك غير ممكن، فعلمنا أنهم غير مرادين بحكم الآية، ولأن الآية عامة في سائر من يتناوله الاسم غير متصوَّر الحكم على المرتدين. وقد روى همّام عن قتادة عن ابن سيرين قال :" كان أمْرُ العرنيين قبل أن تنزل الحدود "، فأخبر أنه كان قبل نزول الآية. ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمل أعْيُنَهُمْ، وذلك منسوخ بنَهْي النبي صلى الله عليه وسلم عن المُثَلَةِ. وأيضاً لما كان نزول الآية بعد قصة العُرَنيين واقتصر فيها على ما ذُكر ولم يذكر سَمْلَ الأعين، فصار سَمْلُ الأعْيُنِ منسوخاً بالآية، لأن لو كان حدّاً معه لذكره ؛ وهو مثل ما رُوي في خبر عبادة :" في البِكْرِ بالبِكْرِ جلْدُ مائة وتغريبُ عامٍ والثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ الجلدُ والرجمُ " ثم أنزل الله تعالى :﴿ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ﴾ [ النور : ٢ ] فصار الحدّ هو ما في الآية دون غيره، وصار النفي منسوخاً بها. ومما يدل على أن الآية لم تنزل في العُرَنِيِّينَ وأنها نزلت بعدهم أنّ فيها ذِكْرَ القتل والصّلْبِ وليس فيها ذِكْرُ سَمْلِ الأعين، وغير جائز أن تكون الآية نزلت قبل إجراء الحكم عليهم وأن يكونوا مرادين بها ؛ لأنه لو كان كذلك لأجْرَى النبي صلى الله عليه وسلم حُكْمَها عليهم، فلما لم يُصْلَبوا وسَمَلَهم دلّ على أن حكم الآية لم يكن ثابتاً حينئذٍ، فثبت بذلك أن حكم الآية غير مقصور على المرتدين وأنه عامّ في سائر المحاربين.
ذكر الاختلاف في ذلك
واختلف السلف وفقهاء الأمصار في حكم الآية من وجوه أنا ذاكرها، بعد اتفاقهم على أن حكم الآية جارٍ في أهل الملّة إذا قطعوا الطريق ؛ فروى الحجاج بن أرطأة عن عطية العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ إنّما جَزَاءُ الَّذينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الأَرْضِ فَسَاداً ﴾ الآية، قال :" إذا حارب الرجل فقَتَلَ وأخذ المال قُطعت يده ورجله من خلاف وقُتل وصلب، فإن قَتَلَ ولم يأخذ المال قُتل، وإن أخذ المال ولم يَقْتل قُطعت يده ورجله من خلاف، وإذا لم يقتل ولم يأخذ المال نُفي ". وروى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم في الرجل يَقْطع الطريق ويأخذ المال ويَقْتل أن الإمام فيه بالخيار، إن شاء قطع يده ورجله من خلاف وقتله وصلبه، وإن شاء صلبه ولم يقطع يده ولا رجله، وإن شاء قتله ولم يصلبه ؛ فإن أخذ مالاً ولم يَقْتل قُطعت يده ورجله من خلاف، وإن لم يأخذ مالاً ولم يقتل عُزِّر ونُفي من الأرض، ونَفْيُه حَبْسه ؛ وفي رواية أخرى : أُوجع عقوبة وحُبس حتى يحدث خبراً ؛ وهو قول الحسن روايةً وسعيد بن جبير وحماد وقتادة وعطاء الخراساني. فهذا قول السلف الذين جعلوا حكم الآية على الترتيب. وقال آخرون : الإمام مخيَّر فيهم إذا خرجوا يُجري عليهم أيَّ هذه الأحكام شاء وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالاً. وممن قال ذلك سعيد بن المسيب ومجاهد والحسن روايةً وعطاء بن أبي رباح. وقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد : إذا قَتَلَ المحاربون ولم يَعْدُوا ذلك قُتلوا، وإن أخذوا المال ولم يَعْدُوا ذلك قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، لا خلاف بين أصحابنا في ذلك، فإن قَتَلوا وأخذوا المال فإن أبا حنيفة قال :" للإمام أربع خيارات : إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم وقتلهم، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم، وإن شاء صلبهم، وإن شاء قتلهم وترك القطع ". وقال أبو يوسف ومحمد :" إذا قَتَلوا وأخذوا المال فإنهم يُصلبون ويُقتلون ولا
قوله تعالى :﴿ إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ﴾ استثناء لمن تاب منهم من قبل القدرة عليهم وإخراج لهم من جملة من أوجب الله عليه الحد لأن الاستثناء إنما هو إخراج بعض ما انتظمته الجملة منها كقوله تعالى :﴿ إلا آل لوط أنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته ﴾ فأخرج آل لوط من جملة المهلكين وأخرج المرأة بالاستثناء من جملة المنجين وكقوله تعالى :﴿ فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس ﴾ فكان إبليس خارجاً من جملة الساجدين فكذلك لما استثناهم من جملة من أوجب عليهم الحد إذا تابوا قبل القدرة عليهم فقد نفي إيجاب الحد عليهم وقد أكد ذلك بقوله تعالى :﴿ فاعلموا أن الله غفور رحيم ﴾ كقوله تعالى :﴿ قل للذين كفروا أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ﴾ عقل بذلك سقوط عقوبات الدنيا والآخرة عنهم.
فإن قال قائل قد قال في السرقة :﴿ فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه أن الله غفور رحيم ﴾ ومع ذلك فليست توبة السارق مسقطة للحد عنه.
قيل له لأنه لم يستثنهم من جملة من أوجب عليهم الحد وإنما أخبر أن الله غفور رحيم لمن تاب منهم وفي آية المحاربين استثناء يوجب إخراجهم من الجملة وأيضاً فإن قوله تعالى :﴿ فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح ﴾ يصح أن يكون كلاماً مبتدأ مستغنياً بنفسه عن تضمينه بغيره وكل كلام اكتفى بنفسه لم نجعله مضمناً بغيره إلا بدلالة وقوله تعالى :﴿ إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ﴾ مفتقر في صحته إلى ما قبله فمن أجل ذلك كان مضمناً به.
مطلب : إذا سقط الحد وجب ضمان المال
ومتى سقط الحد المذكور في الآية وجبت حقوق الآدميين من القتل والجراحات وضمان الأموال وإذا وجب الحد سقط ضمان حقوق الآدميين في المال والنفس والجراحات وذلك لأن وجوب الحد بهذا الفعل يسقط ما تعلق به من حق الآدمي كالسارق إذا سرق وقطع لم يضمن السرقة وكالزاني إذا وجب عليه الحد لم يلزمه المهر وكالقاتل إذا وجب عليه القود لم يلزمه ضمان المال كذلك المحاربون إذا وجب عليهم الحد سقطت حقوق الآدميين فإذا سقط الحد عن المحارب وجب ضمان ما تناوله من مال أو نفس كالسارق إذا درأ عنه الحد وجب عليه ضمان المال وكالزاني إذا سقط عنه الحد لزمه آخر.
واختلف في الموضع الذي يكون به محارباً فقال أبو حنيفة :" من قطع الطريق في المصر ليلاً أو نهاراً أو بين الحيرة والكوفة ليلاً أو نهاراً فلا يكون قاطعاً للطريق ولا يكون قاطعاً للطريق إلا في الصحارى " وحكى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف :" أن الأمصار وغيرها سواء، وهم المحاربون ؛ يقام حدهم " وروي عن أبي يوسف في اللصوص الذين يكبسون الناس ليلا في دورهم في المصر أنهم بمنزلة قطاع الطريق يجري عليهم أحكامهم. وحكي عن مالك أنه لا يكون محارباً حتى يقطع على ثلاثة أميال من القرية. وذكر عنه أيضاً قال :" المحاربة أن يقاتلوا على طلب المال من غير نائرة " ولم يفرق ههنا بين المصر وغيره وقال الشافعي :" قطاع الطريق ؛ الذين يعرضون بالسلاح للقوم حتى يغصبوهم المال، والصحارى والمصر واحد " وقال الثوري :" لا يكون محارباً بالكوفة حتى يكون خارجاً منها ".
قال أبو بكر روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لا قطع على خائن ولا مختلس " فنفى عليه السلام القطع عن المختلس والمختلس هو الذي يختلس الشيء وهو غير ممتنع ؛ فوجب بذلك اعتبار المنعة من المحاربين وأنهم متى كانوا في موضع لا يمكنهم أن يمتنعوا وقد يلحق من قصدوه الغوث من قبل المسلمين أن لا يكونوا محاربين وأن يكونوا بمنزلة المختلس والمنتهب كالرجل الواحد إذا فعل ذلك في المصر فيكون مختلساً غاصباً لا يجرى عليه أحكام قطاع الطريق وإذا كانت جماعة ممتنعة في الصحراء فهؤلاء يمكنهم أخذ أموال السابلة قبل أن يلحقهم الغوث فباينوا بذلك المختلس ومن ليس له امتناع في أحكامهم ولو وجب أن يستوي حكم المصر وغيره لوجب استواء حكم الرجل الواحد والجماعة ومعلوم أن الرجل الواحد لا يكون محارباً في المصر لعدم الامتناع منه فكذلك ينبغي أن يكون حكم الجماعة في المصر لفقد الامتناع منهم على أهل المصر وأما إذا كانوا في الصحراء فهم ممتنعون غير مقدور عليهم إلا بالطلب والقتال فلذلك اختلف حكمهم وحكم من في المصر.
فإن قال قائل إن كان الاعتبار بما ذكرت فواجب أن يكون العشرة من اللصوص إذا اعترضوا قافلة فيها ألف رجل غير محاربين إذ قد يمكنهم الامتناع عليهم.
قيل له صاروا محاربين بالامتناع والخروج سواء قصدوا القافلة أو لم يقصدوها فلا يزول عنهم هذا الحكم بعد ذلك بكون القافلة ممتنعة منهم، كما لا يزول بكون أهل الأمصار ممتنعين منهم. وأجرى أبو يوسف على اللصوص في المصر حكم المحاربين لامتناعهم والخروج على وجه المحاربة لأخذ المال فلا يختلف حكمهم بالمصر وغيره، كما أن سائر ما يوجب الحد من الزنا والسرقة والقذف والقتل لا يختلف أحكام فاعليها بالمصر وغيره.

فصل


واعتبر أصحابنا في إيجاب قطع المحارب مقدار المال المأخوذ بأن يصيب كل واحد منهم عشرة دراهم واعتبر الشافعي ربع دينار كما اعتبره في قطع السارق ولم يعتبره مالك لأنه يرى إجراء الحكم عليهم بالخروج قبل أخذ المال.

فصل


وقال أصحابنا : إذا كان الذي ولي القتل وأخذ المال بعضهم كان حكم جميعهم حكم المحاربين يجري الحكم عليهم وذلك لأن حكم المحاربة والمنعة لم يحصل إلا باجتماعهم جميعاً، فلما كان السبب الذي تعلق به حكم المحاربة وهو المنعة حصل باجتماعهم جميعاً ؛ وجب أن لا يختلف حكم من ولي القتل منهم ومن كان عوناً أو ظهيراً والدليل عليه أن الجيش إذا غنموا من أهل الحرب لم يختلف فيه حكم من ولي القتال منهم ومن كان منهم ردأ وظهيرا ولذلك لم يختلف حكم من قتل بعصا أو بسيف إذ كان من لم يل القتال يجري عليه الحكم.

باب قطع السارق


قال الله تعالى ﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ﴾ روى سفيان عن جابر عن عامر قال قراءة عبدالله فاقطعوا أيديهما وروى ابن عوف عن إبراهيم في قراءتنا فاقطعوا أيمانهما.
قال أبو بكر لم تختلف الأمة في أن اليد المقطوعة بأول سرقة هي اليمين فعلمنا أن مراد الله تعالى بقوله ﴿ أيديهما ﴾ أيمانهما فظاهر اللفظ في جمعه الأيدي من الاثنين يدل على أن المراد اليد الواحدة من كل واحد منهما كقوله تعالى ﴿ إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ﴾ لما كان لكل واحد منهما قلب واحد إضافة إليهما بلفظ الجمع كذلك لما أضاف الأيدي إليهما بلفظ الجمع دل على أن المراد إحدى اليدين من كل واحد منهما وهي اليمنى.
وقد اختلف في قطع اليسرى في المرة الثالثة وفي قطع الرجل اليمنى في الرابعة وسنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ولم تختلف الأمّة في خصوص هذه الآية ؛ لأن اسم السارق يقع على سارق الصلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إنّ أَسْوَأَ النّاسِ سَرِقَةً هُوَ الّذي يَسْرِقُ صَلاَتَهُ " قيل : يا رسول الله وكيف يسرق صلاته ؟ قال :" لا يُتِمُّ رُكُوعَها وسُجُودَها ". ويقع على سارق اللسان ؛ رَوَى ليث بن سعد قال : حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبدالله عن أبي رُهْمٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أُسْرِقَ السَّارِقُ الّذي يَسْرِقُ لِسَانَ الأَمِيرِ " فثبت بذلك أنه لم يُرِدْ كلَّ سارق.
والسرقة اسم لغوي مفهوم المعنى عند أهل اللسان بنفس وروده غير محتاج إلى بيان، وكذلك حكمه في الشرع، وإنما علّق بهذا الاسم حكم القطع كالبيع والنكاح والإجارة وسائر الأمور المعقولة معانيها من اللغة قد عُلّقت بها أحكام يجب اعتبار عمومها بوجود الاسم إلاّ ما قام دليل خصوصه، فلو خُلّينا وظاهر قوله :﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ﴾ لوجب إجراءُ الحكم على الاسم إلاّ ما خصه الدليل ؛ إلاّ أنه قد ثبت عندنا أن الحكم متعلق بمعنى غير الاسم يجب اعتباره في إيجابه، وهو الحِرْزُ والمقدار، فهو مجمل من جهة المقدار يحتاج إلى بيان من غيره في إثباته، فلا يصح من أجل ذلك اعتبار عمومه في إيجاب القطع في كل مقدار. والدليل على إجماله وامتناع اعتبار عمومه ما حدثنا عبدالباقي قال : حدثنا معاذ بن المثنى قال : حدثنا عبدالرحمن بن المبارك قال : حدثنا وهيب عن أبي واقد قال : حدثني عامر بن سعد عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلاّ في ثَمَنِ المِجَنِّ ". وروى ابن لهيعة عن أبي النصر عن عمرة عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا تُقْطَعُ يَدُ السّارِقِ إلاّ فيما بَلَغَ ثَمَنَ المِجَنِّ فما فَوْقَهُ ". ورَوَى سفيان عن منصور عن مجاهد عن عطاء عن أيمن الحبشي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أدْنَى ما يُقْطَعُ فيه السَّارِقُ ثَمَنُ المِجَنِّ ". فثبت بهذه الأخبار أن حكم الآية في إيجاب القطع موقوفٌ على ثمن المجنّ، فصار ذلك كوروده مع الآية مضموماً إليها، وكان تقديرها : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما إذا بلغت السرقة ثمن المجنّ ؛ وهذا لفظ مفتقر إلى البيان غير مُكْتَفٍ بنفسه في إثبات الحكم، وما كان هذا سبيله لم يصح الاحتجاج بعمومه. ووجه آخر يدلّ على إجمالها في هذا الوجه، وهو ما رُوي عن السلف في تقويم المِجَنِّ ؛ فرُوي عن عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمرو وأيمن الحبشي وأبي جعفر وعطاء وإبراهيم في آخرين :" أن قيمته كانت عشرة دراهم ". وقال ابن عمر :" قيمته ثلاثة دراهم ". وقال أنس وعروة والزهري وسليمان بن يسار :" قيمته خمسة دراهم ". وقالت عائشة :" ثمن المجنّ ربع دينار ". ومعلوم أنه لم يكن ذلك تقويماً منهم لسائر المجانّ لأنها تختلف كاختلاف الثياب وسائر العروض، فلا محالة أن ذلك كان تقويماً للمِجَنَّ الذي قَطَعَ فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أيضاً أنهم لم يحتاجوا إلى تقويمه من حيث قَطَعَ فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، إذ ليس في قَطْعِ النبي صلى الله عليه وسلم في شيء بعينه دلالة على نفي القَطْعِ عما دونه، كما أن قَطْعَهُ السّارِقَ في المجنّ غير دالٍّ على أن حكم القطع مقصور عليه دون غيره، إذ كان ما فعله بعض ما تناوله لفظ العموم على حسب حدوث الحادثة ؛ فإذاً لا محالة قد كان من النبي صلى الله عليه وسلم توقيفٌ لهم حين قَطَعَ السارقَ على نَفْي القطع فيما دونه، فدلّ ذلك على إجمال حكم الآية في المقدار كدلالة الأخبار التي قدّمناها لفظاً من نَفْيِ القطع عما دون قيمة المجنّ، فلم يَجُزْ من أجل ذلك اعتبار عموم الآية في إثبات المقدار ووجب طلب معرفة قيمة المجنّ الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم. وليس إجمالُها في المقدار بموجب إجمالها في سائر الوجوه من الحِرْزِ وجنس المقطوع فيه وغير ذلك، بل جائز أن يكون عموماً في هذه الوجوه مجملاً في حكم المقدار فحسب، كما أن قوله تعالى :﴿ خذ من أموالهم صدقة ﴾ [ التوبة : ١٠٣ ] عموم في جهة الأموال الموجَبِ فيها الصدقة مُجْملٌ في المقدار الواجب منها. وكان شيخنا أبو الحسن يذهب إلى أن الآية مجملة من حيث عُلّق فيها الحكم بمعانٍ لا يقتضيها اللفظ من طريق اللغة، وهو الحرز والمقدار ؛ والمعاني المعتبرة في إيجاب القَطْعِ متى عُدِمَ منها شيء لم يجب القطع مع وجود الاسم ؛ لأن اسم السرقة موضوع في اللغة لأخذ الشيء على وجه الاستخفاء، ومنه قيل " سارق اللسان " و " سارق الصلاة " تشبيهاً بأخذ الشيء على وجه الاستخفاء، والأصل فيه ما ذكرنا. وهذه المعاني التي ذكرنا اعتبارها في إيجاب القطع لم يكن الاسم موضوعاً لها في اللغة، وإنما ثبت ذلك من جهة الشرع، فصارت السرقة في الشرع اسماً شرعيّاً لا يصحّ الاحتجاج بعمومه إلا فيما قامت دلالته.
واختُلفَ في مقدار ما يُقطع فيه السارق فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزُفَر ومحمد والثوري :" لا قطع إلاّ في عشرة دراهم فصاعداً أو قيمتها من غيرها ". ورُوي عن أبي يوسف ومحمد :" أنه لا قطع حتى تكون قيمة السرقة عشرة دراهم مضروبة ". ورَوَى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة :" أنه إذا سرق ما يساوي عشرة دراهم مما يجوز بين الناس قُطع ". وقال مالك والأوزاعي والليث والشافعي :" لا قَطْعَ إلا في ربع دينار فصاعداً "، قال الشافعي :" فلو غَلَتِ الدراهم حتى يكون الدرهمان بدينار قُطِعَ في ربع دينار، وإن كان ذلك نصف درهم، وإن رخصت الدنانير حتى يكون الدينار بمائة درهم قُطع في ربع دينار، وذلك خمسة وعشرون درهماً ". ورُوي عن الحسن البصري أنه قال :" يقطع في درهم واحد "، وهو قول شاذٌّ قد اتفق الفقهاء على خلافه. وقال أنس بن مالك وعروة والزهري وسليمان بن يسار :" لا يُقطع إلا في خمسة دراهم "، ورُوي نحوه عن عمر وعليّ أنهما قالا :" لا يُقطع إلا في خمسة ". وقال ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأيمن الحبشي وأَبو جعفر وعطاء وإبراهيم :" لا قَطْعَ إلا في عشرة دراهم " ؛ قال ابن عمر :" يُقْطع في ثلاثة دراهم ". ورُوي عن عائشة القَطْعُ في ربع دينار. ورُوي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا :" لا تُقطَعُ اليَدُ إلا في أربعة دراهم ".
والأصل في ذلك أنه لما ثبت باتّفاق الفقهاء من السلف ومن بَعْدَهم أن القطع لا يجب إلا في مقدار متى قصر عنه لم يجب، وكان طريقُ إثبات هذا الضَّرْبِ من المقادير التوقيفَ أو الاتفاقَ، ولم يثبت التوقيفُ فيما دون العشرة وثبت الاتفاقُ في العشرة، أثبتناها ولم نثبتْ ما دونها لعدم التوقيف والاتفاق فيه ؛ ولا يصح الاحتجاج بعموم قوله :﴿ وَالسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ﴾ لما بَيّنّا أنه مجملٌ بما اقترن إليه من توقيف الرسول عليه السلام على اعتبار ثمن المجنّ، ومن اتفاق السلف على ذلك أيضاً، فسقط الاحتجاج بعمومه ووجب الوقوف عند الاتفاق في القطع في العشرة ونَفْيُه عما دونها لِمَا وَصَفْنا. وقد رُويت أخبارٌ توجب اعتبارَ العشرة في إيجاب القطع، منها ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال : حدثني أبي قال : حدثنا نصر بن ثابت عن الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا قَطْعَ فيما دُونَ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ ". وقد سمعنا أيضاً في سنن ابن قانع حديثاً رواه بإسنادٍ له عن زُحَرِ بن ربيعة عن عبدالله بن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا تُقْطَعُ اليَدُ إلاّ في دِينَارٍ أو عَشْرَةِ دَرَاهِمَ ". وقال عمرو بن شعيب : قلت لسعيد بن المسيب : إن عروة الزهري وسليمان بن يسار يقولون لا تُقطع اليد إلا في خمسة دراهم ! فقال : أما هذا فقد مضت السنَّة فيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم ؛ قال ابن عباس وأيمن الحبشي وعبدالله بن عمر، وقالوا :" كان ثمن المجنّ عشرة دراهم ".
فإن احتجّوا بما رُوي عن ابن عمر وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قَطَعَ في مِجَنٍّ قيمته ثلاثة دراهم، وبما رُوي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" تُقْطَعُ يَدُ السّارِقِ في رُبْعِ دِينَارٍ ". قيل له : أما حديث ابن عمر وأنس فلا دلالة فيه على موضع الخلاف، لأنهما قَوَّماه ثلاثة دراهم وقد قَوَّمه غيرهما عشرة، فكان تقديم الزائد أوْلى. وأما حديث عائشة فقد اختُلف في رَفْعه، وقد قيل إن الصحيح منه أنه موقوف عليها غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الأثبات من الرواة رووه موقوفاً، ورَوَى يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إلاّ في ثَمَنِ المِجَنِّ ثُلُثِ دِينَارٍ أوْ نِصْفِ دِينَارٍ فَصَاعِداً "، وَرَوَى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة :" أن يد السارق لم تكن تُقطع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أدنى من ثمن المجنّ، وكان المجن يومئذ له ثمنٌ ولم تكن تُقطع في الشيء التافه " ؛ فهذا يدل على أن الذي كان عند عائشة من ذلك القطع في ثمن المجنّ وأنه لم يكن عندها عن النبي صلى الله عليه وسلم غير ذلك، إذ لو كان عندها عن رسول الله في ذلك شيء معلوم المقدار من الذهب أو الفضة لم تكن بها حاجة إلى ذكر ثمن المجنّ، إذْ كان ذلك مُدْرَكاً من جهة الاجتهاد ولا حَظَّ للاجتهاد مع النصّ. وهذا يدل أيضاً على أن ما رُوي عنها مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنْ ثبت فإنما هو تقدير منها لثمن المجنّ اجتهاداً ؛ وقد روى حماد بن زيد عن أيوب عن عبدالرحمن بن القاسم عن عمرة عن عائشة قالت :" تُقْطَعُ يَدُ السارق في ربع دينار فصاعداً "، قال أيوب : وحدث به يحيى عن عمرة عن عائشة ورفعه، فقال له عبدالرحمن بن القاسم : إنها كانت لا ترفعه، فترك يحيى رَفْعَهُ. فهذا يدلّ على أن من رواه مرفوعاً فإنما سمعه من يحيى قبل تَرْكِهِ الرفْعَ.
مطلب : خبر الحظر أوْلى من خبر الإباحة
ثم لو ثبت هذا الحديث لعارضه ما قدّمّناه من الرواية عن النبي صلى الله عليه و سلم من وجوه مختلفة في نفي القطع عن سارق ما دون العشرة، وكان يكون حينئذ خبرنا أوْلى لما فيه من حظر القطع عما دونها وخبرهم مبيحٌ ل

باب الرشوة


قال الله تعالى :﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ للسُّحْتِ ﴾ قيل إن أصل السُّحْتِ الاستئصال، يقال : أسْحَتَهُ إسْحاتاً : إذا استأصله وأذهبه، قال الله عز وجل :﴿ فيسحتكم بعذاب ﴾ [ طه : ٦١ ] أي يستأصلكم به. ويقال : أسحت مالَهُ، إذا أفسده وأذهبه. فسمّي الحرام سحتاً لأنه لا بركة فيه لأهله ويهلك به صاحبه هلاك الاستئصال. وروى ابن عيينة عن عمار الدهنيّ عن سالم بن أبي الجعد عن مسروق قال : سألت عبدالله بن مسعود عن السّحْتِ أهو الرشوة في الحكم ؟ فقال :﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ ﴾ ولكنّ السحْتَ أن يستشفع بك على إمام فتكلمه فيهدي لك هدية فتقبلها. وروى شعبة عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن مسروق قال : سألت عبدالله عن الجور في الحكم، فقال :" ذلك كُفْرٌ " ؛ وسألته عن السحت، فقال :" الرشا ". ورَوَى عبد الأعلى بن حماد : حدثنا حماد عن أبان عن أبي عياش عن مسلم، أن مسروقاً قال : قلت لعمر : يا أمير المؤمنين أرأيت الرشوة في الحكم من السحت ؟ قال :" لا، ولكن كُفْرٌ، إنما السّحْتُ أن يكون لرجل عند سلطان جاهٌ ومنزلةٌ ويكون للآخر إلى السلطان حاجةٌ، فلا يقضي حاجته حتى يُهْدِيَ إليه ". ورُوي عن علي بن أبي طالب قال :" السّحْتُ الرَّشْوَةُ في الحكم ومهرُ البغيِّ وعسبُ الفحل وكسب الحجّام وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستجعال في القضية ". فكأنه جعل السحت اسماً لأخذ ما لا يطيب أخذه. وقال إبراهيم والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك :" السحتُ الرّشا ". ورَوَى منصور عن الحكم عن أبي وائل عن مسروق قال :" إن القاضي إذا أخذ الهدية فقد أكل السحت، وإذا أكل الرشوة بلغت به الكفر ". وقال الأعمش عن خيثمة عن عمر قال :" بابانِ مِنَ السحت يأكلهما الناس : الرشا ومهر الزانية ". ورَوَى إسماعيل بن زكريا عن إسماعيل بن مسلم عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" هَدَايا الأُمَرَاءِ مِنَ السُّحْتِ ". ورَوَى أبو إدريس الخولاني عن ثوبان قال :" لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما ". ورَوَى أبو سلمة بن عبدالرحمن عن عبدالله بن عمر قال :" لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي ". ورَوَى أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِي والمُرْتَشِي في الحُكْمِ ".
قال أبو بكر : اتّفق جميعُ المتأوِّلين لهذه الآية على أن قبول الرشا محرم، واتفقوا على أنه من السحت الذي حرمه الله تعالى.
مطلب : في وجوه الرشوة
والرّشْوة تنقسم إلى وجوه : منها الرشوة في الحكم، وذلك محرَّمٌ على الراشي والمرتشي جَميعاً، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم :" لَعَنَ اللَّهُ الراشي والمُرْتَشِي " والرَّائِشُ وهو الذي يمشي بينهما، فذلك لا يخلو من أن يرشوه ليقضي له بحقه أو بما ليس بحقّ له، فإن رشاه ليقضي له بحقه فقد فسق الحاكم بقبول الرشوة على أن يقضي له بما هو فَرْضٌ عليه، واستحقّ الراشي الذمَّ حين حاكم إليه وليس بحاكم، ولا يَنْفُذُ حكمه، لأنه قد انعزل عن الحكم بأخذه الرشوة، كمن أخذ الأجرة على أداء الفروض من الصلاة والزكاة والصوم. ولا خلاف في تحريم الرشا على الأحكام وأنها من السحت الذي حرمه الله في كتابه. وفي هذا دليلٌ على أن كل ما كان مفعولاً على وَجْهِ الفرض والقُرْبة إلى الله تعالى أنه لا يجوز أخْذُ الأجرة عليه، كالحجّ وتعليم القرآن والإسلام ؛ ولو كان أخْذُ الأبدال على هذه الأمور جائزاً لجاز أخْذُ الرشا على إمضاء الأحكام، فلما حرم الله أخْذَ الرشا على الأحكام واتفقت الأمّة عليه دلّ ذلك على فساد قول القائلين بجواز أخذ الأبدال على الفروض والقرب. وإن أعطاه الرشوة على أن يقضي له بباطل فقد فسق الحاكم من وجهين، أحدهما : أخذ الرشوة، والآخر : الحكم بغير حق ؛ وكذلك الراشي. وقد تأوّل ابن مسعود ومسروق السحْتَ على الهدية في الشفاعة إلى السلطان، وقال " إن أخذ الرشا على الأحكام كَفَرَ ". وقال علي رضي الله عنه وزيد بن ثابت ومن قدمنا قوله :" الرشا من السحت ". وأما الرشوة في غير الحكم، فهو ما ذكره ابن مسعود ومسروق في الهدية إلى الرجل ليعينه بجاهه عند السلطان، وذلك منهيٌّ عنه أيضاً لأن عليه معونته في دفع الظلم عنه، قال الله تعالى :﴿ وتعاونوا على البرّ والتقوى ﴾ [ المائدة : ٢ ]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" لا يَزَالُ اللَّهُ فِي عَوْنِ المَرْءِ مَا دَامَ المَرْءُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ ". ووجه آخر من الرشوة ؛ وهو الذي يرشو السلطان لدفع ظُلْمِهِ عنه، فهذه الرشوة محرمة على آخذها غير محظورة على معطيها. ورُوي عن جابر بن زيد والشعبي قالا :" لا بأس بأن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم "، وعن عطاء وإبراهيم مثله. ورَوَى هشام عن الحسن قال :" لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي " قال الحسن :" ليُحِقَّ باطلاً أو يُبْطِلٍ حقّاً، فأما أن تدفع عن مالك فلا بأس ". وقال يونس عن الحسن :" لا بأس أن يعطي الرجلُ من ماله ما يصون به عِرْضَهُ ". ورَوَى عثمان بن الأسود عن مجاهد قال :" اجعل مالَكَ جُنَّةً دون دينك ولا تجعل دينك جُنَّةً دون مالك ". ورَوَى سفيان عن عمرو عن أبي الشعثاء قال :" لم نجد زمن زياد شيئاً أنفع لنا من الرشا ". فهذا الذي رخّص فيه السلف إنما هو في دفع الظلم عن نفسه بما يدفعه إلى من يريد ظلمه أو انتهاك عرضه ؛ وقد رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم غنائم خيبر وأعطى تلك العطايا الجزيلة، أعطى العباس بن مرداس السلمي شيئاً، فَسَخِطَهُ فقال شعراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" اقْطَعُوا عَنَّا لِسَانَهُ " فزادوه حتى رَضِي.
وأما الهدايا للأمراء والقضاة، فإن محمد بن الحسن كرهها، وإن لم يكن للمُهْدي خصم ولا حكومة عند الحاكم ؛ ذهب في ذلك إلى حديث أبي حميد الساعدي في قصة ابن اللُّتْبِيَّة حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فلما جاء قال : هذا لكم وهذا أُهْدِيَ لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" ما بَالُ أَقْوَامٍ نَسْتَعْمِلُهُمْ عَلَى مَا وَلاَّنا اللَّهُ فيقولُ هَذَا لَكُمْ وهذا أُهْدِيَ لي ! فهَلاَّ جَلَسَ في بَيْتِ أبِيهِ فَنَظَرَ أيُهْدَى له أم لا‍ ! ". وما رُوي عنه عليه السلام أنه قال :" هدايا الأُمَرَاءِ غُلولٌ وهدايا الأمَراءِ سُحْتٌ ". وكره عمر بن عبدالعزيز قبول الهدية، فقيل له : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها، فقال : كانت حينئذ هدية وهي اليوم سحتٌ. ولم يكره محمد للقاضي قبول الهدية ممن كان يهاديه قبل القضاء ؛ فكأنه إنما كره منها ما أُهْدِيَ له لأجل أنه قاض ولولا ذلك لم يُهْدَ له. وقد دل على هذا المعنى قولُ النبي صلى الله عليه وسلم :" هَلاَّ جَلَسَ في بيت أبيه وأمّهِ فنظر أيُهْدَى له أم لا‍ " فأخبر أنه إنما أهْديَ له لأنه عامل، ولولا أنه عامل لم يُهْدَ له، وأنه لا يحلّ له ؛ وأما من كان يهاديه قبل القضاء وقد علم أنه لم يُهْدِهِ إليه لأجل القضاء، فجائز له قبوله على حسب ما كان يقبله قبل ذلك. وقد رُوي أن بنت ملك الروم أهدت لأم كلثوم بنت عليّ امرأة عمر، فردَّها عمر ومنع قبولها.

باب الحكم بين أهل الكتاب


قال الله تعالى :﴿ فإنْ جَاؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ ظاهر ذلك يقتضي معنيين، أحدهما : تخليتهم وأحكامهم من غير اعتراض عليهم، والثاني : التخيير بين الحكم والإعراض إذا ارتفعوا إلينا. وقد اختلف السلف في بقاء هذا الحكم، فقال قائلون منهم :" إذا ارتفعوا إلينا فإن شاء الحاكم حكم بينهم وإن شاء أعْرَضَ عنهم وردَّهم إلى دينهم ". وقال آخرون :" التخيير منسوخٌ، فمتى ارتفعوا إلينا حَكَمْنا بينهم من غير تخيير ".
فممن أخذ بالتخيير عند مجيئهم إلينا الحسنُ والشعبي وإبراهيم روايةً ؛ ورُوي عن الحسن :" خلّوا بين أهل الكتاب وبين حاكمهم، وإذا ارتفعوا إليكم فأقيموا عليهم ما في كتابكم ". ورَوَى سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال :" آيتان نُسِخَتا من سورة المائدة : آية القلائد، وقوله تعالى :﴿ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ ؛ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مُخَيَّراً إن شاء حكم بينهم أو أعرض عنهم فردهم إلى أحكامهم، حتى نزلت :﴿ وأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله ولا تَتَّبِعْ أهْوَاءَهُمْ ﴾ فأُمِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما أنزل الله في كتابه ". ورَوَى عثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله :﴿ فإنْ جَاؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أو أعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ قال : نسخها قوله :﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾. ورَوَى سعيد بن جبير عن الحكم عن مجاهد :﴿ فإن جَاؤُوكَ فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ﴾. قال : نسختها :﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾. وروى سفيان عن السديّ عن عكرمة مثله.
قال أبو بكر : فذكر هؤلاء أن قوله :﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾. ناسخٌ للتخيير المذكور في قوله :﴿ فإن جَاؤُوكَ فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ﴾ ؛ ومعلوم أن ذلك لا يقال من طريق الرأي، لأن العلم بتواريخ نزول الآي لا يُدْرَك من طريق الرأي والاجتهاد، وإنما طريقه التوقيف، ولم يقل من أثبت التخيير إن آية التخيير نزلت بعد قوله :﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بما أَنْزَلَ اللهُ ﴾، وإن التخيير نسخه، وإنما حُكي عنهم مذاهبهم في التخيير من غير ذكر النسخ، فثبت نسخ التخيير بقوله :﴿ وأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ الله ﴾، كرواية من ذكر نسخ التخيير. ويدل على نسخ التخيير قوله :﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ ﴾ [ المائدة : ٤٤ ]، الآيات ومن أعرض عنهم فلم يحكم في تلك الحادثة التي اختصموا فيها بما أنزل الله. ولا نعلم أحداً قال إن في هذه الآيات :﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله ﴾ [ المائدة : ٤٤ ] منسوخاً إلا ما يُرْوَى عن مجاهد، رواه منصور عن الحكم عن مجاهد أن قوله :﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله ﴾ [ المائدة : ٤٤ ] نسخها ما قبلها :﴿ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ وقد رَوَى سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد أن قوله :﴿ فإنْ جاؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ منسوخ بقوله :﴿ وَأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ الله ﴾. ويحتمل أن يكون قوله تعالى :﴿ فإنْ جَاؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ قبل أن تُعْقَد لهم الذمّة ويدخلوا تحت أحكام الإسلام بالجزية، فلما أمر الله بأخذ الجزية منهم وجرت عليهم أحكام الإسلام، أُمِرَ بالحكم بينهم بما أنزل الله، فيكون حكم الآيتين جميعاً ثابتاً : التخييرُ في أهل العهد الذين لا ذمة لهم ولم يَجْرِ عليهم أحكام المسلمين كأهل الحرب إذا هادناهم، وإيجابُ الحكم بما أنزل الله في أ
قوله تعالى :﴿ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ الله ﴾ يعني : اللَّهُ أعلم فيما تحاكموا إليك فيه ؛ فقيل : إنهم تحاكموا إليه في حدّ الزانيين، وقيل : في الدية بين بني قريظة وبني النضير ؛ فأخبر تعالى أنهم لم يتحاكموا إليه تصديقاً منهم بنبوته، وإنما طلبوا الرخصة ؛ ولذلك قال :﴿ وَمَا أُولَئِكَ بالمُؤْمِنِينَ ﴾ يعني هم غير مؤمنين بحكمك أنه مِنْ عند الله مع جَحْدِهم بنبوتك وعدولهم عما يعتقدونه حكماً لله مما في التوراة. ويحتمل أنهم حين طلبوا غير حكم الله ولم يرضوا به فهم كافرون غير مؤمنين.
وقوله تعالى :﴿ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ الله ﴾ يدلّ على أن حكم التوراة فيما اختصموا فيه لم يكن منسوخاً، وأنه صار بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم شريعةً لنا لم يُنْسَخ ؛ لأنه لو نُسخ لم يُطلق عليه بعد النسخ أنه حكم الله، كما لا يطلق أن حكم الله تحليل الخمر أو تحريم السبت. وهذا يدلّ على أن شرائع مَنْ قبلنا من الأنبياء لازمةٌ لنا ما لم تُنسخ، وأنها حكم الله بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. وقد رُوي عن الحسن في قوله تعالى :﴿ فِيهَا حُكْمُ الله ﴾ بالرجم ؛ لأنهم اختصموا إليه في حدّ الزنا. وقال قتادة : فيها حكم الله بالقَوَدِ، لأنهم اختصموا في ذلك. وجائز أن يكونوا تحاكموا إليه فيهما جميعاً من الرجم والقود.
قوله تعالى :﴿ إنّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ﴾. روي عن الحسن وقتادة وعكرمة والزهري والسدي، أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مرادٌ بقوله :﴿ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ﴾. قال أبو بكر : وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على الزانيين منهم بالرجم وقال :" اللَّهُمَّ إنّي أوّلُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً أمَاتُوها " وكان ذلك في حكم التوراة ؛ وحكم فيه بتساوي الديات وكان ذلك أيضاً حكم التوراة ؛ وهذا يدلّ على أنه حكم عليهم بحكم التوراة لا بحكم مبتدأ شريعة.
وقوله تعالى :﴿ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ﴾ قال ابن عباس :" شهداء على حكم النبي صلى الله عليه وسلم أنه في التوراة ". وقال غيره :" شهداء على ذلك الحكم أنه من عند الله ".
وقال عز وجل :﴿ فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ﴾. قال فيه السدي :" لا تخشوهم في كتمان ما أنزلت ". وقيل : لا تخشوهم في الحكم بغير ما أنزلت. وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة : حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن قال :" إن الله تعالى أخذ على الحكّام ثلاثاً : أن لا يتّبعوا الهوى، وأن يخشوه ولا يخشوا الناس، وأن لا يشتروا بآياته ثمناً قليلاً ". ثم قال :﴿ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهدى ﴾ [ ص : ٢٦ ] الآية، وقال :﴿ إنّا أنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا للَّذِينَ هَادُوا ﴾ إلى قوله :﴿ فلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشُوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ ﴾. فتضمنت هذه الآية معاني : منها الإخبار بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم على اليهود بحكم التوراة. ومنها : أن حكم التوراة كان باقياً في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب نسخه ؛ ودلّ ذلك على أن ذلك الحكم كان ثابتاً لم يُنْسَخْ بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم. ومنها : إيجابُ الحكم بما أنزل الله تعالى وأن لا يعدل عنه ولا يحابي فيه مخافة الناس. ومنها : تحريم أخْذِ الرشا في الأحكام، وهو قوله تعالى :﴿ وَلا تَشْتَرُوا بآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله ﴾ قال ابن عباس :" هو في الجاحد لحكم الله ". وقيل :" هي في اليهود خاصة ". وقال ابن مسعود والحسن وإبراهيم :" هي عامة " يعني فيمن لم يحكم بما أنزل الله وحكم بغيره مخبراً أنه حكم الله تعالى، ومن فعل هذا فقد كفر. فمن جعلها في قوم خاصّة وهم اليهود، لم يجعل " مَنْ " بمعنى الشرط، وجعلها بمعنى الذي لم يحكم بما أنزل الله، والمراد قوم بأعيانهم. وقال البراء بن عازب، وذكر قصة رجم اليهود، فأنزل الله تعالى :﴿ يا أيُّها الرَّسُولُ لا يَحْزُنك الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ ﴾ الآيات، إلى قوله :﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أنْزَلَ الله فَأولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ ﴾. قال :" في اليهود خاصة "، وقوله :﴿ فأولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ و ﴿ أولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ ﴾ " في الكفار كلهم ". وقال الحسن :﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أنْزَلَ الله فأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ ﴾ نزلت في اليهود وهي علينا واجبة. وقال أبو مجلز :" نزلت في اليهود ". وقال أبو جعفر :" نزلت في اليهود ثم جرت فينا ". ورَوَى سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختريّ قال : قيل لحذيفة :﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ ﴾ نزلت في بني إسرائيل ؟ قال :" نعم، الإخوةُ لكم بنو إسرائيل، أن كانت لكم كلّ حلوةٍ ولهم كلّ مُرَّة، ولتَسْلُكُنَّ طريقهم قَدَّ الشراك ". قال إبراهيم النخعي :" نزلت في بني إسرائيل ورضي لكم بها ". ورَوَى الثوري عن زكريا عن الشعبي قال :" الأُولى للمسلمين والثانية لليهود والثالثة للنصارى ". وقال طاوس :" ليس بكفر ينقل عن الملة " وروى طاوس عن ابن عباس قال :" ليس الكفر الذي يذهبون إليه في قوله :﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ ﴾ ". وقال ابن جريج عن عطاء :" كفرٌ دون كفر وظلمٌ دون ظلم وفسقٌ دون فسقٍ ". وقال علي بن حسين رضي الله عنهما :" ليس بكفر شرك ولا ظلم شرك ولا فسق شرك ".
قال أبو بكر : قوله تعالى :﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ ﴾ لا يخلو من أن يكون مرادُه كفرَ الشرك والجحود أو كفرَ النعمة من غير جحود ؛ فإن كان المراد جحود حكم الله أو الحكم بغيره مع الإخبار بأنه حكم الله، فهذا كفرٌ يخرج عن الملّة وفاعله مرتدٌّ إن كان قبل ذلك مسلماً ؛ وعلى هذا تأوّله من قال :" إنها نزلت في بني إسرائيل وجرت فينا " يعنون أن من جَحَدَ من‍ّا حكم الله أو حكم بغير حكم الله ثم قال إن هذا حكم الله، فهو كافرٌ كما كفرت بنو إسرائيل حين فعلوا ذلك وإن كان المراد به كفر النعمة فإن كفران النعمة قد يكون بترك الشكر عليها من غير جحود، فلا يكون فاعله خارجاً من الملة ؛ والأظْهَرُ هو المعنى الأول لإطلاقه اسم الكفر على من لم يحكم بما أنزل الله. وقد تأوّلت الخوارج هذه الآية على تكفير من ترك الحكم بما أنزل الله من غير جحودٍ لها، وأكْفَرُوا بذلك كل من عَصَى الله بكبيرة أو صغيرة، فأدّاهم ذلك إلى الكفر والضلال بتكفيرهم الأنبياء بصغائر ذنوبهم.
قوله تعالى :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالعَيْنَ بِالعَيْنِ ﴾ الآية. فيه إخبار عما كتب الله على بني إسرائيل في التوراة من القصاص في النفس وفي الأعضاء المذكورة. وقد استدلّ أبو يوسف بظاهر هذه الآية على إيجاب القصاص بين الرجل والمرأة في النفس، لقوله تعالى :﴿ أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾، وهذا يدلّ على أنه كان من مذهبه أن شرائع مَنْ كَان قبلنا حكمها ثابتٌ إلى أن يَرِدَ نسخُها على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أو بنصّ القرآن.
وقوله في نسق الآية :﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ دليلٌ على ثبوت هذا الحكم في وقت نزول هذه الآية من وجهين، أحدهما : أنه قد ثبت أن ذلك مما أنزل الله ولم يفرق بين شيء من الأزمان، فهو ثابت في كل الأزمان إلى أن يَرِدَ نسخُه. والثاني : معلومٌ أنهم استحقوا سِمَةَ الظلم والفسق في وقت نزول الآية لتركهم الحكم بما أنزل الله تعالى من ذلك وقت نزول الآية، إما جحوداً له أو تركاً لفعل ما أوجب الله من ذلك، وهذا يقتضي وجوب القصاص في سائر النفوس ما لم تقم دلالة نسخه أو تخصيصه.
وقوله تعالى :﴿ وَالعَيْنَ بِالعَيْنِ ﴾ معناه عند أصحابنا في العين إذا ضُربت فذهب ضَوْؤُها، وليس هو على أن تقلع عينه ؛ هذا عندهم لا قصاص فيه لتعذّر استيفاء القصاص في مثله، ألا ترى أنّا لا نقف على الحدّ الذي يجب قلعه منها ؟ فهو كمن قطع قطعة لحم من فَخِذِ رجل أو ذراعه أو قطع بعض فخذه، فلا يجب فيه القصاص ؛ وإنما القصاص عندهم فيما قد ذهب ضَوْؤها وهي قائمة أن تُشَدَّ عينه الأخرى وتُحْمَى له مرآة فتقدم إلى العين التي فيها القصاص حتى يذهب ضوؤها.
وأما قوله تعالى :﴿ والأَنْفَ بالأَنْفِ ﴾ فإن أصحابنا قالوا : إذا قطعه من أصله فلا قصاص فيه، لأنه عظم لا يمكن استيفاء القصاص فيه، كما لو قطع يده من نصف الساعد وكما لو قطع رجله من نصف الفخذ لا خلاف في سقوط القصاص فيه لتعذر استيفاء المثل ؛ والقصاصُ هو أخْذُ المثل، فمتى لم يكن كذلك لم يكن قصاصاً. وقالوا : إنما يجب القِصَاصُ في الأنف إذا قطع المَارِنَ، وهو ما لان منه ونزل عن قصبة الأنف. ورُوي عن أبي يوسف أن في الأنف إذا استُوعِبَ القِصَاص، وكذلك الذَّكَرُ واللسانُ. وقال محمد :" لا قصاص في الأنف واللسان والذّكَرِ إذا استُوعِبَ ".
وقوله تعالى :﴿ وَالأُذُنَ بالأُذُنِ ﴾ فإنه يقتضي وجوب القصاص فيها إذا استوعبت لإمكان استيفائه، وإذا قطع بعضها فإن أصحابنا قالوا :" فيه القِصَاصُ إذا كان يُستطاع ويُعرف قدره ".
وقوله عز وجل :﴿ وَالسِّنَّ بالسِّنِّ ﴾ فإن أصحابنا قالوا : لا قصاص في عظم إلا السنّ، فإن قُلِعَت أو كُسِرَ بعضُها ففيها القصاص، لإمكان استيفائه، إن كان الجميع فبالقلع كما يقتصّ من اليد من المفصل، وإن كان البعض فإنه يُبْرَدُ بمقداره بالمبرد، فيمكن استيفاء القصاص فيه. وأما سائر العظام فغير ممكن استيفاء القصاص فيها لأنه لا يوقف على حدّه ؛ وقد اقتضى ما نصّ الله تعالى في هذه الأعضاء أن يُؤخذ الكبير من هذه الأعضاء بصغيرها، والصغير بالكبير، بعد أن يكون المأخوذ منه مقابلاً لما جني عليه لا غيره.
وقوله تعالى :﴿ وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾ يعني إيجاب القصاص في سائر الجراحات التي يمكن استيفاء المِثْلِ فيها. ودلّ به على نفي القصاص فيما لا يمكن استيفاء المثل فيه، لأن قوله :﴿ وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾ يقتضي أخْذَ المِثْلِ سواءً، ومتى لم يكن مثله فليس بقصاص.
وقد اختلف الفقهاء في أشياء من ذلك، منها القصاص بين الرجال والنساء فيما دون النفس، وقد بيّناه في سورة البقرة، وكذلك بين العبيد والأحرار.
ذكر الخلاف في ذلك
قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزُفَر ومحمد ومالك والشافعي :" لا تؤخذ اليمنى باليسرى لا في العين ولا في اليد، ولا تؤخذ السنُّ إلا بمثلها من الجاني ". وقال ابن شبرمة :" تُفْقَأُ العين اليمنى باليسرى واليسرى باليمنى وكذلك اليدان، وتؤخذ الثَّنِيَّةُ بالضِّرس والضرسُ بالثنية ". وقال الحسن بن صالح :" إذا قطع أصبعاً من كفّ فلم يكن للقاطع من تلك الكَفِّ أصبع مثلها قُطع مما يلي تلك الأصبع، ولا يقطع أصبع كفٍّ بأصبع كفّ أخرى، وكذلك تقلع السنّ التي تليها إذا لم تكن للقاطع سنٌّ مثلها وإن بلغ ذلك الأضراس، وتفقأ العين اليمنى باليسرى إذا لم تكن له يُمْنَى، ولا تُقْطع اليد اليمنى باليسرى ولا اليسرى باليمنى ".
قال أبو بكر : لا خلاف أنه إذا كان ذلك العضو من الجاني باقياً، لم يكن للمجنيِّ عليه استيفاءُ القصاص من غيره ولا يَعْدُو ما قابله من عضو الجاني إلى غيره مما بإزائه وإن تراضيا به، فدلّ ذلك على أن المراد بقوله تعالى :﴿ وَالعَيْنَ بالعَيْنِ ﴾ إلى آخر الآية، استيفاء مثله مما يقابله من الجاني، فغير جائز إذا كان كذلك أن يتعدَّى إلى غيره، سواءٌ كان مثله موجوداً من الجاني أو معدوماً، ألا ترى أنه إذا لم يكن له أن يَعْدَوُ اليَدَ إلى الرجلِ لم يختلف حكمه أن تكون يد الجاني موجودة أو معدومة في امتناع تعدِّيه إلى الرجل ؟ وأيضاً فإن القصاص استيفاءُ المثل، وليست هذه الأعضاءُ مماثلة، فغير جائز أن يستوعبها. ولم يختلفوا أن اليد الصحيحة لا تؤخذ بالشلاّء وأن الشلاّء تُؤخذ بالصحيحة، وذلك لقوله تعالى :﴿ وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾، وفي أَخْذِ الصحيحة بالشلاّء استيفاءٌ أكثر مما قطع ؛ وأما أخذ الشلاّء بالصحيحة فهو جائز، لأنه رضي بدون حقه.
واختُلف في القصاص في العظم، فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد :" لا قصاص في عَظْمٍ ما خلا السنَّ ". وقال الليث والشافعي مثل ذلك، ولم يستثنيا السن. وقال ابن القاسم عن مالك : عظام الجسد كلها فيها القَوَدُ إلاّ ما كان منها مجوّفاً مثل الفخذ وما أشبهه فلا قود فيه، وليس في الهاشمة قَوَدٌ وكذلك المنقِّلة، وفي الذراعين والعضد والساقين والقدمين والكعبين والأصابع إذا كُسرت ففيها القصاص ". وقال الأوزاعي :" ليس في المَأْمُومَةِ قِصَاصٌ ".
قال أبو بكر : لما اتفقوا على نفي القصاص في عَظْمِ الرأس كذلك سائر العظام، وقال الله تعالى :﴿ وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾، وذلك غير ممكن في العظام. وروى حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن ابن الزبير : أنه اقتصّ من مأمومة، فأُنكر ذلك عليه ؛ ومعلوم أن المنكرين كانوا الصحابة. ولا خلاف أيضاً أنه لو ضرب أذنه فيبست أنه لا يضرب أذنه حتى تيبس، لأنه لا يوقَفُ على مقدار جنايته ؛ فكذلك العظام. وقد بيّنا وُجُوبَ القصاص في السنّ فيما تقدم.
قوله تعالى :﴿ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ﴾ رُوي عن عبدالله بن عمر والحسن وقتادة وإبراهيم روايةً والشعبي رواية :" أنها كفارة لوليّ القتيل وللمجروح إذا عَفَوْا ". وقال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم روايةً والشعبي رواية :" هو كفّارة للجاني " كأنهم جعلوه بمنزله المستوفي لحقه، ويكون الجاني كأنه لم يَجْنِ. وهذا محمول على أن الجاني تاب من جنايته، لأنه لو كان مُصِرّاً عليه فعقوبته عند الله فيما ارتكب من نهيه قائمةٌ. والقول الأول هو الصحيح ؛ لأنه قوله تعالى راجع إلى المذكور، وهو قوله :﴿ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ ﴾ فالكفارة واقعةٌ لمن تصدق، ومعناه كفارة لذنوبه.
قوله تعالى :﴿ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بما أَنْزَلَ الله فِيهِ ﴾ قال أبو بكر : فيه دلالة على أنّ ما لم يُنْسَخْ من شرائع الأنبياء المتقدمين فهو ثابتٌ، على معنى أنه صار شريعة للنبي صلى الله عليه وسلم، لقوله :﴿ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بما أَنْزَلَ الله فِيهِ ﴾، ومعلوم أنه لم يُرِدْ أمْرَهُمْ باتِّباع ما أنزل الله في الإنجيل إلا على أنهم يتبعون النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه صار شريعة له ؛ لأنهم لو استعملوا ما في الإنجيل مخالفين للنبي صلى الله عليه وسلم غير متَّبعين له لكانوا كفاراً، فثبت بذلك أنهم مأمورون باستعمال أحكام تلك الشريعة على معنى أنها قد صارت شريعةً للنبي عليه السلام.
قوله تعالى :﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بالحَقِّ مُصَدِّقاً لما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ ومُهَيْمِناً عَلَيْهِ ﴾ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة :" مهيمناً يعني أميناً " وقيل : شاهداً، وقيل : حفيظاً، وقيل : مؤتمناً. والمعنى فيه أنه أمين عليه، ينقل إلينا ما في الكتب المتقدمة على حقيقته من غير تحريف ولا زيادة ولا نقصان ؛ لأن الأمين على الشيء مصدَّقٌ عليه، وكذلك الشاهد. وفي ذلك دليل على أن كل من كان مؤتمناً على شيء فهو مقبولُ القول فيه، من نحو الودائع والعواري والمضاربات ونحوها ؛ لأنه حين أنبأ عن وجوب التصديق بما أخبر به القرآن عن الكتب المتقدمة سمّاه، أميناً عليها، وقد بيّن الله تعالى في سورة البقرة أن الأمين مقبولُ القول فيما ائتمن فيه، وهو قوله تعالى :﴿ فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الذي ائتمن أمانته وليتق الله ربه ﴾ [ البقرة : ٢٨٣ ] وقال :﴿ وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ] فلما جعله أميناً فيه وَعَظَهُ بتَرْكِ البَخْسِ.
وقد اختُلف في المراد بقوله :﴿ وَمُهَيْمِناً ﴾. فقال ابن عباس :" هو الكتاب، وفيه إخبارٌ بأن القرآن مهيمنٌ على الكتب المتقدمة شاهدٌ عليها ". وقال مجاهد :" أراد به النبيَّ صلى الله عليه وسلم ".
قوله تعالى :﴿ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بمَا أَنْزَلَ الله ﴾ يدلّ على نسخ التخيير على ما تقدم من بيانه.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أهْوَاءَهُمْ ﴾ يدلّ على بطلان قول من يردّهم إلى الكنيسة أو البيعة للاستحلاف، لما فيه من تعظيم الموضع، وهو يهوون ذلك ؛ وقد نهى الله تعالى عن اتّباع أهوائهم. ويدلّ على بُطْلان قول من يردّهم إلى دينهم لما فيه من اتباع أهوائهم والاعتداد بأحكامهم، ولأن رَدَّهُمْ إلى أهل دينهم إنما هو رَدٌّ لهم ليحكموا فيهم بما هو كفرٌ بالله عز وجل، إذ كان حكمهم بما يحكمون به كفراً بالله وإن كان موافقاً لما أنزل في التوراة والإنجيل، لأنهم مأمورون بتركه واتّباع شريعة النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى :﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً ومِنْهَاجاً ﴾ الشرعة والشريعة واحدٌ، ومعناها الطريق إلى الماء الذي فيه الحياة، فسمّى الأمور التي تعبّد الله بها من جهة السمع شريعةً وشرعةً لإيصالها العاملين بها إلى الحياة الدائمة في النعيم الباقي.
قوله تعالى :﴿ ومِنْهَاجاً ﴾ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك :" سنةً وسبيلاً ". ويقال طَرِيقٌ نَهْجٌ إذا كان واضحاً. قال مجاهد :" وأراد بقوله :﴿ شِرْعَةً ﴾ القرآن، لأنه لجميع الناس "، وقال قتادة وغيره :" شريعة التوراة وشريعة الإنجيل وشريعة القرآن ". وهذا يحتجُّ به مَنْ نَفَى لزوم شرائع من قبلنا إيانا لم يثبتْ نسخُها، لإخباره بأنه جعل لكل نبيّ من الأنبياء شرعة ومنهاجاً. وليس فيه دليلٌ على ما قالوا ؛ لأن ما كان شريعةً لموسى عليه السلام فلم يُنسخ إلى أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صارت شريعةً للنبيّ عليه السلام، وكان فيما سلف شريعة لغيره ؛ فلا دلالة في الآية على اختلاف أحكام الشرائع. وأيضاً فلا يختلف أحد في تجويز أن يتعبّد اللهُ رَسُولَهُ بشريعة موافقةٍ لشرائع من كان قبله من الأنبياء، فلم يَنْفِ قوله :﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾ أن تكون شريعة النبي عليه السلام موافقة لكثير من شرائع الأنبياء المتقدمين. وإذا كان كذلك، فالمراد فيما نُسخ من شرائع المتقدمين من الأنبياء وتعبّد النبي صلى الله عليه وسلم بغيرها، فكان لكل منكم شرعة غير شرعة الآخر.
قوله عز وجل :﴿ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ قال الحسن :" لجعلكم على الحق "، وهذه مشيئة القدرة على إجبارهم على القول بالحقّ، ولكنه لو فعل لم يستحقّوا ثواباً، وهو كقوله :﴿ ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ﴾ [ السجدة : ١٣ ]، وقال قائلون :" معناه : ولو شاء الله لجمعهم على شريعة واحدة في دعوة جميع الأنبياء ".
قوله تعالى :﴿ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ ﴾ معناه الأمرُ بالمبادرة بالخيرات التي تعبَّدَنا بها قبل الفوات بالموت، وهذا يدل على أن تقديم الواجبات أفضلُ من تأخيرها، نحو قضاء رمضان والحج والزكاة وسائر الواجبات، لأنها من الخيرات.
مطلب : الصوم في السفر أفضل من الإفطار
فإن قيل : فهو يدل على أن فعل الصلاة في أول الوقت أفضل من تأخيرها، لأنها من الواجبات في أول الوقت. قيل له : ليست من الواجبات في أول الوقت، والآية مقتضية للوجوب، فهي فيما قد وجب وألزم ؛ وفي ذلك دليل على أن الصوم في السفر أفضل من الإفطار لأنه من الخيرات، وقد أمر الله بالمبادرة بالخيرات.
قوله تعالى في هذا الموضع :﴿ وأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله ﴾ ليس بتكرار لما تقدم من مثله، لأنهما نزلا في شيئين مختلفين : أحدهما في شأن الرجم، والآخر في التسوية بين الديات حين تحاكموا إليه في الأمرين.
قوله تعالى :﴿ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ الله إِلَيْكَ ﴾ قال ابن عباس :" أراد أنهم يفتنونه بإضلالهم إياه عما أنزل الله إلى ما يهوون من الأحكام، إطماعاً منهم له في الدخول في الإسلام ". وقال غيره :" إضلالهم بالكذب على التوراة بما ليس فيها، فقد بيّن الله تعالى حكمه ".
قوله تعالى :﴿ فَإنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ﴾ ذكر البَعْضَ والمرادُ الجميع، كما يذكر لفظ العموم والمراد الخصوص، وكما قال :﴿ يا أيها النبي ﴾ والمراد جميع المسلمين بقوله :﴿ إذا طلقتم النساء ﴾ [ الطلاق : ١ ]. وفيه أن المراد الإخبار عن تغليظ العقاب في أن بعض ما يستحقونه به يهلكهم. وقيل :" أراد تعجيل البعض بتمردهم وعتوّهم ". وقال الحسن :" أراد ما عجّله من إجلاء بني النضير وقَتْلِ بني قريظة ".
قوله تعالى :﴿ أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ﴾ فيه وجهان : أحدهما أنه خطاب لليهود لأنهم كانوا إذا وَجَبَ الحكمُ على ضعفائهم ألزموهم إياه، وإذا وجب على أغنيائهم لهم يأخذوهم به ؛ فقيل لهم : أفحكم عَبَدَةِ الأوثان تبغون وأنتم أهل الكتاب ! وقيل : إنه أُرِيدَ به كل من خرج عن حكم الله إلى حكم الجاهلية، وهو ما يُقْدِمُ عليه فاعله بجهالة من غير علم.
قوله تعالى :﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً ﴾ إخبار عن حكمه بالعدل والحق من غير محاباة ؛ وجائز أن يقال إن حكماً أحسن من حكم، كما لو خُيِّر بين حكمين نصّاً وعَرَفَ أن أحدهما أفضل من الآخر، كان الأفضل أحسن. وكذلك قد يحكم المجتهد بما غيره أوْلى منه، لتقصير منه في النظر أو لتقليده من قَصَّرَ فيه.
قوله تعالى :﴿ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ رُوي عن عكرمة أنها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر لما تَنَصَّح إلى بني قريظة وأشار إليهم بأنه الذبح. وقال السدي : لما كان بعد أُحُدٍ خاف قومٌ من المشركين، حتى قال رجل : أو إلى اليهود، وقال آخر : أو إلى النصارى ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال عطية بن سعد :" نزلت في عبادة بن الصامت وعبدالله بن أبيّ ابن سلول، لما تبرأ عبادةُ من موالاة اليهود وتمسّك بها عبدالله بن أبيّ وقال أخاف الدوائر ". والوليُّ هو الناصر، لأنه يَلِي صاحبه بالنصرة، ووليّ الصغير لأنه يتولّى التصرف عليه بالحياطة، ووليّ المرأة عَصَبَتُها لأنهم يتولّون عليها عقد النكاح.
مطلب : الكافر لا يكون ولياً للمسلم
وفي هذه الآية دلالةٌ على أن الكافر لا يكون ولياً للمسلم لا في التصرف ولا في النصرة ؛ ويدلّ على وجوب البراءة من الكفار والعداوة لهم، لأن الولاية ضد العداوة، فإذا أمرنا بمعاداة اليهود والنصارى لكفرهم فغيرهم من الكفار بمنزلتهم. ويدلّ على أن الكُفْرَ كله ملّة واحدة، لقوله تعالى :﴿ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾. ويدلّ على أن اليهوديّ يستحق الولاية على النصراني في الحال التي كان يستحقها لو كان المولى عليه يهودياً، وهو أن يكون صغيراً أو مجنوناً، وكذلك الولاية بينهما في النكاح هو على هذا السبيل. ومن حيث دلّت على كون بعضهم أولياء بعض فهو يدلّ على إيجاب التوارث بينهما، وعلى ما ذكرنا من كون الكفر كله ملّة واحدة وإن اختلفت مذاهبه وطرقه. وقد دل على جواز مناكحة بعضهم لبعض، اليهوديّ للنصرانية والنصرانيّ لليهودية. وهذا الذي ذكرنا إنما هو في أحكامهم فيما بينهم، وأما فيما بينهم وبين المسلمين فيختلف حكم الكتابيّ وغير الكتابيّ في جواز المناكحة وأكل الذبيحة.
قوله تعالى :﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإنّهُ مِنْهُمْ ﴾ يدلّ على أن حكمَ نصارى بني تغلب حكمُ نصارى بني إسرائيل في أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم ؛ ورُوي ذلك عن ابن عباس والحسن. وقوله :﴿ منكم ﴾ يجوز أن يريد به العرب، لأنه لو أراد المسلمين لكانوا إذا تولّوا الكفار صاروا مرتدّين، والمرتد إلى النصرانية واليهودية لا يكون منهم في شيء من أحكامهم، ألا ترى أنه لا تؤكل ذبيحته وإن كانت امرأة لم يجز نكاحها ولا يرثهم ولا يرثونه ولا يثبت بينهما شيء من حقوق الولاية ؟ وزعم بعضهم أن قوله :﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾ يدلّ على أن المسلم لا يرث المرتدّ، لإخبار الله أنه ممن تولاّه من اليهود والنصارى، ومعلوم أن المسلم لا يرث اليهودي ولا النصراني، فكذلك لا يرث المرتد. قال أبو بكر : وليس فيه دلالة على ما ذكرنا، لأنه لا خلاف أن المرتدّ إلى اليهودية لا يكون يهوديّاً والمرتدَّ إلى النصرانية لا يكون نصرانيّاً، ألا ترى أنه لا تؤكل ذبيحته ولا يجوز تزويجها إن كانت امرأة وأنه لا يرث اليهودي ولا يرثه ؟ فكما لم يدلّ ذلك على إيجاب التوارث بينه وبين اليهودي والنصراني، كذلك لا يدلّ على أن المسلم لا يرثه، وإنما المراد أحد وجهين : إن كان الخطاب لكفّار العرب فهو دالّ على أن عَبَدَةَ الأوثان من العرب إذا تهوَّدوا أو تنصّروا كان حُكْمُهُمْ حُكْمَهُمْ في جواز المناكحة وأكل الذبيحة والإقرار على الكفر بالجزية، وإن كان الخطاب للمسلمين فهو إخبار بأنه كافر مثلهم بموالاته إياهم، فلا دلالة فيه على حكم الميراث.
فإن قال قائل : لما كان ابتداء الخطاب في المؤمنين، لأنه قال :﴿ يَا أَيُّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ﴾ لم يحتمل أن يريد بقوله :﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ ﴾ مشركي العرب. قيل له : لما كان المخاطبون بأول الآية في ذلك الوقت هم العرب. جاز أن يريد بقوله :﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ ﴾ العربَ، فيفيد أن مشركي العرب إذا تولَّوُا اليهود أو النصارى بالديانة والانتساب إلى الملّة يكونون في حكمهم وإن لم يتمسكوا بجميع شرائع دينهم. ومن الناس من يقول فيمن اعتقد من أهل ملّتنا بعض المذاهب الموجبة لإكْفَارِ معتقديها : إنّ الحكم بإكْفَارِهِ لا يمنع أكل ذبيحته ومناكحة المرأة منهم إذا كانوا منتسبين إلى ملّة الإسلام، وإن كُفِّروا باعتقادهم لما يعتقدونه من المقالة الفاسدة، إذ كانوا في الجملة متولّين لأهل الإسلام منتسبين إلى حكم القرآن، كما أن من انتحل النصرانية أو اليهودية كان حكمُهُ حكمَهُم وإن لم يكن متمسكاً بجميع شرائعهم، ولقوله تعالى :﴿ ومَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فإنّهُ مِنْهُمْ ﴾ ؛ وكان أبو الحسن الكرخي ممن يذهب إلى ذلك.
قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ قال الحسن وقتادة والضحاك وابن جريج :" نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومن قاتل معه أهل الرِّدَّة ". وقال السدي :" هي في الأنصار ". وقال مجاهد :" في أهل اليمن ". ورَوَى شعبة عن سماك بن حرب عن عياض الأشعري قال : لما نزلت :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ﴾ أَوْمَأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء معه إلى أبي موسى، فقال :" هُمْ قَوْمُ هذا ".
مطلب : الدليل على صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم
وفي الآية دلالة على صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي اله عنهم، وذلك لأن الذين ارتدّوا من العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إنما قاتلهم أبو بكر وهؤلاء الصحابة، وقد أخبر الله أنه يحبهم ويحبونه وأنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لَوْمَةَ لائم، ومعلوم أن من كانت هذه صفته فهو وليّ الله. ولم يقاتل المرتدّين بعد النبي صلى الله عليه وسلم غيرُ هؤلاء المذكورين وأتباعهم ؛ ولا يتهيأ لأحد أن يجعل الآية في غير المرتدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من العرب ولا في غير هؤلاء الأئمة ؛ لأن الله تعالى لم يَأْتِ بقوم يقاتلون المرتدّين المذكورين في الآية غير هؤلاء الذين قاتلوا مع أبي بكر.
مطلب : الدليل على صحة إمامة أبي بكر رضي الله عنه
ونظير ذلك أيضاً في دلالته على صحة إمامة أبي بكر قوله تعالى :﴿ قل للمخلّفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً ﴾ [ الفتح : ١٦ ] لأنه كان الداعي لهم إلى قتال أهل الردّة، وأخبر تعالى بوجوب طاعته عليهم بقوله :﴿ فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً وإن تتولّوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذاباً أليماً ﴾ [ الفتح : ١٦ ].
فإن قال قائل : يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي دعاهم. قيل له : قال الله تعالى :﴿ فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدوّاً ﴾ [ التوبة : ٨٣ ] فأخبر أنهم لا يخرجون معه أبداً ولا يقاتلون معه عدوّاً. فإن قال قائل : جائز أن يكون عمر هو الذي دعاهم. قيل له : إن كان كذلك فإمامة عمر ثابتة بدليل الآية، وإذا صحّتْ إمامته صحّت إمامةُ أبي بكر لأنه هو المستخلف له. فإن قيل : جائز أن يكون علي هو الذي دعاهم إلى محاربة من حارب. قيل له : قال الله تعالى :﴿ تقاتلونهم أو يسلمون ﴾ [ الفتح : ١٦ ] وعليّ رضي الله عنه إنما قاتل أهل البغي وحارب أهل الكتاب على أن يُسْلِمُوا أو يعطوا الجزية، ولم يحارب أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم على أن يسلموا غير أبي بكر، فكانت الآية دالّةً على صحة إمامته.

باب العمل اليسير في الصلاة


قال الله تعالى :﴿ إنَّما وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ رُوي عن مجاهد والسدّيّ وأَبي جعفر وعتبة بن أبي حكيم : أنها نزلت في علي بن أبي طالب حين تصدَّق بخاتمه وهو راكع. ورُوي عن الحسن أنه قال :" هذه الآية صفة جميع المسلمين، لأن قوله تعالى :﴿ الّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ صفة للجماعة وليست للواحد ". وقد اختُلف في معنى قوله :﴿ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ فقيل فيه : إنهم كانوا على هذه الصفة في وقت نزول الآية، منهم من قد أتمّ الصلاة ومنهم من هو راكع في الصلاة. وقال آخرون :" معنى :﴿ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ أن ذلك من شأنهم، وأفْرَدَ الركوع بالذكر تشريفاً له ". وقال آخرون :" معناه أنهم يصلّون بالنوافل كما يقال فلان يركع أن يتنفل ". فإن كان المرادُ فِعْلَ الصدقة في حال الركوع فإنه يدلّ على إباحة العمل اليسير في الصلاة، وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبارٌ في إباحة العمل اليسير فيها، فمنها أنه خلع نعليه في الصلاة، ومنها أنه مسَّ لحيته وأنه أشار بيده، ومنها حديث ابن عباس أنه قام على يسار النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ بذؤابته وأداره إلى يمينه، ومنها أنه كان يصلِّي وهو حاملٌ أمامةَ بنت أبي العاص بن الربيع، فإذا سجد وضعها وإذا رفع رأسه حملها. فدلالة الآية ظاهرة في إباحة الصدقة في الصلاة، لأنه إن كان المرادُ الركوعَ فكان تقديره :" الذين يتصدقون في حال الركوع " فقد دلّت على إباحة الصدقة في هذه الحال، وإن كان المرادُ وهم يصلّون، فقد دلّت على إباحتها في سائر أحوال الصلاة ؛ فكيفما تصرّفت الحال فالآية دالّة على إباحة الصدقة في الصلاة.
فإن قال قائل : فالمراد أنهم يتصدقون ويصلّون، ولم يُرِدْ به فعل الصدقة في الصلاة. قيل له : هذا تأويل ساقط، مِنْ قِبَلِ أن قوله تعالى :﴿ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ إخبارٌ عن الحال التي تقع فيها الصدقة، كقولك : تكلم فلان وهو قائم، وأعطى فلاناً وهو قاعد، إنما هو إخبار عن حال الفعل. وأيضاً لو كان المراد ما ذكرتَ، كان تكراراً لما تقدم ذكره في أول الخطاب قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ﴾ ويكون تقديره :" الذين يقيمون الصلاة ويصلّون " وهذا لا يجوز في كلام الله تعالى، فثبت أن المعنى ما ذكرنا من مدح الصدقة في حال الركوع أو في حال الصلاة. وقوله تعالى :﴿ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ يدلّ على أن صدقة التطوّع تسمَّى زكاةً، لأن عليّاً تصدق بخاتمه تطوعاً، وهو نظير قوله تعالى :﴿ وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ﴾ [ الروم : ٣٩ ] قد انتظم صدقة الفرض والنفل، فصار اسم الزكاة يتناول الفرض والنفل كاسم الصدقة وكاسم الصلاة ينتظم الأمرين.
مطلب : في الاستعانة بالمشركين
قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً ﴾ فيه نهي عن الاستنصار بالمشركين، لأن الأولياء هم الأنصار. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه حين أراد الخروج إلى أُحُدٍ جاء قوم من اليهود وقالوا : نحن نخرج معك، فقال :" إنَّا لا نَسْتَعِينُ بمُشْرِكٍ "، وقد كان كثير من المنافقين يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وسلم المشركين. وقد حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا أبو مسلم : حدثنا حجاج : حدثنا حماد عن محمد بن إسحاق عن الزهري :" أن ناساً من اليهود غزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقسم لهم كما قسم للمسلمين ". وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد ويحيى بن معين قالا : حدثنا يحيى عن مالك عن الفضل عن عبدالله بن نيار عن عروة عن عائشة قال يحيى : إن رجلاً من المشركين لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقاتل معه فقال :" ارْجِعْ ! " ثم اتفقا فقال :" إنّا لا نَسْتَعِينُ بمُشْرِكٍ ".
وقال أصحابنا : لا بأس بالاستعانة بالمشركين على قتال غيرهم من المشركين إذا كانوا متى ظهروا كان حكم الإسلام هو الظاهر، فأما إذا كانوا لو ظهروا كان حكم الشرك هو الغالب فلا ينبغي للمسلمين أن يقاتلوا معهم. ومستفيض في أخبار أهل السِّيَرِ ونَقَلَةِ المغازي :" أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يغزو ومعه قوم من اليهود في بعض الأوقات وفي بعضها قوم من المشركين ". وأما وجه الحديث الذي قال فيه :" إنا لا نستعين بمشرك " فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يَثِقْ بالرجل وظنّ أنه عَيْنٌ للمشركين، فرده وقال :" إنا لا نستعين بمشرك " يعني به من كان في مثل حاله.

باب الأذان


قال الله تعالى :﴿ وَإذَا نَادَيْتُمْ إلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ﴾ قد دلّت هذه الآية على أن للصلاة أذاناً يُدْعَى به الناس إليها ؛ ونحوه قوله تعالى :﴿ إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ﴾ [ الجمعة : ٩ ]. وقد رَوَى عمرو بن مرة عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن معاذ قال : كانوا يجتمعون للصلاة لوقت يعرفونه ويؤذن بعضهم بعضاً، حتى نقسوا أو كادوا أن ينقسوا، فجاء عبدالله بن زيد الأنصاري وذكر الأذان، فقال عمر : قد طاف بي الذي طاف به ولكنه سبقني. وروى الزهري عن سالم عن أبيه قال :" استشار النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين على ما يجمعهم في الصلاة، فقالوا : البوق ؛ فكرهه من أجل اليهود " وذكر قصة عبدالله بن زيد وأن عمر رأى مثل ذلك. فلم يختلفوا أن الأذان لم يكن مسنوناً قبل الهجرة، وأنها إنما سُنَّ بعدها. وقد رَوَى أبو يوسف عن محمد بن بشر الهمداني قال : سألت محمد بن علي عن الأذان كيف كان أوله وما كان ؟ فقال : شأن الأذان أعْظَمُ مِنْ ذلك، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أُسْرِيَ به جُمعَ النبيّون ثم نزل مَلَكٌ من السماء لم ينزل قبل ليلته فأذّن كأذانكم وأقام كإقامتكم ثم صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنبيين. قال أبو بكر : ليلة أُسْرِي به كان بمكة، وقد صلّى بالمدينة بغير أذان واستشار أصحابه فيما يجمعهم به للصلاة، ولو كانت تبدئة الأذان قد تقدمت قبل الهجرة لما استشار فيه ؛ وقد ذكر معاذ وابن عمر في قصة الأذان ما ذكرنا.
والأذانُ مسنونٌ لكل صلاة مفروضة منفرداً كان المصلّي أو في جماعة، إلا أن أصحابنا قالوا : جائز للمقيم المنفرد أن يصلي بغير أذان، لأن أذان الناس دعاء له، فيكتفي به ؛ والمسافر يؤذن ويقيم، وإن اقتصر على الإقامة دون الأذان أجزأه. ويُكره له أن يصلّي بغير أذان ولا إقامة ؛ لأنه لم يكن هناك أذان يكون دعاء له. ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مَنْ صَلّى في أَرْضِ بأذَانٍ وإقامَةٍ صَلَّى خَلْفَهُ صَفٌّ مِنَ المَلاَئِكَةِ لا يُرَى طَرَفَاه ". وهذا يدلّ على أن من سنّة صلاة المنفرد الأذان. وقال في خبر آخر :" إذا سافَرْتُما فأَذِّنَا وأقِيما " وقد ذكرنا صفة الأذان والإقامة والاختلاف فيهما في غير هذا الكتاب.
قوله تعالى :﴿ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ ﴾ قيل فيه : إن معناه " هلاّ " وهي تدخل للماضي والمستقبل، فإذا كانت للمستقبل فهي في معنى الأمر، كقوله :" لم لا تفعل " وهي ههنا للمستقبل، يقول : هلاّ ينهاهم ولم لا ينهاهم وإذا كانت للماضي فهو للتوبيخ، كقوله تعالى :﴿ لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء ﴾ [ النور : ١٣ ] و ﴿ لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً ﴾ [ النور : ١٢ ]. وقيل في الرباني : إنه العالم بدين الربّ، فنُسب إلى الربّ، كقولهم :" رُوحَانيّ " في النسبة إلى الروح، و " بحرانيّ " في النسبة إلى البحر. وقال الحسن :" الربانيون علماء أهل الإنجيل، والأحبارُ علماء أهل التوراة ". وقال غيره :" هو كله في اليهود، لأنه متصل بذكرهم ". وذكر لنا أبو عمر غلام ثعلب عن ثعلب قال :" الرباني العالم العامل ". وقد اقتضت الآية وجوب إنكار المنكر بالنهي عنه والاجتهاد في إزالته، لذمّه من ترك ذلك.
قوله تعالى :﴿ وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ﴾. رُوي عن ابن عباس وقتادة والضحاك أنهم وصفوه بالبخل وقالوا : هو مقبوض العطاء، كقوله تعالى :﴿ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ﴾ [ الإسراء : ٢٩ ]. وقال الحسن :" قالوا هي مقبوضة عن عقابنا ".
مطلب : في معاني اليد
واليد في اللغة تنصرف على وجوه : منها الجارحة وهي معروفة. ومنها النعمة، تقول : لفلان عندي يَدٌ أشكره عليها، أي نعمة. ومنها القوة. فقوله أولي الأيدي فسروه بأُولي القُوَى ؛ ونحوه قول الشاعر :
* تَحَمَّلْتُ مِنْ ذَلْفَاءَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ * ولا للجِبَالِ الرّاسِيَاتِ يَدَانِ *
ومنها الملك، ومنه قوله :﴿ الذي بيده عقدة النكاح ﴾ [ البقرة : ٢٣٧ ] يعني يملكها. ومنها الاختصاص بالفعل، كقوله تعالى :﴿ خلقت بيدي ﴾ [ ص : ٧٥ ] أي توليت خلقه. ومنها التصرف، كقولك :" هذه الدار في يد فلان " يعني التصرف فيها بالسكنى أو الإسكان ونحو ذلك. وقيل : إنه قال تعالى :﴿ بَلْ يَدَاهُ ﴾ على وجه التثنية، لأنه أراد نعمتين : إحداهما نعمة الدنيا، والأخرى نعمة الدين. والثاني : قوتاه بالثواب والعقاب، على خلاف قول اليهود، لأنه لا يقدر على عقابنا. وقيل : إن التثنية للمبالغة في صفة النعمة، كقولك :" لبيك وسعديك ". وقيل في قوله تعالى :﴿ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ يعني في جهنم ؛ رُوي عن الحسن.
قوله تعالى :﴿ كُلَّمَا أوْقَدُوا نَاراً للحَرْبِ أطْفَأَهَا اللَّهُ ﴾ فيه إخبارٌ بغَلَبَةِ المسلمين لليهود الذين تقدم ذكرهم في قوله :﴿ وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللَّه مَغْلُولَةٌ ﴾، وفيه دلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه أخبر به عن الغيب مع كثرة اليهود وشدة شوكتهم ؛ وقد كان مَنْ حَوْلَ المدينة منهم تقاومُ العرب في الحروب التي كانت تكون بينهم في الجاهلية، فأخبر الله تعالى في هذه الآية بظهور المسلمين عليهم، فكان مخبره على ما أخبر به، فأجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع وبني النضير وقتل بني قريظة وفتح خيبر عنوة وانقادت له سائر اليهود صاغرين حتى لم تبق منهم فئة تقاتل المسلمين. وإنما ذكر النار هاهنا عبارة عن الاستعداد للحرب والتأهّب لها، على مذهب العرب في إطلاق اسم النار في هذا الموضع ؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم :" أنا بَرِيءٌ مِنْ كلّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ " قيل : لم يا رسول الله ؟ قال :" لا تَرَاءَى نَارَاهُما " ؛ وإنما عَنَى بها نارَ الحرب، يعني أن حرب المشركين للشيطان وحرب المسلمين لله تعالى فلا يتفقان. وقيل : إن الأصل في العبارة باسم النار عن الحرب، أن القبيلة الكبيرة من العرب كانت إذا أرادت حَرْبَ أخرى منها أوقدت النيران على رؤوس الجبال والمواضع المرتفعة التي تعمّ القبيلة رؤيتها، فيعلمون أنهم قد نُدِبُوا إلى الاستعداد للحرب والتأهُّبِ لها فاستعدّوا وتأهّبوا، فصار اسم النار في هذا الموضع مفيداً للتأهب للحرب. وقد قيل فيه وجه آخر، وهو أن القبائل كانت إذا رأت التحالُفَ على التناصر على غيرهم والجدَّ في حربهم وقتالهم، أوقدوا ناراً عظيمة ثم قربوا منها وتحالفوا بحرمان منافعها إن هم غدروا أو نكلوا عن الحرب ؛ وقال الأعشى :
* وأوقدت للحرب نارا *
قوله تعالى :﴿ يا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ﴾ فيه أمرٌ للنبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ الناس جميعاً ما أرسله به إليهم من كتابه وأحكامه، وأن لا يكتم منه شيئاً خوفاً من أحد ولا مداراةً له، وأخبر أنه إن ترك تبليغ شيء منه فهو كمن لم يبلغ شيئاً، بقوله تعالى :﴿ وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ فلا يستحقَّ منزلة الأنبياء القائمين بأداء الرسالة وتبليغ الأحكام. وأخبر تعالى أنه يعصمه من الناس حتى لا يصلوا إلى قتله ولا قَهْره ولا أسْرِه، بقوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ ؛ وفي ذلك إخبارٌ أنه لم يكن تقية من إبلاغ جميع ما أرسل به إلى جميع من أرسل إليهم. وفيه الدلالة على بطلان قول الرافضة في دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كَتَمَ بعض المبعوثين إليهم على سبيل الخوف والتَّقِيَّةِ ؛ لأنه تعالى قد أمره بالتبليغ، وأخبر أنه ليس عليه تقية بقوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾. وفيه دلالةٌ على أن كل ما كان من الأحكام بالناس إليه حاجةٌ عامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلَغه الكافة وأن وروده ينبغي أن يكون من طريق التواتر، نحو الوضوء مِنْ مَسِّ الذكر ومن مسّ المرأة ومما مسّته النار ونحوها، لعموم البَلْوَى بها ؛ فإذا لم نجد ما كان منها بهذه المنزلة وارداً من طريق التواتر علمنا أن الخبر غير ثابت في الأصل، أو تأويله ومعناه غير ما اقتضاه ظاهره من نحو الوضوء الذي هو غسل اليد دون وضوء الحدث.
مطلب : في الدليل على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم
وقد دل قوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كان من أخبار الغيوب التي وُجِدَ مُخْبِرُها على ما أخبر به ؛ لأنه لم يَصِلْ إليه أحدٌ بقتل ولا قهر ولا أسْرٍ مع كثرة أعدائه المحاربين له مُصَالَتَةً والقصد لاغتياله مخادعَةً، نحو ما فعله عامر بن الطفيل وأرْبِد، فلم يصلا إليه ؛ ونحو ما قصده به عُمَيْر بن وهب الجمحي بمواطأةٍ من صفوان بن أمية، فأعلمه الله إياه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عمير بن وهب بما تواطأ هو وصفوان بن أمية عليه وهما في الحجر من اغتياله، فأسلم عمير وعَلِمَ أن مثله لا يكون إلاّ من عند الله تعالى عالم الغيب والشهادة، ولو لم يكن ذلك من عند الله لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم الناس ولا ادَّعى أنه معصوم من القتل والقهر من أعدائه وهو لا يأمن أن يوجد ذلك على خلاف ما أخبر به فيظهر كذبه مع غناه عن الإخبار بمثله. وأيضاً لو كانت هذه الأخبار من عند غير الله لما اتّفق في جميعها وجود مُخْبَرَاتِها على ما أخبر به، إذْ لا يتفق مثلها في أخبار الناس إذا أخبروا عما يكون على جهة الحَدْسِ والتخمين وتعاطي علم النجوم والزرق والفال ونحوها، فلما اتّفق جميع ما أخبر به عنه من الكائنات في المستأنف على ما أخبر به ولا تخلَّفَ شيءٌ منها، علمنا أنها من عند الله العالم بما كان وما يكون قبل أن يكون.
قوله تعالى :﴿ قُلْ يا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ فيه أمرٌ لأهل الكتاب بالعمل بما في التوراة والإنجيل، لأن إقامتها هو العمل بهما وبما في القرآن أيضاً، لأن قوله تعالى :﴿ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ حقيقته تقتضي أن يكون المراد ما أنزل الله على رسوله، فكان خطاباً لهم، وإن كان محتملاً لأن يكون المراد ما أنزل الله على آبائهم في زمان الأنبياء المتقدمين. وقوله تعالى :﴿ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ ﴾ مقتضاه : لستم على شيء من الدين الحقّ حتى تعملوا بما في التوراة والإنجيل والقرآن. وفي هذا دلالة على أن شرائع الأنبياء المتقدمين ما لم يُنسَخْ منها قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فهو ثابتُ الحكم مأمورٌ به وأنه قد صار شريعة لنبينا عليه السلام، لولا ذلك لما أُمِرُوا بالثبات عليه والعمل به.
فإن قال قائل : معلوم نسخُ كثير من شرائع الأنبياء المتقدمين على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم، فجائز إذا كان هذا هكذا أن تكون هذه الآية نزلت بعد نسخ كثير منها، ويكون معناها الأمر بالإيمان على ما في التوراة والإنجيل من صِفَةِ النبي صلى الله عليه وسلم ومبعثه وبما في القرآن من الدلالة المعجزة الموجبة لصدقة، وإذا احتملت الآية ذلك لم تدل على بقاء شرائع الأنبياء المتقدمين. قيل له : لا تخلو هذه الآية من أن تكون نزلت قبل نسخ شرائع الأنبياء المتقدمين فيكون فيها أمرٌ باستعمالها وإخبارٌ ببقاء حكمها، أو أن تكون نزلت بعد نسخ كثير منها ؛ فإن كان كذلك فإن حكمها ثابت فيما لم ينسخ منها، كاستعمال حكم العموم فيما لم تقم دلالة خصوصه واستعمالها فيما لا يجوز فيه النسخ من وصف النبي صلى الله عليه وسلم وموجبات أحكام العقول، فلم تَخْلُ الآيةُ من الدلالة على بقاء حكم ما لم يُنسخ مِنْ شرائع مَنْ قبلنا وأنه قد صار شريعة لنبينا عليه السلام.
مطلب : في الدليل على بطلان قول النصارى في أن المسيح إله
قوله تعالى :﴿ مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ ﴾ فيه أوضح الدلالة على بطلان قول النصارى في أن المسيح إله، لأن من احتاج إلى الطعام فسبيله سبيل سائر العباد في الحاجة إلى الصانع المدبر، إذْ كان من فيه سِمَةُ الحَدَثِ لا يكون قديماً، ومن يحتاج إلى غيره لا يكون قادراً لا يعجزه شيء. وقد قيل في معنى قوله :﴿ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ ﴾ إنه كناية عن الحَدَثِ، لأن كل من يأكل الطعام فهو محتاج إلى الحدث لا محالة. وهذا وإن كان كذلك في العادة فإن الحاجة إلى الطعام والشراب وما يحتاج المحتاجُ إليهما من الجوع والعطش ظاهر الدلالة على حدث المحتاج إليهما وعلى أن الحوادث تتعاقب عليه، وأن ذلك ينفي كونه إلهاً وقديماً.
قوله تعالى :﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَني إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﴾، قال الحسن ومجاهد والسدي وقتادة :" لُعِنوا على لسان داود فصاروا قِرَدَةً وعلى لسان عيسى فصاروا خنازير ". وقيل : إن فائدة لَعْنِهِم على لسان الأنبياء إعلامُهُمُ الإياسَ من المغفرة مع الإقامة على الكفر والمعاصي، لأن دعاء الأنبياء عليهم السلام باللعن والعقوبة مستجابٌ. وقيل : إنما ظهر لعنهم على لسان الأنبياء لئلاّ يوهموا الناس أن لهم منزلة بولادة الأنبياء تنجيهم من عقاب المعاصي.
قوله تعالى :﴿ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ﴾ معناه لا يَنْهَى بعضهم بعضاً عن المنكر ؛ وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي : حدثنا يونس بن راشد عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة عن عبدالله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْضُ على بني إسرائيل كانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فيَقُولُ يا هذا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصنَعُ فإِنَّهُ لا يَحلُّ لَكَ، ثم يَلْقَاهُ مِنَ الغَدِ فلا يَمْنَعُهُ ذلك أن يَكُونَ أَكِيلَهُ وشَرِيبَهُ وقَعِيدَهُ، فلمَّا فَعَلُوا ذلك ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ ببَعْضٍ، ثمَّ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ علَى لِسَانِ دَاوُدَ وعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ " إلى قوله فاسقون ثم قال :" كلاّ والله ! لتَأْمُرُنَّ بالمَعْرُوفِ ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ ولتَأْخُذُنَّ على يَدَي الظَّالِمِ ولَتأْطُرُنَّهُ على الحَقِّ أَطْراً ولَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الحَقِّ قَصْراً ". وقال أبو داود : وحدثنا خلف بن هشام : حدثنا أبو شهاب الحناط، عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة، عن سالم، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، زاد :" أو ليَضْرِبَنَّ اللَّهُ بقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ لَيَلْعَنَنَّكُمْ كما لَعَنَهُمْ ".
قال أبو بكر : في هذه الآية مع ما ذكرنا من الخبر في تأويلها دلالةٌ على النهي عن مجالسة المظهرين للمنكر، وأنه لا يُكْتَفَى منهم بالنهي دون الهجران.
قوله تعالى :﴿ تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾، رُوي عن الحسن وغيره أن الضمير في " منهم " راجع إلى اليهود ؛ وقال آخرون : هو راجع إلى أهل الكتاب، والذين كفروا هم عبدة الأوثان تولاّهم أهلُ الكتاب على معاداة النبي صلى الله عليه وسلم ومحاربته.
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بالله وَالنَّبِيّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ﴾ رُوي عن الحسن ومجاهد أنه في المنافقين من اليهود، أخبر أنهم غير مؤمنين بالله وبالنبي وإن كانوا يظهرون الإيمان. وقيل : إنه أراد بالنبي موسى عليه السلام أنهم غير مؤمنين به إذ كانوا يتولّون المشركين.
قوله تعالى :﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً للَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى ﴾ الآية
قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي :" نزلت في النجاشي وأصحابه لما أسلموا ". وقال قتادة :" قوم من أهل الكتاب كانوا على الحق متمسكين بشريعة عيسى عليه السلام، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا به ". ومن الجهال من يظنّ أن في هذه الآية مَدْحاً للنصارى وإخباراً بأنهم خيرٌ من اليهود، وليس كذلك ؛ وذلك لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول يدلّ عليه ما ذُكر في نسق التلاوة من إخبارهم عن أنفسهم بالإيمان بالله وبالرسول، ومعلوم عند كل ذي فطنة صحيحة أمْعَنَ النظر في مقالتَيْ هاتين الطائفتين أن مقالة النصارى أقبح وأشدّ استحالة وأظهر فساداً من مقالة اليهود ؛ لأن اليهود تقرّ بالتوحيد في الجملة وإن كان فيها مُشَبِّهَةٌ تنقص ما أعطته في الجملة من التوحيد بالتشبيه.

باب تحريم ما أحلّ الله عز وجل


قال الله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾
والطيبات اسمٌ يقع على ما يُستلذّ ويُشتَهَى ويميل إليه القلب، ويقع على الحلال. وجائز أن يكون مراد الآية الأمرين جميعاً لوقوع الاسم عليهما، فيكون تحريم الحلال على أحد وجهين، أحدهما : أن يقول :" قد حرمت هذا الطعام على نفسي " فلا يحرم عليه وعليه الكفارة إن أكل منه. والثاني : أن يغصب طعام غيره فيخلطه بطعامه فيحرمه على نفسه حتى يغرم لصاحبه مثله. روى عكرمة عن ابن عباس أن رجلاً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني إذا أكلتُ اللحم انتشرتُ فحرّمته على نفسي ! فأنزل الله تعالى :﴿ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ الآية. وروى سعيد عن قتادة قال : كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هَمّوا بترك اللحم والنساء والاختصاء، فأنزل الله عز وجل :﴿ يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ الآية، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال :" لَيْسَ فِي دِيني تَرْكُ النِّسَاءِ ولا اللّحْمِ ولا اتّخاذُ الصَّوَامِع ". ورَوَى مسروقٌ قال : كنا عند عبدالله، فأتي بضرع، فتنحَّى رجل، فقال عبدالله : ادْنُهْ فكلْ ! فقال : إني كنت حرّمتُ الضرع ؛ فتلا عبدالله :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ كُلْ وكَفِّرْ !. وقال الله تعالى :﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ [ التحريم : ١ ] إلى قوله :﴿ قد فرض الله لكم تحلّة أيمانكم ﴾ [ التحريم : ٢ ]. ورُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم حَرَّم مَارِيَةَ ؛ ورُوي أنه حرَّم العسل على نفسه، فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمره بالكفّارة. وكذلك قال أكثرُ أهل العلم فيمن حرّم طعاماً أو جاريةً على نفسه أنه إن أكل من الطعام حَنَثَ، وكذلك إن وَطِىءَ الجارية لزمته كفّارةُ يمين.
وفرق أصحابنا بين من قال :" والله لا آكل هذه الطعام " وبين قوله :" حرمته على نفسي " فقالوا في التحريم : إن أكل الجزء منه حنث، وفي اليمين لا يحنث إلاّ بأكل الجميع ؛ وجعلوا تحريمه إياه على نفسه بمنزلة قوله :" والله لا أكلت منه شيئاً " إذ كان ذلك مقتضَى لفظ التحريم في سائر ما حرم الله تعالى، مثل قوله :﴿ حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ﴾ [ المائدة : ٣ ] اقتضى اللفظ تحريم كل جزء منه، فكذلك تحريم الإنسان طعاماً يقتضي إيجاب اليمين في أكل الجزء منه. وأما اليمين بالله في نفي أكل هذا الطعام فإنها محمولة على الأيْمان المنتظمة للشروط والجواب، كقول القائل :" إن أكلت هذا الطعام فعبدي حرّ " فلا يحنث بأكل البعض منه حتى يستوفي أكل الجميع. فإن قال قائل : قال الله تعالى :﴿ كلّ الطعام كان حِلاًّ لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه ﴾ [ آل عمران : ٩٣ ] فرُوي أن إسرائيل أخذه عِرْقُ النَّسا، فحرَّم أحبَّ الأشياء إليه وهو لحوم الإبل إن عافاه الله، فكان ذلك تحريماً صحيحاً حاظراً لما حرم على نفسه. قيل له : هو منسوخٌ بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
مطلب : في الدليل على بطلان قول الممتنعين من أكل اللحوم والأطعمة اللذيذة تزهداً
وفي هذه الآية دلالةٌ على بطلان قول الممتنعين من أكل اللحوم والأطعمة اللذيذة تزهداً ؛ لأن الله تعالى قد نهى عن تحريمها وأخبر بإباحتها في قوله :﴿ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً ﴾، ويدلّ على أنه لا فضيلة في الامتناع من أكلها. وقد روى أبو موسى الأشعري أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأكل لحم الدجاج. ورُوي أنه كان يأكل الرطب والبطيخ. ورَوَى غالب بن عبدالله عن نافع عن ابن عمر قال :" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يأكل الدجاجة حبسها ثلاثة أيام فعلفها ثم أكلها ". ورَوَى إبراهيم بن ميسرة عن طاوس قال : سمعت ابن عباس يقول :" كُلْ ما شئت واكْتَسِ ما أخطأت اثنتين سرفاً أو مَخِيلَةً ". وقد رُوي أن عثمان وعبدالرحمن بن عوف والحسن بن علي وعبدالله بن أبي أوْفَى وعمران بن حصين وأنس بن مالك وأبا هريرة وشُرَيحاً كانوا يلبسون الخزّ. ويدل على نحو دلالة الآية التي ذكرنا في أكْلِ إباحة الطيبات قوله تعالى :﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ﴾ [ الأعراف : ٣٢ ]، وقوله عقيب ذكره لما خلق من الفواكه :﴿ متاعاً لكم ﴾ [ المائدة : ٩٦ ].
مطلب : في تحريم إيقاع الطلاق الثلاث
ويحتج بقوله :﴿ لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّه لَكُمْ ﴾ في تحريم إيقاع الطلاق الثلاث لما فيه من تحريم المباح من المرأة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٧:باب تحريم ما أحلّ الله عز وجل
قال الله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾
والطيبات اسمٌ يقع على ما يُستلذّ ويُشتَهَى ويميل إليه القلب، ويقع على الحلال. وجائز أن يكون مراد الآية الأمرين جميعاً لوقوع الاسم عليهما، فيكون تحريم الحلال على أحد وجهين، أحدهما : أن يقول :" قد حرمت هذا الطعام على نفسي " فلا يحرم عليه وعليه الكفارة إن أكل منه. والثاني : أن يغصب طعام غيره فيخلطه بطعامه فيحرمه على نفسه حتى يغرم لصاحبه مثله. روى عكرمة عن ابن عباس أن رجلاً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني إذا أكلتُ اللحم انتشرتُ فحرّمته على نفسي ! فأنزل الله تعالى :﴿ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ الآية. وروى سعيد عن قتادة قال : كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هَمّوا بترك اللحم والنساء والاختصاء، فأنزل الله عز وجل :﴿ يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ الآية، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال :" لَيْسَ فِي دِيني تَرْكُ النِّسَاءِ ولا اللّحْمِ ولا اتّخاذُ الصَّوَامِع ". ورَوَى مسروقٌ قال : كنا عند عبدالله، فأتي بضرع، فتنحَّى رجل، فقال عبدالله : ادْنُهْ فكلْ ! فقال : إني كنت حرّمتُ الضرع ؛ فتلا عبدالله :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ كُلْ وكَفِّرْ !. وقال الله تعالى :﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ [ التحريم : ١ ] إلى قوله :﴿ قد فرض الله لكم تحلّة أيمانكم ﴾ [ التحريم : ٢ ]. ورُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم حَرَّم مَارِيَةَ ؛ ورُوي أنه حرَّم العسل على نفسه، فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمره بالكفّارة. وكذلك قال أكثرُ أهل العلم فيمن حرّم طعاماً أو جاريةً على نفسه أنه إن أكل من الطعام حَنَثَ، وكذلك إن وَطِىءَ الجارية لزمته كفّارةُ يمين.
وفرق أصحابنا بين من قال :" والله لا آكل هذه الطعام " وبين قوله :" حرمته على نفسي " فقالوا في التحريم : إن أكل الجزء منه حنث، وفي اليمين لا يحنث إلاّ بأكل الجميع ؛ وجعلوا تحريمه إياه على نفسه بمنزلة قوله :" والله لا أكلت منه شيئاً " إذ كان ذلك مقتضَى لفظ التحريم في سائر ما حرم الله تعالى، مثل قوله :﴿ حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ﴾ [ المائدة : ٣ ] اقتضى اللفظ تحريم كل جزء منه، فكذلك تحريم الإنسان طعاماً يقتضي إيجاب اليمين في أكل الجزء منه. وأما اليمين بالله في نفي أكل هذا الطعام فإنها محمولة على الأيْمان المنتظمة للشروط والجواب، كقول القائل :" إن أكلت هذا الطعام فعبدي حرّ " فلا يحنث بأكل البعض منه حتى يستوفي أكل الجميع. فإن قال قائل : قال الله تعالى :﴿ كلّ الطعام كان حِلاًّ لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه ﴾ [ آل عمران : ٩٣ ] فرُوي أن إسرائيل أخذه عِرْقُ النَّسا، فحرَّم أحبَّ الأشياء إليه وهو لحوم الإبل إن عافاه الله، فكان ذلك تحريماً صحيحاً حاظراً لما حرم على نفسه. قيل له : هو منسوخٌ بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
مطلب : في الدليل على بطلان قول الممتنعين من أكل اللحوم والأطعمة اللذيذة تزهداً
وفي هذه الآية دلالةٌ على بطلان قول الممتنعين من أكل اللحوم والأطعمة اللذيذة تزهداً ؛ لأن الله تعالى قد نهى عن تحريمها وأخبر بإباحتها في قوله :﴿ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً ﴾، ويدلّ على أنه لا فضيلة في الامتناع من أكلها. وقد روى أبو موسى الأشعري أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأكل لحم الدجاج. ورُوي أنه كان يأكل الرطب والبطيخ. ورَوَى غالب بن عبدالله عن نافع عن ابن عمر قال :" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يأكل الدجاجة حبسها ثلاثة أيام فعلفها ثم أكلها ". ورَوَى إبراهيم بن ميسرة عن طاوس قال : سمعت ابن عباس يقول :" كُلْ ما شئت واكْتَسِ ما أخطأت اثنتين سرفاً أو مَخِيلَةً ". وقد رُوي أن عثمان وعبدالرحمن بن عوف والحسن بن علي وعبدالله بن أبي أوْفَى وعمران بن حصين وأنس بن مالك وأبا هريرة وشُرَيحاً كانوا يلبسون الخزّ. ويدل على نحو دلالة الآية التي ذكرنا في أكْلِ إباحة الطيبات قوله تعالى :﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ﴾ [ الأعراف : ٣٢ ]، وقوله عقيب ذكره لما خلق من الفواكه :﴿ متاعاً لكم ﴾ [ المائدة : ٩٦ ].
مطلب : في تحريم إيقاع الطلاق الثلاث
ويحتج بقوله :﴿ لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّه لَكُمْ ﴾ في تحريم إيقاع الطلاق الثلاث لما فيه من تحريم المباح من المرأة.

باب الأيمان


مطلب : في اليمين اللغو
قال الله تعالى :﴿ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ باللَّغْوِ في أيْمَانِكُمْ ﴾
عقيب نهيه عن تحريم ما أحلّ الله. قال ابن عباس :" لما حرّموا الطيبات من المآكل والمناكح والملابس حَلَفُوا على ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية ". وأما اللَّغْوُ فقد قيل فيه إنه ما لا يُعْتَدُّ به، ومنه قول الشاعر :
* أو مِائَة تَجْعَلُ أوْلادَها * لَغْواً وعَرض المائة الجَلْمَد *
يعني نُوقاً لا تعتدُّ بأولادها. فعلى هذا لَغْوُ اليمين ما لا يُعْتَدُّ به ولا حُكْمَ له. وروى إبراهيم الصائغ عن عطاء عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل :﴿ لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّه باللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ ﴾ ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا محمد بن أحمد بن سفيان الترمذي وابن عبدوس قالا : حدثنا محمد بن بكّار : حدثنا حسان بن إبراهيم عن إبراهيم الصائغ عن عطاء، وسئل عن اللغو في اليمين فقال : قالت عائشة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" هُوَ كَلامُ الرَّجُلِ في بَيْتِهِ لا وَاللَّهِ وبَلَى واللَّه ". وروى إبراهيم عن الأسود وهشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت :" لغو اليمين : لا والله وبلى والله " موقوفاً عليها. ورَوَى عِكْرِمَةُ عن ابن عباس في لَغْوِ اليمين :" أن يحلف على الأمر يراه كذلك وليس كذلك ". ورُوي عن ابن عباس أيضاً " أن لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان ". ورُوي عن الحسن والسدّي وإبراهيم مثل قول عائشة. وقال بعض أهل العلم :" اللغو في اليمين هو الغلط من غير قصد، على نحو قول القائل لا والله وبلى والله على سَبْقِ اللسان ". وقال بعضهم :" اللغو في اليمين أن تحلف على معصية أن تفعلها فينبغي أن لا تفعلها ولا كفّارة فيه " ؛ ورُوي فيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا فَلْيَتْرُكْها فإِنَّ تَرْكَهَا كَفَّارَتُها ".
وقد اختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضاً، فقال أصحابنا : اللغو هو قوله :" لا والله وبلى والله " فيما يظن أنه صادق فيه على الماضي. وقال مالك والليث نحو ذلك ؛ وهو قول الأوزاعي. وقال الشافعي :" اللغو هو المعقود عليه "، وقال الربيع عنه :" من حلف على شيء يَرَى أنه كذلك ثم وجده على غير ذلك فعليه كفّارة ".
قال أبو بكر : لما قال الله تعالى :﴿ لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ باللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ ﴾ أبان بذلك أن لَغْوَ اليمين غير معقود منها، لأنه لو كان المعقود هو اللغو لما عطفه عليه ولما فرق بينهما في الحكم في نَفْيه المؤاخذة بلغو اليمين وإثبات الكفارة في المعقودة. ويدلّ على ذلك أيضاً أن اللغو لما كان هو الذي لا حكم له، فغير جائز أن يكون هو اليمين المعقودة ؛ لأن المؤاخذة قائمة في المعقودة وحكمها ثابت، فبطل بذلك قول من قال إن اللغو هو اليمين المعقودة وإن فيها الكفارة، فثبت بذلك أن معناه ما قال ابن عباس وعائشة وأنها اليمين على الماضي فيما يظن الحالف أنه كما قال.
مطلب : في أقسام اليمين
والأيمان على ضَرْبَيْن : ماضٍ ومستقبل ؛ والماضي ينقسم قسمين : لَغْوٌ وغَمُوسٌ، ولا كفارة في واحد منهما. والمستقبل ضربٌ واحد، وهو اليمين المعقودة، وفيها الكفارة إذا حنث. وقال مالك والليث مثل قولنا في الغَمُوس أنه لا كفّارة فيها. وقال الحسن بن صالح والأوزاعي والشافعي :" في الغَمُوسِ الكفّارةُ ". وقد ذكر الله تعالى هذه الأيمان الثلاث في الكتاب، فذكر في هذه الآية اليمين اللغو والمعقودة جميعاً بقوله :﴿ لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ باللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤْاخِذُكُمْ بما عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ ﴾، وقال في سورة البقرة :﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ﴾ [ البقرة : ٢٢٥ ] والمراد به والله أعلم الغَمُوسُ لأنها هي التي تتعلق المؤاخذة فيها بكسب القلب وهو المأثم وعقاب الآخرة دون الكفارة، إذ لم تكن الكفارة متعلقة بكَسْبِ القلب، ألا ترى أن من حلف على معصية كان عليه أن يحنث فيها وتلزمه الكفارة مع ذلك ؟ فدل على أن قوله :﴿ ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ﴾ [ البقرة : ٢٢٥ ] المراد به اليمين الغموس التي يقصد بها إلى الكذب، وأن المؤاخذة بها هي عقاب الآخرة. وذِكْرُهُ للمؤاخذة بكسب القلب في هذه الآية عقيب ذكره اللغو في اليمين، يدلّ على أن اللغو هو الذي لم يُقصد فيه إلى الكذب وأنه ينفصل من الغموس بهذا المعنى.
مطلب : لا كفارة في اليمين الغموس
ومما يدل على أن الغَمُوسَ لا كفارة فيها قوله تعالى :﴿ إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ﴾ [ آل عمران : ٧٧ ] فذكر الوعيد فيها ولم يذكر الكفارة، فلو أوْجَبْنَا فيها الكفّارَة كان زيادةً في النصّ وذلك غير جائز إلا بنصٍّ مثله. ورَوَى عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وهُوَ فيها آثِمٌ فَاجِرٌ ليَقْطَعَ بها مالاً لَقِيَ اللهَ تَعَالَى وهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ". ورَوَى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مَنْ حَلَفَ على مِنْبَرِي هذا بيَمِينٍ آثِمَةٍ تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النّارِ ". فذكر النبي صلى الله عليه وسلم المأثم ولم يذكر الكفارة، فدلّ على أن الكفارة غير واجبة من وجهين، أحدهما : أنه لا تجوز الزيادة في النصّ إلا بمثله، والثاني : أنها لو كانت واجبة لذكرها كما ذكرها في اليمين المعقودة في قوله عليه السلام :" مَنْ حَلَفَ على يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَها خَيْراً مِنْها فَلْيَأْتِ الَّذي هُوَ خَيْرٌ مِنْها ولْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ " رواه عبدالرحمن بن سمرة وأبو هريرة وغيرهما. ومما يدلّ على نفي الكفارة في اليمين على الماضي قوله تعالى في نسق التلاوة :﴿ وَاحْفَظُوا أيْمَانَكُمْ ﴾ وحِفْظُها مراعاتها لأداء كفارتها عند الحنث فيها، ومعلومٌ امتناع حفظ اليمين على الماضي لوقوعها على وجه واحد لا يصح فيها المراعاة والحفظ.
فإن قال قائل : قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ ﴾ يقتضي عمومُه إيجابَ الكفّارة في سائر الأيمان إلاّ ما خصّه الدليل. قيل له : ليس كذلك ؛ لأنه معلوم أنه قد أراد به اليمين المعقودة على المستقبل، فلا محالة أن فيه ضميراً يتعلق به وجوب الكفارة وهو الحنث ؛ وإذا ثبت أن في الآية ضميراً سقط الاحتجاجُ بظاهرها لأنه لا خلاف أن اليمين المعقودة لا تجبُ بها كفارةٌ قبل الحنث، فثبت أن في الآية ضميراً فلم يُجِزِ اعتبار عمومها إذ كان حكمها متعلقاً بضمير غير مذكور فيها. وأيضاً قوله تعالى :﴿ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ﴾ يقتضي أن يكون جميع ما تجب فيه الكفارة من الأيمان هي التي ألزمنا حفظها. وذلك إنما هو في اليمين المعقودة التي تمكن مراعاتها وحفظها لأداء كفارتها، واليمينُ على الماضي لا يقع فيها حِنْثٌ فينتظمها اللفظ، ألا ترى أنه لا يصح دخول الاستثناء عليها فتقول :" كان أمس الجمعة إن شاء الله " و " الله لقد كان أمس الجمعة " إذا كان الحِنْثُ وجود معنى بعد اليمين بخلاف ما عقد عليه. ويدل على أن الكفارة إنما تتعلق بالحنث في اليمين بعد العقد أنه لو قال :" والله " كان ذلك قَسَماً ولم تلزمه كفارة بوجود هذا القول، لأنه لم يتعلق به حِنْثٌ.
وقد قُرئ قوله تعالى :﴿ بِمَا عَقَّدْتُم ﴾ على ثلاثة أوجه :﴿ عَقَّدْتُم ﴾ بالتشديد قرأه جماعة، و " عَقَدْتُمْ " خفيفة، و " عَاقَدْتُمْ "، فقوله تعالى :﴿ عَقَّدْتُم ﴾ بالتشديد كان أبو الحسن يقول : لا يحتمل إلا عقد قول، و " عَقَدْتُمْ " بالتخفيف يحتمل عَقْدَ القلب وهو العزيمة والقصد إلى القول، ويحتمل عقد اليمين قولاً ؛ ومتى احتمل إحدى القراءتين القول واعتقاد القلب ولم يحتمل الأخرى إلاّ عقد اليمين قولاً ؛ وجب حمل ما يحتمل وجهين على ما لا يحتمل إلاّ وجهاً واحداً، فيحصل المعنى من القراءتين عقد اليمين قولاً، ويكون حكم إيجاب الكفارة مقصوراً على هذا الضرب من الأيمان وهو أن تكون معقودة ولا تجب في اليمين على الماضي لأنها غير معقودة وإنما هو خبر عن ماضٍ والخبرُ عن الماضي ليس بعقد سواء كان صدقاً أو كذباً.
فإن قال قائل : إذا كان قوله تعالى :" عَقَدْتُمْ " بالتخفيف يحتمل اعتقاد القلب ويحتمل عقد اليمين، فهلاّ حملته على المعنيين إذ ليسا متنافيين ! وكذلك قوله تعالى :﴿ بما عَقَّدْتُم ﴾ بالتشديد محمولٌ على عقد اليمين، فلا ينفي ذلك استعمال اللفظ في القصد إلى اليمين فيكون عموماً في سائر الأيمان. قيل له : لو سُلّم لك ما ادّعيتَ من الاحتمال لما جاز استعماله فيما ذكرت ولكانت دلالة الإجماع مانعةً من حمله على ما وصفت، وذلك أنه لا خلاف أن القصد إلى اليمين لا يتعلق به وجوب الكفارة وأن حكم إيجابها متعلق باللفظ دون القصد في الأيمان التي يتعلق به وجوب الكفارة، فبطل بذلك تأويل من تأوّل اللفظ على قَصْدِ القلب في حكم الكفارة، وثبت أن المراد بالقراءتين جميعاً في إيجاب الكفارة هو اليمين المعقودة على المستقبل.
فإن قال قائل : قوله :﴿ عَقَّدْتُمْ ﴾ بالتشديد يقتضي التكرار، والمؤاخذةُ تلزم من غير تكرار، فما وجه اللفظ المقتضي للتكرار مع وجوب الكفارة في وجودها على غير وجه التكرار ؟ قيل له : قد يكون تعقيد اليمين بأن يعقدها في قلبه ولفظه، ولو عقد عليها في أحدهما دون الآخر لم يكن تعقيداً، إذ هو كالتعظيم الذي يكون تارةً بتكرير الفعل والتضعيف وتارة بعظم المنزلة ؛ وأيضاً فإن في قراءة التشديد إفادةَ حكْمٍ ليس في غيره، وهو أنه متى أعاد اليمين على وجه التكرار أنه لا تلزمه إلا كفّارة واحدة، وكذلك قال أصحابنا فيمن حلف على شيء ثم حلف عليه في ذلك المجلس أو غيره وأراد به التكرار : لا يلزمه إلاّ كفارة واحدة. فإن قيل : قوله :" بما عَقَدْتُمْ " بالتخفيف يفيد أيضاً إيجابَ الكفارة باليمين الواحدة. قيل له : القراءتان والتكرار جميعاً مستعملتان على ما وَصَفْنا، ولكل واحدة منهما فائدة مجددة.

فصل


ومن يجيز الكفارة قبل الحنث يحتجّ بهذه الآية من وجهين : أحدهما قوله :﴿ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ ﴾ فجعل ذلك كفّارةً عقيب عقد اليمين من غير ذكر الحِنْثِ، لأن الفاء للتعقيب. والثاني : قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ ﴾. فأما قوله :﴿ بما عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ ﴾ فإنه لا خلاف أن فيه ضميراً متى أراد إيجابها، وقد علمنا لا محالة أن الآية قد تضمنت إيجاب الكفارة عند الحنث وأنها غير واجبة قبل الحنث، فثبت أن المراد : بما عقدتم الأيمان وحنثتم فيها فكفارته، وهو كقوله تعالى :﴿ ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ] والمعنى : فأفطر فعدة من أيام أُخَر ؛ وقوله :﴿ فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة ﴾ [ البقرة : ١٩٦ ] فمعناه : ف

باب تحريم الخمر


قال الله تعالى :﴿ إنَّمَا الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأَنْصَابُ والأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ﴾
اقتضت هذه الآية تحريم الخمر من وجهين : أحدهما قوله :﴿ رِجْسٌ ﴾ لأن الرجس اسمٌ في الشرع لما يلزم اجتنابه ؛ ويقع اسمُ الرجس على الشي المستقذر النّجس، وهذا أيضاً يلزم اجتنابه، فأوجب وَصْفُهُ إياها بأنها رجسٌ لُزُومَ اجتنابها. والوجه الآخر : قوله تعالى :﴿ فَاجْتَنِبُوهُ ﴾ وذلك أمْرٌ يقتضي الإيجاب، فانتظمت الآية تحريم الخمر من هذين الوجهين.
والخمرُ هي عصير العنب النيّ المشتدّ، وذلك متفقٌ عليه أنه خمر. وقد سُمِّي بعض الأشربة المحرمة باسم الخمر تشبيهاً بها، مثل الفضيخ وهو نقيع البسر ونقيع التمر، وإن لم يتناولهما اسم الإطلاق. وقد رُوي في معنى الخمر آثارٌ مختلفة، منها ما رَوَى مالك بن مِغْوَلٍ عن نافع عن ابن عمر قال :" لقد حُرِّمت الخمر وما بالمدينة منها شيء " وقد علمنا أنه كان بالمدينة نقيع التمر والبسر وسائر ما يتخذ منهما من الأشربة، ولم يكن ابن عمر ممن يَخْفَى عليه الأسماء اللغوية، فهذا يدلّ على أن أشربة النخل لم تكن عنده تسمَّى خمراً. ورَوَى عِكْرمة عن ابن عباس قال :" نزل تحريم الخمر وهو الفضيح "، فأخبر ابن عباس أن الفضيخ خمرٌ، وجائز أن يكون سماه خمراً من حيث كان شراباً محرَّماً. وروى حُمَيدٌ الطويل عن أنس قال :" كنت أسقي أبا عبيدة وأبيّ بن كعب وسهيل بن بيضاء في نفر في بيت أبي طلحة، فمرّ بنا رجلٌ فقال : إن الخمر قد حُرّمت، فوالله ما قالوا حتى نتبيَّنَ حتى قالوا : أهْرِقْ ما في إنائك يا أنس ! ثم ما عادوا فيها حتى لقوا الله عز وجل، وإنه البُسْرُ والتمرُ وهو خمرُنا يومئذ ". فأخبر أنسٌ أن الخمر يوم حُرِّمت البسرُ التمرُ، وهذا جائز أن يكون لما كان محرّماً سماه خمراً، وأن يكون المراد أنهم كانوا يُجْرُونَه مجْرَى الخمر ويقيمونه مقامها، لا أن ذلك اسمٌ له على الحقيقة. ويدلّ عليه أن قتادة روى عن أنس هذا الحديث، وقال :" إنما نَعُدُّها يومئذ خمراً " فأخبر أنهم كانوا يعدّونها خمراً على معنى أنهم يجرونها مجرى الخمر. وروى ثابت عن أنس قال :" حُرِّمت علينا الخمر يوم حُرِّمت وما نجد خمور الأعناب إلا القليل وعامّة خمورنا البسر والتمر " ومع هذا أيضاً معناه أنهم كانوا يجرونه مجرى الخمر في الشرب وطلب الإسكار وطيبة النفس، وإنما كان شراب البسر والتمر. وروى المختار بن فلفل قال : سألت أنس بن مالك عن الأشربة فقال :" حرمت الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة. وما خمرت من ذلك فهو خمر " فذكر في الحديث الأول أنه من البسر والتمر، وذكر في هذا الحديث أنها من ستّة أشياء ؛ فكان عنده أن ما أسكر من هذه الأشربة فهو خمر، ثم قال :" وما خمرت من ذلك فهو خمرٌ " وهذا يدل على أنه إنما سَمَّى ذلك خمراً في حال الإسكار، وأن ما لا يسكر منه فليس بخمر. وقد رُوي عن عمر أنه قال :" إن الخمر حُرِّمت وهي من خمسة أشياء : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمرُ ما خامر العَقْلَ "، وهذا أيضاً يدلّ على أنه إنما سماه خمراً في حال ما أسكر إذا أكثر منه، لقوله :" والخمر ما خامر العقل ". وقد رُوي عن السريِّ بن إسماعيل عن الشعبي أنه حدثه أنه سمع النعمان بن بشير يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنَّ مِنَ الحِنْطَةِ خَمْراً، وإنّ مِنَ الشَّعِيرِ خَمْراً، وإِنَّ مِنَ الزَّبِيبِ خَمْراً، وإنَّ مِنَ التَّمْرِ خَمْراً، وإنَّ مِنَ العَسَلِ خَمْراً "، ولم يقل إن جميع ما يكون من هذه الأصناف خمر، وإنما أخبر أن منها خمراً. ويحتمل أن يريد به ما يسكر منه فيكون محرماً في تلك الحال، ولم يُرِدْ بذلك أن ذلك اسم لهذه الأشربة المتخذة من هذه الأصناف ؛ لأنه قد رُوي عنه بأسانيد أصحّ من إسناد هذا الحديث ما ينفي أن يكون الخمر من هذه الأصناف، وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا أبان قال : حدثني يحيى بن أبي كثير عن أبي كثير العنبري وهو يزيد بن عبدالرحمن عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" الخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ : النَّخْلَةِ والعِنَبِ " وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا عبيد بن حاتم قال : حدثنا ابن عمار الموصلي قال : حدثنا عبدة بن سليمان عن سعيد بن أبي عروبة عن عكرمة بن عمار عن أبي كثير عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ : النَّخْلِ والعِنَبِ ". وهذا الخبر يقضي على جميع ما تقدم ذكره في هذا الكتاب بصحة سنده، وقد تضمن نفي اسم الخمر عن الخارج عن غير هاتين الشجرتين ؛ لأنه قوله :" الخمر " اسم للجنس، فاستوعب بذلك جميع ما يسمَّى خمراً، فانتفى بذلك أن يكون الخارج من غيرهما مسمًّى باسم الخمر. واقتضى هذا الخبر أيضاً أن يكون المسمَّى بهذا الاسم من الخارج من هاتين الشجرتين، وهو على أول الخارج منهما مما يسكر منه، وذلك هو العصير النيُّ المشتدّ ونقيع التمر والبسر قبل أن تغيره النار، لأن قوله :" منهما " يقتضي أول خارج منهما مما يسكر.
والذي حصل عليه الاتِّفاقُ من الخمر هو ما قدمنا ذكره من عصير العنب النيّ المشتد إذا غلا وقذف بالزّبد، فيحتمل على هذا إن كان الخمر ما وصفنا أن يكون معنى حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :" الخمر من هاتين الشجرتين " أن مراده أنها من إحداهما، كما قال تعالى :﴿ يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ﴾ [ الأنعام : ١٣٠ ] وإنما الرسل من الإنس، وقال تعالى :﴿ يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ﴾ [ الرحمن : ٢٢ ] وإنما يخرج من أحدهما.
ويدلّ على أن الخمر هو ما ذكرنا وأن ما عداها ليس بخمر على الحقيقة، اتفاقُ المسلمين على تكفير مستحلِّ الخمر في غير حال الضرورة واتفاقهم على أن مستحلّ ما سواها من هذه الأشربة غير مستحق لسِمَةِ الكفر، فلو كانت خمراً لكان مستحلُّها كافراً خارجاً عن الملّة كمستحلِّ النيِّ المشتدِّ من عصير العنب، وفي ذلك دليلٌ على أن اسم الخمر في الحقيقة إنما يتناول ما وصفنا. وزعم بعض من ليس معه من الورع إلاّ تشدُّده في تحريم النبيذ دون التورّع عن أموال الأيتام وأكْلِ السُّحْتِ أنّ كتاب الله عز وجل والأحاديث الصحاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء في الحديث من تفسير الخمر ما هي واللغة القائمة المشهورة والنظر ما يعرفه ذوو الألباب بعقولهم، يدلّ على أن كل شيء أسكر فهو خمرٌ، فأما كتاب الله فقوله :﴿ تتخذون منه سَكَراً ﴾ [ النحل : ٦٧ ] فعلم أن السكر من العنب مثل السكر من النخل. فادَّعى هذا القائل أن كتاب الله يدلّ على أن ما أسكر فهو خمرٌ، ثم تلا الآية، وليس في الآية أن السّكَرَ ما هو ولا أن السّكَرَ خمرٌ ؛ فإن كان السكرُ خمراً على الحقيقة فإنما هو الخمر المستحيلة من عصير العنب، لأنه قال :﴿ ومن ثمرات النخيل والأعناب ﴾ [ النحل : ٦٧ ]، ومع ذلك فإن الآية مقتضيةٌ لإباحة السكر المذكور فيها، لأنه تعالى اعْتَدَّ علينا فيها بمنافعٍ النخيل والأعناب كما اعتدَّ بمنافع الأنعام وما خلق فيها من اللبن، فلا دلالة في الآية إذاً على تحريم السكر ولا على أن السكر خمرٌ، ولو دلّت على أن السكر خمرٌ لما دلّت على أن الخمر تكون من كل ما يسكر إذْ فيها ذِكْرُ الأعناب التي منها تكون الخمر المستحيلة من عصيرها، فكانت دعواه على الكتاب غير صحيحة. وذكر من الأحاديث في ذلك ما قدمنا ذِكْرَه عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف، وقد بينا وَجْهَه، وذكرنا ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" كلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ " و " كُلُّ شَرَابٍ أسْكَرَ فهو حَرَامٌ " و " ما أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ " ونحوها من الأخبار، والمعنى في هذه الأخبار حال وجود الإسكار دون غيرها الموافق لما ذكرنا من الأخبار النافية لكونها خمراً وما ذكرنا من دلالة الإجماع. وقد تواترت الآثارُ عن جماعةٍ مِنَ السلف شُرْبُ النبيذ الشديد، منهم عمر وعبدالله وأبو الدرداء وبُرَيدة، في آخرين قد ذكرناهم في كتابنا في الأشربة ؛ ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرب من النبيذ الشديد، في أخبار أُخَرَ، فينبغي على قول هذا القائل أن يكونوا قد شربوا خمراً.
وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا مطين قال : حدثنا أحمد بن يونس قال : حدثنا أبو بكر بن عياش عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ " فقلنا : يا ابن عباس إن هذا النبيذ الذي نشرب يسكرنا ! قال : ليس هكذا، إن شرب أحدكم تسعة أقداح لم يسكر فهو حلالٌ، فإن شرب العاشر فأسكره فهو حرام. حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا هوذة قال : حدثنا عوف بن سنان عن أبي الحكم عن بعض الأشعريين عن الأشعري قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذاً إلى اليمن، فقلت : يا رسول الله إنك تبعثنا إلى أرض بها أَشْرِبَةٌ منها البِتْعُ من العسل والمَزْرُ من الشعير والذرة يشتدّ حتى يسكر ؛ قال : وأُعْطي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جَوَامِعَ الكَلِمِ فقال :" إنّما حُرِّمَ المُسْكِرُ الّذي يُسْكِرُ عَنِ الصّلاةِ " فأخبر عليه السلام في هذا الحديث أن المحرم منه ما يوجب السكر دون غيره. وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا محمد بن زكريا العلاني قال : حدثنا العباس بن بكّار قال : حدثنا عبدالرحمن بن بشير الغطفاني عن أبي إسحاق عن الحارث عن عليّ قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأشربة عام حَجَّةِ الوداع، فقال :" حُرِّمَ الخَمْرُ بعَيْنِها والسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ " ؛ وفي هذا الحديث أيضاً بيان ما حُرِّم من الأشربة سوى الخمر وهو ما يوجب السكر. وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا معاذ بن المثنَّى قال : حدثنا مسدَّدٌ قال : حدثنا أبو الأحوص قال : حدثنا سِمَاكُ بن حرب عن القاسم بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي بُردة بن نِيَارٍ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" اشْرَبُوا في الظُّرُوفِ ولا تَسْكَرُوا "، فقوله :" اشربوا في الظروف " منصرف إلى ما كان حظره من الشرب في الأوعية، فأباح الشرب منها بهذا الخبر ؛ ومعلوم أن مراده ما يسكر كثيره، ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال :" اشربوا الماء ولا تسكروا " إذْ كان الماء لا يسكر بوجه ما ؟ فثبت أن مراده إباحةُ شرب قليل ما يسكر كثيره.
وأما ما رُوي عن الصحابة من شرب النبيذ الشديد، فقد ذكرنا منه طرفاً في كتاب الأشربة، ونذكر ههنا بعض ما رُوي فيه، حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا حسين بن جعفر القتّات قال : حدثنا يزيد بن مهران الخباز قال : حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي حصين والأعمش عن إبراهيم عن علقمة والأسود قال :" كنا ندخل على عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فيسقينا النبيذ الشديد ". وحدثنا عبدالله بن الحسين الكرخي قال : حدثنا أبو عون الفَرَضِيّ قال : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي قال : حدثنا نعيم بن حما
قوله تعالى :﴿ إنّما يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ في الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ ﴾الآية
فإنما يريد به ما يدعو الشيطان إليه ويزينه من شرب الخمر حتى يسكر منها شاربها، فيقدم على القبائح ويعربد على جلسائه فيؤدّي ذلك إلى العداوة والبغضاء وكذلك القمار يؤدّي إلى ذلك، قال قتادة :" كان الرجل يقامرُ في ماله وأهله، فيُقْمَرُ ويبقى حزيناً سليباً فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء ". ومن الناس من يستدلّ به على تحريم النبيذ، إذ كان السكر منه يوجب من العداوة والبغضاء مثل ما يوجبه السكر في الخمر، وهذا المعنى لعمري موجود فيما يوجب السكر منه غير موجود فيما لا يوجبه، ولا خلاف في تحريم ما يوجب السكر منه، وأما قليل الخمر فليست هذه العلة موجودة فيه فهو محرم لعينه، وليس فيه علّة تقتضي تحريم قليل النبيذ.
قوله تعالى :﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ﴾
قال ابن عباس وجابر والبراء بن عازب وأنس بن مالك والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك :" لما حرّم الخمر كان قد مات رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر قبل أن تحرَّم، فقالت الصحابة : كيف بمن مات منّا وهم يشربونها ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ". ورُوي عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عليّ : أن قوماً شربوا بالشام وقالوا هي لنا حلال وتأولوا هذه الآية، فأجمع عمر وعليّ على أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قُتلوا. ورَوَى الزهري قال : أخبرني عبدالله بن عامر بن ربيعة، أن الجارود سيد بني عبد القيس وأبا هريرة شهدا على قدامة بن مظعون أنه شرب الخمر وأراد عُمَرُ أن يجلده، فقال قدامة : ليس لك ذلك لأن الله تعالى يقول :﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ ﴾ الآية ! فقال عمر : إنك قد أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله تعالى عليك. فلم يحكموا على قدامة بحكمهم على الذين شربوها بالشام، ولم يكن حكمه حكمهم، لأن أولئك شربوها مستحلّين لها، ومستحلُّ ما حرم الله كافرٌ، فلذلك استتابوهم. وأما قدامة بن مظعون فلم يشربها مستحلاًّ لشربها، وإنما تأول الآية على أن الحال التي هو عليها ووجود الصفة التي ذكر الله تعالى في الآية فيه مكفّرة لذنوبه، وهو قوله تعالى :﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذَا مَا اتَّقُوا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقُوا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقُوا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ ﴾ فكان عنده أنه من أهل هذه الآية وأنه لا يستحق العقوبة على شربها مع اعتقاده لتحريمها ولتكفير إحسانه إساءته. وأعاد ذكر الاتّقاء في الآية ثلاث مرات والمراد بكل واحد منها غير المراد بالأخرى، فأما الأوّل : فمن اتقى فيما سلف، والثاني : الاتّقاء منهم في مستقبل الأوقات، والثالث : اتقاء ظلم العباد والإحسان إليهم.

باب الصيد للمحرم


قال الله تعالى :﴿ يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ ﴾
قيل في موضع " مِن " ههنا إنها للتبعيض، بأن يكون المراد صيد البر دون صيد البحر وصيد الإحرام دون صيد الإحلال. وقيل إنها للتمييز، كقوله تعالى :﴿ فاجتنبوا الرجس من الأوثان ﴾ [ الحج : ٣٠ ] وقولك :" باب من حديد " و " ثوب من قطن ". وجائز أن يريد ما يكون من أجزاء الصيد وإن لم يكن صيداً، كالبيض والفرخ ؛ لأن البيض من الصيد، وكذلك الفرخ والريش وسائر أجزائه ؛ فتكون الآية شاملة لجميع هذه المعاني، ويكون المحرم بعض الصيد في بعض الأحوال وهو صيد البر في حال الإحرام، ويفيد أيضاً تحريم ما كان من أجزاء الصيد ونَمَا عنه كالبيض والفرخ والوبر وغيره. وقد رُوي عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ تَنَالُهُ أيْدِيكُمْ ﴾ قال :" فراخ الطير وصغار الوحش ". وقال مجاهد :" الفراخ والبيض ". وقد رُوي عن عليّ رضي الله عنه :" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه أعرابيٌّ بخمس بيضات فقال : إنا مُحْرِمُونَ وإنّا لا نأكل، فلم يقبلها ". ورَوَى عكرمة عن ابن عباس عن كعب بن عجرة :" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَضَى في بيض نَعَامٍ أصابه المحرم بقيمته ". ورُوي عن عمر وعبدالله بن مسعود وابن عباس وأبي موسى في بيض النعامة يصيبه المحرم :" أن عليه قيمته ". ولا نعلم خلافاً بين أهل العلم في ذلك.
وقوله تعالى :﴿ وَرِمَاحُكُمْ ﴾، قال ابن عباس :" كبار الصيد ".
قوله تعالى :﴿ لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾
قيل فيه ثلاثة أوجه كلها محتمل، أحدها : مُحْرِمُون بحجّ أو عمرة. والثاني : دخول الحرم، يقال أحْرَمَ الرجل إذا دخل الحرم، كما يقال أنْجَدَ إذا أتَى نَجْداً، وأعْرقَ إذا أتى العِرَاقَ، وأتْهَمَ إذا أتى تُهَامَةَ. والثالث : الدخول في الشهر الحرام، كما قال الشاعر :
* قتل الخليفة مُحْرِمَا *
يعني في الشهر الحرام، وهو يريد عثمان بن عفان رضي الله عنه. ولا خلاف أن الوجه الثالث غير مُرادٍ بهذه الآية، وأن الشهر الحرام لا يحظر الصيد، والوجهان الأولان مرادان. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن صيد الحرم للحلال والمحرم، فدلّ أنه مراد بالآية، لأنه متى ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حكم ينتظمه لفظ القرآن فالواجب أن يحكم بأنه صدر عن الكتاب غير مبتدأ.
وقوله عز وجل :﴿ لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾ يقتضي عمومُه صَيْدَ البر والبحر لولا ما خصّه بقوله :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وَطَعَامُهُ ﴾ فثبت أن المراد بقوله :﴿ لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾ صيد البر خاصة دون صيد البحر. وقد دل قوله :﴿ لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾ أن كل ما يقتله المحرم من الصيد فهو غير ذكيّ، لأن الله تعالى سماه قتلاً، والمقتول لا يجوز أكله وإنما يجوز أكل المذبوح على شرائط الذكاة، وما ذُكّي من الحيوان لا يسمَّى مقتولاً، لأن كونه مقتولاً يفيد أنه غير مذكّى. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم :" خَمْسٌ يَقْتُلُهُنَّ المُحْرِمُ فِي الحِلِّ وَالحَرَمِ " قد دلّ على أن هذه الخمسة ليست مما يؤكل، لأنه مقتول غير مذكّى، ولو كان مذكّى كانت إفاتَةُ روحه لا تكون قتلاً ولم يكن يسمَّى بذلك. وكذلك قال أصحابنا فين قال :" لله عليَّ ذبحُ شاةٍ " إن عليه أن يذبح، ولو قال :" لله عليَّ قَتْلُ شاة " لم يلزمه شيء. وكذلك قال أصحابنا فيمن قال :" لله عليَّ ذبحُ ولدي أو نحره " فعليه شاة، ولو قال :" لله عليَّ قتل ولدي " لم يلزمه شيءٌ، لأن اسم الذبح متعلق بحكم الشرع في الإباحة والقربة، وليس كذلك القتل. ورُوي عن سعيد بن المسيب في قوله :﴿ لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾ قال :" قتله حرام في هذه الآية وأكله حرام في هذه الآية " يعني أكل ما قتله المحرم منه. ورَوَى أشعث عن الحسن قال :" كل صيد يجب فيه الجزاء فذلك الصيد ميتة لا يحل أكله " ؛ وروى عنه يونس أيضاً أنه لا يؤكل. ورَوَى حماد بن سلمة عن يونس عن الحسن في الصيد يذبحه المحرم قال :" يأكله الحلال ". وعن عطاء :" إذا أصاب المحرم الصيد لا يأكله الحلال ". وقال الحكم وعمرو بن دينار :" يأكله الحلالُ ". وهو قول سفيان. وقد ذكرنا دلالة الآية على تحريم ما أصابه المحرم من الصيد وأنه لا يكون مذكًّى ؛ ويدلّ على أن تحريمه عليه من طريق الدين على أنه حقّ الله تعالى فأشبه صَيْدَ المجوسيّ والوثنيِّ وما تُرك فيه التسمية أو شيء من شرائط الذكاة، وليس بمنزلة الذبح بسكّين مغصوب أو ذبح شاة مغصوبة ؛ لأن تحريمه تعلق بحق آدمي، ألا ترى أنه لو أباحه جاز فلم يمنع صحة الذكاة ؟ إذ كانت الذكاة حقّاً لله تعالى، فشروطها ما كان حقّاً لله تعالى.

باب ما يقتله المحرم


قوله تعالى :﴿ لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾ لما كان خاصّاً في صيد البرّ دون صيد البحر لما ذكرنا في سياق الآية من التخصيص، اقتضى عمومه تحريمَ سَائِرِ صيد البر إلاّ ما خصّه الدليل. وقد رَوَى ابن عباس وابن عمر وأبو سعيد وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" خَمْسٌ يَقْتُلُهُنَّ المُحْرِمُ في الحِلِّ والحَرَمِ : الحَيَّةُ والعَقْرَبُ والغُرَابُ والفَأْرَةُ والكَلْبُ العَقُورُ " على اختلافٍ منهم في بعضها، وفي بعضها :" هُنَّ فَوَاسِقُ ". ورُوي عن أبي هريرة قال :" الكلب العقور الأسد ". ورَوَى حجاج بن أرطاة عن وبرة قال : سمعت ابن عمر يقول :" أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الذئب والفأرة والغراب والحِدأَةِ ". فذكر في هذا الحديث الذئب. وذكر القعنبيُّ عن مالك قال :" الكلب العقور الذي أُمِرَ المحرم بقتله ما قَتَلَ الناسَ وعَدَا عليهم، مثل الأسد والنمر والذئب وهو الكلب العقور، وأما ما كان من السباع لا يَعْدُو مثل الضبع والثعلب والهرّة وما أشبههنّ من السباع فلا يقتلهن المحرم، فإن قتل منهن شيئاً فداه ". قال أبو بكر : قد تلقَّى الفقهاء هذا الخبر بالقبول واستعملوه في إباحة قتل الأشياء الخمسة للمحرم ؛ وقد اختُلف في الكلب العقور، فقال أبو هريرة على ما قدمنا الرواية فيه :" إنّه الأسد " ويشهد لهذا التأويل أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي لهب فقال :" أَكَلَكَ كَلْبُ الله ! " فأكله الأسدُ. قيل له : إن الكلب العقور هو الذئب. ورُوي في بعض أخبار ابن عمر في موضع " الكلب " " الذئب "، ولما ذكر الكلب العقور أفاد بذلك كلباً من شأنه العَدْوُ على الناس وعَقْرُهُمْ، وهذه صفة الذئب، فأوْلى الأشياء بالكلب ههنا الذئب. وقد دلّ على أن كل ما عَدَا على المحرم وابتدأه بالأذى فجائز له قتله من غير فدية، لأن فحوى ذكره الكلب العقور يدلّ عليه، وكذلك قال أصحابنا فيمن ابتدأه السبع فقتله فلا شيء عليه، وإن كان هو الذي ابتدأ السبع فعليه الجزاء، لعموم قوله تعالى :﴿ لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾. واسم الصيد واقعٌ على كل ممتنع الأصل متوحّش، ولا يختص بالمأكول منه دون غيره، ويدلّ عليه قوله تعالى :﴿ ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ﴾ [ المائدة : ٩٤ ] فعلّق الحكم منه بما تناله أيدينا ورماحنا، ولم يخصص المباح منه دون المحظور الأكل. ثم خصّ النبي صلى الله عليه وسلم الأشياء المذكورة في الخبر وذكر معها الكلب العقور، فكان تخصيصه لهذه الأشياء وذِكْرُهُ للكلب العقور دليلاً على أن كل ما ابتدأ الإنسان بالأذَى من الصيد فمباحٌ للمحرم قتله ؛ لأن الأشياء المذكورة من شأنها أن تبتدئ بالأذى، فجعل حكمها حكم حالها في الأغلب وإن كانت قد لا تبتدىء في حال ؛ لأن الأحكام إنما تتعلق في الأشياء بالأعمِّ الأكثر، ولا حكم للشاذّ النادر. ثم لما ذكر الكلب العقور وقيل هو الأسد فإنما أباح قتله إذا قصد بالعَقْرِ والأذَى، وإن كان الذئبَ فذلك من شأنه في الأغلب ؛ فما خصّه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك بالخبر وقامت دلالته فهو مخصوص من عموم الآية، وما لم يخصّه ولم تقم دلالة تخصيصه فهو محمول على عمومها. ويدلّ عليه حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" الضَّبْعُ صَيْدٌ وفيه كَبشٌ إذا قَتَلَهُ المُحْرِمُ ". وقد نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكْل كل ذي ناب من السباع، والضبعُ من ذي الناب من السباع، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم فيها كبشاً.
فإن قيل : هلاَّ قِسْتَ على الخمس ما كان في معناها وهو ما لا يؤكل لحمه ؟ قيل له : إنما خُصَّ هذه الأشياء الخمسة من عموم الآية، وغير جائز عندنا القياس على المخصوص إلاّ أن تكون علته مذكورة فيه أو دلالة قائمة فيما خُصَّ، فلما لم تكن للخمس علّة مذكورة فيها لم يَجُزِ القياس عليها في تخصيص عموم الأصل. وقد بينا وجه دلالته على ما يبتدىء الإنسان بالأذى من السباع، وكونه غير مأكول اللحم لم تقم عليه دلالة من فَحْوَى الخبر ولا علّته مذكورة فيه، فلم يجز اعتباره. وأيضاً فإنه لا خلاف فيما ابتدأ المحرم في سقوط الجزاء، فجاز تخصيصه بالإجماع وبقي حكم عموم الآية فيما لم يخصه الخبر ولا الإجماع. ومن أصحابنا من يأبى القياس في مثله، لأنه حصره بعدد فقال :" خَمْسٌ يَقْتُلُهُنَّ المُحْرِمُ " وفي ذلك دليلٌ على أن ما عداه محظورٌ، فغير جائز استعمال القياس في إسقاط دلالة اللفظ. ومنهم من يأبى صحة الاعتلال بكونه غير مأكول ؛ لأن ذلك نفيٌ والنفيُ لا يكون علة، وإنما العلل أوْصَافٌ ثابتة في الأصل المعلول، وأما نفي الصفة فليس يجوز أن يكون علّة. فإن غيَّر الحكمَ بإثبات وَصْفٍ وجَعَلَ العلّة أنه محرم الأكل لم يصحَّ ذلك أيضاً ؛ لأن التحريم هو الحكم بنفي الأكل، فلم يَخْلُ من أن يكون نافياً للصفة، فلم يصحّ الاعتلال بها. وزعم الشافعي أن ما لا يؤكل من الصيد فلا جزاء على المحرم فيه.
قوله تعالى :﴿ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً ﴾. قال أبو بكر : اختلف الناس في ذلك على ثلاثة أوجه : فقال قائلون وهم الجمهور :" سواء قتله عمداً أو خطأ فعليه الجزاء " وجعلوا فائدة تخصيصه العَمْدَ بالذكر في نسق التلاوة من قوله تعالى :﴿ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ﴾، وذلك يختصّ بالعَمْدِ دون الخطأ ؛ لأن المخطىء لا يجوز أن يلحقه الوعيد، فخصّ العمد بالذكر وإن كان الخطأ والنسيان مثله ليصحّ رجوع الوعيد إليه ؛ وهو قول عمر وعثمان والحسن روايةً وإبراهيم وفقهاء الأمصار. والقول الثاني : ما رَوَى منصور عن قتادة عن رجل قد سمّاه عن ابن عباس :" أنه كان لا يرى في الخطأ شيئاً " وهو قول طاوس وعطاء وسالم والقاسم وأحد قولي مجاهد في رواية الجعفي عنه. والقول الثالث : ما رَوَى سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد :﴿ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً ﴾ قال :" إذا كان عامداً لقتله ناسياً لإحرامه فعليه الجزاء، وإن كان ذاكراً لإحرامه عامداً لقتله فلا جزاء عليه " وفي بعض الروايات :" قد فسد حجّه وعليه الهدي ". وقد رُوي عن الحسن نحو قول مجاهد في أن الجزاء إنما يجب إذا كان عامداً لقتله ناسياً لإحرامه. والقول الأول هو الصحيح ؛ لأنه قد ثبت أن جنايات الإحرام لا يختلف فيها المعذور وغير المعذور في باب وجوب الفدية، ألا ترى أن الله تعالى قد عذر المريض ومن به أذًى من رأسه ولم يُخْلِهِمَا من إيجاب الكفارة ؟ وكذلك لا خلاف في فوات الحج لعذر أو غيره أنه غير مختلف الحكم ؛ ولما ثبت ذلك في جنايات الإحرام وكان الخطأ عذراً لم يكن مسقطاً للجزاء.
فإن قال قائل : لا يجوز عندكم إثبات الكفّارات قياساً، وليس في المخطىء نصٌّ في إيجاب الجزاء. قيل له : ليس هذا عندنا قياساً، لأن النصَّ قد ورد بالنهي عن قتل الصيد في قوله :﴿ لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾ وذلك عندنا يقتضي إيجابَ البَدَلِ على مُتْلِفِهِ، كالنهي عن قتل صيد الآدمي أو إتلاف ماله يقتضي إيجاب البدل على متلفه ؛ فلما جرى الجزاء في هذا الوجه مجرى البدل وجعله الله مثلاً للصيد اقتضى النهيُ عن قتله إيجابَ بَدَلِهِ على مُتْلِفِهِ، ثم ذلك البدل يكون الجزاء بالاتفاق. وأيضاً فإنه لما ثبت استواء حال المعذور وغير المعذور في سائر جنايات الإحرام كان مفهوماً من ظاهر النية تساوي حال العامد والمخطئ ؛ وليس ذلك عندنا قياساً، كما أن حكمنا في غير بريرة بما حكم النبي صلى الله عليه وسلم في بريرة ليس بقياس، وكذلك حكمنا في العصفور بحكم الفأرة وحكمنا في الزيت بحكم السمن إذا مات فيه ليس هو قياساً على الفأرة وعلى السمن ؛ لأنه قد ثبت تساوي ذلك قبل ورود

باب صيد البحر


قال الله تعالى :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وَطَعَامُهُ ﴾
رُوي عن ابن عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وقتادة والسدي ومجاهد قالوا :" صَيْدُهُ ما صِيدَ طريّاً بالشباك ونحوها ". فأما قوله :﴿ وَطَعَامُهُ ﴾ فقد رُوي عن أبي بكر وعمر وابن عباس وقتادة قالوا :" ما قذفه ميتاً ". رُوي عن ابن عباس أيضاً وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وقتادة ومجاهد قالوا :" المملوح منه ".
والقول الأول أظهر ؛ لأنه ينتظم إباحة الصنفين مما صِيدَ منه ولم يُصَدْ، وأما المملوح فقد تناوله قوله :﴿ صَيْدُ البَحْرِ ﴾، ويكون قوله :﴿ وَطَعَامُهُ ﴾ على هذا التأويل تكراراً لما انتظمه اللفظ الأوّل.
فإن قال قائل : هذا يدل على إباحة الطافي، لأنه قد انتظم ما صِيدَ منه وما لم يُصَدْ والطافي لم يُصَدْ. قيل له : إنما تأول السلف قوله :﴿ وَطَعَامُهُ ﴾ على ما قذفه البحر، وعندنا أن ما قذفه البحر ميتاً فليس بطافٍ وإنما الطافي ما يموت في البحر حَتْفَ أنفه. فإن قيل : قالوا ما قذفه البحر ميتاً، وهذا يوجب أن يكون قد مات فيه ثم قذفه، وهذا يدل على أنهم قد أرادوا به الطافي. قيل له : وليس كل ما قذفه البحر ميتاً يكون طافياً، إذ جائز أن يموت في البحر بسبب طرأ عليه فقتله من بَرْدٍ أو حَرٍّ أو غيره فلا يكون طافياً ؛ وقد بينا الكلام في الطافي فيما تقدم من هذا الكتاب.
وقد رُوي عن الحسن في قوله :﴿ وَطَعَامُهُ ﴾ قال : ما وراء بحركم هذا كله البحر وطعامه البرّ والشعير والحبوب ". رواه أشعث بن عبدالملك عن الحسن ؛ فلم يجعل البحر في هذا الموضع بحور المياه وجعله على ما اتّسع من الأرض ؛ لأن العرب تسمّي ما اتّسع بحراً، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم للفرس الذي ركبه لأبي طلحة :" وَجَدْنَاهُ بَحْراً " أي واسع الخطو. وقد رَوَى حبيب بن الزبير عن عكرمة في قوله تعالى :﴿ ظهر الفساد في البر والبحر ﴾ [ الروم : ٤١ ] أنه أراد بالبحر الأمصار، لأن العرب تسمِّي الأمصار البحر. ورَوَى سفيانُ عن بعضهم عن عكرمة :﴿ ظهر الفساد في البر والبحر ﴾ [ الروم : ٤١ ] قال :" البَرُّ الفيافي التي ليس فيها شيءٌ، والبحر القُرَى ". والتأويل الذي رُوي عن الحسن غير صحيح، لأنه قد علم بقوله تعالى :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ ﴾ أن المراد به بحر الماء وأنه لم يُرِدْ به البر ولا الأمصار، لأنه عطف عليه قوله تعالى :﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ﴾.
وقوله تعالى :﴿ مَتَاعاً لَكُمْ وَللسَّيَارَةِ ﴾
رُوي عن ابن عباس والحسن وقتادة قالوا :" منفعةً للمقيم والمسافر ". فإن قال قائل : هل اقتضى قوله :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ ﴾ إباحة صيد الأنهار ؟ قيل له : نعم ؛ لأن العرب تسمّي النهر بحراً، ومنه قوله تعالى :﴿ ظهر الفساد في البر والبحر ﴾ [ الروم : ٤١ ]، وقد قيل إن الأغلب على البحر هو الذي يكون ماؤه ملحاً، إلا أنه إذا جرى ذكره على طريق الجملة انتظم الأنهارَ أيضاً. وأيضاً فالمقصد فيه صيد الماء، فسائر حيوان الماء يجوز للمحرم اصطياده، ولا نعلم خلافاً في ذلك بين الفقهاء. وقوله تعالى :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ ﴾ يحتج به من يبيح أكْلَ جميع حيوان البحر ؛ وقد اختلف أهل العلم فيه، والله أعلم.
ذكر الخلاف في ذلك
قال أصحابنا :" لا يُؤكل من حيوان الماء إلاّ السمك "، وهو قول الثوري، رواه عنه أبو إسحاق الفزاري. وقال ابن أبي ليلى :" لا بأس بأكْلِ كل شيء يكون في البحر من الضفدع وحية الماء وغير ذلك "، وهو قول مالك بن أنس ؛ ورُوي مثله عن الثوري، قال الثوري :" ويذبح ". وقال الأوزاعي :" صيد البحر كله حلال "، ورواه عن مجاهد. وقال الليث بن سعد :" ليس بميتة البحر بأس وكلب الماء والذي يقال له فرس الماء، ولا يؤكل إنسان الماء ولا خنزير الماء ". وقال الشافعي :" ما يعيش في الماء حلّ كله وأخذُهُ ذَكَاتُه، ولا بأس بخنزير الماء.
واحتجّ من أباح حيوان الماء كله بقوله تعالى :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ ﴾ وهو على جميعه، إذ لم يخصص شيئاً منه. ولا دلالة فيه على ما ذكروا، لأن قوله تعالى :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ ﴾ إنما هو على إباحة اصطياد ما فيه للمحرم، ولا دلالة فيه على أكله. والدليل عليه أنه عطف عليه قوله :﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ﴾ فخرج الكلام مخرج بيان اختلاف حكم صيد البر والبحر على المحرم. وأيضاً فإن الصيد اسمُ مصدر، وهو اسم للاصطياد وإن كان قد يقع على المصيد، ألا ترى أنك تقول :" صدتُ صَيْداً " ؟ وإذا كان ذلك مصدراً كان اسماً للاصطياد الذي هو فِعْلُ الصائد، ولا دلالة فيه إذا أريد به ذلك على إباحة الأكل وإن كان قد يعبر به عن المصيد، إلاّ أن ذلك مجاز، لأنه تسمية للمفعول باسم الفعل، وتسمية الشيء باسم غيره إنما هو استعارة. ويدلّ على بطلان قول من أباح جميع حيوان الماء قولُ النبي صلى الله عليه وسلم :" أُحِلَّتْ لَنا مَيْتَتَانِ ودَمَانِ : السَّمَكُ والجَرَادُ "، فخصّ من الميتات هذين، وفي ذلك دليل على أن المخصوص من جملة الميتات المحرمة بقوله :﴿ حرمت عليكم الميتة ﴾ [ المائدة : ٣ ] هو هذان دون غيرهما، لأن ما عداهما قد شمله عموم التحريم بقوله :﴿ حرمت عليكم الميتة ﴾ [ المائدة : ٣ ] وقوله تعالى :﴿ إلا أن يكون ميتة ﴾ [ الأنعام : ١٤٥ ] وذلك عموم في مَيْتَةِ البر والبحر. ومن أصحابنا من يجعل حصره المباح بالعدد المذكور دلالةً على حظره ما عداه. وأيضاً لما خصهما بالذكر وفرَّق بينهما وبين غيرهما من الميتات دلّ تفرقة على اختلاف حالهما ؛ ويدلّ عليه أيضاً قوله تعالى :﴿ ولحم الخنزير ﴾ [ المائدة : ٣، البقرة : ١٧٣، النحل : ١١٥ ] وذلك عمومٌ في خنزير الماء كهو في في خنزير البر. فإن قيل : إن خنزير الماء إنما يسمَّى حمار الماء. قيل له : إنْ سمّاه إنسانٌ حماراً لم يسلبه ذلك اسم الخنزير المعهود له في اللغة، فينتظمه عموم التحريم. ويدلّ عليه حديث ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد عن سعيد بن المسيب عن عبدالرحمن بن عثمان قال :" ذكر طبيبٌ الدواءَ عند النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الضفدع يكون في الدواء، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله " والضفدعُ من حيوان الماء، ولو كان أكله جائزاً والانتفاع به سائغاً لما نَهَى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله ؛ ولما ثبت تحريم الضفدع بالأثر، كان سائر حيوان الماء سوى السمك بمثابته، لأنا لا نعلم أحداً فرق بينهما.
واحتجّ الذين أباحوه بما رَوَى مالك بن أنس عن صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة الزرقي عن المغيرة بن أبي بردة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر :" هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ ". وسعيد بن سلمة مجهول لا يُقطع بروايته، وقد خولف في هذا الإسناد، فرَوَى يحيى بن سعيد الأنصاري عن المغيرة بن عبدالله وهو ابن أبي بردة عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ورواه يحيى بن أيوب عن جعفر بن ربيعة وعمرو بن الحارث عن بكر بن سوادة عن أبي معاوية العلوي عن مسلم بن مخشي المدلجي عن الفراسي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له في البحر :" هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ ". وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل ومحمد بن عبدوس قالا : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا أبو القاسم بن أبي الزناد قال : حدثنا إسحاق يعني ابن حازم عن ابن مقسم يعني عبيدالله عن جابر بن عبدالله، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن البحر فقال :" هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ ". وهذه الأخبار لا يَحتجُّ بها من له معرفة بالحديث، ولو ثبت كان محمولاً على ما بينه في قوله :" أحِلّتْ لنا مَيْتَتَانِ ". ويدلّ على ذلك أنه لم يخصص بذلك حيوان الماء دون غيره، وإنما ذكر ما يموت فيه، وذلك يعم ظاهره حيوان الماء والبر جميعاً إذا ماتا فيه ؛ وقد عُلم أنه لم يُرِدْ ذلك، فثبت أنه أراد السمك خاصة دون ما سواه، إذ قد علم أنه لم يُرد به العموم ولا يصح اعتقاده فيه.
واحتجّ المبيحون له بحديث جابر في جيش الخَبَطِ وأن البحر ألْقَى لهم دابةً يقال لها العنبر، فأكلوا منها ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ تُطْعِمُونِيهِ ؟ " وهذا لا دليل فيه على ما قالوا ؛ لأن جماعة قد رووا هذا الحديث وذكروا فيه أن البحر ألقى حوتاً يقال له العنبر، فأخبروا أنها كانت حوتاً وهو السمك، وهذا لا خلاف فيه ولا دلالة على إباحة ما سواه.

باب أكْلِ المُحْرِمِ لَحْمَ صَيْدِ الحلال


قال الله تعالى :﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ﴾
فرُوي عن عليّ وابن عباس " أنهما كرها للمحرم أكل صيدٍ اصطاده حلال " إلا أن إسناد حديث عليّ ليس بقويّ، يرويه علي بن زيد، وبعضهم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقفه بعضهم. ورُوي عن عثمان وطلحة بن عبيدالله وأبي قتادة وجابر وغيرهم إباحَتُهُ. ورَوَى عبدالله بن أبي قتادة وعطاء بن يسار عن أبي قتادة قال : أصبت حمار وحش، فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أصبتُ حمار وحشٍ وعندي منه فضلةٌ، فقال للقوم :" كُلُوا ! " وهم محرمون. ورَوَى أبو الزبير عن جابر قال :" عقر أبو قتادة حمار وحش ونحن محرمون وهو حلال، فأكلنا منه ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ". ورَوَى المطلب بن عبدالله بن حنطب عن جابر بن عبدالله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لَحْمُ صَيْدِ البَرِّ حَلالٌ لكم وأنْتُمْ حُرُمٌ ما لم تَصِيدُوهُ أو يُصْطَادُ لكم ". وقد رُوي في إباحته أخبارٌ أُخَرُ غير ذلك كرهت الإطالة بذكرها لاتفاق فقهاء الأمصار عليه.
واحتجّ من حظره بقوله :﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ﴾ وعمومُهُ يتناول الاصطياد والمَصِيدَ نفسه لوقوع الاسم عليهما، ومن أباحه ذهب إلى قوله :﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ ﴾ إذْ كان يتناول الاصطياد وتحريم المصيد نفسه، فإن هذا الحيوان إنما يسمَّى صيداً ما دام حيّاً وأما اللحم فغير مسمًّى بهذا الاسم بعد الذبح، فإن سُمِّي بذلك فإنما يسمَّى به على أنه كان صيداً، فأما اسم الصيد فليس يجوز أن يقع على اللحم حقيقة. ويدل على أن لفظ الآية لم ينتظم اللحم أنه غير محظور عليه التصرف في اللحم بالإتلاف والشِّرَى والبيع وسائر وجوه التصرف سوى الأكل عند القائلين بتحريم أكله، ولو كان عموم الآية قد اشتمل عليه لما جاز له التصرف فيه بغير الأكل إذا كان حيّاً ولكان على متلفه إذا كان محرماً ضمانه كما يلزم ضمان إتلاف الصيد الحي، لأن قوله تعالى :﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ﴾ يتناول تحريم سائر أفعالنا في الصيد في حال الإحرام. فإن قال قائل : بَيْضُ الصيد محرَّمٌ على المُحْرِمِ وإن لم يكن ممتنعاً ولا مسمًّى صيداً، فكذلك لحمه. قيل له : ليس كذلك، لأن المحرم غير منهيٍّ عن إتلاف لحم الصيد ولو أتلفه لم يضمنه، وهو منهيٌّ عن إتلاف البيض و
قوله تعالى :﴿ جَعَلَ اللَّهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَاماً للنَّاسِ ﴾ الآية
قيل إنه أراد أنه جعل ذلك قواماً لمَعَايِشِهِمْ وعماداً لهم، من قولهم :" هو قوام الأمر ومِلاكُه " وهو ما يستقيم به أمره، فهو قَوَامُ دينهم ودنياهم. ورُوي عن سعيد بن جبير قوله :" قواماً للناس صلاحاً لهم " وقيل :" قياماً للناس " أي تقوم به أبدانهم لأمنهم به في التصرف لمَعَايِشِهِمْ، فهو قوام دينهم لما في المناسك من الزجْرِ عن القبيح والدعاء إلى الحسن، ولما في الحرم والأشهر الحرم من الأمن، ولما في الحج والمواسم واجتماع الناس من الآفاق فيها من صلاح المعاش، وفي الهدي والقلائد أن الرجل إذا كان معه الهديُ مقلَّداً كانوا لا يعرضون له ؛ وقيل : إن من أراد الإحرام منهم كان يتقلد من لحاء شجر الحرم فيأمن. وقال الحسن :" القلائد من تقليد الإبل والبقر بالنعال والخِفَافِ " فهذا على صلاح التعبُّد به في الدين، وهذا يدلّ على أن تقليد البدن قربة وكذلك سَوْق الهدي.
والكعبة اسم للبيت الحرام، قال مجاهد وعكرمة :" إنما سميت كعبة لتربيعها "، وقال أهل اللغة : إنما قيل كعبة البيت فأضيفت لأن كعبته تربع أعلاه. وأصل ذلك من الكُعُوبة وهو النُّتُوُّ، فقيل للتربيع كعبة لنتوِّ زوايا المربع، ومنه كعب ثدي الجارية إذا نَتَأ، ومنه كعب الإنسان لنتوِّه. وهذا يدل على أن الكعبين اللذين ينتهي إليهما الغسل في الوضوء هما الناتئان عن جنبي أصل الساق. وسمَّى الله تعالى البيت حراماً لأنه أراد الحرم كله لتحريم صيده وخلاَهُ وتحريم قتل من لجأ إليه، وهو مثل قوله تعالى :﴿ هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ ﴾ والمراد الحرم.
وأما قوله تعالى :﴿ والشهر الحرام ﴾ فإنه رُوي عن الحسن أنه قال :" هو الأشهر الحرم " فأخرجه مخرج الواحد، لأنه أراد الجنس، وهو أربعة أشهر : ثلاثة سَرْدٌ وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد وهو رجب ؛ فأخبر تعالى أنه جعل الشهر الحرام قياماً للناس، لأنهم كانوا يأمنون فيها ويتصرفون فيها في معايشهم، فكان فيه قوامهم. وهذا الذي ذكره الله تعالى من قوام الناس بمناسك الحج والحرم والأشهر الحرم والهدي والقلائد معلومٌ مشاهدٌ من ابتداء وقت الحجّ في زمن إبراهيم عليه السلام إلى زمان النبي صلى الله عليه وسلم وإلى آخر الدهر، فلا ترى شيئاً من أمر الدين والدنيا تعلّق به من صلاح المعاش والمعاد بعد الإيمان ما تعلق بالحجّ، ألا ترى إلى كثرة منافع الحاج في المواسم التي يردون عليها من سائر البلدان التي يجتازون بمنًى وبمكة إلى أن يرجعوا إلى أهاليهم وانتفاع الناس بهم وكثرة معايشهم وتجاراتهم معهم، ثم ما فيه من منافع الدين من التأهب للخروج إلى الحج وإحداث التوبة والتحرّي لأن تكون نفقته من أحلِّ ماله، ثم احتمال المشاق في السفر إليه وقطع المخاوف ومقاساة اللصوص والمحتالين في مسيرهم إلى أن يبلغوا مكة، ثم الإحرام والتجرد لله تعالى والتشبه بالخارجين يوم النشور من قبورهم إلى عرصة القيامة، ثم كثرة ذكر الله تعالى بالتلبية واللجأ إلى الله تعالى وإخلاص النية له عند ذلك البيت والتعلق بأستاره موقناً بأنه لا ملجأ له غيره، كالغريق المتعلق بما يرجو به النجاة وأنه لا خلاص له إلا بالتمسك به، ثم إظهار التمسك بحبل الله الذي من تمسك به نجا ومن حاد عنه هلك، ثم حضور الموقف والقيام على الأقدام داعين راجين لله تعالى متخلّفين عن كل شيء منْ أمور الدنيا تاركين أموالهم وأولادهم وأهاليهم عن نحو وقوفهم في عرصة القيامة، وما في سائر مناسك الحج من الذكر والخشوع والانقياد لله تعالى، ثم ما يشتمل عليه الحجّ من سائر القُرَبِ التي هي معروفة في غيره من الصلاة والصيام والصدقة والقربات والذكر بالقلب واللسان والطواف بالبيت، وما لو استقصينا ذكره لطال به القول ؛ فهذه كلها من منافع الدين والدنيا.
قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾
إخبارٌ عن علمه بما تؤدي إليه شريعة الحج من منافع الدين والدنيا، فدبّره هذا التدبير العجيب وانتظم به صلاح الخلق من أول الأمة وآخرها إلى يوم القيامة. فلولا أن الله تعالى كان عالماً بالغيب وبالأشياء كلها قبل كونها لما كان تدبيره لهذه الأمور مؤدّياً إلى ما ذكر من صلاح عباده في دينهم ودنياهم، لأن من لا يعلم الشيء قبل كونه لا يتأتّى منه فعل المحكم المتقن على نظام وترتيب يعمّ جميع الأمة نفعه في الدين والدنيا.
قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾
روَى قيس بن الربيع عن أبي حصين عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبان قد احْمَرَّ وجهُهُ، فجلس على المنبر فقال :" لا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إلاّ أَجَبْتُكُمْ " فقام إليه رجل فقال : أين أنا ؟ فقال :" في النَّارِ " فقام إليه آخر فقال : من أبي ؟ فقال :" أبُوكَ حُذَافَةُ " فقام عمر فقال : رضينا بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبمحمد نبيّاً ! يا رسول الله كنا حديثي عهد بجاهلية وشِرْك والله تعالى يعلم من آباؤنا ؛ فسكن غضبه ونزلت هذه الآية :﴿ يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾.
وروى إبراهيم الهجري عن أبي عياض عن أبي هريرة، أنها نزلت حين سئل عن الحج أفي كل عام ؟ وعن أبي أمامة نحو ذلك. وروي عكرمة أنها نزلت في الرجل الذي قال من أبي ؟ وقال سعيد بن جبير : في الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البَحِيرَةِ والسائبة. وقال مقسم : فيما سألت الأمم أنبياءهم من الآيات.
قال أبو بكر : ليس يمتنع تصحيح هذه الروايات كلها في سبب نزول الآية، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم حين قال :" لا تسألوني عن شيء إلا أَجَبْتكم " سأله عبدالله بن حذافة عن أبيه من هو، لأنه قد كان يُتكلم في نسبه، وسألوه كل واحد من الذين ذكر عنهم هذه المسائل على اختلافها، فأنزل الله تعالى :﴿ لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ ﴾ يعني عن مثلها ؛ لأنه لم يكن بهم حاجة إليها ؛ فأما عبدالله بن حذافة فقد كان نسبه من حذافة ثابتاً بالفراش، فلم يَحْتَجْ إلى معرفة حقيقة كونه مِنْ ماء مَنْ هو منه، ولأنه كان لا يأمن أن يكون من ماء غيره فيكشف عن أمر قد ستره الله تعالى ويهتك أمه ويُشِين نفسه بلا طائل ولا فائدة له فيه، لأن نسبه حينئذ مع كونه من ماء غيره ثابت من حذافة لأنه صاحب الفراش، فلذلك قالت له : لقد عققتني بسؤالك، فقال : لم تَسْكُنْ نفسي إلا بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. فهذا من الأسئلة التي كان ضرر الجواب عنها عليه كان كثيراً لو صادف غير الظاهر، فكان منهيّاً عنه ؛ ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" مَنْ أَتَى شَيْئاً مِنْ هَذِهِ القَاذُورَاتِ فَلْيَسْتَتِرْ بِستْرِ الله، فإنّ مَنْ أبْدَى لنا صَفْحَته أقَمْنا عليه كِتَابَ الله " وقال لهَزَّال وكان أشار على ماعز بالإقرار بالزنا :" لو سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْراً لك "، وكذلك الرجل الذي قال : يا رسول الله أين أنا ؟ قد كان غنيّاً عن هذه المسألة والستر على نفسه في الدنيا، فهتك ستره وقد كان الستر أوْلى به. وكذلك المسألة عن الآيات مع ظهور ما ظهر من المعجزات منهيٌّ عنها غير سائغ لأحد، لأن معجزات الأنبياء لا يجوز أن تكون تَبَعاً لأهواء الكفار وشهواتهم. فهذا النحو من المسائل مستقبحة مكروهة، وأما سؤال الحجّ في كل عام، فقد كان على سامع آية الحج الاكتفاء بموجب حكمها من إيجابها حجة واحدة ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إنّها حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ ولو قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ فأخبر أنه لو قال نعم لوجبت بقوله دون الآية، فلم يكن به حاجة إلى المسألة مع إمكان الاجتزاء بحكم الآية. وأبْعَدُ هذه التأويلات قولُ من ذكر أنه سئل عن البَحِيرَةِ والسائبة والوصيلة ؛ لأنه لا يخلو من أن يكون سؤاله عن معنى البحيرة ما هو أو عن جوازها، وقد كانت البَحِيرَةُ وما ذُكر معها أسماءَ لأشياءَ معلومة عندهم في الجاهلية ولم يكونوا يحتاجون إلى المسألة عنها ؛ ولا يجوز أيضاً أن يكون السؤال وقع عن إباحتها وجوازها، لأن ذلك كان كفراً يتقرّبون به إلى أوثانهم، فمن اعتقد الإسلام فقد علم بطلانه.
وقد احتجّ بهذه الآية قومٌ في حظر المسألة عن أحكام الحوادث، واحتجوا أيضاً بما رواه الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنّ أَعْظَمَ المُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْماً مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لم يَكُنْ حَرَاماً فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ ". قال أبو بكر : ليس في الآية دلالة على حظر المسألة عن أحكام الحوادث، لأنه إنما قصد بها إلى النهي عن المسألة عن أشياء أخفاها الله تعالى عنهم واستأثر بعلمها وهم غير محتاجين إليها بل عليهم فيها ضرر إن أُبديت لهم، كحقائق الأنساب ؛ لأنه قال :" الوَلَدُ لِلفِرَاشِ " فلما سأله عبدالله بن حذافة عن حقيقة خَلْقِهِ من ماءِ من هو دون ما حكم الله تعالى به من نسبته إلى الفراش، نهاه الله عن ذلك، وكذلك الرجل الذي قال : أين أنا ؟ لم يكن به حاجة إلى كشف عيبه في كونه من أهل النار، وكسؤال آيات الأنبياء. وفي فحوى الآية دلالة على أن الحظر تعلق بما وصفنا.
وقوله تعالى :﴿ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ معناه : إن تظهرْ لكم، وهذا يدلّ على أن مُرَادَه فيمن سأل مثل سؤال عبدالله بن حذافة والرجل الذي قال أين أنا، لأن إظهار أحكام الحوادث لا يسوء السائلين، لأنهم إنما يسألون عنها ليعلموا أحكام الله تعالى فيها. ثم قال الله تعالى :﴿ وَإنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ﴾ يعني : في حال نزول الملك وتلاوته القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يظهرها لكم وذلك مما يسوؤكم ويضركم.
قوله تعالى :﴿ عَفَا اللهُ عَنْهَا ﴾ يعني هذا الضرب من المسائل لم يؤاخذكم الله بها بالبحث عنها والكشف عن حقائقها. والعفو في هذا الموضع التسهيل والتوسعة في إباحة ترك السؤال عنها، كما قال تعالى :﴿ فتاب عليكم وعفا عنكم ﴾ [ البقرة : ١٨٧ ] ومعناه : سهّل عليكم. وقال ابن عباس :" الحلال ما أحلّ الله، والحرام ما حرَّم الله، وما سكت عنه فهو عَفْوٌ " يعني تسهيل وتوسعة ؛ ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم :" عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ والرَّقِيقِ ".
قوله تعالى :﴿ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ﴾
يعني الآيات التي سألوها الأنبياء عليهم السلام فأعطاهم الله إياها. وهذا تصديق تأويل مِقْسَمٍ. فأما السؤال عن أحكامٍ غيرِ منصوصة فلم يدخل في حظر الآية، والدليل عليه أن ناجية بن جندب لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم مع البُدْنَ لينحرها بمكة قال : كيف أصنع بما عطب منها ؟ فقال :" انْحَرْهَا واصْبُغْ نَعْلَها بدَمِهَا واضْرِبْ بها صَفْحَتَها وخَلِّ بَيْنَها وبَيْنَ النّاسِ ولا تَأْكُلْ أنْتَ ولا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رِفْقَتِكَ شيئاً " ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم سؤاله. وفي حديث رافع بن خديج أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم : إنّا لاقوا العدوّ غداً وليس معنا مُدًى، فلم ينكره عليه. وحديث يَعْلَى بن أمية في الرجل الذي سأله عما يصنع في عمرته، فلم ينكره عليه. وأحاديث كثيرة في سؤال قوم سألوه عن أحكام شرائع الدين فيما ليس بمنصوص عليه غير محظور على أحد. ورَوَى شهر بن حوشب عن عبدالرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل قال : قلت : يا رسول الله إني أريد أن أسألك عن أمْرٍ ويمنعني مكان هذه الآية :﴿ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ ﴾، فقال :" ما هو ؟ " قلت : العمل الذي يدخلني الجنة ؟ قال :" قَدْ سَأَلْتَ عَظِيماً وإنّهُ ليَسِيرٌ ؛ شَهَادَةُ أنْ لا إله إلاّ الله وأني رَسُولُ الله وإقَامُ الصَّلاةِ وإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وحَجُّ البَيْتِ وصَوْمُ رَمَضَانَ " فلم يمنعه السؤال ولم ينكره.
وذكر محمد بن سيرين عن الأحنف عن عمر قال :" تفقهوا قبل أن تَسُودُوا ". وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمعون في المسجد يتذاكرون حوادث المسائل في الأحكام، وعلى هذا المنهاج جرى أمر التابعين ومن بعدهم من الفقهاء إلى يومنا هذا. وإنما أنكر هذا قومٌ حَشْوٌ جُهَّالٌ قد حملوا أشياء من الأخبار لا علم لهم بمعانيها وأحكامها فعجزوا عن الكلام فيها واستنباط فقهها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :" رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ ورُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلى مَنْ هُوَ أفْقَهُ مِنْهُ ". وهذه الطائفة المنكرة لذلك كمن قال الله تعالى :﴿ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً ﴾ [ الجمعة : ٥ ].
قوله تعالى :﴿ قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ﴾ قال ابن عباس :" قوم عيسى عليه السلام سألوا المائدة ثم كفروا بها ". وقال غيره :" قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها وكفروا بها ". وقال السدي :" هذا حين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يحوّل لهم الصفا ذهباً ". وقيل إن قوماً سألوا نبيهم عن مثل هذه الأشياء التي سأل عبدالله بن حذافة ومن قال أين أنا، فلما أخبرهم به نبيهم ساءهم فكذبوا به وكفروا.
قوله تعالى :﴿ مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ ﴾
روى الزهري عن سعيد بن المسيب قال :" البَحِيرَةُ من الإبل يمنع دَرُّها للطواغيت، والسائبة من الإبل كانوا يسيّبونها لطواغيتهم، والوَصِيلَةُ كانت الناقة تبكر بالأنثى ثم تثني بالأنثى فيسمّونها الوصيلة يقولون وَصَلَتْ أنثيين ليس بينهما ذَكَر، فكانوا يذبحونها لطواغيتهم، والحامي الفحلُ من الإبل كان يضرب الضّراب المعدود فإذا بلغ ذلك يقال حَمَى ظهره فيترك فيسمّونه الحامي ". وقال أهل اللغة : البَحِيرَةُ الناقةُ التي تُشقّ أذنها، يقال : بَحَرْتُ أذنَ الناقة أَبْحَرُها بَحْراً، والناقة مبحورةٌ وبَحِيرَةٌ، إذا شَقَقْتَها واسعاً ؛ ومنه البَحْرُ لسَعَتِهِ ؛ قال : وكان أهل الجاهلية يحرمون البحيرة، وهي أن تنتج خمسة أبطن يكون آخرها ذكراً بَحَرُوا أذنها وحرَّموها وامتنعوا من ركوبها ونحرها ولم تطرد عن ماء ولم تمنع عن مَرْعًى، وإذا لقيها المُعْيي لم يركبها ؛ قال : والسائبة المخلاةُ وهي المسيَّبة، وكانوا في الجاهلية إذا نذر الرجل لقدوم من سفر أو بُرْءٍ من مرض أو ما أشبه ذلك قال :" ناقتي سائبة " فكانت كالبحيرة في التحريم والتَّخْلِية، وكان الرجل إذا أعتق عبداً فقال :" هو سائبة " لم يكن بينهما عقل ولا ولاء ولا ميراث. فأما الوَصِيلَةُ فإن بعض أهل اللغة ذكر أنها الأنثى من الغنم إذا ولدت مع ذكر قالوا :" وَصَلَتْ أخاها " فلم يذبحوه. وقال بعضهم : كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكراً ذبحوه لآلهتهم في زعمهم، وإذا ولدت ذكراً وأنثى قالوا :" وصلت أخاها " فلم يذبحوه لآلهتهم ؛ وقالوا : الحامي الفحل من الإبل إذا نتجت من صُلْبِهِ عشرة أبطن قالوا :" حمى ظهره " فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى.
وإخبارُ الله تعالى بأن ما اعتقده أهل الجاهلية في البَحِيرَةِ والسائبة وما ذكر في الآية يدلّ على بطلان عِتْقِ السائبة على ما يذهب إليه القائلون بأن من أعتق عبده سائبةً فلا ولاءَ له منه وولاؤه لجماعة المسلمين ؛ لأن أهل الجاهلية قد كانوا يعتقدون ذلك فأبطله الله تعالى بقوله :﴿ ولا سائبة ﴾ ؛ وقولُ النبي صلى الله عليه وسلم :" الوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ " يؤكد ذلك أيضاً ويُبيِّنه.

باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر


قال أبو بكر : أكّد الله تعالى فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواضع من كتابه، وبيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخبار متواترة عنه فيه، وأجمع السلف وفقهاء الأمصار على وجوبه، وإن كان قد تعرض أحوال من التَّقِيَّةِ يَسَعُ معها السكوتُ. فمما ذكره الله تعالى حاكياً عن لقمان :﴿ يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ﴾ [ لقمان : ١٧ ] يعني والله أعلم : واصبر على ما ساءك من المكروه عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإنما حكى الله تعالى لنا ذلك عن عبده لنقتدي به وننتهي إليه. وقال تعالى فيما مدح به سالف الصالحين من الصحابة :﴿ التائبون العابدون ﴾ [ التوبة : ١١٢ ] إلى قوله :﴿ الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله ﴾ [ التوبة : ١١٢ ]، وقال تعالى :﴿ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ﴾ [ المائدة : ٧٩ ].
وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن العلاء وهناد بن السريّ قالا : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبي سعيد، وعن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" مَنْ رَأَى مُنْكَراً فاسْتَطَاعَ أنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وذَاكَ أضْعَفُ الإِيمَانِ ".
وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا أبو الأحوص قال : حدثنا أبو إسحاق عن ابن جرير عن جرير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" ما مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ في قَوْمٍ يَعْمَلُ فِيهِمْ بالمَعَاصِي يَقْدِرُونَ عَلَى أنْ يُغَيِّرُوا عَلَيْهِ فلا يُغَيِّرُوا إلاّ أصابَهُمُ الله بعَذَابٍ مِنْ قَبْلِ أنْ يَمُوتُوا ". فأحكم الله تعالى فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كتابه وعلى لسان رسوله.
وربما ظنّ من لا فِقْهَ له أن ذلك منسوخٌ أو مقصورُ الحكم على حال دون حال، وتأوَّلَ فيه قول الله تعالى :﴿ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ وليس التأويل على ما يظن هذا الظانّ لو تجردت هذه الآية عن قرينة، وذلك لأنه قال :﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ يعني : احفظوها لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم ؛ ومن الاهتداء اتباعُ أمر الله في أنفسنا وفي غيرنا، فلا دلالة فيها إذاً على سقوط فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد رُوي عن السلف في تأويل الآية أحاديث مختلفة الظاهر وهي متفقة في المعنى، فمنها ما حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا محمد بن يزيد الواسطي عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال : سمعت أبا بكر على المنبر يقول : يا أيها الناس إني أراكم تأوّلون هذه الآية :﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إِنّ النّاسَ إذا عُمِلَ فيهم بالمَعَاصِي ولم يُغَيِّروا أوْشَكَ أنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بعِقَابِهِ " ؛ فأخبر أبو بكر أن هذه الآية لا رخصة فيها في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه لا يضره ضلالُ من ضلَّ إذا اهتدى هو بالقيام بفرض الله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وحدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير في هذه الآية :﴿ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ قال :" يعني من أهل الكتاب "، وقال أبو عبيد : وحدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في هذه الآية قال :" من اليهود والنصارى ومن ضلّ من غيرهم ". فكأنهما ذهبا إلى أن هؤلاء قد أُقِرُّوا ولا يجوز لنا نقض عهدهم بإجبارهم على الإسلام، فهذا لا يضرنا الإمساك عنه. وأما ما لا يجوز الإقرار عليه من المعاصي والفسوق والظلم والجور، فهذا على كل المسلمين تغييره والإنكار على فاعله على ما شرطه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الذي قدمنا. وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود العتكي قال : حدثنا ابن المبارك عن عتبة بن أبي حكيم قال : حدثنا عمرو بن جارية اللخمي قال : حدثنا أبو أمية الشعباني قال : سألت أبا ثعلبة الخشني فقلت : يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية عليكم أنفسكم ؟ فقال : أما والله لقد سألتَ عنها خبيراً، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" بَلِ ائْتَمِرُوا بالمَعْرُوفِ وتَنَاهَوْا عَنِ المُنْكَرِ حَتَّى إذَا رَأَيْتَ شُحّاً مُطاعاً وهَوًى مُتَّبَعاً ودُنْيَا مُؤْثِرَةً وإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ برَأْيِهِ فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ وَدَعْ عَنْكَ العَوَامَّ فإنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أيّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فيه كَقَبْضٍ عَلَى الجَمْرِ، للعامِلِ فيها مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ ". قال : وزادني غيره قال : يا رسول الله أجر خمسين منهم ؟ قال :" أجْر خَمْسين مِنْكم " وهذا لا دلالة فيه على سقوط فرض الأمر بالمعروف إذا كانت الحال ما ذكر، لأن ذكر تلك الحال تنبئ عن تعذر تغيير المنكر باليد واللسان لشيوع الفساد وغلبته على العامة، وفرضُ النهي عن المنكر في مثل هذه الحال إنكاره بالقلب كما قال عليه السلام :" فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ فإِنْ لم يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ "، فكذلك إذا صارت الحال إلى ما ذُكِرَ، كان فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلب للتقيَّةِ ولتعذّر تغييره. وقد يجوز إخفاءُ الإيمان وتركُ إظهاره تقيةً بعد أن يكون مطمئن القلب بالإيمان، قال الله تعالى :﴿ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ﴾ [ النحل : ١٠٦ ] فهذه منزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد رُوي فيه وجهٌ آخر، وهو ما حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا أبو مسهر عن عبّاد الخوّاص قال : حدثني يحيى بن أبي عمرو الشيباني، أن أبا الدرداء وكعباً كانا جالسين بالجابية، فأتاهما آتٍ فقال : لقد رأيت اليوم أمراً كان حقّاً على من يراه أن يغيره ! فقال رجل : إن الله تعالى يقول :﴿ يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾، فقال كعب : إن هذا لا يقول شيئاً، ذُبَّ عن محارم الله تعالى كما تذبّ عن عائلتك حتى يأتي تأويلها. فانتبه لها أبو الدرداء فقال : متى يأتي تأويلها ؟ فقال : إذا هُدمت كنيسة دمشق وبُني مكانها مسجد فذلك من تأويلها، وإذا رأيت الكاسيات العارياتِ فذلك من تأويلها ؛ وذكر خصلة ثالثة لا أحفظها، فذلك من تأويلها. قال أبو مسهر : وكان هدمُ الكنيسة بعهد الوليد بن عبدالملك ؛ أدخلها في مسجد دمشق وزاد في سعته بها. وهذا أيضاً على معنى الحديث الأول في الاقتصار على إنكار المنكر بالقلب دون اليد واللسان للتقية والخوف على النفس.
مطلب : في ذم الحجّاج الظالم
ولعمري إن أيام عبدالملك والحجاج والوليد وأضرابهم كانت من الأيام التي سقط فيها فرض الإنكار عليهم بالقول واليد لتعذّر ذلك والخوف على النفس ؛ وقد حُكي أن الحجّاج لما مات قال الحسن :" اللهم أنتَ أمَتَّهُ فاقطع عنا سُنَّتَهُ فإنه أتانا أُخَيْفِشَ أُعَيْمِشَ يمد بيد قصيرة البَنَانِ والله ما عرق فيها عِنَانٌ في سبيل الله عز وجل، يرجِّل جُمَّتَهُ ويخطر في مشيته ويصعد المنبر فيهذر حتى تفوته الصلاة، لا من الله يتّقي ولا من الناس يستحي، فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون لا يقول له قائل الصلاة أيها الرجل "، ثم قال الحسن :" هيهات والله ! حَالَ دون ذلك السيفُ والسوطُ ".
وقال عبدالملك بن عمير :" خرج الحجّاج يوم الجمعة بالهاجرة فما زال يعبر مرة عن أهل الشام يمدحهم، ومرة عن أهل العراق يذمّهم حتى لم نَرَ مِنَ الشمس إلا حمرةً على شرف المسجد، ثم أمر المؤذن فأذن فصلَّى بنا الجمعة، ثم أذّن فصلى بنا العصر، ثم أذّن فصلى بنا المغرب، فجمع بين الصلوات يومئذ ". فهؤلاء السلف كانوا معذورين في ذلك الوقت في ترك النكير باليد واللسان، وقد كان فقهاء التابعين وقراؤهم خرجوا عليه مع ابن الأشعث إنكاراً منهم لكُفْرِهِ وظلمه وجوره، فجرت بينهم تلك الحروب المشهورة وقَتل منهم من قَتل ووَطِئَهُمْ بأهل الشام حتى لم يبق أحد ينكر عليه شيئاً يأتيه إلا بقلبه. وقد رَوَى ابن مسعود في ذلك ما حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن عبدالله بن مسعود، أنه ذكر عنده هذه الآية :﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ فقال : لم يجيء تأويلها بَعْدُ، إن القرآن أُنزل حين أنزل ومنه آيٌ قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، وكان منه آيٌ وقع تأويلهن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه آيٌ وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، ومنه آيٌ يقع تأويلهن بعد اليوم، ومنه آيٌ يقع تأويلهن عند الساعة، ومنه آيٌ يقع تأويلهن يوم الحساب من الجنة والنار، فقال : فما دامت قلوبكم واحدة وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شِيَعاً ولم يَذُقْ بعضُكم بأسَ بعض فأْمُرُوا بالمعروف وانْهَوْا عن المنكر، فإذا اختلفت القلوب والأهواء ولبستم شِيَعاً وذاق بعضكم بأس بعض فامْرُؤٌ ونفسه عند ذلك جاء تأويل هذه الآية.
قال أبو بكر : يعني عبدالله بقوله :" لم يجئ تأويلها بعد " أن الناس في عصره كانو ممكَّنِينَ من تغيير المنكر لصلاح السلطان والعامة وغلبة الأبرار للفجّار، فلم يكن أحد منهم معذوراً في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد واللسان، ثم إذا جاء حال التقيَّةِ وتَرْكِ القبول وغَلَبَتِ الفجَّارُ سُوِّغَ السكوتُ في تلك الحال مع الإنكار بالقلب ؛ وقد يسع السكوت أيضاً في الحال التي قد علم فاعل المنكر أنه يفعل محظوراً ولا يمكن الإنكار باليد ويغلب في الظن بأنه لا يقبل إذا قتل، فحينئذ يسع السكوت. وقد رُوي نحوه عن ابن مسعود في تأويل الآية. وحدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا يونس عن الحسن عن ابن مسعود في هذه الآية :﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ قال : قولوها ما قُبلت منكم، فإذا رُدَّتْ عليكم فعليكم أنفسكم. فأخبر ابن مسعود أنه في سعة من السكوت إذا رُدَّتْ ولم تُقبل، وذلك إذا لم يمكنه تغييره بيده ؛ لأنه لا يجوز أن يُتوهم عن ابن مسعود إباحته ترك النهي عن المنكر مع إمكان تغييره.
حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو عن عبدالله بن عبدالرحمن الأشهلي عن حذي

باب الشهادة على الوصية في السفر


قال الله تعالى :﴿ يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنكُمْ ﴾
قد اختُلف في معنى الشهادة ههنا، فقال قائلون :" هي الشهادة على الوصية في السفر " وأجازوا بها شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر. ورَوَى الشعبيُّ عن أبي موسى أن رجلاً مسلماً توفي بدَقُوقَا ولم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فأحلفهما أبو موسى بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدّلا ولا كتما ولا غيّرا، وإنها لوصية الرجل وتَرِكَتُهُ ؛ فأمضى أبو موسى شهادتهما وقال : هذا أمرٌ لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون :" معنى :﴿ شهادَةُ بَيْنِكُمْ ﴾ حضور الوصيين، من قولك شَهِدْتُهُ إذا حَضَرْتَهُ ". وقال آخرون :" إنما الشهادة هنا أيمان الوصية بالله إذا ارتاب الورثة بهما "، وهو قول مجاهد. فذهب أبو موسى إلى أنها الشهادة على الوصية التي تثبت بها عند الحكام، وأن هذا حكمٌ ثابتٌ غير منسوخ ؛ ورُوي مثله عن شُرَيح، وهو قول الثوري وابن أبي ليلى والأوزاعي. ورُوي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وابن سيرين وعبيدة وشريح والشعبي :﴿ أوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ﴾ :" مِنْ غير ملّتكم ". ورُوي عن الحسن والزهري :" من غير قبيلتكم ".
فأما تأويل من تأوّلها على اليمين دون الشهادة التي تقام عند الحكام، فقولٌ مرغوبٌ عنه، وإن كانت اليمين قد تسمَّى شهادة في نحو قوله تعالى :﴿ فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله ﴾ [ النور : ٦ ]، لأن الشهادة إذا أُطلقت فهي الشهادة المتعارفة، كقوله تعالى :﴿ وأقيموا الشهادة لله ﴾ [ الطلاق : ٢ ] ﴿ واستشهدوا شهيدين من رجالكم ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ] ﴿ ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ] ﴿ وأشهدوا ذوي عدل منكم ﴾ [ الطلاق : ٢ ] كل ذلك قد عقل به الشهادات على الحقوق لا الأيمان ؛ وكذلك قوله تعالى :﴿ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ﴾ المفهوم فيه الشهادة المتعارَفَةُ. ويدل عليه قوله تعالى :﴿ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ ﴾ ويبعد أن يكون المراد أيمان بينكم إذا حضر أحدكم الموت، لأن حال الموت ليس حالاً للأيمان. ثم زاد بذلك بياناً بقوله :﴿ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ﴾ يعني والله أعلم : إن لم يوجد ذوا عدل منكم ؛ ولا يختلف في حكم اليمين وجود ذوي العدل وعدمهم.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ ﴾ يدلّ على ذلك أيضاً ؛ لأن اليمين موجودة ظاهرة غير مكتومة، ثم ذكر يمين الورثة بعد اختلاف الوصيين على مال الميت، وإنما الشهادة التي هي اليمين هي المذكورة في قوله :﴿ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا ﴾ ثم قوله :﴿ ذَلِكَ أدْنَى أنْ يَأْتُوا بالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا ﴾ يعني به الشهادة على الوصية، إذ غير جائز أن يقول :" أن تأتوا باليمين على وجهها ". وقوله تعالى :﴿ أوْ يَخَافُوا أنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أيْمَانِهِمْ ﴾ يدل أيضاً على أن الأول شهادة ؛ لأنه ذكر الشهادة واليمين كل واحدة بحقيقة لفظها.
فأما تأويل من تأوّل قوله :﴿ أوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ﴾ : من غير قبيلتكم ؛ فلا معنى له، والآية تدل على خلافه ؛ لأن الخطاب توجه إليهم بلفظ الإيمان من غير ذِكْرٍ للقبيلة في قوله تعالى :﴿ يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ﴾ ثم قال :﴿ أوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ﴾ يعني من غير المؤمنين، ولم يَجْرِ للقبيلة ذكرٌ حتى ترجع إليه الكناية ؛ ومعلوم أن الكناية إنما ترجع إما إلى مُظْهَرٍ مذكور في الخطاب أو معلوم بدلالة الحال، فما لم تكن هنا دلالة على الحال ترجع الكناية إليها يثبت أنها راجعة إلى من تقدم ذكره في الخطاب من المؤمنين وصحّ أن المراد من غير المؤمنين، فاقتضت الآية جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر.
وقد رُوي في تأويل الآية عن عبدالله بن مسعود وأبي موسى وشُرَيح وعكرمة وقتادة وجوهُ مختلفة، وأشبهها بمعنى الآية ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا الحسن بن علي، قال : حدثنا يحيى بن آدم قال : حدثنا ابن أبي زائدة عن محمد بن أبي القاسم عن عبدالملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس قال :" خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعديّ بن بداء، فمات السهميّ بأرض ليس بها مسلم، فلما قدما بتَرِكَتِهِ فقدوا جَامَ فضة مُخَوَّصاً بالذهب، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ثم وُجِدَ الجامُ بمكة فقالوا : اشتريناه من تميم وعديّ، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا لشهادتنا أحقّ من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم، قال : فنزلت فيهم :﴿ يَا أيُّها الّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ﴾ ". فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بدياً لأن الورثة اتهموهما بأخذه، ثم لما ادّعيا أنهما اشتريا الجام من الميت استحلف الورثة وجعل القول قولهم في إنه لم يبع وأخذوا الجام. ويشبه أن يكون ما قال أبو موسى في قبول شهادة الذميّين على وصية المسلم في السفر وأن ذلك لم يكن منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن، هو هذه القصة التي في حديث ابن عباس ؛ وقد رَوَى عكرمة في قصة تميم الداري نحو رواية ابن عباس.
واختُلف في بقاء حكم جواز شهادة أهل الذمّة على وصية المسلم في السفر، فقال أبو موسى وشُرَيح :" هي ثابتة "، وقول ابن عباس ومن قال :﴿ أوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ﴾ : إنه من غير المسلمين، يدلّ على أنهم تأولوا الآية على جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر، ولا يُحفظ عنهم بقاء هذا الحكم أو نسخه. ورُوي عن زيد بن أسلم في قوله تعالى :﴿ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ﴾ قال :" كان ذلك في رجل توفي وليس عنده أحدٌ من أهل الإسلام، وذلك في أول الإسلام والأرضُ حربٌ والناس كفّار، إلاّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ؛ فكان الناس يتوارثون بالمدينة بالوصية ثم نُسخت الوصية وفُرضت الفرائض وعمل المسلمون بها ". ورُوي عن إبراهيم النخعي قال : هي منسوخة، نسختها :﴿ وأشهدوا ذوي عدل منكم ﴾ [ الطلاق : ٢ ]. ورَوَى ضمرة بن جندب وعطية بن قيس قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المائِدَةُ مِنْ آخِرِ القُرْآنِ نُزُولاً فَأَحِلُّوا حَلاَلَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا ". قال جبير بن نفير عن عائشة، قالت :" المائدة من آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه وما وجدتم من حرام فاستحرموه ". وروى أبو إسحاق عن أبي ميسرة قال :" في المائدة ثماني عشرة فريضة وليس فيها منسوخ ". وقال الحسن :" لم يُنسخ من المائدة شيء ". فهؤلاء ذهبوا إلى أنه ليس في الآية شيء منسوخ. والذي يقتضيه ظاهرُ الآية جواز شهادة أهل الذمّة على وصية المسلم في السفر، سواء كان في الوصية بيع أو إقرار بدين أو وصية بشيء أو هبة أو صدقة، هذا كله يشتمل عليه اسم الوصية إذا عقده في مرضه ؛ وعلى أن الله تعالى أجاز شهادتهما عليه حين الوصية لم يخصص بها الوصية دون غيرها، وحين الوصية قد يكون إقرارٌ بدين أو بمالِ عَيْنٍ وغيره لم تفرق الآية بين شيء منه. ثم قد رُوي أن آية الدين من آخر ما نزل من القرآن وإن كان قوم قد ذكروا أن المائدة من آخر ما نزل، وليس يمتنع أن يريدوا بقولهم :" من آخر ما نزل " : من آخر سورة نزلت في الجملة، لا على أن كل آية منها من آخر ما نزل. وإن كان كذلك فآية الدين لا محالة ناسخة لجواز شهادة أهل الذمة على الوصية في السفر، لقوله :﴿ إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمّى ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ] إلى قوله :﴿ واستشهدوا شهيدين من رجالكم ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ] وهم المسلمون لا محالة، لأن الخطاب توجه إليهم باسم الإيمان، ولم يخصص بها حال الوصية دون غيرها، فهي عامة في الجميع ؛ ثم قال :﴿ ممن ترضون من الشهداء ﴾ [ البقرة : ٢٨٢[ وليس الكفار بمرضِيِّين في الشهادة على المسلمين، فتضمنت آية الدَّيْن نَسْخَ شهادة أهل الذمّة على المسلمين في السفر وفي الحضر وفي الوصية وغيرها ؛ فانتظمت الآية جَوَازَ شهادة أهل الذّمة على وصية المسلم، ومن حيث دلّت على جوازها على وصية المسلم في السفر فهي دالّةٌ أيضاً على وصية الذمي، ثم نُسِخ فيها جوازها على وصية المسلم بآية الدين وبقي حكمها على الذمي في السفر وغيره، إذ كانت حالة السفر والحضر سواء في حكم الشهادات وعلى جواز شهادة الوصيين على وصية الميت، لأن في التفسير أن الميت أوصى إليهما وأنهما شهدا على وصيته ؛ ودلّت على أن القول الوصيّ فيما في يده للميت مع يمينه لأنهما على ذلك استحلفا ؛ ودلّت على أن دعواهما شِرَى شيء من الميت غير مقبولة إلا ببينة وأن القول قول الورثة إن الميت لم يبع ذلك منهما مع أيمانهم.
مطلب : في موضع الاستحلاف
وقوله تعالى :﴿ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ ﴾ فإنه رُوي عن ابن سيرين وقتادة : استُحْلِفا بعد العصر ؛ وإنما استحلفا بعد العصر تغليظاً لليمين في الوقت المعظم كما قال تعالى :﴿ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ﴾ [ البقرة : ٢٣٨ ] قيل : صلاة العصر ؛ وقد رُوي عن أبي موسى أنه استحلف بعد العصر في هذه القصة. وقد رُوي تغليظُ اليمين بالاستحلاف في البقعة المعظمة. ورَوَى جابرٌ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" مَنْ حَلَفَ عِنْدَ هَذَا المِنْبَرِ عَلَى يَمِينٍ آثِمَةٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النّارِ وَلَوْ عَلَى سِوَاكٍ أخْضَرَ "، فأخبر أن اليمين الفاجرة عند المنبر أعظم مأثماً، وكذلك سائر المواضع الموسومة للعبادات ولتعظيم الله تعالى وذِكْرِهِ فيها تكون المعاصي فيها أعظم إثماً، ألا ترى أن شرب الخمر والزنا في المسجد الحرام وفي الكعبة أعظم مأثماً منه في غيره ؟ وليست اليمين عند المنبر وفي المسجد في الدعاوى بواجبة، وإنما ذلك على وجه الترهيب وتخويف العقاب. وحُكي عن الشافعي أنه يُستحلف بالمدينة عند المنبر ؛ واحتجّ له بعض أصحابه بحديث جابر الذي ذكرنا، وبحديث وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحضرمي :" لَكَ يَمِينُهُ " قال : إنه رجل فاجر لا يبالي، قال :" لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إلاّ ذَلِكَ " فانطلق ليحلف، فلما أدبر ليحلف قال :" مَنْ حَلَفَ عَلَى مالٍ ليَأْكُلَهُ ظُلْماً لقي اللهَ وهُوَ عَنْهُ مُعْرضٌ " وبحديث الأشعث بن قيس، وفيه : فانطلق ليحلف. فقالوا : قوله :" من حلف عند هذا المنبر على يمين آثمة " يدلّ على أن الأيمان قد كانت تكون عنده. قال أبو بكر : وليس فيه دلالة على أن ذلك مسنونٌ، وإنما قال ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يجلس هناك، فلذلك كان يقع الاستحلاف عند المنبر، واليمينُ عند المنبر أعظم مأثماً إذا كانت كاذبة لحرمة الموضع، فلا دلالة فيه على أنه ينبغي أن تكون عند المنبر ؛ والشافعي لا يَسْتحلف في الشيء التافه عند المنبر، وقد ذكر في الحديث :" ولو على سِواكٍ أخْضَرَ " فقد خالف الخبر على أصله. وأما قوله :" انطلق ليحلف " وأنه لما أدبر قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فإنه لا دلالة فيه على أنه ذهب إلى الموضع وإنما المراد بذلك العزيمة والتصميم عليه، قال تعالى :{ ثم أدب
ثم قال تعالى :﴿ فإنْ عُثِرَ عَلَى أنّهُمَا اسْتَحَقّا إثْماً ﴾
يعني ظهور شيء من مال الميت في أيديهما بعد ذلك، وهو جَامُ الفضة الذي ظهر في أيديهما من مال الميت، فزعما أنهما كانا اشترياه من مال الميت. ثم قال تعالى :﴿ فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُما ﴾ يعني في اليمين، لأنهما صارا في هذه الحال مدعيين للشِّرَى، فصارت اليمين على الورثة، وعلى أنه لم يكن للميت إلاّ وارثان فكانا مُدَّعًى عليهما، فلذلك استُحْلِفا، ألا ترى أنه قال :﴿ مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأُولَيَانِ فَيُقْسِمَانِ باللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا ﴾ يعني أن هذه اليمين أوْلى من اليمين التي حلف بها الوصيان أنهما ما خانا ولا بدّلا، لأن الوصيين صارا في هذه الحال مُدَّعِيَيْنِ وصار الوارثان مدَّعًى عليهما، وقد كانا برئا في الظاهر بدياً بيمينهما فمضت شهادتهما على الوصية، فلما ظهر في أيديهما شيءٌ من مال الميت صارت أيمان الوارثين أوْلى.
وقد اختُلف في تأويل قوله تعالى :﴿ الأُولَيَانِ ﴾، فرُوي عن سعيد بن جبير قال : معنى الأولَيَانِ بالميت يعني الورثة، وقيل : الأوْليان بالشهادة وهي الأيمان في هذا الموضع ؛ وليس في الآية دلالة على إيجاب اليمين على الشاهدين فيما شهدا به، وإنما أوجبت اليمين عليهما لما ادّعَى الورثة عليهما الخيانة وأخْذَ شيء من تركة الميت، فصار بعض ما ذكر في هذه الآيات من الشهادات أيماناً. وقال بعضهم : الشهادة على الوصية كالشهادة على الحقوق، لقوله تعالى :﴿ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ﴾ لا محالة أُريد بها شهادات الحقوق، لقوله :﴿ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ﴾.
وقوله بعد ذلك :﴿ فَيُقْسِمَانِ باللّهِ ﴾ لا يحتمل غير اليمين، ثم قال :﴿ فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأُولَيَانِ فَيُقْسِمَانِ باللهِ لَشَهَادَتُنَا ﴾ يعني بها اليمين ؛ لأن هذه أيمان الوارثين، وقوله :﴿ أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا ﴾ يحتمل من يمينهما ويحتمل من شهادتهما، لأن الوصيين قد كان منهما شهادة ويمين، وصارت يمين الوارث أحقَّ من شهادة الوصيين ويمينها، لأن شهادتهما لأنفسهما غير جائزة ويميناهما لم توجب تصحيح دعواهما في شراء ما ادّعيا شراه من الميت.
قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أنْ يَأْتُوا بالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا ﴾
يعني والله أعلم : أقرب أن لا يكتموا ولا يبدلوا، ﴿ أوْ يَخَافُوا أنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾ يعني : إذا حلفا ما غيّرا ولا كتما ثم عُثِرَ على شيء من مال الميت عندهما، أن تجعل أيمان الورثة أوْلى من أيمانهم بَدِيّاً أنهما ما غيّرا ولا كتما، على ما رُوي عن ابن عباس في قصة تميم الداري وعديّ بن بداء.
قال تعالى :﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا ﴾ يعني والله أعلم : بالشهادة على الوصية وأن لا يخونوا ولا يغيروا، يعني أن ما حكم الله تعالى به من ذلك من الأيمان وإيجابها تارة على الشهود فيما ادُّعي عليهما من الخيانة، وتارة على الورثة فيما ادعى الشهود من شِرَى شيء من مال الميت، وأنهم متى علموا ذلك أتَوْا بالشهادة على وصية الميت على وجهها أو يخافوا أن تُرَدَّ أيمانٌ بعد أيمانهم ولا يقتصروا على أيمانهم ولا يبرئهما ذلك من أن يستحق عليهم ما كتموه وادّعوا شِرَاهُ إذا حلف الورثة على ذلك ؛ والله أعلم.
Icon