بسم الله الرحمان الرحيم
سماع اسم الله يوجب الهيبة، ( والهيبة ) تتضمن الفناء والغيبة، وسماع الرحمان الرحيم يوجب الحضور والأوبة، والحضور يتضمن البقاء والقربة.
فمن أسمعه " بسم الله " أدهشه في كشف جلاله، ومن أسمعه " الرحمان الرحيم " عيشه بلطف أفضاله.
ﰡ
شَرَّفهم بقوله :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ وكلَّفهم بقوله ﴿ أوفوا ﴾ ولمَا عَلِمَ أن التكليف يوجب المشقة قَدَّم التشريف بالثناءِ على التكليف الموجِب للعناءِ.
ويقال الإيمانُ صنفان : أحدهما يشير إلى عين الجود، والثاني إلى بذل المجهود. فَبَذْلُ المجهودِ خِدْمَتُك، وعين الجود قِسْمَتُه ؛ فبخدمتك عناءُ الأشباح، وبقسمته ضياءُ الأرواح.
وحقيقة الإيمان تحقق القلب بما أخبر من الغيب.
ويقال ﴿ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ : يا مَنْ دخلوا في إيماني، ما وصلتم إلا أَماني إلا بسابق إحساني. ويقال يا مَنْ فتحتُ بصيرتَهم لشهود حقي حتى لا يكونوا كمن أعرضتُ عنهم مِنْ خَلْقِي.
قوله جلّ ذكره :﴿ أَوْفُوا بِالعُقُودِ ﴾.
كُلُّ مُكلَّفٍ مُطَالَبٌ بالوفاء بعقده، والعقد، ما ألزمك بسابق إيجابه، ثم وفَّقكَ -بعدما أظهرك عند خطابه - بجوابه، فانبرم العقد بحصول الخطاب، والقبول بالجواب.
ويدخل في ذلك - بل يلتحق به - ما عَقَدَ القلبُ معه سِرًّا بِسِرٍّ ؛ من خلوصٍ له أضمره، أو شيء تبيَّنه، أو معنًى كوشف به أو طولب به فقَبِله.
ويقال الوفاء بالعهد بصفاء القصد، ولا يكون ذلك إلا بالتبرِّي من المُنَّة، والتحقق بتولي الحق - سبحانه - بلطائف المِنَّة.
قوله جلّ ذكره :﴿ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾.
تحليل بعض الحيوانات وإباحتها من غير جُرْم سَبَق منها، وتحريم بعضها والمنع من ذبحها من غير طاعة حصلت منها - دليلٌ على ألاَّ عِلَّةَ لصنعه.
وحرَّم الصيد على المُحْرِم خصوصاً لأن المُحْرِمَ متجرِّدٌ عن نصيب نفسه بقصده إليه، فالأليق بصفاته كَفُّ الأذى عن كل حيوان.
قوله جلّ ذكره :﴿ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾.
لا حَجْرَ عليه في أفعاله، فيخصُّ من يشاء بالنُّعْمى، ويفرد من يشاء بالبلوى ؛ فهو يُمْضِي الأمور في آباده على حسب ما أراد وأخبر وقضى في آزاله.
الشعائر معالم الدِّين، وتعظيم ذلك وإجلاله خلاصة الدين، ولا يكون ذلك إلا بالاستسلام عند هجوم التقدير، والتزام الأمر بجميل الاعتناق، وإخلال الشعائر ( يكون ) بالإخلال بالأوامر.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلاَ الشَّهْرَ الحَرَامَ وَلاَ الهَدْىَ وَلاَ القَلاَئِدَ ﴾.
تعظيم المكان الذي عظَّمه الله، وإكرامُ الزمان الذي أكرمه الله. وتشريف الإعلام على ما أمر به الله - هو المطلوب من العبيد أمراً، والمحبوب منه حالاً.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلاَ آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ﴾.
وبالحريِّ لمن يقصد البيت ألا يخالف ربَّ البيت.
والابتغاء للفضل والرضوان بتوقِّي موجبات السخط، ومجانبة العصيان.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ﴾.
وإذا خرجتم عن أمر حقوقنا فارجعوا إلى استجلاب حظوظكم، فأمّا ما دمتم تحت قهر بطشنا فلا نصيب لكم منكم، وإنكم لنا.
قوله ﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ. . . ﴾ أي لا يحملكم بغضُ قوم لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام على ألا تجاوزوا حدَّ الإذن في الانتقام، أي كوّنوا قائمين بنا، متجردين عن كل نصيب وحَظٍّ لكم.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾.
البِرُّ فِعْلُ ما أُمِرْتَ به، والتقوى تَرْكُ ما زُجِرتَ عنه.
ويقال البِرُّ إيثار حقه - سبحانه، والتقوى تركُ حظِّك.
ويقال البِرُّ موافقة الشرع، والتقوى مخالفةُ النَّفْس.
ويقال المعاونة على البِرِّ بحُسْنِ النصيحة وجميل الإشارة للمؤمنين، والمعاونة على التقوى بالقبض على أيدي الخطائين بما يقتضيه الحال من جميل الوعظ وبليغ الزجر، وتمام المنع على ما يقتضيه شرط العلم.
والمعاونة على الإثم والعدوان بأن تعمل شيئاً مما يقتدى بك لا يرضاه الدِّين، فيكون قولُك الذي تفعله ويقتدى بك ( فيه ) سُنَّةً تظهرها و ( عليك ) نبُوُّ وِزْرِها. وكذلك المعاونة على البر والتقوى أي الاتصاف بجميل الخِصال على الوجه الذي يُقْتدَى بكل فيه.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ ﴾.
العقوبة ما تعقب الجُرْم بما يسوء صاحبه. وأشد العقوبة حجاب المُعَاقَبِ عن شهود المُعَاقِب ؛ فإنَّ تَجرُّعَ كاساتِ البلاء بشهود المُبْلِي أحلى من العسل والشهد.
وأكل الميتة أن تتناول من عِرْضِ أخيك على وجه الغيبة، وليس ذلك مما فيه رخصةٌ بحالٍ لا بالاضطرارِ ولا بالاختيارِ، وغير هذا من المَيْتَةِ مباحٌ في حالِ الضرورة.
ويقال كما أَنَّ في الحيوان ما يكون المزكى منه مباحاً والميتة منه حراماً فكذلك من ذبح نفسه بسكاكين المجاهدات وطَهَّرَ نفسه - مُبَاحٌ قربه، حلال صحبته. ومَنْ ماتت نفسه في ظلمة غفلته حتى لا إحساسَ له بالأمور الدينية فخبيثةٌ نفسه، محظورٌ قُربُه، حرام معاشرته، غيرُ مباركةٍ صحبتِه.
وإنَّ السلف سموا الدنيا خنزيرةً، ورأوا أَنَّ ما يُلْهِي قربُهُ، ويُنْسِي المعبودَ ركونُه، ويحمل على العصيان جنوحُه - فهو مُحرَّمٌ على القلوب ؛ ففي طريقة القوم حبُّ الدنيا حرامٌ على القلوب، وإن كان إمساكُ بعضها حلالاً على الأبدان والنفوس.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ ﴾.
كما أنَّ المذبوح على غير اسمه ليس بطيِّبٍ فَمَنْ بَذَلَ رُوحَه فيه وَجَدَ رُوْحه منه، ومن تهارشته كلاب الدنيا، وقلته مخالب الأطماع، وأَسَرَتْهُ مطالبُ الأغراض والأعراض - فحرامٌ ماله على أهل الحقائق في مذهب التعزز، فللشريعَةِ الظرف والتقدير.
وأما المنخنقة فالإشارة منه إلى الذي ارتبك في حِبال المنى والرغائب، وأخذه خناقُ الطمع، وخنقته سلاسل ( الحِرْص ) فحرامٌ على السالكين سلوك خطتهم، ومحظور على المريدين متابعة مذهبهم.
وأمَّا الموقوذة فالإشارة منها إلى نفوس جُبِلَت على طلب الخسائس حتى استملكتها كلها فهي التي ذهبت بلا عوض حصل منها، وأمثال ذلك حرامٌ على أهل هذه القصة.
والإشارة من المتردية إلى من هلك في أودية التفرقة، وعمي عن استبصار رشد الحقيقة ؛ فهو يهيم في مفاوز الظنون، وينهك في متاهات المنى.
والإشارة من النطيحة إلى من صَارَعَ الأمثال، وقارع الأشكال، وناطح كلاب الدنيا فحطموه بكلب حرصهم، وهزموه بزيادة تكلبهم، وكذلك الإشارة من :
قوله جلّ ذكره :﴿ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ﴾.
وأكيلة السبع ما ولغت فيه كلاب الدنيا، فإن الدنيا جيفة، وأَكَلَةُ الجيفِ الكلابُ ويستثنى منه المزكى وهو ما تقرر من متاع الدنيا لله ؛ لأن زادَ المؤمِنِ من الدنيا : ما كان لله فهو محمود، وما كان للنَّفْس فهو مذموم.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ﴾.
فهو ما أُرْصِدَ لغير الله، ومقصودُ كلِّ حريص - بموجب شرعه - معبودُه من حيث هواه قال الله تعالى :
﴿ أَفَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ﴾[ الجاثية : ٢٣ ] يعني اتخذ هواه إلهه.
﴿ وَأَن تَسَتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ﴾، الإشارة منه إلى كل معاملة ومُصَاحبةٍ بُنِيَتْ على استجلاب الحظوظ الدنيوية - لا على وجه الإذن - إذ القمار ذلك معناه. وقَلَّتْ المعاملات المجرَّدَة عن هذه الصفة فيما نحن فيه من الوقت.
قوله جلّ ذكره :﴿ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ﴾.
أي إيثار هذه الأشياء انسلاخ عن الدين.
قوله جلّ ذكره :﴿ اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشُونِ ﴾.
أي بعدما أزَحتُم عن قلوبكم آثار الحسبان، وتحققتم بأن المتفرد بالإبداع نحن فلا تلاحظوا سواي، ولا يُظَلِّلَنْ قلوبكم إشفاقٌ من غيري.
ويقال إذا كانت البصائرُ متحققة بأن النَّفع والضر، والخير والشر لا تحصل شظية منها إلا بقدرة الحق - سبحانه، فمن المحال أن تنطوي - من مخلوق - على رَغَبٍ أو رَهَبٍ.
قوله جلّ ذكره :﴿ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾
إكمالُه الدين - وقد أضافه إلى نفسه - صَوْنُه العقيدة عن النقصان ؛ وهو أنه لما أزعج قلوب المتعرفين لطلب توحيده أَمَّلها بأنوار تأييده وتسديده، حتى وضعوا النظر مَوْضِعَه من غير تقصيرٍ، وحتى وصلوا إلى كمال العرفان من غير قصور.
ويقال إكمالُ الدِّين تحقيقُ القَبُولِ في المآلِ، كما أن ابتداءَ الدِّين توفيقُ الحصول في الحال : فلولا توفيقه لم يكن للدين حصول، ولولا تحقيقه لم يكن للدين قبول.
ويقال إكمال الدين أنه لم يبق شيء يعلمه الحق - سبحانه - من أوصافه وقد علَّمك.
ويقال إكمال الدين أن ما تقصر عنه عقلك من تعيين صفاته - على التفصيل - أكرمك بأن عرَّفك ذلك من جهة الإخبار.
وإنما أراد بذكر ﴿ اليَوْمَ ﴾ وقتَ نزول الآية. وتقييد الوقت في الخطاب بقوله ﴿ اليَوْمَ ﴾ لا يعود إلى عين إكمال الدِّين، ولكن إلى تعريفنا ذلك الوقت.
والدِّين موهوبٌ ومطلوبٌ ؛ فالمطلوب ما أمكن تحصيله، والموهوبُ ما سبق منه حصوله.
قوله جلّ ذكره :﴿ وََأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى ﴾.
النعمة - على الحقيقة - ما لا يقطعك عن المنعم بل يوصلك إليه والنعمة المذكورة ها هنا نعمة الدِّين، وإتمامها وفاء المآل، واقتران الغفران وحصوله. فإكمال الدين تحقيق المعرفة، وإتمام النعمة تحصيل المغفرة. وهذا خطاب لجماعة المسلمين، ولا شك في مغفرة جميع المؤمنين، وإنما الشك يعتري في الآحاد والأفراد هل يبقى على الإيمان ؟
قوله جلّ ذكره :﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ﴾.
وذلك لما قَسَمَ للخَلْق أديانَهم ؛ فخصّ قوماً باليهودية، وقوماً بالنصرانية، إلى غير ذلك من النِّحَلِ والمِلَلِ، وافرد المسلمين بالتوحيد والغفران.
وقدَّمَ قومٌ الإكمالَ على الإتمام، فقالوا : الإتمام يقبل الزيادة، فلذلك وَصَفَ به النعمة لقبول النِّعم للزيادة، ولا رتبةَ بعد الكمال فلذلك وصف به الدين.
ويقال لا فرق بين الدِّين والنعمة المذكورة ها هنا، وإنما ذُكِرَ بلفظين على جهة التأكيد، ثم أضافه إلى نفسه فقال :﴿ نِعمَتي ﴾ وإلى العبد فقال :﴿ دِينِكُمْ ﴾. فَوَجْهُ إضافته إلى العبد من حيث الاكتساب، ووجه إضافته إلى نفسه من حيث الخَلْق. فالدين من الله عطاء، ومن العبد عناء، وحقيقة الإسلام الإخلاص والانقياد والخضوع لجريان الحكم بلا نزاعٍ في السِّرِّ.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
الإشارة من هذه الآية أنه لو وقع لسالكٍ فترة، أو لمريدٍ في السلوك وقفة، ثم تنبَّه لعظيم وقاعة فبادر إلى جميع الرَّجْعَةِ باستشعار التحسّر على ما جرى تَدارَكَتْه الرحمةُ، ونظر الله - سبحانه - إليه بقبول الرجعة.
والإشارة من قوله ﴿ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ ﴾ أي غير معرِّج على الفترة، ولا مستديم لعُقْدةِ الإصرار، ويحتمل أن يكون معناه من نزل عن مطالبات الحقائق إلى رُخَصِ العلم لضعفٍ وَجَدَه في الحال فربما تجري معه مُساهلةٌ إذا لم يفسخ عَقْدَ الإرادة.
﴿ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ﴾ وهو الحلال الذي تحصل من تناوله طيبةُ القلوب فإنَّ أَكْلَ الحرام يُوجِبُ قسوة القلب، والوحشةُ مقرونةُ بقسوةِ القلبِ، وضياءُ القلوب وطِيبُ الأوقات متصلٌ بصَوْن الخُلُق عن تناول الحرام والشبهات.
وقوله :﴿ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ﴾ : ولمَّا كان الكلب المُعَلَّمَ تركَ حظَّه، وأمسك ما اصطاده على صاحبه حلت فريسته، وجاز اقتناؤه، واستغرق في ذلك حكم خساسته فكذلك مَنْ كانت أعماله وأحواله لله - سبحانه مختصة، ولا يشوبها حظ تَجِلُّ رتبتُه وتعلو حالته.
ويقال حُسْنُ الأدب يُلْحِقُ الأَخِسَّة برتبة الأكابر، وسوء الأدب يَرُدُّ الأعِزَّة إلى حالة الأصاغر.
ثم قال :﴿ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ ﴾ : بيَّن أنَّ الأكلَ - على الغفلة - غير مَرْضِيٍّ عنه ( في القيمة ).
﴿ وَاتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ﴾ بحيث لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ، وسريعُ الحساب - اليومَ - مع الأحباب والأولياء، فهم لا يُسَامَحون في الخطوة ولا في اللحظة، معجَّلٌ حسابُهم، مُضَاعَفٌ - في الوقتِ - ثوابُهم وعقابُهم
﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ ﴾ : القَدْرُ الذي بيننا وبينهم من الوفاق في إثبات الربوبية لم يَعْرَ من أثرٍ في القربة فقال الله تعالى :
﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ﴾ [ المائدة : ٨٢ ].
وكذلك الأمر في المحصنات من نسائهم. وأُحِلَّ الطعامُ والذبيحةُ بيننا وبينهم من الوجهين فيحلّ لنا أكل ذبائحهم، ويجوز لنا أن نطعمهم من ذبائحنا، ولكن التزوج بنسائهم يجوز لنا، ولا يجوز تزوجهم بنسائنا لأن الإسلام يعلو ولا يُعْلَى.
ثم قال ﴿ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ﴾ يعني إنهم وإن كانوا كفاراً فلا تجب صحبتهن بغير نكاح تعظيماً لأمرِ السِّفاح، وتنبيهاً على وجوب مراعاة الأمر من الحق. وكذلك ﴿ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ﴾ لأنه إذا لم يجز تعلق قلبك بالمؤمنين على وجه المخادنة فمتى يسلم ذلك مع الكفار الذين هم الأعداء ؟
كما أنَّ في الشريعة لا تصحُّ الصلاةُ بغيرِ الطهور فلا تصحُّ - في الحقيقة - بغير طهور.
وكما أن للظاهر طهارةً فللسرائر أيضاً طهارة، وطهارةُ الأبدان بماء السماء أي المطر، وطهارة القلوب بماء الندم والخجل، ثم بماء الحياء والوجل.
وكما يجب غسلُ الوجهِ عند القيام إلى الصلاة يجب - في بيان الإشارة - صيانة الوجه عن التبذُّل للأشكال عن طلب خسائس الأعراض.
وكما يجب غسلُ اليدين في اليدين في الطهارة يجب قصرهما عن الحرام والشبهة.
وكما يجب مسحُ الرأس يجب صونه عن التواضع والخفض لكل أحد.
وكما يجب غسل الرِجْلين في الطهارة يجب صونهما في الطهارة الباطنة عن التنقل فيما لا يجوز.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَإِن كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُمْ مِّنَ الغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ﴾.
كما يقتضي غسل جميع البدن في الطهارة، كذلك في الطهارة الباطنة ما يوجب الاستقصاء ؛ وذلك عندما تقع للمريد فَتْرةٌ فيقوم بتجديد عقدٍ، وتأكيد عهد، والتزام عزامة، وتسليم وقتٍ، واستدامة ندامة، واستشعار خجل.
وكما أنه إذا لم يجد المتطهرُ الماءَ فَفَرْضُه التَّيَمُمْ فكذلك إذا لم يجد المريد مَنْ يفيض عليه صَوْبَ همته، ويغسله ببركات إشارته، ويعينه بما يؤوب به من زيادة حالته - اشتغل بما تيسَّر له من اقتفاء آثارهم، والاستراحة إلى ما يجد من سالف سِيَرِهِم، وما ورد من حكاياتهم.
وكما أن فرض التيمم على الشطر والنقصان فكذلك المطالبات على إصفاء هذه الحالة تكون أخف لأنه وقت الفترة وزمان الضعف.
قوله جلّ ذكره :﴿ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ﴾.
وتلوح من هذه الجملة الإشارة إلى أنه إذا بقي المريد عن أحكام الإرادة فلْيَحْطُطْ رِجْلَه بساحات العبادة، فإذا عَدِمَ اللطائف في سرائره فَلْيَسْتَدِمْ الوظائف على ظاهره، وإذا لم يتحقَّقْ بأحكام الحقيقة فليتخلق بآداب الشريعة، وإن لم يتحرج عن تَرْكِه الفضيلة فلا يدنسْ تصرفه بالحرام والشبهة.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ﴾.
أي يظهر ظواهركم عن الزلة بعصمته، ويظهر قلوبكم عن الغفلة برحمته.
ويقال يطهر سرائركم عن ملاحظة الأشكال، ويطهر ظواهركم عن الوقوع في شِباك الأشغال.
ويقال يطهر عقائدكم عن أن تتوهموا تدنُّسَ المقادير بالأعلال.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلِيُتِمَّ نَعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾.
إتمام النعمة على قومٍ بنجاة نفوسهم، وعلى آخرين بنجاتهم عن نفوسهم، وشتَّان بين قوم وقوم !.
ويقال إتمام النعمة في وفاء العاقبة ؛ فإذا خرج من الدنيا على وصف العرفان والإيمان فقد تَمتْ سعادته، وصَفَتْ نعمته.
ويقال إتمام النعمة في شهود المنعِم ؛ فإنَّ وجودَ النعمة لكل أحد ولكنَّ إتمامَها في شهود المنعِم.
الإشارة منه إلى التعريف السابق الذي لولاه ما علمْتَ أنه من هو.
ويقال أمرهم بتذكّر ما سبق لهم من القِسَمِ وهم في كَتْمِ العَدَم، فلا للأغيار عنهم خبر، ولا لهم عين ولا أثر، ولا وقع عليهم بصيرة، وقد سماهم بالإيمان، وحكم لهم بالغفران قبل حصول العصيان، ثم لما أظهرهم وأحياهم عرَّفهم التوحيد قبل أن كلَّفهم الحدود، وعرض عليهم بعد ذلك الأمانة وحذّرهم الخيانة، فقابلوا قوله بالتصديق، ووعَدُوا من أنفسهم الوفاءَ بشرط التحقيق، فأمدَّهم بحسن التوفيق، وثَبَّتهم على الطريق، ثم شكرهم حيث أخبر عنهم بقوله جل ذكره :﴿ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾.
ثم قال :﴿ وَاتَّقُوا اللهَ ﴾ : يعني في نقض ما أبرمتم من العقود، والرجوع عمَّا قدمتم من العهود، ﴿ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ لا يخفى عليه من خطرات قلوبكم ونيات صدوركم
لا يُعَوِّقنَّكم حصولُ نصيبٍ لكم في شيء عن الوفاء لنا، والقيام بما يتوجَّب عليكم من حقنا.
ويقال من لم يقسط عند مواعد رغائبه، ولم يمحُ عنه نواجم شهواته ومطالبه لم يقم لله بحق ولم يفِ لواجباته بشرط.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾.
أي لا تحملكم ضغائن صدوركم على الحلول بجنبات الحيف فإنَّ مرتعَ الظلمِ وبيءٌ، ومواضع الزيغ مهلكة.
ثم صرَّح بالأمر بالعدل فقال :﴿ اعدلوا ﴾ ولا تكون حقيقة العدل إلا بالعدول عن كل حظٍ ونصيب.
والعدلُ أقربُ إلى التقوى، والجَوْزُ أقربُ من الرَّدَى، ويُوقِعُ عن قريبٍ في عظيم البلوى.
ويقال بيَّن أن العبد وإن كانت له أعمال صالحة فإنه يحتاج إلى عَفْوِه وغفرانه، ولولا ذلك لَهلَكَ، خلافاً لمن قال إنه لا يجوز أن يَعذِّبَ البريءَ ويجب أن يثيب المحسنين.
ويقال لو كان ثوابُ المحسنين واجباً، وعقوبةُ البريء غيرَ حسنة لكان التجاوزُ عنه واجباً عليه، ولم يكن حينئذ فضل يمن به عليهم.
ثم قال :﴿ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ ﴾ يعني كما أحسنت إليكم في السالف من غير استحقاق فانتظروا جميل إحساني في الغابر من غير استيجاب
يذكرهم حُسْنَ أفضاله معهم، وقبح ( فعلهم ) في مقابلة إحسانه بنقضهم عهدهم.
وعرف المؤمنين - تحذيراً لهم - ألا ينزلوا منزلتَهم فيستوجبوا مثل ما استوجبوه من عقوبتهم.
قوله جلّ ذكره :﴿ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ﴾.
أي لئن قمتم بحقي لأوصلن إليكم حظوظكم، ولئن أجللتم أمري في العاجل لأجِلَّن قَدْرَكم في الآجل.
وإقامة الصلاة أن تشهد مَنْ تعبده، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم :" اعْبد اللهَ كأنَّكَ تراه ".
ويقال إقامة الصلاة شرطها أَنْ تُقْبِلَ على ما مَنْ تناجيه بأن تستقبل القُطْرَ الذي الكعبة فيه.
وأمَّا إيتاء الزكاة فحقُّه أن تكسب المال من وجه، وتصرفه في حقه، ولا تمنع الحق الواجب فيه عن أهله، ولا تؤخر الإيتاء عن وقته، ولا تُحْوِج الفقير إلى طلبه فإنَّ الواجبَ عليكَ أن توصل ذلك إلى مستحقه.
وتعزير الرسل الإيمان بهم على وجه الإجلال، واعتناق أمرهم بتمام الجد والاستقلال، وإيثارهم عليك في جميع الأحوال.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا ﴾.
الأغنياء ينفقون أموالهم في سبيل الله، والفقراء يبذلون مهجَتهم وأرواحَهم في طلب الله، ( فأولئك ) عن مائتي درهم يُخْرِجُونَ خَمْسَة، وهؤلاء لا يدخرون عن أمره نَفَساً ولا ذرَّة.
قوله جلّ ذكره :﴿ لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ولأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾.
التكفير هو الستر والتغطية، وإنه يستر الذنوب حتى عن العاصي فيمحو من ديوانه، وينسِي الحَفظَة سوالف عصيانه. وينفي عن قلبه تذكر ما أسلفه، ولا يوفقه في العرصة على ما قَدَّم من ذنبه، ثم بعد ذلك يدخله الجنة بفضله كما قال :﴿ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾، كما قيل :
ولما رضوا بالعفو عن ذي زلة | حتى أنالوا كفَّه وازدادوا |
فَمَنْ جَحَدَ هذه الأيادي بعد اتضاحها فقد عَدَلَ عن نَهْجِ أهل الوفاء، وحاد عن سَنَنِ أصحاب الولاء.
جعل جزاءَ العصيان الخذلانَ للزيادة في العصيان.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ﴾.
وتحريفُهم الكلم عن مواضعه نوعُ عصيان منهم، وإنما حرَّفوا لقساوة قلوبهم. وقسوة القلب عقوبة لهم مِنْ قِبَل الله تعالى على ما نقضوه من العهود، ونقض العهد أعظمُ وِزْرٍ يلم به العبد، والعقوبة عليه أشد عقوبة يُعَاقَبُ بها العبد، وقسوة القلب عدم التوجع مما يُمتَحَنَ به من الصدِّ، وعن قريبٍ يُمتَحَن بمحنة الرد بعد الصدِّ، وذلك غاية الفراق، ونهاية البعد.
ويقال قسوة القلب أولها فَقْدُ الصفوة ثم استيلاء الشهوة ثم جريان الهفوة ثم استحكام القسوة، فإن لم يتفق إقلاع من هذه الجملة فهو تمام الشقوة.
ومن تحريف الكلم - على بيان الإشارة - حَمْلُ الكلم على وجوه من التأويل مما تسوِّل لصاحبِه نَفْسُه، ولا تشهد له دلائلُ العلم ولا أصله.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ﴾.
أوَّلُ آفاتِهِم نسيانُهم، وما عصوا ربهم إلا بعد ما نسوا، فالنسيان أول العصيان، والنسيانُ حاصلٌ من الخذلان.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ ﴾.
الخيانة أمرها شديد وهي من الكبار أبعد، وعليهم أشد وأصعب. ومن تعوَّد اتباع الشهوات، وأُشْرِبَ في قلبه حُبَّ الخيانة فلا يزال يعيش بذلك الخُلُق إلى آخر عمره، اللهم إلا أن يجودَ الحقُّ - سبحانه - عليه بجميل اللطف.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ ﴾.
قد يكون موجب العفو حقارة قدر المعفو عنه إذ ليس كل أحدٍ أهلاً للعقاب. وللصفح على العفو مزية وهي أن في العفو رفع الجناح، وفي الصفح إخراج ذكر الإثارة من القلب، فمن تجاوز عن الجاني، ولم يلاحظه - بعد التجاوز - بعين الاستحقار والازدراء فهو صاحب الصفح.
والإحسان تعميمٌ - للجمهور - بإسداء الفضل.
كما قال :﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ﴾ [ المائدة : ٢ ] فلا جَرَمَ ألا يسموا بالتناصر. ولمَّا سمَّاهم الحقُّ بالإسلام ورَضِيَ لَهم به صانهم عن التبديل فَعُصِمُوا.
ولما استمكن منهم النسيان أبدلوا بالعداوة فيما بينهم، وفساد ذات البين ؛ فأرباب الغفلة لا ألفة بينهم. وأهل الوفاء لا مباينة لبعضهم من بعض، قال صلى الله عليه وسلم :" المؤمنون كنفس واحدة "، وقال تعالى في صفة أهل الجنة :﴿ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴾[ الصافات : ٤٤ ].
ومَنْ لاحت عليه شواهدُ التغيُّر أَنَّى يليق به نعت الربوبية ؟
ولو قَطَعَ البقاءَ عن جميع ما أوجد فأي نقصٍ يعود إلى الصمد ؟
فردَّ الله - سبحانه - عليهم فقال تعالى :﴿ بَلْ أَنْتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ﴾.
والمخلوق لا يصلح أن يكون بعضاً للقديم ؛ فالقديم لا بعضَ له لأن الأحدية حقه، فإذا لم يكن له عدد لم يجز أن يكون له ولد. وإذا لم يجز له ولد لم تجز - على الوجه الذي اعتقدوه - بينهم وبينه محبة.
ويقال في الآية بشارة لأهل المحبة بالأمان من العذاب والعقوبة به لأنه قال :﴿ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ﴾.
ويقال بيَّن في هذه الآية أن قصارى الخلْق إمَّا عذاب وإمّا غفران ولا سبيل إلى شيء وراء ذلك.
﴿ فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ ﴾[ البقرة : ١٥٢ ] وشتان بين من أمره بذكره - سبحانه - وبين من أمره بذكر نعمته ! ثم جعل جزاءَهم ثوابَه الذي هو فضله، وجعل جزاء هذه الأمة خطابه الذي هو قوله تعالى :﴿ فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ ﴾[ البقرة : ١٥٢ ].
قوله جلّ ذكره :﴿ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ﴾.
المَلِكُ مِنَ المخلوقين مَنْ عَبَدَ المَلِكَ الحقيقي.
ويقال المَلِكُ مَنْ مَلَكَ هواه، والعبد من هو في رِقِّ شهواته.
ويقال ﴿ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ﴾ : لم يخرجكم إلى أمثالكم، ولم يحجبكم عن نفسه بأشغالهم، وسَهَّلَ إليه سبيلَكم في عموم أحوالِكم.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ العَالَمِينَ ﴾.
لئن آتي بني إسرائيل بمقتضى جوده فقد أغنى عن الإيتاء هذه الأمة فاستقلوا بوجوده، والاستقلال بوجوده أتمَّ من الاستغناء بمقتضى جوده.
وقال :﴿ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ ﴾ وقال لهذه الأمة :﴿ هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ﴾[ الملك : ١٥ ] فهؤلاء ذلَّل لهم وسهَّل عليهم، وأولئك صعَّب عليهم الوصول إلى ما أمرهم فيما أنزل الله عليهم.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾.
الارتداد على قسمين : عن الشريعة وإقامة العبودية وذلك يوجب عقوبة النفوس بالقتل، وعن الإرادة وذلك يوجب الشِّقْوَة - التي هي الفراق - على القلوب.
﴿ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾.
أي من شأن المؤمنين أن يتوكلوا، وينبغي للمؤمن أن يتوكل.
ويحتمل أن يقال التوكل من شرط الإيمان. وظاهر التوكل الذي لعوام المؤمنين العلم بأن قضاءه لا رادَّ له، وحقائق التوكل ولطائفه التي لخواص المؤمنين شهود الحادثات بالله ومِنْ الله ولله، فإنَّ مَنْ فَقَدَ ذلك انتفى عنه اسم الإيمان.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ ﴾.
تركوا آداب الخطابِ فصرَّحوا ببيان الجحد ولم يحتشموا من مجاهرة الرد.
ويقال : لا أملك إلا نفسي أي لا أدخرها عن البذل في أمرك. لا أملك إلا أخي فإنه لا يؤثر نفسه عن الذي أكلفه مِنْ قِبَلِكَ.
ويقال حيَّرهم في مفاوزهم حتى عموا عن القَصد ؛ فصاروا يبيتون حيث يصبحون، بعد طول التعب وإدامة السير، وكذلك من حيَّره اللهُ في مفاوز القلب يتقلب ليلاً ونهاراً في مطارح الظنون ثم لا يحصل إلا على مناهل الحيرة، فيحطون بحيث يرحلون عنها، فلا وجهَ للرأي الصائب يلوح لهم، ولا خلاص من بعده للتجويز يساعدهم، والذي التجأ إلى شهود الصمدية استراح عن نقلة فكره، ووقع في روح الاستبصار بعد أتعاب التوهم.
فأجابه بنطق التوحيد.
قوله جلّ ذكره :﴿ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ ﴾.
يعني إنما يُتَقَبَّلُ القربانُ مِمَّن طالَع في القربان مساعدةَ القدرة، وألقى توهُّم كونه باستحقاقه واستيجابه.
وقوله :﴿ أَن تَبُوأَ بإِثْمِى وَإِثْمِكَ ﴾ الذي تستوجبه بسبب قتلك إياي، فأضافه إلى نفسه، وإذا رأى المظلوم ما يحلُّ بالظالم من أليم البلاء يهون عليه ما يقاسيه ويطيب قلبه.
" من سنَّ حسنة فله أَجْرُها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنَّ سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ".
وكذلك إذا سقط العبد عن عين الله لم يصل بعده إلى ما كان عليه من معاودة تقريب الحق - سبحانه.
ويقال ابتغاء الوسيلة هو التقريب إليه بما سبق لك من إحسانه.
ويقال الوسيلة ما سبق لك من العناية القديمة.
ويقال الوسيلة اختياره لك بالجميل.
ويقال الوسيلة خلوص ( العقد ) عن الشك.
ويقال ابتغاء الوسيلة استدامة الصدق في الولاء إلى آخر العمر.
ويقال ابتغاء الوسيلة تجريد الأعمال عن الرياء، وتجريد الأحوال عن الإعجاب، وتخليص النَّفْسِ عن الحظوظ.
ويقال إفراط العدو في التقرب موجِبٌ للمقت، وتستر الولي في التودد إحكامٌ لأسباب الحب.
قوله جلّ ذكره :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبُهُمْ ﴾.
أولئك الذين لم تعجن طينتُهم بماء السعادة فَجُبِلوا على نجاسة الشِرْك فإن عدم الطهارة الأصلية لا يتنقَّى بفنون المعاملات.
ويقال :﴿ وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ ﴾ : مَنْ أرسل عليه غاغة الهوى، وسلَّط عليه نوازع المنى، وأذلَّه (. . . . ) القضاء، فليس يلقى عليه غير الشقاء.
قوله جلّ ذكره :﴿ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾.
وَرَدُوا من الهوان إلى الهوان، ووُعِدُوا بالفراق، وَرُدُّوا إلى الاحتراق، فلا تدري أي حالِهم أقرب من استيجاب الذل ؟ بدايتهم في الرد أم نهايتهم في الشِرْك والجحد ؟
قوله :﴿ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ﴾ : الإقساط الوقوف على حدِّ الأمر من غير ( حَنَفٍ ) إلى الحظ.
وأمَّا هذه الأمة فخصَّهم بالقرآن، وتولَّى - سبحانه - حفظه عليهم فقال :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾[ الحجر : ٩ ] فلا جَرَمَ لو غيَّرَ واحدٌ حركة أو سكوناً من القرآن لنادي الصبيان بتخطيئه.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَلاَ تَخْشَوا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ﴾.
إنَّ الخلْقَ تجري عليهم أحكامُ القدرة وأقسام التصريف ؛ فالخشية منهم فرعٌ من المحال، فإنَّ من ليس له شظية من الإيجاد فأنَّى تصحُّ منه الخشية ؟ !
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِى ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ ﴾.
لا تأخذوا على جحدِ أوليائي والركونِ إلى ما فيه رضاءُ أعدائي عِوَضاً يسيراً فتبقوا بذلك عنّي، ولا يُبَارَكُ لكم فيما تأخذون من العوض.
﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ. . . ﴾ فمن اتخذ بغيره حكماً، ولم يجد - تحت جريان حكمه - رضى واستسلاماً ففي شِرْكٍ خَامَرَ قلبَه، وكفرٍ قَارَنَ سِرَّه. وهيهات أن يكون على سَوَاء !
قال الله تعالى في هذه السورة :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ ﴾ وقال في موضع آخر ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ وقال في هذه الآية ﴿... فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ ﴾ أمّا في الأول فقال :﴿ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتىِ ثَمَنًا قَلِيلاً ﴾ ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرِونَ ﴾ لأن من لم يحكم بما أنزل الله فهو جاحد والجاحد كافر.
وفي الثاني قال :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ لأن مَنْ جازو حدّ القصاص واعتبار المماثلة، وتعدى على خصمه فهو ظالم لأنه ظَلَمَ بعضهم على بعض.
وأمّا ها هنا فقال :﴿ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ... فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ ﴾ أراد به معصيةً دون الكفر والجحد.
قال الله تعالى في هذه السورة :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ ﴾ وقال في موضع آخر ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ وقال في هذه الآية ﴿... فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ ﴾ أمّا في الأول فقال :﴿ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتىِ ثَمَنًا قَلِيلاً ﴾ ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرِونَ ﴾ لأن من لم يحكم بما أنزل الله فهو جاحد والجاحد كافر.
وفي الثاني قال :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ لأن مَنْ جازو حدّ القصاص واعتبار المماثلة، وتعدى على خصمه فهو ظالم لأنه ظَلَمَ بعضهم على بعض.
وأمّا ها هنا فقال :﴿ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ... فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ ﴾ أراد به معصيةً دون الكفر والجحد.
وفي الثاني قال :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ لأن مَنْ جازو حدّ القصاص واعتبار المماثلة، وتعدى على خصمه فهو ظالم لأنه ظَلَمَ بعضهم على بعض.
وأمّا ها هنا فقال :﴿ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ... فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ ﴾ أراد به معصيةً دون الكفر والجحد.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَاحْكُمْ بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ﴾.
لا تتملكك مودَّةُ قريبٍ أو حميمٍ، واعتنِقْ ملازمةَ أمرِ الله - تبارك وتعالى - بترك كل نصيبٍ لك.
ثم قال :﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ يعني طريقةً وسُنَّة ؛ أي أفردنا كلَّ واحدٍ منكم - معاشِرَ الأنبياء - بطريقة، وأمَّا أنت فلا يدانيك في طريقتك أحد، وأنت المقدَّمُ على الكافة، والمُفَضَّلُ على الجملة، ولو شاء الله لَسَوَّى مراتَبَكم، ولكن غاير بينكم ابتلاء، وفَضَّلَ بعضكم على بعض امتحاناً.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾.
مسارعة كل أحدٍ على ما يليق بوقته ؛ فالعابدون تقدمهم من حيث الأوراد، والعارفون همتهم من حيث المواجد.
ويقال استباق الزاهدين برفض الدنيا، واستباق العابدين بقَطْعِ الهوى، واستباق العارفين بنفي المُنى، واستباق الموحدين بترك الورى، ونسيان الدنيا والعُقبى.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴾.
يعني ( عِظهم ) بلسان العلم فإنْ أبَوْا قبولاً فشاهِدْهم بعين الحكم. ويقال : أشْدُدْ عليهم باعتناق لوازم التكليف، فإن أعرضوا فعاينهم بعين التصريف ؛ فإنَّ الحقِّ - سبحانه - بشرط التكليف يلزمهم ؛ وبحكم التصريف يؤخرهم ويقدمهم، فالتكليف فيما أوجب، والتصريف فيما أوجد، والعبرة بالإيجاد والإيجاب.
ويقال أيطلبون منك أن تحيدَ عن المحبة المثلى، وقد اتضحت لك البراهين وتجلَّى اليقين ؟
ويقال أيطمعون في استتار الحقائق في السرائر وقد تجلت شموس اليقين ؟
ويقال أتحسبون أن (. . . . ) ظلمة الشك لها سلطان، وقد متَتَعَ نهارُ الحقائق ؟. . . . كلاَّ، فإن ذلك محال.
ومحبة الحق للعبد لا تخرج عن وجوه : إمَّا أن تكون بمعنى الرحمة عليه أو بمعنى اللطف والإحسان إليه، والمدح والثناء عليه.
أو يقال إنها بمعنى إرادته لتقريبه وتخصيص محله.
وكما أن رحمته إرادته لإنعامه فمحبته إرادته لإكرامه، والفرق بين المحبة والرحمة على هذا القول أن المحبة إرادة إنعامٍ مخصوصٍ، والرحمة إرادة كل نعمة فتكون المحبةُ أخصَّ من الرحمة، واللفظان يعودان إلى معنًى واحد فإن إرادة الله تعالى واحدة وبها يريد سائر مراداته، وتختلف أسماء الإرادة باختلاف أوصاف المتعلق.
وأمَّا محبة العبد لله - سبحانه - فهي حالة لطيفة يجدها في قلبه، وتحمله تلك الحالة على إيثارِ موافقة أمره، وتَرْكِ حظوظ نفسه، وإيثارِ حقوقه - سبحانه - بكل وجه.
وتحصل العبارة عن تلك الحالة على قدر ما تكون صفة العبد في الوقت الذي يعبَّر عنه ؛ فيقال المحبة ارتياح القلب لوجود المحبوب، ويقال المحبة ذهاب المُحِبِّ بالكلية في ذكر المحبوب، ويقال المحبة خلوص المحب لمحبوبه بكل وجه، والمحبة بلاء كل كريم، والمحبة نتيجة الهمة فمن كانت همته أعلى فمحبته أصفى بل أوفى بل أعلى.
ويقال المحبة سُكْرٌ لا صحوَ فيه ودَهَشٌ في لقاء المحبوب يوجِب التعطُّلَ عن التمييز، ويقال المحبة بلاء لا يُرْجَى شفاؤه، وسقام لا يعرف دواؤه. ويقال المحبة غريمٌ يلازمك لا يبرح، ورقيبٌ من المحبوب يستوفي له منك دقائقَ الحقوق في دوام الأحوال، ويقال المحبة قضية توجب المحبة ؛ فمحبة الحق أوجبت محبة العبد.
قوله جلّ ذكره :﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾.
لولا أنه يحبهم لما أحبهم، ولولا أنه أخبر عن المحبة فأنَّى تكون للطينة ذِكْرُ المحبة ؟ ثم بيَّن الله تعالى صفة المحبين فقال :﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ ﴾. يبذلون المُهَجَ في المحبوب من غير كراهة، ويبذلون الأرواح في الذَبِّ عن المحبوب من غير ادخار شظية من الميسور.
ثم قال تعالى في صفتهم :﴿ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ ﴾ أي يجاهدون بنفوسهم من حيث استدامة الطاعة، ويجاهدون بقلوبهم بقطع المنى والمطالبات، ويجاهدون بأرواحهم بحذف العلاقات، ويجاهدون بأسرارهم بالاستقامة على الشهود في دوام الأوقات.
ثم قال :﴿ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ﴾ أي لا يلاحظون نُصْحَ حميم، ولا يركنون إلى استقلال حكم، ولا يجنحون إلى حظ ونصيب، ولا يزيغون عن سَنَنِ الوفاء بحالٍ.
ثم بيَّن - سبحانه - أن جميع ذلك إليه لا منهم فقال : و ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ متفضِّلٌ عليم بِمَنْ يَخُصَّ بذلك من عبيده.
و " إنما " حرفٌ يقتضي أن ما عداه بخلافه، وأعدى عدوِّك نَفْسُكَ - كما في الخبر - ومَنْ عادى نَفْسَه لم يخرج بالمخاصمة عنها مع الخلْق وبالمعارضة فيها مع الحق.
ويقال من قام لله بصدق انخنس دونه كلُّ مُبْطِل. ويقال إذا طلعت أنوار الحق أدبر ليل أهل الباطل.
ويقال : أَمَرَهم بأن يلاحظوهم بعين الاستصغار كما لاحظوا دين المسلمين بعين الاستحقار.
ويقال الربّانيُّ الذي ارتقى عن الحدود.
والربانيُّ مَنْ توقَّى الآفات ثم ترقَّى إلى الساحات، ثم تلقَّى ما كوشِفَ به من زوائد القربات، فخلا عن نفسه، وصفا عن وصفه، وقام لِرَبِّه وبربِّه.
وقد جعل الله الربانيين تالين للأنبياء الذين هم أولو الدِّين، فهم خلفاءٌ ينهون الخلْقَ بممارسة أحوالهم أكثر مما ينهونهم بأقوالهم، فإِنهم إذا أشاروا إلى الله حقق الله ما يُؤمِنُون إليه، وتحقق ما علقوا هممهم به.
ثم إن الحق - سبحانه قال :﴿ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ﴾ فلا ريح الصدق يشمون، ولا نَفَساً من الحقِّ يجدون.
ثم أثنى على نفسه فقال :﴿ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾ أي بل قدرته بالغة ومشيئته نافذة، ونعمته سابغة وإرادته ماضية.
ويقال ﴿ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾ أي يرفع ويضع، وينفع ويدفع، ولا يخلو أحدٌ عن نِعَمِ النفع وإن خلا عن نعم الدفع.
وقال لظالمي هذه الأمة :﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ﴾[ فاطر : ٣٢ ] ثم قال في آخر الآية :﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ﴾[ فاطر : ٣٣ ] أي أهل التقوى لأنه أهل المغفرة، فإِنْ تركتم التقوى فهو أهلٌ لأن يغفر.
ويقال لو أنهم راعوا أمرنا أصلحنا لهم أمرهم، ولكنهم وَقَفُوا فوُقِفُوا.
قوله جلّ ذكره :﴿ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴾.
المقتصد الواقف على حدِّ الأمر ؛ لا يُقَصِّر فيُنْقِص، ولا يجاوزُ فيزيد.
ويقال المقتصدُ الذي تساوى في هِمَّتِه الفقدُ والوجودُ في الحادثات.
ويقال بَيِّنْ للكافة أنك سيِّدُ ولد آدم، وأنَّ آدم دون لوائك.
ويقال بلِّغْ ما أُنْزِلَ إليك أنِّي أغفر للعصاة ولا أبالي، وأردُّ مِنَ المطيعين مَنْ شِئْتُ ولا أُبالي.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى القَوْمَ الكَافِرِينَ ﴾.
يحفظ ظاهرك من أن يَمَسَّكَ أذاهم، فلا يتسلط بعد هذا عليك عدوٌّ، أو يصون سِرَّك عنهم حتى لا يقع احتشامٌ منهم.
ويقال يعصمك من الناس حتى لا تغرق في بحر التوهم ؛ بل تشاهدهم كما هُمْ ؛ وجوداً بين طرفي العَدَم.
ثم مَنْ مَسَّتْه الحاجةُ حتى اتصف بالأكل وأصابته الضرورةُ إلى أن يَخْلُصَ من بقايا الطعام فَأَنَّى يليق به استيجابُ العبادة والتسميةُ بالإلهية ؟
انظر - يا محمد - كيف نزيد في إيضاح الحجة وكيف تلبَّس عليهم سلوكُ المحجة ؟
لئن ساءني أَنْ تَلْقَني بمساءةٍ | فقد سرَّني أَني خَطَرْتُ ببالِكا |
ومما أباحه من الطيبات الاسترواح إلى نسيم القرب في أوطان الخلوة، وتحريم ذلك : إنْ اسْتَبدَلَ تلك الحالة بالخلطة دون العزلة ؛ والعِشْرَةِ دون الخلوة، وذلك هو العدوان العظيم والخسران المبين.
أُريدُ وِصالَه ويريد هجري | فأتركُ ما أريد لما يريد |
وحقِّك ما نظرتُ إلى سواكا، ولا قُلْت بغيرك. . ولا حُلْتُ عن عهدك، وأمثال هذا. . .
وكلُّه في حكم التوحيد لغو، وعن شهود عهد الأحدية سهوٌ. . . ومَنْ أنتَ في الرِّفعةِ حتى تَعْدِمَ نَفْسَكَ ؟ وأين في الدار ديَّار حتى تقول بتركه أو تتحقق بوصله أو هجره ؟ كلا. . . بل هو الله الواحد القهار.
وكما أن الكفَّارة الشرعيةَ إمَّا عِتْق أو إطعامٌ وإما كسوةٌ، فإن لم تستطع فصيام ثلاثة أيام : فكفَّارتهم - على موجب الإشارة - إمّا بذل الروح بحكم الوَجْدِ، أو بذل القلب بصحة القصد، أو بذل النفس بدوام الجهد، فإن عجزتَ فإمساكٌ وصيامٌ عن المناهي والزواجر.
والإشارة فيه أنه يزيد نَفَادَ العقل بما يوجب عليه من الالتباس.
ومَنْ شَرِبَ من خمر الغفلة فسُكْرُه أصعب ؛ فشرابُ الغفلةِ يوجب البعد عن الحقيقة.
وكما أن من سَكِرَ من خمر الدنيا ممنوعٌ عن الصلاةِ فمن سَكِرَ من خمر الغفلة فهو محجوبٌ عن المواصلاتِ.
وكما أنَّ مَنْ شَرِبَ من خمر الدنيا وجبَ عليه الحدُّ فكذلك من شَرِبَ شرابَ الغفلة فعليه الحَدُّ إذ يُضْرَبُ بسياط الخوف.
وكما أنَّ السكرانَ لا يُقامُ عليه الحدُّ ما لم يُفِقْ فالغافل لا ينجح فيه الوعظُ ما لم ينته.
وكما أن مفتاحَ الكبائر شربُ الخمر ( فالغفلة )، أصلُ كلِّ زَلَّة، وسببُ كلِّ ذِلَّة وبدءُ كل بُعْد وحجبة عن الله تعالى.
ويقال لم يحرم عليه الشرابَ في الدنيا إلا وأباح له شرابَ القلوب ؛ فشراب الكبائر محظور وشراب الاستئناس مبذول، وعلى حسب المواجد حظى القوم بالشراب، وحيثما كان الشرابُ كان السكْر، وفي معناه أنشدوا :
فما ملَّ ساقيها وما ملَّ شارب | عقار لحاظ كأسه يسكر اللُّبَّا |
فصحوك من لفظي هو الوصل كله | وسكرك من لحظي يبيح لك الشربا |
وقوله ﴿ ثُمَّ اتَّقَوا وَّآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا ﴾ يعني اتقوا المنع وأحسنوا للخلْق وهذا للعموم. ثم اتقوا شهود الخلْق ؛ فأحسنُ الشهودِ الحقُّ، والإحسانُ أَنْ تعبد الله كأنك تراه، وهذا للخواص.
والله يحب المحسنين أعمالاً والمحسنين ( آمالاً ) والمحسنين أحوالاً.
ويقال الإشارة في هذا أَنْ مَنْ قصَدَنا فعليه نَبْذُ الأطماعِ جملةً، ولا ينبغي أن تكون له مطالبة بحالٍ من الأحوال.
وكما أنَّ الصيدَ على المُحْرِم حرامٌ إلى أن يتحلل فكذلك الطلب والطمع والاختيار - على الواجِد - حرامٌ ما دام مُحْرِمًا بقلبه.
ويقال العارفُ صيدُ الحق، ولا يكون للصيد صيد.
وإذا قَتَلَ المُحرِمُ الصيدَ فعليه الكفَّارة، وإذا لاحظ العارفُ الأغيارَ، أو طمع أو رغب في شيءٍ أو اختار لَزِمَتْه الكفَّارة، ولكن لا يُكْتَفى منه بجزاء المثل، ولا بأضعاف أمثال ما تصرَّف فيه أو طمع، ولكن كفَّارته تجرده - على الحقيقة - عن كل غير، قليلٍ أو كثير، صغير أو كبير.
ويقال الإشارة في هذا أَنْ مَنْ قصَدَنا فعليه نَبْذُ الأطماعِ جملةً، ولا ينبغي أن تكون له مطالبة بحالٍ من الأحوال.
وكما أنَّ الصيدَ على المُحْرِم حرامٌ إلى أن يتحلل فكذلك الطلب والطمع والاختيار - على الواجِد - حرامٌ ما دام مُحْرِمًا بقلبه.
ويقال العارفُ صيدُ الحق، ولا يكون للصيد صيد.
وإذا قَتَلَ المُحرِمُ الصيدَ فعليه الكفَّارة، وإذا لاحظ العارفُ الأغيارَ، أو طمع أو رغب في شيءٍ أو اختار لَزِمَتْه الكفَّارة، ولكن لا يُكْتَفى منه بجزاء المثل، ولا بأضعاف أمثال ما تصرَّف فيه أو طمع، ولكن كفَّارته تجرده - على الحقيقة - عن كل غير، قليلٍ أو كثير، صغير أو كبير.
والبيتُ حَجَرٌ والعبد مَدَرٌ، والحق سبحانه ربط المدر بالحجر ليُعْلَمَ أنه الذي لم يَزَلْ لا سبيل إليه للحدثان والغير.
ويقال شديد العقاب للخواص بتعجيل الحجاب إنْ زاغُوا عن الشهود لحظةً، غفور رحيم للعوام إن رجعوا إليه بتوبة وحسرة.
ويقال الخبيث ما لم يُخْرَجْ منه حقُّ الله تعالى، والطيب ما أُخْرجَ منه حقه - سبحانه. ويقال الخبيث ما ادخرتَه لنفسك، والطيب ما قدَّمتَه لأمره.
ويقال لا تتعرضوا للوقوف على محل الأكابر - حيث لا تستوجبون ذلك - فيسوءكم تقاصرُ رتبتك.
ويقال إذا بدا من الإعراض علم فاطلبوا له عندكم وجهاً من التفال ولا تطلبوا أسرار الباري، واركنوا إلى روْح المنى في استدفاع ما ظلكم ولا تبحثوا عن سر ذلك، وراعوا الأمر مجملاً.
تبيَّن يومَ البيْن أنَّ اعتزامَه | على الصبر من إحدى الظنون الكواذب |
ويقال من يفرغ إلى غيره يتشاغل عن نفسه، ومن اشتغل بنفسه لم يتفرَّغ إلى غيره.
والنسخُ هو الإزالة، وذلك جائزٌ في العبادات.
ومعنى النسخ يوجد في سلوك المريدين ؛ فهم في الابتداء فَرْضُهم القيام بالظواهر من حيث المجاهدات، فإذا لاح لهم من أحوال القلوب شيء آلت أحوالهم إلى مراعاة القلوب فتسقط عنهم أوراد الظاهر، فهو كالنسخ من حيث الصورة.
قال تعالى :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾[ البقرة : ١٠٦ ]. واتصافهم بمراعاة القلوب أتمُّ بتأديبهم بأحكام المعاملات.
ويقال كلٌ يطلب سُؤْله على حسب ضرورته وحالته، فمنهم من كان سكونه في مائدة من الطعام يجدها، ومنهم من يكون سكونه في ( فائدة ) من الموارد يَرِدُها، وعزيز منهم من يجد الفناء عن برهان يتأمله، أو بيان دليل يطلبه.
ويقال كلٌ يطلب سُؤْله على حسب ضرورته وحالته، فمنهم من كان سكونه في مائدة من الطعام يجدها، ومنهم من يكون سكونه في ( فائدة ) من الموارد يَرِدُها، وعزيز منهم من يجد الفناء عن برهان يتأمله، أو بيان دليل يطلبه.
وقال في صفتهم :﴿ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ﴾[ الأنفال : ٢ ].
وفَرْقٌ بين مَنْ زيادةُ إيمانه بآياته التي تتلى عليهم وبين من يكون سكونهم إلى كرامات وعطايا تُبَاحُ لهم.
ثم إن عيسى - عليه السلام - حفظ أدب الخطاب فلم يُزَكِّ نَفْسَه، بل بدأ بالثناء على الحق - سبحانه - فقال : تنزيهاً لك ! إنني أنزهك عما لا يليق بوصفك.
ثم قال :﴿ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ ﴾ أي إني إن كنت مخصوصاً مِنْ قِبَلِكَ بالرسالة - وشرط النبوة العصمة - فكيف يجوز أن أفعل ما لا يجوز لي ؟
ثم إني ﴿ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ﴾ : كان واثقاً بأن الحقَّ - سبحانه - عليم بنزاهته من تلك القالة.
﴿ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى ﴾ : أي علمك محيطٌ بكل معلوم.
﴿ وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ﴾ أي لا أطلع على غيبك إلا بقدر ما تُعَرِّفُني بإعلامك. ﴿ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ ﴾ الذي لا يخرج معلوم عن علمك، ولا مقدور عن حكمك.
ويقال أنت العزيز الحكيم الذي لا يضركَ كُفْرُهم.
ويقال ﴿ العَزِيزُ ﴾ القادر على الانتقام منهم، فالعفو ( عند ) القدرة سِمَةُ الكرمِ، وعند العجز أمارةُ الذُّل.
ويقال إن تغفر لهم فإنك أعزُّ من أن تتجمل بطاعة مطيعٍ أو تنتقص بِزِلَّةِ عاصٍ. وقوله ﴿ الحَكِيمُ ﴾ ردٌّ على من قال : غفران الشّركِ ليس بصحيح في الحكمة.
قوله جلّ ذكره :﴿ رَضِي اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ ﴾.
ورضاءُ الحق - سبحانه - إثباتُ مَحَلّ لهم، وثناؤه عليهم ومدحُه لهم، وتخصيصهم بأفضاله وفنون نواله. ورضاؤهم عن الحق - سبحانه- في الآخرة وصولهم إلى مناهم ؛ فهو الفوز العظيم والنجاة الكبرى.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ ﴾.
من الإبعاد والإسعاد، والصد والرد، والدفع والنفع، والقمع والمنع.