عدد آياتها : ١٢٠
بيان إجمالي للسورة
نزلت هذه السورة في المدينة وفي هذا أخرج الترمذي عن عبد الله بن عمرو قال : آخر سورة نزلت سورة المائدة والفتح. وكذلك أخرج الحاكم عن جبير بن نفير قال : حججت فدخلت على عائشة فقالت لي : يا جبير تقرأ المائدة ؟ فقلت : نعم. فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه. وما وجدتم فيها من حرام فحرموه.
وقد تضمنت هذه السورة فيضا من المعاني والمواقف والمشاهد والمواعظ والأحكام. وجاء في طليعة ذلك كله إيجاب الوفاء بالعقود وهي العهود والمواثيق، وما كانوا يتعاقدون عليه من حلف وغيره. على أن ذلك جاء مجملا ثم عقب بعد ذلك بالتفصيل. وأول ذلك إباحة الأنعام من الإبل والبقر والغنم وغير ذلك من أنواع البهائم المباحة كالظباء وبقر الوحش ونحو ذلك، مع النهي عن الاصطياد حال الإحرام. فإذا أحرم المسلم حُظر عليه الصيد بكل صوره وأشكاله حتى إذا أحل المحرم بات الاصطياد في حقه مباحا كالأصل.
وقد تضمنت السورة جانبا من المحظورات والمناهي التي حذر الباري جل وعلا من اكتساب شيء منها. ومن جملة ذلك الأكل من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به وكذلك المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع باستثناء ما ذكي قبل موته، وكذلك ما ذبح من أجل الأصنام. وكذا الاستقسام بالأزلام وهي القداح التي كانوا يستعملونها في الاستخارة إذا أرادوا أن يفعلوا شيئا، خلافا لعقيدة الحق التي يركن من خلالها المسلم إلى الإيمان بقدر الله مع التوكل عليه تمام التوكل.
وفي السورة إعلان مثير يشير إلى اكتمال ملة الإسلام. هذا الدين الكامل الشامل الذي يقيم حياة البشرية على المحجة السوية المستقيمة. المحجة الناصعة البيضاء التي لا يعتريها عوج ولا انحراف ولا أمت. ( ١ ) ذلكم الدين الذي أركزه الله للعالمين ليكون هاديا للبشرية في هذا الزمان فتحظى بالنجاء والفلاح في الدارين.
وفي السورة تحليل للطيبات من المطعومات والمشروبات. وكذلك طعام أهل الكتاب من اليهود والنصارى فإنه مباح، يضاف إلى ذلك إباحة الزواج من نسائهم المحصنات، أي العفائف وفي السورة بيان بأٍركان الوضوء ووجوب التطهير من الجنابة بالماء. وإذا عز الماء أو كان استعماله ضرر فبالطهارة الضرورية وهي التيمم بالتراب الطاهر. وذلك على سبيل التخفيف والتسهيل على المسلمين، ودفعا للحرج أن يصيبهم، فإنه لا مكان للحرج أصلا في شريعة الإسلام.
وفي السورة تنويه واضح بقصة النصارى واليهود من حيث النقض للعهود والمواثيق والتحريف لكلام الله عن مواضعه. ذلك التحريف الفاضح الذي حوى من صور التزييف والتغيير والتبديل لكلمات الله ما استحالت به التوراة والإنجيل إلى ركام من الكلام الملفق المفترى. الكلام الذي انزلق بهاتين الأمتين إلى أغوار الضلالة والغواية والكفران، فضلا عن الانحراف المذهل عن تعاليم موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام.
وفي هذا الخضم الفظيع من التحريف والتضليل والجحد يعلن الله في صراحة مكشوفة عن كفران أولئك الذين جاهدوا بإلهية المسيح عليه الصلاة والسلام وهو عبد من عباد الله جيء به من غير أب ليكون بشيرا ونذيرا لبني إسرائيل.
وفي السورة بيان بفضل الله ومنته على بني إسرائيل إذ جعل أكثر النبيين فيهم، وجعل فيهم ملوكا أولي قدرة وسلطان عظيمين. وإذاك أمرهم نبيهم موسى بتكليف من الله أن يقاتلوا العمالقة الذين كانوا مستحوذين على بيت المقدس، لكنهم نكلوا عن الجهاد خورا وجبنا، فعاقبهم الله بالضلال في أٍرض التيه أربعين عاما، يسيرون من غير أن يهتدوا للخروج، فظلوا على هذه الحال من الحيرة والضياع حتى فني هذا الجيل ثم جيء بجيل آخر يقوده يوشع بن نون الذي دخل ببني إسرائيل الأرض المقدسة بعد أن من الله عليهم في التيه بالمن والسلوى وانبجاس الماء من الصخر والتظليل بالغمام. ولما دخلوا بيت المقدس قالوا فارهين بطرين وهم يزحفون على أستاههم : حبة في شعرة، وذلك في غاية من البطر وسماجة الطبع بدلا من قولهم : حطة، كما أمرهم نبيهم يوشع عليه السلام.
وفي السورة هذا النبأ المثير. النبأ الذي يكشف عن فظاعة الحسد وهو يجد قراره في النفس البشرية ليحرضها على اكتساب الأهوال والموبقات بغيا بغير حق. إنه الحسد الأثيم الأسود الذي يركب النفس البشرية عامة ليسومها القض والاستنفار فتستمرئ الإيذاء والإضرار وفعل المناهي والمحظورات. إنه الحسد الفاضح الخسيس الذي لا ينجو منه بنو آدم غير أولي العزائم من الناس أو المبرئين من هذا الدرن الوبيل، وقليل ما هم. يستبين ذلك من قصة ابني آدم وهما أخوان يجترئ أحدهما على قتل آخيه الأخر بغيا وحسدا.
وفي السورة تحذير شديد من اتخاذ أهل الكتاب أولياء، وإنما المؤمنون بعضهم أولياء بعض. فما ينبغي للمسلمين أن يوالوا الكافرين ليتخذوا منهم الحلفاء أو الأصدقاء أو الأخلاء. ولئن فعلوا ذلك فلسوف يجدون أنفسهم ينسلخون من ربقة الإسلام رويدا رويدا، وهو ما يخطط له المشركون والظالمون من اليهود والنصارى. وتلكم هي الفاقرة القاصمة التي يسقط فيها المسلمون إذا هم مالأوا الكافرين على حساب الإسلام والمسلمين.
وفي السورة بيان أحكام اليمين من حيث ضروبه، وأولها يمين اللغو ثم اليمين المنعقدة وهي التي تجب فيها الكفارة عقيب الحنث. ثم اليمين الفاجرة الغموس التي يكتسبها الخاطئ كذبا متعمدا. وبيان ذلك كله في موضعه لدى التفصيل إن شاء الله.
وفي السورة نهي قاطع عن جملة محظورات، وهي الخمر والميسر الأنصاب والأزلام، فإن ذلك كله إثم وهو شر من شرور الشيطان. والشيطان كائن جني ماكر وخبيث يعمل الليل والنهار لا يفتر من أجل الوقيعة بين المسلمين ولإركاز بذور الخصام والنزاع بينهم بسبب الخمرة التي تمس العقول فتضعفها إضعافا، وكذلك الميسر الذي يثير في نفوس المتقامرين الكراهية والنزاع.
وفي السورة تنديد بواحد من مخلفات الجاهلية الضالة. وقد تجلى ذلك في تصور شنيع فاسد. تصور قائم على الإشراك الظالم والوثنية السخيفة العمياء. وذلك فيما سمي من الأنعام لدى الجاهليين بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. وتلك أسماء أطلقها المشركون على بعض الأنعام لتكون من حظ الآلهة، فلا يسري عليها شيء من تصرف معروف كالبيع أو الحمل أو الذبح.
وفي السورة أيضا ذكر لبعض المعجزات مما أوتي عيسى عليه السلام كتكلمه وهو في المهد ونفخه فيما يشبه الطير من الطين ليصبح طيرا حقيقيا. وكذلك إبراؤه الأكمه والأبرص وإحياؤه الموتى، كل ذلك فإذن الله. وأخيرا دعاؤه ربه أن ينزل على بني إسرائيل مائدة من السماء ليروها ويأكلوا منها لعلهم يؤمنون. وقد أنزلها الله عليهم في الراجح. والله تعالى أعلم.
ﰡ
قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد ﴾.
هذه الآية بالرغم من قصرها وإيجازها، فإنها يتجلى فيها الإعجاز في أنصع صوره. فهي بقلة ألفاظها تتضمن جملة من المعاني المختلفة المنسجمة سواء في ذلك الأمر بالوفاء وتحليل بهيمة الأنعام وإباحة الصيد لغير المحرم، يضاف إلى ذلك استثناء يعقبه استثناء. وذلك كله في كلمات معدودة تضمنها آية بليغة مثلى. لا جرم أن ذلك ضرب من الإعجاز المثير.
وقد حكي في هذا الصدد أن أصحاب الكندي قالوا له : أيها الحكيم، اعمل لنا مثل هذا القرآن. فقال : نعم ! أعمل مثل بعضه. فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال : والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد. إني فتحت المصحف فخرجت سورة " المائدة " فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث، وحلل تحليلا عاما، ثم استثنى استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد١.
قوله :﴿ أوفوا بالعقود ﴾ يعني العهود. وهي ما كانوا يتعاقدون عليه من الحلف وغيره. وقيل : العقود التي أمر الله بالوفاء بها ستة هي : عهد الله، وعقد الحلف، وعقد الشركة، وعقد البيع، وعقد النكاح، وعقد اليمين. وقيل : يعني بذلك عقود الدين. وهي ما عقده المرء على نفسه من بيع وشراء وإجارة وكراء ومناكحة وطلاق ومزارعة ومصالحة وتمليك وتخيير وعتق وتدبير وغير ذلك من الأمور، ما كان ذلك غير خارج عن الشريعة. وكذلك ما عقده على نفسه لله من الطاعات كالحج والصيام والاعتكاف والنذر وما أشبه ذلك من طاعات الإسلام.
وقد استدل بعض أهل العلم بهذه الآية على عدم خيار المجلس في البيع، لأن قوله ﴿ أوفوا ﴾ يدل على لزوم العقد وثبوته ويقتضي نفي خيار المجلس. وهو قول الحنفية والمالكية، خلافا لأكثر العلماء وفيهم الشافعية والحنابلة. إذ قالوا بلزوم خيار المجلس في البيع هو أن كلا من العاقدين مخير في إمضاء العقد أو عدم إمضائه ما دام في مجلس العقد، إلا أن يتفرقا بأبدانهما من مجلس العقد. فإن تفرقا كلاهما أو أحدهما فقد لزم العقد، واحتجوا لذلك بخبر الصحيحين عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " وفي لفظ آخر للبخاري " إذ تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا " وهذا صريح في إثبات خيار المجلس الذي يأتي عقيب البيع وهو من مقتضياته شرعا فالتزامه من تمام الوفاء بالعقود٢.
قوله :﴿ أحلت لكم بهيمة الأنعام ﴾ جاءت هذه الآية لتنزيل ما كان يراود أذهان العرب من ضلالات فاسدة عما أسموه البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. أما البهيمة، فهي كل ذات أربع قوائم ولو في الماء، أو كل حي لا يميز. وجمعه بهائم. والبهمة : أولاد الضأن والمعز والبقر٣. والأنعام هي الإبل و البقر والغنم، وقيل : الأنعام : الأزواج الثمانية، ويأتي بيانها فيما بعد إن شاء الله. وقيل بهيمة الأنعام : الظباء وبقر الوحش ونحوها. مما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار وعدم الأنياب.
قوله :﴿ إلا ما يتلى عليكم ﴾ ما في موضع نصب على الاستثناء. والتقدير : إلا ما يقرأ عليكم في القرآن والسنة. وفي القرآن كقوله :﴿ حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ﴾ فهذه وإن كانت من الأنعام فإنها محرمة بما أصابها من عوارض كالخنق والوقذ والنطح وغير ذلك. أما في السنة فكقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم والنسائي : " كل ذي ناب من السباع حرام ".
قوله :﴿ غير محلى الصيد وأنتم حرم ﴾ غير منصوب على الحال. والواو للحال ﴿ أنتم حرم ﴾ في موضع نصب على الحال. وهذا الاستثناء التالي. وكلا الاستثناءين من قوله :﴿ أحلت لكم بهيمة الأنعام ﴾ أما قوله :﴿ غير محلى الصيد وأنتم حرم ﴾ فتأويله أن ما كان صيدا فهو حلال في الإحلال. أما الإحرام فهو حرام.
قوله :﴿ إن الله يحكم ما يريد ﴾ أي ما يريده من الأحكام مما فيه خير لكم ومصلحة، وهو سبحانه الحاكم لا معقب لحكمه ولا راد لما يقضي٤.
٢ - تفسير ابن كثير ج ١ ص ٣ وتفسير القرطبي ج ٦ ص ٣١..
٣ - القاموس المحيط ص ١٣٩٨..
٤ - الكشاف ج ١ ص ٥٩١ وتفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٦..
قيل في سبب نزول هذه الآية : إن المشركين كانوا يحجون ويعتمرون ويهدون فأراد المسلمون أن يصدوهم فأنزل الله تعالى ﴿ لا تحلوا شعائر الله ﴾ ١. والشعائر جمع شعيرة وهي في اللغة العلامة. والمراد بها هنا البدنة تهدى لبيت الله الحرام. وإشعارها بجز سنامها حتى يسيل منه الدم فيعلم من يراها أنها هدي فلا يمسها بأذى. وقيل : شعائر الله هي جميع مناسك الحج وهو قول ابن عباس. فقد نهى الله عن التهاون بحرمة شيء من هذه الشعائر أو أن يحال بينها وبين المتنسكين بها.
وقيل : شعائر الله جميع ما أمر الله به ونهى عنه. أي دين الله كله٢ فقد نهى الله عن التهاون بشيء من محارم الله مما حواه دينه الواسع الكبير.
وقوله :﴿ ولا الشهر الحرام ﴾ الشهر الحرام اسم جنس يدل على جميع الأشهر الحرم وهي أربعة : واحد فرد وثلاثة سرد٣ وفي صحيح البخاري عن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع : " إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا منها : أربعة حرم، ثلاث متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم. ورجب الذي بين جمادى وشعبان ".
والمراد بقوله :﴿ ولا الشهر الحرام ﴾ : لا تستحلوا القتال في الأشهر الحرم، لكن ذلك منسوخ. وعلى هذا يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم كغيرها من أشهر السنة كاملة. وهو قول الجمهور. واحتجوا بقوله تعالى :﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾.
قوله :﴿ ولا هدي ﴾ الهدي، جمع ومفرده هدية بسكون الدال. وهي ما يهدى من الأنعام ( الإبل والبقر والغنم ) إلى بيت الله الحرام تقربا إلى الله. والمراد سوق الهدي إلى الحرم وذبحها فيه وعدم ترك ذلك – أي الهدي – لما فيه من تعظيم شعائر الله، وأن لا يتعرض أحد للهدي بالغصب أو بالمنع من بلوغ محله.
قوله :﴿ ولا قلائد ﴾ جمع قلادة، وهي ما يقلد به الهدي من عروة أو لحاء شجر أو غير ذلك لتكون علامة على كونه هديا. والمقصود أن لا تتركوا تقليد الهدي في أعناقها لتتميز بذلك عما سواها من الأنعام ليعلم الناس أنها هدي، أي مهداة إلى الكعبة فلا يمسها أحد بسوء ولا يمنعها من بلوغ محلها.
قوله :﴿ ولا ءامين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ﴾ آموا البيت الحرام، هم قاصدوه من الحجاج والعمار وغيرهم. والمعنى : لا تستحلوا قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام الذين يبتغون الفضل من الله بالتجارة في موسم الحج. لا ينبغي لكم أن تمنعوهم من ذلك، لأنهم إنما قصدوا البيت الحرام طلبا للرزق والمعاش وطلبا لرضوان الله والدار الآخرة وفي ظنهم، وإن كانوا لا ينالون ذلك.
على أن هذا الحكم منسوخ. وقد نسخه قوله تعالى :﴿ إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ﴾ وقوله :﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ﴾ وقوله :﴿ واقتلوهم حيث وجدتموهم ﴾ وقد حكى الطبري الإجماع على أن المشرك يجوز قتله إذا لم يكن له أمان، وإن أم البيت الحرام أو بيت المقدس٤.
قوله :﴿ وإذا حللتم فاصطادوا ﴾ حللتم، أي فرغتم من إحرامكم. أحل في اللغة دخل في أشهر الحل. أو خرج من ميثاق كان عليه٥ والمعنى : إذا فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه فقد أبحنا لكم ما كان محرما عليكم من الصيد في حال الإحرام.
وثمة مسألة في هذا الصدد اختلف فيها علماء الأصول وهي : الأمر بعد الحظر ماذا يفيد ؟ ثمة قولان في ذلك :
القول الأول : الأمر الوارد بعد الحظر يفيد الوجوب. وهو قول الحنفية وبعض الشافعية، وهو قول القاضي الباقلاني والمعتزلة، واختاره الرازي. واحتجوا لذلك بأن الإلزام هو مقتضى صيغة الأمر " افعل " عند الإمكان إلا أن يقع مانع والمقتضي للوجوب " صيغة الأمر " قائم وتقدم الحظر لا يصلح مانعا. ودليل ذلك قوله تعلى :﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين ﴾ فقتلهم هنا على الوجوب، لأن المراد الجهاد، واحتجوا أيضا بأمر الحائض والنفساء وبالصلاة والصوم وقد ورد بعد الحظر وهو للوجوب٦.
القول الثاني : لأمر الوارد بعد الحظر يفيد الإباحة. وهو قول أكثر الشافعية. وقال به الآمدي، واحتجوا لذلك من الكتاب الحكيم بقوله تعالى :﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ﴾ فقد كان الانتشار محظورا ضرورة الالتزام بتلبية الدعوة بالدخول للصلاة ثم أمرهم بعد ذلك بالانتشار. وكذلك قوله تعالى :﴿ فإذا طمعتم فانتشروا ﴾ ونظير ذلك قوله تعالى هنا :﴿ إذا حللتم فاصطادوا ﴾ ومقتضاه أن الأمر بالاصطياد بعد الحظر على الإباحة.
وثمة قول ثالث في المسألة وهو أن الحكم هنا يرد إلى ما كان عليه قبل النهي، فإن كان واجبا رده واجبا، وإن كان مستحبا فمستحب، أو مباحا فمباح٧.
قوله :﴿ ولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوركم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ﴾
لا يجرمنكم، أي لا يحملنكم، وهو يتعدى إلى مفعولين. وتقديره : لا يكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا. ومنه أجرم واجترم أي كسب واكتسب. وجريمة أهله أو القوم أي كاسبهم. والجارم بمعنى الكاسب. ولا جرم أي لا بد أو حقا أو لا محالة. ثم كثر حتى تحول إلى معنى القسم، فلذلك يجاب عنه باللام فيقال : لا جرم لآتينك٨.
والشنآن، معناه البغض. شنئت الرجل أشنؤه شنأ وشنأة وشنآنا، إذا أبغضته. والمعنى : لا يحملنكم أو يكسبنكم بغض قوم بصدهم إياكم أن تعتدوا عليهم بصدهم. وذلك لما صد الكافرون المسلمين عن البيت عام الحديبية ثم مر بهم ناس من المشركين يريدون العمرة، فقال المسلمون : نصدهم كما صدنا أصحابهم فنزلت هذه الآية. ومقتضاها أن لا تعتدوا على هؤلاء ولا تصدوهم لأن صدوكم.
وقوله :﴿ أن تعتدوا ﴾ في محل نصب مفعول به ثان. والأول كاف المخاطب. والتقدير : لا يجرمنكم بغض قوم الاعتداء ٩ أي لا يحملنكم بغضهم على الاعتداء عليهم بصدهم عن البيت والانتقام منهم بإلحاق المكروه بهم.
قوله :﴿ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ﴾ البر هو فعل الخيرات. والتقوى هو ترك المنكرات. وقيل البر يتناول الواجب والمندوب. والتقوى رعاية الواجب. وقيل : البر والتقوى بمعنى واحد. وإنما كرر باختلاف اللفظ على سبيل التأكيد والمبالغة.
والإثم، معناه الحكم الذي يترتب على الجرائم. والعدوان هو ظلم الناس. وقيل : الإثم والعدوان بمعنى الانتقام والتشفي.
والمعنى أن الله يأمر عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات وعلى ترك المنكرات، وينهاهم عن التناصر أو المعاونة على فعل المحارم والمآثم وكل صور الباطل من ظلم ومجاوزة وعدوان ١٠ وفي جملة ذلك كله أخرج الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " قيل : يا رسول الله هذا نصرته مظلوما، فكيف أنصره إذا كان ظالما ؟ قال : " تحجزه وتمنعه من الظلم فذاك نصره ".
وأخرج أحمد أيضا عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسيلم قال : " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم ".
وروى البزار عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدال على الخير كفاعله " وله شاهد في الصحيح وهو قوله : " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل من اتبعه إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا "
وروى الطبراني عن ثمران بن صخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من مشى مع ظالم ليعينه، وهو يعلم أنه ظالم، فقد خرج من الإسلام ".
قوله : " واتقوا الله إن الله شديد العقاب " يأمر الله عباده أن يتقوه، وذلك بفعل الطاعات ومجانبة المحظورات، فالله عقابه أليم شديد لا يطيقه أحد. وفي ذلك من التهديد والوعيد ما فيه مزدجر.
٢ - فسير ابن كثير ج ١ ص ٤ والقاموس المحيط ص ٥٣٤ وتفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٧..
٣ - السرد: المتابعة. انظر القاموس المحيط ص ٣٦٧..
٤ - تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥ وتفسير الرازي ج ١١ ص ١٣٢..
٥ - القاموس المحيط ص ١٢٧٥..
٦ - المحصول للرازي ج ١ ص ٢٣٦ وفواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت ج ١ ص ٢٠..
٧ - نفس المصدرين السابقين وتفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥..
٨ - القاموس المحيط ص ١٤٠٥ والدر المصون لأحمد يوسف الحبلي ج ٤ ص ١٨٨..
٩ - تفسير القرطبي ج ٦ ص ٤٥، ٤٦ والكشاف ج ١ ص ٥٩٢..
١٠ - تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٦ وتفسير الرازي ج ١١ ص ١٣٤..
بعد أن أحل الله بهيمة الأنعام استثنى من ذلك جملة محرمات كان أهل الجاهلية يأكلونها، فنعرض لها في التفصيل الآتي :
أولا : الميتة. وهي البهيمة من الأنعام تموت حتف أنفها. وهذه الميتة يحتبس فيها الدم فتفسد وتتعفن وبذلك يصبح أكلها ضارا. ويستثنى من الميتة السمك فإنه حلال سواء مات بتذكية أو غيرها. وفي ذلك روى مالك في الموطأ وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر فقال : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته ".
ثانيا : الدم ويراد به المسفوح١. فقد روي عن ابن عباس أنه سئل عن الطحال فقال : " كلوه " فقالوا : إنه دم. فقال : " إنما حرم عليكم الدم المسفوح " ومن رواية محمد بن إدريس الشافعي عن ابن عمر مرفوعا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال ".
ثالثا : لحم الخنزير. فهو كله حرام كله سواء في ذلك أكله أو بيعه وشراؤه أو الانتفاع به. ويستثنى من ذلك شعر الخنزير فإنه يجوز استعماله في الخرازة وهي خياطة الثوب. وما عدا ذلك فحرام كله، ذلك أن الخنزير نجس العين أصلا. وقيل في اشتقاق الخنزير : إنه من الخزر بالتحريك، ومعناه ضيق العين وصغرها. والخزيرة : النظر بلحظ العين٢.
رابعا : وما أهل لغير الله به. وذلك من الإهلال وهو رفع الصوت. يقال : أهل فلان بالحج إذا لبى به. أي قال : لبيك اللهم بحج. وكذلك إذا استهل الصبي إذا صرخ. واستهلاله معناه صراخه عند الولادة. فقد كان من عادة الجاهليين أن يقولوا عند الذبح : باسم اللات والعزى. أو غير ذلك من الأصنام، فحرم الله أكل مثل هذه الذبائح. وعلى هذا فأيما ذبيحة ذكر عليها اسم غير اسم الله سواء كان هذا صنما أو وثنا أو طاغوت من الطواغيت أو غير ذلك من المخلوقات، فإن هذه الذبيحة حرام أكلها بالإجماع٣.
خامسا : المنخنقة. وهي التي تموت خنقا، إما قصدا بفعل آدمي، كعادة الجاهلين كانوا يخنقون الشاة فإذا ماتت أكلوها. أو أن تختنق اتفاقا بأن يدخل رأسها بين عمودين في شجرة أو نحوها فتختنق فتموت. ومن جملة ذلك أيضا ما يخنق فيها بحبل الصياد. وغير ذلك من وجوه الاختناق الذي تصير به البهيمة ميتة فيحرم أكلها.
سادسا : الموقوذة. من الوقذ، وهو شدة الضرب. وشاة وقيذ وموقوذة : قتلت بالخشب٤ والمراد بالموقوذة : البهيمة أو الحيوان الذي يضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى يموت. وذلك كما لو ضربه بالعصا أو الخشبة أو الحجر أو نحو ذلك مما ليس له حد فيجرح. فأيما بهيمة تموت ضربا من غير أن يسيل دمها فهي في حكم الميتة.
وقد ورد في الصحيح أن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله ! إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب قال : " إذا رميت بالمعراض فخزق فكله، وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله " وبذلك قد فرق بين ما أصاب البهيمة بما يخرج كالسهم والسكين والمزراق ونحوه فيحل أكلها، وما أصاب بعرض الآلة أو الأداة فجعله وقيذا لا يحل. وهو ما لا خلاف فيه.
أما لو أرسل كلبه على صيد فقتله بثقله أو صدمه صدما ولم يجرحه فمات فإنه لا يحل أكله، لأنه يجري عليه حكم الموقوذة، إذ لم يرق منه دم. وهو قول الحنفية والحنابلة وبعض الشافعية. وقيل : إنه حلال لعموم قوله تعالى :﴿ فكلوا مما أمسكن عليكم ﴾ وهو أحد القولين للشافعي٥.
سابعا : المتردية. وهي التي تتردى من العلو إلى الأسفل فتموت، سواء كان التردي من جبل أو سطح دار شاهقة أو في بئر أو حفرة، ويستوي في ذلك ما لو تردت بنفسها أو رداها غيرها. فالمتردية التي تسقط من موضع مشرف فتموت. وهذا من الميتة، لأنها ماتت من غير أن يسيل منها الدم.
ويلحق بذلك ما لو أطلق سهمه فأصاب صيدا، فتردى من أعلى إلى أسفل، فمات فإنه لا يحل أكله، لأنه ربما مات بالتردي وليس بالسهم٦.
ثامنا : النطيحة. على وزن فعيلة بمعنى مفعولة. أي منطوحة. وهي الشاة تنطحها أخرى أو غيرها من النواطح فتموت قبل أن تذكى. فالنطيحة التي ماتت من النطح أي بسبب نطح غيرها لها فهي حرام وإن جرحها قرن الناطحة وخرج منها الدم٧.
تاسعا : وما أكل السبع. السبع كل حيوان له ناب ويعدو على الإنسان والدواب ويفترسها كالأسد والنمر والذئب وغيره من ذوات الأنياب المفترسة. وفي الجملة فهو المفترس من الحيوان. والمراد هنا ما أكل منه السبع فمات قبل أن يذكى وفيه حياة، فهو حرام. فقد كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع بهيمة فقتلها وأكل بعضها أكلوا بقيتها، فحرمه الله تعالى. وفي الآية لفظ محذوف والتقدير : وما أكل منه السبع. أما ما أدركه أهل البهيمة منها قبل أن تموت فيحل أكله. وهذا مقتضى قوله :﴿ إلا ما ذكيتم ﴾ والاسم الموصول في محل نصب على الاستثناء المتصل عند جمهور أهل العلم. وهو راجع على كل ما أدركت ذكاته من المذكورات السابقة باستثناء ما لا يقبل الذكاة من الميتة ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به. فيكون العود على المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، فما أدركوه من كل ذلك وفيه بقية حياة يضطرب المذبوح فذكوه فهو حلال.
على أن أدنى ما يدرك به الذكاة أن يجده وهو يحرك الأذن أو الذنب أو الجفن فإنه يحل أكله بعد تذكيته. وقيل : الاستثناء مختص بقوله :﴿ وما أكل السبع ﴾ ولا وجه لهذا الاختصاص. وقيل : الاستثناء منقطع. أي حرمت عليكم هذه الأشياء، لكن ما ذكيتم فهو غير حرام وهو قول الإمام مالك٨.
وقوله :﴿ ذكيتم ﴾ كمن الذكاة. وهي في اللغة بمعنى التمام. فمعنى ﴿ ذكيتم ﴾ أدركتم ذكاته على التمام. وتذكية الذبيحة مأخوذة من التطيب. فإذا ذبح الحيوان وسال دمه فقد تطيب.
أما ما تقع به الذكاة، فقد ذهب الجمهور إلى أن كل ما أفرى الأوداج وأنهر الدم فهو مما يصلح أن يذكى به ما عدا السن والعظم فلا يجوز التذكية بهما. على أن كيفية الذكاة موضع خلاف، فقد قال الإمام مالك : لا تصح الذكاة إلا بقطع الحلقوم والودجين. وقال الإمام الشافعي : تصح الذكاة بقطع الحلقوم والمريء من غير حاجة إلى قطع الودجين. فالواجب عنده لتصح التذكية قطع المريء والحلقوم فقط. أما الإمام أبو حنيفة فالواجب عنده في التذكية هو قطع ثلاثة غير معنية من الأربعة، فإما الحلقوم والودجان، وإما المريء والحلقوم وأحد الودجين، وإما المريء والودجان.
وثمة مسألة وهي الجنين إذا خرج بعد ذكاة أمه ميتا فإنه يحل أكله، ذلك أن ذكاة الأم ذكاة لجنينها وهو مذهب جمهور العلماء. وقال به مالك والشافعي واستدلوا على ذلك بما أخرجه الدارقطني من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وعلي وعبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ذكاة الجنين ذكاة أمه ". وقالت الحنفية : إذا خرج ميتا بعد ذكاة أمه فهو ميتة لا يحل أكله٩.
عاشرا : وما ذبح على النصب. والنصب حجارة كانت حول الكعبة، قيل : ثلاثمائة وستون نصبا كانت العرب في الجاهلية يذبحون عندها وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب، فنهى الله المؤمنين عن فعل ذلك وحرم عليهم أكل الذبائح التي ذبحت عند النصب حتى لو ذكر عليها اسم الله عند الذبح عند النصب١٠. وقيل، النصب بمعنى الأصنام، لأنها تنصب فتعبد من دون الله. والراجح أن النصب أحجار كان الجاهليون ينصبونها حول الكعبة، وكانوا يذبحون عندها للأصنام، ويلطخونها بالدماء، ويضعون اللحوم عليها، وهو نظير القول الأول.
وقوله :﴿ على ﴾ فيه وجهان، أحدهما : أن على بمعنى اللام. أي ما ذبح للنصب، أو من أجل النصب.
ثانيهما : أنها على أصلها، والمعنى ما ذبح على اعتقاد تعظيم النصب١١.
قوله :﴿ وأن تستقيموا بالأزلام ﴾ الأزلام جمع زلم وهو القدح. أي وحرم عليكم الاستقسام بالأقداح. وذلك أنهم كانوا إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح، مكتوب على أحدهما : " أمرني ربي ". ومكتوب على الثاني " نهاني ربي ". وأبقوا الثالث غفلا لم يكتب عليه شيء. فإن خرج الآمر مضوا لحاجتهم. وإن خرج الناهي لم يمضوا. وإن خرج الغفل أجالوها مرة ثانية، والاستقسام بالأزلام معناه : طلب معرفة ما قسم لهم مما لم يقسم لهم وذلك عن طريق الأزلام١٢.
وقيل : المراد قداح الميسر وهي عشرة، سبعة منها فيها حظوظ، وثلاثة أغفال وكانوا يضربون بها مقامرة لهوا ولعبا. وقيل : الأزلام هي كعاب فارس والروم كانوا يتقامرون بها. وقيل : هي الشطرنج والاستقسام بهذا كله هو طلب القسم والنصيب، وهو من أكل المال بالباطل وهو حرام. ونظير ذلك كل مقامرة بحمام أو نرد أو شطرنج أو بغير ذلك من هذه الألعاب فهو استقسام بما في معنى الأزلام. فهو حرام كله. وهو ضرب من ضروب الكهانة والتشبث بدعوى علم الغيب١٣.
وربما قيل : إن هذه الأعمال من باب الفأل. ومثل هذا القول باطل، فإن الاستقسام بالأزلام على اختلاف صورها وضروبها ليس من الفأل في شيء. وإنما ذلك استشارة مع الأصنام واستعانة بها. ودل على هذا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم إذا أرادوا ذلك أتوا بيت أصنامهم وفعلوا ما فعلوا، فلهذا صار حراما.
ومن جهة أخرى فإن الاستقسام بالأزلام فيه افتراء على الله إن أراد المستقسم بقوله " بربي " الله تعالى. أو فيه جهالة وشرك إن أراد المستقيم به الصنم. فكل ذلك حرام وهو ليس من باب الفأل الحسن الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه لما تنشرح به النفس وتستبشر ببلوغ المرام.
ومن حميد الخصال حسن الظن بالله سبحانه. وفي الحديث القدسي " أنا عند ظن عبدي بي " وعكس الفأل الطيرة. والفرق بينهما أن الفأل طريقه حسن الظن بالله، لكن الطيرة طريقها الاتكال على غير الله.
على أن المؤمنين إذا ترددوا في أمر من أمورهم كان عليهم أن يستخيروا الله، وذلك أن يعبدوه ويسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه. وفي هذا روى أحمد والبخاري وأهل السنن عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى اله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن ويقول : " إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر – ويسميه باسمه – خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري – أو قال – عاجل أمري وآجله – فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه. اللهم وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفني عنه واصرفه عني، واقدر لي الخير حيث كنت ثم رضني به ".
قوله :﴿ ذلكم فسق ﴾ اسم الإشارة في محل رفع مبتدأ، وخبره فسق. والإشارة هنا إلى الاستقسام بالأزلام. وقيل
٢ - القاموس المحيط ص ٤٩١..
٣ - تفسير الرازي ج ١١ ص ١٣٥ وتفسير ابن كثير ج ١ ص ٨..
٤ - القاموس المحيط ص ٤٣٣ وتفسير الرازي ج ١١ ص ١٣٥ والكشاف ج ١ ص ٥٩٢ والدر المصون ج ٤ ص ١٩٥..
٥ - تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٨..
٦ - تفسير الرازي ج ١ ص ١٣٥ وروح المعاني للألوسي ج ٥ ص ٥٧..
٧ - تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٠ وتفسير القرطبي ج ٦ ص ٤٩ والقاموس المحيط ص ٣١٣..
٨ - روح المعاني ج ٦ ص ٥٧، ٥٨ وتفسير الرازي ج ١١ ص ١٣٦ وبداية المجتهد ج ١ ص ٤٦٧..
٩ - تفسير القرطبي ج ٦ ص ٥٤ وبداية المجتهد ج ١ ص ٤٦٥..
١٠ - تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١١..
١١ - روح المعاني ج ٦ ص ٥٨ وتفسير القرطبي ج ٦ ص ٥٧..
١٢ - روح المعاني ج ٦ ص ٥٨ والكشاف ج ١ ص ٣٩٣..
١٣ - تفسير القرطبي ج ٦ ص ٥٩ وروح المعاني ج ٦ ص ٥٩..
نزلت هذه الآية بسبب عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير بدلا من اسمه زيد الخيل، فقد قالا : يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، وإن الكلاب تأخذ البقر والحمر والظباء، فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه ما نقتله فلا ندرك ذكاته، وقد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا ؟ فنزلت الآية١.
قوله :﴿ ماذا ﴾ ما في محل رفع مبتدأ، وخبره ﴿ أحل لهم ﴾ وذا زائدة.
قوله :﴿ أحل لكم الطيبات ﴾ يعني الحلال. وهو ما ليس بخبيث وكل ما لم يأت تحريمه في كتاب ولا سنة ولا قياس. وقيل : الحلال ما التذ به آكله وشاربه ولم يصبه به ضرر في الدنيا ولا في الآخرة. وقيل : الطيبات هي الذبائح، لأنها بالتذكية تطيب.
قوله :﴿ ما علمتم من الجوارح ﴾ معطوف على الطيبات أي أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم. فقد حذف المضاف وهو " صيد " والجوارح معناها الكواسب من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والبازي والشاهين، كقوله تعالى :﴿ ويعلم ما جرحتم بالنهار ﴾ أي يعلم ما كسبتم من خير ومن شر.
وقوله :﴿ مكلبين ﴾ في محل نصب على الحال من علمتم. ومكلبين جمع وفرده مكلب. وهو مؤدب الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها دون غيره ومروضها لذلك. وذلك مشتق من الكلب، لأن التعليم أو التأديب أكثر ما يكون في الكلاب. فاشتق من لفظه لكثرة حصوله في جنسه، أو لأن السباع تسمى كلابا. ومنه دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم على ابن أبي لهب " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك " وفي رواية " من كلاب الشام " فأكله الأسد وهو في أرض الشام.
على أن الصيد بالطيور كالصيد بالكلاب، لأنها تكلب الصيد بمخالبها كما تكلبه الكلاب بأنيابها، وهو قول المذاهب الأربعة وغيرهم من أهل العلم. فقد روى عن عدي ابن حاتم قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال : " ما أمسك عليك فكل ".
وقوله :﴿ تعلمونهن مما علمكم الله ﴾ تعلمونهن في محل نصب حال أخرى وقيل : جملة استئنافية. وتعليمهن بالتضرية والترويض على إمساك الصيد لصاحبه. وقوله :﴿ مما علمكم الله ﴾ أي مما علمكم من الحيل وطرق التعليم والتأديب، فإذا أرسله استرسل، وإذا زجره انزجر وإذا أخذ الصيد فلا يأكل منه وإنما يمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه ولا يمسكه لنفسه.
وعلى هذا إذا كان الجارح معلما وأمسك على صاحبه وكان قد ذكر اسم الله عليه عند إرساله فقد حل الصيد وإن قتله، وذلك بالإجماع. ويؤكد ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلمة وأذكر اسم الله، فقال : " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك " قلت : وإن قتلن ؟ قال : " وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره " قلت له : فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب ؟ فقال : " إذا رميت بالمعراض فخزق فكله، وإن أصابه فإنه وقيذ فلا تأكله " وفي لفظ لهما " إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله، فإن أخذ الكلب ذكاته " وهذا دليل على أنه إذا أكل الكلب من الصيد فإنه يحرم مطلقا. وهو قول أكثر أهل العلم.
وذلك بمقتضى قوله تعالى :﴿ فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه ﴾ أي كلوا مما حبسن لكم من الصيد ولم يأكلن منه. فإن أكلن منه لم يؤكل ما بقي، لأن الكلب بذلك أمسك على نفسه ولم يمسك على صاحبه وقوله :﴿ واذكروا اسم الله عليه ﴾ أي سموا عليه عند إرساله. وقيل : سموا عليه إذا أدركتم ذكاته. والأمر هنا للندب عند الإمام الشافعي. وهو للوجوب عند أبي حنيفة.
قوله :﴿ واتقوا الله إن الله سريع الحساب ﴾ أي خافوا الله باجتناب نواهيه ومنها أكل صيد الجوارح غير المعلمة، فإن الله حسابه سريع إتيانه أو أنه سريع إتمامه، فيوم القيامة قريب إذا شرع فيه فإن الله يحاسب الخلائق دفعة واحدة.
ويستفاد من هذه الآية جواز اتخاذ الكلاب واقتناؤها للصيد وكذلك للحراسة قياسا على كلب الصيد، ولما رواه مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان ". وعلى هذا فإن المباح اتخاذه من الكلاب مما يجوز بيعه وشراؤه، فضلا عن كلب الصيد فهو الذي يحرس الماشية والزرع والدار. أما اقتناؤها على غير ذلك من المنفعة فهو منهي عنه. ولعل الحكمة في النهي عن ذلك ما في الكلاب من ترويع للمسلمين والتشويش عليهم بنباحها، أو لأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب٢.
٢ - الكشاف ج ١ ص ٥٩٤ وتفسير القرطبي ج ٦ ص ٧٢-٧٥ وروح المعاني ج ٦ ص ٦٣-٦٥ وتفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٥، ١٦..
وقوله :﴿ وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ﴾ طعام مبتدأ، وخبره، حل لكم. والمراد بطعامهم ذبائحهم. وقيل : جميع مطامعهم. والأول الراجح وهو قول أكثر المفسرين، لأن غير الذبائح لم يختلف في حله. والذين أوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى، فإن ذبائحهم تحل للمسلمين. أما المجوس فإنه يسن بهم سنة أهل الكتاب من حيث أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحه ونكاح نسائهم، وذلك لإجماع أكثر المسلمين على ذلك، ولما رواه البيهقي عن الحسن بن محمد بن علي قال : " كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام، فمن أسلم قبل، ومن أصر ضربت عليه الجزية غير ناكحي نسائهم " وهو مرسل.
واختلف العلماء في حل ذبيحة اليهودي والنصراني إذا ذكر عليها اسم غير الله تعالى، مثل عزير، والمسيح. فقد ذهب أكثر العلماء إلى أنها تحل استنادا إلى عموم الآية. فقد أحل الله ذبائح أهل الكتاب وهو يعلم ما يقولون. وقال ابن عمر : لا تحل. وقول سائر العلماء بالحل هو الصواب.
وقال الحسن البصري : إذا ذبح اليهودي أو النصراني فذكر اسم غير الله تعالى وأنت تسمع فلا تأكل. فإذا غاب عنك فكل فقد أحل الله تعالى لك.
وقوله بعدم الحل عند السماع لا يصح لمخالفته عموم الآية وهي يدل ظهرها على حل ذبائح أهل الكتاب من غير تقييد.
وجدير بالذكر هنا جواز الأكل والشرب والطبخ في أوان الكفار كلهم سواء كانوا كتابيين أو مشركين على اختلاف شركهم، إلا أن تكون أوانيهم من الذهب أو الفضة أو جلد الخنزير. فإن كانت من غير ذلك جاز استعمالها للأكل والشرب بعد أن تغسل أو تغلى، وذلك لأن الكفار لا يعبأون بالنجاسات تصيب آنيتهم، فإذا استعملوها وجب غسلها لتطهيرها. وإن كانت من الفخار وجب غلي الماء غليا لإزالة النجاسة السارية في أجزاء الفخار.
قوله :﴿ وطعامكم حل لهم ﴾ أي مباح لكم إطعام أهل الكتاب من ذبائحكم مثلما أكلتم من ذبائحهم. وهو من باب المكافأة والمجازاة١.
قوله :﴿ والمحصنات من المؤمنات ﴾ معطوف على الطيبات. أو مبتدأ، وخبره محذوف تقديره حل لكم والمراد بالمحصنات من المؤمنات العفائف. وقيل : الحرائر. وقيل : العفائف الحرائر، أي أحل لكم نكاح العفائف الحرائر من النساء المؤمنات.
وقوله :﴿ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾ فقد قيل : أراد بالمحصنات الحرائر دون الإماء. وقيل : المحصنات العفيفات عن الزنا. يؤكد ذلك قوله ﴿ محصنات غير مسافحات ﴾.
على أن المراد بالكتابيات الذميات دون الحربيات، وهو قول أكثر الفقهاء. وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى نكاح النصرانية ويقول : لا أعلم شركا أعظم من أن تقول إن ربها عيسى وقد قال الله :﴿ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ﴾ على أن قول ابن عمر مرجوح. والصحيح قول أكثر أهل جواز نكاح الكتابيات استنادا إلى ظاهر الآية. وقيل كذلك يدخل في الكتابيات الحربيات فضلا عن الذميات.
قوله :﴿ إذا ءاتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ﴾ المقصود بالأجور هنا المهور. وقد قيد النكاح بإيتاء المهور للتأكيد على وجوبها – أي المهور، وقوله :﴿ محصنين ﴾ حال منصوب. أي أعفاء بالنكاح.
وقوله :﴿ غير مسافحين ﴾ حال ثانية. وقيل : صفة لمحصنين. أي غير مجاهرين بالزنا. والسفاح معناه الزنا على سبيل الإعلان.
وقوله :﴿ ولا متخذي أخذان ﴾ أخذان جمع خدن. والخدن بالكسر معناه في اللغة الصاحب. ويراد به ههنا ذو العشيقة، واتخاذ الخدن هو الزنا في السر.
قوله :﴿ ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ﴾ أي يكفر بشرائع الإسلام ومن جملتها أحكام الحل والحرمة هنا، أو يمتنع عن قبولها. فمن كان هذا شأنه فقد حبط عمله. أي زال ثواب إيمانه وعمله قبل كفره.
وقوله :﴿ وهو في الآخرة من الخسرين ﴾ أي الهالكين الذين أفضى بهم كفرهم واستنكافهم عن شريعة الله إلى عذاب الله ونكاله٢.
٢ - روح المعاني ج ٦ ص ٦٦، ٦٧ والكشاف ج ١ص ٥٩٥-٥٩٧ وتفسر الرازي ج ١١ ص ١٤٨-١٥٢ والقاموس المحيط ص ١٥٤٠..
يأمر الله عباده المؤمنين إذا قاموا إلى الصلاة أن يتوضأوا. وذلك في قوله :﴿ إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم... ﴾ أي إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون فعليكم أن تتوضأوا لاستباحة الصلاة. ويستدل من الآية على أن الوضوء شرط لصحة الصلاة.
وقوله :﴿ فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ﴾ يتضمن أربعة أركان للوضوء فلا تصح الصلاة إلا بأدائها على التمام، وأيما انخرام في واحد من هذه الأركان، لا تصح معه الصلاة. وتفصيل ذلك في البيان الآتي :
الركن الأول : غسل الوجه. والوجه في اللغة من المواجهة. فحده من حيث الطول من أول الجبهة عند منابت الشعر إلى منتهى اللحيين. وحده من حيث العرض، من الأذن إلى الأذن. ولا بد في غسل الوجه من نقل الماء إليه وهو يعني الإسالة وإمرار اليد عليه بمعنى الدلك وهو قول مالك. وقيل : إنما يجب إمرار الماء على الوجه ولا يجب دلكه باليد.
أما شعر اللحية فإن كان خفيفا بحيث تظهر منه البشرة فلا بد من إيصال الماء إليه، وإن كان كثيفا فقد انتقل الفرض إليه. أي يجب إيصال الماء إلى ظاهر اللحية كشعر الرأس، لأن ظاهر اللحية يقوم مقام جلدة الوجه. وعلى هذا لا يجب إيصال الماء إلى منابت الشعر وهي الجلد وذلك عندما تكون اللحية خفيفة. وقيل : يجب تخليلها كتخليل أصابع اليد.
الركن الثاني : غسل اليدين إلى المرفقين. والمفرد بكسر الميم. والمرفق هو موصل الذراع بالعضد١، وهو المكان الذي يرتفق به أي يتكأ عليه من اليد. وهو داخل في وجوب الغسل مع اليد. وقالوا ﴿ إلى ﴾ بمعنى مع. أي اغسلوا أيديكم مع المرافق. وقيل : المرفق جزء من اليد، لأن ما بعد ﴿ إلى ﴾ من نوع ما قبلها فدخل المرفق في اليد.
الركن الثالث : مسح الرأس. وذلك من قوله تعالى :﴿ وامسحوا برءوسكم ﴾ وثمة تفصيل في القدر المجزئ من مسح الرأس. فيجب مسح الرأس كله عند الإمام مالك وكذلك أحمد في أظهر الروايات عنه. ويحتج لذلك بأن الباء في قوله :﴿ برءوسكم ﴾ مؤكدة زائدة وهي ليست للإلصاق. فوجب بذلك استيعاب الرأس كله في المسح.
وذهب الإمام أبو حنيفة وكذا الشافعية إلى أن مسح بعض الرأس مجزئ وهو الفرض دون غيره. أما المجزئ من بعض الرأس عند أبي حنيفة وأصحابه فهو الربع وحجتهم في ذلك ما رواه مسلم عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم " توضأ فمسح بناصيته " وقدروا الناصية بربع الرأس.
وعند الشافعية، يسقط الفرض بأدنى ما يطلق عليه اسم المسح، لأن النص هنا مطلق فيجب فيه أقل ما يقع عليه اسم المسح. وقالوا أيضا : إن الباء في الآية للتبعيض فيجزئ من المسح ما كان في قدر بعض الرأس قل الممسوح أو أكثر. أو أنها تفيد الإلصاق. فالمراد إلصاق اليد بالرأس من أجل المسح. فيتحقق الواجب بكل ما يكون مسحا.
الركن الرابع : غسل الرجلين إلى الكعبين. وهو مقتضى قوله تعالى :﴿ وأرجلكم إلى الكعبين ﴾ أرجلكم منصوب لفعل تقديره، اغسلوا. والكعبان هما العظمان الناتئتان من الجانبين عند مفصل الساق والقدم. ومنه الكاعب، وهي الجارية إذا بدا ثديها للنهود.
على أن الفرض في الرجلين الغسل وليس المسح، وهو قول عامة العلماء واحتجوا بما ثبت في الصحيحين عند عبد الله بن عمرو قال : تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة صلاة العصر ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته : " أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار ".
وقيل : الواجب في الرجلين المسح وليس الغسل وهو مذهب الشيعة الإمامية وغيرهم. وحجتهم في ذلك القراءة بالجر. وهي تقتضي كون الرجلين معطوفتين على الرؤوس. وهو ضعيف. وقال داود الظاهري : يجب الجمع بينهما.
ويدخل الكعبان في الغسل، لأن ما بعد ﴿ إلى ﴾ من نوع ما قبلها فدخل فيه، أي أن الكعبين جزءان من القدمين فوجب غسلهما. وهو قول أكثر العلماء٢.
أما جملة الوضوء على وجه العموم فيمكن إيجازها فيما رواه البخاري عن عبد الله بن زيد أنه سئل عن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فدعا بتور٣ من ماء فتوضأ لهم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم " فأكفأ على يده من التور فغسل يديه ثلاثا ثم أدخل يده في التور فمضمض واستنشق واستنثر ثلاث غرفات. ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثا، ثم أدخل يديه فغسل يديه إلى المرفقين ثلاثا ثم أدخل يده فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة، ثم غسل رجليه إلى الكعبين "
هذه هي فروض الوضوء، وهي أركانه الأربعة، وهي غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ومسح الرأس وغسل الرجلين، مرة واحدة لكل عضو. ذلك أن الواجب من طهارة الأعضاء المغسولة هو مرة مرة إذا أسبغ الماء. وأن الاثنين أو الثلاث مندوب إليها، لما صح أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وتوضأ مرتين مرتين وتوضأ ثلاثا ثلاثا، ولأن الأمر بالوضوء لا يقتضي إلا الفعل مرة مرة. يضاف إلى ذلك من السنن غسل الكفين والمضمضة والاستنثار ثلاثا لكل عضو. ثم مسح الأذنين مرة، وذلك من السنة وهو قول الشافعية وبعض المالكية، خلافا للحنفية، إذ قالوا مسح الأذنين فرض إلا أنهما يمسحان مع الرأس بماء واحد. وقيل : يجدد لهما الماء.
أما النية فهي شرط من شروط الوضوء. وهو قول الشافعية والمالكية والحنابلة وأهل الظاهر. وحجتهم أن الوضوء عبادة محضة وهي غير معقولة المعنى فلا تصح إلا بالنية لقوله تعالى :﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ﴾ ولقوله صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات ".
وذهبت الحنفية إلى أن النية ليست شرطا لصحة الوضوء. ووجه ذلك أن الوضوء عبادة معقولة المعنى كغسل النجاسة فهو بذلك عبادة ونظافة فلا يفتقر إلى النية.
أما ترتيب أفعال الوضوء فقد قيل : إنه سنة. وهو قول الحنفية والمالكية وأهل الظاهر. وقال آخرون إنه فرض، وهو قول الشافعية والحنابلة. ومثار الخلاف هو وضع الواو العاطفة في الآية. فمن قال : إن واو العطف في الآية تقتضي الترتيب قال بإيجاب الترتيب. ومن رأى أنها لا تقتضي الترتيب لم يقل بإيجابه وثمة سبب آخر في اختلافهم وهو اختلاف في أفعاله صلى الله عليه وسلم، هل هي محمولة على الوجوب أو على الندب ؟ فمن حملها على الوجوب قال : بوجوب الترتيب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرو عنه أنه توضأ قط إلا مرتبا. وحملها على الندب قال : إن الترتيب سنة وليس فرضا.
أما الموالاة في أفعال الوضوء فهي عند الإمام مالك ما لم يكن ناسيا أو غير قادر. بخلاف الحنفية والشافعية قالوا : الموالاة ليست فرضا. وسبب الخلاف فهمهم لواو العطف في آية الوضوء. فمن قال : إنها يعطف بها الأشياء المتتابعة المتلاحقة المتراخية بعضها عن بعض قال : بعدم وجوب الموالاة.
أما التسمية في الوضوء فهي سنة وهو قول أكثر العلماء. وقال أحمد وإسحاق : التسمية فرض حتى لو تركها متعمدا بطلت الطهارة. والصحيح كونها سنة، لأن التسمية غير مذكورة في الآية وقد حكم بحصول الطهارة من دونها.
أما الاستنجاء فليس واجبا عند الحنفية استنادا إلى هذه الآية، لأنه ذكر الوضوء في الآية ولم يذكر الاستنجاء. ولو كان واجبا لكان أول ما بدأ به في الآية، وقالوا إنما تجب إزالة النجاسة إذا زادت على قدر الدرهم البغلي وهو الذي على هيأة المثقال قياسا على فم المخرج.
وقالت الشافعية وآخرون من أهل العلم : بوجوب الاستنجاء، استنادا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم في صاحبي القبرين : " إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله " ولا يعذب إلا على ترك الواجب٤.
وثمة مسألة وهي المسح على الخفين. وهو جائز عند جمهور الفقهاء ولم ينكره غير الشيعة والخوارج، ورواية عن مالك في إنكاره مطلقا. والصحيح جواز المسح على الخفين لمن لبسهما ورجلاه طاهرتان بطهارة الوضوء. وحجتهم في الجواز ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم " مسح على الخفين بعد نزول هذه الآية ".
وأخرج الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله البجلي قال : أنا أسلمت بعد نزول المائدة وأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح بعد ما أسلمت.
وفي الصحيحين عن همام قال : بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه فقيل : تفعل هذا ؟ فقال : " نعم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه ".
أما شرط المسح على الخفين فهو أن تكون الرجلان طاهرتين بطهر الوضوء، وذلك لما ثبت في حديث المغيرة، إذ أراد أن ينزع الخف عنه فقال عليه الصلاة والسلام : " دعهما فإني أدخلتهما وهما طاهرتان ".
أما صفة الخف، فهو أن يكون صحيحا غير مخرق تخريقا فاحشا. فإن كان الخرق يسيرا فلا بأس في المسح عليه. وهو قول مالك وأصحابه.
أما الحنفية فقد حددوا اليسير والفاحش في الخرق بما كان الظاهر منه أقل من ثلاثة أصابع. فإن كان دون ثلاثة أصابع فهو يسير. وما زاد فهو فاحش لا يجوز المسح عليه. وكذا لو كان بمقدار ثلاثة أصابع.
وقال آخرون : يجوز المسح على الخف المنخرق ما دام يسمى خفا وإن تفاحش خرقه. وهو قول الثوري.
أما توقيت المسح، ففيه خلاف بين أهل العلم. فقد ذهبت الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن المقيم يمسح يوما وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن. واستدلوا بحديث مسلم عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم ".
وذهب الإمام إلى أن المسح غير مؤقت، وعلى هذا فإن لابس الخفين يمسح عليهما دائما ما لم ينزعهما أو تصبه جنابة. وهو قول الليث ابن سعد٥.
قوله :﴿ وإن كنتم جنبا فاطهروا ﴾ أي فتطهروا، أدغمت التاء في الطاء لأنهما من مكان واحد. وهذه هي الطهارة الكبرى بعد أن بين الطهارة الصغرى. والكبرى هنا الغسل من الجنابة.
وتحصل الجنابة لسببين. أولهما : نزول المني، لقوله عليه الصلاة والسلام : " إنما الماء من الماء " وبذلك فإن مجرد نزول المني يوجب الغسل من أجل الجنابة.
وثانيهما : التقاء الختانين، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا التقى الختانان وجب الغسل " والغسل معناه إسباغ الماء على أعضاء البدن كله. أما المضمضة والاستنشاق فهما غير واجبين في الغسل وهو قول الشافعية، خلافا للحنفية إذ قالوا بوجوبهما، لأنهما من البدن وهما مما يمكن إيصال الماء إليهما من غير حرج. واحتج الشافعية بالخبر " أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت ".
ويحرم على الجنب جملة أمور منها مس المصحف وقراءة القرآن ودخول المسجد. وتفصيل ذلك في مظانه من كتب الفقه.
قوله :﴿ وإن منتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ﴾ أبيح للمسلم
٢ - تفسير القرطبي ج ٦ ص ٩٠-٩٧ وبداية المجتهد ج ١ ص ١٥ والكشاف ج ١ ص ٥٩٧-٥٩٩..
٣ - التور: إناء يشرب فيه. انظر القاموس المحيط ص ٤٥٦..
٤ - تفسير القرطبي ج ٦ ص ٩٦-١٠٠ ورح المعاني ج ٦ ٧٥-٨٠ وتفسير الرازي ج ١١ ص ١٥٦-١٦٣ وبداية المجتهد ج ١ ص٨-١٨..
٥ - تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٠٠، ١٠١ وبداية المجتهد ج ١ ص١٩-٢١ وتفسير الرازي ج ١١ ص ١٦٦-١٦٧..
وقوله :﴿ وميثاقه الذي واثقكم به ﴾ الميثاق معناه العهد، أي اذكروا العهد الذي التزمتم به للنبي صلى الله عليه وسلم وهو السمع له والطاعة في المنشط والمكره ومتابعته ومؤازرته في نشر دينه. وهذه هي البيعة التي كانوا يبايعون عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إسلامهم، إذ كانوا يقولون : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله.
قوله :﴿ واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور ﴾ اتقوا الله، أي خافوه باجتناب نواهيه واتباع أوامره. وذلك وعيد من الله للمؤمنين الذين عاهدوا رسوله على السمع والطاعة وعلى مؤازرته في حمل رسالة الإسلام والاضطلاع بنشرها في الآفاق – وعيد لهم وتهديد أن ينقضوا هذا الميثاق الذي واثقهم به أو أن ينكثون ما قطعوه على أنفسهم من عهد بالمناصرة والتأييد سواء كان النكث في السر أو العلن. والله جل ثناؤه لا تخفى عليه خافية وهو سبحانه عليم بما يختلج في الضمائر من أسرار وخواطر١.
سبب نزول هذه الآية أنه لما فتح المسلمون مكة أمرهم الله أن لا يكافئوا كفار مكة بما سلف منهم من مكروه وعدوان، بل أن يعاملوهم بالعدل والإحسان في القول والفعل١.
وقوله :﴿ كونوا قوامين ﴾ أي كثيري القيام بحقوق الله عليكم تعظيما لشأنه وإقرارا بربوبيته وإظهارا لعبوديته. ومما يقتضيه ذلك تأدية الشهادة على وجهها الحق من غير زيغ ولا ميل ولا محاباة في كل الأحوال والظروف. وهو قوله :﴿ بالقسط ﴾ أي العدل. وذلكم هو خلق المسلم إذ يقضي بين الناس فلا يضل أو يميل ولا يحابي أو يداهن لأيما اعتبار من الاعتبارات الشخصية وإنما يقضي أو يشهد بالحق.
قوله :﴿ ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا ﴾ أي لا يحملنكم بغضكم لقوم كان بينكم وبينهم عداوة – أن تحيفوا عليهم أو تميلوا عن العدل فتظلموهم وتجوروا في معاملتهم في القول أو الفعل. ما كان ذلك ليفعله المسلمون الأتقياء الأوفياء الذين ديدنهم أن لا يزيغوا عن صراط الله المستقيم وعن الحكم أو الشهادة بالعدل.
ما كان المسلمون الأتقياء الأوفياء ليزيغوا عن طريق العدل فيحيفوا على غيرهم لكونهم مشركين أو لما أنزلوه في ساحة المسلمين من جرائم ومظالم. إن المسلمين الأتقياء يخشون الله تمام الخشية فلا يعصونه فيما أمرهم به ليبادروا بأداء الشهادة على وجهها القويم الحق. فلا يصدنهم عن ذلك عداوة لقوم أو أحد، ولا يزيغن بهم عن مقالة الصدق والعدل حافز من حوافز الهوى الظالم الذي تصطنعه المصالح الشخصية أو علائق الدم والقربى أو غير ذلك من الأهواء والاعتبارات المرفوضة.
وقوله :﴿ اعدلوا هو أقرب للتقوى ﴾ ذلك تكرير مؤثر يؤكد على مداومة العدل في كل الأحوال. ولا جرم أن ذلك خلق المسلمين الأتقياء الأوفياء الذين يخافون الله فلا يعصونه فيما أمر أو نهى وزجر.
قوله :﴿ واتقوا الله إن الله خبير بما تعلمون ﴾ ذلك تأكيد آخر على التزام التقوى، وهي جماع الخير كله. فالتقوى تنشر في أطواء النفس حب الله والخوف منه فما يكون أحد ولا كائن ولا محبوب أشد حبا للمؤمن من الله ولا أعظم مخوفا له منه سبحانه. وهو سبحانه يعلم ما يكتسبه الناس من خير أو شر، ويعلم ما يختلج في نفوسهم من أسرار ونوايا فقال سبحانه :﴿ إن الله خبير بما تعلمون ﴾.
ذلك وعد من الله للذين صدقوه ورسله وأقروا بما جاءهم من ربهم، فأتمروا بما أمر وانتهوا عما حظر وزجر، فوفوا بالعقود والعهود والمواثيق وأعلنوا الطاعة التامة لله وحده.
قوله :﴿ اذكروا نعمت الله عليكم ﴾ ذلكم تذكير بنعم الله على العباد. لا جرم أن نعم الله كثيرة لا تحصى وأن فضائله غزيرة زاخرة لا يحدها الحصر. وفي قمة هاتيك النعم والفضائل نعمة الإسلام. هذا الدين الكامل الشامل الذي حوى من قيم الحق والعدل والفضل ما يغمر الدنيا بالخير والسلام والود والرحمة.
وكذلك هذا النبي الكريم الهادي إلى سواء السبيل. النبي الذي أوتي جوامع الخير والفضيلة والرحمة فكان بصفاء فطرته وروعة طبعه وجنانه وسعة أفقه وذهنه خير ما يكون للبشرية كافة هاديا وبشيرا ونذيرا. هاتان النعمتان تأتيان في ذروة الأنعم الكاثرة التي امتن الله بها على الوجود كله.
وذلك يقتضي من العباد ذكر النعمة التي أنعم الله بها على المؤمنين إذ نجاهم من براثن الشر والضلالة والمنكر. ونجى نبيه الكريم من تمالؤ الأشرار والظالمين الذين أشربت نفوسهم الكراهية والحقد والحسد فما توانوا عن الكيد للنبي والائتمار به ليقتلوه. لكن الله ضمين بعصم هذا النبي العظيم من كل مكر وكيد، فلا يخلص إليه سوء أو شر يبتغيه هؤلاء الجاحدون المجرمون.
قوله :﴿ إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم ﴾ إذ ظرف للماضي. وهم بمعنى القصد. وبسط اليد مدها للبطش بالمبطوش به. وذلك أن المشركين أو اليهود قد هموا بمد أيديهم للأذى والتخريب إذ أرادوا الشر برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله ﴿ فكف أيديهم عنكم ﴾ أي منعهم أن يمدوا إليكم أيديهم بالسوء والأذى وتلك كلاءة من الله كتبها لرسوله صلى الله عليه وسلم إذ عصمه من شر الأشرار وكيد الكائدين والخائنين والمتربصين على اختلاف مللهم وعقائدهم الفاسدة الضالة٤.
قوله :﴿ واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنين ﴾ يأمر الله المؤمنين أن يتقوه. أي يخافوه بدوام شكرانه وذكر نعمته والالتزام بأوامره، وأن يديموا التوكل عليه دون غيره، فإن الله ضمين أن يدرأ عنهم المفاسد والشرور.
٢ فشام السيف: أي أغمده. لسن العرب ٤/٢٣٨٠..
٣ - تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣١..
٤ - تفسير الطبري ج ٥ ص ٩٤، ٩٥ وروح المعاني ج ٦ ص ٨٤، ٨٥..
أخذ الله من بني إسرائيل المواثيق والعهود أن يخلصوا له إخلاصا فلا يعبدوا أحدا غيره وأن يصدقوا محمدا صلى الله عليه وسلم فينصروه ويقدروه حق قدره، لكنهم نقضوا ذلك كله. ومن مواثيقه لهم أن بعث منهم اثني عشر نقيبا. والنقيب هو كبير القوم القائم بأمورهم والمنقب عن مصالحهم. والنقباء هم الأمناء على قومهم.
فقد بعث الله النقباء من بني إسرائيل أمناء على الاطلاع على الجبارين والوقوف على منعتهم وقوة شوكتهم. وتفصيل ذلك أنه لما فرغ بنو إسرائيل من أمر فرعون أمرهم الله أن يسيروا إلى أريحا من أرض الشام وكان فيها الجبابرة الكنعانيون فقال لهم : اخرجوا إليهم وجاهدوهم فإني ناصركم عليهم. وأمر موسى أن يأخذ من كل سبط من أسباط بني إسرائيل نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء بما أمروا به، فأخذ النقباء وهم اثنا عشر نقيبا فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون ليكشفوا لهم قوة العمالقة الكنعانيين فرأوا أجراما عظيمة وقوة وشوكة فهابوا ورجعوا وحدثوا قومهم بما رأوه، وكان نبيهم موسى عليه السلام قد نهاهم أن يحدثوهم، لكنهم نكثوا العهد إلا اثنين وهما كالب ويوشع بن نون فإنهما كتما عن الناس ولم ينكثا. ولما علم بنو إسرائيل عن قوة العمالقة هابوا واضطربوا وانثنوا عن المسير إلى أريحا وقالوا لموسى :﴿ فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ﴾ قوله :﴿ وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلوة وءاتيتم الزكوة وءامنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا ﴾ قيل : الخطاب للنقباء. وقيل لجميع بني إسرائيل، إذ قال لهم :﴿ إني معكم ﴾ أي ناصركم على عدوي وعدوكم. ثم وعدهم الله بتكفير سيئاتهم وإدخالهم الجنة إذا وفوا بجملة شروط، وهي أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فلا يضنوا ببذل الخير للمعوزين كديدنهم في الشح، وكذلك أن يؤمنوا برسل الله وبخاصة النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم الذي وجدوه مكتوبا عندهم في التوراة فلا يؤمنوا ببعض ويكفرون ببعض، وأن يعزروهم. والتعزير معناه التعظيم والنصرة، وأن يقرضوا الله قرضا حسنا. والمراد بإقراض الله الإنفاق في وجوه الخير. فلئن فعلوا ذلك فلسوف يعفو الله عن خطيئاتهم وضلالاتهم. وفق ذلك يدخلهم الجنات الظليلة الوافرة المديدة التي تجري من خلالها ومن تحتها الأنهار بمائها الفرات وانسيابها الرخي البهيج١.
قوله :﴿ فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل ﴾ أي من تنكب عما أمرته بفعله أو فعل ما أمرته بتركه بعد أن كذب بدعوتي ورسالاتي ﴿ فقد ضل سواء السبيل ﴾ أي أخطأ قصد الطريق اللاحب وزل عن سبيل الله المستقيم القاصد.
قوله :﴿ فبما نقضهم ﴾ الباء السببية. وما زائدة تفيد التوكيد. وميثاقهم مفعول به للمصدر. أي بسبب نقضهم ميثاقهم ﴿ لعنهم ﴾ أي طردناهم وأبعدناهم من الخير ومن رحمتنا عقوبة لهم. وقيل : معنى الطرد هنا مسخهم قردة وخنازير، والأول أقوى. وكذلك عاقبهم الله بقسوة قلوبهم إذ قال :﴿ وجعلنا قلوبهم قاسية ﴾.
قوله :﴿ يحرفون الكلم عن مواضعه ﴾ أي لفرط ما ران على قلوبهم من الكزازة والقسوة وما غشيهم من الغلظة واليبوسة صاروا يتأولون كتاب الله " التوراة " على غير تأويله الصحيح أو يبدلون حروفه وكلماته تبديلا. وكذلك تركوا نصيبا عظيما من كتابهم التوراة مما جاء فيه ذكر محمد صلى لله عليه وسلم وأمره بتصديقه واتباعه لكنهم كذبوه وناصبوه الكيد والعداء من أول يوم. وذلك تأويل قوله :﴿ ونسوا حظا مما ذكروا به ﴾.
قوله :﴿ ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم ﴾ أي لا تزال يا محمد تقف على خيانة هؤلاء المغضوب عليهم. وقوله خائنة بمعنى خيانة. أي أن الخيانة والغدر ديدنهم وعادتهم ﴿ إلا قليلا منهم ﴾ وذلك استثناء متصل. والمراد بالقليل المستثنى عبد الله بن سلام وغيره ممن صدق وأيقن.
قوله :﴿ فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ﴾ وذلك إذا تابوا عن الخيانة والغدر ودفعوا الجزية. والتقدير : اعف عنهم واصفح ما داموا على عهدك وهم أهل ذمة ولم يخونوك. وقيل : هذا منسوخ بآية السيف ﴿ قتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ﴾.
قوله :﴿ إن الله يحب المحسنين ﴾ العفو والصفح من الإحسان. وذلك من خلق المؤمنين الصادقين. وفي الآية تحضيض على العفو والصفح١.
كلمة النصارى من النصرة فقد ألبسوا أنفسهم دعوى النصرة لله فادعوا أنهم أنصار الله. وذلك هو وجه تسميتهم بهذا الاسم وقيل : النصارى نسبة إلى الناصرة أو نصورية التي أقامت فيها العذراء مريم وابنها عيسى المسيح، وبها سميت النصارى.
وبعد أن فرغ من الحديث عن اليهود أخذ في الحديث عن النصارى ليكشف عن جناياتهم وجرائمهم المنكرة في الجحد والكفران وإنما قال سبحانه :﴿ قالوا إنا نصرى ﴾ ولم يقل – من النصارى – إشارة إلى أنهم على دين النصرانية بزعمهم وليسوا عليها في الحقيقة لعدم عملهم بمقتضاها ولمخالفتهم ما حواه الإنجيل من التبشير بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله :﴿ أخذنا ميثقهم فنسوا حظا مما ذكروا به ﴾ أي أخذنا من النصارى العهد على طاعتي واتباع أوامري والتصديق برسلي، لكنهم بدلوا كما بدل اليهود فنسوا نصيبا أساسيا عظيما من الإيمان وهو ما ذكروا به في الميثاق، وهو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.
إنما نسوا ذلك تبعا للهوى والرغبة الضالة المريضة في التحريف والتبديل، وذلكم هو الكفر والضلال.
قوله :﴿ فأغرينا بينهم العدواة والبغضاء إلى يوم القيمة ﴾ وذلك جزاء كفرهم وعنادهم وجحدهم لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ونتيجة لتمالؤهم على الإسلام والمسلمين بما يكيدونه لهم في الظلام من تدبير للمؤامرات وحبك للحيل والأساليب والمخططات الماكرة لاستئصال شأفتهم وإذلالهم وإضعافهم وغزوهم في عقر ديارهم. وكذلك نتيجة لكيدهم لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بمختلف الأساليب الخسيسة من التشويه والافتراء وإشاعة الكذب في أذهان البشرية عن هذا النبي الطهور المفضال. من أجل ذلك أغرى الله بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.
وأغرينا، فعله غرا أي لزق به. وغرا الجلد، ألصقه بالغراء. والغرا بالفتح، ما طلي به أو لصق به١ وهو مأخوذ من الغراء وهو ما يلصق الشيء بالشيء كالصمغ ونحوه. وقيل : الإغراء تسليط بعض النصارى على بعض وقيل : الإغراء معناه التحريش بينهم ليظلوا على الدوام في عداوة وبغضاء فيما بينهم. والعداوة والبغضاء مركوزان مستكنان في طبائع النصارى ليظلوا على الدوام في تنافر بغيض وتنافس حقود قائم على الكراهية والأنانية وحب الشهوات والملذات حتى تنفجر بينهم الحروب الطاحنة الضروس التي أذاقتهم الويلات والأهوال، وأزهقت فيهم من الأرواح عشرات الملايين. ومن جملة ذلك في العهد القريب من هذا القرن، تلك الحرب العالمية الثانية بين دول المحور وفي طليعتها ألمانيا النازية، والحلفاء وفيهم الأمريكان والإنجليز. هذه الحرب الرهيبة التي عز نظيرها في تاريخ الحروب كافة والتي استمرت عدة سنوات فكان حصادها سبعين مليونا من البشر، فضلا عن التدمير والتخريب والتشويه وإتلاف الأعصاب.
ولسوف تبقى الحال بينهم هكذا من العداوة والبغضاء ما داموا منتكسين مدبرين عن منهج الله الصحيح. وما داموا يتمالئون ويتآمرون على دعوة الحق ليبددوها وأهلها تبديدا تاما، وما داموا يثيرون في الدنيا الأذى والتخريب والفساد وإشاعة الباطل والجريمة والمنكر. وكان ذروة ذلك كله الظاهرة البغيضة المشؤومة، وهي ظاهرة الاستعمار. الاستعمار الذي يثير في النفس التقزز والامتعاض والاشمئزاز، الاستعمار الذي قام على الجريمة والعدوان والأنانية الميكافيلية، وذلك في غاية من دركات الخسة واللؤم والتوقح الصارخ. ذلك هو الاستعمار الأوروبي والأمريكي الذي عاث في ديار المسلمين الخراب والهوان فدمرهم تدميرا وأزال شوكتهم ودولتهم البتة، واصطنع فيهم من أسباب التفرقة والتشتيت ما مزقهم شر ممزق إلى غير ذلك من ظواهر الإبادة والإهلاك والإذلال. وأشد من ذلك ما أشاعه المستعمرون وأتباعهم المبشرون والمستشرقون من أكاذيب وافتراءات وتخريص عن عقيدة الإسلام ومنهجه ونظمه وقيمه. وعن شخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بما يشوه تشويها وما يثير في أذهان المسلمين والبشرية أبشع صورة وفكرة والحديث المرير عن أفاعيل النصارى في المسلمين يطول ! !
ومن أجل هاتيك الجرائم النكراء التي ارتكبها الصليبيون الحاقدون في حق الإسلام والمسلمين والبشرية لسوف يذيقهم الله الويلات والمحن، ما بين أمراض سارية غريبة فتاكة، أو تمزق اجتماعي فظيع فاضح، أو مباغضات ومشاحنات نفسية ومذهبية دينية نتيجة لاختلافهم إلى طوائف وملل شتى كاليعقوبية والنسطورية قديما ثم البروتستانت والكاثوليك والأرثوذوكس فيما بعد.
قوله :﴿ وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ﴾ توعدهم بالعذاب والنكال يوم القيامة بعد أن ينالوا في الدنيا جزاءهم من المباغضات والكراهية والحروب. وسوف ينبئ الله هؤلاء الضالين بما جنوه في الدنيا من نقض للميثاق ومن جحود وكفران وفظائع في حق الإسلام والمسلمين والبشرية كلها.
أهل الكتاب، اليهود والنصارى. والكتاب اسم جنس، أي الكتب. والله يخاطب أصحاب الملتين بأنهم أهل الكتاب فهم أجدر أن يفيئوا إلى الحق، وأن يهتدوا إلى سبيل الله وأن يسلكوا طريق الصواب الذي جاء به الإسلام، إنهم أجدر الناس طرا باتباع دين الإسلام والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. من أجل ذلك خاطبهم على أنهم أهل كتب سماوية منزلة فيها خبر النبي الأمين الخاتم صلى الله عليه وسلم فقال :﴿ يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ﴾ أي جاءكم الرسول محمد كاشفا للحقيقة التي حوتها كتبكم السماوية والتي أخفيتموها ظلما وعتوا. فقد أخفيتم خبر الرسول محمد الذي بشر به المسيح عليه السلام والذي جاء ذكره كذلك في التوراة، وأخفيتم قصة أصحاب السبت الذين مسخوا قردة وخنازير، وأخفيتم أيضا حد الرجم للزاني المحصن وغير ذلك من أحكام وقضايا.
قوله :﴿ ويعفوا عن كثير ﴾ أي لا يبين ولا يذكر كثيرا مما أخفيتموه في كتابكم التوراة، بل يتركه، لأنه لا تدعو إلى إظهاره حاجة.
قوله :﴿ قد جاءكم من الله نور وكتب مبين ﴾ النور هو الإسلام.
هذا الدين الكامل الحنيف بعقيدته وتشريعه وتصوراته وقيمه يصنع الإنسان الصالح. الإنسان السوي الرحيم. الحافل بكل ظواهر الخير والبر والود والصلوح. ذلكم الإنسان السليم المبرأ من عيوب المجتمعات الضالة والأهواء المريضة التي تمخضت عنها الملل الجانحة والعقائد والفلسفات الفاسدة السقيمة.
وقيل : النور هو محمد صلى الله عليه وسلم، المؤيد بالوحي. والمبعوث للبشرية هاديا ومنيرا، بما خوله الله من وجيبة التبيين للكتاب الحكيم، وبسنته الوافية الزاخرة، وسيرته العاطرة المثلى التي تكشف عن شخصيته السامقة الفذة.
والكتاب هو القرآن. وهو مبين، أي ظاهر الإعجاز بما يقطع أنه من كلام الله. وهو مستبين وواضح كل الوضوح لمن أراد أن يعي أو يتذكر، ولم يعتره شيء من التحريف أو التغيير أو التبديل. وقيل : مبين بفعله المتعدي. أي المظهر للناس ما اختلفوا فيه وما خفي عليهم والذي كشف للبشرية عن منهج الحق فيكون لها خير سبيل يفضي إلى الفلاح والنجاة.
قوله :﴿ ويخرجهم من الظلمت إلى النور بإذنه ﴾ الظلمات يراد بها كل ألوان الكفر على اختلاف أسمائه ومسمياته وأصنافه. وكل ما سوى الإسلام كفر وإشراك بالله ومجانبة لمنهج الله الحق القويم. والنور هو الإسلام. أي أن الله جلت قدرته يخرج الناس بقرآنه المجيد من ظلمات الكفر والشر والباطل إلى ضياء الإسلام، وذلك بإذنه سبحانه. أي بتوفيقه، إذ كشف للناس عن سبيل الحق وعن منهجه السليم القويم، وأراهم ما كان خافيا عليهم وما لم يكونوا يعلمونه من قبل.
قوله :﴿ ويهديكم إلى صرط مستقيم ﴾ أي يرشدهم إلى صراطه المستقيم وهو الإسلام، بروعة عقيدته وكمال تشريعه وجمال قيمه ومعانيه١.
ويستوي في الكفران من هذى بنسبة الإلهية للمسيح، أو قال إنه خليقة مزدوجة من اللاهوت والناسوت أو غير ذلك من الهذيان السقيم المحموم. والحقيقة الناصعة الساطعة البلجة أن عيسى المسيح واحد من عباد الله المخاليق، ذرأه الله من غير أب، وأمه النقية، التقية البتول، المرأة المفضلة المثلى سيدة نساء العالمين عليها السلام.
قوله :﴿ قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ﴾ الفاء في قوله :﴿ فمن ﴾ عاطفة من أداة استفهام للإنكار والتوبيخ. ويملك بمعنى يقدر أو يستطيع. والمعنى : قل لهم يا محمد مبكتا : من ذا الذي يقدر أن يمنع من قدرة الله ومشيئته شيئا إن أراد الله أن يهلك المسيح وأمه والعالمين كافة، فلو كان المسيح إلها كما تزعمون لرد الموت عن أمه أو غيرها. فليس المسيح إلا عبدا من عباد الله المصطفين الأخيار وكفى٢.
قوله :﴿ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما ﴾ الله مالك كل شيء فما في الكون الواسع الرحيب من أشياء وخلائق ظاهرة وباطنه إلا وهي من خلق الله وتحت قهره وفي ملكوته. ومن جملة ذلك كله المسيح ابن مريهم. فهو واحد من الأناسي في هذا الوجود الذي يحيط به علمه وقدرته. فهل يليق بعد ذلك بذي لب أن يصدق اصطناع الألوهية للمسيح. لا جرم أن هذا الزعم هراء. بل إنه افتراء ظالم وممجوج.
قوله :﴿ يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير ﴾ وذلك كخلق عيسى من غير أب، وخلق آدم من غير أم ولا أب بل من تراب. وما يجري في هذه الدنيا من معجزات أو ظواهر خارقة للقوانين الكونية كخلق الطير من الطين وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. فإن ذلك كله من خلق الله وتدبيره فهو القادر أن يفعل ما يشاء٣.
٢ - روح المعاني ج ٦ ص ٩٩ وتفسير القرطبي ج ٦ ص ١١٩..
٣ - الكشاف ج ١ ص ٦٠٢ وتفسير القرطبي ج ٦ ص ١١٩ وروح المعاني ج ٥ ص ١٠٠..
قوله :﴿ قل فلم يعذبكم بذنوبكم ﴾ أي إن صح زعمكم أنكم أبناء الله وأحباؤه فلم يعذبكم الله بذنوبكم يوم القيامة أياما بعد الأيام التي عبدتم فيها العجل، وهو زعمكم أنفسكم ؟ كيف يعذبكم وأنتم المقربون المميزون ؟ ! اللهم إن هذا افتراء وتخريص وبهتان !
قوله :﴿ بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ﴾ أي ليس الأمر مثلما زعمت اليهود والنصارى. فما زعمهم غير تخريص واهم مكذوب لا يستند إلى أثارة من برهان إلا الاغترار والحماقة. وهم جميعا ليسوا إلا صنفا من البشر من ذرية آدم خلقهم الله كبقية خلقه لا يتميزون عن غيرهم من الناس بشيء. فمن صلح فيهم جوزي من الله خير الجزاء. ومن عصى وبغى وجنف فإنه مجزي بسوء فعله ما يستحق من العذاب والنكال يوم القيامة. والله جلت قدرته إنما يغفر لأهل الطاعة ويعذب أهل المعصية. وهذا مقتضى قوله :﴿ يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ﴾.
قوله :﴿ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير ﴾ ذلك من تتمة الرد لمقالة اليهود والنصارى من أنهم أبناء الله وأحياؤه. فإن هذيهم ضال ومكذوب، وافتراءهم على الله مستقبح وداحض، وما هم إلا كغيرهم من الخلائق. وسيجازي الله كلا بعمله من خير أو شر. والله جل جلاله قادر على ذلك كله فكل شيء قبضته وملكه وبين يديه. فهو سبحانه مالك السموات والأرض بما فيهن وما بينهن من الملائكة والجنة والأناسي وغير ذلك من مختلف الخلائق الكاثرة المبثوثة في أطواء هذا الكون المعمور. الكون الشاسع الكبير الحافل بالأشياء والأحياء والأسرار والحقائق. الكون الذي يئول في النهاية إلى الله حيث الفناء المحتوم والطاقة الكبرى !
قوله :﴿ على فترة ﴾ من الفتور وهو السكون. فتر، أي سكن بعد حدة ولان بعد شدة. والفترة ما بين كل نبيين فالمراد بالفترة عند جميع المفسرين ما بين الرسولين١ فالمعنى المقصود أن الله بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على حين فتور من إرسال الرسل وانقطاع من الوحي، أو بعد مدة متطاولة بين إرساله وعيسى ابن مريم. وهذه المدة موضع تفصيل واختلاف لا حاجة للخوض فيه.
قوله :﴿ أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير ﴾ أي لئلا تقولوا، أو كراهية أن تقولوا – متذرعين محتجين – إنه ما جاءكم من نبي مبشر ولا منذر يبلغكم وينهاكم. قال ابن عباس : قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود : يا معشر يهود اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أن محمدا رسول الله، ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه بصفته. فقالوا : ما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بعده من بشير ولا نذير فنزلت الآية٢.
قوله :﴿ فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير ﴾ وذلك رد لاعتذارهم واحتجاجهم فقد أرسل الله إليهم بمبعوثه محمد صلى الله عليه وسلم ليبين لهم ما أشكل عليهم، وما اختلفوا فيه كيلا يقولوا : لم يأتنا رسول يبين لنا ما نحن عليه من الضلالة والانحراف. فذلكم هو الرسول الأمين قد جاءكم بالحق مبشرا ونذيرا يبين لكم منهج الله الذي فيه صلاحكم وشفاؤكم. فمن آمن وصدق جوزي الفوز، ومن أعرض وصدف فقد باء بالغضب والنار. والله جلت قدرته قادر على فعل ذلك كله. بل إنه لا يعجزه أن يفعل ما يشاء٣.
٢ - تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٢١، ١٢٢ وروح المعاني ج ٥ ص ١٠٤ وتفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٦..
٣ - تفسير الطبري ج ٤ ص ١٠٨..
هذا نصيب من قصة إسرائيل مع نبيهم ومنقذهم كليم الله موسى وأخيه هارون عليهما الصلاة والسلام. وقصة موسى مع قومه مريرة أليمة تثير في النفس الدهشة والحيرة، وذلك لغرابة الطبع وشذوذ الفطرة، ولفرط ما لاقاه موسى من قومه في كيفية تفكيرهم وعجيب تصرفهم وسلوكهم بما ليس له في تاريخ الشعوب والمجتمعات نظير.
وهذه الآيات تتجلى فيها الصورة عن طبيعة بني إسرائيل لتأتي واضحة متبينة للعيان لا ينكرها أو يغفل عنها إلا خاسئ كذاب أو غبي موغل في الضلالة والجهالة.
قوله :﴿ وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا ﴾ ذلك مما امتن الله به على بني إسرائيل. فلقد امتن عليهم بمنن كثيرة لم يقدموا لله الشكران عليها، بل غالوا في الجحود والتغاضي والنسيان وأول هذه المنن أن جعل منهم أنبياء. فإن الله ما بعث في أمة من الأمم مثل ما بعثه في بني إسرائيل من الأنبياء.
وثاني هذه المنن أن جعلهم ملوكا. وتأويل ذلك يحتمل وجوها ثلاثة :
أحدهما : أنه جعلهم أحرارا يملكون أنفسهم بعد ما كانوا مملوكين في أيدي القبط، فصاروا بعد ذلك سادة غالبين لا مغلوبين ولا مقهورين.
ثانيها : أنهم جميعا ملوك. والملك من كان له الزوجة والخادم والدار.
وقيل : من كان له مركب ونزل وخادم سمي ملكا. وجملة ذلك أن من أوتي أسباب الرفاهة والراحة في الدنيا سمي ملكا. وفي الحديث " من أصبح منكم معافى في جسده آمنا في سربه١ عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ".
ثالثها : لكثرة الملوك فيهم، صاروا كلهم كأنهم ملوك لسلوكهم مسلكهم في السعة والترفه، أو لأن الملوك تكاثروا فيهم تكاثر الأنبياء٢.
قوله :﴿ وءاتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ﴾ وهذه المنة الثالثة من الله على بني إسرائيل إذ اختصهم بجملة عطايا ما أعطيت لغيرهم من الأمم. وذلك من فضل الله عليهم ليخبتوا له حق الإخبات ويشكروه حق الشكران لكنهم عتوا وعصوا.
ومن هذه العطايا فلق البحر عقب ضربه بالعصا. وإغراق فرعون وزبانيته وجنوده، وتراكم المياه على حفاف الطرق وسك البحر كأنها الجبال الشوامخ لتمر أسباط إسرائيل الاثنا عشرة وهي آمنة مطمئنة، وتظليلهم بالغمام، وانفجار الماء من الصخر الصلد، وإنزال المن والسلوى وغير ذلك مما من الله عليهم من العطايا المخصوصة.
وقوله :﴿ العالمين ﴾ ألف التعريض يحتمل معنيين. أحدهما : العهد. أي أن الله آتاهم من الآلاء والعطايا ما لم يؤت أحدا من العالمين في زمانهم.
ثانيهما : الاستغراق. فيكون التأويل أنهم أعطوا جملة عطايا لم تعطها أمة من الأمم. وذلك مثل كثرة الأنبياء، والمن والسلوى، وانفلاق البحر وغير ذلك مما ستكون لله به الحجة عليهم يوم القيامة لعتوهم وجحودهم النعم. لكنهم مع ذلك ليسوا خير الأمم كافة ولا أفضلها فإن تفضيل الأمة من عدة وجوه لا يستلزم تفضيلها من كل الوجوه. فإنه قد يكون للمفضول ما ليس للفاضل. وعلى أية حال فليس أفضل ولا أكرم ولا أصدق من أمة الإسلام. فهي بكريم محتدها وكمال ملتها وسداد شريعتها وروعة نبيها لا جرم أنها على الذروة السامقة من سلامة الفطرة وجمال الطبائع والأخلاق وحميد الخصال والصفات.
٢ - تفسير الرازي ج ١١ ص ٢٠٠ وروح المعاني ج ٥ ص ١٠٥..
فقد أمر الله نبيه وكليمه موسى عليه السلام أن يحرض بني إسرائيل على مجاهدة العمالقة الجبارين ليستعيدوا منهم البلاد المقدسة فيسكنوها لما كتب الله أنها تكون لهم شريطة أن يقاتلوا الجبابرة ولا يرهبوهم أو يهابوهم. وهو مقتضى قوله :﴿ التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين ﴾ أي لا تنكصوا على أعقابكم مدبرين هاربين خوفا وجبنا من العمالقة الجبارين. وقيل : لما حدثهم النقباء بحال الجبابرة رفعوا أصواتهم مجهشين بالبكاء مما أصابهم من شدة الذعر والهلع وانهيار الأعصاب. وقالوا : يا ليتنا متنا بمصر. وقالوا : تعالوا نجعل علينا رأسا يعود بنا إلى مصر١ وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة في الفقرات القادمة.
وقيل : الرجلان كانا من العمالقة وكانا من المؤمنين الذين يخفون إيمانهم ويخافون : أي يخافون من الجبارين أن يطلعوا على إيمانهم فيفتنوهم وكانا يعلمان أن الجبارين العمالقة خاوية قلوبهم. وهم ليسوا إلا أجسادا هائلة ضخمة فارغة من كل ظواهر الشجاعة أو البأس. فلئن قاتلهم أصحاب موسى ودخلوا عليهم باب البلد فلسوف يفرون ( العمالقة ) فرارا. ولسوف تطير قلوبهم فرقا ورعبا ثم يولون مدبرين مقهورين لا يلوون على شيء.
وهنا قد حصحص الحق ليتجلى واضحا بلجا للعالمين. وليعي من يود أن يعي من الناس أو من أولي الألباب والنظر السوي السديد. والحق المقصود هنا هو حرمان بني إسرائيل من الأرض المقدسة، فصاروا لا يستحقونها، لأنهم فرطوا فيما اشترطه الله عليهم ليكتب لهم في المقابل الأرض المقدسة. وقد اشترط عليهم الدخول على العمالقة لقتالهم ومجاهدتهم، فإن دخلوا عليهم فلسوف يكون النصر حليفهم وهو وعد الله لهم. لكنهم انتكسوا ولوا رؤوسهم وولوا مدبرين فلم يمتثلوا للشرط الذي جعله لهم. قال ابن عباس في هذا الصدد عن الأرض المقدسة وبني إسرائيل : كانت هبة ثم حرمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم. وجملة القول أن الوعد بقوله ﴿ التي كتب الله لكم ﴾ مشروط بقيد الطاعة فلما لم يوجد الشرط لا جرم لم يوجد المشروط. وهو قول الإمام الرازي١.
لما رأى موسى منهم ما رآه من العناد والنكول وفساد الطبع والعزيمة قال قولته المؤثرة المثيرة على سبيل البث والحزن والشكوى إلى الله تعالى عسى الله أن يسبغ عليه وأخيه بشؤبوب من رحمته. وجملة قيله المتوسل المتضرع أنه ما عدا أحد يجيبني أي طاعتك وتنفيذ أمرك سواي وأخي هارون. ثم دعا ربه ﴿ فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ﴾ أي افصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق وتحكم عليهم بما يستحقون. وهو في معنى الدعاء عليهم. والمراد بالفاسقين، الخارجين عن طاعة الله والناكلين عن أمره.
وقوله :﴿ أربعين سنة ﴾ منصوبة بقوله بعدها ﴿ يتيهون ﴾ والتقدير أنهم بقوا يتيهون أربعين سنة. وقيل : منصوبة بالتحريم. وقوله :﴿ يتيهون في الأرض ﴾ يقال تاه يتيه وتوها. والتيهاء المفازة التي لا يهتدي فيها. أي يسيرون فيها حيارى لا يهتدون طريقا. قال الحسن البصري في ذلك : كانوا يصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا.
وفي أرض التيه حيث الحيرة والضياع والضلال حصلت لهم خوارق عجاب كتظليلهم بالغمام، وإنزال المن والسلوى، وإخراج الماء الجاري من الصخرة الصماء كان موسى يضربها بالعصا فتتفجر منها اثنتا عشرة عينا. وهناك نزلت التوراة وشرعت لهم الأحكام. إلى غير ذلك من الخوارق و لآلاء التي من الله بها على بني إسرائيل وهم ضائعون تائهون بالرغم من نكولهم عن أمر ربهم واجترائهم عليه بالمعاصي والفسق والتمرد. لا جرم أن ذلك امتنان من الله بالغ، فاق ما حظيت به أمة من من الخير والرغد والبحبوحة. ولا غرو فلله الحجة البالغة على بني إسرائيل.
قوله :﴿ فلا تأس على القوم الفاسقين ﴾ هذه تسلية لكليم الله موسى بما يسري عن نفسه ويكفكف عنها الندم والحزن لما أصاب قومه من بلاء التيه استجابة من الله لدعائه. فما ينبغي له أن يحزن عليهم فإنهم مستحقون لما حل بهم١.
ثمة صلة وثيقة بين قصة آدم هذه وما لقيه الرسول صلى الله عليهم وسلم من كيد يهود. فقد جحدوه وكذبوه وناصبوه الكيد والعداء بالرغم من إقرارهم قبل بعثه بصدق نبوته وأنه مبعوث من الله للناس. حتى إذا جاءهم بشيرا ونذيرا ردوه وكذبوه حسدا من عند أنفسهم. فما كان من سبب للتكذيب والجحد سوى المكابرة والحسد والبغي.
وهذه قصة مثيرة مريعة تكشف عن أفدح مثلبة تستحوذ على أكثر البشر. مثلبة في غاية الخسة والبغي وسوء الطبع المشين. وتلكم هي مثلبة الحسد. هذه الخسيسة المهينة التي لا ينجو منها أحد من الناس إلا أن يكون معصوما بوحي أو ببالغ التقوى كالصديقين والزاهدين والأبرار.
إنها المثلبة من المرض الخبيث العضال الذي يخالط أكثر القلوب. فما على التحرر من أسرها والتلطخ بلوثتها إلا النوادر من عباد الله. وهي لوثة تظل تشاغل النفس من الداخل لتقضها قضا أو تؤرقها تأريقا فتسومها المكابدة والمرارة. ذلك هو شان الحاسدين الآثمين الذين لا تبرح نفوسهم مفسدة الحسد ليظلوا على الدوام يألمون ويكابدون كلما أحسوا فضلا من الله على عباده. نسأل الله النجاة والمعافاة من لوثة الحسد والحاسدين.
أما قصة ابني آدم فنبينها هنا بإيجاز واقتضاب مما ذكره كثير من أهل العلم وفيهم ابن عباس وابن مسعود وهي أن آدم عليه السلام كان لا يولد له مولود إلا ولد معه جارية فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر، ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر، وذلك للضرورة إذ ذاك. حتى ولد له ابنان يقال لهما هابيل قابيل. وكان قابيل صاحب زرع، وهابيل صاحب ضرع وكان قابيل أكبرهما وكانت له أخت أحسن من أخت هابيل. وقد طلب هابيل أن ينكح أخت قابيل فأبى عليه. وقال : هي أختي ولدت معي وهي أحسن من أختك وأنا أحق أن أتزوج بها، فأمره أبوه أن يزوجها هابيل فأبى. فقال لهما : قربا قربانا فمن أيكما قبل تزوجها. فقرب هابيل جذعة. وقيل : كبشا وقرب حزمة سنبل. فنزلت النار فأكلت قربان هابيل وكان ذلك إيذانا بالقبول فغضب قابيل وقال : لأقتلنك فأجابه هابيل بما قصه الله علينا.
وقوله :﴿ بالحق ﴾ أي اتل عليهم بالصدق تلاوة زبر الأولين من غير لبس في ذلك ولا وهم ولا كذب ولا تبديل.
قوله :﴿ إذ قربا قربانا ﴾ ظرف زمان لنبأ. والتقدير أن قصتهم في ذلك الوقت. والقربان، اسم لما يتقرب به إلى الله من نسك أو صدقة.
قوله :﴿ فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر ﴾ الذي تقبل الله منه قربانه هو هابيل، وذلك لتواضعه وتقواه وامتثاله لشرع الله. والذي لم يتقبل منه هو قابيل، لأنه أبى واستكبر وفسق عن أمر الله وسخط لما أراه أبوه في حكم الحق.
قوله :﴿ لأقتلنك ﴾ النون المشددة للتوكيد. وذلك قسم من قابيل الحاسد الذي آلى أن يقتل أخاه المؤمن لفرط ما اعتور قلبه من حسد على قبول القربان من أخيه وعلو شأنه ومنزلته عند الله فضلا عن زواج أخته الحسناء.
قوله :﴿ إنما يتقبل الله من المتقين ﴾ قال ذلك جوابا لمقالة أخيه الظالم الحاسد الذي آلى أن يقتله بغيا وحسدا. فرد مقالته بأن قبول الأعمال إنما يكون بناء على التقوى فإن الله لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق. والمتقي المتلبس بالتقوى وهو الذي يجتنب الشرك والمعاصي والآثام.
قوله :﴿ إني أخاف الله رب العلمين ﴾ أي إني أتورع لخوفي من الله أن أفعل مثلما تريد أن تفعل من خطيئة منكرة. لكني أصطبر وأحتسب عند الله إمساكي عن القتال والمدافعة، يذكرنا ورع هابيل وإحجامه عن القتل والمقاتلة ما هو جدير بالمتقين في كل زمان أن يصونوا أنفسهم من السقوط في الفتن التي طالما حاقت بالمسلمين عبر تاريخهم الطويل فعصفت بهم عصفا وأوقعت فيهم الخسائر المريعة في الأنفس فضلا عن القطيعة والتمزق وشتات الكلمة، وفي ذلك روى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان : أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي " قال : أفرأيت إن دخل علي بيتي فبسط يده إلي ليقتلني فقال : " كن كابن آدم ".
لقد ساقه تصوره المشؤوم هذا أن يقتل أخاه فقتله فكانت بذلك خسارته فظيعة وكبرى إذ خسر الدنيا والآخرة. ففي الآخرة عذاب النار وبئس القرار وفي الدنيا قد باء قابيل بفاحش الذكر والإثم المتعاضم على مر الزمن إلى قيام الساعة. وفي هذا أخرج مسلم وغيره عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه كان أول من سن القتل ".
قوله :﴿ فأصبح من النادمين ﴾ لم يندم ندم توبة، ولكنه ندم لسخط أبيه ولما أصابه من خرج وعجز أمام الغرابين اللذين تتلمذ عليهما في كيفية مواراة أخيه الميت١.
الوجه الأول : المقصود المبالغة في تعظيم أمر القتل العمد العدوان وتفخيم شأنه. أي فكما أن قتل كل الناس أمر فظيع ومستعظم، فكذلك يجب أن يكون قتل الواحد من الناس فظيعا ومستعظما. أي أن المقصود اشتراكهما في البشاعة والفظاعة والاستعظام.
الوجه الثاني : أن الذي يقتل النفس المؤمنة ظلما وعدوانا جعل الله جزاءه جهنم وغضب عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما. وكذا الذي يقتل الناس جميعا لم يزد جزاؤه على ذلك.
الوجه الثالث : المعنى أن من قتل نفسا فيلزمه من القود والقصاص ما يلزم من قتل الناس جميعا.
الوجه الرابع : أن الله جعل إثم قاتل الواحد إثم قاتل الجميع. وقيل : كان هذا الحكم مختصا ببني إسرائيل تغليظا عليهم. وقيل غير ذلك١.
قوله :﴿ ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ﴾ إحياؤها يراد به استنقاذها من سائر المهالك كالحرق والغرق والإفراط في الجوع والعطش والبرد والحر المفضي إلى الموت. وتأويل إحياء النفس الواحدة بما يكافئ إحياء النفوس جميعا يشبه ما بيناه من أن قتل النفس الواحدة كقتل النفوس جميعا. وجملة ذلك : المبالغة في تعظيم استنقاذ النفس المؤمنة من سائر أسباب الهلكة. وأن من يستنقذ النفس المؤمنة من براثن الموت ليس له من الجزاء ممن يستنقذ الناس جميعا٢.
٢ - تفسير الرازي ج ١١ ص ٢١٦- ٢١٨ وروح المعاني ج ٥ ص ١١٧- ١١٨..
ثمة خلاف في سبب نزول هذه الآية. لكن الراجح والأقوى والذي عليه الجمهور هو ما رواه أئمة الحديث عن أنس بن مالك أن قوما من عكل – أو من عرينة – قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتروا١ المدينة، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا. فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم من أول النهار فأرسل في آثارهم فما ارتفع النهار حتى جيئ بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمر٢ أعينهم وألقوا في الحرة٣ يستسقون فلا يسقون " فأنزل الله الآية في هذا الصنف من الناس الذي يعيث في الأرض فسادا وتخريبا فيثير بين الناس الرعب والفوضى، ويبدد في المجتمع ظواهر الأمن والاستقرار فيعيش المسلمون في وجل وهلع. من أجل ذلك شدد الإسلام في التنديد بهؤلاء الفاسقين المفسدين وشرع في حقهم من العقوبة الزاجرة الرادعة ما يكافئ جنايتهم النكراء. على أن محاربة الله ورسوله يراد بها محاربة أهل شريعته وملته من المسلمين. فإن محاربة المسلمين في حكم محاربة الله ورسوله. سواء كان ذلك في عصر النبوة أو غيرها من الأعصار.
والكلام في ذلك عن الحرابة، وهي إشهار السلاح وقطع السبيل خارج المصر، أو داخله على الخلاف فيمن يستحق اسم المحاربة. فقد ذهبت المالكية والشافعية إلى أن الحرابة إشهار داخل المصر أو خارجه. فهما من حيث وجوب الحد سواء. استنادا إلى عموم الآية وعلى هذا فإن المحارب من حمل على الناس السلاح في المصر أو في البرية وكابرهم على أنفسهم وأموالهم من غير عداوة أو ثأر.
واشتراط الشافعي في ذلك حصول الشوكة. ومعناها عنده قوة المغالبة. فهو بذلك يشترط البعد عن العمران، لأن المغالبة إنما تتأتى بالبعد عن العمران. وعند الإمام أبي حنيفة وآخرين أن المحاربة لا تكون إلا خارج المصر حيث الخوف وقلة النصرة والبعد عن السلطان٤.
واختلف الفقهاء وأهل العلم فيما يجب على المحارب من القتل أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف أو النفي من الأرض. فهل هذه العقوبات على التخيير فيكون الإمام مخيرا في إيقاع العقاب الذي يجده زاجرا أم أن هذه العقوبات مرتبة على قدر الجنايات تبعا للاختلاف في معنى قوله :﴿ أو ﴾. فقد ذهب فريق من أهل العلم إلى أن ﴿ أو ﴾ هنا للتخيير. وهو قول ابن عباس في رواية عنه. وقال به الحسن البصري وسعيد بن المسيب ومجاهد. فيكون المعنى بذلك أن الإمام إن شاء قتل، وإن شاء صلب، وإن شاء قطع الأيدي والأرجل، وإن شاء نفى. فأيما واحد من هاتيك العقوبات شاء الإمام فعل. وهو مذهب الإمام مالك. وقال به عمر بن عبد العزيز. وآخرون، إذ قالوا كلهم : الإمام مخير في الحكم على المحاربين. فهو يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها الله تعالى من القتل والصلب أو القطع أو النفي بظاهر الآية. قال ابن عباس : ما كان في القرآن ﴿ أو ﴾ فصاحبه بالخيار.
وذهب آخرون إلى أن ﴿ أو ﴾ لبيان أن هذه العقوبات تختلف باختلاف الجنايات وهي رواية عن ابن عباس. وعلى هذا فمن اقتصر على القتل قتل. ومن قتل وأخذ المال قتل وصلب. ومن اقتصر على أخذ المال قطع يده ورجله من خلاف. ومن أخاف السبيل ولم يأخذ المال نفي من الأرض. وهو قول أكثر العلماء. وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وحمد. واحتجوا بما ذكره الطبري عن أنس بن مالك أنه قال : سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن الحكم في المحراب فقال : " من أخاف السبيل وأخذ المال فاقطع يده للأخذ ورجله للإخافة، ومن قتل فاقتله، ومن جمع ذلك فاصلبه ".
واحتجوا أيضا بالقياس الجلي إذ قالوا : القتل العمد العدوان يوجب القتل فغلظ ذلك في قاطع الطريق وصار القتل حتما لا يجوز العفو عنه. وأخذ المال يتعلق به القطع في غير قاطع، فغلظ ذلك في قاطع الطريق بقطع الطرفين. وإن جمعوا بين القتل وبين أخذ المال جمع في حقهم بين القتل وبين الصلب ولما في الصلب من زجر للآخرين عن الإقدام على مثل هذه المعصية٥. وتفصيل الكلام في أحكام الحرابة بأكثر من ذلك في مظانه من كتب الفقه.
قوله :﴿ أو ينفوا من الأرض ﴾ اختلف في المراد بالنفي. فقد قالت الحنفية : النفي من الأرض معناه الحبس. وهو اختيار أكثر أهل اللغة. ووجه القول بأنه الحبس أن النفي إما أن يكون المراد منه النفي من جميع الأرض، وذلك غير ممكن. وإما أن يكون المراد إخراجه من تلك البلدة إلى بلدة أخرى فهو غير جائز، لأن المقصود من نفيه أن يندفع شره عن المسلمين. فإذا أخرج إلى آخر استضر أهله به. وإما أن يكون المراد إخراجه إلى دار الكفر وهو كذلك غير جائز لما في إخراج المسلم إلى دار الكفر من تعريض له بالردة وهو غير جائز. فإذا بطل الكل لم يبق إلا أن يكون المراد من النفي نفيه عن جميع الأرض إلا مكان الحبس. والمحبوس يسمى منفيا من الأرض لأنه لا ينتفع بشيء من طيبات الدنيا ولذاتها بل ينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها.
وقال الشافعي : معناه، إن وجد الإمام هؤلاء الحاربين قتلهم وصلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. وإن لم يجدهم طلبهم أبدا حتى إذا قدر عليهم فعل بهم ما ذكرناه. وهو قول أحمد وإسحق. وجملة ذلك أن المحارب يطلب حتى إذا قدر عليه أقيم عليه الحد أو يظل هاربا فزعا إلى أن يتوب ويرجع.
وقال الإمام مالك : ينفي من البلد الذي أحدث فيه جنايته إلى بلد آخر ويحبس فيه كالزاني. وقيل غير ذلك.
والذي نختاره في معنى النفي من الأرض أنه النفي من بلد إلى غيره وحبسه فيه حتى تظهر توبته من فسوقه ونزوعه عن معصيته ربه٦.
قوله :﴿ ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾ اسم الإشارة ﴿ ذلك ﴾ في محل رفع مبتدأ. وجملة ﴿ لهم خزي ﴾ من خبر مقدم ومبتدأ. والجملة في محل رفع خبر للمبتدأ الأول ( اسم الإشارة ). واسم الإشارة عائد على ما فصل من الأحكام والأجزية التي يستحقها قطاع الطرق ما بين قتل وصلب وقطع للأيدي والأرجل من خلاف ونفي من الأرض، فذلك كله خزي لهم أي ذلة وفضيحة في هذه الدنيا. وكذلك لهم في الآخرة ﴿ عذاب عظيم ﴾ حيث النار والأهوال. وذلك إذا لم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا. أما إن تابوا في الدنيا قبل الممات فإن الله تواب رحيم. وفي ذلك روى أحمد والترمذي وابن ماجه عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أذنب في الدنيا فعوقب به فالله أعدل من يثني عقوبته على عبده. ومن أذنب ذنبا في الدنيا فستره وعفا عنه فالله أكرم من أن يعود عليه في شيء قد عفا عنه ".
٢ - سمر أعينهم: أي سملها أو فقأها. أنظر القاموس المحيط ص ٢٥٢..
٣ - الحرة: أرض خارج المدينة ذات حجارة سود..
٤ - تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٥١ والهداية ج ١ ص ٤٢٣ وبداية المجتهد ج ٢ ص ٤٩١..
٥ - تفسير الرازي ج ١١ ص ٢٢٠-٢٢٢ وتفسير القرطبي ج ٥ ص ١٥١ وبداية المجتهد ج ٢ ص ٤٩٢ وروح المعاني ج ٦ ص ١١٩ وتفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٠..
٦ - تفسير الطبري ج ٤ ص ١٣٩-١٤١ وتفسير الرازي ج ١١ ص ٢٢٢ وروح المعاني ج ٥ ص ١٢٠ والكشاف ج ١ ص ٦٠٩..
وهذا القول ضعيف، لأن المشركين إن آمنوا بعد القدرة عليهم لم يقتلوا بالإجماع.
لأنه في حق المشركين يجب الإسلام ما كان قبله من شرك وآثام. وهذا معلوم والصحيح أن الآية في قطاع الطرق وهم فئة ضالة مارقة من المسلمين الخارجين على الإمام، والذين مالت نفوسهم الأثيمة للتخريب والإفساد وترويع المسلمين ظلما وعدوانا. فقد استثنى الله جل جلاله في هذه الآية التائبين من قاطعي السبيل قبل القدرة عليهم من إيقاع الحد عليهم. ولا استثناء في القصاص وحقوق الآدميين فإن ذلك لا يسقط بالتوبة إلا أن يعفو الأولياء. أما التوبة بعد القدرة عليهم فلا تغني لظاهر الآية.
وقال الشافعي في المسألة : ويحتمل أن يسقط كل حد لله بالتوبة، لأن ماعزا لما رجم تاب، فلما أتموا رجمه ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه " وهو يدل على أن التوبة تسقط عن المكلف كل ما يتعلق بحق الله تعالى. انتهى.
وفي ذلك نظر. فإن قوله : " هلا تركتموه يتوب " لا يفيد رفع الحد بالتوبة بل إن رفع الحد عن الماعز إنما كان لانخرام شرط من شروط إقامة الحد على الزاني وهو الثبات على الإقرار. فلما لم يثبت ماعز على إقراره، وبخهم النبي صلى الله عليه وسلم توبيخا لاستمرارهم في رجمه حتى مات بعد رجوعه عن الإقرار.
فالصواب أن المحاربين لا مناص من تنفيذ الحد فيهم بما يستحقونه إن قدر الإمام عليهم قبل التوبة. أما إن ظهرت منهم التوبة قبل أن يقدر عليهم الإمام فلا يقام عليهم حد من حدود الله إلا ما كان من حقوق الآدميين من قصاص أو مال فهم أحق باستيفاء حقوقهم إلا أن يعفوا١.
يأمر الله عباده بتقواه. وذلك بترك ما يجب اجتنابه من المعاصي، وبفعل الطاعات. وأن يطلبوا لأنفسهم الوسيلة، وهي القربة أو ما يتوسل به ويتقرب إلى الله من فعل الطاعات وترك المعاصي مما فيه تحصيل لمرضاته سبحانه وتعالى١.
واستدل بعض العلماء بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد، والقسم على الله تعالى بهم. وهو أن يقال : اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا.
وجملة القول في هذه المسألة أن الاستغاثة بمخلوق من الصالحين والأبرار وجعله وسيلة بمعنى طلب الدعاء منه جائز شريطة أن يكون المطلوب منه حيا لا ميتا. يستوي في ذلك ما لو كان الطالب فاضلا والمطلوب منه مفضولا أو عكس ذلك فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه تعالى لما استأذنه في العمرة : " لا تنسنا يا أخي من دعائك " وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بطلب الوسيلة له. فقد ثبت في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة " وفي صحيح مسلم مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا، ثم اسلوا لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة ".
أما إذا كان المطلوب منه ميتا أو غائبا فغير جائز. وذلك كمن يقول للغائب أو الميت من عباد الله الصالحين : يا فلان ادع الله أن يرزقني كذا وكذا، وهو يزعم أن ذلك من باب ابتغاء الوسيلة. فإن هذه بدعة من البدع التي لم يفعلها أحد من السلف، إذ ليس لمسلم أن يطلب من ميت شيئا.
وأما القسم على الله تعالى بأحد من خلقه كأن يقول : اللهم إني أقسم عليك وأسألك بفلان إلا ما قضيت لي حاجتي، فذلك جائز في النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من الناس. وعلى هذا لا يجوز القسم على الله بأحد من النبيين أو الملائكة أو الأولياء باستثناء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. ودليل ذلك ما رواه الترمذي عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ادع الله أن يعافيني. فقال :" إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك " قال : فادعه. فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء " اللهم إني أسألك وأتوجه بنبيك صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا رسول الله إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي لي. اللهم فشفعه في ".
وذهب بعض العلماء إلى عدم جواز التوسل بالذات والقسم على الله بأحد من خلقه البتة. وهو قول ابن تيمية رحمه الله. وقد نقله عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما. وأجاب ابن تيمية عن الحديث المذكور آنفا بأنه على حذف مضاف. أي أسألك وأتوجه إليك بدعاء نبيك فحذف المضاف ( بدعاء ) أو شفاعة نبيك صلى الله عليه وسلم.
ففيه جعل الدعاء وسيلة، وهو جائز. أي أنه لا يجوز التوسل بذات الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الإقسام به على الله سواء كان الرسول حيا أو ميتا. وكذلك لا يجوز التوسل أو الإقسام به على الله سواء كان الرسول حيا أو ميتا. وكذلك لا يجوز التوسل أو الإقسام بذات غيره من الأرواح المقدسة مطلقا قياسا عليه صلى الله عليه وسلم بجامع الكرامة. بل يجوز الاستشفاع به صلى الله عليه وسلم والتوسل بدعائه فقط. والاستشفاع معناه أن يطلب من الشخص الدعاء والشفاعة من الله أن يقبل دعاءه وشفاعته. وقالوا كذلك إن من الإقسام على الله الغير مشروع قول القائل : اللهم أسألك بجاه فلان. فإن ذلك لم يرد عن أحد من السلف.
وأجيب عن ذلك بأنه لا بأس في التوسل إلى الله تعالى بجاه النبي صلى الله عليه وسلم عند الله حيا أو ميتا، على أن يراد من الجاه معنى يرجع إلى صفة من صفاته تعالى، كأن يراد به المحبة التامة التي تستدعي عدم رده قبول شفاعته فيكون المعني : اللهم اجعل محبتك لرسولك وسيلة في قضاء حاجتي وهو يشبه قول الداعي : اللهم إني أتوسل برحمتك أن تفعل كذا٢.
قوله :﴿ وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون ﴾ وذلك من الجهاد. وهو بذل الجهد، بالفتح والضم بمعنى الطاقة والمشقة. والمراد قتال الكفار المشركين من أعداء الله والدين، ومن جملته مجاهدة النفس بحملها على أداء الطاعات واجتناب المحظورات، لا جرم أن ذلك يقتضي من راسخ العزيمة والقدرة على الثبات والمصابرة، وذلك جهاد كبير تظل معه النفس قائمة على الحق من غير زيغ أو اعوجاج. وقد وعد الله عباده الصابرين المجاهدين الثابتين على طريقه المستقيم أن يكونوا من المفلحين وهم الناجون من عذاب يوم القيامة، الفائزون بالدرجات والسعادة الخالدة في جنات النعيم.
٢ - روح المعاني ج ٥ ص ١٢٦-١٢٨..
على أن عقوبة السارق بقطع يده صارمة يراد منها الحيلولة بين المجتمع وأسباب الفساد والتخريب والفوضى التي يقترفها فريق فاسد من الخائنين أولي الهمم الخاوية والطباع المريضة. ونعرض هنا للحملة المسعورة الحمقاء التي يثيرها خصوم الإسلام من صليبيين واستعماريين وصهيونيين وشيوعيين ووثنيين وأتباعهم من المقلدين الناعقين. لقد أثار هؤلاء الظالمون ضجة لاهثة هوجاء من التجني على الإسلام من أجل هذه العقوبة التي فرضها الإسلام لدرء الشر والأذى عن المجتمع. أثاروا حملة مجنونة كاذبة من الدعايات الظالمة لتشويه الإسلام ولتنفير الناس من الإقبال على هذا الدين الكريم العظيم. لا جرم أنها دعايات مصطنعة ومفتراة لا تحتمل الثبات أو التماسك عند النظر والتبصر ولدى المناقشة في تعقل وروية. إن ما يثيره أعداء الإسلام من شبهات وتخريص حول هذا الدين لا يساوي في ميزان الحقيقة إلا ما تزنه الفقاقيع من ذرات البصاق المتطاير في الأفق عقيب الكلام الملفق الفاضح. الكلام الذي تجترحه حناجر الخراصين الدجاجلة من أعداء الإسلام في كل مكان وزمان.
لقد حسب هؤلاء الحاقدون الجهلة أن أيدي الناس سوف تقطع بالجملة لو عمل المسلمون بشريعة الإسلام. أو ظنوا أن مئات أو آلافا من الناس سوف يساقون في طوابير لتقطع أيديهم إذا ما طبق الإسلام، لا جرم أن هذا بهتان مبين. بل إنه تصور ضال وجهول يراود هؤلاء الفارغين الذين لا يفهمون عن حقيقة الإسلام إلا ما يعيه الأطفال الرضع عن حقيقة الكون والحياة !
إن عقوبة السرقة بالقطع لا يفرضها الإسلام إلا ضمن ضوابط وشروط. وتلكم هي الشروط نذكرها باقتضاب وإيجاز.
الشرط الأول : التكليف. أي أن يكون السارق مكلفا. والتكليف يناط هنا بالعقل والبلوغ والاختيار. أما البلوغ فهو سن الاحتلام عند الذكور، والمحيض لدى النساء.
أما الاختيار فهو كون السارق غير مكره. فإن أكره على السرقة فلا حد عليه، وذلك للخبر " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ويستدل لدرء الحد عن السارق إن كان غير بالغ ولا عاقل بالحديث " رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يحتلم وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق ".
الشرط الثاني : أن يكون المسروق مالا متقوما. وبذلك لو سرق خمرا أو خنزيرا أو كلبا أو جلد ميتة فلا تقطع يده. وكذلك لو سرق صنما أو أداة الملاهي لا حد عليه. يستوي في ذلك ما لو كان المسروق منه مسلما أو كتابيا من أهل الذمة١.
الشرط الثالث : أن يكون المسروق بالغا نصابا. ومقدارا موضع خلاف بين العلماء. فقد ذهب الجمهور وفيهم المالكية والشافعية والحنابلة والشيعة الإمامية وآخرون أن نصاب السرقة ربع دينار أو ثلاثة دراهم، فإن كان دون ذلك فليس نصابا ولا يجب فيه الحد. واحتجوا بجملة أخبار، منها ما رواه مسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا ".
وذهبت الحنفية إلى أن نصاب السرقة الموجب للقطع هو دينار أو عشرة دراهم فإن كان دون ذلك فلا حد على السارق٢ واستدلوا لذلك بجملة أحاديث منها ما رواه النسائي عن أيمن قال : " لم يقطع النبي صلى الله عليه وسلم إلا في ثمن المجن وثمن المجن يومئذ دينار ".
الشرط الرابع : كون المسروق محرزا. أي أن يأخذه السارق من داخل الحرز. وهو الموضع المكين الحصين الذي يوجد فيه المال عند سرقته. نقول حرز حريز للتأكيد، مثلما يقال حصن حصين. ونقول احترز من كذا. أي تحفظ منه٣.
على أن شرط الإحراز عظيم الأهمية للغاية. ذلك أن المال المحرز محفوظ في مكانه المناسب المحصن بما لا يستطيع معه السارقون ومرضى النفوس أن ينفذوا إليه.
فإنهم يعوزهم الاقتدار على أخذه ما دام مخبوءا في موضعه الحصين. وذلك بخلاف غير المحرز فإنه مال في حكم المسيب الذي يصير عرضه لسطو اللصوص. بل إن كونه مسيبا وغير محرز فيه من الإغواء للسارقين ما يثيرهم ويغريهم بالنفاذ إليه لأخذه. وبذلك فإن صاحب المال غير المحرز ملوم لتقصيره وتفريطه إذ جعل ماله عرضة للسرقة. ومن بالغ العدل المطلق في شريعة الإسلام أن يكون لسارق المال من غير حرز بعض العذر ليندرئ عنه الحد.
وذلك بخلاف المال الذي يكون في حرز حصين مكين فإنه يصير بعيد المنال عن السارقين واللصوص لاستحالة بلوغه أو صعوبة الحصول عليه إلا بتحطيم الحرز وإتلافه.
فهو – في هذه الحال – لا ينفذ إليه إلا من كان حاذقا بارعا في الخيانة واللصوصية. أو كان على غاية من الاجتراء المتوقح الذي يستوجب العقاب الصارم وهو القطع.
واشتراط الحرز لوجوب القطع قال به عامة أهل العلم خلافا لأهل الظاهر وآخرين : إذا احتجوا بظاهر آية السرقة على وجوب القطع في كل سرقة كيفما كانت ومهما كان حجمها، محرزة وغير محرزة. والصحيح الأول وهو اعتبار الحرز لإيقاع الحد٤ ويستدل على ذلك بما أخرجه البيهقي عن عثمان بن عفان قوله : " ليس على سارق قطع حتى يخرج المتاع من البيت " وكذلك روى البيهقي عن ابن أبي حسين المكي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة٥ جبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن " والتفصيل بأكثر من ذلك في مسألة الحرز يطلب من مظانه في كتب الفقه.
الشرط الخامس : أن تكون ثمة دعوى أو خصومة يقيمها صاحب المال المسروق ليطالب الحاكم أو القاضي بتضمين المتهم بالسرقة. فإذا ما استبان للحاكم اقتراف السرقة تماما وبشروطها المعروفة أقام الحد على السارق. وبذلك لو اعترف الجاني بالسرقة أو قامت عليه بينة بحصول السرقة منه فلا يقطع، إلا أن يأتي صاحب المال يباح بالبذل والإباحة. ومن المحتمل أن صاحب المال قد أباحه لآخذه وهو المتهم بالسرقة. أو أن يكون وقفه على المسلمين وهو واحد منهم أو أنه أذن له في دخول حرزه. ومثل هاتيك الاحتمالات تفضي إلى تحصيل الشبهة التي يدرأ بها الحد.
وبذلك لا يقام الحد على السارق إلا عقب المطالبة من صاحب المال٦.
الشرط السادس : انعدام الشبهة. والشبهة في اللغة من الاشتباه وهو الالتباس. نقول تشابها واشتبها أي أشبه كل واحد منهما الآخر فالتبسا. وأمور مشتبهة ومشبهة أي مشكلة. وشبه عليه الأمر تشبيها أي لبس عليه. فالشبهة تعني الالتباس٧.
والشبهة في الحدود ما كان من انخرام أو نقص في شروط الجناية الموجبة للحد بما يجعل هذه الجناية لا تكافئ العقوبة المقدرة في الشرع.
وهنا السرقة، فأيما انخرام أو نقص في شروطها يجعله الشرع شبهة تهبط بمستوى السرقة لتكون دون الجناية الموجبة للقطع. ذلك أن القصور في درجة الجناية قمين بدفع الحد كيلا يقع على الجاني، لأن جنايته بحصول الشبهة كانت دون الجناية الكاملة المكافئة لعقوبة القطع.
وجدير ذكره هنا أن الإسلام قد حرض تحريضا على التماس الشبهات لدرء الحدود عن الجناة ما أمكن. والتصور الإسلامي في ذلك أن الخطأ في إيقاف العقوبة خير من إيقاع العقوبة ظلما عند حصول الشبهة.
فقد أخرج الترمذي عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة ".
وأخرج الإمام أبو حنيفة في مسنده عن عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ادرؤوا الحدود بالشبهات ".
وروي عن عمر رضي الله عنه قوله : " لأن أخطئ في درء الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات " ٨.
وثمة أمثلة تطبيقية يتبين منها أن الشبهة تدرأ حد السرقة عن السارق الذي لم تكتمل جنايته. وهي أمثلة منتشرة وكثيرة :
منها : لو اجتاحت الناس مجاعة مضنية تلين فيها العزائم، وتسترخي بسببها الهمم فتجنح أنفس كثيرة قد عضها الطوى – للسرقة من أموال الناس. فلا مساغ للحاكم في مثل هذه الحال أن يقيم الحد على السارقين لما يحل بساحتهم من شبهة الجوع المضني. يقول الله جل وعلا في عموم ذلك :﴿ فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ﴾.
وكان عمر بن الخطاب يقول : " لا قطع في عام المجاعة والسنة " وذلك في عام الرمادة إذ حل بالمسلمين الجدب والقحط فقضهم الجوع قضا حتى إن بعضهم قد سرق لفرط الجوع فلم يقم عليهم عمر الحد. وذلك ما لا خلاف فيه٩.
ومنها : لو سرق ضيف من مضيفه. فإنه ينظر، إن كان سرق منه من غير حرز فلا قطع عليه، لأنه مأذون له بالدخول. ونفس الإذن يجعله الشرع شبهة تدرأ الحد. لكنه إذا سرق من حرز في داخل الدار وجب قطعه، لأنه غير مأذون له بالدخول في الحرز. وهو قول الحنفية والشافعية والحنابلة. بخلاف الإمام مالك فلا يجب عنده القطع حتى لو كسر الحرز وسرق منه المتاع، لأنه مأذون له بدخول الدار. ومجرد الإذن بدخول الدار شبهة تمنع الحد١٠.
ومنها : لو سرق من أصله وإن علا، أو من فرعه وإن نزل – كأن يسرق من أبيه أو جده، أو يسرق من ولده أو ولد ولده، فلا حد عليه. وهو قول الجمهور من العلماء، وفيهم الحنفية والشافعية والحنابلة. أما المالكية فقالوا بعدم قطع الأصل بسرقة الفرع، لكن الفرع إذا سرق من مال الأصل وجب قطعه وهو قول الشيعة الإمامية وابن المنذر وأبي ثور١١.
على أن إجماعهم على عدم قطع الأب بسرقة ولده يؤيده ما رواه أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصم أباه فقال : يا رسول الله ! إن هذا قد اجتاح مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنت ومالك لأبيك ".
وأخرج ابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من أموالهم ".
أما عدم قطع الابن بسرقة مال أبيه، فوجهه أن النفقة تجب في مال الأب لابنه حفظا له من التلف فلا يجوز إتلافه حفظا للمال.
ومنها : لو نقب أحد السارقين وحده بيتا، ثم دخل الآخر البيت وحده، فأخرج من المتاع المسروق فلا قطع على الاثنين، لأن الأول الذي نقب البيت لم يسرق بل نقب الحرز ( البيت ) فقط. أما الثاني فلم يهتك الحرز ( البيت ) بل سرق من حرز مهتوك هتكه غيره. فهو كما لو نقب رجلا بيتا ولم يدخله وذهب ثم جاء آخر فوجد البيت مهتوكا. فسرق منه فلا قطع على واحد منهما١٢.
ومنها : لو دخل حرزا وأخذ متاعا فحمله أو لم يحمله ثم مسك قبل أن يخرج من الحرز فلا قطع عليه. ولو رمى المتاع خارج الحرز ثم مسك قبل أن يخرج منه فلا قطع عليه أيضا، لأن يده لم تثبت على المأخوذ في الحالتين. فلا الأخذ لا يتم بإخراج المسروق من الحرز. وهو قول الحنفية١٣.
ومنها : لو سرق نقودا من بيوت غير حريزة كما لو كانت غير مغلقة تماما وليس عندها حارس يحرسها فلا قطع.
ومنها : لو سرق من بيت في غير العمران، كأن يكون ذلك في البر أو الصحراء أو سرق من البسات
٢ - بدائع الصنائع للكساني ج ٧ ص ٧٧ والبناية في شرح الهداية ج ٥ ص ٥٢٩..
٣ - لسان العرب ج ٧ ص ١٩٨..
٤ - المغني ج ٨ ص ٢٤٨ والأحكام السلطانية ص ٢٢٦ والمدونة ج ٤ ص ٤١٦ ومختصر المزني ص ٢٦٣ والمهذب ج ٢ ص ٢٧٩ وتحفة الفقهاء للسمرقندي ج ٣ ص ٢٣٧..
٥ - الحريسة: الشاة المسروقة من المرعى..
٦ - لمغني ج ٨ ص ٢٨٤ والبدائع ج ٧ ص ٨٨ والمهذب ج ٢ ص ٢٨٢..
٧ - القاموس المحيط ج ٤ ص ٢٨٨..
٨ - نيل الأوطار ج ٧ ص ١١٠..
٩ - المهذب ج ٢ ص ٢٨٢ والمغني ج ٨ ص ٢٧٨ وأسهل المدارك ج ٣ ص ١٧٨ والنهاية للطوسي ص ٧١٩..
١٠ - الأنوار ج ٢ ص ٥١٠ والبناية ج ٥ ص ٥٦٥ والكافي ج ٣ ص ١٨١..
١١ - المغني ج ٨ ص ٢٥٧ والمهذب ج ٢ ص ٢٨١ والبناية ج ٥ ص ٥٦٥ والمدونة ج ٤ ص ٤١٨..
١٢ - المغني ج ٨ ص ٢٨١ والبدائع ج ٧ ص ٦٥..
١٣ - البدائع ج ٧ ص ٦٥..
من تاب من السارقين من بعد ما قارفه من ظلم وهو السرقة وأصلح أمره بفعل الطاعات واجتناب المحظورات ورد ما سرقه إلى أصحابه إن أمكن أو أنفقه في سبيل الله واجتناب المحظورات ورد ما سرقه إلى أصحابه إن أمكن أو أنفقه في سبيل الله إن جهله فإن الله يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة. أما القطع فلا يسقط بالتوبة عند الجمهور، لأن فيه حق المسروق منه وهو صاحب المال.
وقال بعض التابعين : يسقط الحد بالتوبة قبل القدرة على السارق وهو أحد القولين للشافعي، لأن ذكر الغفور الرحيم في آخر الآية يدل على سقوط العقوبة عن السارق. والعقوبة هنا الحد، وظاهر الآية يقتضي سقوطه. وكذلك قوله تعالى في آية الحرابة :﴿ إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ﴾ وذلك استثناء من الوجوب فوجب حمل جميع الحدود عليه١.
قوله :﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ هذا تبديل يناسب ما سبق من حكم الله في العصاة والتائبين إذ عذب العصاة وغفر للتائبين. والأصل في ذلك كله أن الله قدير أن يفعل ما يشاء١.
جاء في سبب نزول هذه الآية عدة قوال من أهمها ما أخرجه الإمام أحمد عن البراء ابن عازب قال : مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محمم١ مجلود فدعاهم فقال : " أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم " فقالوا : نعم. فدعا رجلا من علمائهم فقال : " أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم " فقال : لا والله. ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك. نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا : تعالوا حتى نجعل شيئا نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه " قال : فأمر به فرجم. قال : فأنزل الله الآية ﴿ يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا ءامنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ﴾ ٢ ذلك تأنيس من الله لرسوله الكريم ونهي له عن التأثر والمبالاة من تهافت المنافقين في الكفر بسرعة. أي لا تعبأ ولا تحزن من مسارعة هؤلاء القوم في الكفر بموالاتهم للمشركين وكيدهم للإسلام والمسلمين. فإن الله جل وعلا ناصرك عليهم جميعا وكافيك شرهم ومكرهم.
قوله :﴿ من الذين قالوا ءامنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ﴾ يعني بذلك المنافقين وقيل : أراد بهم المنافقين وبعض أهل الكتاب من اليهود. فقد كان هؤلاء يظهرون الإيمان بألسنتهم، إذ يتفوهون به كلاما من غير أن تضمره قلوبهم. والجملة ﴿ ولم تؤمن قلوبهم ﴾ جملة حالية من ضمير ﴿ قالوا ﴾ وقيل : عطف على ﴿ قالوا ﴾.
قوله :﴿ ومن الذين هادوا ﴾ منقطع مما قبله. والذين هادوا مبتدأ وخبره ما بعده وهو قوله :﴿ سماعون للكذب ﴾ والذين هادوا بمعنى اليهود. أي من اليهود قوم سماعون للكذب. وقيل : يأتي قوله :﴿ من الذين هادوا ﴾ عطفا على قوله :﴿ من الذين قالوا ﴾ ويكون هذا تمام الكلام. ثم ابتدأ فقال :﴿ سماعون للكذب ﴾ أي هم سماعون للكذب والمعنى أن لديهم الاستعداد لقبول ما يفتريه أحبارهم وما يتقولونه من الكذب على الله بتحريف التوراة.
قوله :﴿ سماعون لقوم ءاخرين لم يأتوك ﴾ والمراد بالقوم الآخرين الذين لم يأتوه فريق من اليهود لم يصلوا إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجافوا عنه لفرط بغضهم له وحقدهم عليه، فلا يقدرون أن ينظروا إليه لشدة ما تكنه صدورهم من الكراهية له. وقيل : المعنى أنهم سماعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل قوم آخرين من اليهود وجهوهم عيونا وجواسيس ليبلغوهم ما سمعوا منه. وقيل : السماعون بنو قريظة والقوم الآخرون يهود خبير.
قوله :﴿ يحرفون الكلم من بعد مواضعه ﴾ أي يتأولون كلام الله على غير تأويله الصحيح بعد أن فهموه وعرفوا مواضعه وأحكامه التي بينها الله من فرض للفروض وتحليل للحلال وتحريم للحرام. ومن تحريفهم أنهم قالوا : شرع محمد ترك الرجم وجعل بدله الجلد أربعين جلدة. وذلك تغيير منكر لشرع الله.
قال المفسرون في هذا الصدد : إن رجلا وامرأة من أشراف أهل خبير زنيا. وكان حد الزنا في التوراة الرجم فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما، فأرسلوا قوما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسألوه عن حكمه في الزانيين إذا أحصنا. وقال : إن أمركم بالجلد فاقبلوا.
وإن أمركم بالرجم فاحذروا ولا تقبلوا. فلما سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك نزل جبريل بالرجم، فأبوا أن يأخذوا به. فقال له جبريل عليه السلام : اجعل بينك وبينهم " ابن صوريا " فقال الرسول : " هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فداك يقال له ابن صوريا " ؟ قالوا : نعم وهو أعلم يهودي على وجه الأرض. فرضوا به حكما. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : " أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى، ورفع فوقكم الطور، وأنجاكم، وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه هل تجدون فيه الرجم على من أحصن " ؟ قال ابن صوريا : نعم. فوثبت عليه سفلة اليهود. فقال : خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب. ثم سأل رسول الله عن أشياء كان يعرفها من علاماته. فقال ابن صوريا : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله النبي الأمي العربي الذي بشر به المرسلون. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزانيين فرجما عند باب مسجده٣.
وعلى هذا فقوله :﴿ يحرفون الكلم من بعد مواضعه ﴾ يعني أنهم وضعوا الجلد أربعين مكان الرجم. فهم بذلك يميلون ويزيلون كلام الله عن مواضعه التي وضعه الله فيها٤.
قوله :﴿ يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن تؤتوه فاحذروا ﴾ أي أن أوتيتم هذا المحرف المزال عن مواضعه التي وضعه الله فيها فخذوه واعلموا أنه الحق واعملوا به. وإذا لم تؤتوه وأفتاكم محمد بخلافه فاحذروه وإياكم أن تأخذوه فهو الباطل. وبعبارة أخرى فإنهم وضعوا الجلد مكان الرجم، وهو تحريف للكلم عن مواضعه.
قوله :﴿ ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا ﴾ لفظ الفتنة يحتمل عدة معان. أولها : العذاب. كقوله تعالى :﴿ يوم هم على النار يفتنون ﴾ أي يعذبون. فالله تعالى يعذب هؤلاء المفسدين المضلين لكفرهم ونفاقهم.
وثانيها : الفضيحة. أي ومن يرد الله فضيحته وخزيه بإظهار ما ينطوي عليه من خبث وباطل.
وثالثها : الإضلال. الحكم بضلاله وتسميته ضالا.
ورابعها : الاختبار. يعني من يرد الله اختباره بما يبتليه به من القيام بالتكاليف ثم يتركها ولا يؤديها فلن تستطيع أن تدفع عنه هذه الفتنة، ولن تملك له من الله ثوابا ولا نفعا. ويندرج في عموم هذه المعاني المذكورون وهو المنافقون واليهود.
قوله :﴿ أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ﴾ أي لم يرد الله أن يطهرها من رجس الكفر وخبيث الضلالة. والآية تبين أن إرادة الله لفتنتهم منوطة بسوء اختيارهم المقتضي لهذه الفتنة. فليست هذه الفتنة واقعة من الله ابتداء ولكنها متعلقة باختيار القوم السيء.
قوله :﴿ لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾ الضمير في قوله :﴿ لهم ﴾ يعود على المنافقين واليهود. أما المنافقون فخزيهم يعني افتضاحهم وهتك سترهم بانكشاف سرهم وما تخفيه صدورهم من مكر وخبث وكيد للإسلام وأما اليهود فخزيهم بقهرهم وإذلالهم وظهور كذبهم في كتمان التوراة وازدياد غمهن من سرعة انتشار الإسلام وكثرة الإقبال عليه من الناس.
أما عذاب الآخرة فهو أشد وأنكى، لأنه الخلود الدائم في النار حيث الهوان والتنكيل والغضب الشديد من العزيز الجبار٥.
٢ - أسباب النزول للنيسابوري ص ١٣٠ وتفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٩..
٣ - تفسير الرازي ج ١١ ص ٢٣٩..
٤ - الكشاف ج ١ ص ٦١٢، ٦١٣ وروح المعاني ج ٦ ص ١٣٧ وتفسير الرازي ج ١١ ص ١٣٩..
٥ - روح المعاني ج ٦ ص ١٣٩، ١٤٠ وتفسير الرازي ج ١١ ص ٢٩٣، ٢٤٠..
كرر قوله :﴿ سماعون للكذب ﴾ على سبيل التأكيد والتفخيم. والمراد بالكذب هنا الدعوى الباطلة وما كان يفتريه الأحبار من أكاذيب وتحريف للتوراة. أما السحت فالأصل فيه أنه الهلاك والاستئصال. أسحت أي استأصل. والمراد هنا بالسحت المال الحرام أو ما خبث من المكاسب فيلزم عنه العار. وقد سمي سحتا، لأنه يسحت الطاعات ويسحت البركة أي يذهبها ويستأصلها١وقيل : سمي الحرام سحتا، لأنه يسحت مروءة الإنسان. فإنه بذهاب الدين تذهب المروءة، ولا مروءة لمن ليس له دين. وقيل : المراد به هنا الرشوة في الحكم. وفي الحديث عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل لحم نبث من سحت فالنار أولى به " قيل : يا رسول الله. وما السحت ؟ قال : " الرشوة في الحكم ". وأخرج عبد الرزاق عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هدايا الأمراء سحت " وأخرج ابن المنذر عن مسروق قال : قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : أرأيت الرشوة في الحكم أمن السحت هي ؟ قال : لا. ولكن كفر. إنما السحت أن يكون للرجل عند السلطان جاه ومنزلة ويكون للآخر إلى السلطان حاجة فلا يقضي حاجته حتى يهدي إليه هدية.
وذكر الرازي في قوله :﴿ سماعون للكذب أكالون للسحت ﴾ ثلاثة وجوه :
الأول : كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه من كان مبطلا في دعواه برشوة سمع كلامه ولا يلتفت إلى خصمه. فكان يسمع الكذب ويأكل السحت. وهو قول الحسن.
الثاني : قال بعضهم : كان فقراؤهم يأخذون من أغنيائهم مالا ليقيموا على ما هم عليه من اليهودية فالفقراء كانوا يسمعون أكاذيب الأغنياء ويأكلون السحت الذي يأخذونه منهم.
الثالث : سماعون للأكاذيب التي كانوا ينسبونها إلى التوراة، أكالون للربا٢.
قوله :﴿ فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ﴾ هذا تخيير من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بين الحكم في أهل الذمة من اليهود أو الإعراض عنهم. أي إن جاءك هؤلاء متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من الخصومات ﴿ فاحكم بينهم ﴾ أي بما أراك الله ﴿ أو أعرض عنهم ﴾ من غير أن تعبأ بهم أو تكثرت، فهذا تخيير للنبي صلى الله عليه وسلم بين الحكم بين أهل الذمة لدى تحاكمهم إلينا، والإعراض عنهم. فالآية على هذا التأويل محكمة لم ينسخها ناسخ. وهو قول فريق من التابعين.
وقيل : إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :﴿ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ﴾ وقد روي النسخ عن ابن عباس. وقال به أكثر السلف. وهو مذهب الحنفية والشافعية وآخرين. قالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أولا مخيرا بين الأمرين، ثم أمره الله بإجراء الأحكام عليهم. قال النحاس في " الناسخ والمنسوخ " قوله تعالى :﴿ فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ﴾ منسوخ، لأنه إنما نزل أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود فيها يومئذ كثير. وكان الأدعى لهم والأصلح أن يردوا إلى أحكامهم. فلما قوي الإسلام أنزل الله عز وجل ﴿ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ﴾ وقال الشافعي في كتاب " الجزية " : ولا خيار له إذا تحاكموا إليه، لقوله عز وجل :﴿ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صغرون ﴾ أي أن من مقتضى صغارهم إجراء أحكام المسلمين عليهم. فإذا وجب ذلك كانت الآية منسوخة.
وعلى هذا وجب أن تجري على أهل الذمة أحكام الشريعة الإسلامية. ومن أقوال الحنفية في هذا المعنى : أهل الذمة محملون على أحكام الإسلام في البيوع والمواريث وسائر العقود إلا في بيع الخمر والخنزير فإنهم يقرون عليه ويمنعون من الزنا كالمسلمين فإنهم نهوا عنه.
قوله :﴿ وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا ﴾ قال صاحب الكشاف في تأويل ذلك : كانوا لا يتحاكمون إليه لطلب الأيسر والأهون عليهم كالجلد مكان الرجم. فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة لهم شق عليهم وتكرهوا إعراضه عنهم وكانوا خلقاء بإن يعادوه ويضاروه فأمن الله سربه٣.
قوله :﴿ وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ﴾ روي عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية : كانت قريظة والنضير. وكان النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة أدى مائة وسق وتمر، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة، فقالوا : ادفعوه إلينا فقالوا : بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت ﴿ وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ﴾ ٤.
وفي الآية يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين أهل الكتاب بالعدل. والعدل بتمامه وكماله ما تضمنه شريعة الإسلام. الشريعة الربانية المميزة القائمة على الحق والعدل.
والله جلت قدرته يحب الذين يحكمون بين الناس بالحق والعدل والنصفة. أولئك سينالهم من الله فضل وجزاء كريم فوق ما ينالهم من عاطر الذكر والسيرة مما يستجيش القلوب والألسن أن تديم الثناء والدعاء للمقسطين بالخير.
٢ - تفسير الرازي ج ١١ ص ٢٤١ وروح المعاني ج ٦ ص ١٤٠ وتفسير القرطبي ج ٦ ص ١٨٣..
٣ - سربه: السرب بالكسر بمعنى النفس والقلب والبال. وهو أيضا القطيع من القطا والظباء والخيل والحمر والنساء. انظر مختار الصحاح ص ٢٩٣ والقاموس المحيط ج ١ ص ٨٤ وانظر الكشاف ج ١ ص ٦١٤..
٤ - تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٥٦..
قوله :﴿ وما أولئك بالمؤمنين ﴾ أي ليسوا مؤمنين بك يا محمد ولا بصحة حكمك فهم بذلك كافرون. وقيل : ليسوا مؤمنين بكتابهم التوراة وإن كانوا يصطنعون الإيمان بها. فقد أبوا الاحتكام إليها في أمر الزاني، لأنه الرجم وهو يرومون دون ذلك وهو الجلد. وبذلك فإنهم لا إيمان لهم بشيء١.
قوله :﴿ يحكم بها النبيئون الذين أسلموا ﴾ الجملة حال من التوراة. وقيل الجملة مستأنفة مبينة لشأن التوراة وسمو رتبتها. والمراد بالنبيين هنا، النبيون من لدن موسى إلى عيسى المسيح عليهم الصلاة والسلام، وكان بين الاثنين ألف نبي.
وقيل : أربعة آلاف نبي. وقيل : المراد بهم هذا الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم ومن قبله من أنبياء بني إسرائيل. ويقتضي هذا التأويل أن يكون شرع من قبلنا شرعا لنا ما لم ينسخ.
قوله :﴿ الذين أسلموا ﴾ أي استسلموا وانقادوا لأمر الله، امتثالا لما كلفهم به. والإسلام لفظ عام معناه الخضوع والإذعان لأوامر الله والانقياد للتكاليف والأحكام الشرعية. فلا جرم أن يتناول مضمون الإسلام سائر النبيين والمرسلين من لدن آدم حتى النبي الخاتم عليهم الصلاة والسلام.
وقوله :﴿ للذين هادوا ﴾ أي تابوا من الكفر. وهم اليهود.
والتقدير، أن النبيين من بعد موسى – وكلهم على ملة الإسلام بما يعنيه الإسلام من خضوع وامتثال واستسلام لأمر الله – كانوا يحكمون بالتوراة فيما بين اليهود فلا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها أيما تحريف.
قوله :﴿ والربانيون والأحبار ﴾ معطوف على ﴿ النبيون ﴾. وذلك في الحكم بأحكام التوراة وحمل الناس على العمل بها. والربانيون بمعنى العلماء والحكماء وقيل : العلماء والفقهاء وهم فوق الأحبار. وقيل : هم الذين يسوسون الناس بالعلم. وهو قول ابن عباس وغيره.
أما الأحبار، فهم الفقهاء والمفرد بكسر الحاء. وسمي بذلك من أجل الحبر الذي يكتب فيه. وقيل : حبر بكسر الحاء وفتحها. وقيل : أصله من التحبير، أي التزيين والتحسين. فالأحبار يحبرون العلم أي يبينوه ويزينوه. والمراد بذلك أحبار اليهود١.
قوله :﴿ بما استحفظوا من كتاب الله ﴾ أي بالذي استحفظوه من النبيين وهي التوراة. فقد سألهم النبيون أن يحفظوها من التغيير والتبديل، وأن يعملوا بأحكامها كاملة دون انتقاص. ويدل ذلك على استخلاف النبيين للعلماء والفقهاء في أداء هذه الأمانة التي أودعوها. قال ابن جرير الطبري في تأويل ذلك : وأما قوله :﴿ بما استحفظوا من كتب الله ﴾ فإن معناه : يحكم النبيون الذين أسلموا بحكم التوراة والربانيون والأحبار يعني العلماء بما استودعوا علمه من كتاب الله الذي هو التوراة.
قوله :﴿ وكانوا عليه شهداء ﴾ أي أن هؤلاء النبيين والربانين والأحبار كانوا شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق وهو من عند الله. فهم رقباء على كتاب الله ( التوراة ) يحمونه من التغيير والتبديل.
قوله :﴿ فلا تخشوا الناس واخشون ﴾ ذلك تحذير من الله للحكام والعلماء ونهي لهم أن يخشوا غير الله فيجوروا في أقضيتهم وأحكامهم، ويمضوها على خلاف ما أمروا به من الحق والعدل خشية من سلطان أو ظالم أو خوفا من أذى يحيق بهم أو تحرجا من لوم لائم من قريب أو صديق بل عليهم أن يخشوا الله وحده في ذلك كله فلا يميلوا أو يزيغوا وأن يظلوا على تخوف من الله وحده دون سواه، فهو الأجدر أن يخافه الناس وأن يرهبوه، فإن بيده مقاليد كل شيء وهو القاهر فوق عباده وهو المقتدر على فعل كل شيء كإعزاز المؤمنين الثابتين على الحق وقصم الجبارين والطغاة والمضلين.
قال الرازي في هذا المعنى : والمعنى إياكم أن تحرفوا كتابي للخوف من الناس والملوك والأشراف فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم وتستخرجوا الحيل في سقوط تكاليف الله تعالى عنهم. فلا تكونوا خائفين من الناس، بل كونوا خائفين مني ومن عقابي.
قوله :﴿ ولا تشتروا بئاياتي ثمنا قليلا ﴾ أي إياكم أن تستبدلوا أو تستعيضوا عن آياتي وهي أحكامي وشرائعي التي فرضتها عليكم، بالثمن المهين البخس من محقرات الدنيا وخسائسها ومغرياتها كالرشوة والجاه ورضا الناس وغير ذلك من متاع الحياة الفانية، كالذي فعله أحبار يهود في كتمانهم التوراة، إذ حرفوها تحريفا وغيروا أحكامها ومعانيها تغييرا يناسب أهواءهم ورغبتهم في الدنيا بما فيها من زخرف وغرور٢.
قوله :﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكفرون ﴾ جاء في تأويل هذه الآية عدة أقوال، منها : أن هذه نزلت في اليهود فتكون مختصة بهم دون غيرهم وهذا القول ضعيف، لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ومنها : أن المراد ليس كفرا ينقل عن الملة كمن يكفر بالله واليوم الآخر. فكأنهم بذلك حملوا الآية على كفر النعمة لا على كفر الدين. وهذا ضعيف أيضا، لأن لفظ الكفر إذا أطلق انصرف إلى الكفر في الدين.
ومنها : أن من لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلا يضاهي أفعال الكفار ويشبه بذلك الكافرين. وهذا ضعيف كذلك، لأنه مخالف لظاهر الآية.
ومنها وهو الذي نختاره ونرى أنه الصحيح : أن قوله :﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكفرون ﴾ تأويله أن من جحد ما أنزل الله فقد كفر. ومن أقر بما أنزل الله فهو ظالم فاسق وليس كافرا. فالمعنى يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه. أما من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه أنه حكم الله كذلك، لكنه أتى بما يخالفه فهو حاكم بما أنزل الله إلا أنه تارك له. فلا يلزم دخوله في زمرة الكافرين بل الفاسقين الظالمين. وبعبارة أخرى فإن المصدق لشريعة الله المقر بها إقرارا والمستيقن أنها من عند الله، وأنها صالحة للناس لكنه عمل بخلافها فهو ليس كافرا ولكنه مندرج في أفواج الفاسقين الخارجين عن منهج الله. أو الظالمين الذين بدلوا شريعة الله ليحلوا مكانها شريعة غيرها. لا جرم أن أولئك عصاة خاطئون وإن كانوا غير كافرين.
قال ابن عباس : في الآية إضمار. أي ومن لم يحكم بما أنزل الله ردا للقرآن وجحدا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر.
قال ابن مسعود والحسن في ذلك : هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار أي معتقدا ذلك ومستحلا له. فأما من فعل ذلك وهو معتقد أنه راكب محرم فهو من فساق المسلمين، وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له٣.
٢ - تفسير الطبري ج ٦ ص ١٦١، ١٦٢ وتفسير ابن كثير ج ٢ ص ٦٠ وروح المعاني ج ٦ ص ١٤٤ والكشاف ج ١ ص ٩١٥ وتفسير الرازي ج ١٢ ص ٥ ص ٦..
٣ - تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٩٠ وتفسير ابن كثير ج ٢ ص ٦٠ وتفسير الرازي ج ١٢ ص ٧ والكشاف ج ١ ص ٦١٦..
فرض الله على بني إسرائيل في التوراة أن يسووا في النفس والنفس، لكنهم خالفوا ذلك عمدا وعنادا فغيروه وبدلوه ففضلوا بني النضير على بني قريظة، وخصصوا إيجاب القود على بني قريظة دون بني النضير، فكانوا لا يقيدون القرظي من النضري بل يعدلون إلى الدية، مثلما خالفوا حكم التوراة المنصوص عندهم في رجم الزاني المحصن، إذ عدلوا عنه إلى الجلد والتحميم والإشهار. من أجل ذلك جاء قوله ﴿ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ﴾ توبيخا لهم وتقريعا، لكونهم يخالفون ما كتبه الله عليهم في التوراة.
وقد اختلف العلماء في شرع من قبلنا هل هو شرع لنا ؟
وثمة قولان في هذه المسألة :
القول الأول : إننا متعبدون بشرع من قبلنا ما لم يظهر ما ينسخه. وقد ذهب إلى ذلك أكثر الحنفية وبعض الشافعية، أحمد في إحدى الروايتين عنه. وقالت به طائفة من المتكلمين. وهو قول الفقهاء. واختاره الرازي وابن الحاجب. وقال به معظم المالكية١.
واحتجوا في ذلك بعدة أدلة منها قوله تعالى :﴿ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا ﴾ والنبي صلى الله عليه وسلم من جملة النبيين فوجب في حقه الحكم بها.
وكذلك قوله تعالى :﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ فقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يقتدي بهدي من سبقه من النبيين. وشرعهم من هداهم فوجب عليه اتباعه.
ومنها قوله تعالى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ﴾ فدل على وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم لشريعة نوح ومنها قوله تعالى :﴿ ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم ﴾ فقد أمر باتباع ملة إبراهيم والأمر للوجوب.
واحتجوا من السنة بأدلة منها ما أخرجه مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " وتلا قوله تعالى :﴿ وأقم الصلاة لذكري ﴾ وهذا خطاب مع موسى عليه السلام. ولو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته متعبدين بما كان موسى متعبدا به في دينه لما صح الاستدلال بالآية.
القول الثاني : إن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا. وهو قول المعتزلة والمتكلمين وأكثر الشافعية، وأحمد في الرواية الثانية عنه، واختاره الآمدي والغزالي. واستدلوا على ذلك بعدة أدلة منها : قوله تعالى :﴿ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ﴾ وهذا يدل على أن كل واحد من النبيين ينفرد بشرع لا يشاركه فيه غيره. وأجيب عن ذلك بأن مشاركتهم في بعض الأحكام لا يمنع من أن يكون لكل واحد منهم شرع يخالف شرع الآخر، فمشاركتهم في التوحيد لا تمنع انفراد كل واحد منهم بشريعة تخالف شريعة غيره.
ومنها : ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي عمر رضي الله عنه ومعه شيء من التوراة ينظر فيه فقال : " لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي " ٢ وهذا يدل على نسخ ما تقدم.
وأجيب عن ذلك بأنه إنما نهي عن النظر في التوراة لما أصابها من تغيير وتبديل. لكن المراد هنا ما حكى الله عن دينهم في الكتاب أو ثبت عنهم بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم٣.
ومنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قاضيا له : " بم تحكم " ؟ قال : بكتاب الله. قال : " فإن لم تجد " قال : " بسنة رسول الله " قال " " فإن لم تجد " قال : " أجتهد رأيي. ولم يذكر شيئا من كتب الأنبياء الأولين وسننهم. وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه الله ورسوله ". ولو كانت الشرائع السابقة شرائع لنا لما جاز لمعاذ العدول إلى اجتهاد الرأي.
وأجيب عن ذلك بأن معاذا لم يتعرض لذكر التوراة والإنجيل اكتفاء منه بآيات في الكتاب الحكيم تدل على اتباعهما. ولأن اسم الكتاب يدخل تحته التوراة والإنجيل لكونهما من الكتب المنزلة٤.
أما أحكام القصاص المختلفة في النفس فقد بيناها في تفسير سورة البقرة عند قوله :﴿ كتب عليكم القصاص في القتلى ﴾ ولا داعي بعد ذلك للتكرار هنا. لكننا نعرض هنا للكلام عن القصاص في الأطراف أو فيما دون النفس وما يتفرع عن ذلك من أحكام. والأصل في ذلك قوله تعالى :﴿ والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص ﴾ هذه تدل على جريان القصاص فيما ذكر إلا أن يعفو المجني عليه مطلقا أو على الدية. وذلكم بيان تفصيلي بأحكام الجناية على ما ذكر في الآية. على أننا نعرض لجملة شروط يجب تحققها كيما يجوز القصاص في الأطراف أو فيما دون النفس. وتلكم هي الشروط بإيجاز واقتضاب.
الشرط الأول : التكليف في حق الجاني. فإن كان غير مكلف فلا قصاص عليه. وكونه مكلفا أن يكون بالغا عاقلا.
الشرط الثاني : أن يكون الجاني غير أصل للمجني عليه، كأن يكون أباه أو جده.
الشرط الثالث : العصمة. وهي أن يكون المجني عليه معصوما على التأييد. وبذلك لا يقطع المسلم بالحربي أو المستأمن لعدم العصمة المؤبدة.
الشرط الرابع : أن تكون الجناية عمدا عدوانا. فلا قصاص في الخطأ إجماعا.
وكذلك شبه العمد.
الشرط الخامس : أن يكون الاستيفاء ممكنا ومن غير حيف. وذلك بالمماثلة الكاملة دون نقص أو زيادة لقوله تعالى :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ﴾ ويضاف إلى ذلك عدم السراية إلى النفس غالبا. وذلك ككسر العنق والترقوة والصلب والفخذ. فإن القصاص في مثل هذه الأعضاء لا تؤمن معه السراية إلى النفس غالبا٥.
أما الأطراف فهي مفردها طرف بالفتح. ويعني في اللغة الناحية. وعند الفقهاء ما له حد ينتهي إليه من أعضاء الجسد٦ وذلك كاليد والرجل والسن والأذن والأصابع وغير ذلك مما ينتهي إلى حد كالمفصل. فإن كان كذلك جاز فيه القصاص لإمكان حصوله من غير حيف. أما إن كان مما لا ينتهي إلى حد فلا يجوز إيقاع القصاص فيه لعدم استيفاء القصاص في مماثلة تامة ومن غير حيف بما يحتمل معه حصول النقص أو الزيادة.
ويضاف إلى هذا الاشتراط الأساسي لإجراء القصاص في الأطراف شرطان آخران هما :
أولا : التساوي. أي أن يكون الطرف في المجني عليه مساويا لنظيره في الجاني، وبذلك لا يؤخذ طرف صحيح بطرف أشل. ولا يد كاملة الأصابع بناقصة الأصابع، ولا تؤخذ أصبع أصلية بأخرى زائدة.
ثانيا : الاشتراك في الاسم الخاص بالعضو أو الطرف. فلا تؤخذ يمين بيسار. ولا يسار بيمين. وكذلك لا تؤخذ أصبع بأخرى مخافة لها، كالخنصر بالسبابة، أو البنصر بالوسطى. ولا تؤخذ شفة سفلى بشفة عليا، ولا جفن أيمن بجفن أيسر، أو أذن يمنى بأذن يسرى، لأن كل واحد مما ذكر مختص باسم منفرد٧.
إذا تبين ذلك، نأخذ في الكلام عن الأطراف المذكورة في الآية وهي :
العين : وهي طرف من الأطراف التي تنتهي إلى مفصل فيجري فيها القصاص مع اعتبار الشرطين المذكورين آنفا وهما التساوي والاشتراك في الاسم. ولا ينبغي اعتبار صفة العين كالصغر والكبر، أو الضعف والقوة، أو الحسن والقبح، فمثل هذه الصفات لا يؤثر في إجراء القصاص. وعلى هذا تؤخذ عين الشاب بعين الشيخ. أو العين السليمة بالعين المريضة. أو العين الحسنة بالعين القبيحة.
الأنف : يؤخذ الأنف قصاصا بالأنف من غير اعتبار للفرق في الصفة بين الأنفين، كالصغر والكبر، أو الحسن والقبح أو المنفعة وعدمها. فيقطع الأنف الأخشم بالأخشم٨ والأخشم بالشام لتساويهما في سلامة الصورة والمنظر ؟
أما القصاص في الأنف فإنما يكون في المارن، لأنه ينتهي إلى مفصل. والمارن هو ما لان من لحم الأنف دون قصبته، لأنه ينتهي بحد. وبذلك يقتص من مارن الجاني بمثله ويقدر ما قطع من الأنف بالأجزاء كالنصف والثلث والربع، ولا يقدر القصاص بالمساحة.
الأذن : تقطع الأذن قصاصا في العمد، لأنها تنتهي إلى حد فاصل، وذلك بغض النظر عن اختلاف الأوصاف بين الآذان، ولذلك تؤخذ الأذن الكبيرة بالأذن الصغيرة. وتؤخذ أذن السميع بأذن الأصم. وأذن الأصم بأذن السميع لتساويهما في السلامة من نقص الصورة والمنظر.
ولو قطع بعض الأذن كان للمجني عليه أن يقطع من أذن الجاني بقدر ما قطع من أذنه على أن يقدر ذلك بالأجزاء كالنصف والثلث والربع٩.
السن : وهو الضرس وجمعه أسنان وأسنة. وهو مما يجري فيه القصاص وعلى هذا تؤخذ السن الصحيحة بالصحيحة. وتؤخذ المكسورة بالصحيحة. لكن لا تؤخذ الصحيحة بالمكسورة، كيلا يأخذ المجني عليه أكثر من حقه. وتؤخذ السن الزائدة بالسن الزائدة إذا اتفق محلهما لكونهما متساويين.
ولو كسر بعض سن، كان للمجني عليه أن يقتص من الجاني. وذلك أن يقدر المكسور بالأجزاء. فيؤخذ النصف بالنصف والثلث بالثلث وكل جزء بمثله. ولا يقدر ذلك بالمساحة، لأن التقدير بها ربما يؤدي إلى أخذ جميع سن الجاني ببعض سن المجنى عليه١٠.
وقوله :﴿ والجروح قصاص ﴾ قصاص مصدر يراد به المفعول : أي والجروح متقاصة بعضها ببعض. وذلك إجمال بعد تفصيل. والمراد إجراء القصاص في كل ما يمكن أن يقتص منه على أن تراعي الشروط في ذلك والتي بيناها سابقا. وعلى هذا يجب القصاص في كل ما ينتهي إلى حد أو مفصل من الأطراف أو أعضاء الجسد، كالشفتين واليدين والقدمين والأنثيين والذكر.
ديات الأعضاء والمعاني
يراد بالأعضاء هنا أطراف البدن أو أجزاؤه التي تنتهي إلى مفاصل أو حدود والجناية على الواحد من هاتيك الأعضاء يستوجب دية كاملة أو دون ذلك، على التفصيل في المسألة.
وكذلك الجناية على المعاني وهي منافع أعضاء البدن، فإنها تستوجب الدية في مقابل كل معنى أو منفعة من منافع الجسد، كالبصر والسمع الشم والذوق وغير ذلك من المعاني. على أن الضابط في ديات الأطراف ومعانيها هو أن كل ما في الإنسان منه شيء واحد ففيه الدية الكاملة. وذلك كاللسان والأنف والذكر. ففي كل واحد من هذه الأعضاء دية كاملة لانفراده في الإنسان.
وأما ما كان في الإنسان منه شيئان ففيهما كليهما الدية وفي كل واحد منهما نصف الدية. وذلك كالعينين والأذنين واليدين والقدمين.
وأما ما كان في الإنسان منه أربعة أشياء ففي الواحد منها ربع الدية وذلك كأجفان العينين، وفيها مجتمعة الدية كاملة.
وأما ما كان في الإنسان منه عشرة أشياء ففي الواحد منها عشر الدية وفيها مجتمعة الدية كاملة. وذلك كأصبع اليدين والرجلين.
وكذلك منافع أعضاء البدن فإن في إتلاف المنفعة الواحدة الدية كاملة. وذلك كإذهاب السمع أو البصر أو الشم أو العقل أو غير ذلك من المنافع١١.
إلى غير ذلك من الأحكام في الجناية على النفس وما دونها من الأطراف سواء في ذلك القصاص أو الديات. والتفصيل بأكثر من ذلك في هذه المسائل يراجع في مظانه من كتب الفقه.
قوله :﴿ فمن تصدق به فهو كفارة له ﴾ أي أن المجني عليه المستحق للقصاص إن تصدق بالقصاص بأن عفا عن الجاني، فإن ذلك كفارة للمتصدق، إذ يكفر الله عنه بتصدقه ذنوبه.
وقيل : إنه كفالة للجارح فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة، لأن العفو يقوم مقام أخذ الحق منه. والأول هو الراجح، وهو قول أكثر العلماء١٢.
ووجه الضعف في القول الثاني أن أمور الآخرة من الثواب والع
٢ - رواه أحمد وأبو يعلى..
٣ - التبصرة في أصول الفقه للفيروزابادي ص ٨٦ والمنخول للغزالي ص ٣١ والإحكام للآمدي ج ٣ ص ١٩٢ والمعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري ج ٢ ص ٣٣٦..
٤ - الإحكام للآمدي ج ٣ ص ١٩٠ والتبصرة في أصول الفقه ص ٢٨٧ والمنخول ص ٢٣٢..
٥ - الكافي ج ٣ ص ٢٠ والمغني ج ٧ ص ٧٠٣ والبدائع ج ٧ ص ٢٩٦ ومغني المحتاج ج ٤ ص ٢٦ وأسهل المدارك ج ٣ ص ١٢٠..
٦ - المصباح المنير ج ٢ ص ١٨ ومغني المحتاج ج ٤ ص ٢٥..
٧ - المغنى ج ٧ ص ٧٠٧ والمجموع ج ١٨ ص ٤٠٩..
٨ - الأخشم: الذي أصابه في أنفه داء فأفسده فصار لا يشم. انظر المصباح المنير ج ١ ص ١٨٢..
٩ - البناية على الهداية ج ١٠ ص ٥٩ وأسهل المدارك ج ٣ ص ١٢١ والمجموع ج ١٨ ص ٤٠٦ والمغني ج ٧ ص ٧١٢ والمدونة ج ٤ ص ٤٣٥ والنهاية للطوسي ص ٧٧٢..
١٠ - المجموع ج ١٨ ص ٤١٥ وحاشية الخرشي على مختصر خليل ج ٨ ص ٢١ والمغني ج ٧ص ٧٢٢..
١١ - الكافي ج ٣ ص ٩٦ والأحكام السلطانية للماوردي ص ٢٣٤ وتحفة الفقهاء ج ٣ ص ١٥٨ ومختصر المزني ص ٢٤٥ وحاشية الخرشي ج ٨ ص ٣٥..
١٢ - تفسير القرطبي ج ٦ ص ٢٠٨ وتفسير البيضاوي ص ١٥١ وفتح القدير ج ٢ ص ٤٧..
قوله :﴿ وءاتيناه الإنجيل ﴾ معطوف على ﴿ قفينا ﴾ وقوله :﴿ فيه هدى ونور ﴾ الجملة في محل نصب على الحال من الإنجيل، هذا الكتاب الرباني الكريم الذي حوى من معاني الهداية والترشيد والضياء ما يصلح عليه حال بني إسرائيل في ذلك الزمام لو اتبعوه.
قوله :﴿ ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين ﴾ مصدقا منصوب على الحال من الإنجيل. والتقدير أن عيسى عليه السلام قد أوتي الإنجيل حال كونه مصدقا للتوراة، وعلى هذا فالتصديق الأول منوط بعيسى إذ جاء مصدقا للتوراة، والتصديق الثاني منوط بالإنجيل إذ جاء مصدقا للتوراة كذلك. وقيل ﴿ مصدقا ﴾ الثاني يمكن حمله على التبشير بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله :﴿ وهدى وموعظة للمتقين ﴾ معطوف على ﴿ مصدقا ﴾ أي أن الإنجيل جاء مشتملا على النصائح والمواعظ والنواهي البليغة، وقد خصها الله بالمتقين لأنهم المنتفعون بها دون غيرهم من المعرضين المستنكفين.
الوجه الأول : أن المراد ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني : ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه مما لم ينسخ بالقرآن.
الوجه الثالث : أن المراد زجرهم عن تحريف ما في الإنجيل وتغييره كالذي فعله اليهود في إخفاء أحكام التوراة.
قوله :﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ﴾ اسم الإشارة، أولئك في محل رفع مبتدأ. هم، ضمير فصل. الفاسقون خبر المبتدأ. وقيل : هم مبتدأ ثان، وخبره الفاسقون. وكلاهما خبر أولئك في محل رفع. والفاسقون من الفسق، وهو الترك لأمر الله والخروج عن طريق الحق. ومنه الفاسق لانسلاخه من الخير ؟ وسميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها على الناس. والفاسقون من الناس الخارجون عن حكمه وعن الإيمان. أو الخارجون عن أمر الله، المخالفون له فيما أمرهم ونهاهم في كتابه١.
المخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمراد بالكتاب، القرآن الكريم. فاللام في الكتاب للعهد.
وقوله :﴿ بالحق ﴾ حال مؤكدة من الكتاب. أي أن كتاب الله الحكيم أنزله الله على رسوله متلبسا بالحق والصدق. وقيل : أنزله بالأمر الحق.
وقوله :﴿ مصدقا لما بين يديه من الكتاب ﴾ مصدقا، منصوب على الحال من الكتاب. واللام في الكتاب للجنس. أي جنس الكتاب. أي أن القرآن جاء مصدقا لكل كتاب نزل قبله من السماء.
قوله :﴿ ومهيمنا عليه ﴾ مهيمنا، منصوب على الحال من الكتاب كذلك. والمهيمن معناه الحافظ. وقيل : المصدق. وقيل : المؤتمن. وهو قول ابن عباس. أي أن القرآن مؤتمن على ما قبله من الكتب السماوية. وقيل : معناه الرقيب. أي الرقيب على سائر الكتب السماوية المحفوظة عن التغيير، إذ يشهد لها بالصحة والثبات. وقيل : الشاهد عليه بأنه الحق. على أن الكتاب الحكيم حقيق أن يكون مهيمنا على الكتب السماوية كلها، لأنه الكتاب الذي لا يصير منسوخا كليا. ولا يعتوره شيء من التحريف أو التغيير أو التبديل. بل إنه ﴿ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ﴾ وهو جدير بكل معاني الكمال والثبات والصدق. فقد حفظه الله من العبث. وهو محفوظ إلى أبد الدهر. وفي ذلك يقول عز وجل من قائل :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ﴾.
قوله :﴿ فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق ﴾ أي احكم بين أهل الكتاب ﴿ بما أنزل الله ﴾ أي بالقرآن بما فيه من أحكام وتعاليم. فإنه الحق الذي لا محيد عنه وهو المشتمل على سائر الأحكام الشرعية الثابتة الباقية. وهذا نسخ للتخيير في قوله :﴿ فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ﴾.
قوله :﴿ ولا تتبع أهوائهم ﴾ الأهواء جمع هوى. وهو ميل النفس وانحرافها عن الشيء. ثم استعمل في ميل مذموم. فيقال : اتبع هواه. وهو من أهل الأهواء١ أي لا تعمل بأهوائهم الجانحة عن الحق فتترك الحكم بما بينه الله في القرآن الكريم.
قوله :﴿ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ﴾ الشرعة بمعنى الشريعة. وهي في اللغة بمعنى مشرعة الماء وهو مورد الشاربة. والشريعة أيضا ما شرع الله لعباده من الدين. وقد شرع لهم، أي سن. والشارع الطريق الأعظم وشرع في الأمر أي خاض فيه٢.
والشرعة والشريعة بمعنى الطريقة الظاهرة التي يوصل بها إلى النجاة. أما المنهاج، فمعناه الطريق الواضح، أو المستقيم. وقيل " هما بمعنى واحد ؟ والتكرير يراد منه التأكيد. وقيل : معناه السبيل والسنة. وقيل غير ذلك.
والخطاب في الآية من الله للأمم الثلاث وهي : أمة موسى، وأمة عيسى، وأمة محمد عليهم الصلاة والسلام. أي أن الله جعل التوراة لأهلها. وجعل الإنجيل لأهله. وكذا القرآن جعله لأهله. وبعبارة أخرى. فإن الأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام كانت شرعتها ما في التوراة والتي كانت من مبعث عيسى إلى مبعث أحمد كانت شرعتهم ما في الإنجيل. أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فشرعتهم ما في هذا الكتاب الحكيم وهو القرآن وكفى. فيجب العمل بمقتضاه وما حواه من أوامر وزواجر وتعاليم تصلح عليها البشرية في الدنيا والآخرة.
وذلك كله في الشرائع والعبادات والأحكام التفصيلية. أما الأصل وهو التوحيد فلا اختلاف فيه بين الأديان جميعا. وإنما تنبثق الأديان السماوية كلها من مشكاة واحدة فتدعو الناس كافة إلى الإيمان بالله وحده لا شريك له. إلى غير ذلك من أركان الإيمان الأخرى. وجملة القول في ذلك أن الدين واحد والشريعة مختلفة. وفي ذلك ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات ديننا واحد " وهو يعني بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله وضمنه كل كتاب أنزله. أما الشرائع فمختلفة الأوامر والنواهي.
فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراما ثم يحل في الشريعة الأخرى وبالعكس. وقد يكون خفيفا فيزداد في الشدة في هذه دون هذه. وذلك لما لله في ذلك من الحكمة البالغة والحجة الساطعة٣.
قوله :﴿ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ﴾ الأمة تأتي على عدة معان. منها : الجماعة. ومنها : الحين، كقوله تعالى :﴿ وادّكر بعد أمة ﴾ أي بعد حين من الزمن وتأتي بمعنى الطريقة والدين. كقوله تعالى :﴿ كنتم خير أمة ﴾ أي كنتم خير أهل دين٤. ومعنى الآية هنا، أن الله لو شاء لجعل الناس جماعة متفقة على شريعة واحدة.
أو جعلكم ذوي أمة واحدة أي دين واحد لا اختلاف فيه. لكن الله جعلكم على شرائع مختلفة ليبتليكم. أي ليختبركم هل تعملون بتلك الشرائع فتنقادوا خاضعين لأوامر الله أم تضلوا وتفرطوا وتتبعوا الغي والأهواء.
قوله :﴿ فاستبقوا الخيرات ﴾ أي ابتدروها وتسابقوا نحوها، وامضوا لفعلها مسرعين جادين غير متوانين ولا متثاقلين.
قوله :﴿ إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ﴾ ذلك استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات بما تضمنه ذلك من الوعد والوعيد. فإذا آل الأمر بالناس إلى الله فسوف يخبرهم إذ ذاك بالمجازاة التي لا يشكون معها في معرفة المحق والمبطل. أي أن الأمر سيؤول إلى ما تزول معه الشكوك ويحصل معه اليقين وذلك عن مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته٥.
٢ - مختار الصحاح ص ٣٣٥ والقاموس المحيط ج ٣ ص ٤٥..
٣ - تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٦٦ وتفسير الرازي ج ١٢ ص ١٤ وروح المعاني ج ٦ ص ١٥٢، ١٥٣ وفتح القدير ج ٢ ص ٤٨..
٤ - مختار الصحاح ص ٢٦..
٥ - تفسير الطبري ج ٦ ص ١٧٦ والكشاف ج ١ ص ٦١٨ وتفسير الرازي ج ١٢ ص ١٥..
قال ابن عباس في سبب نزول هذه الآية : إن جماعة من اليهود منهم كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس، قال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد، عليه الصلاة والسلام، لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا : يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وأنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود ولن يخالفونا، وإن بيننا وبين قوم خصومة. ونحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك. فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله فيهم ﴿ واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ﴾ ١.
قوله :﴿ وأن احكم ﴾ في محل نصب معطوف على الكتاب. وتقدير الكلام : وأنزلنا إليك الكتاب. وأنزلنا إليك أن احكم بينهم بما أنزل الله. وتكرير الأمر بالحكم يأتي للتأكيد على الالتزام بشرع الله والحكم بما أنزل في كتابه الكريم دون غيره من الأحكام والشرائع. واستدلوا بهذه الآية على نسخ التخيير في قوله تعالى :
﴿ فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ﴾.
قوله :﴿ ولا تتبع أهواءهم ﴾ تقدم تفسير ذلك وجملته أن لا تترك العمل بما جاءك من الحق لتعمل بأهوائهم ومرادهم.
قوله :﴿ واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ﴾ أي احذر فتنة اليهود وغيرهم من الماكرين المضلين مخافة أن يستزلوك أو يصرفوك عن أقل القليل مما أنزل إليك.
وفي قوله :﴿ عن بعض ﴾ ما يثير التنبه إلى خطورة الانصراف عن أقل القليل من شريعة الله. لا مجال ولا مساغ بحال أن يتهاون المسلمون في شيء من تعاليم الإسلام مهما قلت ومهما كان السبب إلا في الأخذ بالرخص عند الضرورة ووقوع الحرج. لا مبرر في غير ذلك البتة لغض الطرف عن أي حكم من أحكام الشريعة. بل إن شريعة الإسلام وافية متكاملة لا مناص من الأخذ بها كليا. وأيما تقاعس أو تناس أو تهاون في واحد من معاني الإسلام لا جرم أنه انفتال فاحش عن صراط الله المستقيم. انفتال عن منهج الله الكامل الشامل الذي لا يقبل التجزئة والمداهنة. انفتال مثير لا يطاق ولا يحتمل فهو في تصور الإسلام مرفوض.
قوله :﴿ فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ﴾ هؤلاء اليهود الذين اختصموا عندك يا محمد، إن أبوا حكمك وأعرضوا عنك فاعلم أن الله جل جلاله إنما يريد أن يتعجل لهم العقوبة في الدنيا في مقابلة بعض من ذنوبهم التي اقترفوها. وقد عذبهم الله بالجلاء والتقهقر أمام جند الإسلام بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله :﴿ وإن كثيرا من الناس لفاسقون ﴾ المراد أكثر الناس فاسقون أي خارجون عن منهج الله متمردون على أوامره مستنكفون عن طاعته. وقيل : المراد بهم هنا اليهود. والراجح الأول، ويؤيده قوله تعالى :﴿ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ﴾ وقوله :﴿ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ﴾.
ولا يخفى على البصير المدكر ما في الآية من تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما يكفكف عن نفسه الألم والإحساس بالمرارة كلما تزاحمت عليه الخطوب من فرط كيد اليهود، وما تشبت به المشركون العرب من ضلالات الجدود٢.
٢ - تفسير الطبري ج ٦ ص ١٧٧ وتفسير القرطبي ج ٦ ص ٢١٤ وروح المعاني ج ٦ ص ١٥٥..
فهي صريح الهوى، والتمرد الصارخ على الدين الحق ارتضاه الله حكما للبشرية.
الجاهلية في ذاتها ملة عامة تضم عامة المذاهب والفلسفات والآراء والنحل والقوانين التي تخالف المنهج الإلهي الكامل والتي لا تركن لغير الرأي الممحض القاصر. فهي بذلك كفر شنيع ولا يدعو لها أو يحرض عليها أو يتشبث بها إلا معاند كفور.
قال صاحب الكشاف في بيان الجاهلية : الملة الجاهلية التي هي هوى وجهل ولا تصدر عن كتاب سماوي ولا ترجع إلى وحي من الله وقال الحسن البصري في حكم الجاهلية : هو عام في كل من يبغي غير حكم الله.
ويقول الأستاذ سيد قطب في حقيقة الجاهلية : إن معنى الجاهلية يتحدد بهذا النص. فالجاهلية – كما يصفها الله ويحددها قرآنه – هي حكم البشرللبشر، لأنها عبودية البشر للبشر، والخروج من عبودية الله ورفض ألوهية الله والاعتراف في مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون الله.
إن الجاهلية – في ضوء هذا النص – ليست فترة من الزمان ولكنها وضع من الأوضاع. هذا الوضع يوجد بالأمس ويوجد اليوم ويوجد غدا فيأخذ صفة الجاهلية المقابلة للإسلام والمناقضة للإسلام.
قوله :﴿ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ﴾ الاستفهام للإنكار والتعجيب وحكما، منصوب على التمييز. واللام للبيان فيكون المعنى أن هذا الخطاب بما فيه من إنكار وتعجيب إنما هو لقوم يوقنون. أي يتدبرون ويعقلون شرع الله وهم موقنون أن الله أحكم الحاكمين١.
فقد ورد عن عطية بن سعد قال : جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخرزج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إن لي موالي من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود وأتولى الله ورسوله، فقال عبد الله بن أبي : وإني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي : " يا أبا الحباب ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه " قال : قد قبلت : فزل الله الآية١.
قوله :﴿ يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصرى أولياء ﴾ اليهود مفعول به أول. وكذا النصارى. أولياء، مفعول ثان للفعل ﴿ تتخذوا ﴾ ومعنى لا تتخذوهم أولياء، أي لا تركنوا إلى الاستنصار بهم ولا تتوددوا إليهم فتتخذوا منهم الأحباب والأنصار والأعوان.
قوله :﴿ بعضهم أولياء بعض ﴾ أي إنما يوالي بعضهم بعضا، فبعض اليهود أنصار بعضهم على المؤمنين. وهم يد واحدة على جميعهم. وكذلك النصارى بعضهم أنصار بعض على المؤمنين. أي يوالي اليهود اليهود، ويوالي النصارى النصارى.
وهم جميعا يعادون الإسلام والمسلمين ولم يبرحوا طيلة حياتهم التآمر والتآزر فيما بينهم – وهم الضالون المضلون، المتشبثون بالعقيدة المشوهة المحرفة – فلا جرم أن يكون المسلمون أجدر بالتناصر والائتلاف والتواد فيما بينهم.
قوله :﴿ ومن يتولهم منكم فإنه منهم ﴾ أي من يتول اليهود أو النصارى دون المؤمنين، بأن يناصرهم ويؤيدهم ضد المسلمين فإنه يصبح من جملتهم وحكمهم وهو من هل دينهم وملتهم. إذ بات منسلخا عن ملة الإسلام والمسلمين بعد أن خان الله ورسوله والمسلمين، وأودى بنفسه في الخيانة والعار، وباء بالخسران المبين في الدنيا والآخرة.
قوله :﴿ إن الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ الظالمون، المتلبسون بالظلم، وهو وضع الشيء في غير موضعه. أي ظلموا أنفسهم بموالاة الكافرين، أو ظلموا المسلمين بموالاة أعوانهم من أهل الكتاب والمشركين على اختلاف مللهم. والله جل وعلا لا يهدي هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بمحادتهم الله ورسوله والمؤمنين وموالاتهم للكافرين. أي لا يرشدهم إلى الإيمان، بل يخليهم وشأنهم ليسقطوا في الكفر والضلال. لا جرم أن موالاتهم للكافرين ظلم، وذلك تعريض لأنفسهم لعذاب الله الخالد ووضع للشيء في غير موضعه.
قوله :﴿ يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ﴾ الدائر في اللغة ما أحاط بالشيء أو الحلقة. ويراد بها هنا الداهية والهزيمة، أي نخشى أن يدور الدهر علينا بداهية أو مصيبة كأن ينقلب الأمر للكفار وتكون الدولة لهم على المسلمين فنحتاج إليهم. أو نخشى أن يدور الدهر علينا بمكروه كالجدب والقحط فلا يميروننا ولا يقرضوننا. إلى غير ذلك من وجوه المعاذير الباطلة المصطنعة التي يبرر بها المنافقون موالاتهم للكافرين فيقفون معهم ويؤيدونهم ضد المسلمين. لا جرم أنها مبررات وأسباب كاذبة مرفوضة لا تتفق مع أبسط المقادير من الإيمان بالله الذي وعد عباده المؤمنين المخلصين بالنصر فقال :﴿ فعسى الله أن يأتي بالفتح ﴾ كلمة ( عسى ) من الله وعد محتوم. ووجه ذلك أن الكريم إذا وعد خيرا فعله دون أن ينثني أو يخلف. فكيف إذا كان الواعد أكرم الأكرمين ؟ ! والمراد بالفتح موضع خلاف فقد قيل : فتح مكة. وقيل : فتح بلاد الكفار. وقيل : معناه القضاء الفصل بنصر الرسول صلى الله عليه وسلم والذين معه من المؤمنين وإعلاء شأن الإسلام.
قوله :﴿ أو أمر من عنده ﴾ أي إظهار نفاق المنافقين والأمر بقتلهم لما استبان كفرهم واستبانت أسماؤهم. وقيل : الخصب والسعة. قوله :﴿ فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ﴾ هؤلاء المنافقين الذين تولوا الكافرين واستيأسوا من ظهور الإسلام، إذا رأوا نصر رسول الله والمؤمنين عضهم الندم لما كانوا يحدثون به أنفسهم وهو شكهم في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتقادهم أن الغلبة والدولة١ لهؤلاء الكافرين٢.
٢ - الكشاف ج ١ ص ٦٢٠ وروح المعاني ج ٦ ص ١٥٨..
وقوله :﴿ ويقول ﴾ قرئ بالنصب على أنه معطوف على قوله :﴿ أن يأتي ﴾ وقرئ بالرفع على أنه كلام مبتدأ. أي ويقول المؤمنون في ذلك الوقت :﴿ أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم ﴾ يقولون ذلك مخاطبين اليهود على سبيل التوبيخ مشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم ويرجون عزهم ويظهرون لهم المناصرة والمودة في كل الأحوال حتى إذا أظهر الله الإسلام وهزم الكفر والكافرين خاب رجاء هؤلاء المنافقين وانتكسوا انتكاس الذليل المفضوح. وكان المؤمنون يقولون ذلك وهم يغمرهم العجب مما يحصل من النفاق وأهله فضلا عما يخالط قلوبهم من الحبور والابتهاج لما امتن الله به عليهم من الإخلاص والثبات على دين الله.
ويحتمل أن يقول المؤمنون ذلك بعضهم لبعض. أي يقولون متعجبين : أهؤلاء الذين كانوا يحلفون لنا أنهم مؤمنون وأنهم معنا، لقد هتك الله سترهم وكشف كذبهم وخيانتهم.
وقوله :﴿ جهد أيمانهم ﴾ منصوب على أنه مصدر لأقسموا. والمعنى أقسموا إقساما مجتهدا فيه. والمعنى أن هؤلاء المنافقين اجتهدوا في حلف الأيمان المغلظة على أنهم مع اليهود أو المؤمنين، على الخلاف في ذلك.
قوله :﴿ حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين ﴾ ذلك من جملة قول المؤمنين عن المنافقين وهو بطلان أعمالهم التي كانوا يتكلفون صنعها ملقا وزلفى. وفيه معنى التعجيب. أي ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم.
وقيل : ذلك من قول الله عز وعلا في حق المنافقين على أنه شهادة لهم بحبوط أعمالهم. وسوء مصائرهم وأحوالهم١.
نزلت هذه الآية في أهل الردة. وهذا من إعجاز القرآن، إذ أخبر عن ارتداد العرب عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. فكان ما أخبره به الله في قرآنه قبل وقوعه. فقد ورد في السيرة عن ابن إسحق قال : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم عظمت به مصيبة المسلمين. فكانت عائشة، فيما بلغني تقول : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب واشرأبت اليهودية والنصرانية ونجم النفاق وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية، لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم، حتى جمعهم الله على أبي بكر. وفيما ذكر أيضا أن أكثر أهل مكة لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم هموا بالرجوع عن الإسلام حتى خافهم عتاب بن أسيد ( والي مكة حينئذ ) فتوارى. فقام سهيل بن عمرو فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة، فمن رابنا ضربنا عنقه. فتراجع الناس وكفوا عما هموا به، وظهر عتاب بن أسيد. فهذا المقام الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله لعمر بن الخطاب : إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمه١.
يتبين من مثل هذه القصة وغيرها من الأشباه والنظائر أن هذا القرآن معجز وأنه من عند الله وأن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل من ربه ليكون للناس بشيرا ونذيرا.
قوله :﴿ من يرتد منكم عن دينه ﴾ أصل يرتد يرتدد : بدالين. ويرتد بدال واحدة مشددة للإدغام.
وتأويل الآية يحتمل وجهين :
الأول : وهو تحذير المؤمنين من تولي المشركين ومناصرتهم في محاربة المسلمين.
فإن موالاة الكافرين ومعاضدتهم وذل العون والنصرة لهم لحرب المسلمين ليس إلا الردة التي ينسلخ بها المنافق من ربقة الإسلام ليكون في عداد الكافرين الذين تحل دماؤهم، وليعلم هؤلاء أن الله سيأتي بأقوام آخرين ينصرون دينه.
الوجه الثاني : الكشف عن علم الله بأن قوما من المسلين سيرجعون عن الإسلام بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرهم الله أنه سيأتي بقوم يحبهم ويحبونه، وعلى هذا الوجه فإن الآية إخبار عن غيب مستور، وقد وقع ما أخبرت الآية به. وذلك وجه من وجوه الإعجاز في الكتاب الحكيم. وهذا مقتضى قوله تعالى :﴿ فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ﴾ ومحبة الله لعباده المؤمنين إنما هي على الكيفية والمعنى اللذين أرادهما الله. ومن ظواهر محبة الله للعباد أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويجزيهم بفيض الرضا والثناء. وأما محبة العباد لربهم فهو أن تميل قلوبهم ومشاعرهم إلى الله بما يشير إلى كامل التوجه إليه وصادق الإخلاص له وحده جل شأنه. وهو ما يقتضي منهم طاعة ربهم وابتغاء رضوانه ومجانبة زواجره ونواهيه.
قوله :﴿ أذلة على المؤمنين ﴾ أذلة صفة لقوم. وهو جمع ذليل وليس ذلولا فجمعه ذلل. وليس المراد من كونهم أذلة أنهم مهانون يجدون في أنفسهم استخذاء وزراية. بل إن المراد المبالغة في وصفهم بالرفق والهوادة ولين الجانب. وذلك هو خلق المسلمين الحقيقيين فيما بينهم. فهم لا جرم أخوة متوادون متراحمون يعامل بعضهم بعضا بالتسامح والرأفة وفي غاية التواضع والرحمة.
قوله :﴿ أعزة على الكفرين ﴾ أي أشداء في مواجهتهم متغلبون عليهم. من قوله عزّه أي غلبه. والمسلمون في ذلك يجدون في أنفسهم الإحساس بالعزة والاستعلاء لما تحفل به أذهانهم وتصوراتهم من مطلق القناعة الكاملة بروعة الإسلام وكماله وصلوحه. فهم بذلك على الحق ويدعون الناس إلى الحق.
قوله :﴿ يجاهدون في سبيل الله ﴾ وذلك بكل أساليب الجهاد سواء بالكلمة الحانية المثلى أو المجادلة المؤثرة النافذة إلى القلوب والعقول، أو القتال إذا لم تجد أسباب الهداية والمنطق والرفق. وذلك كله من أجل إعلاء كلمة الله وإحقاق الحق ليشيع في الآفاق وكيما تترسخ في الدنيا قواعد العدل والأمن والرحمة.
قوله :﴿ ولا يخافون لومة لائم ﴾ الواو للعطف. أي أن المؤمنين الصادقين من شأنهم أنهم مجاهدون ابتغاء رضوان الله وأنهم أقوياء صلاب في الحق وفي الدعوة إلى الله مجاهرين عن ثقة ويقين بالإعلان عن دين الإسلام من غير أن يثنيهم عن ذلك خوف أو وجل، أو تصدهم عنه لومة اللائمين على اختلاف مراتبهم ومسمياتهم. إن الدعاة إلى الإسلام لا يعبأون بكل هاتيك العراقيل التي ينصبها المعوقون والمبطلون والظالمون في طريق الإسلام. فهم ماضون على طريق الله داعين إليه على بصيرة مهما تفاقمت النوائب والخطوب حتى يحكم الله بأمره بين الناس وهو خير الحاكمين.
قوله :﴿ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ﴾ اسم الإشارة هنا إلى ما تقدم ذكره من أوصاف المؤمنين بالتواد والتراحم فيما بينهم، والعزة على الظالمين، والمجاهدة لإعلاء كلمة الله، وعدم الخشية من لومة اللائمين، فإن ذلك كله حاصل للمؤمنين بفضل من الله وإحسان. والله جلت قدرته ﴿ واسع ﴾ أي كثير الفضل، جواد. وهو كذلك ﴿ عليم ﴾ أي كامل العلم لا يخفى عليه شيء في الكون، فلا يقع في إخباره ومواعيده خلف أو هو عليم بمصالح العباد٢.
وثمة مسألة عن المراد بالقوم الذين سيأتي بهم الله، والذين يحبهم الله وهم يحبونه فقد قيل : إنهم أبو بكر وأصحابه الأبرار، لأنهم هم الذين قاتلوا المرتدين فكسروا شوكتهم وأخضعوهم لسلطان الله وشرعه. وهو قول علي وآخرين من أهل العلم. وقيل : نزلت الآية في الأنصار، لأنهم هم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعانوه على إظهار الإسلام. وقيل : نزلت في أهل اليمن. ففي الحديث المرفوع أنه لما نزلت هذه الآية أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى الأشعري وقال : " هم قوم هذا " وقيل : غير ذلك.
أما ما تحذلقت به حناجر الروافض من أن الذين أقروا بخلافة أبي بكر وإمامته كلهم كافرون مرتدون، فإنه ضرب من الهذيان الأرعن الذي لا يستحق غير الاستهجان والاستقباح والازدراء، فهو تخريص باطل ومكذوب وفي غاية التهافت الفاجر والإسفاف الظلوم.
ومن الحق واليقين أن كلا من الخلفاء الراشدين الأربعة موضع ثقة وائتمان خالصين. وأن إمامتهم موضع احترام واعتبار وتقدير لدى كل المسلمين في سائر الأزمان. أما استدلال الروافض بهذه الآية على أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو علي ابن أبي طالب وأن أبا بكر وعمر وعثمان كانوا خاطئين لمخالفتهم مدلول هذه الآية وبانتزاعهم الإمامة من علي مع التشنيع عليهم بفاحش القول، ومهين الشتائم، فذلك محض فسق وافتراء وإيغال شنيع في الجهالة. بل إنه بهتان من القول تتقزز منه مشاعر المؤمنين الصادقين وفي طليعتهم على بن أبي طالب كرم الله وجهه، فقد كان من أعلم الناس بتأويل الكتاب الحكيم وهو أعلم من هؤلاء الروافض بذلك قطعا فلو كانت الآية دالة على إمامته هو دون غيره لاحتج بها ولو مرة واحدة.
٢ - تفسير القرطبي ج ٦ ص ٢١٩- ٢٢١ وروح المعاني ج ٦ ص ١٦٢- ١٦٤ وتفسير الرازي ج ١٢ ص ٢١- ٢٦..
أما المراد بقوله :﴿ والذين ءامنوا ﴾ فهو عامة المؤمنين، وذلك لأن عبادة بن الصامت لما تبرأ من اليهود وقال : أنا بريء إلى الله من حلف قريظة والنضير، وأتولى الله ورسوله هذه الآية على وفق قوله. وروي كذلك أن عبد الله بن سلام قال : يا رسول الله إن قومنا قد هجرونا وأقسموا أن لا يجالسونا ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل فنزلت هذه الآية فقال : رضينا بالله ورسوله وبالمؤمنين أولياء. وهذا يدل على أن الآية عامة في حق كل المؤمنين، فكل مؤمن هو ولي كل المؤمنين. يدل على ذلك قوله تعالى :﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ﴾.
وروي عن ابن عباس أن المراد بالذين آمنوا، علي بن أبي طالب. وفي رواية عنه أخرى أن المراد هو أبو بكر. والصحيح القول الأول، وهو أن المراد كل المؤمنين، استنادا إلى عموم الآية هذه وغيرها من الآيات الدالة على أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض.
قوله :﴿ الذين يقيمون الصلاة ﴾ الذين بدل من الذين آمنوا. أو صفة له، أو خبر لمحذوف تقديره هم. أو النصب على المدح. والغرض من ذكر المؤمنين هنا هو تمييز المخلصين منهم عمن يدعون الإيمان وهو مفرطون، لكن المؤمنين الخلص يكشف عن صدقهم وإخلاصهم أداؤهم للصلاة وإيتاؤهم للزكاة.. وهذا مقتضى قوله :﴿ الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ﴾.
وقوله :﴿ وهم راكعون ﴾ الواو للحال. والجملة حالية. أي يعملون ذلك حال الركوع وهو بمعنى الخشوع والخضوع والإخبات والتواضع أي أنهم يصلون ويزكون وهو خاضعون منقادون لأوامر الله ونواهيه. وقيل : المقصود بالركوع الصلاة. وقد خص الركوع بالذكر تشريفا له كقوله تعالى :﴿ واركعوا مع الراكعين ﴾. وقيل : حال من فاعل الزكاة. أي أنهم يؤتون الزكاة في حال ركوعهم في الصلاة. فقد ذكر أنها نزلت في علي كرم الله وجهه عندما سأله سائل وهو راكع في صلاته فنزع خاتمه من خنصره فطرحه له متصدقا به عليه على سبيل التطوع. ونميل للتأويل الأول على أنه الراجح، لأن محل لفظ الزكاة على التصدق بالخاتم فيه بعد. ذلك أن الزكاة لا تأتي إلا بلفظها الخاص بها وهو الزكاة المفروضة فهي اسم للواجب لا للمندوب١.
على أن اعتبار قوله :﴿ وهو راكعون ﴾ حالا من قوله :﴿ ويؤتون الزكاة ﴾ أي في حال ركوعهم، فيه ضعف. لأنه لو كان ذلك كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره، لأنه مذكور هنا في معرض المدح. وهو ما لا يقوله من يعتبر قوله.
قوله :﴿ فإن حزب الله هم الغالبون ﴾ الحزب، بمعنى الطائفة وجماعة الناس، وجند الرجل وأصحابه الذين على رأيه. حزبه الأمر أي نابه واشتد عليه. وأمر حازب وحزيب أي شديد. وحزب الله أي جنده وأنصاره وهم الذين يدينون بدينه ويعملون جاهدين لإعزاز شرعه ومنهاجه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
هذه الطائفة المؤمنة الصادقة المخلصة التي تسير على منهج الله لا جرم أنهم حزب الله فهم الغالبون الذين كتب الله لهم الغلبة والنصر٢.
٢ - القاموس المحيط ج ١ ص ٥٦ وروح المعاني ج ٦ ص ١٧١..
ومن شأن الكافرين على اختلاف مللهم ومشاربهم أن يهزأوا إذ يهزأوا بالإسلام والمسلمين. فهم لا يبرحون السخرية والاستهزاء بالإسلام في معانيه وقيمه وشعائره وتعاليمه. فتارة بالغمز واللمز في كلام مبطن ملفوف. وتارة بالطعن والتجريح وإطلاق الشتائم. وتارة أخرى بإثارة الشبهات والافتراءات والأباطيل من حول الإسلام ليشوهوه تشويها ولينفروا من حوله المسلمين والناس جميعا. فهؤلاء الحاقدون الفارغون المتربصون الكفرة ما كان ينبغي للمسلمين إلا أن يستعلوا عليهم استعلاء، وأن يبادروهم التصدي لهم فضلا عن مبارحتهم والتغيظ منهم والتقزز والاشمئزاز من موالاتهم والدنو منهم.
قوله :﴿ واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ﴾ أي خافوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. ويدخل في ذلك موالاة الكافرين جميعا. ويتحقق ذلك بكونكم مؤمنين حقا، لأن الإيمان الحق يفرض على المسلمين أن لا يوالوا الكافرين المستهزئين بل يجانبونهم ويستعلون عليهم.
وتأويل الآية أنه أذن مؤذن المسلمين يدعوهم إلى الصلاة سخر من دعوتهم إليها هؤلاء الكافرون من اليهود والنصارى والمشركين وقوله :﴿ اتخذوها هزوا ولعبا ﴾ أي اتخذوا الصلاة، أو المناداة إليها هزوا ولعبا، وبذلك قد تلبسوا بكامل الشقاوة والكفران وهم يهزؤون بها ويلعبون.
قوله :﴿ ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ﴾ أي أن سبب فعلتهم الشنيعة من الاستهزاء بالصلاة أو الأذان لهو السفه المطبق الذي يغلف عقول هؤلاء المجرمين الضالين. وكذا الران الذي يغشى قلوبهم ليذرها جاحدة كزة٢.
٢ - تفسير الطبري ج ٦ ص ٨٨ وتفسير النسفي ج ١ ص ٢٩٢..
بعد التنديد بأهل الكتاب والمشركين لاتخاذهم الإسلام هزوا ولعبا يقول الله لهم منددا : ما الذي يجده هؤلاء من مطعن يعيب الإسلام. وهو الدين الذي حوى قواعد الحق كله كالإيمان بالله وما أنزله على النبيين من كتب ورسالات. والله يأمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول لأهل الكاتب :﴿ هل تنقمون منا إلا أن ءامنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل ﴾ تنقمون بمعنى : تعيبون، أو تسخطون أو تنكرون. أي هل تعيبون منا وتنكرون إلا الإيمان بالله وبكتبه المنزلة كلها. أو هل لكم علينا من مطعن أو عيب إلا هذا الإيمان مع أنه ليس بعيب ولا مذمة فيكون الاستثناء منقطعا.
قوله :﴿ وأن أكثركم فاسقون ﴾ معطوف على ﴿ أن ءامنا ﴾ بمعنى وما تنقمون إلا الجمع بين إيماننا وببين تمردكم وخروجكم عن الإيمان. كأنه قيل : ما تنكرون منا إلا أننا خالفناكم، إذ دخلنا في دين الإسلام وأنتم خارجون منه. وقيل : الواو بمعنى مع. أي وما تنقمون منا إلا بالإيمان بالله وبكتبه جميعها مع أن أكثركم فاسقون. وقيل غير ذلك.
فالله يقول لنبيه : قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من أهل الكتاب والمشركين : هل أنبئكم يا معشر أهل الكتاب بشر من ذلك، أي من ذلك المنقوم، مثوبة عند الله، أي جزاء ثابتا عند الله، هم أنتم، إذ لعنكم الله وغضب عليكم ومسخكم قردة وخنازير.
قال صاحب الكشاف في ذلك : كان اليهود يزعمون أن المسلمين ضالون مستوجبون للعقاب فقيل لهم : من لعنه الله شر عقوبة في الحقيقة واليقين من أهل الإسلام في زعمكم ودعواكم.
قوله :﴿ من لعنه الله وغضب عليه ﴾ من لعنه، يحتمل ثلاثة أوجه : الأول : الجر، على البدل من ﴿ بشرّ ﴾.
والثاني : الرفع، على أنه خبر مبتدأ محذوف مع حذف مضاف، وتقديره : هو لعن من لعنه الله. فحذف المبتدأ والمضاف.
والثالث : مرفوع على الابتداء، وخبره ﴿ أولئك ﴾ ١.
ولعنه الله أي أبعده وأسحقه من رحمته. وغضب عليه، من الغضب وهو نقيض الرضا.
قوله :﴿ وجعل منهم القردة والخنازير ﴾ أي مسخ بعضهم قردة وهم أصحاب السبت، وبعضهم خنازير وهو كفار مائدة عيسى عليه السلام. وقيل : كان المسخان في أصحاب السبت إذ مسخت شبانهم قردة، وشيوخهم خنازير. وقد عرضنا لحقيقة المسخ في سورة البقرة بما يغني عن التكرار هنا. على أن المسخ لم يأت على بني إسرائيل جميعا، وليس كل القردة والخنازير من ذرية بني إسرائيل. بل إن قوما من بني إسرائيل حاق بهم المسخ فصاروا قردة وخنازير. وكذلك ليس كل القردة والخنازير من مماسيخ بني إسرائيل، بل إنهم خلق من خلق الله وكانوا من قبل أن يحيق المسخ بالقوم. وفي ذلك أخرج مسلم عن ابن مسعود قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير أهي مما مسخ الله ؟ فقال : " إن الله لم يهلك قوما – أو قال : لم يمسخ قوما – فيجعل لهم نسلا ولا عقبا وأن القردة والخنازير كانت قبل ذلك ".
قوله :﴿ وعبد الطاغوت ﴾ ذكر صاحب الكشاف أنواعا من القراءات في ذلك، منها : وعبدوا الطاغوت. وهي قراءة أبي.
ومنها : ومن عبدوا الطاغوت. وهي قراءة ابن مسعود.
ومنها : ومن عبد الطاغوت. فهو عطف على صلة " من ".
ومنها : وعابد الطاغوت، عطفا على القردة.
أما الطاغوت، فالمراد به موضع خلاف. فقيل : العجل الذي عبده اليهود، وعن ابن عباس والحسن البصري أنه الشيطان. وقيل : معناه الكهنة والأحبار. فإن كل من أطاع أحدا في معصية الله فقد عبده.
قوله :﴿ أولئك شر مكانا ﴾ اسم الإشارة في محل رفع مبتدأ. شر خبره. مكانا منصوب على التمييز. أي أولئك الممسوخون المقبوحون الذين حاق بهم اللعن والغضب شر مستقرا ومنصرفا وهو جهنم وبئس المصير. وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر مشاركة.
قوله :﴿ وأضل عن سواء السبيل ﴾ أي أنتم يا بني إسرائيل أكثر ضلالا وأشد جورا عن سبيل الرشد والقصد وأعظم بعدا عن طريق الحق القويم حيث الحنفية السليمة المستقيمة والتوحيد الكامل الخالص والإخبات والخضوع والإذعان لله وحده دون سواه والاهتداء بهديه ومنهاجه من غير زيغ ولا تحريف٢.
٢ - تفسير الطبري ج ٦ ص ١٨٩- ١٩١ وفتح القدير ج ٢ ص ٥٥ والكشاف ج ١ ص ٦٢٥ وروح المعاني ج ٦ ص ١٧٥- ١٧٧..
الخطاب في قوله :﴿ جاءوكم ﴾ موجه للرسول صلى الله عليه وسلم والجمع للتعظيم، أو أنه موجه له ولمن عنده من المؤمنين المخلصين وهم أصحابه الكرام رضوان الله عليهم. والمعنى أن هؤلاء اليهود إذا جاءوك أظهروا لكم الإسلام وأنهم يؤمنون معكم، وهم في الحقيقة يخفون في أنفسهم الكفر، ولم يكسبهم الاستماع إليكم وإلى نصائحكم شيئا. ولكنهم على حالهم من الكفر والعناد وإيثار التكذيب والتمرد. وهو مقتضى قوله :﴿ وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به ﴾ الجملتان في محل نصب على الحال من ضمير ﴿ قالوا ﴾ أي أن هؤلاء اليهود يخرجون من عندك كما دخلوا، إذ لم ينتفعوا بحضورهم بين يديك ولم يستجيبوا لما تدعوهم إليه بالحجج الدامغة والدلائل الظاهرة ولم يؤثر فيهم ما سمعوه منك.
قوله :﴿ والله أعلم بما كانوا يكتمون ﴾ تلك مبالغة في الكشف عما في قلوب هؤلاء المنافقين من اليهود، إذ كانوا يكنون للإسلام والمسلمين الغيظ والبغض والعداوة. وكانوا يمكرون بهم مكرا ويكيدون لهم كيدا. ويمكن استقراء الوعيد من هذا القول. فالله جلت قدرته عليم بأحوال هؤلاء المنافقين الماكرين وما تكنه صدورهم من كراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه العظيم. وما يحيق مثل هذا المكر السيء أو القصد الخبيث إلا بأهله.
قوله :﴿ وأكلهم السحت ﴾ السحت مفعول به للمصدر ﴿ أكلهم ﴾ المراد بالسحت هنا : الرشوة التي كانوا يأخذونها على حكمهم بغير كتاب الله لمن حكموا له به. وقيل : معناه الحرام مطلقا.
قوله :﴿ لبئس ما كانوا يعملون ﴾ أي لبئس شيئا عملوه. أو لبئس العمل كان عملهم. ذلك تنديد بيهود وما جنوه في حق النبيين والمؤمنين من أفاعيل السوء والمجاوزات لحدود الله وانتهاك لشريعته كالظلم والعدوان والخدع وأكل الحرام.
قوله :﴿ لبئس ما كانوا يصنعون ﴾ يصنعون، من الصنع، بمعنى العمل إلا أنه يقتضي الجودة. وليس كل عمل يسمى صناعة إلا بتكرار العمل حتى رسوخه ليكون ملكة لفاعله فيسمى صنعا أو صناعة، وبذلك فإن الصنع أبلغ من العمل، لأنه يقتضي الرسوخ. وعلى هذا فإن الآية تشير إلى أن ترك النهي عن المنكر لهو أقبح من ارتكابه. قال ابن عباس في هذه الآية : هي أشد في القرآن. وقال الضحاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها١.
قوله :﴿ غلت أيديهم ﴾ ذلك رد من الله عليهم لما قالوه وقابلهم فيما افتروه من باطل وائتفاك فدعا عليهم بالبخل المذموم. وقد وقع لهم ذلك إذ جعل في نفوسهم خليقة الشح والإمساك والضن بالخير. لا جرم أن فيهم من مثالب البخل والحسد والتدسس ما ليس له في غير نظير.
وقيل : المراد أنهم شدت أيديهم إلى أعناقهم في نار جهنم.
قوله :﴿ ولعنوا ﴾ أي أبعدوا عن رحمة الله وفضله. وهذا دعاء ثان معطوف على الأول ﴿ غلت أيدهم ﴾ وذلك بسبب مقالة السوء والباطل التي اندلقت من أفواهم وهو ما نسبوه من البخل إلى الله. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، لذلك قال :﴿ بما قالوا ﴾ أي بسبب ما قالوه من ائتفاك شنيع.
قوله :﴿ بل يداه مبسوطتان ﴾ أي، ليس الشأن ما كذبوا بل إن الله جلت قدرته جواد كريم. وهو في غاية ما يكون من الجود والسخاء. ويشير إلى ذلك تثنية اليدين مبالغة في الرد ونفي البخل عن جلاله سبحانه بما يدل على أقصى غايات العطاء والسخاء.
أما اليد فقد قيل في تأويلها جملة أقوال منها : أنها النعمة، وأنها القوة، وأنها الملك، وأنها القدرة. وسائر هذه المعاني حاصلة في المراد باليد، خلافا للتأويل المرفوض الذي تكلفته المجسمة، إذ قالوا : يد الله عضو جسماني ككل أحد ذي يد. وهو تأويل باطل تكذبه أصول العقيدة وتدحضه نصوص الكتاب والسنة.
قوله :﴿ ينفق كيف يشاء ﴾ الجملة في محل نصب على الحال من ضمير ﴿ ينفق ﴾ أي أن الله يرزق مثلما يريد، فإن شاء قتر وإن شاء وسع، كل ذلك وفق حكمته البالغة التي تقوم على أساسها الحياة والأحياء.
قوله :﴿ وليزيدن كثيرا منهم ما أزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ﴾ اللام للقسم ﴿ كثيرا ﴾ مفعول به أول. ما في محل رفع فاعل. طغيانا مفعول به ثان. كفرا، معطوف. والكثير المقصود في الآية هم علماء اليهود، فإنهم يزدادون بنزول القرآن إنكالا وكفرا. فما كان القرآن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتوالى عليه نزوله حتى يزداد علماء يهود وأحبارهم ورؤساؤهم تغيظا وعتوا ومبالغة في الإعراض والنكوص والتمرد.
قوله :﴿ وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ﴾ ذلك عقاب لأهل الكتاب في هذه الدنيا، لما عتوا عن أمر ربهم ومكروا بأنبيائهم واعتدوا عليهم بالتكذيب والتنكيل والافتراء والقتل، خصوصا هذا النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم وهو سراج العالمين وضياء الكون كله وإمام الثقلين في الدارين فقد كذبوه وآذوه وقابلوه بالكيد والصد والعدوان والقتال. وفي مقابل هذا الكفر والجحود والعدوان على الحق وأهله ابتلاهم الله بعذاب من عنده في هذه الدنيا قبل عذاب الآخرة جزاء لما فعلوه في حق الكتب الربانية المنزلة والأديان السماوية من تحريف وتشويه وافتراء.
على أن المقصود بالعداوة والبغضاء ما بين اليهود والنصارى من العدوان القديم.
وقيل : المقصود ما بين اليهود أنفسهم فهم فيما بينهم متباغضون متنافرون تطغى عليهم ظواهر الأنانية المقيتة والمشاحنات الممضة التي تمزق القلوب وتزرع الكراهية والمباغضة التي تفضي إلى الافتراق والشقاق، ولا يغرن أحدا ما يجده في يهود من شعب يتظاهر بالالتئام في دولة صهيونية أقامها تحالف الاستعماريين والصليبيين والماسونيين والشيوعيين في فلسطين. لا يغترن أحد بالظاهر من الالتئام والاتفاق المصطنع الذي يخفي وراءه المباغضات والعداوات فيما بين الأفراد والأحزاب والطوائف. مباغضات وعداوات
لا يخفيها إلا كثافة الإعلام الكاذب. والتخوف من العدو المحدق المنتظر وهم المسلمون.
أما العداوة والبغضاء بين النصارى أنفسهم فذلك مستقر ومستطير. عداوة وبغضاء تزعجهم إزعاجا وتقض قلوبهم وأعصابهم قضا. فهم ما تكاد تتفق أهواؤهم وقلوبهم ولا تتحدد كلمتهم وشعوبهم. وإنما هم باقون على حالهم من الانقسام والشقاق والتنافر حتى تعصف بين دولهم وشعوبهم حروب القتل والتدمير في كثير من الأحايين وبخاصة في مطلع العصر الراهن وهذا القرن بالذات والذي حصدت فيه الحرب عشرات الملايين من الناس. وفي مقدمة ذلك الحرب العالمية الثانية تلك الحرب اللاهبة الضروس بين ما يسمى دول المحور بقيادة النازيين، ودول الحلفاء بقيادة الأمريكيين والبريطانيين.
وربما يعيّرنا بعض المغرضين من الجهلة والمضلين فيقولون : لقد حصل مثل ذلك عند المسلمين. فيجاب عن ذلك بأنه قياس متهافت وموهوم. فلئن كان بين المسلمين مذاهب غريبة وشاذة فإنما هي صغيرة واهية ومحدودة. بل إنها بالغة الهوان والضعف فليس لها في واقع الإسلام والمسلمين تأثير يذكر سواء في العقيدة أو الفكر أو التصور أو حياة المجتمع. بل إن هاتيك المذاهب الغريبة والشاذة قد تلاشت وانقضت ومضى ذكرها وزمانها فما عادت تذكر إلا بين السطور في الكتب.
وذلك كالسبأية والغرابية والعلبائية والباطنية والمانية والجهمية والمشبهة والمجسمة والإسماعيلية والرافضة والزرادشتية وإخوان الصفا وغيرهم من المذاهب والفئات الشاذة التي ما كان لها أيما تأثير على المجتمع الإسلامي طيلة حياته. فهو المجتمع المتماسك المصون الذي بني على العقيدة السمحة الراسخة رسوخ الجبال الرواسي.
المجتمع الذي يستمد تصوره ومنهجه في الحياة من الكتاب والسنة. فالمسلمون في الحقيقة، جلهم على السنة الصحيحة السليمة فهم على الدوام ملتئمون متفقون متحدون، إلا من ندر ممن ليس له أثر.
قوله :﴿ كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ﴾ المراد بالذين أوقدوا الحرب اليهود. أي كلما خططوا وأعدوا وجمعوا لإشعال الحرب خذلهم الله وأثار فيهم الرعب والجبن وأفضى بهم إلى التقهقر. وإيقاد نار الحرب كناية عن إشعال الحرب نفسها. وقيل : إظهار الكيد للمؤمنين وإطفاؤها معناه دفع شرهم أو صرف أذاهم وكيدهم عن المؤمنين. والمقصود بالحرب من اليهود محاربتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل : أعم من ذلك. فأيما حرب خططوا لها أو أرادوا إثارتها كتب الله فيها لأعدائهم الغلبة فكان اليهود فيها مقهورين داخرين.
وقيل : إن اليهود لما خالفوا التوراة وحرفوها وبدلوها تبديلا أرسل الله عليهم الطاغية بختنصر فدمرهم تدميرا، واستأصل شأفتهم استئصالا، وبدد هيكلهم تبديدا وجعله شذر مذر. ثم أفسدوا فأرسل عليهم الرومان فقضوا عليهم وأذهبوا شوكتهم وأذلوهم إذلالا. ثم أفسدوا فأرسل عليهم المجوس. ثم أفسدوا فبعث الله عليهم المسلمين، فأزالوا شوكتهم وجعلوهم أهل ذمة يؤدون الجزية لدولة الإسلام ليأمنوا على أنفسهم وذرياتهم وأموالهم. لا جرم أن اليهود استظلوا بظل الإسلام والمسلمين إبان سلطانهم ردحا عظيما من الزمن فكانوا آمنين سالمين مطمئنين لا يمسهم رهب ولا ظلم ولا عدوان خلافا لما لاقوه من ويلات الإبادة والاستئصال والإذلال خلال عيشهم ووجودهم بين شعوب الأرض من غير المسلمين.
وإذا ما طرأت لليهود دولة في أرض المسلمين – كفلسطين – فلا جرم أن هذه ظاهرة مخالفة لطبيعة الأشياء ومناهضة لمنطق الحقيقة والتاريخ. وما كان لمثل هذه الظاهرة المذهلة أن تتجسد على سطح الواقع لولا انفتال المسلمين عن دينهم بعد أن خبت في قلوبهم جذوة العقيدة الدافعة الوهاجة وبعد أن تبددت وحدتهم وكلمتهم فتمزقوا في الأرض شعوبا واهية مستضعفة، فضلا عن كثافة التمالؤ بين أعداء الإسلام من استعماريين وصليبيين وصهيونيين وشيوعيين وغيرهم عبر مؤامرة دولية هائلة كبرى خطط لها في الظلام لكسر المسلمين وتدمير سلطانهم ومجدهم وقتلهم بددا.
قوله :﴿ ويسعون في الأرض فسادا ﴾ فسادا، منصوب لأجله. أو حال من ضمير ﴿ يسعون ﴾. والمعنى أنهم يجتهدون في الكيد للإسلام بتشويه صورته بمختلف الأساليب كإشاعة الأكاذيب والشبهات عن حقيقة الإسلام وعن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بما يثير الكراهية والنفور في نفوس المسلمين وغيرهم من الناس. وهم في ذلك يتفقون مع الاستعماريين والصليبيين في التحريض على ملة الإسلام ليضعفوا المسلمين فيذروهم خاوين مزعزعين وقد طغى عليهم الوهن والخور والإحساس بالنقص وضرورة التبعية للحضارة المادية الكافرة١.
قوله :﴿ ولأدخلناهم جنات النعيم ﴾ أي لكانوا من الفائزين بخير ما يطرأ على قلب بشر من الخيرات الحسان والبركات العظام في جنات الخلد.
قوله :﴿ وما أنزل إليهم من ربهم ﴾ أي القرآن. وقيل : سائر كتب الله، فهم مكلفون بالإيمان بجميعها.
قوله :﴿ لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ﴾ لما أصر اليهود على تكذيب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أصابهم القحط والجدب والشدة فعانوا بذلك قسوة الفقر والمضانكة. فالله يبين لهم أنهم لو استجابوا لداعي الحق وتحرروا من إسار الشذوذ واللؤم والعناد لوسع الله عليهم في الرزق، ولأفاض عليهم من بركات السماء والأرض فعاشوا في النعماء والبحبوحة. هذا مقتضى قوله :﴿ لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ﴾ وتأويل ذلك يحتمل عدة وجوه هي :
الأول : أن المراد من ذلك المبالغة في ذكر السعة والخصب. وليس المراد أن هناك فوقا وتحتا كالذي عليه ظاهر العبارة أي لأكلوا أكلا دائما ومنعما وغير منقطع لكثرته.
الثاني : إن الأكل من فوق يراد به نزول المطر، ولأكل من تحت الأرجل معناه خروج النبات والثمر.
الثالث : من قول الزمخشري وهو كثرة الأشجار المثمرة والزرع المغلة وأن يرزقهم الله الجنان اليانعة الثمار يجتنون ما تهدل منها من رؤوس الشجر ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم.
قوله :﴿ منهم أمة مقتصدة ﴾ الاقتصاد معناه الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير. وأصله القصد، ومعناه العدل واستقامة الطريق. وهو ضد الإفراط١ والمراد بقوله :﴿ أمة مقتصدة ﴾ أي طائفة معتدلة من اليهود غير مغالية ولا مفرطة. فهي على الحق والاعتدال، ومجانبة للإفراط والتفريط وهم الذين آمنوا واتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام وأمثاله من اليهود الذين أسلموا، وآخرون من النصارى آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم واتبعوا النور الذي أنزل معه كالنجاشي وأصحابه من النصارى.
وقيل : المراد بهم الكفار من أهل الكتاب الذين كانوا عدولا في دينهم وطبائعهم وسلوكهم، إذ لم يكونوا مغالين ولا غلاظا. وما كانوا يؤذون المؤمنين بالكيد وفاحش القول.
قوله :﴿ وكثير منهم ساء ما يعملون ﴾ أي أن كثيرا من أهل الكتاب أجلاف متعصبون وهم مبغضون لئام، طغت عليهم الكراهية، وملك قلوبهم الحقد فساء عملهم إذ عاثوا في البلاد إفسادا وتشويها وتحريضا على التصدي للإسلام والمسلمين. وفيه معنى التعجب أي أن كثيرا منهم ما أسوأ عملهم٢.
٢ - الكشاف ج ١ ص ٦٣٠ وتفسير الرازي ج ٦ ص ٥٠ وروح المعاني ج ٦ ص ١٨٥..
قوله :﴿ وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ﴾ أي بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك فإن كتمت منه شيئا إذن لم تبلغ ما كلفت بأدائه ولم تؤد منه شيئا قط، لأن بعضها ليس أولى بالأداء والتبليغ من بعضها الآخر، وإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا. والشأن في ذلك شأن الذي لم يؤمن ببعضها فهو كمن لم يؤمن بكلها، لأنه بكتمان بعضها يضيع ما أدى كترك بعض أركان الصلاة فإنه يضيعها كلها.
وفي ذلك تذكير للمؤمنين وأهل العلم خاصة أن لا يكتموا من تعاليم الإسلام شيئا مهما تكن الظروف. وعلى المؤمنين وأهل العلم خصوصا أن يبينوا للناس رسالة الإسلام تبيينا واضحا وصريحا من غير انتقاص منه ومن غير اضطراب أو تعثر أو وجل. فالعلماء والدعاة إلى الله أجدر أن يقولوا كلمة الحق، وأن يحملوا للبشرية لواء الإسلام بكل وفاء وجلاء وفي غاية الحماسة والإخلاص لله دون أن يخشوا في ذلك لومة لائم.
قوله :﴿ والله يعصمك من الناس ﴾ وسبب نزول هذه الآية ما رواه مسلم عن عائشة قالت : سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال : " ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة " قالت : فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح فقال " من هذا ؟ " قال : سعد بن أبي وقاص. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما جاء بك ؟ " فقال : وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام. وفي غير الصحيح قالت : فبينما نحن كذلك سمعت صوت السلاح فقال : " من هذا ؟ " فقالوا : سعد وحذيفة جئنا نحرسك. فنام صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه. ونزلت هذه الآية. فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قبة أدم وقال : " انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله " ١ وروي عن أبي هريرة قال : كنا إذا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها فينزل تحتها فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فجاء رجل فأخذه فقال : يا محمد من يمنعك مني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الله يمنعني منك ضع السيف " فوضعه فأنزل الله عز وجل ﴿ والله يعصمك من الناس ﴾ والمراد بالناس الكفار بدليل الآية بعد ذلك وهي قوله :﴿ إن الله لا يهدي القوم الكافرين ﴾ على أن المقصود بالعصمة حفظه من القتل وليس من أنواع البلاء الأخرى مما دون القتل. فقد كان عليه الصلاة والسلام قد ابتلاه ربه بأصناف البلاء مما فيه تعذيب وامتحان. فلا جرم أن الأنبياء أشد الناس بلاء ثم الأمثل فالأمثل. على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد شج وجهه وكسرت رباعيته يوم أحد٢.
لقد وعد الله جلت قدرته نبيه الكريم بعصمه من كل أحد يبغي له الشر وفي ذلك من الدلالة البلجة على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى. لقد عصم الله نبيه من كيد المشركين والمنافقين وأهل الكتاب الذين خططوا في الظلام طيلة حياته معهم ليقتلوه حتى كان الموت في كثير من الأحوال أقرب إليه من حبل الوريد لولا أن الله كتب له السلامة والنجاة بعصمه من الناس. مع أنه في كل أحواله ما كان له من الناس من يحرسه إلا أن عين الله التي لا تنام كانت ترعاه وتحرسه. لا جرم أنه النبي الصدوق الأمين المبعوث من رب العالمين هداية للناس ورحمة. ولنا أن نتصور كم يحاذر الحكام والرؤساء والساسة المتسلطون وهم يحيطون أنفسهم بغلاف كثيف حصين من الحراس والناظرين والمراقبين فضلا عن التقارير المستفيضة التي تكتبها أجهزة الاستخبارات في الداخل والخارج إسهاما في صون الحاكم المتسلط. ومع ذلك كله تبوء هاتيك الأساليب والأجهزة والمؤسسات بالفشل الذريع عندما تنفذ أيدي المتربصين المعارضين إلى الزعيم المتسلط فتقتله غيلة.
٢ - روح المعاني ج ٦ ص ١٨٨- ١٨٩ وتفسير القرطبي ج ٦ ص ٢٤٢- ٢٤٤ وتفسير الرازي ج ١٢ ص ٥١- ٥٣..
وقوله :﴿ حتى تقيموا التوراة والإنجيل ﴾ أي حتى تعملوا بما في التوراة والإنجيل وتؤمنوا بما فيهما من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأن لا تفرقوا بين رسل الله فتؤمنوا ببعض وتكفروا ببعض فإن الكفر بواحد منهم كفر بالجميع.
وقوله :﴿ وما أنزل إليكم من ربكم ﴾ أي القرآن الحكيم. فقد أمروا أن يؤمنوا بما جاء فيه. فهو الكتاب الإلهي الحكيم الذي كتبه الله للبرية كافة لهم نورا وبرهانا ونجاة في الدنيا والآخرة. فما من تردد أو ارتياب أو تكذيب لهذا الكتاب المجيد إلا يعني التمرد على الله واللجوج في العصيان والكفران.
قوله :﴿ فلا تأس على القوم الكفرين ﴾ أي تأسف ولا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم. فإن ضرر ذلك حائق بهم دون غيرهم. وهذه تسلية كريمة رحيمة تفيض بها الكلمات الربانية على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم لتسري عنه أيما تسرية. ولا يعني ذلك النهي عن الحزن. لأن أحدا لا يملك أن يرد عن قلبه الحزن خصوصا إن كان يحمل في قلبه الحدب والحنو والرأفة بالبشرية. فإن أعظم ما يصبو إليه حامل لواء الدعوة إلى الله في هذه الحياة أن يؤمن الناس وأن يذعنوا للإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة.
ولسوف يعتصر قلبه الأسى والحزن والمرارة عندما يجد من الناس النكير والصدود.
والذين هادوا، هم اليهود. أما الصابئون ففي حقيقتهم خلاف. فقد قيل : إنهم طائفة من النصارى والمجوس ليس لهم دين. وقيل : إنهم طائفة من اليهود والمجوس. وقيل : هم قوم خرجوا عن دين اليهود والنصارى ثم عبدوا الملائكة وكانوا يصلون إلى غير القبلة ويقرؤون الزبور. وقيل غير ذلك. والصابئون، مرفوع لوجهين :
أحدهما : الرفع على الاستئناف. فيكون في الآية تقديم وتأخير. والتقدير : إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصابئون والنصارى كذلك.
ثانيهما : أن يكون قوله :﴿ من ءامن بالله واليوم الآخر ﴾ خبر للصابئين والنصارى. وأن يقدر للذين آمنوا والذين هادوا خبر مثل الذي قدر للصابئين والنصارى١ وإما النصارى، جمع نصران وهم حملة الإنجيل. أما تأويل الآية فإنه لا يحصل لأحد فضيلة أو منقبة إلا إذا تحقق فيه الإيمان بالله واليوم الآخر وعمل صالحا سواء كان من المسلمين أو اليهود أو الصابئين أو النصارى، إذ لا ينبغي التعويل على المسميات فإنها وحدها لا تغني بافتقاد العنصرين الأساسيين هما الإيمان الصحيح والعمل الصالح المشروع. وعلى هذا من أحدث من هؤلاء الطوائف إيمانا حقيقيا خالصا بالبعث بعد الممات على الوجه الصحيح – وليس كما يزعمه أهل الكتاب من إيمان محرف باطل – وعمل عملا صالحا يقتضيه هذا الإيمان ﴿ فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ أي لاخوف عليهم يقدمون عليه من أهوال القيامة حيث القوارع والقواصم التي تضطرب من فظاعتها القلوب ويشيب من ويلاتها ودواهيها الولدان.
وقوله :﴿ ولا هم يحزنون ﴾ أي لا يأسون على ما خلفوه في الدنيا وما تركوه وراء ظهورهم، ولا يمسهم الحزن لفراقهم الأحباب والخلان والأوطان، بل يغمرهم الرحمن بسكينة منه ورضوان حتى إذا عاينوا ما أعده الله لهم من نعيم وتكريم نسوا الدنيا وما فيها من متاع وبهجة وروابط٢.
٢ - تفسير الطبري ج ٦ ص ٢٠٠- ٢٠١ وروح المعاني ج ٦ ص ٢٠١- ٢٠٢ وتفسير ابن كثير ج ٢ ص ٨٠..
قوله :﴿ ثم تاب الله عليهم ﴾ في الكلام إضمار. أي تابوا فتاب الله عليهم. وقيل : حين تابوا ورجعوا عما كانوا عليه من الفساد حال مكثهم ببال دهرا طويلا وهم تحت قهر بختنصر أسارى مغلوبين وفي غاية الذل والمهانة، فوجه الله ملكا من ملوك الفرس إلى بيت المقدس فعمره ورد من بقي من بني إسرائيل في أسر بختنصر إلى وطنهم وعاد من تفرق منهم في الآفاق فاطمأنوا وكثروا وعادت بهم الحال كأحسن ما كانوا عليه. وذلك قوله :﴿ ثم رددنا لكم الكرة عليهم ﴾.
قوله :﴿ ثم عموا وصموا كثير منهم ﴾ والعمى والصمم هنا إشارة إلى ما وقع منهم بعد التوبة من العصيان الكبير كقتل يحيى وزكريا، وقصدهم قتل عيسى. وقيل : إشارة إلى ما كان في زمن النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم من كفرانهم وعصيانهم. وقوله :﴿ كثير ﴾ مرفوع على البدل من واو الجماعة في الفعلين ﴿ عموا وصموا ﴾.
قوله :﴿ والله بصير بما يعملون ﴾ الله جلت قدرته بصير بما يعمله هؤلاء الأفاكون السفاكون الدجاجلة من تكذيب للمرسلين وقتل لبعضهم وما جنوه في حق التوراة من تحريف وتزييف، وفي حق البشرية والمسلمين خصوصا من إفساد وتخريب وكيد وتشويه وفتن. والمقصود من ذلك التهديد والوعيد. فالله بصير بهؤلاء الظلمة وهو لهم بالمرصاد. ولسوف يكيد لهم من ألوان العقاب في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا هو سبحانه١.
هذا إعلان قاطع ومجلجل عن كفران النصارى الذين اتخذوا المسيح إلها معبودا فقد أخبر الله عن فتنة بني إسرئيل في نقضهم الميثاق الذي واثقهم الله به وأخذه عليهم وهو أن يعبدوه وحده لا شريك له وأن لا يتخذوا من دونه آلهة أخرى. لكنهم نقضوا ما أخذه عليهم بارتكاسهم شر ارتكاس، إذ قالت اليعقوبية من النصارى :﴿ إن الله هو المسيح ابن مريم ﴾ مع أن المسيح خلق من خلق الله وعبد من عباده وبشر معروف نسبه وأصله وقد أقر للناس في كل حال وكل محفل أنه عبد الله ورسوله وكان يدعوهم إلى عبادة الله وهو ربه وربهم ومع ذلك استنكفوا وأدبروا وأنطقهم تعسهم وشقوتهم بشر منطوق، إذ زعموا أن الله هو المسيح. فهم بذلك كافرون جاحدون لا تبرحهم لعائن الله لهول ما قالوه.
قوله :﴿ إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ﴾ وهذا ابتداء كلام من الله. وقيل : هو من قول عيسى عليه السلام. والمعنى أن من يشرك بالله شيئا فيعبد معه أحدا سواه أو يشرك به فيما يختص به من الصفات، كأن ينسب إلى غير الله علم الغيب أو إحياء الموتى أو نحو ذلك من الصفات المختصة بالله ﴿ فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ﴾ أي عاقبه عقابين. أحدهما : منعه من دخول الجنة. فالجنة دار المؤمنين الموحدين المتقين الذين لا يشركون مع الله أندادا.
وثانيهما : وهو أشد. وهو أن جعل مستقره في النار وبئس القرار. قوله :﴿ وما للظالمين من أنصار ﴾ المشركون المكذبون إذا أحاطت بهم خطيئة الشرك يوم القيامة حاق بهم الإياس المطبق ولم يجدوا ساعتئذ من ينقذهم أو ينجيهم. فليس من نصير إذ ذاك ولا مجير.
أحدهما : قولهم بالأقانيم الثلاثة. وهو أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم الكلمة المنبثقة من الأب والابن. تعالى الله عن هذا الباطل علوا كبيرا.
ثانيهما : جعلهم المسيح، وأمه إلهين مع الله، فجعلوا الله ثالث ثلاثة. وذلك كقوله :﴿ وإذ قال الله يعيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ﴾.
قوله :﴿ وما من إله إلا إله واحد ﴾ من مزيدة تفيد معنى الاستغراق. والتقدير أنه ليس في الوجود من إله معبود موصوف بالوحدة متعال عن قبول الشركة إلا فرد واحد وهو الله.
قوله :﴿ وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم ﴾ ذلك تهديد من الله للنصارى فقد توعدهم إذا لم يكفوا عن القول بالتثليث – بالعذاب الأليم في الآخرة حيث التعذيب والنكال.
قوله :﴿ والله غفور رحيم ﴾ من صفات الله سبحانه أنه غفار للخطايا، وهو رحيم بالعباد. وإنه بالرغم من فداحة العصيان وبشاعة الخطايا التي يقع فيها الظالمون فإنهم لئن تابوا فلسوف يشملهم الله برحمته ليغفر لهم ما فعلوه مهما كثر أو كبر.
قوله :﴿ وأمه صديقة ﴾ مبتدأ وخبره. أي وكذلك، ما أمه إلا كسائر النساء أولات الصدق، المصدقات للأنبياء، المؤمنات بهم. وقيل في تأويله ﴿ صديقة ﴾ أنها صدقت بآيات الله وكتبه. وقيل : اتصافها بالطهر والعفة وبالغ الشرف.
قوله :﴿ كانا يأكلان الطعام ﴾ الأكل دليل على الحاجة إلى الطعام عقب الجوع. والحاجة من أقوى الأدلة على أنه ليس إلها. فالله غير محتاج لشيء أو لأحد. وأما الجوع فإنه لو كان واحد منهما إلها لدفع عن نفسه ألم الجوع من غير طعام أو شراب. فدل ذلك على أنه ليس إلها. قال القرطبي عن عبودية المسيح في هذه الآية : إنه مولود مربوب. ومن ولدته النساء وكان يأكل الطعام مخلوق محدث كسائر المخلوقين. فمتى يصلح المربوب لأن يكون ربا ؟ !
قوله :﴿ انظر كيف نبين لهم الآيات ﴾ هذا تعجيب من حال هؤلاء المكابرين الذين يدعون الربوبية للمسيح وأمه. انظر كيف نبين لهم الدلائل القطعية التي تصدع ببطلان قولهم.
قوله :﴿ ثم انظر أنى يؤفكون ﴾ يؤفكون، من الأفك بفتح الهمز. وهو مصدر أفكه أي قلبه وصرفه عن الشيء. وكل مصروف عن الشيء مأفوك عنه١.
والمعنى : انظر كيف يصرف هؤلاء المعاندون السفهاء عن الحق الظاهر الساطع بالرغم من كل ما سبق لهم في ذلك من دلائل وبراهين٢.
٢ - تفسير القرطبي ج ٦ ص ٢٤٩، ٢٥٠ وتفسير الرازي ج ١٢ ص ٦٣- ٦٦ والكشاف ج ١ ص ٦٣٤..
قوله :﴿ والله هو السميع العليم ﴾ الجملة حالية متعلقة بقوله :﴿ أتعبدون ﴾ وهي تتضمن توبيخا فيه وعيد للنصارى لتفريطهم في حق الله واتخاذهم عيسى وأمه إلهين من دونه. وتقدير المعنى : كيف تعبدون غير الله وتشركون معه من لا يقدر على شيء وأنتم تعلمون أن الله وحده مختص بالإحاطة بكل معلوم ومسموع. بل إن الله وحده يسمع ويعلم كل ما يدب أو يجري في العالمين.
قوله :﴿ غير الحق ﴾ منصوب على أنه صفة للمصدر. أي لا تغلوا في دينكم غلوا غير الحق، وكلا الفريقين مغال في حق المسيح عليه السلام. فقد غالى اليهود في حقه مغالاة بشعة تهبط بهم إلى الدركات السحيقة من الفجور والظلم والخسة، إذ نسبوه إلى الزنا. وحاشا لابن مريم النبي الزكي الرفاف. وحاشا لأمه العذراء البتول مثابة الصون والطهر والعفاف.
وفي المقابل غالت النصارى في حق عيسى، إذ ادعوا فيه الإلهية أو قالوا إنه إله. سبحانك اللهم هذا ظلم عظيم ! فكلا الفريقين مغال مجانف مجانب للحق والصواب.
قوله :﴿ ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل ﴾ الأهواء جمع ومفرده هوى. سمي بذلك، لأنه يهوي بصاحبه في النار. فالهوى الباطل الموافق للنفس أو الذي تدعو إليه الشهوة دون الحجة. وقيل : ما ذكر لفظ الهوى في القرآن إلا في موضع الذم والشر. فلا يقال : فلان يهوى الخير بل يقال : يريد الخير. وقال ابن عباس : كل هوى ضلالة. والمراد في الآية : لا تتبعوا الضلال الذين هم سلفكم من الناس الذين ضلوا قديما ﴿ وأضلوا كثيرا ﴾ أي أضلوا خلقا كثيرا من الناس ممن تبعهم ووافقهم ﴿ وضلوا عن سواء السبيل ﴾ أي خرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال إلى طريق الغواية والضلال. وسواء السبيل يعني السبيل المعتدل السوي وهو الإسلام. ذلك أنهم حسدوا الرسول حسدا بالغا حسدا شغل قلوبهم وأعصابهم وكل اهتمامهم. فكذبوه وآذوه وتمالئوا عليه لإسكاته أو إخراجه أو قتله.
قوله :﴿ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ﴾ ذلك اللعن الذي حاق بالكافرين من بني إسرائيل كان بسبب عصيانهم ومجاوزتهم للحد في العصيان.
فالواجب في حق المؤمن في هذه المسألة شيئان، أحدهما : أن ينهى المؤمن أخاه عن فعل الحرام على اختلافه وتعدد ضروبه.
ثانيهما : أن يكون الناهي منتهيا عما ينهى عنه وإلا كان شريك الفاعل في المعصية. وفي هذا أخرج الإمام أحمد عن أبي عبيدة عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم " قال : وأحسبه قال : " في أسواقهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فقال : " لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا " ١ أي تعطفوهم عليه.
وأخرج أبو داود عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه بالغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض " ثم قال : " كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا أو تقسرنه على الحق قسرا ".
ويحذر الرسول الله صلى الله عليه وسلم من السلبية وعدم الاكتراث من شيوع المعاصي داعيا أمته في كل زمان ومكان أن يأمروا بالمعروف وأن ينهوا عن المنكر، فيقول : " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر و ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم " رواه أحمد عن حذيفة بن اليمان.
على أن المنكر ظاهرة قبيحة شنيعة تشيع من خلالها المفاسد والشرور والآثام بما يفضي بعد ذلك إلى فساد المجتمع وتفككه واضطرابه. فما من مسلم مكلف إلا وقد نيطت به وجيبة النهي عن المنكر من غير تعثر ولا تردد ولا خور. وإنما يأتي ذلك من خلال أساليب ثلاثة، أولها : النهي عن طريق الحجة الدامغة والبيان المؤثر الساطع. وسبيل ذلك اللسان.
وثانيها : القسر والشدة. وذلك للحيلولة دون وقع المنكر وكيلا يجترئ العصاة والأشرار على إتيان المحظورات وانتهاك الحرمات، وذلك إذا لم تجد الدلائل والبراهين والحجج. وسبيل ذلك القوة.
وثالثها : الامتعاض والإحساس بالغضب والمضاضة وكراهية ما يصنعه الآثمون الخاطئون من معاص ومنكرات. وسبيل ذلك القلب. وهو أن تشمئز نفس المسلم وتتغيظ من الفساد والمفسدين وذلك إذا لم يقتدر أن ينهى عن المنكر بشيء مما بيناه، لفرط ما يجده من ضرر محدق متوقع ربما أودى به أو ألحق به أذى لا يطاق، لو أنه تصدى للعصاة بالحجة الصريحة أو القسر والشدة. وفي ذلك كله روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطعه فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ".
قال ابن عطية في هذا الصدد : الإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين. فإن خاف فينكر بقلبه ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه.
وعلى هذا فكراهية المنكر مجزية في تبرئة المسلم من الخطيئة حتى لو شهد العصاة متلبسين بها. فما دام قلبه حافلا بالامتعاض والألم مما يفعله العصاة الفاسقون كان بريئا وغير مقصر. أما لو لم يشهد المنكر لكنه قد علم به فرضيه ولم يتمعر وجهه غضبا ولا غيظا كان شريكا في الإثم. وفي هذا أخرج أبو داود عن ابن عميرة عن النبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها – وقال مرة – فأنكرها كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كمن شهدها ". ولا ينبغي للمسلمين – والعلماء خاصة – أن يخذلهم الخوف فينثنوا عن الصدع بالحق أمام الحكام والأمراء، بل عليهم أن يجهروا بذلك في صراحة وشمم، كيلا يحتسبوا من الخائرين والمخذولين والجبناء. وفي هذا روى ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول الحق إذا علمه ".
قوله :﴿ لبئس ما كانوا يفعلون ﴾ اللام للقسم وبئس فعل جامد للماضي. ما اسم موصول بمعنى الذي في محل رفع. وتقديره : لبئس الذي كانوا يفعلون٢.
وذلك تقبيح لسوء ما فعله الكافرون من بني إسرائيل. وهو عدم تناهيهم عما كان يجري بينهم من منكر. وفي ذلك تنديد غليظ زاجر بكل من يمسك عن الأمر بالمعروف وينثنى دون النهي عن المنكر.
٢ - البيان لابن الأنباري ج ١ ص ٣٠٢..
وقيل في تأويل الآية : إن الكثير من علمائهم وقادتهم يوالون الجبارين والطغاة ويزينون لهم أعمالهم كيما ينفذوا خططهم ويتمكنوا من تحقيق مآربهم وأهوائهم.
قوله :﴿ لبئس ما قدمت لهم أنفسهم ﴾ أي لبئس ما قدموه من عمل ليجدوا جزاءه في الآخرة.
قوله :﴿ أن سخط الله عليهم ﴾ الجملة هي المخصوص بالذم في محل رفع. كما تقول : بئس رجلا زيد. فزيد مخصوص بئس مرفوع. وفي رفعه وجهان. أحدهما : أن يكون مبتدأ، وخبره بئس ومعمولها، وثانيهما : أن يكون ( المخصوص ) خبرا لمبتدأ محذوف تقديره : هو زيد. أو هو ﴿ أن سخط الله عليهم ﴾ ١ وسخط، أي غضب. والسخط ضد الرضا وهو الغضب٢.
قوله :﴿ وفي العذاب هم خلدون ﴾ الجملة في محل نصب على الحال.
والمعنى أن هؤلاء المنافقين المفسدين من اليهود قد غضب الله عليهم وأن جزاءهم أنهم مخلدون في النار أبد الآبدين.
٢ - مختار الصحاح ص ٢٩٠..
نزلت هذه الآيات في وفد النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسمعوا كلامه ويروا صفاته فلما رأوه وقرأ عليهم القرآن أسلموا وبكوا وخشعوا ثم رجعوا إلى النجاشي فأخبروه. وقيل : كانت عدة الوفد اثنا عشر، سبعة قساوسة وخمسة رهابين. وقيل : خمسون. وقيل : بضع وستون. وقيل : سبعون رجلا. والله أعلم بعدتهم.
وقيل في سبب النزول إن جعفر بن أبي طالب وأصحابه قدموا من الحبشة ومعهم سبعون رجلا بعثهم النجاشي وفدا إلى رسول صلى الله عليه وسلم عليهم ثياب الصوف، اثنان وستون من الحبشة، وثمانية من أهل الشام فيهم بحيرا الراهب. فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة " يس " إلى آخرها فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا، وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى. فأنزل الله تعالى فيهم الآيات١.
قوله :﴿ لتجدن أشد الناس عداوة للذين ءامنوا اليهود ﴾ اللام للقسم. وعداواة تمييز منصوب. والمراد باليهود عمومهم، سواء فيهم من كان في زمن النبوة من يهود المدينة وغيرهم من يهود الأرض في كل زمان، استنادا إلى ظاهر الآية.
وقيل : المراد بهم يهود المدينة دون غيرهم. والراجح الأول وهو أن المراد سائر يهود : وهذه حقيقة تتكشف للناظر المتدبر في طبائع يهود وتاريخهم الحافل بالفظائع. وفي طليعة ذلك قتل الأنبياء، لا جرم أن قتل الأنبياء أمر جلل وشنيع ومروع تهتز من هوله الأرض والسموات، وتضطرب لسماعه المشاعر والضمائر. وغير هذه الفعلة الفظيعة قبائح شتى غاية في النكر تصم النفسية اليهودية بوصمة الشذوذ والميل عن سواء السبيل كالإفراط في حب المال والشهوات والتسلط، والإيغال في الكيد للبشرية. والتخطيط لتدمير الأديان والقيم والأخلاق الحميدة، والجنوح المغالي عن ربقة الحق والعدل والرحمة إلى حيث القسوة والظلم والكيد. فلا غرور بعد ذلك أن تكون يهود أشد عداوة للمؤمنين بما يكنوه للبشرية عامة، والمسلمين خاصة، من بالغ الكراهية والاضطغان. وبما يحيكونه لهم من أساليب ومخططات للإبادة والتخريب وتشويه الأفكار والعقائد والتصورات. وكذا القتل جهارا وغيلة. يشهد لذلك تمالؤهم على سيد الأولين والآخرين وإمام البشرية في الدنيا والآخرة، المصطفى صلى الله عليه وسلم، وذلك في محاولات مكرورة لقتله. ومن جملة ذلك قصة الشاة المسمومة التي قدمت للنبي صلى الله عليه وسلم في خبير. فقد جاء في سيرة ابن هشام أن زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم أهدت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة مصلية، وقد سألت أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقيل لها : الذراع. فأكثرت فيها من السم، ثم سمت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول الذراع فلاك منها مضغة فلم يسغها، ومعه بشر بن البراء بن معرور قد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما بشر فأساغها. وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها ثم قال : " إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم " ثم دعا بها فاعترفت. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال في مرضه الذي توفي فيه، ودخلت أم بشر بنت البراء بن معرور تعوده : " يا أم بشر إن هذا الأوان وجدت فيه انقطاع أبهري٢ من الأكلة التي أكلت مع أخيك بخبير " فكان المسلمون يرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيدا مع ما أكرمه الله به من النبوة٣.
وما فتئت يهود تكيد للإسلام بالتمالؤ عليه وتأليب الأمم والشعوب من مختلف الملل على التصدي له. وذلك بمختلف الأساليب والسبل كتشويه الصورة عن هذا الدين وأهله ليستنكف عنه الناس ويزهد فيه المسلمون. وكذلك اصطناع النظريات العلمية الموهومة في التربية والنفس والسلوك بما يفضي إلى الإباحة الجنسية وتدمير الأفراد والأسر والمجتمعات والأخلاق تماما. وكان الرائد المظفر قي ذلك بطل التخريب والإفساد بغير منازع اليهودي سيجموند فرويد الذي نجح نجاحا فاضحا مذهلا فيما أودى بشطر البشرية إلى التفسخ والانهيار والسقوط، فضلا عن أمراض نفسية وعضوية واجتماعية أخرى تنكل بالمجتمعات الشاردة عن منهج الله تنكيلا.
وكذلك الافتراء على المسلمين بأنهم متخلفون إرهابيون وأن الإسلام لا يصح فهو دين قد مضى زمانه وقد استنفذ أغراضه ! ! والله يشهد، وأولو العلم يشهدون أن هذا بهتان عظيم وافتراء ظلوم. فالإسلام دين السماحة والمرونة والصلاح واليسر. بل إنه دين الإخاء الإنساني الشامل القائم على العدل المطلق والرحمة الحقيقية الكاملة. ولسوف تظل البشرية في مسيرتها الطويلة الضالة تلهث لهث الحائر والمضطرب والمكروب حتى تفيء إلى منهج الله وهو الإسلام.
وأخيرا تلكم المؤامرة الكبرى التي قصمت ظهر الإسلام بفعل الكيد الذي برعت فيه يهود، إذ نجحت في القضاء على الخلافة الإسلامية العثمانية، والاستعاضة عن دستورها الإسلام بالنظم الرأسمالية العلمانية المناهضة لدين الله.
وكذلك المشركون يكنون العداوة والكراهية للإسلام والمسلمين. المشركون الذين يعبدون الأوثان على تعدد صورها وأشكالها ومسمياتها، سواء الذين يعبدون النار أو الشمس والقمر، أو المدر والحجر أو الذين يقدسون البقر، كل ذلك في غاية الحماقة والجهالة والعمه. ثم الملحدون الماديون الذين ينكرون الإلهية. أولئك جميعا كافرون ضالون ظالمون. لقد ظلموا أنفسهم وعقولهم، إذ جعلوها حبيسة العناد والصلف والمكابرة فباتت مشلولة شائهة لا تعي ولا تتدبر إلا ما تمليه الغريزة العمياء والطبع الخسيس ﴿ أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ﴾.
إن هذا الصنف من الناس بعيد عن الحق. فهو بذلك يستمرئ الخطيئة والظلم والباطل ويشمئز من الخير وأهله، لما خالط فطرته من تلويث وإفساد ومرض. فهو بالضرورة يجد نفسه مسوقا في طريق الشيطان حيث الشر والعدوان. الطريق المخالف لطريق الإسلام.
قوله :﴿ ولتجدن أقربهم مودة للذين ءامنوا الذين قالوا إنا نصارى ﴾ بينا أن هذه الآية نزلت في وفد بعثهم النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسمعوا كلامه وليروا صفاته. فلما سمعوا القرآن بكوا وخشعوا ورقت له قلوبهم فأعلنوا إسلامهم. وعلى هذا فإن تأويل هذه الآية يبينها سبب النزول وهو إسلام قوم من النصارى قد صفت نفوسهم وطبائعهم من الفساد والتعصب. فما أن سمعوا القرآن ووجدوه مطابقا في معانيه ومقاصده لما في الإنجيل أيقنوا أنه حق، وأنه منزل من عند الله فأسلموا. وقد قيل : نزلت الآية في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى، فلما بعث محمدا صلى الله عليه وسلم آمنوا به فأثنى الله عليهم.
وبذلك فإن المراد من النصارى الذين هم أقرب الناس مودة للمسلمين هم الذين نزلت الآية في حقهم، وكل الذين على شاكلتهم من براءة الطبع وخلوص القلب من الكراهية والشرك. أولئك الذين زعموا أنهم نصارى ومن أتباع المسيح. فلقد كان فيهم إذ ذاك مودة الإسلام والمسلمين وما ذاك إلا لما كان في قلوبهم من رقة ولين ورأفة، لأنهم كانوا على المسيحية الصادقة السمحة. المسيحية الخالصة المبرأة من التحريف والتزييف. ولا يعقل أن ينطبق ذلك على الخلائف من النصارى الذين جاءوا فيما بعد والذين ربوا على الديانة المحرفة والأناجيل الكظيظة بالتغيير والتبديل والتي غالت في إفراط مشين في إطراء المسيح حتى نصبت منه الإله المعبود. فضلا عن النكران الظالم لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. بل إن النصارى كانوا وما فتئوا يعادون الإسلام والمسلمين ويرصدون لهم كل سبيل لتدميرهم وإضعافهم وتشتيت وحدتهم وصفهم، وإبادتهم إن استطاعوا.
إن النصارى في العصور الوسطى كانوا وما فتئوا في زماننا هذا يناصبون المسلمين العداء فيبادرونهم التقتيل والتشريد والاستئصال. لقد ساموا المسلمين في مختلف البلدان الويلات وأذاقوهم أشد ألوان التنكيل والبطش ليدمروهم تدميرا. وخطب الأندلس المذهل أعظم شاهد من شواهد الويل والثبور والمرارة على ما حاق بالمسلمين على أيدي الصليبيين الحاقدين. إلى غير ذلك من صور الاستعمار البغيض المشؤوم الذي أذاق المسلمين كؤوس العذاب والهوان والقهر ما يتجاوز كل حسبان. هؤلاء هم نصارى الأناجيل المحرفة، من شعوب الظلم والعدوان الصارخ على المسلمين والنصارى الذين تتبرأ منهم المسيحية السمحة ويتبرأ منهم النبي الطهور عليه السلام. خلافا للفئة الطيبة المحدودة من نصارى الحبشة الذين استجابوا لنداء الحق، خير استجابة. وذلك لما سمعوا القرآن.
قوله :﴿ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ﴾ أي كونهم أقرب مودة للذين آمنوا بسبب أن ﴿ منهم قسيسين ورهبانا ﴾ والقسيسون هم علماء النصارى ورؤساؤهم، ومفرد القسيسين، قس. والرهبان جمع راهب، من الرهبنة والرهبانية، والترهيب بمعنى التعبد في صومعة. وأصله من الرهبة وهي المخافة. وفي الحديث " لا رهبانية في الإسلام " وأصلها من الرهبة وهي الخوف. والمراد بها التخلي عن أشغال الدنيا وترك ملاذها والزهد فيها واعتزال أهلها. قوله :﴿ وأنهم لا يستكبرون ﴾ أي وبأنهم لا يستنكفون عن الانقياد للحق إذا استمعوا إليه ووعوه.
٢ - الأبهر: مفرد والمثنى الأبهران، وهما الوريدان اللذان يحملان الدم من جميع أوردة الجسم إلى الأذين الأيمن من القلب. انظر المعجم الوسيط ج ١ ص ٧٣..
٣ - سيرة ابن هشام ج ٣ ص ٣٥٢، ٣٥٣..
قوله :﴿ يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ﴾ الجملة ﴿ يقولون ﴾ في محل نصب على الحال من ضمير ﴿ عرفوا ﴾ أي هؤلاء الذين تفيض أعينهم دمعا لما أيقنوا أنه حق، يقولون يا ربنا صدقنا ما سمعنا وهو الذي أنزلته على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وأقررنا به أنه من عندك وأنه حق لا ريب فيه ﴿ فاكتبنا مع الشاهدين ﴾ أي اكتبنا مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله :﴿ ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ﴾ واو نطمع للحال. والجملة في موضع النصب على الحال. أي ونحن نطمع بإيماننا هذا أن يدخلنا ربنا مع المؤمنين بالله المطيعين له، المستحقين بطاعتهم جنته. وقيل : المراد بالقوم الصالحين أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
٢ - الكشاف ج ١ ص ٦٣٩ وتفسير الطبري ج ٧ ص ٦ وفي ظلال القرآن ج ٧ ص ٦- ١٤..
قال المفسرون في سبب نزول هذه الآية : جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فذكر الناس ووصف القيامة وبالغ في الإنذار والتحذير فرق الناس وبكوا فاجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي منهم أبو بكر وعلي وابن مسعود وابن عمر وأبو ذر، واتفقوا على أن يصوموا النهار، ويقوموا الليل، ولا ينامون على الفرش، ولا يأكلوا اللحم ولا الودك١ ويترهبوا ويجبوا المذاكير، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعهم فقال : " ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا ؟ " فقالوا : بلى يا رسول الله. وما أردنا إلا الخير. فقال : " إني لم أومر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقا، فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا. فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم الدسم، ومن رغب عن سنتي فليس مني " ثم خرج إلى الناس وخطبهم فقال : " ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا. أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ولا رهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع. وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتها الجهاد. واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا. وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان. فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع " فأنزل الله تعالى الآية. فقالوا : يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها وكانوا حلفوا على ما عليه اتفقوا. فأنزل الله تعالى :﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ﴾ ٢.
وهذه الآية تتضمن ردا صريحا على الغلاة من المتزهدين والمتصوفين الذين عدلوا عن طريق الشريعة المستقيم. الطريق الميسور الحكيم الذي يقف بين الإفراط والتفريط. فلا هو بإفراط يهود ولا بتفريط النصارى. وإنما هو المنهج القائم المعتدل الوسط الذي يراعي فطرة الإنسان خير مراعاة وينسجم وطبيعته النفسية والروحية والعضوية أكمل انسجام. خلافا للغلاة من الزهاد والمتصوفة الذين ركنوا إلى الشطط والمغالاة، ومضوا في طريق التزمت والتنطع على غير ما تقرره شريعة الإسلام من بساطة وتيسير. ومن جملة التنطع والمغالاة تحريم ما أحل الله، وإيثار الخشونة والشظف على التنعم والاستمتاع باللذائد المباحة من غير ما حجة في ذلك ولا برهان، إلا الجنوح صوب التزهد المشتط أو التصوف المغالي رغبة في تعذيب النفس. والحقيقة التي يقررها الإسلام أنه لا مساغ لأحد من المسلمين أن يعذب نفسه بتحريم شيء أحله الله وهو يزعم خاطئا أنه يتقرب بذلك إلى الله. وليس ذلك في الحقيقة إلا الوهم أو الجهل الذي يراود أحلام هؤلاء الشاطحين الجانحين عن جادة الإسلام، الهائمين في متاهات الجهالة والزلل. وخير دليل على سواء٣ الإسلام قوله سبحانه ﴿ يا أيها الذين ءامنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾ أي لا تمنعوا أنفسكم ما طاب ولذ من حلال المطعومات والمشروبات والملبوسات والمناكح وغير ذلك من وجوه اللذائذ المستطابة المباحة. ومعنى لا تحرموا، أي لا تقولوا : حرمناها على أنفسنا على سبيل المبالغة في العزم على تركها تزهدا وتقشفا. وقيل : لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين.
وفي جملة المقصود عن سهولة الشريعة وقيامها على السواء يقول الرسول صلى الله عليه وسلم " كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة " ٤.
قوله :﴿ ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ﴾ أي لا تتعدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرم عليكم. وقيل : لا تسرفوا في تناول الحلال، فإنه لما أباح الطيبات حرم الإسراف فيها بقوله تعالى :﴿ ولا تعتدوا ﴾ ونظير ذلك قوله :﴿ وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ﴾ فيكون المعنى : لا تعتدوا في تناول الحلال بل خذوا منه بقدر كفايتكم وحاجتكم ولا تجاوزوا الجد فيه.
وقيل : لا تحرموا على أنفسكم المباحات مبالغة منكم في التضييق على أنفسكم فإن ذلك اعتداء منكم. والله سبحانه وتعالى يبغض المتجاوزين لحدود ما أحله لهم، المجانبين للسبيل الأمثل وهو الانتفاع بالحلال والطيبات في قصد واعتدال من غير إفراط ولا تفريط.
٢ - أسباب النزول للنيسابوري ص ١٣٧- ١٣٨ وتفسير ابن كثير ج ٢ ص ٨٧ وتفسير الطبري ج ٧ ص ٦..
٣ - السواء، معناه العدل. وسواء الشيء وسطه. انظر مختار الصحاح ص ٢٢٣.
٤ - أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم عن أبي عمرو..
روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في القوم الذين حرموا طيبات المطاعم والملابس والمناكح على أنفسهم وحلفوا على ذلك، فلما نزلت ﴿ لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾ قالوا : كيف نصنع بأيماننا ؟ فنزلت هذه الآية١.
تتضمن هذه الآية أحكام اليمين. وهي في اللغة بمعنى القوة. ومنه قوله تعالى ﴿ لأخذنا منه باليمين ﴾ أي بالقوة واليمين مفرد. وجمعه أيمن بالضم وأيمان. واليمين في الشرع : عقد يتقوى به عزم الحالف على الفعل أو الترك٢ ويتبين من الآية أن ضروب اليمين ثلاثة هي : يمين اللغو، واليمين الغموس، واليمين المنعقدة. ونعرض لكل واحد من هذه الضروب بإيجاز فإن التفصيل في مظانه من كتب الفقه.
يمين اللغو
اللغو، أو اللغا، بوزن الفتى، هو السقط وما لا يعتد به من كلام وغيره. والمراد به هنا ما يجري في العادة على لسان الحالف من قسم لا يريده ولا يقصد معناه ولم تنعقد عليه النية. كما لو قال : لا والله. أو بلى والله.
وتبين الآية أنه لا إثم على المرء في يمين اللغو. وهو ما يبدر منه بغير قصد كقول الرجل : لا والله. بلى والله. وهو قول الشافعية. قالت السيدة عائشة في ذلك : أيمان اللغو ما كان المراء والمزاحة والهزل، وروى الموطأ عنها أنها قالت : لغو اليمين قول الإنسان : لا والله. وبلى والله.
أما الحنفية فقالوا : يمين اللغو هي اليمين الكاذبة خطأ أو غلطا في الماضي أو في الحال، سواء في الإثبات أو النفي. وذلك كأن يقول الرجل : والله ما كلمت فلانا، وهو يظن أنه لم يكلمه وقد كلمه. أو يقول : والله لقد كلمت فلانا وهو يظن أنه كلمه لكنه في الحقيقة لم يكلمه. أو حلف أن هذا القادم فلان أو أن هذا الطائر غراب وهو يظن أنه كذلك ثم تبين أنه خلاف ما ظن. ومثل هذه الأيمان لغو. وهو مذهب الإمام مالك في المقصود باللغو. فقد ذكر عنه قوله : اللغو في اليمين أن يحلف على الشيء يظن أنه كذلك. كقوله : والله لقد لقيت فلانا أمس، وذلك يقينه. وإنما لقيه قبل ذلك أو بعده فلا شيء عليه في ذلك لكونه لغوا، واستدلوا لذلك بالآية ﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ﴾ فقد قابل يمين اللغو باليمين المقصودة وفرق بينهما في المؤاخذة وفي نفيها. ومقتضى ذلك أن تكون يمين اللغو غير اليمين المعقودة تحقيقا للمقابلة٣.
يمين الغموس
هي اليمين الكاذبة قصدا في الماضي والحال نفيا أو إثباتا. كقوله : والله ما فعلت كذا، وهو يعلم أنه فعله. أو يقول : والله لقد فعلت كذا، وهو يعلم أنه لم يفعله.
وسميت يمين الغموس بهذا الإسم، لأنها تغمس صاحبها في الإثم أو النار. فهي بذلك فاجرة وضرب من ضروب الزور، أو الازوار، أي العدول والانحراف عن الحق والصدق. وبذلك فإن اليمين الغموس واحدة من أكبر الكبائر التي حذر منها الدين وشدد عليها النكير وندد بها تنديدا.
فقد أخرج الترمذي عن عبد الله بن أنيس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أكبر الكبائر : الإشراك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس. والذي نفسي بيده لا يحلف رجل على مثل جناح بعوضة إلا كانت كيا في قلبه يوم القيامة " وأخرج البيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع ".
وأضاف الإمام مالك إلى يمين الغموس ما لو حلف وهو غير متيقن مما حلف عليه. وذلك كأن يقول : والله ما لقيت فلانا أمس، وهو لا يقين له في ذلك. أو لا يعرف حين الحلف أنه لقيه أمس أو لم يلقه. ثم تبين له بعد ذلك أنه خلاف ما أقسم عليه. فإن ذلك كمن حلف عامدا للكذب. وعليه أن يستغفر الله، لأن هذه اليمين أعظم من أن يكون لها كفارة٤.
أما الكفارة في اليمين الغموس ففي وجوبها قولان :
أحدهما : عدم وجوب الكفارة في اليمين الغموس. وهو قول أكثر أهل العلم. وقد ذهب إلى ذلك الحنفية والمالكية والحنابلة وأصحاب الحديث وغيرهم من الصحابة والتابعين. واستدلوا لذلك من النصوص ما فيه وعيد للحالفين الكاذبين بأن مصيرهم إلى النار. كقوله تعالى :﴿ إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ﴾ وقوله صلى الله عليه وسلم : " من حلف على يمين وهو فيها فاجر ليقتطع بها مالا لقي الله وهو عليه غضبان " يستدل من ذلك أن موجب اليمين الغموس العذاب في الآخرة، فمن أوجب الكفارة فقد زاد على النص وهو لا يجوز.
واستدلوا من المعقول أيضا بأن اليمين الغموس من الكبائر التي لا تمحوها الكفارة، لأنها أكبر من أن تكفرها كفارة ولا يمحوها غير التوبة والندامة والاستغفار٥.
القول الثاني : وجوب الكفارة في اليمين الغموس. وهو قول الشافعية وآخرين وهو مذهب أهل الظاهر. والدليل على وجوب الكفارة في الغموس من المعقول إذ قال الإمام الشافعي : إن اليمين الغموس معتبرة يمينا منعقدة وهي مندرجة فيها. والله سبحانه وتعالى يقول في وجوب الكفارة في الأيمان المنعقدة :﴿ ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين ﴾ وهذا يعم الماضي والمستقبل. وتعلق الإثم لا يمنع وجوب الكفارة، كما أن الظهار منكر من القول وزور وتتعلق به الكفارة. وأجيب عن الاحتجاج بكفارة الظهار بأنها لا تجب بنفس الظهار، بل بالعودة إلى الوطء بعد الحلف بالظهار. والراجح قول جمهور أهل العلم وهو عدم وجوب الكفارة في الغموس لما ذكره من دليل. ويضاف إلى ذلك الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم : " خمس من الكبائر لا كفارة فيهن " وعد منها اليمين الفاجرة. وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خمس ليس فيهن كفارة : الشرك بالله. وقتل النفس بغير حق، وبهت المؤمن، والفرار من الزحف، ويمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حق " ٦.
اليمين المنعقدة
هي اليمين على شيء في المستقبل نفيا أو إثباتا. وكيفيتها أن يعقد الحالف قلبه على شيء مع قصد اليمين فإذا حلف وجب في حقه كفارة. وذلك كأن يقول : والله لأفعلن كذا وكذا. أو يقول : والله لا أفعل كذا وكذا. فمثل هذه اليمين قد قصدها الحالف وانعقد قلبه فلزمته بذلك كفارة عن يمينه إذا حنث، أو قبل الحنث، على الخلاف.
قال الماوردي في هذا : للكفارة ثلاث حالات : أحدهما قبل الحلف فلا تجزئ اتفاقا. ثانيها : بعد الحلف فتجزئ اتفاقا. ثالثها بعد الحلف وقبل الحنث ففيها الخلاف٧.
على أن الكفارة من أجل الحنث في اليمين المعقودة واجبة استنادا إلى قوله تعالى :﴿ ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ﴾.
بما عقدتم الأيمان، أي بسبب تعقيدكم الأيمان وتوثيقها بالقصد والنية. فتكون ما هنا مصدرية، لأن الكلام هنا في مقابلة اللغو، إذ ليس فيه قصد أو تعقيد للنية.
ويستدل كذلك من السنة بما أخرجه أبو داود عن عبد الرحمن بن سمرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا عبد الرحمن بن سمرة إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك ".
وكذلك ما أخرجه الشيخان عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها " وفي لفظ " إلا كفرت عن يميني وفعلت الذي هو خير " وفي لفظ " إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني " وذلك يدل على وجوب الكفارة بسبب الحنث في اليمين المنعقدة على أمر في المستقبل.
أما هل يجوز التكفير قبل الحنث فثمة قولان :
الأول : جواز التكفير قبل الحنث. وهو مذهب الجمهور. واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم : " إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير " وهذا يدل على جواز التكفير قبل الحنث. واستثنى الإمام الشافعي الصيام في التكفير قبل الحنث. ومع ذلك فهم يذهبون إلى أن التكفير بعد الحنث أفضل من التكفير قبله.
القول الثاني : عدم جواز التفكير قبل الحنث. وهو قول الحنفية. واستدلوا بظاهر الآية ﴿ ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ﴾ والمراد : إذا حلفتم فحنثتم. ورد ذلك بأن المقصود : إذا حلفتم فأردتم الحنث٨.
الكفارة
الكفارة من الكفر – بالفتح – بمعنى الستر والتغطية. سمي الليل المظلم كافرا، لأنه يستر بظلامه كل شيء. وسمي الكافر بهذا الاسم، لأنه يستر نعمة الله أي يجحدها. ويطلق الكافر على الزارع، لأنه يغطي البذر بالتراب. والكفار يراد بهم الزراع. قال الله سبحانه :﴿ كمثل غيث أعجب الكفار ﴾.
والكفارة في الشرع تعني الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة. أي تسترها٩.
على أن أصناف الكفارة لليمين أربعة هي : الإطعام والإعتاق ثم الصيام بعد ذلك.
والحالف إذا حنث بيمينه كان له الخيار بين الإطعام والكساء والإعتاق. فواحد من هذه الخيارات يجزئ في التكفير عن الحنث في اليمين فإذا لم يستطع أن يكفر بواحد من هذه الخيارات كان له أن يصوم أياما ثلاثة. ويستفاد ذلك من قوله في الآية ﴿ أو ﴾ فإنها تفيد التخيير بين أن يطعم أو يكسو أو يعتق رقبة. قال ابن عباس في معنى { أو : ما في كتاب الله ﴿ أو ﴾ فهو مخير فيه. على أنه لا يجوز للحانث أن يكفر بالصيام إلا بعد العجز عن الخيارات الثلاثة الأولى. وذلك لقوله :﴿ فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ﴾.
قوله :﴿ إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم ﴾ ويشترط في المساكين الذين يطعمون تحقق أربعة شروط وهي : الحاجة والحرية والإسلام وأن يكونوا من الأباعد.
أما الحاجة فهي أن يكون المسكين فقيرا معوزا محتاجا للصدقة ونحوها.
وأما الحرية فهي أن يكون المساكين أحرارا، فلا تجزي الكفارة في العبيد، لأن في دفعها لهم مظنة الدفع لمالكيهم.
وأما الإسلام فهو شرط آخذ الكفارة. فلا يجزي أداؤها غير المسلمين وإن كانوا فقراء، وإنما تضطلع الدولة الإسلامية بإعطاء غير المسلمين ما يكفيهم من بيت المال من غير الزكاة ولا الكفارات. وهو مذهب الجمهور. خلافا للحنفية، إذ قالوا بجواز دفعها لهم استنادا إلى عموم الآية، ولأن المسكين غير المسلم معتبر من أهل دار الإسلام فهو في ذلك كالمسلم.
وأما اشتراط البعد، وهو أن يكون الآخذون من الأباعد غير المنفق عليهم وجوبا وهم الأصول والفروع والزوجات فهؤلاء لا يعطون من كفارة اليمين. قال الشافعي في هذا الصدد : ويعطي الكفارات والزكاة كل من لا تلزمه نفقته من قرابته وهم من عدا الوالد والزوجة. وإن كان ينفق عليهم متطوعا أعطاهم. وهو قول أكثر العلماء١٠.
أما مقدار ما يعطاه الواحد من المساكين العشرة فقد تبين في الآية مجملا غير مفصل وهو قوله تعالى :﴿ من أوسط ما تطعمون أهليكم ﴾ فموضع الاستدلال هنا قوله :﴿ من أوسط ما تطعمون أهليكم ﴾ فقد اختلفت كلمة العلماء في مقدار الطعام. فقد قيل : يجزي في الخبز والتمر، أو الخبز والزيت، أو الخبز والسمن. أو الخبز واللحم. و
٢ - المصباح المنير ج ٢ ص ٣٥٩ والمعجم الوسيط ج ٢ ص ١٠٨٠ وشرح فتح القدير للكمال بن الهمام ج ٥ ص ٥٩ وأحكام القرآن لابن العربي ج ٢ ص ٦٣٥..
٣ - بداية المجتهد ج ١ ص ٣٨٤ والأم للشافعي ج ٧ ص ٦٣ والمغني ج ٨ ص ٦٨٨ وبدائع الصنائع ج ٣ ص ٣ والموطأ ص ٢٦٦..
٤ - بدائع الصتائع ج ٣ ص ٣ وشرح فتح القدير ج ٥ ص ٦٠- ٦٢ وبداية المجتهد ج ١ ص ٣٤٨ والمدونة الكبرى ج ٢ ص ٢٨..
٥ - البناية على الهداية ج ٥ ص ١٥٨ والمغني ج ٨ ص ٦٨٦ والمدونة ج ٢ ص ٢٨ والأم للشافعي ج ٧ ص ٦١..
٦ - الأم ج ٧ ص ٦١- ٦٣ ومغني المحتاج ج ٤ ص ٣٢٥ والمحلى ج ٨ ص ٣٦ والجامع الصغير للسيوطي ج ١ ص ٦١٢..
٧ - نيل الأوطار ج ٧ ص ٢٤٨ وأحكام لابن العربي ج ٢ ص ٦٣٥ وروح المعاني ج ٧ ص ١٠..
٨ - نيل الأوطار ج ٧ ص ٢٤٧ والمدونة ج ٢ ص ٢٩ والمغني ج ٨ ص ٧١٢ والمبسوط للسرخسي ج ٧ ص ١٤٧ والبناية شرح الهداية ج ٥ ص ١٨٥..
٩ - الكشاف ج ١ ص ٦٤٠ وفتاوى ابن تيمية ج ٣ ص ٣٥٥..
١٠ - الأم ج ٧ ص ٦٤ والمغني ج ٨ ص ٧٣٩ وبداية المجتهد ج ١ ص ٣٥٧ وأسهل المدارك ج ٢ ص ٢٨ والمدزنة ج ٢ ص ٤١..
والخمر في اللغة يذكر ويؤنث فيقال : هو الخمر، أو هي الخمر. وهي اسم لكل مسكر خامر العقل أي ستره وغطاه. نقول : اختمرت الخمر أي أدركت وغلت. وخمرت الشيء تخميرا أي غطيته وسترته. والخمار ما يغطي رأس المرأة. والخمرة من المخامرة أي المخالطة٢.
والخمرة واحدة من كبريات المعاصي والذنوب التي ندد بها الإسلام تنديدا وشدد عليها التشنيع والنكير. فهي أم الخبائث ومثار الخطايا والموبقات. إذ تصير بالعقل إلى الزوال لينفلت السكران بذلك من ربقة الوعي والإدراك والضبط فيتيه في عمه واضطراب وتخبط، وهو يغمره الهذيان والحماقة. ذلك هو السكران المألوف المستخف الذي استهوته الخمرة فأسلس لها القياد فمضى تائها في زمرة المخمورين والمخبولين.
وفي التحذير من شرب الخمر يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا ينظر إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه والمدمن الخمر والمنان بما أعطى " رواه النسائي عن عمر بن محمد بن محمد العمري.
وروى أحمد عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل الجنة منان ولا عاق ولا مدمن خمر ".
وروى ابن ماجه عن أبي الدرداء قال : أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم " لا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر ".
وروى ابن ماجه أيضاً عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مدمن الخمر كعابد وثن ".
وكذلك روى ابن ماجه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعنت الخمر على عشرة أوجه : بعينها وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومبتاعها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها وشاربها وساقيها ".
ماهية الخمر
ثمة تفصيل للعلماء في ماهية الخمرة التي حرمتها الشريعة بل أوجبت في حق شاربها الحد. والخمر هو العصير من العنب وغيره من الأشربة إذا طبخ واشتد وقذف زبده لصيرورته مسكراً.
على أن المجمع علي تحريمه هو عصير العنب إذا اشتد وقذف زبده، فهو حرام قليله وكثيره. أما ما عداه من الأشربة المسكرة فهو كذلك محرم عند أكثر العلماء سواء ما كان منه قليلاً أو كثيراً، مصنوعاً من العنب أو غيره من سائر العصارات، فمادام فيه علة الإسكار فهو حرام. وقد روي تحريم ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص، وعائشة وأنس رضي الله عنهم. وقال به عطاء وطاووس وقتادة وعمر بن عبد العزيز. وهو قول الجمهور من المذاهب الفقهية. إذ قالت المالكية والشافعية والحنبلية والظاهرية وغيرهم من أهل العلم( ٣ ) واحتجوا بأدلة كثيرة منها قوله تعالى :} إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ } واسم الخمر في هذه الآية يدل بعمومه على كل مسكر كيفما كان أصله، ما قل منه أو كثر، فهو حرام منهي عنه ومأمور باجتنابه ؛ لأنه رجس من عمل الشيطان.
واحتجوا من السنة بجملة أخبار منها ما أخرجه مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل مسكر خمر وكل خمر حرام " ولفظ كل من ألفاظ الاستغراق، لتشمل بذلك كل أصناف الأشربة المسكرة.
وأخرج ابن ماجه عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مسكر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام ".
وأخرج ابن ماجه أيضاً عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما أسكر كثيره فقليله حرام ".
وأخرج مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن شراب يشربه أهل اليمن من الذرة يقال له " المزر " فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أو مسكر هو ؟ " قال : نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مسكر حرام إن على الله عز وجل عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال " قالوا : وما طينة الخبال ؟ قال : " عرق أهل النار أو عصارة أهل النار ".
وأخرج مسلم أيضاً عن أبي موسى الأشعري قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذ بن جبل إلى اليمن فقلت : يا رسول الله إن شراباً يصنع بأرضنا ( اليمن ) يقال له المزر من الشعير وشراب يقال له البتع من العسل فقال : " كل مسكر حرام ".
إلى غير ذلك من الأخبار والآثار مما يدل على تحريم كل شراب مسكر ما قل منه أو كثر سواء كان مصنوعاً من العنب أو غيره.
قول الحنفية في المسألة
لا يختلف علماء المذهب الحنفي عن غيرهم في تحريم كل مسكر من العنب ما قل منه أو كثر. لكنهم يخالفون جماهير العلماء في تحريم الأشربة أو العصارات من غير العنب، إذ قالوا ( الحنفية ) : ما كان من عصارات من غير العنب لا يحرم إلا إذا أسكر فإن أسكر بات حراماً. وبذلك فإن الأشربة من الحنطة والذرة والشعير وغير ذلك مما سوى العنب فهو كله حلال إلا ما بلغ السكر. واحتجوا بعدة أخبار أو آثار. منها ما أخرجه أبو حنيفة في مسنده عن ابن عباس قال : " حرمت الخمر قليلها وكثيرها وما بلغ السكر من كل شراب ".
ومنها ما أخرجه البيهقي عن عائشة قالت : " اشربوا ولا تسكروا ".
ومنها ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الخمر من هاتين الشجرتين : النخلة والعنبة " وفي رواية " الخمر من هاتين الشجرتين : الكرمة والنخلة " فيستفاد من ذلك أن ما سوى عصير العنب ليس حراماً شربه إلا إذا بلغ السكر. وهو ما نظنه قولاً مرجوحاً فلا ينبغي الركون إليه لاستناده إلى أدلة طعن فيها كثير من العلماء لضعفها واضطرابها. وبذلك فإن سائر الخمور حرام مهما كان مصدرها سواء كانت من العنب أو العسل أو التمر أو الشعير أو غير ذلك من عصارات الفواكه. فما صار من العصارات مسكراً فهو حرام قليله وكثيره. وليس أدل على ذلك من حديث ابن ماجه " إن من الحنطة خمراً، ومن الشعير خمراً، ومن الزبيب خمراً، ومن التمر خمراً، ومن العسل خمراً ".
وقوله عليه الصلاة والسلام : " كل شراب أسكر فهو حرام ".
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " ما أسكر كثيره فقليله حرام ".
ويعزز ذلك أيضاً قول عمر رضي الله عنه في تعريف الخمر : " الخمر ما خامر العقل " والمخامرة تعني المخالطة والستر. فكل ما خالط العقل وستره من المسكرات سمي خمراً فهو بذلك حرام.
ولو تحولت الخمر بنفسها إلى خل فقد طهرت وحل أكلها بغير خلاف.
ولا يجوز تخليلها، أي تصييرها خلاًّ بالمعالجة. وهو قول الجمهور من العلماء.
ودليل ذلك ما رواه أبو سعيد قال : كان عندنا خمر ليتيم فلما نزلت المائدة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله إنه ليتيم ؟ قال : " أهرقوه " رواه الترمذي.
وروى مسلم عن أنس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتخذ الخمر خلاًّ. قال : " لا ".
وروى أبو داود عن طلحة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً ؟ فقال : " أهرقها " قال : أفلا أخللها ؟ قال : " لا " وهذا نهي يقتضي التحريم. ولو جاز استصلاحها بالمعالجة لما جازت إراقتها لكونها بالاستصلاح مالاً. وهو لا يجوز إتلافه. فدل ذلك على أنها لا تصير بالمعالجة حلالاً.
ولو نقلت الخمر من شمس إلى ظل أو من ظل إلى شمس فتخللت من غير أن يلقي فيها شيئاً ففي إباحتها عند الشافعية والحنبلية قولان.
وذهب آخرون إلى أن الخمر تطهر إذا تخللت بالمعالجة. وهو قول الحنفية والثوري والأوزاعي والليث بن سعد ؛ وذلك لأن علة تحريمها قد زالت بتخليلها فطهرت كما لو تخللت بنفسها( ٤ ).
قوله :﴿ وَالمَيْسِرُ ﴾ عطف على الخمر. والميسر معناه القمار. وهو من اليسر بفتح الباء، وهو اللعب بالقداح للقمار. والياسر الذي يلعب بالقداح. والياسرون الذين يتقامرون. واشتق الميسر من اليسر ؛ لأنه أخذ للمال من الرجل بيسر وسهولة. وبذلك فإن المقصود بالميسر : القمار. وهو المخاطرة بين اثنين على مال أو غيره. فأيهما قمر صاحبه أخذ ماله( ٥ ).
والميسر أو القمار واحد من الأساليب الخسيسة لكسب المال حراماً. فأيما مال اكتُسب عن طريق الميسر أو المقامرة فهو حرام لا يحل لآخذه. بل إنه من جملة السحت الذي يمحق البركة من عيش المتقامرين وحياتهم ثم يفضي بهم إلى عذاب الله.
وضروب الميسر كثيرة ومختلفة، منها اللعب بالنرد أو القداح أو الكعاب المصنوعة من الحجارة وغيرها. وكذا الشطرنج إن كان للمقامرة على المال. وغير ذلك من صور القمار أو الميسر. فهو اسم يجمع كل أنواع القمار. قال ابن سيرين ومجاهد وعطاء في ذلك : كل شيء فيه خطر فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز. والخطر، معناه السبق الذي يتراهن عليه. نقول أخطرت المال إخطاراً أي جعلته خطراً بين المتراهنين. وخاطرته على مال، أي راهنته عليه.
أما الشطرنج ففيه تفصيل. فقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : النرد والشطرنج من الميسر. وقال الشافعي رحمه الله : إذا خلا الشطرنج عن الرهان واللسان عن الطغيان، والصلاة عن النسيان لم يكن حراماً، وهو خارج عن الميسر، لأن الميسر ما يوجب دفع المال أو مال. وهذا ليس كذلك فلا يكون قماراً ولا ميسراً.
وقيل : اللعب بالنرد والشطرنج حرام، قماراً أو غير قمار. لأن الله قرن مطلق الميسر بالخمر وهي محرمة. وكذلك فإن اللعب بالشطرنج كالميسر في إلهائه اللاعبين به. إذ يشغل أذهانهم وبالهم ويلهيهم عن ذكر الله وعن الصلاة. وهو الظاهر من مذهب المالكية. قال الإمام في ذلك : الميسر ميسران : ميسر اللهو وميسر القمار. فمن ميسر اللهو : النرد والشطرنج والملاهي كلها. وميسر القمار، ما يتخاطر الناس عليه وكل ما قومر به فهو ميسر( ٦ ).
قوله :﴿ وَالأَنْصَابُ ﴾ جمع ومفرده النصب بسكون الصاد وضمها( ٧ ) والأنصاب هي الأصنام المنصوبة للعبادة. والفرق بينها وبين الأصنام أن الأنصاب حجارة غير مصورة كانوا يقصدونها للعبادة ويذبحون عندها. أما الأصنام فهي ما صور وعبد من دون الله.
قوله :﴿ وَالأَزْلاَمُ ﴾ مفرده زلم بالتحريك. ويراد بها القداح أو السهام التي كانوا يستقسمون بها في الجاهلية( ٨ ).
قوله :﴿ رِجْسٌ ﴾ أي قذر تعاف منه النفوس وتشمئز منه الطبائع السليمة. أو هو ما استقذر من عمل قبيح. ويقال للنتن والعذرة رجس.
قوله :﴿ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ﴾ في محل رفع صفة لرجس. أي أن هذا الرجس سببه تز
٢ - لسان العرب ج ٤ ص ٢٥٤- ٢٥٧..
٣ - المغني ج٨ ص٣٠٥ والمهذب ج٢ ص٢٨٦ وحاشية الخرشي ج٨ ص١٠٨ وبداية المجتهد ج٢ ص٤٠٥ والمحلى ج١١ ص٣٧٤..
٤ - المغني ج٨ ص٣١٩ – ٣٢١ وبداية المجتهد ج١ ص٤٠٧ – ٤٠٩ وتفسير القرطبي ج٦ ص٢٩٠..
٥ - لسان العرب ج٥ ص٢٩٨..
٦ - فتح القدير ج١ ص٢٢٠ وتفسير القرطبي ج٦ ص٢٩١، وتفسير الطبري ج٧ ص٢١..
٧ - مختار الصحاح ص٦٦١..
٨ - القاموس المحيط ج٤ ص١٢٧ وتفسير النسفي ج١ ص٣٠٠..
أما وجه العداوة والبغضاء في الخمر، فإن الشاربين إذ يحتسون الخمر يقبلون عليها بشره وتعشّق طلباً للذة والطرب والانتشاء الزائف المصطنع. حتى إذا ولغوا فيها ولوغاً خالطت عقولهم مخالطة، وأثرت في أحلامهم بالغ التأثير. لا جرم أنه تأثير سلبي فاضح يحول بين المرء وكامل وعيه وإدراكه ويسدل على العقل كثيفاً من الحجاب الصفيق ليحول بينه وبين القدرة على الإدراك والتمييز.
والسكارى وهم يعبّون من كؤوس الخمرة عبّاً يلفهم غطاء الغفلة والخدر وانعدام الإحساس والوعي فتأخذهم حالة من الهذيان المطبق، فلا يلبث المخمورون المأفونون بعد ذلك أن يلجوا في الصياح والصخب والغضب واللجاج بفعل الخمرة التي استحوذت على عقولهم فأفقدتهم القدرة على التماسك والضبط. وما يلبث المخمورون أن تتعثر ألسنتهم بقبائح الكلام من فحش وقذف وطعن وخوض في أعراض الناس والمحرمات. وكل ذلك لسوف يفضي بالضرورة إلى الكراهية والعداوة والتباغض بين الشاربين السكارى.
أما وجه العداوة والبغضاء في الميسر. فإن اللاعب المقامر لا ينجو من الخسارة. فلئن ربح من مرة أو مرات فلسوف يذوق وبال الخسارة في مرات أخرى. وربما يخسر ماله كليّاً في جلسة واحدة أو أكثر من جلسات الخسة والخزي على موائد القمار حيث السحت والجشع والأمل اللاهث المكروب. وذلك يعني أن المقامر سوف لا ينجو من الخسران مهما أوتي من براعة في المياسرة.
والمقامر الخاسر يجد قلبه كظيظاً مترعاً بمرارة الكراهية والحقد وفيض الامتعاض والمضاضة بما يحمله على مباغضة خصمه الآخر ومعاداته أشد المعاداة. فلا يكون المتقامرون بذلك إلا الأشتات من البشر المتهافت، والأناسي المتباغضين المتنافرين الذين تغمر قلوبهم موجة مستعرة من الضغن المتأجج لما جنوه على أنفسهم من التلطخ بلوثة السحت البشع على مائدة القمار الذميم.
قوله :﴿ وَيَصُدُّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلواَةِ ﴾ يريد الشيطان للعباد كل سوء وشر. فهو لا يفتأ طيلة الأيام والأزمان يحرضهم لفعل السيئات والمعاصي، ويتربص بهم السقوط في الخطيئة بما يودي بهم إلى الهاوية وسوء المصير. والخمر والميسر سببان يلج منهما الشيطان لابن آدم فيسول له فعل كل معصية من قول أو فعل، ثم يصدهم فوق ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة.
أما الخمر فهي تخامر العقل مخامرة لتسدل عليه ستاراً من الذهول والعمه فيعجز عن الاستبصار والتمييز. والشارب الذي طغى على ذهنه وقلبه وأعصابه حسوات من خمر، أجدر أن لا يكون في عداد الذاكرين لله. بل هو في زمرة اللاهين السامدين الذين يتيهون حماقة ورعونة. فأنَّى لمثل هذا المخمور التائه المأفون أن يعي أو يتدبر وجيبة الذكر لله.
وكذا الصلاة. فإن من تبددت في كيانه ظواهر الوعي والفهم والتدبر أجدر أن لا يتذكر الصلاة. هذه العبادة الرائعة المميزة المكرورة مرات في كل يوم. العبادة الخاصة التي تتكامل فيها مركبات الشخصية المؤمنة لتلتئم في كيان واحد متسق عجيب يناجي ربه وهو بين يديه. حتى ما يكون في كيان الإنسان كله من أعصاب وحواس وتفكير إلا ويقف واجماً ضارعاً متوسلاً خاشعاً في لحظات الصلاة. فأنّى للمخمور المتطيش مسلوب العقل والإرادة أن يؤدي مثل هذه العبادة الجليلة. لا جرم أنه بذلك مصدود عن ذكر الله وعن الصلاة.
وكذلك الميسر. فإنه شَرَك للمقامر الجشع. المقامر الوالغ في أكل الباطل والحرام، السادر في اكتساب السحت ظلماً وعدواناً. ذلك هو المقامر المنكود الذي يترعرع في عيشه المتدنس على حساب الآخرين الخاسرين بغير حق.
والمقامر الذي تنشغل فيه أعصابه وذهنه وجسده كله في عملية الميسر إنما يجد نفسه مشدود الإرادة والعزيمة والقلب لهذه العملية المقبوحة فلا متسع عنده لأيّما اهتمام بذكر الله أو الصلاة. وأنَّى لمثل هذا المقامر اللاهث المخبول أن يذكر ربه فينيب إليه طائعاً مخبتاً أو يعبأ بالصلاة فيبادر القيام بها ؟ !
قوله :﴿ فَهَلْ أَنْتُم مُّنتَهُونَ ﴾ هذا الاستفهام ينطوي على تأكيد ظاهر على النهي، عن الخمر والميسر. فما بقي من عذر بعد هذا التنديد البالغ بالخمر والميسر، لما فيهما من إشاعة للمباغضات والعداوات. ولأن كل واحد منهما ملهاة للمؤمن تصده عن ذكر الله وعن الصلاة. وقد أدرك عمر رضي الله عنه أن هذا وعيد شديد لمن يتخلف أو يتردد فقال مبادراً : انتهينا يا رب.
قوله :﴿ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلاَغُ المُبِينُ ﴾ ذلك تهديد بالغ. ووعيد رعيب لمن خالف عن أمر الله وأعرض عن حكمه. فإن الذي يتولى عما كلفه به الله قد وقعت عليه الحجة ولم يبق له من عذر وليس له بعد ذلك إلا العقاب الشديد. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن يضيره إدبار الناس عن دعوة الله وتوليهم عما أمرهم به. فهو إنما نيط به التبليغ وقد بلغ ولم يأل( ١ ) في ذلك. فقد خرج بذلك عن عهدة ما كلف به( ٢ ).
٢ - روح المعاني ج٧ ص١٥-١٧ وتفسير الرازي ج١٣ ص٨٥ – ٨٧ وتفسير القرطبي ج٦ ص٢٩٠ – ٢٩٣..
وتأويل الآية أنه ليس على هؤلاء المؤمنين جناح في كل شيء طعموه من مستلذات المطاعم والمشارب قبل تحريمها إذا كانوا متقين ما حرم الله عليهم منها. ﴿ وَّأمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ أي وثبتوا على الإيمان والعمل الصالح ﴿ ثُمَّ اتَّقَوا وَّآمَنُوا ﴾ أي ثم ثبتوا على التقوى والإيمان ﴿ ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا ﴾ أي ثم ثبتوا على اتقاء المعاصي وأحسنوا أعمالهم. أو أحسنوا إلى الناس بالمواساة وبذل الخير لهم.
قوله :﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ ﴾ وهم أهل الإحسان. وهذه أشرف الدرجات وأعلى المقامات.
وقيل : الاتقاء على ثلاث مراتب، الأولى : الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق والدينونة به والعمل. والثانية : الثبات على التصديق. والثالثة : الاتقاء بالإحسان والتقرب بالنوافل. وهو من قول ابن جرير الطبري.
ويستدل من الآية أيضاً على أن نبيذ التمر إذا أسكر سمي خمرًا فصار شربه حرامًا، قليلا ً أم كثيرًا. وليس صحيحًا ما قيل من حصر التحريم في عصير العنب دون غيره من الأشربة. بل إن كل ما أسكر نوعه حرم شربه قليلا ً أو كثيرًا، نيئاً أو مطبوخاً سواء كان من العنب أو من غيره من أنواع العصير. ويؤكد ذلك ما ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب على منبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا أيها الناس، ألا إنه قد نزل تحريم الخمر يوم نزل، وهي من خمسة : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير. والخمر ما خامر العقل. وهذا أوضح ما يكون في معنى الخمر( ٣ ).
٢ - تفسير ابن كثير ج٢ ص٩٧ وانظر أسباب النزول للنيسابوري ص١٤٠ وتفسير القرطبي ج٦ ص٢٩٣..
٣ - تفسير الطبري ج٧ ص٢٥ وفتح القدير ج٢ ص٧٥ وتفسير القرطبي ج٦ ص٢٩٤ وتفسير الرازي ج١٢ ص٨٨-٩٠..
فقد نزلت الآية في عمرة الحديبية حيث ابتلاهم الله تعالى بالصيد وهم محرمون إذ كانت الوحوش والطيور تغشاهم في رحالهم بكثافة وكانوا متمكنين من صيدها بأيديهم وبرماحهم فنهاهم الله عن ذلك ابتلاء. ومن شأن الله جلت قدرته أن يمتحن عباده المؤمنين بوجوه من الابتلاء ليميز القوي الصابر من الضعيف الخائر. أو يمحص الأتقياء الصابرين ويكشف المتخاذلين والمنافقين. أو ليجزي المؤمنين الثابتين مغفرة منه ورضواناً.
قوله :﴿ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ ﴾ الذي تناله الأيدي يراد به فراخ الطير وصغار الوحش. والذي تناله الرماح الكبار من الصيد.
قوله :﴿ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالغَيْبِ ﴾ أي ليتميز من يخاف عقاب الله الأخروي الغائب فيتقي الصيد، ممن لا يخاف الله فيصيد. ولا ينبغي أن يفهم قوله :﴿ لِيَعْلَمَ اللَّهُ ﴾ على ظاهره. فإن الله عالم من الأزل ولا يزال عالماً.
قوله :﴿ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي من تجاوز حد الله وتعرض للصيد بعد بيان أن هذا التشريع ابتلاء. وقيل : بعد ما بينه الله من التحريم والنهي عن الصيد ﴿ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ المراد عذاب الدارين. فعذاب الآخرة يعلمه الله ويعلم كيفيته ومداه. أما عذاب الدنيا فهو أن يضرب ظهره وبطنه جلداً. وقيل : المراد عذاب الجلد في الدنيا فقط. وهو قول ابن عباس.
وقوله :﴿ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾ أي وأنتم محرمون. بحج أو عمرة. والحرم بالضم جمع حرام وهو يقال للذكر والأنثى. فنقول : هذا رجل حرام. وهذه امرأة حرام. والإحرام معناه الدخول في الشهر الحرام أو في الحرم. والحرام بمعنى المحرم. والمراد به من أحرم بحج أو عمرة وإن كان في الحل. وكذلك من كان في الحرم وإن كان حلالاً. أي أن كلمة ﴿ حُرُمٌ ﴾ تتناول من كان محرماً ومن كان داخلاً في الحرم. وبذلك لا يحل قتل الصيد إلا للحلال وهو في الحل. وليس له أن يقتله وهو في الحرم.
على أن الصيد المنهي عن قتله من حيث نوعه موضع خلاف. فهو عند الشافعية يتناول مأكول اللحم فقط. أما غير مأكول اللحم من حيوانات البر فيجوز للمحرم قتله.
أما الجمهور فقد ذهبوا إلى تحريم قتل حيوانات البر جميعها سواء كانت مأكولة اللحم أو غير مأكولة اللحم. ولا يستثنى من ذلك إلا ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور " وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور " وكذا الحية فإنها لا شك في قتلها وليس في جواز ذلك خلاف.
وألحق بعض العلماء بالكلب العقور : الذئب والسبع والنمر والفهد ؛ لأنها أشد ضرراً منه. وهو قول المالكية والحنبلية. ويستأنس لذلك بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا على عتبة بن أبي لهب قال : " اللهم سلّط عليه كلبك بالشام " فأكله السبع بالزرقاء.
وقالوا أيضاً : يستثنى من ذلك صغارها، سواء صغار المنصوص عليها أو صغار الملحق بها من السباع فلا يحل قتلها ؛ لأنها لا تصول على الإنسان ولا تضره وقالت الشافعية : يجوز للمحرم أن يقتل كل ما لا يؤكل لحمه، ولا فرق في ذلك بين صغاره وكباره، والعلة الجامعة في ذلك كونها غير مأكولة.
قوله :﴿ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ﴾ متعمداً، منصوب على الحال من الضمير في " قَتَلَهُ " وجزاء مبتدأ مرفوع. وخبره محذوف وتقديره : فعليه جزاء( ١ ) ويراد بالمتعمد هنا القاصد لقتل الصيد مع علمه بالإحرام. والمخطئ هو الذي يقصد شيئاً فيصيب صيداً. وأما الناسي فهو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه.
أما حكم ذلك فهو موضع خلاف بين العلماء. وفيه جملة أقوال هي :
القول الأول : عدم الحكم على من أصاب الصيد خطأ. وإنما يحكم على من أصابه متعمداً. وعلى هذا فالتكفير إنما يكون في العمد. وهو مروي عن ابن عباس. وقال به طاووس، استناداً إلى ظاهر الآية.
القول الثاني : عدم الحكم على من أصاب الصيد مخطئاً أو ناسياً. وهو قول داود الظاهري وأبي ثور. وهي رواية عن أحمد. وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير مثل ذلك. ودليل ذلك أن الله خص المتعمد بالذكر، فدل ذلك على أن غيره بخلافه. وغيره يعني المخطئ والناسي. والأصل براءة الذمة. فمن ادعى شغلها جاء بالدليل.
القول الثالث : العامد والناسي والمخطئ سواء في وجوب الجزاء عليه. وعلى هذا يحكم على قاتل الصيد في العمد والخطأ والنسيان. وهو قول الجمهور. قال الزهري في هذا الصدد : وجب الجزاء في العمد بالقرآن. وفي الخطأ والنسيان بالسنة. أي أن القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمد وعلى تأثيمه بقوله :﴿ لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ﴾ أما السنة فتضمنت من أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وأحكام أصحابه ما يوجب الجزاء في الخطأ مثلما دل عليه الكتاب في العمد.
القول الرابع : أن يقتله متعمداً لقتله وهو ناسٍ لإحرامه فعليه الجزاء. أما إن قتله متعمداً غير ناس أنه محرم وهو لا يريد غيره فقد حل وليس له حج لارتكابه محظوراً من محظورات الإحرام. وذلك كما لو تكلم في الصلاة أو أحدث فيها فإنها تبطل.
أما الحرم من حيث مكانه فهو حرمان : حرم مكة وحرم المدينة. وحرم المدينة لا يجوز لأحد أن يصطاد فيه ولا أن يقطع فيه شجراً. وهو في ذلك كحرم مكة. فإن فعل أثم ولا جزاء عليه عند المالكية والشافعية. واحتجوا لتحريم الاصطياد فيه أو قطع شجره بما روي في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم المدينة مثل ما حرم به مكة ومثله معه. لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها. ولا ينفّر صيدها " وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في المدينة : " ما بين لابتيها حرام " وبذلك فإنه يحرم صيد المدينة كحرمته في مكة. بخلاف الحنفية إذ قالوا : صيد المدينة غير محرم.
قوله :﴿ فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ﴾ قرئ قوله :﴿ فَجَزَاءٌ ﴾ على عدة قراءات أظهرها رفع جزاء وتنوينه. ومثل، صفته. وخبر المبتدأ مضمر، وهو ما بيناه سابقاً. والتقدير : فعليه جزاء مماثل لازم من النعم. وعلى هذا فالمثل هو الجزاء. وذلك يدل على وجوب الجزاء من مثلما قتله المحرم إذا كان له مثل من الحيوان الإنسي. وهو قول الجمهور خلافاً لأبي حنيفة، إذ أوجب القيمة سواء كان الصيد المقتول مثليّاً أو غير مثلي. وقال : يقوّم الصيد دراهم في المكان الذي قتله فيه، أو في أقرب موضع إليه فيشتري بتلك القيمة هدياً إن شاء أو يشتري بها طعاماً ويطعم المساكين كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر.
قوله :﴿ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ ﴾ أي يحكم في جزاء الصيد رجلان صالحان عدلان منكم. أي من أهل ملتكم ودينكم. أما هل يجوز أن يكون القاتل أحد الحكمين ؟ ثمة قولان في ذلك. أحدهما : عدم الجواز، لمظنة التهمة في حكم القاتل على نفسه. وهو قول المالكية والظاهر من مذهب المالكية.
ثانيهما : الجواز. وذلك لعموم الآية، وهو مذهب الشافعية والحنبلية. ومما احتجوا به أن بعض الصحابة أوطأ فرسه ظبياً فقتله وهو محرم. فقال له عمر : احكم معي. فحكما فيه جدياً. جمع الماء والشجر. فقال عمر :﴿ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ ﴾ وهو يدل على جواز كون القاتل أحد الحكمين. ولو اشترك جماعة في قتل صيد، ففي حكم ذلك قولان. أحدهما : أن على كل واحد من الجماعة جزاء كاملاً. وهو قول مالك وأبي حنيفة، استناداً إلى ظاهر الآية.
ثانيهما : عليهم جميعاً كفارة واحدة، وهو قول الشافعي لما رواه الدارقطني أن موالي لابن الزبير أحرموا إذ مرت بهم ضبع فخذفوها بعصيهم فأصابوها فوقع في أنفسهم فأتوا ابن عمر فذكروا له فقال : عليكم كلكم كبش.
قوله :﴿ هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ ﴾ هدياً منصوب على الحال. أي إذا حكم العدلان بالهدي فإنه يرسل إلى مكة وينحر ويتصدق به هناك. وليس المقصود عين الكعبة وإنما المقصود الحرم. وسميت الكعبة بهذا الاسم لارتفاعها وتربيعها. والعرب تسمي كل بيت مربع كعبة. والمراد بها هنا الحرم ؛ لأن الذبح أو النحر لا يقع في الكعبة ولا في قرب ملاصق لها، بل يرسل الهدي إلى مكة ليذبح أو ينحر فيها ثم يوزع على مساكينها ومحاويجها.
قوله :﴿ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً ﴾ كفارة عطف على قوله ﴿ فَجَزَاءٌ ﴾. طعام بدل من كفارة. وقيل : خبر مبتدأ محذوف. وتقديره هي طعام( ٢ ) والعدل، ما عدل الشيء من غير جنسه. وصياماً، منصوب على التمييز. وكلمة ﴿ أَوْ ﴾ للتخيير. وذلك في أصل اللغة. وهو قول الجمهور وعلى هذا إذا قتل المحرم الصيد فهو مخير بين ثلاثة أشياء : إن شاء أخرج المثل. وإن شاء قوّم المثل بدراهم ويشتري بها طعاماً ويتصدق به، وإن شاء صام. وأما الصيد الذي لا مثل له فالقاتل مخير بين شيئين : بين أن يقوّم الصيد بالدراهم ويشتري بها طعاماً ويتصدق به، وبين أن يصوم.
وقيل :﴿ أَوْ ﴾ للترتيب وليس التخيير. وهو قول الحنبلية وزفر من الشافعية. إذ قالوا : الواجب هنا قد شرع على سبيل التغليظ بدليل قوله تعالى :﴿ لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ﴾ والتخيير ينافي التغليظ. وأجيب عن ذلك أن إخراج المثل ليس أقوى عقوبة من إخراج الطعام. فالتخيير لا يقدح في القدر الحاصل من العقوبة في إيجاب المثل.
قوله :﴿ لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ﴾ الذوق هو إدراك طعم الشيء بواسطة الأعصاب المنتشرة على اللسان. والذوق هنا مستعار ليشي بتغليظ العقاب على المخالفين. والوبال، معناه سوء العاقبة. والوبيل : الثقيل الوخيم.
قوله :﴿ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ﴾ أي عما كان في الجاهلية من صيد في حال الإحرام. وقيل : قبل نزول الكفارة.
قوله :﴿ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ﴾ يعني من عاد للصيد وهو محرم فإن الله ينتقم منه بالكفارة. وقيل : ينتقم منه في الآخرة.
قوله :﴿ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ أي منيع في ملكه، غالب على أمره لا يمتنع عليه ما يريد. وهو ينتقم ممن عصاه أو تعدى حدوده وخالف أوامره. قال ابن جرير الطبري في تأويل ذلك : الله منيع في سلطانه لا يقهره قاهر ولا يمنعه من عقوبة من أراد عقوبته مانع ؛ لأن الخلق خلقه والأمر أمره له العزة والمنعة( ٣ ).
٢ - البيان لابن الأنباري ج١ ص٣٠٥..
٣ - روح المعاني ج٧ ص٢٥-٣٠ وتفسير الرازي ج١٢ ص٩٢-١٠٢ وفتح القدير ج٢ ص٧٨ وتفسير الطبري ج٧ ص٣٣-٤٣ وتفسير ابن كثير ج٢ ص٩٦-١٠٠..
قوله :﴿ وَطَعَامُهُ ﴾ أي ما يطعم من صيده. وهو عطف على ﴿ صَيْدُ ﴾ وهو من عطف الخاص على العام. أي أحل لكم جميع ما يصاد في المياه والانتفاع به وكل ما يؤكل منه.
وجملة ما يصاد من البحر ثلاثة أنواع : الأسماك بكل أنواعها، فهي حلال. والضفادع بكل أنواعها فهي حرام. وما سوى هذين النوعين.
وفيه خلاف بين العلماء. فهو عند الحنفية حرام أكله. فإنما يحل عندهم أكل الأسماك دون غيرها مما حواه البحر من حيوان. خلافاً لابن أبي ليلى من الحنفية إذ يحل عنده أكل جميع حيوانات البحر. فقد جعل الضمير في قوله :﴿ وَطَعَامُهُ ﴾ راجعاً إلى صيد البحر وليس البحر. أي يحل لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه وتأكلوه. وهو قول المالكية والشافعية والأوزاعي والثوري. فقد ذهب هؤلاء إلى أنه يؤكل كل ما في البحر من السمك والدواب وسائر ما في البحر من الحيوان، وسواء اصطيد أو وجد ميتاً. واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " وفي الحوت أخرج الصحيحان عن جابر قال : لما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال : " هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا " فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله.
أما السمك الطافي في البحر فهو حلال أكله عند الشافعية. وهو مروي عن أبي بكر وعمر وابن عباس، وذلك لعموم قوله تعالى :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وَطَعَامُهُ ﴾ وكذا عموم الخبر " هو الطهور ماؤه الحل ميتته ".
وعند الحنفية : لا يؤكل السمك الطافي، ويؤكل ما سواه من السمك دون غيره من سائر الحيوان. وكرهه كثير من أهل العلم لعموم قوله تعالى :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ ﴾ ولما رواه أبو داود والدارقطني عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كلوا ما حسر عنه البحر. وما ألقاه وما وجدتموه ميتاً أو طافياً فوق الماء فلا تأكلوه ".
قوله :﴿ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ﴾ متاعاً منصوب على المصدر. وقيل : مفعول لأجله. أي أحل لكم تمتيعاً لكم( ١ ) أي أحل الله لكم صيد البحر منفعة لمن كان منكم مقيماً أو حاضراً في بلده فيستمتع بأكله. وكذلك منفعة ومتعة للسيارة وهم السائرون المسافرون من بلد إلى بلد ومن أرض إلى أرض. إذ يتزودونه في سفرهم. والسيارة جمع سيار. أي يستمتع به المقيمون فيأكلونه طريّاً ويستمتع به المسافرون إذ يتزودونه قديداً مالحاً.
قوله :﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ﴾ فقد حرم الله بهذه الآية على المحرم كل معاني صيد البر من اصطياد وأكل وقتل وبيع وشراء وإمساك وتملك. وصيد البر ما صيد فيه مما يتوالد فيه. وإن كان يعيش في البر تارة وفي الماء تارة أخرى فذلك كله صيد البر. وذلك كالسلحفاة والسرطان والضفدع وطير الماء. ويجب على قاتله الجزاء.
أما الصيد الذي يصيده الحلال هل يحل للمحرم ؟ ثمة أقوال في ذلك :
القول الأول : عدم جواز أكل الصيد للمحرم بالكلية والمنع من ذلك مطلقاً وذلك لعموم الآية ﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ﴾ وقد ذهب إلى ذلك علي وابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير وطاووس والثوري. فقد قالوا : صيد البر يدخل فيه ما اصطاده المحرم وما اصطاده الحلال. وكل ذلك صيد البر.
القول الثاني : إباحته للمحرم مطلقاً، أي على كل حال، إذا اصطاده الحلال سواء صيد من أجله أو لا. وقد روي هذا القول عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة والزبير بن العوام وكعب الأحبار ومجاهد وسعيد بن جبير. وهو قول الحنفية. وذلك لظاهر قوله :﴿ لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾ فحرم صيده وقتله على المحرمين دون ما صاده غيرهم.
القول الثالث : إن كان الحلال قد قصد المحرم بذلك الصيد فإنه لا يجوز أكله للمحرم. وهو قول المالكية والشافعية والحنبلية وآخرين. ودليلهم ما أخرجه الصحيحان عن الصعب بن جثامة أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حماراً وحشيّاً وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه فلما رأى ما في وجهه قال : " إنا لم نرده عليك إلا أنا حرام " أما إذا لم يقصده بالاصطياد فإنه يجوز له الأكل منه. وذلك لحديث أبي قتادة حين صاد حماراً وحشيّاً وكان حلالاً لم يحرم وكان أصحابه محرمين فتوقفوا في أكله ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " هل كان منكم أحد أشار إليها وأعان في قتلها " قالوا : لا. قال : " فكلوا " وأكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو أحرم وبيده صيد بر أو كان في بيته عند أهله، فإن كان في يده لزمه إرساله. وإن كان في أهله فليس عليه إرساله. وهو قول الحنفية والحنبلية والمالكية. وعند الشافعي في أحد قوليه ليس عليه إرساله سواء كان في يده أو في بيته. وهو مروي عن مالك. وقيل : عليه أن يرسله سواء كان في بيته أو في يده، فإن لم يرسله ضمن. وهو قول ابن أبي ليلى والثوري. والقول الثاني للشافعي. وذلك لقوله :﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ﴾ وهذا عام في الملك والتصرف.
ولو دل المحرم محرماً آخر على الصيد فقتله فقد وجب على كل واحد منهما جزاء وهو قول الحنفية وأشهب من المالكية. وقيل : الجزاء على المحرم القاتل. وهو قول المالكية والشافعية لظاهر قوله تعالى :﴿ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُم مُّتَعَمِّداً ﴾ فعلق وجوب الجزاء بالقتل فانتفى بغيره.
قوله :﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ أي احذروا واجتنبوا ما نهاكم الله عنه من الصيد والمعاصي كشرب الخمر والمقامرة واعتقاد الأنصاب والأزلام. فإنكم صائرون إلى الله فيعذب من يعصيه ويستنكف عن طاعته وعبادته( ٢ ).
٢ - تفسير الطبري ج٧ ص٤٥-٤٨ وتفسير ابن كثير ج٢ ص١٠٢-١٠٥ وتفسير القرطبي ج٦ ص٣١٧-٣٢٤ وروح المعاني ج٧ ص٢٩-٣٣ وتفسير الرازي ج١٢ ص١٠٣..
الكعبة من التكعيب وهو التربيع، وسميت بذلك ؛ لأنها مربعة. أو من التكعب وهو الارتفاع. فسميت كعبة لكونها مرتفعة. ومن ذلك كعب الإنسان لنتوئه وارتفاعه. والكعب معناه العظم الناشز فوق القدم، والناشزان من جانبيها والجمع أكعب وكعوب وكعاب. ويقال للجارية إذا نتأ ثديها كاعب. واصطلاح الكعبة للشرف والمجد. فهي لما سما ذكرها في الدنيا وشاع أمرها في العالمين سميت بهذا الاسم( ١ ).
والبيت الحرام، عطف بيان على جهة المدح والتعظيم. سمي حراماً لتحريم الله إياه أن يصاد صيده أو يختلى خلاه أو يعضد شجره. والحرم والحرام ما لا يحل انتهاكه. والمحرم الذي يدخل في عمل حرم عليه به ما كان حلالاً( ٢ ) والمراد بالكعبة هنا الحرم كله.
والمعنى أن الله جلت قدرته خلق البيت الحرام ﴿ قِيَاماً للِنَّاسِ ﴾ أي قواماً لهم، من قام يقوم. وهو ما يستقيم به الأمر ويصلح. أي أن البيت الحرام خلقه الله للناس ليكون لهم موطن صلاح ومعاش إذ يطمئنون فيه ويسكنون. ليكون بذلك مأمناً وملجأ، لأنفسهم وتجارتهم إذ يأتون إليه من كل فج عميق. وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو ابنه فلا يصيبه بسوء.
قوله :﴿ وَالشَّهْرَ الحَرَامَ ﴾ الهدي : اسم جنس. والمراد به الأشهر الحرم الأربعة وهي : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، ثلاثة سرد، وواحد فرد( ٣ ) وهذا سبب آخر يضاف إلى السبب الأول وهو البيت الحرام في كونه مدعاة لقيام الناس وصلاح أمرهم وعيشهم آمنين مطمئنين، وهو أن العرب كانوا يقتتلون في سائر الأشهر حتى إذا دخل الشهر الحرام ذهب الخوف وعمّ الأمن فزاولوا أسفارهم وتجاراتهم آمنين على أنفسهم وأموالهم. وكانوا يستحصلون من الأقوات والأرزاق في الشهر الحرام ما يكفيهم السنة كلها. فلولا حرمة الشهر الحرام لهلكوا وتفانوا من الجوع والشدة والضيق.
قوله :﴿ وَالهَدْيَ وَالقَلاَئِدَ ﴾ الهدي : ما يُهدى إلى البيت ويذبح هناك ويفرق لحمه على الفقراء فيكون ذلك نسكاً للمهدي وقواماً لمعيشة الفقراء وذلك سبب آخر لقيام الناس وصلاح حالهم ومعاشهم.
والقلائد : ذوات القلائد من الهدي. وهي المقلدة من لحاء شجر الحرم. فقد كان الرجل يقلد بعيره أو نفسه قلادة من لحاء شجر الحرم فلا يخاف من أحد ولا يتعرض له أحد بسوء. وكان الناس يهرعون في الأشهر الحرم إلى معايشهم طلباً للرزق والاكتساب ولا يخشون أحداً. وقيل : إنهم توارثوا ذلك من دين إسماعيل عليه السلام.
قوله :﴿ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ اسم الإشارة ذلك في محل نصب بفعل مقدر. والتقدير : فعل ذلك لتعلموا. وقيل : في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير : الأمر كذلك( ٤ ).
والإشارة هنا إلى ما سبق ذكره من تشريع لأسباب الأمن وتحصيل الخير والرزق والمعاش الحسن للناس، بما يحقق لهم السعادة والحياة الآمنة الراغدة والعيش الكريم المطمئن. وذلك يزجي بالدلائل الوافية على أن صاحب هذا التشريع لهو صاحب الحكمة البالغة وأنه العليم بما ينفع الناس وما يصلح عليه حالهم، وأنه يعلم ما في السماوات والأرض. وهو جل وعلا عليم بكل شيء.
٢ - القاموس المحيط ج٤ ص٩٥ والمصباح المنير ص١٤٣..
٣ - مختار الصحاح ص ١٣٢..
٤ - البيان لابن الأنباري ج١ ص٣٠٦..
قوله :﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾ هذا تخويف بالغ ينفذ إلى أطواء النفس ليهزها من الأعماق هزّاً، وليثير فيها على الديمومة فيضاً من المشاعر المستجاشة الحرور لتظل يقظة مذعورة، كلما طرقتها قوارع هذه الكلمات الربانية النفاذة، بأن الله عالم بالظاهر المنظور، مطلع على الباطن المستور. فهو سبحانه لا يعزب عنه شيء، بل يستوي عنده المعلن والخفي المكتوم( ١ ).
لا يستوي، أي لا يعتدل. استوى اعتدل. والاسم السواء. والخبيث والطيب جاء في تأويلهما أقوال كثيرة منها أنهما بمعنى الرديء والجيد، والصالح والطالح، والمطيع والعاصي، والحلال والحرام، والكافر والمؤمن. والصحيح أن المراد بهما جميع ما ذكر. فالخبيث من كل الأقوال والأعمال والمقاصد والتصورات والمعارف والمكاسب لا يساوي الطيب من ذلك كله : فكل اثنين متناقضين من الاثنين لا يستويان.
وقوله :﴿ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ ﴾ الواو للحال، وقيل للعطف على مقدر( ٢ ). والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعجبه كثرة الخبيث. وجواب لو محذوف، أي ولو أعجبك كثرة الخبيث فلا يستويان. والمراد تحذير المسلمين من الاغترار بكثرة الخبيث من فساد وحرام وكافرين وغير ذلك من وجوه الباطل. فإن البون بين الخبيث والطيب بعيد عند الله، وإن كان قريباً عند الناس، فلا ينبغي أن يعجبوا بكثرة الخبيث على اختلاف صوره ووجوهه. فإن الخبيث قائم على الباطل والحرام أو على الزيغ عن صراط الله. وهو على كثرته لا يعدو شكله الخادع المنتفش الذي لا يساوي في ميزان الحق شيئاً إلا ما يساويه البعوض في مقابلة الوحوش الكواسر في الآكام. لا جرم أن الكافرين والمضلين والظالمين والأشقياء من أنصار الباطل ليسوا إلا الغثاء الجفاء الذي ما يلبث أن ينقشع أو يتبدد ليستقر بعده الحق وأنصاره والداعون إليه بالرغم من قلة عددهم وعدتهم، وقلة حيلتهم وإمكاناتهم المادية. والمؤمنون الصابرون المعتصمون بمنهج الله هم الثابتون في كل الأحوال والظروف ومهما ادلهمت النوائب والخطوب. فلا تنال من صلابتهم وقوة عزائمهم كل الملمات والفتن. لا جرم أن هؤلاء أنفع للناس. بل إنهم الحاملون لمشاعل النور والهداية والخير للبشرية خلافاً لأهل الباطل الذين تموج أعدادهم بالكثرة والذين يتيهون عُجباً بقوة سلطانهم وعظيم طاقتهم المادية. لا ينبغي لمسلم ذي عقل وبصيرة أن يستخفه الوهم بهؤلاء الضالعين في الخطيئة والرجس. بل إن هؤلاء وقدراتهم وإمكاناتهم لا تجرجر للبشرية غير الإفساد والتخريب ولسوف تؤول بهم الحال إلى التدمير وسوء المصير. ولذلك قال :﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ أي آثروا الطيب وإن قلّ على الخبيث وإن كثر. ووطنوا أنفسكم على المضي في طريق الله وعلى منهجه القويم. وباعدوا بين أنفسكم وبين الباطل وأهله وأنصاره على اختلاف مشاربهم ومسالكهم وطرائقهم. ولئن فعلتم ذلك فإنكم من المفلحين. أي الناجين الفائزين( ٣ ).
٢ - فتح القدير ج٢ ص٨١..
٣ - الكشاف ج١ ص٦٤٧ ومختار الصحاح ص٣٢٤..
وروى الإمام أحمد عن علي قال : لما نزلت هذه ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾ قالوا : يا رسول الله أفي كل عام ؟ فسكت. قال : ثم قالوا : أفي كل عام ؟ فقال : " لا ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم " فأنزل الله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾( ٢ ). ذلك نهي للمؤمنين عن السؤال عن الأشياء التي إذا علموا بها ساءتهم. فالأولى الإعراض عنها وتركها. وبذلك لا ينبغي الإكثار من السؤال عن أشياء ومسائل وتكاليف شاقة عليهم إذا علموا الإجابة عنها اغتموا وتضايقوا منها ولم يستطيعوا القيام بها وتنفيذها وذلك مدعاة للعصيان والاستنكاف عما كلفوا به. وفي ذلك أخرج مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعاً وهات. وكره لكم ثلاثاً : قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال " والمراد بكثرة السؤال : الإكثار من المسائل في قضايا الفقه من غير حاجة ولا داع. بل على سبيل التنطع والتكلف والإغراق في الجدل والكلام. أو الإكثار من السؤال عما لا يعني من أحوال الناس بما يكشف عوراتهم ودخائلهم، والاطلاع على عيوبهم وأستارهم.
قوله :﴿ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ﴾ أي إن تسألوا عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحي والرسول بين أظهركم – تبين لكم تلك التكاليف الصعبة التي تسوءكم فلا تطيقونها لما فيها من تشديد وتضييق عليكم. وبذلك تعرضون أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها. وفي الحديث " أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته " أما إذا كانت لهم حاجة إلى الاستفسار فلا حرج فيه. كما لو نزل القرآن بأحكام مجملة فسألوا عن بيانها بينت لهم لحاجتهم إليها.
قوله :﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ أي عفا الله عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى مثله. والله سبحانه يتجاوز لكم عما يفرط منكم فلا يعاجلكم بعقوبته. وقيل : عفا الله عما لم يذكره في كتابه فاسكتوا أنتم عنه مثلما سكت عنها هو سبحانه. وفي الصحيح " إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها ".
٢ - أسباب النزول للنيسابوري ص١٤١ وتفسير ابن كثير ج٢ ص١٠٥..
هذه جملة أشياء حرمها الجاهليون على أنفسهم تحريماً ما أنزل الله به من سلطان. وإنما هي من اصطناع مزاجهم السقيم، وخيالهم التائه الضال والأشياء هي البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي.
أما البحيرة، فهي المشقوقة الأذن من النوق. فهي من البحر أي الشق يقال : بحر ناقته إذا شق أذنها. وكان العرب الجاهليون إذا نتجت لهم الناقة خمسة أبطن وكان آخرها ذكراً شقوا أذن الناقة وحرموا على أنفسهم ركوبها ولحمها ولم يجزوا وبرها ولم يحملوا على ظهرها وسيبوها لآلهتهم فلا تطرد عن ماء ولا تمنع عن مرعى ولا ينتفع بها أحد لكونها مسيبة للآلهة.
أما السائبة، فهي التي تركت حتى تسيب إلى حيث شاءت. وهي المسيبة وذكروا في تعليل تسيبها عدة وجوه : الأول : أن الرجل كان إذا مرض أو قدم من سفر أو نذر نذراً سيب بعيراً. فكان بمنزلة البحيرة في كل ما حكموا لها( ١ ).
والثاني : إذا ولدت الناقة عشرة أبطن كلهن إناث، سيبت فلا تركب ولا تحلب ولا يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ولد أو ضيف. والثالث : وهو قول ابن عباس : إنها التي تسيب للأصنام. أي تعتق لها( ٢ ) أما الوصيلة، فكانوا إذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم. وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم. وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم( ٣ ).
وأما الحام، فهو الفحل إذا نُتج من صلبه عشرة أبطن قالوا : حمى ظهره فلا يركب ولا يمنع من كلأ ولا ماء( ٤ ).
هذه جملة من افتراءات الجاهلية وتصوراتها الضالة. وذلكم ضرب من التشريع السقيم. التشريع الذي بني على الوهم والهوى مما أفرزته أحلام هؤلاء الضالين السفهاء.
على أن المبادر في مثل هذا الانتكاس الأثيم وهذه الشقوة المردية جدير به أن يذوق وبال أمره في العذاب الحارق البئيس. وفي ذلك روى البخاري عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً ورأيت عمرو يجر قصبه( ٥ ) وهو أول من سيب السوائب " وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر وإني رأيته يجرّ أمعاءه في النار ".
والمراد من ذلك كله أن الله لم يسنّ مثل هذا الحكم ولا جعله شرعاً لأحد. فما بحر الله بحيرة ولا سيب سائبة ولا وصل وصيلة ولا حمى حامياً ولكن المشركين الضالين اختلقوا ذلك ؛ إذ حرموه على أنفسهم افتراء على الله.
قوله :﴿ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ كان الرؤساء في العرب الجاهليين يفترون على الله الكذب باختلاقهم هذه الأحكام ثم يتبعهم في ذلك السواد الأعظم من الناس جهلاً وضلالاً. فأكثرهم بذلك لا يعون ولا يفهمون. ولكنهم رعاع أتباع يسيرون خلف السادة المضلين كشأن الأتباع والرعاع في كل مكان وزمان.
٢ - القاموس المحيط ج١ ص٨٧ وتفسير الرازي ج١٢ ص ١١٦..
٣ - الكشاف ج١ ص٦٤٩ وتفسيري الرازي ج١٢ ص١١٦..
٤ - الكشاف ج١ ص٦٤٩ وتفسير القرطبي ج٦ ص٣٣٧..
٥ - قصبه: بالضم ومعناه. المعي. انظر المعجم الوسيط ج٢ ص٧٣٧..
قوله :﴿ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾ الواو للحال دخلت عليها همزة الاستفهام الإنكاري. والتقدير : أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم ﴿ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾ وذلك توبيخ مرير يليق بهؤلاء السفهاء الذين تعطلت فيهم حاسة الوعي والإدراك فراحوا يقلدون آباءهم وأجدادهم الظالمون في الباطل والضلال ! على أن الاقتداء لا يصح بغير العالم المهتدي. وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة والدليل والاستغراق في علوم الشريعة من لغة وفقه وأصول وغير ذلك من علوم الدين.
أما الاقتداء بغير العالمين بكتاب الله وسنة رسوله من القادة والساسة وأئمة الباطل فذلك لعمر الحق هو الضلال. بل إنه الإيذان بالسقوط في مهاوي الضياع والخسران الأكبر في الدنيا والآخرة. ولا يتبع الناس أئمة الباطل وساسة الكفر من الذين يحكمون المسلمين بغير منهج الإسلام، إلا كان ذلك سبباً حقيقيّاً يؤذن بالانتكاس في الردى والهزيمة، بما يدمغ الأمة كلها بوصمة الخزي والعار والذل، كالذي حاق بالمسلمين في كثير من الأزمان – وفي العصر الراهن على وجه الخصوص. فباتوا بذلك أشتاتاً ممزقين قد استحوذ عليهم أعداؤهم الكافرون من استعماريين وصليبيين ووثنيين وصهيونيين وملحدين، فعاثوا في ديارهم إفساداً وتخريباً وتبديداً( ١ ).
أنفسكم، منصوب على الإغراء. أي احفظوا أنفسكم. كما تقول : عليك زيداً. يضركم، رفع على الاستئناف. أو جزم على جواب الأمر، وإنما ضمت الراء إتباعاً لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة والأصل لا يضرركم( ١ ).
وقيل في سبب نزول هذه الآية : إن المؤمنين كان يحزنهم ويؤزهم بقاء الكفار في كفرهم وضلالتهم فقيل لهم :﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ أي لا يضركم ضلال من ضل ولا فساد من فسد من الناس إذا كنتم أنتم مهتدين للحق. ولا يفهمن أحد أن في الآية ما يدل على سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فهذا الفهم خاطئ مبطل : فإن من الحقائق الثابتة المقررة أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الفروض الدينية التي أوجبها الإسلام. ولا يعذر من وجيبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا من كان عاجزاً عن القيام بهذا الواجب الكبير. أو كان يظن أن كلامه غير ذي قيمة ولا تأثير البتة. أو كان يخشى على نفسه أن يحل به ضرر بالغ يسوغ له الترك.
وفي أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي التحريض البالغ على هذا المطلب العظيم، أخرج الإمام أحمد عن قيس قال : قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ إنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه ".
وأخرج الترمذي عن أبي ثعلبة الخشني إذ سئل عن هذه الآية فقال : أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحّاً مطاعاً وهوىً متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام فإن من ورائكم أياماً الصابر فيهن مثل القابض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون كعملكم ".
قوله :﴿ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ذلك وعد ووعيد من الله لكلا الفريقين. وخلاصته أن مصير المهتدين والضالين جميعاً إلى الله يوم القيامة. وحينئذ ينئبهم الله بما قدموه في الدنيا من أعمال الهداية والضلال فيجزي الصالحين المهتدين الثواب ويجزي الطالحين الضالين العقاب( ٢ ).
٢ - تفسير ابن كثير ج٢ ص١٠٩ وفتح القدير ج٢ ص٨٤ وروح المعاني ج٧ ص٤٥، ٤٦..
روي عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء وكانا نصرانيين فمات السهمي وكان مسلماً بأرض ليس بها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جاما( ١ ) من فضة مخوصاً بالذهب. فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووجدوا الجام بمكة. فقيل : اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم. وفيهم نزلت ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ﴾ الآية( ٢ ).
قوله :﴿ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ﴾ شهادة، مبتدأ، وخبره اثنان. والتقدير : شهادة بينكم شهادة اثنين( ٣ ) وشهادة بينكم أصلها : شهادة ما بينكم، فحذف ما وأضيفت إلى الظرف. وتأتي الشهادة على عدة معانٍ منها : العلم والحلف والحضور( ٤ ) وكذا الوصية. والمختار أن الشهادة هنا المؤداة من الشهود.
وقوله :﴿ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ ﴾ إذا في موضع نصب ظرف للشهادة والمراد إذا قارب الحضور ؛ لأن الميت لا يمكنه الإشهاد. وحين الوصية بدل من الظرف " إذا " وقوله :﴿ اثْنَانِ ﴾ أي فيما فرض عليكم أن يشهد ﴿ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ ﴾ فيكون المعنى : ليشهد بينكم إذا حضر أحدكم الموت وقت الوصية، شاهدان اثنان عدلان ذوا عقل ورشد منكم، أي من المسلمين على وصية الموصي المحتضر.
هذا إذا اعتبرنا صفة الاثنين وماهيتهما على أنهما شاهدان يشهدان على وصية الموصي وقيل : هما وصيان. والأول المختار.
قوله :﴿ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ﴾ معطوف على ﴿ اثْنَانِ ﴾. أي شاهدان عدلان آخران من غير المسلمين من أهل الكتاب. وقيل : من غير الأقربين، أي الأباعد. والأول الراجح ؛ لأن الخطاب موجه لأهل الإيمان وهم المسلمون وليس لذوي القرابة. فإذا لم يكن مع الموصي عند احتضاره من يشهد على وصيته من المسلمين فليشهد له رجلان من غير المسلمين من أهل الكتاب.
والإشكال هنا في شهادة غير المسلمين على المسلمين، بعد أن تبين وجوب الشهادة من اثنين عدلين من المسلمين على وصية الموصي الذي تحضره الوفاة، وذلك في الحضر. أما في السفر وهو الضرب في الأرض ولم يكن مع الموصي حينئذٍ أحد من المسلمين فعليه أن يشهد شاهدين ممن حضره من أهل الكفر. فإذا أديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما لم يكذبا ولم يبدلا ولم يكتما وأن ما شهدا به حق، فيحكم بشهادتهما.
على أن تحليفهما هو مقتضى قوله :﴿ إِنِ ارْتَبْتُمْ ﴾ أي شككتم في شهادتهما واتهمتموهما. وإن استبان بعد ذلك أنهما كذبا وخانا في شهادتهما حلف رجلان آخران من أولياء الموصي في السفر وغرم الشاهدان الكاذبان. وهذا قول كثير من أهل العلم من السلف والخلف. وعلى هذا قالوا : شهادة أهل الذمة على المسلمين جائزة في السفر فقط إذا لم يكن ثمة مسلمون. فقد نزلت هذه الآية وليس من مسلم إلا في المدينة، وكانوا يسافرون بالتجارة ومعهم بعض أهل الكتاب وعبدة الأوثان.
وقيل عن قوله :﴿ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ﴾ إنه منسوخ. وهو قول الحنفية والمالكية والشافعية وغيرهم من الفقهاء. والمختار جواز الشهادة من أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر خاصة. وذلك للضرورة إذا لم يكن ثمة مسلم، ومع وجود مسلم لا يجوز. ويقوي ذلك قول ابن عباس عن سورة المائدة : إنه لا منسوخ فيها.
قوله :﴿ إِنْ أَنْتًمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةُ المَوْتِ ﴾ الضرب في الأرض معناه السفر. أي إنكم إن سافرتم ثم دهمكم في السفر داهم الموت ولم يكن معكم أحد منكم فاستشهدوا على الوصية اثنين من غيركم. فيستدل من الآية على اشتراط السفر لجواز الاستشهاد بغير المسلمين إن لم يكن عند الموصي أحد من المسلمين. وإذا ذهب الاثنان الشاهدان إلى ورثة المتوفى الموصي فاتهموهما وارتابوا في أمرهما، وقفوهما لتحليفهما.
قوله :﴿ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَوَاتِ ﴾ تحبسونهما، جملة فعلية في محل رفع صفة ﴿ آخَرَانٍ ﴾( ٥ ) والمراد بحبسهما توقيفهما –أي الشاهدين- من أجل أن يحلفا بعد الصلاة. وقيل : المقصود بها صلاة الظهر. وقيل : الصلاة مطلقاً. وقيل : صلاة العصر. وهو قول المفسرين. وذلك من باب التغليظ على الشاهد المستحلف بالزمان عند مظنة التهمة، لما في حرمة الزمان من تأثير في نفس الحالف فيحترز عن الكذب.
قوله :﴿ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ ﴾ يقسمان معطوف على ﴿ تَحْبِسُونَهُمَا ﴾ وإن أرتبتم، اعتراض بين القسم والمقسم عليه. أي إن شككتم في أمر الشاهدين أو الوصيين في قول واتهمتموهما فحلفوهما.
قوله :﴿ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ ﴾ أي لا نشتري بقسمنا عوضاً نأخذه بدلاً مما أوصى به الميت. ولا نستبدل بصحة القسم بالله عرض الدنيا الفانية فلا نحلف كاذبين ولا نبذل ما أوصى به إلى أحد ولو كان الذي نقسم له ذا قربى منا. ولا نكتم ما أعلمنا الله به من الشهادة. ولئن فعلنا شيئاً من ذلك كتحريف الشهادة أو تبديلها أو تغييرها أو كتمها بالكلية ﴿ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الأَثِمِينَ ﴾.
٢ - أسباب النزول للنيسابوري ص ١٤٢..
٣ - البيان لابن الأنباري ج١ ص٣٠٨..
٤ - القاموس المحيط ج١ ص٣١٦..
٥ - البيان لابن الأنباري ج١ ص٣٠٨..
قوله :﴿ فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا ﴾ آخران مبتدأ و﴿ يَقُومَانِ ﴾ صفته. وخبر المبتدأ ﴿ الأَوِلَيَانِ ﴾. أي رجلان شاهدان. مقامهما مصدر( ١ ).
والمعني أن يقوم شاهدان آخران أو حالفان آخران مقام الشاهدين اللذين كذبا وفرطا وخانا فيشهدا أو يحلفا على ما هو حق.
قوله :﴿ مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأََوْلَيَانِ ﴾ ثمة قراءتان مشهورتان لقوله :﴿ اسْتَحَقَّ ﴾ إحداهما : القراءة بالبناء للمفعول أي بضم التاء في قول الجمهور. فيكون الأوليان مرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف. أي هما الأوليان. وقيل : بدل من ضمير يقومان. أو من ﴿ آخَرَانِ ﴾ فيكون المعنى بذلك : من الذين جُني عليهم وهم الورثة فإنهم أحق بالشهادة أو اليمين من غيرهم. والأوليان مثنى أولى.
أما القراءة الثانية فهي البناء للفاعل أي نفتح التاء. فيكون الأوليان فاعل استحق. والأوليان الأقربان للميت، وهما الوارثان الأحقان بالشهادة أو اليمين لقربهما واطلاعهما. أما مفعول ﴿ اسْتَحَقَّ ﴾ فهو محذوف، وتقديره : تجريدهما للشهادة ليظهرا بها كذب الكاذبين. وقيل : الوصية. وقيل : مال الورثة وتركتهم.
قوله :﴿ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا ﴾ يقسمان معطوف على ﴿ يَقُومَانِ ﴾ والمراد بالشهادة هنا اليمين. وهو قول ابن عباس وآخرين كثير : والمعنى : أن يحلف الآخران اللذان قاما مقام الشاهدين الآثمين. على أن يميننا أحق من يمينهما الكاذبة لما ظهر من استحقاقهما للإثم ﴿ وَمَا اعْتَدَيْنَا ﴾ أي ما تجاوزنا القول الصدق ولا الشهادة بالحق. ولئن تجاوزنا أو فرطنا في شهادتنا أو يميننا ﴿ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ أي الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم بوضع الباطل موضع الحق فعرضوا أنفسهم لسخط الله وعذابه.
قوله :﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا ﴾ أي خافوا الله واجتنبوا عصيانه ومخالفة أحكامه واسمعوا أوامره ومواعظه سمع خشوع وإخبات وإجابة ولا تخونوا في الأمانات.
قوله :﴿ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ ﴾ إذا لم تتقوا الله وتسمعوا أوامره وأحكامه فإنكم إذاً من الفاسقين، أي الخارجين عن طاعة الله وشرعه. والله عز وعلا لا يهدي الخارجين عن طاعته إلى طريق الجنة( ١ ).
قوله :﴿ مَاذَا أُجِبْتُمْ ﴾ أي ماذا كان جواب أممكم إذ دعوتموهم إلى التوحيد وعبادة الله وحده والإذعان لدينه وشرعه. فيقول النبيون :﴿ لاَعِلْمَ لَنَا ﴾ واختلفوا في المراد بنفي العلم يوم القيامة. فقد قيل : معناه لا علم لنا ببواطن الأمم. وقيل : معناه لا علم لنا إلا ما علمتنا. ولعل التأويل المقبول لذلك أن النبيين تدهمهم وسائر الأمم غاشية القيامة بأهوالها وأرزائها وفظائعها. وإذ ذاك تجثو الخلائق على الركب فتطيش فيهم الأحلام وتبلغ فيهم القلوب الحناجر فيصيبهم من الروع والفزع ما يصيبهم فيذهلون عن الإجابة.
قوله :﴿ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ ﴾ علام صيغة مبالغة. والمراد الكامل في العلم. والغيوب جمع غيب. وهو جمع لاختلاف أنواعه. فالله جل وعلا عليم بكل أنواع الغيب مما حواه هذا الكون العظيم من خفيّ ومخبوء. عليم بأحوال الناس وأسرارهم وخفاياهم وأرزاقهم ومصائرهم. عليم بحقائق الخلق عن غير الأناسي من الجن والملائكة وغير ذلك من المخاليق الكثيرة المنتشرة في أرجاء الكون الرحيب. وعليم بأهوال القيامة وما يقع فيها من زلازل ونوازل وقوارع( ١ ).
ذلك بيان لما جرى بين الله تعالى وبين واحد من رسله الأبرار. وهو النبي المميز الطهور عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام. ليكون ذلك نموذجاً يكشف عن تفاصيل أحوال الباقين من النبيين. وقد خص المسيح بالذكر لتعلقه بكلا الطائفتين وهم اليهود والنصارى. إذ فرّط الأولون في حقه وأفرط الآخرون فيه. وفي هذه الآيات تفصيل لجنايات الفريقين الذين كذبوا أو غالوا أو تمالئوا عليه.
قوله :﴿ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ ﴾ يذكّر الله تعالى بما امتن به من النعم على عيسى وأمه البتول، بما يبين للبشرية طوال الدهر ما خصهما الله به من الكرامة وعلوا المنزلة والمقام. ثم أخذ بعد ذلك في تبيين نعمه العديدة عليهما، فقال سبحانه :﴿ إذ أَيَّدتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ ﴾ أيدتك، من الأَيد بمعنى القوة. أي قويتك بروح القدس وهو جبريل عليه السلام. وقيل : المراد الروح الطاهرة الشفيفة التي تفيض نورانية وإشراقاً. والقدس بمعنى الطهر.
قوله :﴿ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً ﴾ الجملة في محل نصب حال. والمعنى أنك تكلم الناس حال كونك طفلاً وكهلاً من غير أن يكون في كلامك بين الطرفين تفاوت. وهذه خصيصة من خصائص المسيح بل هي واحدة من الخوارق المعجزة التي خوله الله إياها.
قوله :﴿ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ﴾ الكتاب يراد به الجنس. أي جنس الكتاب. وقيل : المراد بالكتاب : الكتابة وهي الخط. والحكمة، معناها الكلام المحكم الصواب. والتوراة هي الكتاب المنزل على كليم الله موسى موعظة وتنذيراً وإرشاداً لنبي إسرائيل. وقد ذكرت هنا من جملة الإنعام على المسيح لشرفها ؛ ولأنه كان عليه السلام يحتج بها على اليهود في غالب جداله معهم. أما الإنجيل فقد أنزله الله عليه ليبين لهم فيه وجه الحق في الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له وليكون لهم شفاء لصدورهم المريضة وعقولهم التي مسها اللي والتمسيخ.
قوله :﴿ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي ﴾ أي تصنع من جنس الطين هيئة مثل هيئة الطير بإذن الله ثم تنفخ في تلك الهيئة المصنوعة فتصير بعد النفخ طيراً فيه الحياة والحركة كسائر الطيور. وذلك بإذن الله وتوفيقه وتقديره.
قوله :﴿ وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي ﴾ الأكمه، من الكمه بالتحريك معناه العمى يولد به الإنسان. والأكمه الذي يولد أعمى. بخلاف الأعمى فهو ولد بصيرا ثم عمي١ والبرص : بياض يقع في الجسد لعلة٢.
وإبراء الأكمه مطموس البصر لينقلب بصيرا، أمر كبير خارق من الخوارق التي لا تتحقق بغير إذن الله. وكذا البرص وهو داء يصيب البدن فلا يبرحه إلا بخارق من الخوارق. فذلكم المسيح عليه السلام كان يمسح بيده الشريفة على جسد المريض فيبرأ في الحال بإذن الله.
قوله :﴿ وإذ تخرج الموتى بإذني ﴾ أي تخرجهم من قبورهم أحياء بعد أن كانوا أمواتا وقد استحالوا إلى رفات رميم أتى عليه البلى. وذلك بإذن الله ليكون معجزة باهرة للناس وحجة لنبي الله عيسى تشهد على صدق نبوته وتدفع أعداءه المكذبين بالعناد والكفران.
قوله :﴿ وإن كففت بني إسرائيل عنك ﴾ معطوف على قوله :﴿ وإذ تخرج ﴾ وكففت من الكف وهو الرد والمنع٣ أي رددت عنك بني إسرائيل إذ هموا بقتلك لما جئتهم بالدلائل والمعجزات على صدق نبوتك. فقال الذين جحدوا نبوتك وكذبوك من بني إسرائيل :﴿ إن هذا إلا سحر مبين ﴾ أي ما هذا إلا سحر بين. وقد قالوا ذلك بعد أن بهرتهم الخوارق الساطعة والمعجزات الدامغة التي تكشف عن صدق دعوته ورسالته فلم يجدوا من حجة يتشبثون بها إلا أن تنسبوا معجزته للسحر.
وذلك هو ديدن المفلسين الآيسين في كل زمان، الذين يخطف أبصارهم شعاع الحق المنير فينقلبون مدبرين وقد أعمت أبصارهم السفاهة وهوان الأحلام.
٢ - المعجم الوسيط ج ١ ص ٤٩..
٣ - المصباح المنير ج ٢ ص ١٩٧..
والمعنى أن الله ألهم الحواريين، أو قذف في قلوبهم، على قول آخر، أن يؤمنوا بالله ربهم وأن يصدقوا برسوله عيسى. فقالوا : آمنا وصدقنا بما أمرتنا به واشهد علينا يا ربنا بأننا خاضعون مستسلمون لك١.
يبين الله مقالة الحواريين لنبيهم عيسى عليه السلام ﴿ هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ﴾ وفي سؤال الحواريين مثل هذا السؤال وبمثل هذه الصيغة ما يثير إشكالا يبعث التساؤل والاستغراب. إذ لا يليق بمؤمنين صادقين كالحواريين أن يسألوا عن استطاعة الله إنزال مائدة من السماء. فهم لا يشكون في قدرة الله ويعلمون علم اليقين أن الله يستطيع أن يفعل كل شيء وأن يصنع كل ما يريد. وللخروج من هذا الإشكال يمكن تأويل ذلك من وجهين : أولهما : أن الآية قرئت " هل تستطيع " بالتاء. وهي قراءة علي و ابن عباس وغيرهما فيكون المعنى هل تستطيع سؤال ربك.
ثانيهما : أن ذلك كان من قول من كان مع الحواريين، ونظير ذلك ما قاله بعض الناس من قوم موسى :﴿ اجعل لنا إلها كما لهم ءالهة ﴾ والمائدة بمعنى الخوان بكسر الخاء وضمها. اسم معرب وهو الذي يؤكل عليه. وقيل : المائدة بوزن فاعلة. من ماد يميد إذا تحرك، فهي تميد بما عليها. وقيل : سميت المائدة بذلك، لأنها عطية. ماد فلان فلانا يميده ميدا إذا أعطاه وأحسن إليه. وعلى هذا فالمائدة بمعنى : معطية. وقيل : المائدة هي الطعام نفسه وإن لم يكن هناك خوان. ماد أهله إذا أعطاهم ومارهم١.
لقد سأل الحواريون نبيهم عيسى أن يسأل ربه إنزال مائدة عليهم تحمل طعاما فيأكلون منه. وذلك لحاجتهم وفقرهم.
قوله :﴿ قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ﴾ أي خافوا الله أن ينزل بكم نقمته وعذابه على قولكم هذا لما يحتمله من شك منكم في قدرة الله على إنزال المائدة ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ أي بكمال قدرة الله وبصدق الله وبصدق نبوة نبيهم ومرشدهم عيسى عليه الصلاة والسلام. وقد جاءكم من البينات والدلائل المعجزة ما فيه كفاية وغنى.
الأول : الأكل منها، لأنهم كانوا في قلة ومجاعة مما جعلهم يلجون بالدعاء إلى الله ليطعمهم من جوع.
الثاني : ازدياد اليقين والطمأنينة لدى نزولها. والإنسان بطبعه يزداد تثبتا واستيقانا بإدراك الحواس. ومن جملة ذلك العين الباصرة، إذ تنظر إلى المائدة وهي تهبط من السماء إلى الأرض حاملة لهم الطعام على متنها، لا جرم أن ذلك مدعاة حقيقية ومؤثرة في زيادة التصديق.
ثالثها : أن يستيقنوا أن عيسى نبي مرسل إليهم من ربه.
رابعها : أن يشهدوا على نزولها عند من لم يحضرها من بني إسرائيل.
والميمان بدل من ( يا ) اللهم، نداء. وربنا نداء ثان. والمائدة بمعنى الخوان الذي عليه الطعام. وهي فاعلة من الفعل ماد يميد. ماد خادمه يميده أي أطعمه وأعطاه.
فالمائدة هي المطعمة والمعطية الآكلين الطعام.
قوله :﴿ تكون لنا عيدا ﴾ في محل نصب صفة لمائدة. أي نجعل يوم نزولها علينا يوم عيد لنا نسر فيه ونبتهج. والعيد مشتق من العود بفتح العين ويطلق على الزمان المعهود، لأنه يعود في كل عام بالبهجة : والحبور، إذ تغشى الناس فيه غاشية رحيمة من الفرح والسعادة قوله :﴿ لأولنا وءاخرنا ﴾ أي نتخذ اليوم الذي تنزل فيه المائدة عيدا نعظمه نحن في زماننا ويعظمه الذين يجيئون من بعدنا من الأمم اللاحقة. وقد روي أن المائدة نزلت عليهم يوم الأحد ومن أجل ذلك اتخذه النصارى عيدا لهم.
قوله :﴿ وءاية منك ﴾ أي دلالة كائنة منك تكشف عن كمال قدرتك.
قوله :﴿ وارزقنا وأنت خير الرازقين ﴾ الرزق معناه العطاء أو ما ينتفع به١ أي أعطنا هذه المائدة وغيرها من الأرزاق وأنت يا ربنا خير من أعطى ورزق.
قوله :﴿ فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العلمين ﴾ ذلك تهديد من الله لبني إسرئيل الذين سألوا الله أن ينزل عليهم مائدة من السماء يأكلون منها وتطمئن بها قلوبهم وتكون لهم ولمن بعدهم عيدا. وقد استجاب اللهم لهم مقرنا ذلك بالوعيد لمن يكفر بعد تنزيل المائدة أن الله سوف يعذبه تعذيبا لم يعذب بمثله أحدا من العالمين في زمانهم أو العالمين مطلقا. والظاهر أن فريقا من القوم جحدوا وكفروا وكذبوا نبوة عيسى فعذبهم الله في الدنيا أن مسخهم قردة وخنازير وعذبهم في الآخرة أن جعلهم من أصحاب الجحيم. وعن عبد الله بن عمرو قال : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة ثلاثة : المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون١.
يخاطب الله نبيه عيسى في هذه الآية قائلا له على رؤوس الأشهاد يوم القيامة :﴿ ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ﴾ وهذا تهديد وتوبيخ لمن عبد المسيح وأمه من النصارى لإشراكهم مع الله آلهة أخرى. وقيل : ذلك في الدنيا عند رفع المسيح إلى السماء. والأول أولى القولين وهو قول أكثر المفسرين والمقصود بالاستفهام هنا التوبيخ للقوم الذين اتخذوا المسيح وأمه آلهة من دون الله من تلقاء أنفسهم ومن محض أحلامهم الضالة.
قوله :﴿ سبحانك ﴾ مصدر غير متصرف١ وسبحان مبالغة في التنزيه. أي تنزيها لك من أن أقول ذلك في حقك. أو أنزهك من أن يكون لك شريك.
قوله :﴿ ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ﴾ ما، الأولى للنفي. وما الثانية موصولة في محل نصب مفعول ﴿ أقول ﴾ والمعنى : لا ينبغي ولا يليق أن أقول قولا لا يحق لي أن أقوله مطلقا لأنني مربوب ولست برب، وعابد ولست بمعبود.
قوله :﴿ إن كنت قلته فقد علمته ﴾ يستدل ابن مريم بذلك على براءته من القول المذكور عنه. إذ لو قاله لكان الله به خبيرا فهو سبحانه أعلم العالمين وهو علام الأسرار والغيوب. وليس في علم الله أن عيسى قال ذلك، فينتفي بالضرورة صدور هذا القول عنه.
قوله :﴿ تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ﴾ النفس عبارة عن الذات. نفس الشيء أي ذاته. ونفس الشيء وذاته بمعنى واحد. وتطلق النفس أيضا على الروح، وعلى القلب، وعلى الدم، وعلى العينين التي تصيب. على أنها حقيقة في المعنى الأول وهو الذات ومجاز فيما عداه. وقد جاء في تأويل ذلك عدة أقوال، منها :
أنك تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم. وقيل : تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه. وقيل : تعلم ما أريد ولا أعلم ما تريد. وقيل : تعلم سري ولا أعلم سرك.
قوله :﴿ إنك أنت علام الغيوب ﴾ ذلك تقرير لحقيقة كبرى وخصيصة من خصائص الإلهية العظمى، وهي أن الله عالم بخفيات الأمور التي لا يطلع عليها سوى الله.
قوله :﴿ وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم ﴾ أي كنت رقيبا وشاهدا على أفعالهم وأقوالهم ﴿ ما دمت فيهم ﴾ ما في موضع نصب على الظرفية الزمانية. أي مدة دوامي فيهم.
قوله :﴿ فلما توفتني كنت أنت الرقيب عليهم ﴾ توفيتني يعني قبضتنى بالرفع إلى السماء. يقال : توفيت المال إذا قبضته. وقيل : الوفاة في القرآن على ثلاثة أوجه : وفاة الموت وقت انقضاء الأجل. ووفاة النوم. ووفاة الرفع إلى السماء. وهو المقصود هنا. فقد رفع الله إليه عيسى ابن مريم. وهو الآن حي في السماء ولسوف ينزل إلى الأرض إيذانا بقيام الساعة فيقتل الدجال ويكسر الصليب ويدعو الناس إلى ملة الإسلام، دين الفطرة والتوحيد. والمراد هنا. فلما قبضتني إليك بالرفع إلى السماء كنت أنت الحفيظ عليهم دوني، لأني إنما شهدتهم وأنا بين أظهرهم.
قوله :﴿ وأنت على كل شيء قدير ﴾ أنت تشهد على كل شيء، لأنه لا يخفى عليك شيء. أما أنا فإنما شهدت بعض أقوالهم وأفعالهم وأنا مقيم بين أظهرهم. فأنت الشهيد لي وأنا بينهم. وأنت الشهيد عليهم بعد مفارقتي لهم.
قوله :﴿ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ﴾ لهم، في محل رفع خبر مقدم. جنات، مبتدأ مؤخر. ﴿ تجري ﴾ جملة فعلية في محل رفع صفة للمبتدأ. أي أن الله أثاب الصادقين في مقابلة صدقهم وبرهم وإخلاصهم لله جنات تجري من تحتها ومن خلالها الأنهار حيث النعيم الدائم والعطاء الخالد الذي لا يزول.
قوله :﴿ رضي الله عنهم ورضوا عنه ﴾ الرضى من الله أرقى مراتب النعيم وأعظم منازل التكريم. فقد أفاض الله على هؤلاء الصادقين رضوانه العظيم. وهو فوق ما ذكره من نعيم الجنات الباقيات الخالدات. والرضوان من الله غاية سامقة قصوى لما يتخيله البشر من كريم النعمة المميزة التي تفوق كل الأنعم. جعلنا الله ممن رضي عنهم. آمين. وقوله :﴿ ورضوا عنه ﴾ وذلك بما جزاهم من خير الجزاء مما لم يخطر على بالهم ولم تتصوره أذهانهم.
قوله :﴿ ذلك الفوز العظيم ﴾ ذلك إشارة إلى الرضوان من الله جل شأنه وقيل : إلى جميع ما تقدم من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وهم تفيض عليهم من الله نداوة الرضوان الغامر. لا جرم أن ذلك هو الفوز الذي يجل عن الوصف بما يعز على الألباب والأخيلة أن تدركه أو تتصوره. وهو لا يضاهيه ولا يدانيه من ضروب الفوز والفلاح شيء.