ﰡ
[سورة المائدة (٥) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١)يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا (يا) للنداء وحروف النداء عند سيبويه «١» خمسة وهي: يا وأيا وهيّا وأي والألف. و «ها» للتنبيه و (أيّ) نداء مفرد والنعت لازم له ليبيّنه الَّذِينَ نعت لأيّ ويقال: «الّذون». آمَنُوا صلة الذين والأصل «أأمنوا» فخفّفت الهمزة الثانية ولا يجوز الجمع بينهما في حرف واحد إلّا في فعّال. أَوْفُوا مجزوم عند الكوفيين وأضمروا اللام، وغير معرب عند البصريين لأنه لا يضارع. بِالْعُقُودِ خفض بالباء وهو جمع عقد يقال: عقدت الحبل والعهد وأعقدت العسل ووجب بهذا أن يوفى بكل يمين وأمان وبيع واجارة إذا لم يكن حراما. أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ اسم ما لم يسمّ فاعله أي أحل لكم أكلها والانتفاع بها. وبنو تميم يقولون: «بهيمة» «٢».
إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ في موضع نصب بالاستثناء، وهو عند سيبويه «٣» بمنزلة المفعول، وعند أبي العباس بمعنى استثنيت. قال أبو إسحاق «٤» : لا يجوز إلا ما قاله سيبويه والذي قال أبو العباس لا يصحّ، وزعم الفراء «٥» : أنه يجوز الرفع بجعلها «إلا» العاطفة والنصب عنده بإن. غَيْرَ مُحِلِّي نصب على الحال مما في أوفوا. قال الأخفش:
أي يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود غير محلي الصيد، وقال غيره: حال من الكاف والميم، والتقدير: أحلّت لكم بهيمة الأنعام غير محلى الصيد، والأصل محلّين حذفت
(٢) انظر مختصر ابن خالويه ٣١، وهذه قراءة أبي السمال.
(٣) انظر الكتاب ٢/ ٣٤٦.
(٤) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٦١٧.
(٥) انظر معاني الفراء ١/ ٢٩٨.
إِنَّ اللَّهَ اسم «إنّ» يَحْكُمُ في موضع الخبر أي بين عباده.
[سورة المائدة (٥) : آية ٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وهي العلامات وقيل هي البدن المشعرة أي المعلمة أي لا تستحلّوها قبل محلّها وقيل هي العلامات التي بين الحلّ والحرم لا تتجاوزوها غير محرمين. وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ عطف، وكذا وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ قيل: هذا كلّه منسوخ وقيل حرّم عليهم أن يمسوا الهدي والقلائد قبل محلّ الهدي وروي عن الأعمش ولا آمّي البيت الحرام «١» بحذف النون والإضافة.
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ في موضع نصب أي مبتغين، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ بضم الياء. قال الكسائي: هما لغتان ولا يعرف البصريون الضم في هذا المعنى وإنما يقال ذلك في الإجرام أَنْ صَدُّوكُمْ في موضع نصب مفعول من أجله أي لأن صدّوكم، وقرأ أبو عمرو وابن كثير أَنْ صَدُّوكُمْ «٢» بكسر إن وهو اختيار أبي عبيد وروي عن الأعمش إن يصدّوكم «٣» وهذه القراءة لا تجوز بإجماع النحويين إلّا في شعر على قول بعضهم لأن «إن» إذا عملت فلا بدّ في جوابها من الفاء والفعل وإن كان سيبويه قد أنشد: [الرجز] ١١٦-
إنّك إن يصرع أخوك تصرع «٤»
فإنّما أجازه في الشعر وقد ردّ عليه قوله فأما «إن صدّوكم» بكسر «إن» فالعلماء الجلّة بالنحو والحديث والنظر يمنعون القراءة بها لأشياء منها أنّ هذه الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان وكان المشركون صدّوا المؤمنين عام الحديبية سنة ستّ فالصدّ كان قبل الآية وإذا قرئ بالكسر لم يجز أن يكون إلا بعده كما تقول: لا تعط فلانا شيئا إن قاتلك فهذا لا يكون إلّا للمستقبل وإن فتحت كان للماضي فوجب على هذا ألّا يجوز إلا أن صدّوكم، وأيضا فلو لم يصح هذا الحديث لكان الفتح واجبا لأن قوله تعالى:
(٢) انظر تيسير الداني ٨٢. [.....]
(٣) انظر المحتسب ١/ ٢٠٦.
(٤) مرّ الشاهد رقم (٨٥).
إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ اسم انّ وخبرها.
[سورة المائدة (٥) : آية ٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ اسم ما لم يسمّ فاعله وما بعده عطف عليه، ويجوز فيما بعده النصب بمعنى وحرّم الله عليكم الدم، والأصل في دم فعل يدلّ على ذلك قول الشاعر: [الوافر] ١١٧-
جرى الدميان بالخبر اليقين «١»
وهو من دمي يدمى مثل: حذر يحذر، وقيل: وزنه فعل بإسكان العين.
وَالنَّطِيحَةُ بالهاء وإن كانت مصروفة عن مفعولة لأنه لم يتقدّمها اسم. وكذا يقول:
خضيبة فإن ذكرت مؤنّثا قلت: رأيت كفّا خضيبا هذا قول الفرّاء، والبصريون يقولون:
جعلت اسما فحذفت منها الهاء كالذبيحة، وقيل: هي بمعنى ناطحة قال الفراء: أهل نجد يقولون «السبع» فيحذفون الضمة. إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ في موضع نصب بالاستثناء وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ وحقيقته في اللغة تستدعوا القسم بالقداح. قال الأخفش وأبو عبيدة:
واحد الأزلام زلم وزلم. ذلِكُمْ فِسْقٌ ابتداء وخبر. الْيَوْمَ ظرف والعامل فيه يئس والتقدير اليوم يئس الذين كفروا من تغيير دينكم وردّكم عنه لما رأوا من استبصاركم بصحّته واغتباطكم به. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فدلّ بهذا على أن الإيمان والإسلام أشياء كثيرة، وهذا خلاف قول المرجئة. فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ (من) في موضع رفع
قد أصبحت أمّ الخيار تدّعى | عليّ ذنبا كلّه لم أصنع «١» |
[سورة المائدة (٥) : آية ٤]
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤)
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ ما في موضع رفع بالابتداء، والخبر الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وذا زائدة، وإن شئت كان بمعنى الذي وكان الخبر قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وهو الحلال، وكل حرام فليس بطيب، وقيل: الطيب ما التذّه أكله وشاربه ولم يكن عليه منه ضرر في الدنيا ولا في الآخرة. وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ قال الأخفش: واحدتها جارحة. مُكَلِّبِينَ نصب على الحال. فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ الأصل أمسكنه وحذفت الهاء لطول الاسم وفي هذا وفيما قبله دليل على أنه أن أكل الجارحة لم يؤكل منه. وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ الذكر باللسان، وقيل: بالقلب والذي توجبه اللغة أن يكون باللسان حقيقة وبالقلب مجازا.
[سورة المائدة (٥) : آية ٥]
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)
مُحْصِنِينَ.
نصب على الحال. غَيْرَ مُسافِحِينَ مثله، وإن شئت كان نعتا. وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ عطف على مسافحين ولا يجوز أن يكون معطوفا على محصنين. وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ شرط والجواب فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ. قال أبو إسحاق «٤» : أي من بدل شيئا مما
(٢) انظر البحر المحيط ٣/ ٤٤٢ (بإدغام الضاد في الطاء).
(٣) وقرأ أبو عبد الرّحمن والنخعي وابن وثاب (متجنف) بدون ألف، انظر البحر المحيط ٣/ ٤٤٢.
(٤) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجّاج ٦٣٠.
وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ لا يجوز أن يكون الظرف متعلقا بالخاسرين فيدخل في الصلة ولكنه متعلّق بالمصدر، وقد ذكرنا نظيره فيما تقدّم «١» وأما قول مجاهد رواه عنه ابن جريج في قول الله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ قال «بالله» فمعناه من كفر بالإيمان كفر بالله وحبط عمله والدليل على ذلك أنّ سفيان روى عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد قال: «الإيمان قول وعمل يزيد وينقص» «٢».
[سورة المائدة (٥) : آية ٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ قال زيد بن أسلم: أي إذا قمتم من النوم إلى الصلاة وقال غيره: في الكلام حذف أي إذا قمتم إلى الصلاة وقد أحدثتم وقيل كان واجبا أن يتهيّأ للصلاة كلّ من قام إليها ثم نسخ ذلك. وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ «٣» فمن قرأ بالنصب جعله عطفا على الأول أي واغسلوا أرجلكم، وقد ذكرنا الخفض «٤»
إلا أنّ الأخفش وأبا عبيدة «٥» يذهبان إلى أنّ الخفض على الجوار «٦» والمعنى للغسل.
قال الأخفش: ومثله: «هذا جحر ضب خرب» وهذا القول غلط عظيم لأن الجوار لا يجوز في الكلام أن يقاس عليه وإنما هو غلط ونظيره الأقواء. ومن أحسن ما قيل أنّ المسح والغسل واجبان جميعا والمسح واجب على قراءة من قرأ بالخفض والغسل واجب على قراءة من قرأ بالنصب، والقراءتان بمنزلة آيتين وفي الآية تقديم وتأخير على قول بعضهم قال: التقدير: إذا قمتم إلى الصلاة أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى
(٢) الحديث في إتحاف السادة المتقين ٩/ ١٥٢، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي ٥/ ٤١٩، واللئالئ المصنوعة للسيوطي ١/ ١٩، وتنزيه الشريعة لابن عراق ١/ ١٥٠، وميزان الاعتدال ٢١١٧، ٨٦٥٨.
(٣) هذه قراءة نافع وابن عامر وحفص، انظر البحر المحيط ٣/ ٤٥٢، وتيسير الداني ٨٢.
(٤) (وأرجلكم) : بالخفض هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحمزة وأبي بكر، وأنس وعكرمة والشعبي والباقر وقتادة وعلقمة والضحاك.
(٥) انظر مجاز القرآن ١/ ١٥٥.
(٦) انظر إعراب القرآن للزجاج ٦٣١.
[سورة المائدة (٥) : آية ٧]
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ قيل: هذا الميثاق الذي في قوله جلّ وعزّ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ [الأعراف: ١٧٢] وقيل: هذا الميثاق الذي أخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهم في بيعة الرضوان.
[سورة المائدة (٥) : آية ٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨)
شُهَداءَ أي مبيّنين وهو منصوب على أنه خبر ثان من كونوا، ويجوز أن يكون نعتا لقوامين وبدلا ولم ينصرف لأن فيه ألف التأنيث. عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا منصوب بأن ولا تحول «لا» بين العامل والمعمول فيه لأنها قد تقع زائدة. اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ابتداء وخبر.
[سورة المائدة (٥) : آية ٩]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إذا قلت: وعد لم يكن إلّا للخير وأوعد للشر إلا أن يبيّن. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ رفع بالابتداء. وَأَجْرٌ عَظِيمٌ عطف عليه.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٢]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢)
وَلَقَدْ لام توكيد أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وهو الذي كان موسى صلّى الله عليه وسلّم
(٢) وقرأ ابن المسيب ليطهركم بإسكان الطاء وتخفيف الهاء.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٣]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣)
فَبِما نَقْضِهِمْ «ما» زائدة للتوكيد ونَقْضِهِمْ مخفوض بالباء، ويجوز رفعه في غير القرآن أي فالذي هو نقضهم. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ «١» أي يتأوّلونه على تأويله، ويُحَرِّفُونَ في موضع نصب أي جعلنا قلوبهم قاسية محرفين، قيل: معنى جعلنا قلوبهم قاسية وصفناهم بهذا، ومثله كثير قد حكاه سيبويه وغيره وقد ذكرناه.
وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا استثناء من الهاء والميم اللتين في خائنة منهم قال قتادة: خائنة خيانة. فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ أمر وفي معناه قولان: أحدهما فاعف عنهم واصفح ما دام بينك وبينهم عهد وهم أهل الذمة، والقول الآخر أنه منسوخ بقوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال: ٥٨].
[سورة المائدة (٥) : آية ١٤]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤)
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ قال سعيد الأخفش هذا كما تقول: من زيد أخذت درهمه. قال أبو جعفر: ولا يجيز النحويون أخذنا ميثاقهم من الذين قالوا إنا نصارى ولا ألينها لبست من الثياب لئلا يتقدّم مضمر على مظهر.
فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أي تركوا حظّا من الكتاب الذي وعظوا به وذكّروا به، وجعلوا ذلك الترك والتحريف سببا للكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. وجمع حظ حظوظ، وسمع عن العرب: أحظ بإسكان الحاء، والأصل: أحظظ فابدل من الضاد ياء، وسمع منهم أحاظ. فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ قيل: يراد به النصارى، وقيل:
اليهود والنصارى لأنه قد تقدّم ذكرهما. والأولى أن يكون للنصارى لأنهم أقرب.
وأحسن ما قيل في معنى فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ أن الله تعالى أمر بعداوة
[سورة المائدة (٥) : آية ١٥]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥)
قرأ الحسن قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ.
أدغم النون في اللام لقربها منها ويُبَيِّنُ في موضع نصب على الحال وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ معطوف عليه.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٦]
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ بضم الهاء على الأصل، ومن كسر أبدل من الضمة كسرة لئلا يجمع بين ضمة وكسرة. سُبُلَ السَّلامِ «١» مفعول ثان، والأصل إلى سبل السلام.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٨]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨)
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ابتداء وخبر فردّ الله تعالى هذا عليهم فقال: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ فلم يكونوا يخلون من إحدى جهتين: إمّا أن يقولوا هو يعذّبنا، فيقال لهم: فلستم إذا أبناءه وأحبّاءه، أو يقولوا: لا يعذّبنا فيكذّبوا ما في كتبهم وما جاءت به رسلهم ويبيحوا المعاصي. بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ابتداء وخبر.
يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وقد أعلم الله جلّ وعزّ من يغفر له أنّه من تاب وآمن وأعلم من يعذّبه، وهو من كفر وأصرّ فلما عرف معناه جاء مجملا ولم يقل عزّ وجلّ:
يغفر لمن يشاء منكم.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠)
أَنْ تَقُولُوا في موضع نصب أي كراهة أن تقولوا، ويجوز مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ على الموضع.
وروى عبيد بن عقيل عن شبل بن عبّاد عن عبد الله بن كثير أنه قرأ
ويلا عليك وويلا منك يا رجل «٢»
إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ لم ينصرف لأن فيه ألف تأنيث. وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً قيل تملكون أمركم لا يغلبكم عليه غالب، وقيل جعلكم ذوي منازل لا يدخل عليكم فيها إلا بإذن. وروى أنس بن عياض عن زيد بن أسلم عن أنس بن مالك: لا أعلمه إلا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كان له منزل أو قال بيت يأوي إليه وزوجة وخادم يخدمه فهو ملك» «٣». ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ حذفت الياء للجزم، ويجوز إثباتها في الشعر.
[سورة المائدة (٥) : آية ٢١]
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١)
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ يعني بيت المقدس والْمُقَدَّسَةَ نعت للأرض أي المطهّرة من كثير من الذنوب بكثرة الأنبياء فيها. الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ نعت أي كتب لكم سكناها. وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ أي لا ترجعوا عن طاعتي. فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ جواب النهي.
[سورة المائدة (٥) : آية ٢٢]
قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢)
قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً اسم «إن». جَبَّارِينَ نعت والخبر في الظرف. حَتَّى يَخْرُجُوا نصب بحتى ولا يجوز رفعه لأنه مستقبل.
[سورة المائدة (٥) : آية ٢٣]
قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣)
قالَ رَجُلانِ ويجوز الإدغام إدغام اللام في الراء ويجوز إسكان الجيم من رجلين لثقل الضمة. مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ ومن قرأ يَخافُونَ «٤» قال: هما جبّاران من الله عليهما بالإسلام ومن فتح الياء قال: هما من أصحاب موسى الذين يخافون الجبارين، وقد يجوز على هذه القراءة أن يكونوا من الجبّارين.
(٢) الشاهد للأعشى في ديوانه ص ١٠٧، وخزانة الأدب ٨/ ٣٩٤، وشرح المفصّل ١/ ١٢٩، ولسان العرب (ويل)، والمحتسب ٢/ ٢١٣، وتاج العروس (ويل). وتمام البيت:
«
قالت هريرة لمّا جئت زائرها | ويلي عليك وويلي منك يا رجل |
(٣) انظر تفسير القرطبي ٦/ ١٢٤.
(٤) هذه قراءة ابن عباس وابن جبير ومجاهد، انظر البحر المحيط ٣/ ٤٧٠ ومختصر ابن خالويه ٣١.
[سورة المائدة (٥) : آية ٢٤]
قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤)أَبَداً ظرف زمان. فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ عطف على المضمر الذي في فَاذْهَبْ لأنك قد أكّدته، ويقبح عند البصريين أن تعطف على المضمر المرفوع إذا لم تؤكّده لأنه كأحد حروف الفعل إلا أنه جائز عندهم في الشعر وهو عند الفراء «١» جائز في كل موضع. إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ خبر إنّ، ويجوز في غير القرآن قاعدين على الحال لأن الكلام قد تمّ.
[سورة المائدة (٥) : آية ٢٥]
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥)
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي الأصل إنّني حذفت النون لاجتماع النونات.
وَأَخِي في موضع نصب عطف على نفسي، وإن شئت كان عطفا على اسم إن، ويجوز أن يكون موضعه رفعا عطفا على الموضع، وإن شئت على المضمر، وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير أنه قرأ فَافْرُقْ «٢» بكسر الراء ومعنى فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ اجعل دارنا الجنة ليكون بيننا وبينهم فرق.
[سورة المائدة (٥) : آية ٢٦]
قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)
قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ اسم «إن» وخبرها. ومعنى محرمة أنّهم ممنوعون من دخولها كما يقال: حرّم الله وجهك على النار. أَرْبَعِينَ سَنَةً ظرف زمان.
[سورة المائدة (٥) : آية ٢٧]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧)
وَاتْلُ أمر فلذلك حذفت منه الواو. أمر الله تعالى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتلو على اليهود خبر ابني آدم إذ قرّبا قربانا وإن كان عندهم في التوراة ليعلمهم أنّ سبيلهم في عصيان الله تعالى وكفرهم بنبيه صلّى الله عليه وسلّم سبيل ابن آدم عليه السلام وأنهم ليسوا أكرم على الله من ابن آدم لصلبه وكان في ذلك دلالة على نبوته صلّى الله عليه وسلّم إذ كان لم يقرأ الكتب وأما قول عمرو مجاهد إنّ اللذين قرّبا قربانا من بني إسرائيل فغلط يدلّ على ذلك قوله عزّ وجلّ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ. قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أي من المتقين من المعاصي.
(٢) هذه قراءة عبيد بن عمير ويوسف بن داود، انظر البحر المحيط ٣/ ٤٧٢.
[سورة المائدة (٥) : آية ٢٩]
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩)إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ يقال: كيف يريد المؤمن هذا؟ ففي هذا قولان:
محمد بن يزيد: هذا مجاز لمّا كان المؤمن يريد الثواب ولا يبسط يده بالقتل كان بمنزلة من يريد هذا، والجواب الآخر أنه حقيقة لأنه لما قال له: لأقتلنّك استوجب النار بهذا فقد أراد الله تعالى أن يكون من أهل النار فعلى المؤمنين أن يريدوا ذلك فأما معنى بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فمن أحسن ما قيل فيه- وهو مذهب سيبويه «١» - أنّ المعنى بإثمنا لأن المصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول، وحكى سيبويه: المال بيني وبينك أي بيننا، وأنشد: [الوافر] ١٢٠-
فأيّي ما وأيّك كان شرّا «٢»
أي فأيّنا، ويجوز أن يكون بإثمي بإثم قولك لي لأقتلنك، ويجوز أن يكون المعنى بإثم قتلي إن قتلتني. فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ عطف. وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ ابتداء وخبر.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)
وقرأ أبو واقد فطاوعت له نفسه «٣».
قال أبو جعفر: هذا بعيد لأنه إنما يقال: طاوعته نفسه.
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ أي أحدث له شهوة في هذا لِيُرِيَهُ لام كي يكون لما آل أمره إلى هذا كان كأنه فعله ليريه، ويجوز أن يكون المعنى ليريه الله، وإن خفّفت الهمزة قلت: سوّة. يا وَيْلَتى «٤» الأصل: يا ويلتي ثم أبدل من الياء ألفا. وقرأ الحسن يا ويلتي «٥» بالياء. والأول أفصح لأن حذف الياء في النداء أكثر. ومذهب
(٢) الشاهد لعباس بن مرداس في الكتاب ٢/ ٤٢٢، وهو في ديوانه ص ١٤٨، وخزانة الأدب ٤/ ٣٦٧، وذيل الأمالي ص ٦٠، وشرح أبيات سيبويه ٢/ ٩٣، وشرح ديوان زهير ١١٣، وشرح المفصّل ٢/ ١٣١، ولسان العرب (قوم). وعجزه:
«فسيق إلى المقامة لا يراها»
(٣) هذه قراءة الحسن بن عمران والجراح ورويت عن الحسن، انظر المحتسب ١/ ٢٠٩.
(٤) قرأ الجمهور (يا ويلتا) بألف بعد التاء، وهي بدل من ياء المتكلم، انظر البحر المحيط ٣/ ٤٨١.
(٥) هذه قراءة الحسن، وأمال حمزة والكسائي وأبو عمرو ألف ويلتي، انظر البحر المحيط ٣/ ٤٨١. [.....]
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٢]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)
وقرأ يزيد بن القعقاع مِنْ أَجْلِ ذلِكَ «٥».
بكسر النون وإسقاط الهمزة، وهذا على لغة من قال: أجل ثمّ خفّفت الهمزة.
يقال: أجلت الشيء آجله أجلا وإجلا إذا جنيته. أَنَّهُ في موضع نصب أي بأنّه والهاء كناية عن الحديث، ويجوز إنه بالكسر على الحكاية، والجملة خبر «انّ». وقرأ الحسن أو فسادا «٦» أي أو عمل فسادا، ويجوز أن يكون بمعنى المصدر أي أو أفسد فسادا.
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٣]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣)
جَزاءُ رفع بالابتداء وخبره أَنْ يُقَتَّلُوا والتقدير: الذي يحاربون أولياء الله ومتّبعي رسله، وقرأ الحسن أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ والأصل أيديهم حذفت الضمة من الياء لثقلها، ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا ابتداء وخبر.
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ يدلّ على أن الحدّ لا يزيل عقوبة الآخرة عمّن لم يتب.
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٤]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا في موضع نصب بالاستثناء، ويجوز أن يكون في موضع رفع
(٢) انظر الكتاب ١/ ٣٩٦.
(٣) وهذه قراءة ابن مسعود وفياض وطلحة وسليمان أيضا. انظر البحر المحيط ٣/ ٤٨١.
(٤) انظر البحر المحيط ٣/ ٤٨١.
(٥) انظر البحر المحيط ٣/ ٤٨٣، والمحتسب ١/ ٢٠٩.
(٦) انظر مختصر ابن خالويه ٣٢، والمحتسب ١/ ٢١٠، والبحر المحيط ٣/ ٤٨٤.
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ.
أي بترك المعاصي والجهاد.
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٨]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ رفع بالابتداء، والخبر فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما وعند سيبويه «١» الخبر محذوف والتقدير عنده: وفيما فرض عليكم السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما، والرفع عند الكوفيين بالعائد، وقرأ عيسى بن عمر وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ «٢» نصبا وهو اختيار سيبويه. قال «٣» : إلا أن العامة أبت إلّا الرفع، يريد بالعامة الجماعة ونصبه بإضمار فعل أي: اقطعوا السارق والسارقة وإنما اختار النصب لأن الأمر بالفعل أولى. وقد خولف سيبويه في هذا فزعم الفراء «٤» : أن الرفع أولى لأنه ليس يقصد به إلى سارق بعينه فنصب وإنما المعنى كلّ من سرق فاقطعوا يده. وهذا قول حسن غير مدفوع. يدلّ عليه أنهم قد أجمعوا على أن قرءوا وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما [النساء: ١٦] وهذا مذهب محمد ابن يزيد، فأما فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ولم يقل فيه: يديهما فقد تكلّم فيه النحويون فقال الخليل: أرادوا أن يفرّقوا بين ما في الإنسان منه واحد وما فيه اثنان فقال: أشبعت بطونها. وإِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم: ٤]، وقال الفراء: لما كان أكثر ما في الإنسان من الجوارح اثنين حملوا الأقل على الأكثر، وقال غيرهما: فعل هذا لأن التثنية جمع، وقيل: لأنه لا يشكل، وأجاز النحويون التثنية على الأصل والتوحيد لأنه يعرف، وأجاز سيبويه جمع غير هذا، وحكى: وصغار حالهما يريد رحلي راحلتين.
جَزاءً بِما كَسَبا مفعول من أجله، وإن شئت كان مصدرا، وكذا نَكالًا مِنَ اللَّهِ.
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٩]
فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩)
فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ شرط وجوابه فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ.
(٢) وهذه قراءة ابن أبي عبلة أيضا. انظر معجم القراءات القرآنية ٢/ ٢٠٨ وتفسير القرطبي ٦/ ١١٦، والكشاف ١/ ٣٧٧، والبحر المحيط ٣/ ٤٨٩.
(٣) انظر الكتاب ١/ ١٩٧.
(٤) انظر معاني الفراء ١/ ٣٠٦.
[سورة المائدة (٥) : آية ٤١]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١)لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ويقال: يحزنك، والأول أفصح. مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ أي لم يضمروا في قلوبهم الإيمان كما نطقت به ألسنتهم. وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا يكون هذا تمام الكلام ثم قال جلّ وعزّ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أي هم سمّاعون ومثله طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ [النور: ٥٨]. وقال الفراء «١» : ويجوز سمّاعين وطوّافين كما قال: مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا [الأحزاب: ٦١] وكما قال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ [الطور: ١٧] ثم قال فاكِهِينَ [الطور: ١٨] وآخِذِينَ [الذاريات: ٢٦] ويجوز أن يكون المعنى: ومن الذين هادوا قوم سمّاعون للكذب.
سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ثم قال: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي يتأوّلونه على غير تأويله بعد أن فهموه عنك وعرفوا مواضعه التي أرادها الله عزّ وجلّ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ أي إن أعطيتم هذا الذي قلنا لكم فاقبلوه. وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ أي إن نهيتم عنه فَاحْذَرُوا أن تقبلوه ممن قال لكم فإنه ليس بنبيّ يريدون أن يروا ضعفتهم أنّهم ينصحونهم. أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ أي لم يرد الله عزّ وجلّ أن يطهّر قلوبهم من الطبع عليها والختم كما طهر قلوب المؤمنين ثوابا لهم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٢]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢)
أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ «٢».
على التكثير. والسّحت في اللغة كلّ حرام يسحت الطاعات أي يذهبها، وروى العباس بن الفضل عن خارجة بن مصعب عن نافع أكّالون للسّحت «٣» بفتح السين، وهذا مصدر من سحته يقال: سحت وأسحت بمعنى واحد، وقال أبو إسحاق «٤» :
سحته ذهب به قليلا قليلا.
(٢) قرأ النحويان وابن كثير (السّحت) بضمتين، وقرأ باقي السبعة بإسكان الحاء.
(٣) انظر البحر المحيط ٣/ ٥٠١، وهذه قراءة زيد بن علي أيضا.
(٤) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٦٦٢. [.....]
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٤]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤)إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ «هدى» في موضع رفع بالابتداء ونور عطف عليه وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عطف على النبيين. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ رفع بالابتداء وخبره: فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وقد ذكرنا معناه. ومن أحسن ما قيل فيه قول الشّعبيّ قال: هذا في اليهود خاصة ويدلّ على ما قال ثلاثة أشياء: منها أن اليهود قد ذكروا قبل هذا في قوله لِلَّذِينَ هادُوا فعاد الضمير عليهم، ومنها أن سياق الكلام يدلّ على ذلك ألا ترى أنّ بعده. وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها فهذا الضمير لليهود بإجماع وأيضا فإن اليهود هم الذين أنكروا الرجم والقصاص فإن قال قائل «من» إذا كانت للمجازاة فهي عامة إلّا أن يقع دليل على تخصيصها، قيل له «من» هاهنا بمعنى الذي مع ما ذكرنا من الأدلّة والتقدير: واليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، فهذا أحسن ما قيل في هذا، وقد قيل: من لم يحكم بما أنزل الله مستحلّا لذلك. وقد قيل: من ترك الحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر.
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٥]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)
الآية فيها وجوه «١» : قرأ نافع وعاصم والأعمش بالنصب في جميعها، وهذا بين على العطف. ويجوز تخفيف أن ورفع الكل بالابتداء والعطف، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بنصب الكل إلّا الجروح. قال أبو جعفر: حدّثنا محمد بن الوليد عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد قال: حدثنا حجّاج عن هارون عن عبّاد بن كثير عن عقيل عن الزهري عن أنس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ «٢» الرفع من ثلاث جهات بالابتداء والخبر، وعلى المعنى لأن المعنى قلنا لهم النفس بالنفس، والوجه الثالث قاله أبو إسحاق «٣» : يكون عطفا على المضمر. فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ شرط وجوابه ويجوز في غيرة القرآن فمن اصّدّق به.
(٢) انظر معاني الفراء ١/ ٣١٠.
(٣) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجّاج ٦٦٤.
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٦]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦)وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً على الحال. فِيهِ هُدىً في موضع رفع بالابتداء. وَنُورٌ عطف عليه. وَمُصَدِّقاً فيه وجهان يجوز أن يكون لعيسى صلّى الله عليه وسلّم ونعطفه على مصدّق الأول، ويجوز أن يكون للإنجيل ويكون التقدير: وآتيناه الإنجيل مستقرّا فيه هدّى ونور ومصدّقا. وَهُدىً وَمَوْعِظَةً عطف على مصدّق.
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٧]
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧)
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ أمر ويجوز كسر اللام والجزم لأن أصل اللام الكسر، وفي الكلام حذف، والمعنى: وأمرنا أهله أن يحكموا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ فحذف هذا، وقرأ الأعمش وحمزة وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ «١» على أنها لام كي، والأمر أشبه وسياق الكلام يدلّ عليه. قال أبو جعفر: والصواب عندي أنهما قراءتان حسنتان لأنّ الله تعالى لم ينزل كتابا إلّا ليعمل فيما فيه وأمر بالعمل بما فيه فصحّتا جميعا. وإذا كانت لام كي ففي الكلام حذف أي وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه أنزلناه عليهم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٨]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨)
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً حال. وَمُهَيْمِناً عطف عليه. لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً روي عن ابن عباس أنه قال: الشرعة والمنهاج الإسلام والسنّة، وقيل:
الشرعة ابتداء الشيء وهو قول لا إله إلّا الله، والمنهاج جملة الفرائض، وقيل: هما واحد ومن أحسن ما قيل فيه أن الشريعة والشرعة واحد وهو ما ظهر من الدين مما يؤخذ بالسمع نحو الصلاة والزكاة وما أشبههما، ومنه أشرعت بابا إلى الطريق، ومنه شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا، ومنه إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً [الأعراف: ١٦٣] ومنه طريق شارع، ومنه الشّراع، والمنهاج الطريق الواضح البيّن المستقيم فجعل شريعة وطريقا بيّنا أي برهانا واضحا. ودلّ بهذا على أن شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم مخالفة لشريعة موسى صلّى الله عليه وسلّم. لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي لجعل شريعتكم واحدة.
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٩]
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وقد كان خيّره قبل هذا فنسخ التخيير بالحتم والدليل على أنّ هذا ناسخ وأنّ على الإمام أن يحكم على أهل الكتاب بالحقّ قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ [النساء: ٣٥]. وَأَنِ احْكُمْ «أن» في موضع نصب عطفا على الكتاب أي وأنزلنا إليك أن احكم بينهم بما أنزل الله أي بحكم الله الّذي أنزله إليك في كتابه. وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ الهاء والميم في موضع نصب يجب أن يكون هذا على قول من قال: حاذر، ويجوز أن يكون على قول من قال:
حذر في قول سيبويه وأنشد: [الكامل] ١٢١-
حذر أمورا لا تضير وآمن | ما ليس منجيه من الأقدار «١» |
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٠]
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ نصب بيبغون. والمعنى أنّ الجاهلية كانوا يجعلون حكم الشريف خلاف حكم الوضيع وكانت اليهود تقيم الحدود على الضعفاء الفقراء ولا يقيمونها على الأقوياء الأغنياء فضارعوا الجاهلية بهذا الفعل. وَمَنْ أَحْسَنُ ابتداء وخبر. مِنَ اللَّهِ حُكْماً على البيان.
[سورة المائدة (٥) : آية ٥١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١)
لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ مفعولان وتولّيهم معاضدتهم على المسلمين واختصاصهم، دونهم. بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ابتداء وخبر. وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أي لأنه قد خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم ووجبت له النار كما وجبت لهم فصار منهم أي من أصحابهم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٢]
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢)فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ أي في موالاتهم. فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أي بالنصر وهو نصب بأن فَيُصْبِحُوا عطف أي فأصبحوا نادمين على تولّيهم الكفار إذا رأوا نصر الله عزّ وجلّ للمؤمنين وإذا عاينوا عند الموت فبشّروا بالعذاب.
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٣]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣)
قرأ أهل المدينة وأهل الشام «يا أيها الذين آمنوا» «١» بغير واو مرفوع لأنه فعل مستقبل، وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا «٢» بالواو والنصب عطفا على «أن يأتي» عند أكثر النحويين وإذا كان على هذا كان النصب بعيدا لأنه مثل قولك: عسى زيد أن يأتي ويقوم عمرو. وهذا بعيد جدا لا يصحّ المعنى عسى زيد أن يقوم عمرو، ولكن لو قلت: عسى أن يقوم زيد ويأتي عمرو كان جيدا ولو كانت الآية عسى الله أن يأتي بالفتح كان النصب حسنا وجوازه على أنه يحمل على هذا المعنى مثل قوله: [مجزوء الكامل] ١٢٢-
ورأيت زوجك في الوغا | متقلّدا سيفا ورمحا «٣» |
للبس عباءة وتقرّ عيني | أحبّ إليّ من لبس الشّفوف «٤» |
(٢) انظر تيسير الداني ٨٢.
(٣) الشاهد بلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢/ ١٠٨، وأمالي المرتضى ١/ ٥٤، والإنصاف ٢/ ٦١٢، وخزانة الأدب ٢/ ٢٣١، والخصائص ٢/ ٤٣١، وشرح شواهد الإيضاح ١٨٢، وشرح المفصل ٢/ ٥٠، ولسان العرب (رغب) و (زجج)، والمقتضب ٢/ ٥١. والشطر الأول:
«يا ليت زوجك قد غدا»
(٤) الشاهد لميسون بنت بحدل في خزانة الأدب ٨/ ٥٠٣، والدرر ٤/ ٩٠، وسرّ صناعة الإعراب ١/ ٢٧٣، وشرح التصريح ٢/ ٢٤٤، وشرح شواهد الإيضاح ٢٥٠، وشرح شواهد المغني ٢/ ٦٥٣، ولسان العرب (مسن)، والمحتسب ١/ ٣٢٦، ومغني، اللبيب ١/ ٢٦٧، والمقاصد النحوية ٤/ ٣٩٧، وبلا نسبة في الكتاب ٣/ ٤٨، والأشباه والنظائر ٤/ ٢٧٧، وأوضح المسالك ٤/ ١٩٢، والجنى الداني ١٥٧، وخزانة الأدب ٨/ ٥٢٣، والردّ على النحاة ١٢٨، ورصف المباني ص ٤٢٣، وشرح الأشموني ٣/ ٥٣١.
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤)يا أيّها الذين آمنوا من يرتدد منك عن دينه. هذه قراءة «١» أهل المدينة وأهل الشام، وقرأ أهل الكوفة وأهل البصرة مَنْ يَرْتَدَّ بفتح الدال لالتقاء الساكنين، ويجوز كسرها إلا أن الفتح اختير لأنه أخف، وقال الكوفيون: فتح لأنه بني على التشبيه من قولك: ردّا ولهذا عند الفراء فتح الفعل الماضي، ويرتدد أحسن لأن الحرف الثاني قد سكن. فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ في موضع النعت. أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ نعت أي يرؤفون بهم ويرحمونهم. أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يغلظون عليهم ويعادونهم، ويجوز «أذلّة» بالنصب على الحال أي يحبّهم ويحبّونه في هذا الحال. يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ فدلّ بهذا على تثبيت إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم لأنهم الذين جاهدوا في الله في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعد موته. ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ابتداء وخبر. وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أي واسع الفضل عليم بمصالح خلقه.
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٥]
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥)
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ ابتداء وخبر. وَرَسُولُهُ عطف. وَالَّذِينَ آمَنُوا كذلك ثم نعتهم فقال: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا أن محمد بن علي أبا جعفر سئل عن معنى إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا هل هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟ فقال: علي من المؤمنين «٢»، يذهب إلى أن هذا لجميع المؤمنين وهذا قول بين لأن الذين لجماعة المؤمنين وهذا في تولّي المؤمنين بعضهم بعضا وليس هذا من الإمامة في شيء يدلّ على ذلك أن هذا التولّي في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومعنى يقيمون الصلاة يأتون بها في أوقاتها بجميع حقوقها كما يقال: فلان قائم بعمله.
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٦]
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦)
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مبتدأ، فقيل الخبر محذوف والتقدير: ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فهو من حزب الله وقيل هُمُ الخبر والْغالِبُونَ خبر ثان.
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧)
(٢) انظر البحر المحيط ٣/ ٥٢٥.
هزؤا حذفوا الضمة لثقلها فان خفّفت الهمزة على قراءة أهل المدينة قلبتها واوا فقلت «هزوا» وإن خفّفتها على قراءة أهل الكوفة قلت «هزا» مثل «هدى». مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ هذه قراءة أهل الحرمين وأهل الكوفة أي ولا تتّخذوا الكفار أولياء، وقرأ أبو عمرو والكسائي وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ «٢» بمعنى ومن الكفار ومِنَ هاهنا لبيان الجنس والنصب أوضح وأبين.
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٩]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩)
هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا وتدغم اللام في التاء لقربها منها إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ في موضع نصب أي هل تنقمون منا إلّا إيماننا به وقد علمتم أنّا على الحقّ وفسقكم في ترككم الإيمان.
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٠]
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ أي بشرّ من نقمتكم علينا، وقيل: من شرّ ما تريدون لنا من المكروه مَثُوبَةً على البيان وأصلها مفعولة فألقيت حركة الواو على الثاء فسكنت الواو وبعدها واو ساكنة فحذفت إحداهما مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ في موضع رفع كما قال عزّ وجلّ: بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ [الحج: ٧٢] والتقدير: هو لعن من لعنه الله، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى قل هل أنبئكم من لعنه الله، ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل من شرّ وقد ذكرنا وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ والقراءات «٣» فيه، ويجوز على قراءة الأعمش وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ بحذف الضمة لثقلها ويجوز على قراءة حمزة وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ «٤» بحذف الضمة أيضا وبنصبه على الذمّ وإن شئت كان منصوبا بمعنى وجعل منهم أي وصفهم بهذا، ويجوز الرفع بمعنى وهم ويجوز الخفض عطفا على مِنْ إذا كانت في موضع خفض. أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً «٥» يقال ليس في المؤمنين شرّ فكيف جاء أولئك شرّ مكانا ففي هذا أجوبة حكى الكوفيون: العسل أحلى من الخلّ، وإن كان مردودا، وقال أبو إسحاق «٦» : المعنى أولئك شرّ مكانا على قولكم. ومن أحسن ما قيل فيه: أولئك الذين لعنهم الله شر مكانا في الآخرة من مكانكم في الدنيا
(٢) انظر تيسير الداني ٨٣.
(٣) انظر البحر المحيط ٣/ ٥٢٩. [.....]
(٤) انظر تيسير الداني ٨٣.
(٥) انظر البحر المحيط ٣/ ٥٣١.
(٦) انظر البحر المحيط ٣/ ٥٣١.
[سورة المائدة (٥) : آية ٦١]
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١)
وَقَدْ دَخَلُوا أي بالإبغاض للنبي صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين وتمنّي هلاكهم وخرجوا منطوين عليه وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ من الكفر.
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٤]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤)
غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ اسم لم يسمّ فاعله حذفت الضمة من الياء لثقلها أي غلّت في الآخرة، ويجوز أن يكون دعاءا عليهم، وكذا وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ابتداء وخبر.
قال الأخفش وفي قراءة عبد الله بل يداه بسطان «١». قال الأخفش: يقال: يد بسطة أي منطلقة منبسطة. وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ لام قسم. كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً ظرف أي كلّما جمعوا وأعدّوا.
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٥]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ «أن» في موضع رفع، وكذا وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ.
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٧]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧)
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي كلّ ما أنزل من ربك. وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ شرط وجوابه. فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ «٢» «٣» هذه قراءة أهل المدينة، وقرأ أبو عمرو وأهل الكوفة والكسائي (رسالته) على واحدة والقراءتان حسنتان إلا أن الجمع أبين لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان ينزل عليه الوحي شيئا شيئا ثم يبينه. وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ دلالة على نبوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأن الله جلّ وعزّ خبّر أنه معصوم، وفي هذه الآية دلالة على ردّ قول من قال: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كتم شيئا من أمر الدين تقيّة، ودلالة على أنه لم يسرّ إلى أحد شيئا من أمر الدين لأن المعنى بلّغ كل ما أنزل إليك ظاهرا ولولا هذا ما كان في قوله جلّ وعزّ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ فائدة.
(٢) انظر تيسير الداني ٨٣.
(٣) هذه قراءة نافع وابن عامر وأبي بكر، وقرأ باقي السبعة على التوحيد. انظر البحر المحيط ٣/ ٥٤٠.
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٩]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩)إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اسم إن. وَالَّذِينَ هادُوا عطف عليه. وَالصَّابِئُونَ وقرأ سعيد ابن جبير والصابئين «١» بالنصب، والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله منهم وعمل صالحا فلهم أجرهم والصابئون والنصارى كذلك. وأنشد سيبويه وهو نظير هذا: [الوافر] ١٢٤-
وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم | بغاة ما بقينا في شقاق «٢» |
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٠]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠)
فَرِيقاً كَذَّبُوا أي كذبوا فريقا وكذلك وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ.
[سورة المائدة (٥) : آية ٧١]
وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١)
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ هذه قراءة الكوفيين وأبي عمرو والكسائي، وقرأ «٤» أهل الحرمين بالنصب. قال سيبويه «٥» : حسبت أن لا تقول ذاك أي حسبت أنه قال: وإن
(٢) الشاهد لبشر بن أبي خازم في الكتاب ٢/ ١٥٨، وفي ديوانه ١٦٥، وتخليص الشواهد ص ٣٧٣، وخزانة الأدب ١٠/ ٢٩٣، وشرح أبيات سيبويه ٢/ ١٤، وشرح التصريح ١/ ٢٢٨، والمقاصد النحوية ٢/ ٢٧١، وبلا نسبة في أسرار العربية ١٥٤، وشرح المفصل ٨/ ٦٩.
(٣) انظر معاني الفراء ١/ ٣١٠.
(٤) انظر الكتاب ٣/ ١٨٩.
(٥) هذه قراءة ابن عامر وعاصم أيضا.
ألا زعمت بسباسة اليوم أنّني | كبرت وأن لا يشهد اللهو أمثالي «١» |
فِتْنَةٌ اسم تكون. والفتنة: الاختبار فإن وقعت لغيره فذلك مجاز والمعنى وحسبوا أن لا يكون عقاب. فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ ولم يقل:
عمي وصمّ، والفعل متقدّم ففي هذا أجوبة: منها أن يكون كثير منهم بدلا من الواو.
قال الأخفش سعيد: كما تقول رأيت قومك ثلثيهم، وإن شئت كانت على إضمار مبتدأ أي العمي والصمّ منهم كثير، وجواب رابع يكون على لغة من قال: أكلوني البراغيث.
قال الأخفش: يجوز أن يكون هذا منها وأنشد: [الطويل] ١٢٦-
ولكن ديافيّ أبوه وأمّه | بحوران يعصرن السليط أقاربه «٢». |
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٢]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وهذا قول اليعقوبيّة «٣» فردّ الله جلّ وعزّ ذلك عليهم بحجّة قاطعة مما يقرّون به فقال وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ أي إذا كان المسيح يقول: يا ربّ ويا الله فكيف يدعو نفسه أم كيف يسألها هذا محال.
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٣]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣)
(٢) الشاهد للفرزدق في ديوانه ١/ ٤٦، والكتاب ٢/ ٣٥، والاشتقاق ٢٤٢، وتخليص الشواهد ٤٧٤، وخزانة الأدب ٥/ ١٦٣، والدرر ٢/ ٢٨٥، وشرح أبيات سيبويه ١/ ٤٩١، وشرح شواهد الإيضاح ٣٣٦، وشرح المفصل ٣/ ٨٩، ولسان العرب (سلط) و (دوف)، وبلا نسبة في الجنى الداني ١٥٠، وخزانة الأدب ٧/ ٤٤٦، والخصائص ٢/ ١٩٤، ورصف المباني ١٩، وسرّ صناعة الإعراب ٤٤٦، ولسان العرب (خطأ)، وهمع الهوامع ١/ ١٦٠.
(٣) اليعقوبية: فرقة من النصارى، انظر البحر المحيط ٣/ ٥٤٣. [.....]
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٥ الى ٧٦]
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ابتداء وخبر، أي إن المسيح صلّى الله عليه وسلّم وإن أظهر الآيات فإنما جاء بها كما جاءت الرسل. وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ابتداء وخبر. كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ أي: فإذا كانا يأكلان الطعام كانا يحدثان فكنّى الله تعالى عن ذلك وكان في هذا دلالة على أنّهما بشران قال الله تعالى انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي كيف يصرفون عن الحقّ بعد هذا البيان ثم زادهم في البيان فقال:
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً.
أي أنتم مقرّون أن عيسى كان جنينا في بطن أمّه لا يملك لأحد ضرّا ولا نفعا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي أنتم قد أقررتم أنّ عيسى كان في حال من الأحوال لا يسمع ولا يعلم والله جلّ وعزّ لم يزل سميعا عليما.
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٧]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧)
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ أي لا تفرطوا كما أفرطت اليهود والنصارى في عيسى. وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ جمع هوى وهكذا جمع المقصور على نظيره من السالم، وقيل: هوى لأنه يهوي بصاحبه في الباطل.
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٨]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا اسم ما لم يسمّ فاعله، وبعض العرب يقول: الّذون.
(٢) انظر معاني الفراء ١/ ٣١٧.
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٩]
كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩)
كانُوا لا يَتَناهَوْنَ مرفوع لأنه فعل مستقبل وهو في موضع نصب لأنه خبر كان. لَبِئْسَ لام توكيد. قال أبو إسحاق: المعنى لبئس شيئا فعلهم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٨٠]
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠)
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا هم اليهود كانوا يتولّون المشركين وليسوا على دينهم. لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، (أن) في موضع رفع على إضمار مبتدأ، وقيل: بدل مما في «لبئس ما»، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى لأن سخط الله. وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ ابتداء وخبر.
[سورة المائدة (٥) : آية ٨١]
وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١)
فدلّ بهذا على أنّ من اتّخذ كافرا وليا فليس بمؤمن.
[سورة المائدة (٥) : آية ٨٢]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢)
لَتَجِدَنَّ لام قسم ودخلت النون على قول الخليل وسيبويه فرقا بين الحال والمستقبل. أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ مفعولان وعَداوَةً على البيان وكذا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى وفي هذا قولان: أحدهما أنهم لم يكونوا نصارى على الحقيقة ولا يجوز أن يمدح الله تعالى كافرا وإنما هم قوم كانوا يؤمنون بعيسى، ولا يقولون: إنه إله فسمّوا بالنصارى قبل أن يسلموا، والقول الآخر أن المعنى: الذين قالوا إنا نصارى. ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ اسم أن ويقال في جمع قسيس مكسرا قساوسة أبدل من إحدى السينين واو، ويقال قسّ بمعناه وجمعه
قال الفراء: جمعه رهابنة ورهابين. وَأَنَّهُمْ في موضع خفض عطفا.
[سورة المائدة (٥) : آية ٨٣]
وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣)
وأجاز سيبويه في الشعر الجزم بإذا. تَفِيضُ في موضع نصب على الحال وكذا (يقولون).
[سورة المائدة (٥) : آية ٨٤]
وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤)
وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ في موضع نصب على الحال أي شيء لنا في هذه الحال.
[سورة المائدة (٥) : آية ٨٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في موضع رفع نعت لأي. لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ جزم على النهي فلذلك حذفت منه النون وكذا وَلا تَعْتَدُوا.
[سورة المائدة (٥) : آية ٨٨]
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨)
وَاتَّقُوا اللَّهَ في موضع نصب نعت. أَنْتُمْ ابتداء مُؤْمِنُونَ خبر، وهما صلة الذي وعادت إليه الهاء التي في (به).
[سورة المائدة (٥) : آية ٨٩]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)
قرأ أبو عمرو وأهل المدينة. وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ بالتشديد، وقرأ أهل الكوفة والكسائي بما عقدتم «١» بالتخفيف. وأنكر أبو عبيد التشديد «٢». قال:
لأنه للتكرير، وزعم أنه يخاف أن يلزم من قرأ به أن لا يوجب الكفّارة حتى يحلف مرارا، قال: وهذا خارج من قول الناس. قال أبو جعفر: هذا لا يلزم، وفي التشديد قولان: قال أبو عمرو: عقّدتم وكّدتم أي فكما تقول: وكّدتم فكذا تقول: عقّدتم ومعنى عقدت اليمين ووكّدتها أن يحلف الحالف على الشيء غير غالط ولا ناس،
(٢) قرأ الحرميان وأبو عمر بتشديد القاف.
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠)
إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ الخمر عند العرب عصير العنب إذا اشتدّ، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ مسكر خمر» «١» فجعله بمنزلة هذه التي تعرفها العرب بالخمر والأنصاب: الأوثان والأزلام القداح، والتقدير واستعمال الأزلام. رِجْسٌ خبر الابتداء. والرجس عند العرب كلّ عمل يقبح فعله والفعل منه رجس يرجس ورجس يرجس، والرجس بفتح الراء وإسكان الجيم الصوت والفعل من الميسر. يسر ييسر فهو ياسر ويسر. فَاجْتَنِبُوهُ يكون فاجتنبوا الرّجس، ويكون فاجتنبوا هذا الفعل ويكون لأحد هذه الأشياء، ويكون باقيها داخلا فيما دخل فيه.
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٣]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا أي من الحلال ودلّ على هذا إِذا مَا اتَّقَوْا فأمّا التكرير في قوله: إِذا مَا اتَّقَوْا ثُمَّ اتَّقَوْا ففيه أقوال: منها أن يكون المعنى: إذا ما اتقوا الكفر ثم آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا المعاصي ثم اتّقوا ظلم النّاس ودلّ على هذا وَآمَنُوا وقيل: إذا ما اتّقوا فيما مضى وصلحت «إذا» لما مضى على إضمار كانوا ثم اتّقوا للحال ثم اتّقوا في المستقبل، وقيل إذا اتّقوا للحال ثُمَّ اتَّقَوْا للمستقبل ثم اتقوا أقاموا على التقى، وقيل: إذا اتّقوا الكفر ثم اتّقوا الكبائر ثم اتّقوا الصّغائر.
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤)لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ لام قسم وفي دخول «من» ثلاثة أجوبة تكون لبيان الجنس كما تقول: لأمتحننّك بشيء من الذهب وكما قال سيبويه «١» : هذا باب علم ما الكلم من العربيّة، ويجوز أن تكون «من» للتبعيض لأن المحرم صيد البرّ خاصة، ويجوز أن يكون التبعيض لأن الصيد إنما منع في الإحرام خاصّة. وواحد الحرم حرام أي محرم ومحرم يقع على ضربين أحدهما بالحجّ أو العمرة، والآخر أنه يقال: أحرم إذا دخل الحرم. لِيَعْلَمَ اللَّهُ لام كي.
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥)
وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً شرط والجواب فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ وهذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو، وقرأ أهل الكوفة فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ «٢» وروى هارون ابن حاتم عن ابن عياش عن عاصم فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ «٣» ينصب «مثل».
قال الكسائي: وفي حرف عبد الله فجزاؤه مثل ما قتل «٤» فقراءة المدنيين وأبي عمرو بمعنى فعليه جزاء مثل ما قتل، ويجوز أن يكون هذا على قراءة الكوفيين أيضا ويكون «مثل» نعتا لجزاء، ويجوز أن يكون «جزاء» مرفوعا بالابتداء وخبره «مثل ما قتل» والمعنى فجزاء فعله مثل ما قتل ومن نصب «مثلا» فتقديره فعليه أن يجزي مثل ما قتل.
يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ تثنية ذو على الأصل. هَدْياً نصب على الحال من الهاء التي في «به» ويجوز أن يكون على البيان، ويجوز أن يكون مصدرا، وقرأ الأعرج هديّا بتشديد الياء «٥» وهي لغة فصيحة. بالِغَ الْكَعْبَةِ أصله بالغا الكعبة لأنه نعت لنكرة.
أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ «٦» هذه قراءة أهل المدينة على إضافة الجنس وقراءة أبي عمرو وأهل الكوفة أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ قال أبو عبيد: لأن الطعام هو الكفارة، وهو عند البصريين على البدل. أَوْ كَفَّارَةٌ معطوفة على جزاء أي أو عليه كفارة.
(٢) انظر البحر المحيط ٤/ ٢٢، وتيسير الداني ٨٣.
(٣) انظر البحر المحيط ٤/ ٢٢، والمحتسب ١/ ٢١٨.
(٤) انظر البحر المحيط ٤/ ٢٢.
(٥) انظر البحر المحيط ٤/ ٢٣.
(٦) هذه قراءة عبد الله بن الحارث أيضا، انظر البحر المحيط ٤/ ٢٦.
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٦]
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ اسم ما لم يسم فاعله. وَطَعامُهُ عطف عليه. وقد ذكرنا معناه ومن أحسن ما قيل فيه أن الله تعالى أحلّ صيد البحر وأكله، وقد قيل: طعامه الماء لأنه يتطعّم، وقرأ ابن عباس وطعمه «١» بضم الطاء وإسكان العين. مَتاعاً منصوب على أنه مصدر لأن معنى أحلّ لكم هذا متّعتم به متاعا، ونظيره كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء: ٢٤]. ما دمتم حرما، ويقال: «دمتم» «٢» والضمّ أفصح.
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٧]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ مفعول أول، وقيل لها كعبة لتربيع أعلاها. الْبَيْتَ الْحَرامَ بدل. قيما مفعول ثان وقرأ ابن عامر وعاصم الجحدري قِياماً لِلنَّاسِ «٣» وهما من ذوات الواو فقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها، وقد قيل: قوام. وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ عطف. لِتَعْلَمُوا في موضع رفع أي الأمر ذلك ويجوز أن يكون في موضع نصب أي فعل الله ذلك. أَنَّ لام كي. أَنَّ اللَّهَ في موضع نصب.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١)
أَشْياءَ لا تنصرف، وللنحويين فيها أقوال: قال «٤» الخليل وسيبويه رحمهما الله والمازني: أصلها فعلاء شيئاء فاستثقلت همزتان بينهما ألف فقلبت الأولى فصارت لفعاء، وقال الكسائي وأبو عبيد: لم تنصرف لأنها أشبهت حمراء لقول العرب:
أشياوات مثل حمراوات، وقال الأخفش والفراء»
والزيادي: لم تنصرف لأنها أفعلاء
(٢) انظر البحر المحيط ٤/ ٢٨، وتيسير الداني ٨٣، ومختصر ابن خالويه ٣٥.
(٣) انظر الكتاب ٤/ ٥٢٤، والبحر المحيط ٤/ ٣٢. [.....]
(٤) انظر معاني الفراء ١/ ٣٢١.
(٥) انظر البحر المحيط ٤/ ٣٦.
قلت للأخفش: كيف تصغّر أشياء؟ فقال: أشياء فقلت له: يجب على قولك أن تصغّر الواحد ثم تجمعه فانقطع. قال أبو جعفر وهذا كلام بيّن لأن أشياء لو كانت أفعلاء ما جاز أن تصغّر حتى تردّ إلى الواحد، وأيضا فإن فعلا لا يجمع على أفعلاء، وإمّا أن يكون أفعالا على قول أبي حاتم فمحال لأن أفعالا لا يمتنع من الصرف وليس شيء يمتنع من الصرف لغير علّة، والتقدير لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم تسؤكم، وأحسن ما قيل في هذا ما رواه أبو هريرة رحمه الله أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم:
من أبي؟ فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ فالمعنى على هذا لا تسألوا عن أشياء مستورة قد عفا الله عنها بالتوبة إن تبد لكم تسؤكم وعلم الله جلّ وعزّ أن الصلاح لهم أن لا تسألوا عنها، وقيل هذه أشياء عفا الله عنها كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الحلال بيّن والحرام بيّن وأشياء سكت الله عزّ وجلّ عنها هي عفو» «١» ومعنى سكت الله عنها لم ينه عنها.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٢]
قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢)
أي ردّوا على أنبيائهم فقالوا ليس الأمر كما قلتم.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ.
إغراء لأن معنى عليكم: الزموا. لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ «٢» خبر ويجوز أن يكون جزما على الجواب أو على النهي يراد به المخاطبون كما يقال: لا أرينّك هاهنا وإذا كان جزما جاز ضمّه وفتحه وكسره، وحكى الأخفش لا يَضُرُّكُمْ «٣» جزما من ضار يضير.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦)
(٢) هذه قراءة النخعي، انظر البحر المحيط ٤/ ٤٢.
(٣) انظر البحر المحيط ٤/ ٤٢.
أحسن ما قيل فيها حدّثنا الحسن بن آدم بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال:
حدّثنا أبو زيد هارون بن محمد يعرف بابن أبي الهيذام قال: حدّثني أبو مسلم الحسن ابن أحمد بن أبي شعيب الحراني قال: حدّثنا محمد بن سلمة قال: حدّثنا محمد بن إسحاق عن أبي النّضر عن باذان مولى أم هانئ ابنة أبي طالب عن ابن عباس عن تميم الداريّ في هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ قال: برىء الناس منها غيري وغير عدي بن بدّاء وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبيل الإسلام فأقبلا من الشام بتجارتهما وقدم عليهم مولى لبني سهم يقال له: بديل بن أبي مريم «١» بتجارة ومعه جام من فضّة يريد به الملك وهو مال عظيم قال: فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلّغا ما ترك أهله قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم واقتسمناه إليهما أنا وعدي بن بداء قال: فلمّا قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقدوا الجام فسألوا عنه فقلنا ما ترك غير هذا وما دفع إلينا غيره قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فوثبوا إليه وأتوا به النبي صلّى الله عليه وسلّم فسألهم البيّنة فلم يجدوا بأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف فأنزل الله عزّ وجلّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إلى قوله جلّ وعزّ:
أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا فنزعت خمسمائة الدرهم من عدي بن بداء، وحدّثنا الحسن بن آدم قال: حدّثنا أبو يزيد قال:
حدّثني أبو زائدة زكرياء بن يحيى بن أبي زائدة قال: وجدت في كتاب أبي بخطّه:
حدّثني محمد بن القاسم عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس أن تميما الداريّ وعديّ بن بدّاء كانا يختلفان إلى مكة في تجارة فخرج معهما رجل من بني سهم ببضاعة فتوفّي بأرض ليس فيها مسلم فأوصى إليهما فجاءا بتركته فدفعوها إلى أهله وحبسوا عنهم جاما «٢» من فضة مخوصا بالذهب قالوا: لم نره فأتوا بهما النبي صلّى الله عليه وسلّم فأمر بهما فحلفا بالله عزّ وجلّ ما كتمنا ولا ظلمنا فخلّى سبيلهما ثم إن الجام وجد بمكة زعموا أنهم اشتروه من عدي وتميم فقام رجل من أولياء السّهميّين فحلف بالله أنّ الجام
(٢) الجام من الفضة: الإناء.
من غيركم من غير أهل دينكم، وقيل: من غير أقربائكم والثاني أولى لأن المعنى أو آخران عدلان من غيركم. كذا يجب أن يكون معنى آخر في اللغة ولا يكون غير المسلم عدلا. إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ «أنتم» رفع بفعل مضمر مثل الثاني. تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ أي صلاة العصر وخصّت بهذا لأنه لا ركوع بعدها فالناس يتفرغون بعدها. فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ يعني المدّعى عليهما. إِنِ ارْتَبْتُمْ معترض والتقدير فيقسمان بالله يقولان لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً أي بقسمنا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى معترض أي ولو كان الميت ذا قربى. وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ متصل بقوله «ثمنا» وقرأ ابن محيصن إنّا إذا لملّاثمين «٣» أدغم النون في اللّام.
وهذا رديء في العربية لأن اللام حكمها السكون وإن حرّكت فإنما الحركة للهمزة، ونظير هذا قراءة أبي عمرو ونافع وإنّه أهلك عادا لولى «٤» [النجم: ٥١]. قال أبو جعفر: سمعت محمد بن الوليد يقول: سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول: ما علمت أن أبا عمرو بن العلاء لحن في شيء في صميم العربية إلّا في حرفين أحدهما وإنّه أهلك عادا لّولى والآخرة يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: ٧٥].
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٧]
فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧)
فَإِنْ عُثِرَ في موضع جزم بالشرط يقال: منه عثرت عليه بالذنب أعثر عثورا وعثرت في المشي أعثر عثارا. فَآخَرانِ رفع بفعل مضمر. يَقُومانِ في موضع نعت. مَقامَهُما مصدر وتقديره مقاما مثل مقامهما ثم أقيم النعت مقام المنعوت والمضاف مقام المضاف إليه. مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ «٥»، روي عن أبيّ بن كعب مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ «٦»
(٢) وقرأ السلمي والحسن (شهادة) بالنصب والتنوين، انظر البحر المحيط ٤/ ٤٣.
(٣) انظر البحر المحيط ٤/ ٤٨، ومختصر ابن خالويه ٣٥.
(٤) انظر كتاب السبعة ٦١٥.
(٥) هذه قراءة حمزة وأبي بكر، انظر البحر المحيط ٤/ ٤٩.
(٦) هذه قراءة أبيّ وعلي وابن عباس، انظر البحر المحيط ٤/ ٤٩.
الْأَوْلَيانِ قراءة أهل المدينة يكون بدلا من قوله «فآخران» أو من المضمر في يَقُومانِ وقيل هو اسم ما لم يسم فاعله أي استحقّ عليهم إثم الأوليين مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ والمعنى عند قائل هذا «من الذين استحق عليهم الإثم بالخيانة»، وعليهم بمعنى فيهم مثل عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [البقرة: ١٠٢] أي في ملك سليمان والمعنى الأولى بالميّت أو القسم، وقرأ الكوفيون الأولين «١» بدل من الذين أو من الهاء والميم في عليهم، وروي عن الحسن الأولان «٢». فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما ابتداء وخبر وقد ذكرنا ما فيه. والأولى أن يكون لأولياء الميت فأما أن يكون الشاهدان يحلفان فبعيد وإنما أشكل لقوله: لشهادتنا وبيانه أنّ الشهادة بمعنى الخبر وكلّ مخبر شاهد، وقد روى معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال: قام رجلان من أولياء الميت فحلفا.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٨]
ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨)
ذلِكَ أَدْنى ابتداء وخبر. أَنْ في موضع نصب يَأْتُوا نصب بأن. أَوْ يَخافُوا عطف عليه. أَنْ تُرَدَّ في موضع نصب بيخافوا. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا أمر فلذلك حذفت منه النون. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ نعت للقوم وفسق ويفسق ويفسق أي خرج من الطاعة إلى المعصية.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٩]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ ظرف زمان والعامل فيه واسمعوا أي واسمعوا خبر يوم، وقيل: التقدير: واتّقوا يوم يجمع الله الرسل. فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا لا يصحّ قول مجاهد في هذا إنهم يفزعون فيقولون: لا علم لنا لأن الرسل صلّى الله عليهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والصحيح في هذا أن المعنى: ماذا أجبتم في السرّ والعلانية ليكون هذا توبيخا للكفار فيقولون: لا علم لنا فيكون هذا تكذيبا لمن اتّخذ المسيح إلها. إِلَّا ما عَلَّمْتَنا في موضع رفع لأنه خبر التبرية ويجوز أن يكون في موضع نصب على الاستثناء.
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٠]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠)
(٢) انظر معاني الفراء ١/ ٣٢٤، والبحر المحيط ٤/ ٥١.
«١» نداء ثانيا، وإن شئت بدلا وإن شئت نعتا على الموضع ولا يجوز الرفع في الثاني إذا كان مضافا إلّا عند الطوال فإنه أجاز الرفع، وقرأ ابن محيصن إذ آيدتك «٢» وكذا روي عن مجاهد، وكذا روى الحسين بن علي الجعفيّ عن أبي عمرو. وتُكَلِّمُ في موضع نصب على الحال. وَكَهْلًا عطف عليه، ويجوز أن يكون معطوفا على الموضع. فِي الْمَهْدِ أي أيدتك صغيرا في المهد وكبيرا كهلا وحكى ثابت بن أبي ثابت: إن الكهل ابن أربعين إلى الخمسين، وقال غيره: ابن ثلاث وثلاثين. وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ. معنى تخلق تقدّره تقديرا مستويا لا زيادة فيه ولا نقصان. فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي «٣» أي فيقلب الله عزّ وجلّ الروح الذي يكون من النفخ لحما ودما وقد قرئ طَيْراً! وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي معنى بإذني بدعوتي فأبرئهما. قال الخليل رحمه الله: الأكمه الذي يولد أعمى والذي يعمى بعد ما كان يبصر.
[سورة المائدة (٥) : آية ١١١]
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١)
آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ على الأصل ومن العرب من يحذف إحدى النونين..
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٢]
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢)
أي هل يفعل ذلك لمسألتنا وقد ذكرناه. قالَ اتَّقُوا اللَّهَ وقرأ الكسائي هل تستطيع ربّك «٤» أي هل تستطيع أن تسأل ربك قال: اتّقوا الله أي اتّقوا معاصي الله وكثرة السؤال فإنكم لا تدرون ما يحلّ بكم عند اقتراح الآيات إذ كان الله جلّ وعزّ إنما يفعل الأصلح بعباده. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي إن كنتم مؤمنين به وبما جئت به فقد جئتكم من الآيات بما فيه غناء.
(٢) انظر البحر المحيط ٤/ ٥٥.
(٣) انظر تيسير الداني ٨٣، والبحر المحيط ٤/ ٥٥.
(٤) انظر تيسير الداني ٨٣.
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٣]
قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣)قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها نصب بأن. وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ عطف كلّه.
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٤]
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤)
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ الأصل عند سيبويه «١» يا الله والميمان بدل من يا.
رَبَّنا نداء ثان، لا يجيز سيبويه غيره ولا يجوز عنده أن يكون نعتا لأنه قد أشبه الأصوات من أجل ما لحقه. أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ سؤال. تَكُونُ نعت المائدة وليس بجواب، وقرأ الأعمش تكن لنا عيدا «٢» على الجواب. والمعنى يكون يوم نزولها عيدا لنا. لِأَوَّلِنا لأوّل أمتنا وآخرها، وقرأ عاصم الجحدري. لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا «٣».
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٥]
قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥)
وهذا يوجب أنه قد أنزلها ووعده الحق.
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٦]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦)
المعنى وإذ يقول الله يوم القيامة «وفعل» تأتي بمعنى «يفعل»، و «يفعل» بمعنى «فعل» إذا عرف المعنى لأن الفعل واحد وإنما اختلف لاختلاف الزمان، وأنشد سيبويه في نظير الآية: [الكامل] ١٢٧-
ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني | فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني «٤» |
(٢) قرأ عبد الله والأعمش (يكن) بالجواب على جواب الأمر، انظر البحر المحيط ٤/ ٦٠.
(٣) وهذه قراءة زيد بن ثابت وابن محيصن أيضا، انظر البحر المحيط ٤/ ٦٠.
(٤) الشاهد لرجل من سلول والكتاب ٣/ ٢٢، والدرر ١/ ٧٨، وشرح التصريح ٢/ ١١، وشرح شواهد المغني ١/ ٣١٠، والمقاصد النحوية ٤/ ٥٨، ولشمر بن عمرو الحنفي في الأصمعيات ١٢٦، ولعميرة بن جابر الحنفي في حماسة البحتري ١٧١، وبلا نسبة في الأزهية ص ٢٦٣، والأشباه والنظائر ٣/ ٩٠، والأضداد ص ١٣٢، وأمالي ابن الحاجب ٦٣١، وجواهر الأدب ٣٠٧، وخزانة الأدب ١/ ٣٥٧، والخصائص ٢/ ٣٣٨، وشرح شواهد الإيضاح ٢٢١، وشرح شواهد المغني ١/ ٨٤، وشرح ابن عقيل ٤٧٥، ولسان العرب (ثم) و (منن).
وانضح جوانب قبره بدمائها | فلقد يكون أخا دم وذبائح «١» |
ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ هذا التمام و «بحق» من صلة لي ولا بدّ للباء من أن تكون متعلقة بشيء. تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ أي تعلم حقيقة ما عندي ولا أعلم حقيقة ما عندك على الازدواج. قال المازني: التقدير إن قيل كنت قلته.
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٧]
ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧)
أَنِ لا موضع لها من الإعراب وهي مفسّرة مثل وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا [ص: ٦]، ويجوز أن تكون «أن» في موضع نصب أي ما ذكرت لهم إلّا عبادة الله جلّ وعزّ، ويجوز أن تكون في موضع خفض أي: بأن اعبدوا، وضمّ النون أجود لأنهم يستثقلون كسرة بعدها ضمة والكسر جائز على أصل التقاء الساكنين «٢». وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ (ما) في موضع نصب أي وقت دوامي فيهم. فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ قيل هذا يدلّ على أن الله جل وعز توفاه قبل أن يرفعه.
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٨]
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ شرط وجوابه. وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مثله وقد مضى تفسيره العزيز الذي لا يقهر الحكيم في فعله.
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٩]
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩)
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ هذه القراءة البينة على الابتداء والخبر، وفيها وجهان آخران: أحدهما هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ بالتنوين ويحذف فيه مثل
(٢) انظر البحر المحيط ٤/ ٦٤، والكشاف ١/ ٦٩٤.
على حين عاتبت المشيب على الصّبا | وقلت ألمّا تصح والشّيب وازع «٤» |
[سورة المائدة (٥) : آية ١٢٠]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)
وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ابتداء وخبر.
(٢) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٧١٧.
(٣) انظر معاني الفراء ١/ ٣٢٦. [.....]
(٤) الشاهد للنابغة في ديوانه ٣٢، والكتاب ٢/ ٣٤٥، والأضداد ١٥١، وجمهرة اللغة ١٣١٥، وخزانة الأدب ٢/ ٤٥٦، والدرر ٣/ ١٤٤، وسرّ صناعة الإعراب ٢/ ٥٠٦، وشرح أبيات سيبويه ٢/ ٥٣، وشرح التصريح ٢/ ٤٢، وشرح شواهد المغني ٢/ ٨١٦، ولسان العرب (وزع) و (خشف)، والمقاصد النحوية ٣/ ٤٠٦، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢/ ١١١، وشرح الأشموني ٢/ ٣١٥، وشرح ابن عقيل ٣٨٧، وشرح المفصّل ٣/ ١٦، ومغني اللبيب ٥٧١، والمقرب ١/ ٢٩٠، والمنصف ١/ ٥٨، وهمع الهوامع ١/ ٢١٨.