ﰡ
٦٩ - قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج مالك وأحمد والبخاري ومسلم والنَّسَائِي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: خرجنا مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش، انقطع عقد لي. فأقام رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على التماسه. وأقام الناس معه. وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق، فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبالناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء. قالت عائشة: فجاء أبو بكر ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واضعٌ رأسه على فخذي، قد نام. فقال: حبست رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس وليسوا على ماء. وليس معهم ماء. قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، فقال: ما شاء اللَّه أن يقول. وجعل يطعن بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رأس رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فخذي. فنام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أصبح على غير ماءٍ. فأنزل اللَّه تبارك وتعالى آية التيمم. فتيمموا. فقال أسيد ابن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.
وفي لفظ للبخاري: ثم إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استيقظ، وحضرت الصبح، فالتُمس الماء فلم يوجد، فنزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ)
فقال أُسيد بن حضير: لقد بارك اللَّه للناس فيكم يا آل أبي بكر، ما أنتم إلا بركةٌ لهم.
وأخرجه البخاري وأحمد والدارمي وأبو داود والنَّسَائِي وابن ماجه بلفظ
وأخرج الحديث مختصراً أبو داود والنَّسَائِي وابن ماجه عن عمار بن ياسر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة، وقد اختلف المفسرون في الآية التي نزلت على هذا السبب هل هي آية النساء أو آية المائدة؟
فذهب أكثر المفسرين إلى أن الآية التي في النساء هي التي نزلت على هذا الحديث ومن هؤلاء الطبري والبغوي والقرطبي وابن كثير والسعدي والطاهر بن عاشور.
ومما يدل على اختيارهم لهذا القول أنهم ساقوا الحديث عند تفسير آية النساء كالطبري وبعضهم بالإضافة إلى ذلك يصرح بنزول آية النساء لهذا الحديث ومن هؤلاء:
(وكان بدء التيمم ما أخبرنا أبو الحسن | ) إلى أن ذكر حديث عائشة - رضي الله عنها -. |
وقال ابن كثير في نفس الموضع: (ذكر سبب نزول مشروعية التيمم وإنما ذكرنا ذلك هاهنا لأن هذه الآية التي في النساء متقدمة النزول على آية المائدة وبيانه أن هذه نزلت قبل تحريم الخمر، والخمر إنما حرم بعد أحد بيسير في محاصرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبني النضير، وأما المائدة فإنها من آخر ما نزل ولا سيما صدرها فناسب أن يذكر السبب هاهنا وباللَّه الثقة) ثم ساق الأحاديث.
وقال السعدي في سورة النساء: (وفي هذه الآية الكريمة مشروعية هذا الحكم العظيم الذي امتن به الله على هذه الأمة وهو مشروعية التيمم، وقد أجمع على ذلك العلماء، ولله الحمد) اهـ.
وقال ابن عاشور في سورة النساء: (وقد شرع بهذه الآية حكم التيمم، أو قُرر شرعه السابق في سورة المائدة على الأصح) اهـ.
ومراده بالجملة الثانية: أن الله قرّر في سورة المائدة ما شرعه سابقًا في سورة النساء.
ومما يدل على هذا الفهم قوله في سورة المائدة: (إذا جرينا على ما تحصحص لدينا وتمحص من أن سورة المائدة هي من آخر السور نزولاً، وأنها نزلت في عام حجة الوداع جزمنا بأن هذه نزلت هنا تذكيرًا بنعمة عظيمة من نعم التشريع وهي مِنَّة شرع التيمم عند مشقة التطهر بالماء، فجزمنا بأن هذا الحكم كله مشروع من قبل وإنما ذكر هنا في عداد النعم التي امتن اللَّه بها على المسلمين، فإن الآثار صحت بأن الوضوء والغسل شرعًا مع وجوب الصلاة، وبأن التيمم شُرع في غزوة المريسيع سنة خمس أو ست. وقد تقدم لنا في
هذه أقوال وحجج من اختار أن آية النساء هي الآية التي نزلت أولاً وكان سبب نزودها ضياع عقد عائشة - رضي الله عنها -.
وذهب بعض المفسرين إلى أن الآية التي في المائدة هي التي نزلت بسبب قصة عائشة ومن هؤلاء ابن العربي. فقد قال لما ساق حديث عائشة مختصراً إلى قولها: فنزلت آية التيمم: (وهي معضلة ما وجدت لدائها من دواء عند أحد، هما آيتان فيهما ذكر التيمم، إحداهما في النساء، والأخرى في المائدة، فلا نعلم أية آية عنت عائشة.
وآية التيمم المذكورة في حديث عائشة النازلة عند فقد العقد كانت في غزوة المريسيع وحديثها يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوماً ولا
والذي يقتضيه هذا الظاهر عندي أن آية الوضوء التي يُذْكَر التيمم فيها في المائدة وهي النازلة في قصة عائشة، وكان الوضوء مفعولاً غير متلو، فكمل ذكره، وعقب بذكر بدله، واستوفيت النواقض فيه، ثم أُعيدت من قوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى) إلى آخر الآية في سورة النساء مركبة على قوله تعالى: (وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) حتى تكمل تلك الآية في سورة النساء جاء بأعيان مسائلها كمال هذه، ويتكرر البيان وليس لها نظير في القرآن، والذي يدل على أن آية عائشة هي آية المائدة أن المفسرين بالمدينة اتفقوا على أن المراد بقوله تعالى: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) يعني من النوم وكان ذلك في قصة عائشة واللَّه أعلم) اهـ.
وقال ابن عطية في سورة النساء: (ثم نزلت (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى) إلى آخر الآية بسبب عدم الصحابة الماء في غزوة المريسيع حين أقام على التماس العقد، هكذا قال الجمهور) اهـ.
وقال في سورة المائدة عند آية الوضوء: (لا يختلف أن هذه الآية هي التي قالت عائشة - رضي الله عنها - فيها نزلت آية التيمم وهي آية الوضوء لكن من حيث كان الوضوء متقرراً عندهم مستعملاً فكأن الآية لم تزدهم فيه إلا تلاوته، وإنما أعطتهم الفائدة والرخصة في التيمم، وآية النساء إما نزلت معها أو بعدها بيسير، وكانت قصة التيمم في سفر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة المريسيع، وفيها وقع حديث الإفك). اهـ.
فأما القائلون بأن آية النساء نزلت أولاً وكانت مشروعية التيمم بها فحجتهم:
١ - أن آية النساء تقدمت في نزولها على آية المائدة لأنها نزلت قبل أن تحرم الخمر.
٢ - أن المائدة من آخر القرآن نزولاً لا سيما صدرها.
٣ - أن التيمم شرع في غزوة المريسيع.
أما قولهم: إن آية النساء تقدمت في نزولها على آية المائدة، فهذا صحيح لأن آية النساء نهت عن قربان الصلاة حال السكر وفي هذه المرحلة لم يُحرّم الخمر بعد، وإنما حرم الخمر بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠)، وكان ذلك بعد غزوة أحد ودليل ذلك ما روى البخاري عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت ساقيَ القوم في منزل أبي طلحة فنزل تحريم الخمر، فأمر منادياً فنادى، فقال أبو طلحة: اخرج فانظر ما هذا الصوت؟ قال: فخرجت فقلت: هذا منادٍ ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، فقال لي: اذهب فأهرقها قال: فجرت في سكك المدينة. قال: وكانت خمرهم يومئذٍ الفضيخ، فقال بعض القوم: قتل قوم وهي في بطونهم قال فأنزل اللَّه: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا).
فإن قيل: ما الدليل على أن ذلك كان بعد أحد؟
فالجواب: أمران:
الأول: ما روى البخاري عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: صَبَّح أُناس غداةَ أُحد
الثاني: قول بعض الصحابة في حديث أنس السابق: (قتل قوم وهي في بطونهم) وإنما عنوا بهم شهداء أحد.
وأما قولهم: إن المائدة من آخر القرآن نزولاً لا سيما صدرها فهذا صحيح في الجملة وإلا فمن المائدة ما تقدم نزولها كتحريم الخمر، ورفع الجناح عمن مات وهو يشربها قبل التحريم، فإن هذا نزل بعد أحد.
أما صدرها فقد دلَّ على تأخر نزوله أمران:
الأول: نزول قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ... ) الآية.
فقد روى البخاري عن عمر ابن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤنها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: أيُّ آية؟ قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو قائم بعرفة يوم جمعة.
الثاني: ما روى الشيخان واللفظ للبخاري عن همام بن الحارث قال: رأيت جرير بن عبد الله بال ثم توضأ ومسح على خفيه ثم قام فصلى فسئل فقال: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع مثل هذا.
قال إبراهيم: فكان يعجبهم لأن جريراً كان من آخر من أسلم.
ولفظ مسلم: لأن إسلام جريرٍ كان بعد نزول المائدة.
وذلك لأن بعض من أنكر المسح على الخفين تأول أن مسح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قبل نزول آية الوضوء التي في المائدة فيكون منسوخاً فذكر جرير في حديثه أنه رآه يمسح بعد نزول المائدة.
أما قولهم: إن التيمم شرع في غزوة المريسيع فهذا قول مرجوح، وغزوة المريسيع لم يأت للتيمم ذكر فيها كما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي، فخرجت مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ما نزل الحجاب، فأنا أُحمل في هودجي، وأُنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غزوته تلك وقفل، ودنونا من المدينة قافلين، آذَن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع، فالتمست عقدي، وحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنتُ ركبت وهم يحسِبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافًا لم يثقلهن اللحم، إنما تأكل العُلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل
فهذا حديث عائشة - رضي الله عنها - في غزوة المريسيع ليس فيه ذكر للتيمم مطلقاً وليس فيه نزول آيات تتعلق بالتيمم، وإنما الذي أوجب الاشتباه عند العلماء فقد العقد في القصتين فظنوا أنها واحدة وليس الأمر كذلك فبين القصتين فروق من وجوه:
الأول: أن في الحديث الأول فأنزل الله آية التيمم، وليس في الثاني ذكر لذلك.
الثاني: أن في الحديث الأول احتباسهم طلبًا للعقد، وفي الثاني احتباسها وحدها.
الثالث: أن في الحديث الأول شكوى الناس أمرها لأبيها ومعاتبته إياها وليس ذلك في الثاني.
الرابع: أن في الحديث الأول أنهم وجدوا العقد تحت بعيرها الذي كانت عليه، وفي الثاني أنها وجدت عقدها هي بعدما استمر الجيش.
الخامس: أن في الأول أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام على التماس العقد وفي لفظ: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرسل ناساً من أصحابه في طلب القلادة، وفي الثاني لم يشعروا أنهم تركوا عائشة - رضي الله عنها - فضلاً عن عقدها الذي لم يعلموا به.
السادس: أن الحديث الأول ليس فيه أنها مشت حتى جاوزت الجيش لقضاء شأنها كما في الحديث الثاني، بل كانت مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واضعاً رأسه على فخذها.
السابع: أن في الحديث الأول أن أُناساً طلبوا القلادة فأدركتهم الصلاة فصلَّوا بغير وضوء وليس ذلك في الحديث الثاني.
فإن قال قائل: هل قال بفقد العقد مرتين أحد من العلماء؟
فالجواب: نعم فابن قيم الجوزية - رحمه الله - لما ذكر حديث نزول آية التيمم في سياق قصة المريسيع قال: (وهذا يدل على أن قصة العقد التي نزل التيمم لأجلها بعد هذه الغزوة وهو الظاهر ولكن فيها (يعني المريسيع) كانت قصة الإفك بسبب فقد العقد والتماسه فالتبس على بعضهم إحدى القصتين بالأخرى) اهـ.
ومرادي من نقل كلام ابن القيم - رحمه الله - أن العقد فقد مرتين بغض النظر عن السابق منهما - نزول آية التيمم، أو غزوة المريسيع فأوان الترجيح لم يحن بعد.
وبهذا تم الكلام على حجج المقدمين لسورة النساء في نزول آية التيمم ومناقشتها.
أما القائلون بأن التيمم شرع في آية المائدة فاحتجوا بما يلي:
١ - أن المفسرين بالمدينة اتفقوا على أن المراد بقوله: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) يعني من النوم وكان ذلك في قصة عائشة - رضي الله عنها -.
٢ - ويستدل لهم بأن البخاري روى عن عائشة - رضي الله عنها - فنزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) فهذا صريح في أن المقصود آية المائدة.
أما قول ابن العربي إن المفسرين بالمدينة اتفقوا على أن المراد بالآية القيام من النوم فهذا مروي عن زيد بن أسلم والسدي.
ولا أدري ماذا يريد ابن العربي بهذا الاتفاق إن أراد أن قوله: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) لا ينصرف إلا إلى حال واحدة، حال القيام من النوم فهذا مشكل، ولا أظنه يقول به، وإن كان لفظه يدل عليه.
وإن أراد أن قوله: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) عام في القيام لها من النوم أو غيره، صار اللفظ محتملاً وعند الاحتمال يسقط الاستدلال.
(وهي معضلة ما وجدت لدائها من دواء عند أحد)، وقوله: (خبأه الله ولم يتيسر بيانه على يدي أحد).
وأما الحجة الثانية وهو ما رواه البخاري عن عائشة فنزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) فالجواب عنها من وجهين:
الأول: أن هذه الزيادة انفرد بها عمرو بن الحارث وخالف فيها الثقات الأثبات ثم هو وإن كان ثقة إلا أن له مناكير كما ذكر الإمام أحمد. فهذه الزيادة لا يصح نزولها، وقد تقدم بحث الطرق وبيان الوهم عند ذكر الحديث في الحاشية.
الثاني: أن بين الآيتين مشابهة فاحتمال الخطأ في ذكر إحدى الآيتين وارد من جهة الألفاظ ففي سورة النساء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ) وفي المائدة - (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) فاتفقت الآيتان في أربعة ألفاظ، واختلفتا في لفظ واحد، مع وجود تشابه وتماثل في حرفي: القاف، والتاء مما يقرب من احتمال الخطأ.
وقد نبّه على هذين الوجهين باختصار ابن عاشور كما تقدم.
وبهذا تم الكلام على من احتج بتقديم آية المائدة في مشروعية التيمم.
وسأذكر خلاصة ما تقدم ليتبين أرجح القولين وأسعدهما بالصواب.
١ - أن آية التيمم في سورة النساء تقدمت في نزولها على آية التيمم في سورة المائدة لأنها نزلت قبل أن تحرم الخمر.
٢ - أن سورة المائدة من آخر القرآن نزولاً لا سيما صدرها ومنه آية الوضوء فقد تأخر نزولها كثيراً.
٣ - أن التيمم لم يكن في غزوة المريسيع قط لعدم الدليل الصحيح على ذلك، كيف وقد خالف ذلك الدليل الصحيح.
٤ - أن إحدى روايات البخاري التي فيها التصريح بنزول قوله: (يَا أَيُّهَا
وبناء على ما تقدم يتبين أن الراجح أن التيمم شرع في آية سورة النساء بسبب فقد أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - لعقدها فأقاموا على التماسه جميعًا فلم يجدوه حتى أنزل الله آية التيمم، وكان ذلك قبل غزوة المريسيع بزمن بل قبل تحريم الخمر أيضًا واللَّه أعلم.
* النتيجة:
أن سبب نزول آية التيمم في سورة النساء فقد عائشة - رضي الله عنها - لعقدها حين كانت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض أسفاره، وذلك لأن نفس الآية من سورة المائدة تأخر نزولها كثيرًا مع تعدد القرائن الدالة على تقدم سورة النساء في النزول والله أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج النَّسَائِي وأحمد وأبو داود عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن نفرًا من عُكْلٍ قدموا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاجتووا المدينة فأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا فقتلوا راعيها، واستاقوها، فبعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في طلبهم، قال: فأُتي بهم، فقطع أيديهم وأرطم، وسمَّر أعينهم، ولم يحسمهم وتركهم حتى ماتوا فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
٣ - وأخرج أبو داود والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ.. ) إلى قوله (غَفُورٌ رَحِيمٌ) نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه.
هكذا جاء في سبب نزول الآية. وقد أورد المفسرون هذه الأحاديث وغيرها في سبب نزول الآية منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
واختار الطبري بعد سياق الأقوال أن الآية تتحدث عن بني إسرائيل وأن حكمها يتناول أهل الإسلام فقال: (وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك لأن القصص التي قصها اللَّه جل وعز قبل هذه الآية وبعدها من قصص بني إسرائيل وأنبائهم، فأن يكون ذلك متوسطاً منه يعرف الحكم فيهم وفي نظرائهم أولى وأحق فذكر كلامًا... إلى أن قال: فتأويلها: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو سعى بفساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً، ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرًا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون يقول: لساعون في
فإن قال لنا قائل: وكيف يجوز أن تكون الآية نزلت في الحال التي ذكرت من حال نقض كافر من بني إسرائيل عهده، ومن قولك: إن حكم هذه الآية حكم من الله في أهل الإسلام دون أهل الحرب من المشركين؟.
قيل: جاز أن يكون ذلك كذلك؛ لأن حكم من حارب اللَّه ورسوله وسعى في الأرض فسادًا من أهل ذمتنا وملتنا واحد، والذين عُنوا بالآية كانوا أهل عهد وذمة وإن كان داخلاً في حكمها كل ذمي وملي، وليس يبطل بدخول من دخل في حكم الآية من الناس أن يكون صحيحاً نزولها فيمن نزلت فيه) اهـ.
وقال ابن العربي: (ومن قال إنها نزلت في المشركين أقرب إلى الصواب؛ لأن عكلا وعرينة ارتدوا وقتلوا وأفسدوا، ولكن يبعد لأن الكفار لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما يسقط قبلها وقد قيل للكفار: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) وقال في المحاربين: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) وفي الآية النفي لمن لم يتب قبل القدرة، والمرتد لا ينفى، وفيها قطع اليد والرجل والمرتد لا تقطع له يد ولا رجل فثبت أنها لا يراد بها المشركون ولا المرتدون) اهـ.
وقال ابن عطية: (ويشبه أن تكون نازلة في بني قريظة حين هموا بقتل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال عكرمة والحسن نزلت الآية في المشركين، وفي هذا ضعف لأن توبة المشرك نافعة بعد القدرة عليه وعلى كل حال). اهـ ثم ذكر من قال إنها نزلت في عكل وعرينة.
وقال القرطبي: (اختلف الناس في سبب نزول هذه الآية فالذي عليه الجمهور أنها نزلت في العرنيين ثم ساق الحديث.
وقال ابن كثير: (والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات) اهـ.
وقال ابن عاشور: (نزلت هذه الآية في شأن حكم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العرنيين وبه يشعر صنيع البخاري إذ ترجم بهذه الآية من كتاب التفسير وأخرج عقبه حديث أنس بن مالك في العرنيين) اهـ.
وسأذكر حجج المفسرين وأقوالهم باختصار ثم أتحول إلى مناقشتها.
الأول: قول الطبري ومن تبعه أن الآية نزلت في اليهود لأن سياق الآيات قبل الآية وبعدها تتحدث عن بني إسرائيل.
الثاني: أن الآية نزلت في المشركين، وحجتهم حديث ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عند أبي داود والنَّسَائِي قال: نزلت هذه الآية في المشركين فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه.
الثالث: أنها نزلت في العرنيين لنصوص الأحاديث الثابتة في ذلك - هكذا قال القرطبي وأضافه إلى الجمهور -.
الرابع: أنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل ويسعى في الأرض بالفساد، قال هذا مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي.
وعندي - والله أعلم - أن احتجاج الطبري بالسياق ليس بظاهر لأن الآيات تتحدث عن الفساد في الأرض عموماً ابتداء بابني آدم حيث قتل أحدهما أخاه، ثم ذكر بني إسرائيل وفسادهم ثم حذرنا من الحرابة والفساد في الأرض، ثم عقب ذلك بعقوبة السرقة وحد القطع فالآيات تتحدث عن الفساد في الأرض انتقالاً من طائفة إلى أخرى ومن أمة إلى أمة ومن نوع إلى نوع حيث بدأ بالقتل وختم بالسرقة.
وأما القول بأن الآية نزلت في المشركين فإسناده حسن إلى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لكن يعكر عليه أمور:
أولاً: قوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) قال القرطبي: (وقد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا أن دماءهم تحرم) اهـ.
وأقول: هذا الإجماع الذي ذكره القرطبي في الإسلام بعد القدرة، فكيف قال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه) هذا خلاف الآية ابتداء وانتهاء. وإذا كان الإجماع منعقدا على قبول التوبة بعد القدرة فقبلها من باب أولى.
ثانياً: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الإسلام يهدم ما قبله) وهذا قاله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن العاص عند البيعة حين أراد اشتراط مغفرة ما سلف مع أن عمراً لا يرتاب أحد أنه قد نال من المسلمين كثيرًا قبل إسلامه، ومع هذا فقد أُخبر بأن الإسلام يهدم ما كان قبله، ولم يطالب بضمان ما أتلف من الدماء والأموال قبل ذلك.
ثالثاً: ثبت في الصحيح عن أسامة بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: بعثنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سرية فصبحنا الحُرُقات من جهينة فأدركت رجلاً
الشاهد من الحديث: أن الرجل أسلم بعد القدرة عليه ولما قتله أُسامة عوتب على ذلك عتابًا شديداً.
فالحديثان المتقدمان والآية قبلهما نصوص ثابتة في أن توبة الكافر مقبولة سواء أكان ذلك قبل القدرة عليه أم بعدها، وهذا لا يتفق مع قوله تعالى في سياق آية الحرابة (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فإن المفهوم من الآية، والمستقر عند العلماء أن التوبة بعد القدرة لا تغير من الأمر شيئاً.
قال السعدي: (ودل مفهوم الآية على أن توبة المحارب - بعد القدرة عليه - أنها لا تسقط عنه شيئاً) اهـ.
وإذا كان الأمر كذلك فكيف يقال: إن آية الحرابة نزلت في المشركين مع ما بينهما من الفروق.
رابعاً: أني مع قصوري وتقصيري لا أعلم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل هذه العقوبة، وأنزل هذا الجزاء بأحد من المشركين الأصليين، بل كان - عليه الصلاة والسلام - حين تقتضي المصلحة قتلهم لا يتجاوز القتل المعتاد.
أما القول بأن الآية نزلت في العرنيين لنصوص الأحاديث الثابتة في ذلك، فإنه قد تبين من دراسة أسانيد هذه الأحاديث أن ذكر نزول الآية فيها وهم، وبناءً على هذا فلا دليل حينئذٍ على أن الآية نازلةٌ بسببهم، وإذا كان الأمر دائراً بين وجود السبب وعدمه فالأصل العدم حتى يقوم دليل صحيح صريح على ذلك.
فلم يبق إلا القول الرابع وأنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل ويسعى في الأرض بالفساد وهذا هو الصحيح.
وليس المراد بقولنا: نزلت أن لها سببًا نزلت عليه، بل المراد أن لفظها يتناول أحكام قطاع الطريق، وإلا فالزمن بعيد بين قصة العرنيين حيث دارت أقوال العلماء حولها في سنة ست، وبين نزول سورة المائدة الذي تأخر كثيرًا. والله أعلم.
* النتيجة:
أن حديث العرنيين المذكور ليس سببًا لنزول الآية حيث لم يثبت من جهة الإسناد ذكر النزول، مع ما بين القصة، ونزول آية المائدة من الزمن الطويل واللَّه أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن امرأة سرقت على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجاء بها الذين سرقتهم، فقالوا: يا رسول اللَّه، إن هذه المرأة سرقتنا، قال قومها: فنحن نفديها - يعني أهلها -، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اقطعوا يدها)، فقالوا: نحن نفديها بخمس مائة دينار، قال: (اقطعوا يدها) قال: فقطعت يدها اليمنى، فقالت المرأة: هل لي من توبة يا رسول اللَّه؟ قال: (نعم، أنت اليوم من خطيئتك كيومَ ولدتك أُمك) فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - في سورة المائدة: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ) إلى آخر الآية.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد أورد الطبري وابن كثير هذا الحديث عند تفسيرها ولم يتعقباه بشيء.
ومن الممكن أن يكون بعض الرواة ذكر الآية استدلالاً بها على قبول توبة السارق من بعد ظلمه، ولم يُرِد النزول الاصطلاحي عند العلماء بدليل أنه اقتصر على ذكر التوبة دون السبب المؤدي إليها وهو السرقة، ولو كان المراد النزول المعهود لقال: فأنزل الله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ... ) إلى قوله: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ).
* النتيجة:
أن هذه الآية لم تنزل بسبب هذه المرأة التي سرقت لضعف سند الحديث.
* * * * *
١ - أخرج مسلم وأحمد وأبو داود والنَّسَائِي عن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: مُرَّ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيهودي مُحمَّماً مجلوداً. فدعاهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: (هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟) قالوا: نعم. فدعا رجلاً من علمائهم. فقال: (أنشدك باللَّه الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟) قال: لا. ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد. قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم. فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه). فأمر به فرجم. فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) إلى قوله: (إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ). يقول: ائتوا محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا. فأنزل الله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) في الكفار كلها.
٢ - أخرج أحمد وأبو داود والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - قال: إن اللَّه - عَزَّ وجلَّ - أنزل: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) قال ابن عبَّاسٍ: أنزلها اللَّه في الطائفتين من اليهود وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة، فديته خمسون وسقاً، وكل قتيل قتلته الذليلةُ من العزيزة فديته مئة وسق.
٣ - أخرج الترمذي عن زرارة بن أوفى يحدث عن عمران بن حصين أن رجلاً عض يد رجل فنزع يده فوقعت ثنيتاه، فاختصموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: (يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية لك) فأنزل اللَّه: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ).
هكذا جاء في سبب نزول الآيات الكريمات. وقد أورد جمهور المفسرين السببين الأول والثاني وأعرضوا عن الثالث فلم يذكروه.
فأما السبب الأول في حكم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجم الزاني فقد تتابع على القول به جمهور المفسرين:
قال الطبري في ذلك كلامًا كثيراً، خلاصته: (أن اليهود إنما سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك ليعلموا، فإن لم يكن من حكمه الرجم رضوا به حكماً فيهم وإن كان من حكمه الرجم حذروه وتركوا الرضا به وبحكمه) اهـ.
وقال البغوي بعد أن ساق حديث الرجم وأتبعه بقصة قريظة والنضير: (والأول أصح لأن الآية في الرجم) اهـ.
وقال ابن العربي: (فى سبب نزولها فيه ثلاثة أقوال: إلى أن قال: الثالث: أنها نزلت في اليهود جاؤوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا له: إن رجلاً منا وامرأةً زنيا فقال لهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون. فذكر الحديث بطوله ثم فند القولين الأولين إلى أن قال: والصحيح ما رواه الجماعة عن عبد اللَّه بن عمر وجابر بن عبد الله كلاهما في وصف القصة أن اليهود جاؤوا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحكموه فكان ما ذكرنا في الأمر) اهـ.
وقال القرطبي: (وقيل إنها نزلت في زنى اليهوديين وقصة الرجم وهذا أصح الأقوال) اهـ.
وقال ابن كثير: (والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا) اهـ.
وقال الشنقيطي: (اعلم أولاً أن هذه الآية نزلت في اليهودي واليهودية اللذين زنيا بعد الإحصان، وكان اليهود قد بدلوا حكم الرجم في التوراة فتعمدوا تحريف كتاب اللَّه) اهـ.
وقال ابن عاشور: (وسبب نزول هذه الآية وما أشارت إليه ما محصّله: أن اليهود اختلفوا في حد الزاني حين زنى فيهم رجل بامرأة من أهل خيبر أو أهل فدك) اهـ.
فحجة من تقدم من العلماء على مذهبهم الأحاديث الواردة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وآثار السلف من الصحابة والتابعين الدالة على هذا.
وأما السبب الثاني: فقد تقدم أن جمهور المفسرين قد أوردوه، واقتصروا على ذلك إلا ابن العربي، وابن كثير، فالأول قد ضعفه وستأتي حجته، والثاني ألمح إلى تقويته فقال بعد سياق السببين: (وقد يكون اجتمع السببان في وقت واحد فنزلت هذه الآيات في ذلك كله واللَّه أعلم ولهذا قال بعد ذلك: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) إلى آخرها وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص واللَّه سبحانه وتعالى أعلم) اهـ.
وبعد نقل كلام العلماء المتقدم وما احتجوا به على أقوالهم أقول:
١ - أن ذكر نزول الآية شاذ غير محفوظ وتبين تفصيل ذلك في دراسة الإسناد.
٢ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية لك. أقول: إذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفى حقه في الدية فكيف يكون له قصاص ثم يقال فأنزل اللَّه: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ). مع أن شأن القصاص أكبر من الدية، والله قال في نفس الآية (وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ) فيمنعه من الدية ويأذن له بالقصاص حسب دلالة هذا السبب، هذا من التناقض، وصدق اللَّه القائل: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (٨٢).
٣ - أن المفسرين أعرضوا عنه فلم يذكروه في موضعه مما يدل على عدم حجيته عندهم.
٤ - أن الشنقيطي ذكر أن الآية نزلت في شأن اليهود بالإجماع، وإذا كانت كذلك فكيف يقال إنها نزلت في شأن رجلين من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
أما السبب الثاني وهو أن الآية نزلت في شأن بني قريظة والنضير فالحق أنها تتفق مع السياق القرآني فقولهم: (فدُسُّوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يُعطكم حذرتم فلم تحكموه) يوافق قوله تعالى: - (إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) لا يخالف قوله في الحديث فدسوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناساً من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والمنافق هو الذي يؤمن بفيه دون قلبه لكن يعكر على هذا أن إسناد الحديث دائر بين الضعف والضعف الشديد، وأيضاً هو معارَض بحديث البراء الثابت في الصحيح.
وابن العربي ذكر علة ثالثة وهي أن بني قريظة اشتكت، والشكوى شيء غير التحكيم المنصوص عليه في سياق الآيات.
وعندي أن ما ذكره ليس بوجيه فقد جاء في الحديث: ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم. فهذا تحكيم لكن الحديث معلول بما تقدم.
وأما قول ابن كثير: (إن قوله: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ.. ) يقوي أن سبب النزول قضية القصاص) فلا ريب أن هذا حق لو كان إسناد الحديث صحيحاً.
وحينئذ لا يبقى لدينا إلا حديث البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في سبب نزول الآيات الكريمات، وقد اجتمع فيه أمور:
١ - صحة إسناده إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
٢ - موافقته للسياق القرآني.
٣ - اتفاق المفسرين على اختياره والقول بمقتضاه.
٤ - تصريحه بنزول الآيات الكريمة بسبب تلك القصة. وهذا ما لم يذكر في حديثي عبد اللَّه بن عمر وجابر بن عبد اللَّه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اللذَين ذكرهما ابن العربي في قضية زنى اليهوديين ورجمهما.
* النتيجة:
أن سبب نزول هذه الآيات حديث البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في زنى اليهوديين، وحكم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيهما بالرجم لصحة سند الحديث، وتصريحه بالنزول، وموافقته لسياق الآيات، واحتجاج المفسرين به والله أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج الترمذي وابن ماجه عن أبي عبيدة قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن بني إسرائيل لما وقع فيهم النقص كان الرجل فيهم يرى أخاه يقع على الذنب فينهاه عنه، فإذا كان الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ونزل فيهم القرآن فقال: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) حتى بلغ: (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) قال: وكان نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متكئًا فجلس فقال: (لا، حتى تأخذوا على يد الظالم فتأطروه على الحق أطراً).
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية وقد أورد الطبري الحديث بنصه، أما سائر جمهور المفسرين فلم يذكروا التصريح بسبب النزول لكن منهم من ذكر الحديث بدون ذكر الآية، ومنهم من ذكر الحديث ثم قال: قرأ: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.. ) والظاهر والله - تعالى أعلم - أن الحديث ليس سبباً لنزول الآية لما يلي:
أولأ: أن الحديث ضعيف بسبب انقطاعه.
ثانيًا: إعراض جمهور المفسرين عن ذكره والاحتجاج به على نزولها.
ثالثا: أن الآية تتحدث عن الكافرين الملعونين على لسان داود، وعيسى ابن مريم، ومن المعلوم أن دهراً طويلاً كان بين النبيين الكريمين، وبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكيف ينزل قرآن بسبب قوم أذنبوا قبل نزوله بقرون.
وبناءً على ما تقدم يكون المراد بقوله: ونزل فيهم القرآن، أي: نزل في الحديث عنهم القرآن كما نزل كثيراً في الحديث عن الأمم السابقة.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور ليس سبباً لنزول الآية بسبب ضعفه، وكون المتحدث عنهم من الأمم السالفة.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج النَّسَائِي عن عبد اللَّه بن الزبير قال: نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ).
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة، واختار هذا جمهور المفسرين.
قال البغوي: (الآية فيمن أسلم منهم من النصارى مثل النجاشي وأصحابه، وقال: قال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في رواية عطاء: يريد النجاشي وأصحابه، قرأ عبيهم جعفر بالحبشة (كهيعص)، فما زالوا يبكون حتى فرغ. جعفر من القراءة) اهـ.
وقال ابن عطية: (وذكر سعيد بن جبير، ومجاهد، وابن عبَّاسٍ أن هذه الآية نزلت بسبب وفد بعثهم النجاشي إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليروه، ويعرفوا حاله، فقرأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم القرآن فبكوا وآمنوا ورجعوا إلى النجاشي فآمن).
وقال في موضع آخر: (وقوله تعالى: (وَإذَا سَمِعُوا) الضمير في سمعوا ظاهره العموم ومعناه الخصوص فيمن آمن من هؤلاء القادمين من أرض الحبشة، إذ هم عرفوا الحق وقالوا آمنا، وليس كل النصارى يفعل ذلك) اهـ.
وقال القرطبي: (وهذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه لما قدم عليهم المسلمون في الهجرة الأولى) اهـ.
وقال السعدي: (وهذه الآيات نزلت فى النصارى الذين آمنوا بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كالنجاشي وغيره، ممن آمن منهم) اهـ.
وقال ابن عاشور بعد أن ذكر كلامًا: (إن المعنيّ في هذه الآية ثمانية من نصارى الشام كانوا في بلاد الحبشة وأتوا المدينة مع اثنين وستين راهبًا من الحبشة مصاحبين للمسلمين الذين رجعوا من هجرتهم بالحبشة وسمعوا القرآن
وهي من آخر ما نزل ولم يعرف قوم معينون من النصارى أسلموا في زمن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولعل اللَّه أعلم رسوله بفريق من النصارى آمنوا - بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قلوبهم ولم يتمكنوا من لقائه... إلى أن قال: ولعل هؤلاء كان منهم من هو بأرض الحبشة أو باليمن. ولا شك أن النجاشي أصحمة منهم) اهـ.
وقد ذهب الطبري إلى عدم تعيين هؤلاء فقال بعد أن ذكر أقوالاً: (والصواب في ذلك من القول عندي أن اللَّه تعالى وصف صفةَ قوم قالوا: إنا نصارى، أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجدهم أقرب الناس وداداً لأهل الإيمان باللَّه ورسوله ولم يسم لنا أسماءهم، وقد يجوز أن يكون أُريد بذلك أصحاب النجاشي، ويجوز أن يكون أُريد به قوم كانوا على شريعة عيسى، فأدركهم الإسلام فأسلموا، لما سمعوا القرآن، وعرفوا أنه الحق، ولم يستكبروا عنه) اهـ.
والصواب - واللَّه أعلم - أن يقال: إن أُريد بقوله نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه أنها تقص قصصهم وتتحدث عنهم فهذا صحيح ولهذا (روى ابن إسحاق عن أم سلمة - رضي الله عنها - في قصة الهجرة قالت: فقرأ (أي جعفر) عليه صدراً من (كهيعص) قالت: فبكى واللَّه النجاشي حتى اخضلَّت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم) اهـ.
وإن أُريد بالنزول هنا ما اصطلح عليه العلماء فليس بصحيح ولهذا قال ابن كثير: (قال علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاسٍ: نزلت هذه الآيات في النجاشي وأصحابه حين تلا عليهم جعفر بن أبي طالب القرآن بكوا حتى
وما ذكره ابن كثير صحيح فإنه لا يعهد في القرآن أن يتأخر النزول عن السبب على هذا النحو لا سيما إذا عرفنا أن المائدة من آخر القرآن نزولاً.
وقد يقال: إن نزولها كان بسبب وفد بعثهم النجاشي، إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليسمعوا كلامه، ويروا صفاته فلما رأوه وقرأ عليهم القرآن أسلموا، وبكوا وخشعوا ثم رجعوا إلى النجاشي فأخبروه وهو المروي عن سعيد بن جبير. فاللَّه أعلم.
* النتيجة:
أن قصة النجاشي وبكاءه ليست سبباً لنزول الآية لما بينهما من الزمن الطويل والأمد البعيد والله أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج الترمذي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رجلاً أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول اللَّه إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي، فحرمت عليَّ اللحم فأنزل الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة، وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث ضمن أحاديث كثيرة وردت في هذا الباب منهم الطبري، والبغوي، وابن العربي، وابن عطية، والقرطبي، وابن كثير.
قال القرطبي: (والأخبار بهذا المعنى كثيرة، وإن لم يكن فيها ذكر النزول وهي:
ما أخرج الشيخان عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: جاء ثلاثة رهطٍ إلى بيوت أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسألون عن عبادة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما أُخبروا كأنهم
وَخرَّجَا عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه- قال: رد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا) اهـ محل الشاهد.
وكلام القرطبي ربما يشعر بأن الآية لم تنزل بسبب الأحاديث المذكورة في سببها لأنه ساق أحاديث لا صلة لها بنزول الآية.
وقد يؤيد ما ذهب إليه ما روى البخاري عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا نغزو مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليس لنا شيء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب، ثم قرأ علينا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).
لكن الناظر في حديث ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يجد أنه يطابق الآية مطابقة كاملة.
فقوله: فحرمت عليَّ اللحم يوافق قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ).
فالظاهر - والله أعلم - أن الحديث سبب نزول الآية وإن كان الصحيح فيه الإرسال، لأمور ثلاثة:
١ - التصريح بالسببية.
٢ - مطابقة سياق الحديث للفظ الآية.
٣ - الاحتجاج به عند جمهور المفسرين.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور سبب نزول الآية للأسباب سالفة الذكر، واللَّه أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج ابن ماجه عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كان الرجل يقوت أهله قوتاً فيه سعة، وكان الرجل يقوت أهله قوتاً فيه شدة فنزلت: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة. وقد أورد القرطبي وابن كثير هذا الحديث في تفسيرها ولم يتعقباه، لكن لفظ القرطبي فنزلت، أما ابن كثير
أما بقية المفسرين فأعرضوا عنه وهو جدير بالإعراض عنه لما يلي:
أولاً: إسناده المقطوع، فإنه لا تقوم به حجة.
ثانياً: عدم الصلة بين السبب المدعى والآية الكريمة، فحديث الآية عن الكفارة حين يحنث الحالف في يمينه، والسبب يدور على القوت والإنفاق وفرق بين هذين.
* النتيجة:
أن السبب المذكور ليس سببًا لنزول الآية الكريمة لضعف إسناده، وعدم الارتباط بينه وبين الآية الكريمة، مع إعراض المفسرين عنه. واللَّه أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج مسلم وأحمد عن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: وأتيت على نفر من الأنصار والمهاجرين. فقالوا: تعال نطعمك ونسقيك خمراً. وذلك قبل أن تحرم الخمر. قال: فأتيتهم في حَشٍّ - والحَشُّ البستان - فإذا رأس جزورٍ مشوي عندهم، وزِقٌّ من خمر. قال: فأكلت وشربت معهم. قال فذُكِرتِ الأنصار والمهاجرون عندهم. فقلت: المهاجرون خير من الأنصار. قال: فأخذ رجل أحد لحي الرأس فضربني به فجرح بأنفي. فأتيت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته. فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - فيَّ - يعني نفسه - شأن الخمر: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ).
وفي رواية لمسلم: فضرب به أنف سعد ففزره وكان أنف سعد مفزورًا.
٣ - أخرج أحمد عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: حُرمت الخمرُ ثلاث مرات قدم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر فسألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنهما فأنزل اللَّه تعالى على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) فقال الناس: ما حُرِّم علينا، إنما قال: (قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) وكانوا يشربون الخمر.
حتى إذا كان يوم من الأيام، صلى رجل من المهاجرين، أمَّ أصحابه في المغرب، خلط في قراءته، فأنزل اللَّه فيها آيةً أغلظ منها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) وكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق.
٤ - أخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما نزل تحريم الخمر، قال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شفاءً فنزلت هذه الآية التي في البقرة: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)، قال: فدعي عمر، فقرئت عليه فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شفاءً فنزلت الآية التي في النساء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى)، فكان منادي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أقام الصلاة نادى: أن لا يقربنَّ الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شفاءً. فنزلت الآية التي في المائدة فدعي عمر فقرئت عليه، فلما بلغ (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قال: فقال عمر: انتهينا انتهينا.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة وقد أورد بعض المفسرين جميع هذه الأحاديث واقتصر بعضهم على بعضها سرداً ورواية، ومن هؤلاء الطبري، والبغوي، وابن العربي، وابن عطية، والقرطبي، وابن كثير، وابن عاشور.
أما حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فليس سبباً في نزولها، وقد تقدم بيان هذا عند الآيتين في سورة البقرة والنساء، إلا أن يقال إن دعاء عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سبب غير مباشر لحصول البيان الشافي، وهذا ليس بسبب ظاهر في نزولها.
أما حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلا تقوم به حجة على نزولها بسبب ضعفه.
يبقى النظر في حديث سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وضرب الأنصاري له بلحي الجمل عندما شربا الخمر، وحديث ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في اقتتال القبيلتين من الأنصار حين شربوا الخمر.
أما حديث سعد فإسناده ثابت لأنه في مسلم، وسياق الحديث يوافق الآية الكريمة ي قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) وهذا قد حصل فقد ضُرب سعد حتى فزر أنفه، ولا يخفى أثر مثل هذا التصرف على أحد ثم قوله: فأتيت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته فأنزل فيَّ شأن الخمر.
يؤكد حجية حديثه في شأن نزول الآية.
أما حديث ابن عبَّاسٍ في شأن اقتتال القبيلتين فإسناده حسن، وسياق الحديث يوافق الآية الكريمة، ولهذا لما أفاقوا من شربها، وجعل الرجل يرى الأثر بوجهه ورأسه ولحيته ويقول: قد فعل بي هذا أخي، واللَّه لو كان بي رءوفًا رحيماً ما فعل بي هذا فوقعت في قلوبهم الضغائن، وهذا الذي يريده الشيطان.
فإن قال قائل: ما الجمع بين الحديثين، أو الراجح منهما؟ فالجواب من وجوه:
الأول: أن القصتين وقعتا في زمن واحد فنزلت الآية تتحدث عنهما جميعاً.
الثاني: أن قول ابن عبَّاسٍ: نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار، فيه وهم وأن إحداهما من الأنصار والأخرى من المهاجرين وحينئذٍ يوافق حديث سعد فقد جاء فيه وأتيت على نفر من الأنصار والمهاجرين... إلى أن قال: فذُكرت الأنصار والمهاجرون عندهم، وإذا كان الأمر كذلك صبَّ الحديثان في نهر واحد.
الجواب الثالث: أن المقدم في السببية حديث سعد لقوة إسناده ولا ريب أن ما رواه أحد الشيخين قرينة من قرائن الترجيح عند العلماء في الاحتجاج به على ما رواه غيرهما.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية قصة سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لصحة سند الحديث وتصريحه بالنزول وكونه صاحب القصة واللَّه أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري وأحمد والدارمي ومسلم، عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت ساقيَ القوم في منزل أبي طلحة وكان خمرهم يومئذٍ الفضيخ فأمر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منادياً ينادي: ألا إن الخمر قد حُرمت، قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فخرجت فهرقتُها، فجرت في سكك المدينة، فقال بعض القوم: قد قُتل قوم وهي في بطونهم فأنزل اللَّه: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا).
وأخرجه أحمد من حديث ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وأخرجه الترمذي، من حديث ابن عبَّاسٍ والبراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذا
قال السعدي: (لما نزل تحريم الخمر، والنهي الأكيد، والتشديد فيه تمنى أناس من المؤمنين أن يعلموا حال إخوانهم الذين ماتوا على الإسلام قبل تحريم الخمر وهم يشربونها فأنزل الله هذه الآية) اهـ.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية ما رواه أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لصحة إسناده، وموافقته للفظ الآية، واحتجاج المفسرين به وتصريحه بالنزول. واللَّه أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج مسلم وأحمد والبخاري والترمذي والنَّسَائِي عن أنس ابن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بلغ رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أصحابه شيء فخطب فقال: (عرضت عليَّ الجنة والنار، فلم أرَ كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) قال: فما أتى على أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أشدُّ منه. قال: غطوا رؤوسهم ولهم خنين قال: فقام عمر فقال: رضينا باللُّه رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً قال: فقام ذاك الرجل، فقال: من أبي؟ قال: (أبوك فلان). فنزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).
وفي لفظ لمسلم: عن أبي موسى قال: سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أشياء كرهها. فلما أكثر عليه غضب، ثم قال للناس: (سلوني عما شئتم)... الحديث.
٢ - أخرج البخاري عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كان قوم يسألون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استهزاءً فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته:
٣ - أخرج أحمد والترمذي وابن ماجه عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما نزلت هذه الآية (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) قالوا: يا رسول اللَّه، أفي كل عام؟ فسكت، فقالوا: أفي كل عام؟ فسكت، قال: ثم قالوا: أفي كل عام؟ فقال: (لا ولو قلت نعم لوجبت) فأنزل اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) إلى آخر الآية.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذه الأحاديث عند تفسيرها كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
أما حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في سؤالهم عن الحج أفي كل عام؟ فقد تبين من دراسة إسناده أنه لا يحتج به على النزول بسبب ضعف إسناده المفصلِ في موضعه.
وأما حديث ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عند البخاري قال: كان قوم يسألون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استهزاءً. فقد علق عليه ابن عاشور بما يفيد استبعاده لذلك فقال:
أولاً: (أن البخاري قد انفرد برواية الحديث دون غيره.
ثانياً: أن هؤلاء القوم من المنافقين لأن المؤمنين لا يستهزئون برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويكون الخطاب بالذين آمنوا أي أظهروا الإيمان.
ثالثاً: أن هذا رأي من ابن عبَّاسٍ، وهو لا يناسب افتتاح الآية بخطاب الذين آمنوا إلا أن يراد تحذير المؤمنين من مقاصد المستهزئين كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا). اهـ بتصرف.
وعندي - والله أعلم - أن انفراد البخاري بالحديث ليس علة تقدح فيه، فشأن البخاري أجلُّ من القدح في حديث انفرد بإخراجه.
وأما القول بأن هؤلاء المستهزئين منافقون فضعيف أيضاً فأول الآية صُدر بنداء الإيمان، وآخرها ختم بالمغفرة والحلم، وليس هذا شأن اللَّه مع المستهزئين واقرأ قول اللَّه: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ).
فلم يبق إلا أن هذا رأي ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ومما يؤيد هذا أنه خالف أنساً وأبا موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في أن سببها كثرة الأسئلة التي لا نفع فيها ولا طائل تحتها.
وأما حديث أبي موسى فمجمل فسره حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
فماذا سيكون حال عبد الله لو ظهر على لسان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما خافت منه أم عبد اللَّه؟
قال ابن عاشور: (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) أي إن تُظهر لكم وقد أخفيت عنكم يكن في إظهارها ما يسؤكم) اهـ.
وأيضاً فقوله تعالى: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) يوافق ما روى البخاري عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في سياق الحديث قال: فقام إليه رجل فقال: أين مدخلي يا رسول الله؟ قال: (النار).
فما الظن بحال الرجل، وقد أُخبر أن مدخله النار بعد أن كان هذا خافيًا عليه؟
قال ابن عاشور: (ومنها ما ساءهم جوابه، وهو سؤال من سأل أين أبي، أو أين أنا فقيل له: في النار فهذا يسوءُه لا محالة) اهـ.
وأيضاً فقوله تعالى: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ... ) إلى قوله: (قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ) يوافق ما روى الشيخان واللفظ لمسلم عن سعد بن وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
وهذه الأمثلة التي دلت عليها السنة الصحيحة لا ريب أنها أولى ما تُفسر به الآية الكريمة.
قال السعدي: (ينهى عباده المؤمنين عن سؤال الأشياء التي إذا بينت لهم ساءتهم وأحزنتهم، وذلك كسؤال بعض المسلمين لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن آبائهم، وعن حالهم في الجنة أو النار، فهذا ربما لو بُين للسائل لم يكن له فيه خير، كسؤالهم للأمور غير الواقعة.
وكالسؤال الذي يترتب عليه تشديدات في الشرع ربما أحرجت الأمة، وكالسؤال عما لا يعني، فهذه الأسئلة وما أشبهها هي المنهي عنها.
وأما السؤال الذي لا يترتب عليه شىء من ذلك فهو مأمور به كما قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) اهـ.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية الكريمة ما روى أنس في أسئلتهم لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصحة سنده، وتصريحه بالنزول، وموافقته لسياق القرآن مع ما يؤيده من حديث سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والله أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدما بتركته فقدوا جاماً من فضة مُخوَّصاً من ذهب فأحلفهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم وجد الجامُ بمكة، فقالوا ابتعناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أوليائه فحلفا: (لشهادتنا أحق من شهادتهما، وإن
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث ومثله معه منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي وابن عاشور.
قال ابن عطية: (لا نعلم خلافًا أن سبب هذه الآية أن تميماً الداري وعدي بن بداء كانا نصرانيين.) اهـ ثم ساق الحديث.
وقال القرطبي: (ولا أعلم خلافاً أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الداري وعدي بن بداء) اهـ.
وقال السعدي: (وهذه الآيات الكريمة، نزلت في قصة تميم الداري، وعدي بن بداء المشهورة حين أوصى لهما العدوي واللَّه أعلم) اهـ.
وقال ابن عاشور: (وقد حدثت في آخر حياة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حادثة كانت سبباً في نزول هذه الآية وذكر كلامًا إلى أن قال: ذلك أنه كان في سنة تسع من الهجرة نزلت قضية وهي أن رجلين أحدهما تميم الداري والآخر عدي بن بداء.
وحيث إن السبب المذكور معنا مختصر لا يتحقق بقراءته فهم القصة فإني سأذكر القصة كما سردها الطاهر بن عاشور في تفسيره فقال:
وبعض المفسرين يقول: إن ولاء بُديل لعمرو ابن العاصي والمطلب بن وداعة، ويؤيد قولهم أن المطلب حلف مع عمرو بن العاصي على أن الجام لبديل بن أبي مريم. فلما رجعا باعا الجام بمكة بألف درهم ورجعا إلى المدينة فدفعا ما لبديل إلى مواليه. فلما نشروه وجدوا الصحيفة فقالوا لتميم وعدي: أين الجام فأنكرا أن يكون دفع إليهما جامًا. ثم وجد الجام بعد مدة يباع بمكة فقام عمرو بن العاصي والمطلب بن أبي وداعة على الذي عنده الجام فقال: إنه ابتاعه من تميم وعدي.
وفي رواية أن تميماً لما أسلم في سنة تسع تأثم مما صنع فأخبر عمرو بن العاصي بخبر الجام ودفع إليه الخمسمائة درهم الصائرة إليه من ثمنه، وطالب عمرو عدياً ببقية الثمن فأنكر أن يكون باعه. وهذا أمثل ما روي في سبب نزول هذه الآية... إلى أن قال: واتفقت الروايات على أن الفريقين تقاضوا في ذلك إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونزلت هذه الآية في ذلك، فحلف عمرو بن العاصي والمطلب بن أبي وداعة على أن تميمًا وعديًا أخفيا الجام، وأن بُديلاً صاحبه وما باعه ولا خرج من يده، ودفع لهما عدي خمسمائة درهم وهو يومئذ نصراني) اهـ.
(يخبر تعالى خبرًا متضمنًا للأمر بإشهاد اثنين على الوصية إذا حضر الإنسان مقدمات الموت وعلائمه، فينبغي له أن يكتب وصيته ويُشهد عليها (اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ) ممن تعتبر شهادتهما، (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أي: من غير أهل دينكم من اليهود أو النصارى أو غيرهم، وذلك عند الحاجة والضرورة وعدم غيرهما من المسلمين، (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي سافرتم فيها، (فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) أي: فأشهدوهما ولم يأمر بإشهادهما إلا لأن قولهما في تلك الحال مقبول ويؤكد عليهما، أن يحبسا من بعد الصلاة التي يعظمونها، (فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ) أنهما صدقا وما غيرا وما بدلا هذا (إِنِ ارْتَبْتُمْ) في شهادتهما، فإن صدقتموهما فلا حاجة إلى القسم بذلك.
ويقولان: (لَا نَشْتَرِي بِهِ) أي بأيماننا (ثَمَنًا) بأن نكذب فيها لأجل عرض من الدنيا (وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) فلا نراعيه لأجل قربه منا (وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ) بل نؤديها على ما سمعناها (إِنَّا إِذًا) أي إن كتمناها (لَمِنَ الْآثِمِينَ).
(فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا) أي الشاهدين (اسْتَحَقَّا إِثْمًا) بأن وجد من القرآن ما يدل على كذبهما، وأنهما خانا (فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ) أي: فليقم رجلان من أولياء الميت، وليكونا من أقرب الأولياء إليه (فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا) أي: أنهما كذبا وغيَّرا وخانا، (وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي: إن ظلمنا واعتدينا وشهدنا بغير الحق.
قال اللَّه تعالى في بيان حكمة تلك الشهادة وتأكيدها وردها على أولياء الميت حين تظهر من الشاهدين الخيانة: (ذَلِكَ أَدْنَى) أي أقرب (أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا) حين تؤكد عليهما تلك التأكيدات (أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ) أي: أن لا تقبل أيمانهم ثم ترد على أولياء الميت (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) أي الذين وصفهم الفسق فلا يريدون الهدى والقصد إلى الصراط المستقيم.
وحاصل هذا أن الميت - إذا حضره الموت في سفر ونحوه، مما هو مظنة قلة الشهود المعتبرين - أنه ينبغي أن يوصي شاهدين مسلمين عدلين، فإن لم يجد إلا شاهدين كافرين جاز أن يوصي إليهما.
فإن لم يصدقوهما ووجدوا قرينة تدل على كذب الشاهدين فإن شاء أولياء الميت فليقم منهم اثنان فيقسمان باللَّه: لشهادتنا أحق من شهادة الشاهدين الأولين وأنهما خانا وكذبا فيستحقون منهما ما يدّعون) اهـ.
* النتيجة:
أن سبب النزول المذكور في قصة تميم الداري وعدي بن بداء كان سبباً لنزول الآيات الكريمات وذلك لصحة إسناده، وموافقة سياقه لظاهر الآية واحتجاج المفسرين به وتعويلهم عليه واللَّه أعلم.
* * * * *