ﰡ
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: كان رسول الله - ﷺ - بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة، فقال أصحاب النبي - ﷺ -: نصدُّ هؤلاء كما صدوا أصحابنا، فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن مسنده في كتاب "الصحابة" من طريق عبد الله بن جبلة بن حبان بن حجر عن أبيه عن جده حبان قال: كنا مع رسول الله - ﷺ -، وأنا أوقد تحت قدر فيها لحم ميتة، فأنزل الله سبحانه وتعالى: تحريم الميتة، فأكفأت القدر.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وصدقوا بما جاء به محمد - ﷺ - ﴿أَوْفُوا﴾ وأتموا ﴿بِالْعُقُودِ﴾ والعهود المؤكدة التي بينكم وبين الله تعالى، أو بينكم وبين أنفسكم أو بينكم وبين الناس؛ أي: أوفوا ما عقده الله وجعله عليكم، وألزمه إياكم من التكاليف والأحكام الدينية، كالمأمورات: فوفاؤها فعلها، والمنهيات: فوفاؤها اجتنابها، وكالمعاملات الجارية بينهم، من بيع وشراء ونكاح وطلاق: فوفاؤها العمل بموجبها، وكالنذور التي ألزمها الشخص نفسه: فوفاؤها الإتيان بما نذره على نفسه.
وقال الراغب (١): العقود ثلاثة أضرب: عقد بين الله وبين العبد، وعقد بين
وأساس العقود في الإسلام هو هذه الجملة ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾؛ أي: إنه يجب على كل مؤمن أن يفي بما عقده وارتبط به من قول أو فعل كما أمر الله، ما لم يحرم حلالًا، أو يحلل حرامًا، كالعقد على أكل شيء من أموال الناس بالباطل؛ كالربا، والميسر والقمار، والرشوة، ونحو ذلك.
قيل (١): المراد بالعقود: هي التي عقدها الله تعالى على عباده، وألزمهم بها من الأحكام، وقيل: هي العقود التي يعقدونها بينهم من عقود المعاملات، والأولى شمول الآية للأمرين جميعًا، ولا وجه لتخصيص بعضهما دون بعض. قال الزجاج المعنى: أوفوا بعقد الله عليكم، وبعقدكم بعضًا على بعض، انتهى. والعقد الذي يجب الوفاء به هو ما وافق الكتاب والسنة، فإن خالفهما.. فهو ردٌّ لا يجب الوفاء به، ولا يحل.
والخلاصة: يا معشر المؤمنين ائتوا بالعقود والتكاليف التي ألزمها اللهُ تعالى إياكم بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات، وائتوا بموجب العقود الجارية بينكم من المعاملات، من بيع وإجارة مثلًا، وبموجب العقود التي جرت بينكم وبين أنفسكم من النذور، والعتاق، والطلاق.
ثم شرع يفصِّل تلك الأحكام التي أمر بالإيفاء بها، وبدأ بما يتعلق بضروريات معايشهم، فقال: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ﴾ بعد تذكيتها ﴿بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ الثلاثة، الإبل والبقر والغنم ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: إلا ما سيتلى عليكم تحريمه في هذه السورة، بقوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ﴾ إلخ؛ أي: أحل الله سبحانه
وقوله: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾: حال من الكاف في قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ﴾؛ أي: أحلت لكم بهيمة الأنعام حال كونكم غير على الصيد الذي حرّمه الله عليكم؛ أي: غير مجوزين للاصطياد في الإحرام باعتقاد حله، أو بفعله. ومعنى عدم إحلالهم له، تقرير حرمته عملًا واعتقادًا؛ أي: لا تجعلوه حلالًا عملًا واعتقادًا باصطياده، أو الأكل منه وأنتم محرمون بالحج، أو العمرة، أو كليهما، أو داخلون في أرض الحرم، فلا يحل الصيد لمن كان في أرض الحرم، ولو لم يكن محرمًا، ولا للمحرم بالحج أو العمرة وإن كان في خارج حدود الحرم، بأن نوى الدخول في هذا النسك وبدأ بأعماله، كالتلبية.
والمعنى: أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا إن كانت الأنعام ميتةً، أو موقوذةً، أو مترديةً، أو نطيحةً، أو افترسها السبع، أو ذُبحت على غير اسم الله، فهي محرمة، وإلا أن تحلوا الصيد في حال إحرامكم، أو في حال كونكم في الحرم؛ فإنه لا يحل لكم ذلك.
والخلاصة: أحلت لكم هذه الأشياء غير على الاصطياد، ولا أكل الصيد في الإحرام.
وقرأ الجمهور ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ بالنصب على الحال، وقرأ ابن أبي عبلة ﴿غيرُ﴾ بالرفع، ويخرج على أنه خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: وأنتم غير على الصيد. وقرأ الحسن والنخعي ويحيى بن وثَّاب ﴿حرم﴾ بسكون الراء، وهي لغة تميمية، يقولون في رسل: رسل، وفي كتب: كتب ونحو ذلك. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَحْكُمُ﴾ ويقضي ﴿مَا يُرِيدُ﴾ ويشاء في عباده؛ أي: إن الله سبحانه وتعالى يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما أراد تحليله، وتحريم ما أراد تحريمه، كما
٢ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وصدقوا بما جاء به محمد - ﷺ - ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ﴾؛ أي: معالم دين الله وأحكامه؛ أي: لا تتهاونوا مأمورات الشرع، ولا منهياته، ولا تنتهكوا حرمتها بترك المأمورات وفعل المنهيات، بل احترموا شعائر الله وأحكامه، بفعل المأمورات واجتناب المنهيات، وهذا عام، وذكر ما بعده من المعطوفات من ذكر الخاص بعد العام. وقيل: ﴿شَعَائِرَ اللَّهِ﴾ ما أراد جعله أمارات تعلمون بها الهدى من الضلال؛ كمناسك الحج، وسائر فرائض دينه من حلال وحرام، وحدود حدها لكم.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا لا تجعلوا شعائر دين الله حلالًا لكم، تتصرفون فيها كما تشاؤون، بل اعملوا بما بيَّنه لكم، ولا تتهاونوا بحرمتها وتحولوا بينها وبين المتنسكين بها، وتصدوا الناس عن الحج في أشهر الحج.
وقيل: ﴿الشعائر﴾: الهدايا المشعرة؛ أي: المعلمة، وأشعارها: أن يطعن في صفحة سنام البعير بحديدة، حتى يسيل دمه، فيكون ذلك علامة على أنه هدي، وهو سنة في الإبل والبقر، دون الغنم.
والمعنى: لا تحلوا أخذ الهدايا المشعرة بسرقة أو غصب أو نهب من صاحبها. وقال أبو حيان ﴿الشعائر﴾: هي جميع ما حرمه الله تعالى مطلقًا، سواء كان في الإحرام أو في غيره، والمعطوفات الأربعة بعده مندرجة في عموم قوله: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ﴾، فكان ذلك تخصيصًا بعد تعميم.
والمعنى: لا تحلوا محرمات الله تعالى فعلًا واعتقادًا، بأن ترتكبوها وتعتقدوا حلها. ﴿وَلَا﴾ تحلوا ﴿الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ ذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم، ورجب، ولا تنتهكوا حرمتها؛ بأن تقاتلوا فيها أعداءكم من المشركين، كما رُوي عن ابن عباس وقتادة.
وقرأ حميد بن قيس والأعرج (٢): ﴿تبتغون﴾ بالتاء، خطابًا للمؤمنين، والمعنى: على الخطاب: إن المؤمنين كانوا يقصدون قتالهم والغارة عليهم، وصدهم عن المسجد الحرام، امتثالًا لأمر الله تعالى وابتغاء مرضاته، إذ أمر تعالى بقتال المشركين وقتلهم، وسبي ذراريّهم، وأخذ أموالهم حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية. وقرأ الأعمش ﴿ورضوانًا﴾ بضم الراء، وتقدم في آل عمران.. أنها قراءة أبي بكر عن عاصم، حيث وقع إلا في ثاني هذه السورة، فعنه فيه خلاف.
(٢) البحر المحيط.
والظاهر: ما عليه جمهور العلماء من نسخ هذه الآية؛ لإجماع العلماء على أن الله - عز وجل - قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها، وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه وذراعيه جميع لحاء شجر الحرم لم يكن ذلك أمانًا له من القتل، إذا لم يكن قد تقدم له عقد ذمة أو أمان، وكذلك أجمعوا على منع من قصد البيت بحج أو عمرة من المشركين؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾، والله تعالى أعلم، انتهى.
ثم صرح بما فهم من قوله: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ فقال. ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ﴾؛ أي: وإذا خرجتم من إحرامكم بالحج أو العمرة، أو من أرض الحرم ﴿فَاصْطَادُوا﴾ الصيد الذي حُرِّمَ عليكم بالإحرام؛ أي: في غير الحرم إن شئتم؛ لأنّه إنما حُرِّم عليكم الصيد في أرض الحرم، وفي حال الإحرام فقط، وقد زال شبب حرمته، والأمر (٢) فيه أمر إباحة؛ لأنّه ليس واجبًا على المحرم إذا حل من إحرامه أن يصطاد، نظير قوله تعالى؛ ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ معناه: أنه قد أبيح لكم ذلك بعد الفراغ من الصلاة.
(٢) الخازن.
والمعنى: ولا (٣) يحملنكم بغض قوم وعداوتهم على أن تعتدوا عليهم؛ لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام، وقد كان المشركون صدوا المؤمنين عن العمرة عام الحديبية، فنهى المؤمنين أن يعتدوا عليهم عام حجة الوداع، وهو العام الذي نزلت فيه هذه السورة؛ لأجل اعتدائهم السابق.
وقرأ الجمهور: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ - بتشديد النون -. قرأ الحسن (٤)، وإبراهيم، وابن وثاب، والوليد عن يعقوب: ﴿يجرمنْكم﴾ بسكون النون، جعلوا نون التوكيد خفيفة. وقرأ النحويان (٥)، وابن كثير، وحمزة، وحفص، ونافع: ﴿شنآن﴾: بفتح النون. وقرأ ابن عامر، وأبو بكر، وأبو جعفر: (شنْآن) بسكونها، والأظهر في الفتح: أن يكون مصدرًا، وقد كثر مجيء المصدر على فعلان - بفتح العين -، وجوّزوا أن يكون وصفًا، وأما مجيء المصدر على فعْلان - بفتح الفاء، وسكون العين -.. فقليل. وقرأ أبو عمرو، وابن كثير ﴿إن صدوكم﴾ بكسرة الهمزة، على أنها شرطية، ويؤيدها قراءة ابن مسعود ﴿إن صدوكم﴾ وأنكر ابن جرير والنحاس
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
(٥) أبو عمرو والكسائي.
﴿وَتَعَاوَنُوا﴾ أيها المؤمنون ﴿عَلَى الْبِرِّ﴾؛ أي: على فعل المأمورات ﴿و﴾ على ﴿التقوى﴾؛ أي: وعلى اجتناب المنهيات. وقيل: تعاونوا على البر والتقوى؛ أي: على العفو والإغضاء (١)، ومتابعة الأمر ومجانبة الهوى؛ أي: ليعن بعضكم بعضًا على ما يكسب البر والتقوى ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ﴾؛ أي: على ترك المأمورات ﴿وَالْعُدْوَانِ﴾؛ أي: على فعل المحظورات؛ أي: ولا يعن بعضكم بعضًا على الإثم والعدوان، وقيل: ولا تعاونوا على الانتقام والتشفي، والبر (٢): فعل المأمور، والتقوى: ترك المحظور، والإثم: ترك المأمور، والعدوان: فعل المحظور. وقال المراغي: البر: التوسع في فعل الخير، والتقوى: اتقاء ما يضر صاحبه في دينه أو دنياه، والإثم: كل ذنب ومعصية، والعدوان: تجاوز حدود الشرع والعرف في المعاملة، والخروج عن العدل فيها، وفي الحديث: "البر: حسن الخلق، والإثم: ما حاك في النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس". رواه مسلم وأصحاب السنن.
وروى أحمد والدارمي عن وابصة بن معبد الجهني: أنه قال: أتيت
(٢) النحويان هما أبو عمرو والكسائي.
والأمر بالتعاون (١) على البر والتقوى.. من أركان الهداية الاجتماعية في القرآن؛ إذ يوجب على الناس أن يعين بعضهم بعضًا على كل ما ينفع الناس، أفرادًا وجماعات، في دينهم ودنياهم، وعلى كل عمل من أعمال التقوى التي يدفعون بها المفاسد والمضار عن أنفسهم.
وقد كان المسلمون في الصدر الأول يتعاونون على البر والتقوى بدون حاجة إلى ارتباط بعهد، كما تفعله الجماعات اليوم، فإن عهد الله وميثاقه كان مغنيًا لهم عن غيره، ولكن لما نكثوا ذلك العد.. صاروا في حاجة إلى تأليف هذه الجماعات؛ لجمع طوائف المسلمين وحملهم على إقامة هذا الواجب التعاون على البر والتقوى. وقلما ترى أحدًا الآن يعينك على عمل من أعمال البر إلا إذًا كان مرتبطًا بعهد معك لغرض معين، ومن ثم كان تأليف الجماعات مما يتوقف عليه أداء هذا الواجب غالبًا.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ أي: خافوا عقابه، بامتثال أوامره واجتناب مناهيه، ولا تستحلوا شيئًا من محارمه ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ والانتقام لمن خالف أمره، ففيه وعيد شديد وتهديد عظيم. والمعنى: واتقوا الله بالسير على سننه التي بيّنها لكم في كتابه وفي نظم خلقه، حتى لا يصيبكم عقابه بالإعراض عن هدايته، فهو شديد العقاب لمن لم يتقه باتباع شرعه ومراعاة سننه في خلقه؛ إذ لا محاباة ولا هوادة في عقابه، فهو لم يأمر بشيء إلا إذا كان نافعًا، ولم ينه عن شيء إلا إذا كان ضارًّا وكذلك بعدم مراعاة السنن؛ لأن لذلك تأثيرًا في خلق الإنسان وعقائده وأعماله، وكل ذلك مما يوقعه في الغواية، وينتهي به إلى سوء العاقبة، وهذا العقاب يشمل عقاب الدنيا والآخرة، كما جاء في بعض
٣ - ثم شرع الله سبحانه وتعالى في بيان المحرمات التي أشير إليها في أول السورة بقوله: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ وهي عشرة أنواع:
الأول: ما ذكره بقوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾؛ أي: حرم عليكم أيها المؤمنون أكل الميتة.. إلا ميتة السمك والجراد؛ فإنهما مستثنيان بالحديث، والميتة: هي التي زالت حياتها بغير ذكاة شرعية، سواء مات حتف أنفه، أو ذبحه مجوسي أو وثني مثلًا، وكان أهل الجاهلية يقولون: إنكم تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله! واعلم أن تحريم الميتة.. موافقٌ لما في العقول؛ لأن الدم جوهر لطيف جدًّا، فإذا مات الحيوان حتف أنفه.. احتبس الدم في عروقه، وتعفن وفسد، وحصل من أكله مضار عظيمة.
والحكمة في تحريم الميتة:
١ - استقذار الطباع السليمة لها.
٢ - أنّ في أكلها مهانة تنافي عزة النفس وكرامتها.
٣ - والضرر الذي ينشأ من أكلها، سواء كانت قد ماتت بمرض، أو شدة ضعف، أو بغير ذلك.
٤ - وتعويد المسلم أن لا يأكل إلا مما كان له قصد في إزهاق روحه.
والثاني: ما ذكره بقوله: ﴿وَالدَّمُ﴾؛ أي: وحرم عليكم أكل الدم، المراد به: الدم المسفوح؛ أي: السائل المائع الذي يسفح ويراق من الحيوان وإن جمد بعد ذلك، خلاف المتجمد طبيعة؛ كالطحال، والكبد، فإنهما خصِّصَا بالحديث، وكالدم الذي يتخلل اللحم عادة؛ فإنه لا يسمَّى مسفوحًا، وكان أهل الجاهلية يملؤون الأمعاء من الدم بصبه فيها ويشوونه ويطعمونه الضيف.
وحكمه تحريم الدم: الضرر والاستقذار أيضًا، أما الضرر؛ فلأنه عسر
والثالث: ما ذكره بقوله: ﴿وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾؛ أي: وحرم عليكم أكل لحم الخنزير، والمراد به: جميع أجزائه وأعضائه، وإنما خص اللحم بالذكر؛ لأنه المقصود بالأكل.
والحكمة في تحريم لحم الخنزير (١): الضرر والاستقذار؛ لملازمته للقاذورات ورغبته فيها، أما ضرره.. فقد أثبته الطب الحديث؛ إذ أثبت أنه له ضررًا يأتي من أكله القاذورات، فإن أكله يولد الديدان الشريطية، كالدودة الوحيدة، ودودة أخرى تسمى الشعرة الحلزونية، وهي تنشأ من أكله الفيران الميتة، كما أثبت أن لحمه أعسر اللحوم هضمًا؛ لكثرة الشحم في أليافه العضلية، وأن المواد الدهنية التي فيه تمنع وصول عصير المعدة إلى الطعام، فيعسر هضم المواد الزلالية، وتتعب معدة آكله، ويشعر بثقل في بطنه واضطراب في قلبه، فإن ذرعه القيء، فقذف هذه المواد الخبيثة.. خف ضرره، وإلا تهيجت المعدة وأصيب بالإسهال، ولولا أن العادة قد جرت بتناول السموم أكلًا وشربًا وتدخينًا، ولولا ما يعالجون به لحم الخنزير لتخفيف ضرره.. لما أمكن الناس أن يأكلوه، ولا سيما أهل البلاد الحارة. قال أهل العلم: الغذاء يصير جزءًا من جوهر المغتذي، فلا بدَّ أن يحصل للمغتذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلًا في الغذاء، والخنزير مطبوع على حرص عظيم، ورغبة شديدة في المشتهيات، فحرم أكله على الإنسان؛ لئلا يتكيف بتلك الكيفية، ولذلك إن الفرنج لما واظبوا على أكل لحم الخنزير.. أورثهم الحرص العظيم والرغبة الشديدة في المشتهيات
والرابع: ما ذكره بقوله: ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾؛ أي: وحرم (١) عليكم ما ذكر على ذبحه غير اسم الله تعالى، وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا يذكرون أسماء أصنامهم عند الذبح، فحرم الله ذلك بهذه الآية، بقوله: ﴿وَلَا تَأكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾، والمعنى: ﴿وَمَا أُهِلَّ﴾؛ أي: رفع الصوت ﴿لِغَيْرِ اللَّهِ﴾؛ أي: بغير اسم الله ﴿بِهِ﴾؛ أي: عند ذبحه، فاللّام بمعنى الباء، والباء بمعنى عند، والإهلال: رفع الصوت، يقال: أهل فلان بالحج.. إذا رفع صوته بالتلبية له: "لبيك اللهم لبيك"، واستهل الصبي إذا صرخ عند الولادة، والمراد به: ما ذبح على ذكر غير الله تعالى من المخلوقات التي يعظمها الناس تعظيمًا دينيًّا، ويتقربون إليها بالذبائح، وكانوا يذبحون لأصنامهم فيرفعون أصواتهم بقولهم: باسم اللات، أو باسم العزى، وحكمة التحريم في هذا: أنه من عبادة غير الله، فالأكل منه مشاركة لأهله ومشايعة لهم عليه، وهو مما يجب إنكاره لا إقراره.
ويدخل في ذلك: ما ذكر عند ذبحه اسم نبي، أو ولي كما يفعل بعض أهل الكتاب وجهلة المسلمين الذين اتبعوا من قبلهم، وساروا على نهجهم باعًا فباعًا، وذراعًا فذراعًا.
والخامس: ما ذكره بقوله: ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾؛ أي: التي (٢) ماتت بانعصار الحلق وانحباس النفس فيها، فالمنخنقة على وجوه: منها: أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة، فإذا ماتت أكلوها، ومنها: ما يخنق بحبل الصائد، ومنها: ما يدخل رأسها بين عودين من شجرة فتختنق، فتموت.
(٢) المراح.
وهي بهذا المعنى من قبيل ما مات حتف أنفه، من حيث إنه لم يمت بتذكية الإنسان له لأجل أكله، فهي داخلة في الميتة، وإنما خصها بالذكر؛ لأن بعض العرب في الجاهلية يأكلونها، ولئلا يشتبه الأمر فيها على بعض الناس، بأن لموتها سببًا معروفًا، والعبرة في الشرع بالتذكية التي تكون بقصد الإنسان، لأجل الأكل حتى يكون واثقًا من صحة البهيمة التي يريد التغذي بها.
والسادس منها: ما ذكره بقوله: ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾؛ أي: وحرم عليكم أكل الموقوذة - من الوقذ - وهي شدة الضرب، ويقال: شاة وقيذ وموقوذة، والموقوذة هنا: هي المضروبة بخشبة، أو عصا، أو حجر، أو بكل ما لا حد له، حتى تموت بلا ذكاة، وكانوا يأكلونها في الجاهلية.
والوقذ يحرم في الإسلام (٢)؛ لأنه تعذيب للحيوان، قال - ﷺ -: "إن الله كتب الإحسان في كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" رواه مسلم وأصحاب السنن.
ولما كان الوقذ محرمًا حرم ما قتل به، وهي تدخل في عموم الميتة أيضًا على الوجه الذي ذكرنا؛ فإنها لم تذك تذكية شرعية، ويدخل في الموقوذة: ما رمي بالبندق - وهو نحو كرة من الطين تجفف ويرمى بها بعد يبسها - لما رُوي (أن رسول الله - ﷺ - نهى عن الخذف - الرمي بالحصى - والخذف لكل يابس غير محدد، سواء رمى باليد، أو بالمخذفة، أو بالمقلاع. وقال: "إنه يفقأ العين ولا ينكأ العدو، ولا يحرز صيدًا" ففي هذا الحديث نص على العلة، وهو أنه تعذيب
(٢) المراغي.
أما بندق الرصاص المستعمل الآن وما في حكمه، كالمسدس.. فإنه يصيد وينكأ، ولذا أفتى العلماء بجواز الصيد به. قال ابن (١) عبد البر: واختلف العلماء قديمًا وحديثًا في الصيد بالبندق والحجر والمعراض - ويعني بالبندق: قوس البندقة، وبالمعراض: السهم الذي لا ريش له، أو العصا الذي رأسها محدد - قال: فمن ذهب إلى أنه وقيذ.. لم يجزه إلا ما أدرك ذكاته، على ما رُوي عن ابن عمر، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأصحابه، والثوري، والشافعي، وخالفهم الشاميون في ذلك، قال الأوزاعي: في المعراض كله خرق أو لم يخرق، فقد كان أبو الدرداء، وفضالة بن عبيد، وعبد الله بن عمر، ومكحول.. لا يرون به بأسًا، قال ابن عبد البر: هكذا ذكر الأوزاعي عن عبد الله بن عمر، والمعروف عن ابن عمر ما ذكر مالك في نافع قال: والأصل في هذا الباب - والذي عليه العمل، وفي الحجة - حديث عدي بن حاتم، وفيه "ما أصاب بعرضة فلا تأكل، فإنه وقيذ" انتهى.
قلت: والحديث في "الصحيحين" وغيرها عن عدي قال: قلت: يا رسول الله إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب؟ فقال: "إذا رميت بالمعراض فخرق فكله، وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله". فقد اعتبر النبي - ﷺ - الخرق وعدمه، فالحق أنه لا يحل إلا ما خرق، ولا ما صدم، فلا بدَّ من التذكية قبل الموت، وإلا كان وقيذًا. وأما البنادق المعروفة الآن - وهي بنادق الحديد التي تحمل فيها البارود والرصاص ويُرمى بها - فلم يتكلم عليها أهل العلم؛ لتأخر حدوثها؛ فإنها لم تصل إلى الديار اليمنية إلا في المئة العاشرة من الهجرة، وقد سألني جماعة من أهل العلم عن الصيد بها إذا مات ولم يتمكن الصائد من تذكيته حيًّا؟ والذي يظهر لي.. أنه حلال؛ لأنها تخرق وتدخل في الغالب من جانب منه، وتخرج من الجانب الآخر، وقد قال - ﷺ - في الحديث السابق: "إذا رميت
وهذه الأنواع الستة السابقة (١) من أقسام الميتة، وذكرها بعدها.. من قبيل ذكر الخاص بعد العام، وإنما ذكرت بخصوصها للردّ على أهل الجاهلية؛ حيث كانوا يأكلونها ويستحلونها.
والسابع منها: ما ذكره بقوله: ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾؛ أي: الساقطة من علو إلى أسفل فماتت، من غير فرق بين أن تتردى من جبل، أو بئر، أو مدفن، أو غيرها، وسواء تردت بنفسها، أو رداها غيرها، والتردي: مأخوذ من الردى، وهو الهلاك، وهي في حكم الميتة؛ لأنه لم يكن للإنسان عمل في إماتتها، ولا قصد به إلى أكلها، ويدخل (٢) فيها: ما إذا أصابه سهم وهو في الجبل فسقط على الأرض، فإنه يحرم أكله؛ لأنه لم يعلم هل مات بالتردي أو بالسهم؟ ولو رمى صيدًا في الهواء بسهم فأصابه، فإن سقط على الأرض ومات.. حلَّ؛ لأن الوقوع على الأرض من ضرورته، وإن سقط على شجر أو جبل ثم تردى منه فمات.. لم يحل؛ لأنه من المتردية إلا أن يكون السهم ذبحه في الهواء، فيحل كيفما وقع؛ لأن الذبح قد حصل قبل التردية.
والثامن منها: ما ذكره بقوله: ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾؛ أي: وحرم عليكم أكل النطيحة، وهي: البهيمة التي تنطحها بهيمة أخرى فتموت من النطاح، من غير أن يكون للإنسان عمل في إماتتها. وقرأ أبو عبد الله وأبو ميسرة: ﴿والمنطوحة﴾.
والتاسع منها: ما ذكره بقوله: ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾؛ أي: وحرم عليكم أكل ما أكله السبع؛ أي: ما افترسه السبع ليأكله، ولو كان من جوارح السباع فمات بسبب افتراسه، سواء أكل منه أم لم يأكل، وأكله السبع؛ أي: ما افترسه السبع ليأكله، ولو كان من جوارح السباع فمات بسبب افتراسه، سواء أكل منه أم لم يأكل، وأكله منه ليس بشرط في التحريم؛ إذ يكفي فرسه إياه وقتله في تحريمه،
(٢) المراح.
وقرأ الحسن، وأبو حيوة، والفياض، وطلحة بن سليمان (١): ﴿السبع﴾ بسكون الباء، ورويت عن أبي بكر عن عاصم في غير المشهور، ورويت عن أبي عمرو، وقرأ عبد الله: (وأكيلة السبع) وقرأ ابن عباس أيضًا: ﴿وأكيل السبع﴾ وهما بمعنى مأكول السبع، وقال ابن حيان: وذكر هذه المحرمات.. هو تفصيل لما أجمل في عموم قوله: (٤) ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ وبهذا صار المستثنى والمستثنى منه معلومين.
﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾؛ أي: إلا ما أدركتموه من هذه الخمسة الأخيرة - التي أولها المنخنقة - وفيه بقية حياة ويضطرب اضطراب المذبوح، فذكيتموه وأمتموه إماتة شرعية لأجل أكله، وهو استثناء من جميع ما تقدم ذكره من المحرمات سوى ما لا يقبل التذكية، من الميتة، والدم ولحم الخنزير، وما أكل السبع، وذلك هو: ما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة.
وخلاصة المعنى: ولكن لا يحرم عليكم ما ذكيتموه بفعلكم مما يقبل التذكية، ويكفي في صحة إدراك ذكاة ما ذكر أن يكون فيه رمق من الحياة، بأن يطرف بعينه، أو يضرب بذنبه، وقد قال علي - رضي الله عنه -: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة وهي تحرك يدًا أو رجلًا.. فكلها. وإن لم يكن فيه حياة مستقرة.. فلا يحل بتذكيته؛ لأن موته حينئذ يحال على السبب المتقدم على التذكية من الخنق، وأكل السبع وغيرهما.
والعاشر منها: ما ذكره بقوله: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾؛ أي: وحرم عليكم أكل ما ذبح لأجل تعظيم النصب، فـ ﴿على﴾ بمعنى اللام التعليلية، كما قاله
وخلاصة ما تقدم (٢)؛ أن الله تعالى أحل أكل بهيمة الأنعام ولسائر الطيبات من الحيوان، ما دب منها على الأرض، وما طار في الهواء، وما سبح في البحر، لم يحرم إلا الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله تعالى.
وقد كان بعض العرب يذبح الحيوان على اسم غير الله، وهو شرك وفسق، وبعضهم يأكل الميتة ويقول: لم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ ولكنَّ الفارق بينهما: ما في هذا من مظنة الضرر، وفيه مهانة للنفس، ومن ثم جعل الله حل أكل المسلم لذلك منوطًا بإتمام موته، والإجاز عليه بفعله هو؛ ليذكر اسم الله عليه، فلا يكون من عمل الشرك، ولئلا يقع في مهانة أكل الميتة وخسة آكلها بأكله المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وفريسة السبع، إلى ما في الموقوذة من إقرار الواقذ على القسوة
(٢) المراغي.
وقرأ الجمهور (١): ﴿النُّصُبِ﴾ - بضمتين - وقرأ طلحة بن مصرف: بضم النون وإسكان الصاد، وقرأ عيسى بن عمر: بفتحتين، ورُوي عنه كالجمهور، وقرأ الحسن: بفتح النون وإسكان الصاد.
ثم أضاف إلى محرمات الطعام التي كان أهل الجاهلية يستحلونها عملًا آخر من أعمالهم وخرافاتهم، فقال: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾؛ أي: وحرم عليكم طلب معرفة ما قسم لكم من الخير والشر بواسطة ضرب القداح، وذلك أنهم إذا قصدوا سفرًا أو غزوًا أو تجارةً أو نكاحًا أو أمرًا آخر من معاظم الأمور.. ضربوا ثلاثة أقداح، مكتوب على أحدها: أمرني ربي، وعلى الثاني: نهاني ربي، والثالث: خال عن الكتابة، فإن خرج الأمر.. أقدم على الفعل، وإن خرج النهي.. أمسك، وإن خرج الغفل.. أعاد العمل مرة أخرى.
والاستقسام (٢): هو طلب معرفة ما قسم له دون ما لم يقسم له بواسطة الأزلام، والأزلام: جمع زلم، وهو قطعة من الخشب على هيئة السهم، لكن لا يركب فيه النصل الذي يجرح ما يرمى به من صيد وغيره، وكانت الأزلام ثلاثة، مكتوب على أحدها الأمر، وعلى الآخر النهي، والثالث غفل ليس عليه شيء، فإذا أراد أحدهم أمرًا من معاظم الأمور.. أجال - حرك - هذه الأزلام، فإن خرج الأمر.. مضى لما أراد، وإن خرج النهي.. أمسك عن ذلك ولم يمض فيه، وإن خرج الغفل.. أعاد الاستقسام كما مر آنفًا؛ أي: وحرم عليكم أن تطلبوا علم ما قسم لكم بالأزلام، كما كانت تفعل العرب في الجاهلية، وحكمة هذا التحريم: أنه من الخرافات والأوهام التي لا يركن إليها إلا من كان ضعيف العقل، يفعل ما يفعل من غير بينة ولا بصيرة، ويترك ما يترك كذلك، ويجعل نفسه ألعوبة للكهنة والسدنة، ويتفاءل ويتشاءم بما لا فأل فيه ولا شؤم، ومن ثمَّ
(٢) المراغي.
ومنهم من يستقسم، أو يأخذ الفأل من القرآن الكريم، فيصبغون عملهم بصيغة الدين، ويلبسون الباطل ثوب الحق، ولم يرد في هذا نص يجوز العمل به، ولكن الإلف والعادة جعلا هذه البدع مستحسنة، وتأولوا لها اسم الفأل الحسن، ورووا في ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن عائشة - رضي الله عنها - (أن رسول الله - ﷺ - كان يعجبه الفأل الحسن)، وليس هذا من الفأل الحسن، بل الفأل ضد الطيرة التي أبطلتها الأحاديث.
والعجيب من أمر بعض المسلمين أنهم تركوا الاهتداء بالقرآن، وحرموه على أنفسهم، واكتفوا من الإيمان به، والتعظيم له بالاستقسام به، كما كانت الجاهلية تستقسم بالأزلام، أو الاستشفاء بمداد تكتب به آياته في كاغد، أو جام (فنجان)، وكل هذا من الضلالات والخرافات التي لم يرد شيء منها عن رسول الله - ﷺ -، ولا عن السلف الصالح. وأعجب من ذلك جعل بعض الدّجالين الاستقسام من قبيل الاستخارة، وجعل بعضهم له من قبيل القرعة المشروعة، وكل ذلك ضلال، إذ لا بينة فيه ولا سلطان.
الاستخارة التي وردت بها السنة: هي التوجه إلى الله تعالى، والالتجاء إليه بالصلاة والدعاء بأن يزيل عن المستخير الحيرة ويرشده إلى ما فيه الفائدة فيما
والقرعة تشبه هذا، بل أمرها أظهر، فإنها إنما تكون للترجيح بين المتساويين قطعًا؛ كالقسمة بين اثنين؛ إذ لا وجه لإلزام من تقسم بينهما، بأن يأخذ زيد منهما هذه الحصة وعَمرو الأخرى، فتكون القرعة طريقة حسنة عادلة. ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾: الإشارة راجعة إلى الاستقسام بالأزلام، أو إلى جميع المحرمات المذكورة هنا، وهذا أصح. والفسق: الخروج عن الحد، وفي هذا وعيد شديد؛ لأن الفسق هو أشد الكفر، لا ما وقع عليه اصطلاح قوم من أنه منزلة متوسطة بين الإيمان والكفر؛ أي: ذلكم الاستقسام بالأزلام، أو جميع المحرمات السابقة فسق، وخروج عن الطاعة والإيمان، ورغبة في الشرك والمعاصي؛ لأنه طلب لمعرفة الغيب، وذلك حرام.
وروى (١) البغوي بسند الثعلبي عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن رسول الله - ﷺ - أنه قال: "من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره... لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة"، وذلك ضلال باعتقاد أنه طريق إلى الدخول في علم الغيب، وافتراء على الله تعالى إن كان مرادهم بربي هو الله سبحانه وتعالى. وقال قوم آخرون: إنهم كانوا يحملون تلك الأزلام عند الأصنام، ويعتقدون أن ما يخرج من الأمر والنهي على تلك الأزلام فبإرشاد الأصنام وإعانتهم، فلهذا السبب كان ذلك فسقًا؛ أي: شركًا وجهالةً، وهذا القول أقرب وأولى، كما قاله الفخر الرازي.
﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ﴾؛ أي: في هذا اليوم الحاضر، وهو يوم
وقرأ أبو جعفر (١): ﴿ييس﴾ من غير همز، ورويت عن أبي عمرو ﴿واخشون﴾ (٢) بسقوط الياء وصلًا ووقفًا، بخلاف ﴿واخشوني﴾ السابقة في البقرة، فإنها بثبوت الياء وصلًا ووقفًا اتفاقًا، وبخلاف الآتية في هذه السورة، فإنه يجوز في يائها الثبوت والحذف على الخلاف اهـ شيخنا.
﴿الْيَوْمَ﴾؛ أي: في هذا اليوم الحاضر، وهو يوم عرفة ﴿أَكْمَلْتُ لَكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿دِينَكُمْ﴾ الذي هو دين الإسلام بالنصر والإظهار على الأديان كلها، والحكم ببقائه إلى يوم القيامة، أو أكملت لكم دينكم بالفرائض والسنن والحدود، والأحكام، والحلال والحرام، ولم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام، ولا شيء من الأحكام، فلا ينافي نزول آية موعظة بعدها، كقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيْهِ إِلَى اللهِ﴾ الآية. ﴿وَرَضِيْتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيْنًا﴾؛ أي: اخترته لكم من بين الأديان، وآذنتكم بأنه هو الدين المرضي عند الله تعالى لا غير {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ
(٢) الفتوحات.
وعن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم تقرؤنها، لو علينا نزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا! قال فأي آية؟ قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على رسول الله - ﷺ - بعرفات، في يوم الجمعة، أشار عمر إلى ذلك اليوم يوم عيد لنا. متفق عليه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان في ذلك اليوم خمسة أعياد: يوم جمعة، ويوم عرفة، وعيد لليهود، وعيد للنصارى، وعيد للمجوس، لم تجتمع أعياد لأهل الملل في يوم واحد قبله ولا بعده.
﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾؛ أي: ألجىء واحتاج حاجة شديدة إلى تناول وأكل شيء
(٢) الكشاف.
وفي "الفتوحات": هذه الآية من تمام ما تقدَّم ذكره في المطاعم التي حرمها الله تعالى، ومتصلة بها، والمعنى: أن المحرمات وإنْ كانت محرمة إلا أنَّها قد تحل في حالة الاضطرار إليها، ومن قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ إلى هنا.. اعتراض وقع بين الكلامين، والغرض تأكيد ما تقدم ذكره في معنى التحريم؛ لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل، والنعمة الكاملة، والإسلام الذي هو المرضي عند الله تعالى، ومعنى الآية: فمن اضطر إلى أكل شيء مما ذكر، فأكل في مجاعة لا يجد فيها غيره، وهو غير مائل إليه لذاته، ولا جائر فيه، متجاوز قدر الضرورة.. فإنَّ الله غفور لمثله، لا يؤاخذه عليه، وهو رحيم به يرحمه ويحسن إليه.
وقرأ ابن محيصن: (فمن اطر) بإدغام الضاد في الطاء. وقرأ الجمهور ﴿مُتَجَانِفٍ﴾ بألف من تجانف - من باب: تفاعل -. وقرأ أبو عبد الرحمن، والنخعي، وابن وثاب شذوذًا: (متجنف) بدون ألف من تجنف - من باب: تفعل -.
الإعراب
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (١)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: (يا): حرف نداء. (أي): منادى نكرة مقصودة. (ها): حرف تنبيه زائد. ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿أي﴾، وجملة النداء مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجمة صلة الموصول. ﴿أَوْفُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء،
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: (يا): حرف نداء. (أي): منادى نكرة مقصودة. (ها): حرف تنبيه زائد. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع صفة لأي، وجملة النداء مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿لَا﴾: ناهية. ﴿تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ﴾: فعل وفاعل ومفعول به ومضاف إليه، مجزوم بلا الناهية، والجملة
﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾.
وَإِذَا: (الواو): استئنافية. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿حَلَلْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، ﴿فَاصْطَادُوا﴾: (الفاء): رابطة لجواب إذا. اصطادوا: فعل وفاعل، والجملة جواب إذا لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا مستأنفة. ﴿وَلَا﴾: (الواو): استئنافية. (لا): ناهية. ﴿يَجْرِمَنَّكُمْ﴾: فعل ومفعول أول، أو مفعول به. ﴿شَنَآنُ قَوْمٍ﴾: فاعل ومضاف إليه، وهو من إضافة المصدر إلى مفعوله، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿صَدُّوكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول في محل النصب بأن المصدرية، وجملة أن المصدرية مع صلتها.. في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل المقدرة المتعلقة بـ ﴿شَنَآنُ﴾، تقديره: شنآن قوم لأجل صدهم إياكم. ﴿عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾: جار ومجرور وصفة متعلق بصدوكم. ﴿أَنْ تَعْتَدُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن المصدرية، وجملة أن المصدرية في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا ليجرمنكم، والتقدير: ولا يجرمنكم
﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.
﴿وَتَعَاوَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾، أو مستأنفة. ﴿عَلَى الْبِرِّ﴾: متعلق بـ ﴿تعاونوا﴾. ﴿وَالتَّقْوَى﴾: معطوف على ﴿الْبِرِّ﴾. ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا﴾: جازم وفعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَتَعَاوَنُوا﴾. ﴿عَلَى الْإِثْمِ﴾: متعلق بلا تعاونوا. ﴿وَالْعُدْوَانِ﴾: معطوف على الإثم. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة ﴿إنَّ﴾: حرف نصب ﴿اللَّهَ﴾: اسمها ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾ ومضاف إليه، وجملة ﴿إنِّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾.
﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾: فعل مغيّر الصيغة ونائب فاعل وجار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لتفصيل ما أجمل في قوله: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ ﴿وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾: معطوفان على الميتة ﴿وَمَا﴾ (الواو): عاطفة. (ما): موصولة، أو موصوفة في محل الرفع معطوف على الميتة ﴿أُهِلَّ﴾: فعل ماض مغيّر الصيغة. ﴿لِغَيْرِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بأهل. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لأهل، والباء فيه بمعنى في، ولكنّه على حذف مضاف، أي: وما رفع الصوت لغير الله في ذبحه، والجملة الفعلية صلة لما، أو صفة لها، وكذا قوله: ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ﴾: معطوفات على الميتة ﴿وَمَا﴾: (ما): في محل الرفع معطوف على الميتة. ﴿أَكَلَ السَّبُعُ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لما، أو صفة لا، والعائد أو الرابط محذوف،
﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ﴾.
﴿الْيَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية، متعلق بيئس المذكور بعده ﴿يَئِسَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿مِنْ دِينِكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بيئس. ﴿فَلَا﴾: الفاء: حرف عطف وتفريع. لا: ناهية. ﴿تَخْشَوْهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة مفرعة على جملة يئس. ﴿وَاخْشَوْنِ﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ﴾، و (النون): نون الوقاية، و ﴿ياء﴾ المتكلم المحذوفة: اجتزء عنها بكسر نون الوقاية في محل النصب مفعول به؛ لأن أصله: واخشوني.
﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾.
﴿الْيَوْمَ﴾ منصوب على الظرفية، متعلق بما بعده. ﴿أَكْمَلْتُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بأكملت. ﴿دِينَكُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿وَأَتْمَمْتُ﴾: فعل وفاعل معطوف على أكملت. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بأتممت. ﴿نِعْمَتِي﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿وَرَضِيتُ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿أَكْمَلْتُ﴾. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق برضيت. ﴿الْإِسْلَامَ﴾: مفعول به. ﴿دِينًا﴾: تمييز محوّل عن المفعول منصوب.
﴿فَمَنِ﴾: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حرمة هذه المذكورات في حالة الاختيار، وأردت بيان حكم من اضطر إلى أكلها.. فأقول لك. (من): اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب، أو الشرط، أو هما. ﴿اضْطُرَّ﴾: فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على مَنْ. ﴿فِي مَخْمَصَةٍ﴾: جار ومجرور متعلق باضطر. ﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ﴾: منصوب على الحالية. ﴿لِإِثْمٍ﴾: متعلق بمتجانف. ﴿فَإِنَّ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب من الشرطية. ﴿إن﴾: حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿غَفُورٌ﴾: خبر أول لها. ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان، والجملة الإسمية في محل الجزم بمن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة من الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا.
التصريف ومفردات اللغة
﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾: يقال في ثلاثيه: وفى يفي وفاء، وفي رباعية: أوفى يوفي إيفاء، والوفاء والإيفاء: كل منهما الإتيان بالشيء وافيًا لا نقص فيه، قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ﴾، والمراد بالوفاء: القيام بموجب العقد، والعقود: جمع عقد، وهو في الأصل: ضد الحل، ثم أطلق على الجمع بين أطراف الشيء وربط بعضها ببعض، ويستعمل في الأجسام الصلبة؛ كعقد الحبل، وعقد البناء، ويقال: عقد اليمين، وعقد البناء؛ أي: أبرمه، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ﴾، والمراد بالعقود هنا: ما يعم جميع ما ألزمه الله عباده وعقده عليهم من التكاليف والأحكام الدينية، وما يعقدونه فيما بينهم من عقود الأمانات، والمعاملات، ونحوها مما يجب الوفاء به، أو يحسن دينًا، بأن يحمل الأمر على معنى يعم الوجوب والندب.
﴿بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾: والبهيمة: ما لا نطق له، لما في صوته من الإبهام، وخص في العرف بما عدا السباع والطير. وقال الزمخشري: البهيمة: كل ذات أربع في البر والبحر. انتهى. وقال ابن عطية: البهيمة في كلام العرب: ما أبهم
و ﴿الحرم﴾ - بضمتين -: جمع حرام، وهو المحرم بالحجّ أو العمرة، فهو صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل. ﴿شَعَائِرَ اللَّهِ﴾: جمع شعيرة، وهي معالم دينه، وغلب في مناسك الحج. ﴿وَلَا الْهَدْيَ﴾: الهدي: ما يهدى إلى الحرم من الأنعام ليذبح هناك، وهو من النسك. ﴿وَلَا القلائدَ﴾: جمع قلادة، وهو ما يعلق في العنق، وكانوا يقلدون الإبل من الهدي بنعل، أو حبل، أو لحاء شجر؛ ليعرف ولا يتعرض له أحد، وكان الحرمي ربَّما قلّد ركابه بلحا شجر الحرم، فيعتصم بذلك من السوء. ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾: جمع الآم، والآم: المقاصد، يقال: أممت الشيء إذا قصدته؛ أي: قاصدين ﴿فَضْلًا﴾؛ أي: ربحًا في التجارة. ﴿وَرِضْوَانًا﴾؛ أي: رضًا من الله يحول بينهم وبين عقوبته في الدنيا. ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ﴾: يقال: جرمة على كذا: حمله عليه وجعله يجرمه؛ أي: يكسبه ويفعله، وقال أبو عبيدة والفراء: جرمه: كسبه، فلان جريمة أهله؛ أي: كاسبهم، والجارم: الكاسب، وأجرم فلان: اكتسب الإثم، وقال الكسائي: جرم وأجرم؛ أي: كسب غيره، وجرم يجرم جرمًا: إذا قطع، وأصل الجرم: قطع الثمرة من الشجرة، وجرم بمعنى حق؛ لأن الحق يقطع عليه. قال الخليل: لا جرم أن لهم النار؛ أي: لقد حق، ﴿الشنآن﴾: البغض مطلقًا، أو الذي يصحبه التقزز من المبغوض، وهو (٢) أحد مصادر شنىء، يقال: شنىء يشنأ - من باب: علم - شنأ
(٢) البحر المحيط.
وَفَعَلَ اللَّازِمُ مِثْلُ قَعَدَا | لَهُ فُعُوْلٌ بِاطِّرَادٍ كَغدَا |
وَالثَّانِي لِلَّذِيْ اقْتَضَى تَقَلُّبَا
﴿وَالدَّمُ﴾: أصله: دمي، حذفت لامه اعتباطًا؛ أي: لغير علة تصريفية. ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾: في "المختار": وقذه: ضربه حتى استرخى وأشرف على الموت - وبابه وعد -، وشاة موقوذة: قتلت بالخشب. ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾: هي التي ينطحها غيرُها فتموت بالنطح، وهي - فعيلة بمعنى مفعولة - صفة جرت مجرى الأسماء، فوليت العوامل، ولذلك ثبت فيها الهاء وفي "القاموس": نطحه كمنعه وضربه إذا أصابه بقرنه اهـ.
﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾: السبع: اسم جنس يطلق على كل ذي ناب وظفر من الحيوان؛ كالأسد، والنمر، والدب، والذئب، والثعلب، والضبع، ونحوها. وقد أطلق على ذوات المخالب من الطير سباع، قال الشاعر:
وَسِبَاعُ الطَّيرِ تَغْدُوْ بِطَانَا | تَتَخَطَّاهُمْ فَمَا تَسْتَقِلّ |
وَجْهَانِ فِيْهِ مِنَ احْسِبْ مَعْ وَغِرْتَ وَحِرْ | تَ انْعِمْ بَئِسْتَ يَئِسْتَ أَوْلهِ يَبِسْ وَهِلاَ |
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة والبيان والبديع:
منها: الاستعارة في قوله: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾؛ حيث استعار الإتيان بالشيء غير ناقص - ككيل الطعام - للقيام بموجب تلك العقود مثلًا، الوفاء بالمأمورات: فعلها، والوفاء بالمنهيات: تركها.
ومنها: التشبيه: حيث شبه الإلزام والالتزام الجاريين بين الله وبين العباد بربط حبل بحبل؛ لأنَّ العقود حقيقة في الربوط.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿لَا تحلوا شعائر الله﴾: حيث استعار الحل - الذي هو حقيقة في الأجسام - لانتهاك حرماتها، وحيث استعار الإعلام للمتعبدات التي تَعبد الله بها العباد من الحلال والحرام.
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾؛ لأنَّ المراد القتال فيه، ففيه إطلاق المحل وإرادة الحال. وفي قوله: ﴿وَلَا الْقَلَائِدَ﴾؛ لأنّ المراد به الهدايا المقلدات، ففيه إطلاق الحال وإرادة المحل، عكس ما قبله.
ومنها: التعميم ثم التخصيص في قوله: ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾، وما بعده من المعطوفات؛ لأنها داخلة في شعائر الله.
ومنها: الحذف في مواضع، كقوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾؛ أي: أكلها.
ومنها: الإسناد إلى السبب في قوله: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ﴾؛ لأنّ البغض يكون سببًا في الاعتداء.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٥) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١٠) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)﴾.
المناسبة
قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر في الآيات السابقة الخبائث التي حرمت عليهم.. أردف هنا بذكر الطيبات التي أحلت لهم؛ لإكمال دينهم بذكر الحلال والحرام.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
ولما كان أفضل الطاعات بعد الإيمان الصلاة، والصلاة لا تكمن إلا بالطهارة.. بدأ بالطهارة وشرائط الوضوء، وذكر البدل عنه عند تعذر الماء، ولما كانت محاولة الصلاة في الأغلب إنّما هي بالقيام.. عبر بلفظ ﴿إِذَا قُمْتُمْ﴾؛ أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة.
وعبارة المراغي هنا (٢): واعلم أن بين العبد وربه عهدين: عهد الربوبية والإحسان، وعهد العبودية والطاعة، وبعد أن وفى له بالعهد الأول، وبيَّن له ما يحل وما يحرم من لذات الحياة في الطعام والنكاح.. طلب إليهم الوفاء بالعهد الثاني، وهو عهد الطاعة، وأعظم الطاعات بعد الإيمان الصلاة، والصلاة لا يمكن إقامتها إلا بالطهارة، لا جرم بدأ الله بذكر فرائض الوضوء.
قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين (٣) طائفة من الأحكام المتعلقة بالعادات.. ذكرنا بعهده وميثاقه علينا، وما التزمناه من السمع والطاعة له ولرسوله بقبول دينه الحق، لنقوم به مخلصين.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (٤) أمر عباده بالوفاء بالعقود عامة، ثم امتن عليهم بإباحة كثير من الطيبات لهم، وتحريم ما يضرّهم
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
(٤) المراغي.
قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها (١): لما ذكر تعالى أوامر ونواهي.. ذكر وعد من اتبع أوامره واجتنب نواهيه.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: لما ذكر ما لِمَنْ آمن.. ذكر ما لِمَنْ كفر.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما رواه (٢) الطبراني والحاكم والبيهقي وغيرهم عن أبي رافع قال: جاء جبريل إلى النبي - ﷺ -، فاستأذن عليه، فأذن له، فأبطأ، فأخذ رداءه فخرج إليه وهو قائم بالباب، فقال: قد أذنا لك، قال: "أجل، ولكنا لا ندخل بيتًا فيه صورة ولا كلب" فنظروا، فإذا في بعض بيوتهم جرو، فأمر أبا رافع: "لا تدع كلبًا بالمدينة إلا قتلته" فأتاه الناس، فقالوا: يا رسول الله، ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ...﴾ الآية.
وروى ابن جرير عن عكرمة أن رسول الله - ﷺ - بعث أبا رافع في قتل الكلاب حتى بلغ العوالي، فدخل عاصم بن عدي، وسعد بن أبي خيثمة، وعويمر بن ساعدة، فقالوا: ماذا أحل لنا يا رسول الله؟ فنزلتْ: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا
(٢) لباب النقول.
قال ابن الجوزي (١): وأخرج الحاكم في "صحيحه" حديث أبي رافع، قال البغوي: فلما نزلتْ هذه الآية.. أذن رسول الله - ﷺ - في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها. وقال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين - وهو زيد بن الخيل الذي سمّاه رسول الله - ﷺ - زيد الخير - قالا: يا رسول الله، إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، فماذا يحل لنا؟ فنزلت هذه الآية، قال البغوي: وهذا القول أصح في سبب نزولها.
قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما رواه البخاري من طريق مالك بن أنس عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: خرجنا مع رسول الله - ﷺ - في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش.. انقطع عقد لي، فأقام رسول الله - ﷺ - على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله - ﷺ - واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله - ﷺ - والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله - ﷺ - على فخذي، فقام رسول الله - ﷺ - حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم ﴿فَتَيَمَّمُوا﴾، فقال أسيد بن حضير: ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فأصبنا العقد تحته، وفي رواية فنزلت ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ إلى قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
والحديث أخرجه البخاري في مواضع، وأخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، ومالك في الموطأ، وعبد الرزاق، والحاكم، وابن جرير.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ﴾ الآية، في سبب نزولها ثلاثة أقوال (١):
الأول: أنها نزلت في شأن يهود من بني قريظة، أو بني النضير، وذلك أنّ النبي - ﷺ - وأبا بكر وعمر عثمان وعليًّا دخلوا عليهم - وقد كانوا عاهدوا النبي - ﷺ - على ترك القتال، وعلى أن يعينوه في الدِّيات - فطلب منهم مالًا قرضًا لدية رجلين مسلمين، أو معاهدين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ يحسبهما مشركين أو حربيين، فقالوا: اجلس حتى نطعمك ونعطيك ما تريد، ثم همو بالفتك برسول الله - ﷺ - وبأصحابه، فجاء عمرو بن جحاش برحى عظيمة ليطرحها عليه - ﷺ - بموافقتهم، فأمسك الله تعالى يده، فنزل جبريل عليه - ﷺ - وأخبره بذلك، فقام في الحال مع أصحابه، وخرجوا إلى المدينة.
والثاني: عن قتادة أنها نزلت في قوم من العرب، وهم بنو ثعلبة وبنو محارب، أرادوا الفتك برسول الله - ﷺ -، وهو في غزوته، فأرسلوا إليه أعرابيًّا ليقتله ببطن نخل، وذلك أن رسول الله - ﷺ - نزل منزلًا، وتفرق عنه أصحابه يستظلون في شجر العضاه، وعلق رسول الله - ﷺ - بشجرة، فجاء أعرابي وسل سيف رسول الله - ﷺ -، ثم أقبل عليه وقال: يا محمد من يمنعك مني؟ قال النبي - ﷺ -: "الله" - قالها ثلاثًا -، فأسقطه جبريل من يده، فأخذه النبي - ﷺ - وقال: "من يمنعك مني"؟ فقال: لا أحد، ثم صاح رسول الله - ﷺ - بأصحابه، فأخبرهم، ولم يعاقبه. وفي رواية: أن الأعرابي قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن
وعلى هذين القولين فالمراد من قوله تعالى: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ تذكير نعمة الله عليهم بدفع الشر عن نبيهم، فإنه لو حصل ذلك.. لكان من أعظم المحن.
والثالث: أنها نزلت في شأن المشركين أنهم رأوا رسول الله - ﷺ - وأصحابه بعسفان في غزوة ذي أنمار، وهي غزوة ذات الرقاع، وهي السابعة من مغازيه - ﷺ -، وذلك أن المسلمين قاموا إلى صلاة الظهر بالجماعة فلمَّا صلوا.. ندم المشركون في عدم إكبابهم عليهم، وقالوا: ليتنا أوقعنا بهم في أثناء صلاتهم، فقيل لهم: إن للمسلمين بعد هذه الصلاة صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وآبائهم، فهموا بأن يوقعوا بهم إذا قاموا إلى صلاة، فرد الله تعالى كيدهم بأن أنزل جبريل بصلاة الخوف.
التفسير وأوجه القراءة
٤ - وقوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾: شروع منه في بيان ما أحله الله لهم، بعد بيان ما حرمه عليهم؛ أي: يسألك المؤمنون يا محمد ﴿مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ﴾؛ أي: أي شيء أحل لهم؟ أو ما الذي أحل لهم من المطاعم إجمالًا، ومن الصيد ومن طعام أهل الكتاب ومن نسائهم؟ والسائلون هم: عاصم بن عدي، وسعد بن أبي خيثمة، وعويمر بن ساعدة، كذا قاله عكرمة كما مر في مبحث أسباب النزول، أي: يسألك المؤمنون ماذا أحل الله لهم من الطعام؛ ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد في الجواب ﴿أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾؛ أي: أحل الله سبحانه وتعالى لكم أيها المكلفون المستلذات والمشتهيات التي تستطيبها النفوس السليمة الفطرة، المعتدلة المعيشة بمقتضى طبعها، فتأكلها باشتهاء واستلذاذ مما لم يرد بتحريمه نص من كتاب، أو سنة، وما أكله الإنسان كذلك يسيغه ويهضمه بسهولة ويتغذى بها غذءًا صالحًا، وما يستخبثه ويعافه لا يسهل عليه هضمه ويضرّه غالبًا، فما حرّمه الله تعالى في الآية السابقة خبيث بشهادة الله الموافقة للفطرة المعتدلة، وأصحاب الفطر السليمة يعافون أكل الميتة حتف أنفها، وما ماثلها من فرائس السباع، والمترديات،
والخلاصة: أحل لكم أيها المكلفون ما يستطاب أكله ويشتهى دون ما يخبث أو يعاقب ﴿و﴾ أحل لكم أيضًا ﴿ما علمتم من الجوارح﴾؛ أي: صيد ما علمتموه من الكواسب، وسُمِّيت جوارح؛ لأنها تجرح الصيد؛ أي: من الحيوان الذي يكسب لكم بالاصطياد من سباع البهائم والطير؛ كالكلب، والباز، حال كونكم ﴿مُكَلِّبِينَ﴾؛ أي: معلّمين الجوارح كيفية الاصطياد، جمع مكلب، والمكلب: معلم الكلاب لكيفية الاصطياد، ويقرأ ﴿مكلبين﴾ - بالتشديد والتخفيف - يقال: كلبت الكلب وأكلبته فتكالب، أي: علمته فتعلم الاصطياد، ذكره أبو البقاء، وحالة كونكم ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ﴾؛ أي: تعلمون تلك الجوارح الاصطياد ﴿مِمَّا عَلَّمَكُمُ﴾ من طرق التعليم، ومن الحيل في الاصطياد، والجملة الفعلية حال ثانية من ضمير علمتم، والمقصود من التكرار: المبالغة في اشتراط التعليم، وأن يكون من يعلم الجوارح نحريرًا في علمه، موصوفًا بالتأديب.
قال أبو حيان (١): وأقصى غاية التعليم: أن يشلى فيستشلى، ويدعى فيجيب، ويزجر بعد الظفر فينزجر، ويمتنع من أن يأكل من الصيد. وقوله: ﴿مُكَلِّبِينَ﴾؛ أي: معلمين، حال مؤكدة لعلمتم، وفائدة هذه الحال - وإن كانت مؤكدة فكان يستغنى عنها - أن يكون المعلم مؤتمرًا بالتعليم، حاذقًا فيه، موصوفًا به، واشتقت هذه الحال من الكلب، وإن كانت جاءت غايةً في الجوارح على سبيل التغليب؛ لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب، فاشتقت من لفظه؛ لكثرة ذلك في جنسه.
وقرأ ابن عباس وابن الحنفية (٢): ﴿وما عُلِّمتم﴾ مبنيًّا للمفعول، أي: من أمر الجوارح والصيد بها، وقرأ أيضًا: ﴿مُكْلِبين﴾ من أكلب. وفعل وأفعل قد يشتركان، وظاهر قوله: ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ﴾ حصول التعليم من غير اعتبار عدد، وكان
(٢) البحر المحيط.
وقوله: ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾؛ أي: إن تعليمكم إياهن ليس من قبل أنفسكم، إنّما هو من العلم الذي علمكم الله، وهو أن جعل لكم روية وفكرًا، بحيث قبلتم العلم، فكذلك الجوارح، يصير لها إدراك ما وشعور بحيث يقبلن الائتمار والانزجار، وفي قوله: ﴿مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾ إشعار ودلالة على فضل العلم وشرفه، إذ ذكر ذلك في معرض الامتنان، ومفعول علم وتعلمونهن الثاني محذوف، تقديره: وما علمتموه طلب الصيد لكم، لا لأنفسهن تعلمونهن ذلك، وفي ذلك دلالة على أن صيد ما لم يعلم حرام أكله؛ لأن الله تعالى إنما أباح ذلك بشرط التعليم، والدليل على ذلك الخطاب في ﴿عَلَيْكُمْ﴾ في قوله: ﴿فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ وغير المعلم إنما يمسك لنفسه، وقوله: ﴿مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾؛ أي: من الأدب الذي أدبكم به تعالى، وهو اتباع أوامره واجتناب نواهيه، فإذا أمر فائتمر، وإذا زجر فانزجر.. فقد تعلم مما علمنا الله تعالى. انتهى. والفاء في قوله: ﴿فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ تفريعية (١)؛ لأنّ الجماة مفرعة على ما تقدم من تحليل صيد ما علموه من الجوارح، و ﴿مِنْ﴾ في قوله: ﴿مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ للتبعيض؛ لأنّ بعض الصيد لا يؤكل، كالجلد، والعظم، والفرث، وما أكل الكلب منه؛ أي: كلوا بعض ما أمسكنه لكم، وهو الذي لم يأكلن منه.
أي: فكلوا (٢) من الصيد ما تمسكه الجوارح عليكم؛ أي: تصيده لأجلكم، فتحبسه وتقفه عليكم بعدم أكلها منه، فإنْ أكلت منه.. فلا يحل أكل ما فضل عنها عند الجمهور؛ لأنه مثل فريسة السبع المحرمة في الآية السالفة. ﴿وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾؛ أي: سموا الله على ما علمتم من الجوارح عند إرساله إلى الصيد؛
(٢) المراغي.
والتسمية واجبة عند أبي حنيفة ومستحبه عند الشافعي. وعن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - ﷺ - فقلت: إنا قوم نصيد بهذه الكلاب، فقال: "إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل مما أمسك عليك إلا أن يأكل الكلب، فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك لنفسه، وإن خالط كلابًا لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن وقتلن فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره" وفي رواية: "فإنك لا تدري أيها قتل"، وسألته عن صيد المعراض فقال: "إذا أصبت بحده فكل، وإذا أصبت بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل، وإذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل، فإن وقع في الماء فلا تأكل". متفق عليه. وعن أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله إنَّا بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم وبكلبي المعلم فما يصلح لي؟ قال: "أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب: فإن وجدتم غيرها.. فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا غيرها.. فاغسلوها وكلوا فيها، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل". أخرجه أبو داود بسند جيد.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أيها المؤمنون فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، ولا تقدموا على مخالفته، فتأكلوا من صيد الجوارح الغير المعلمة، أو مما تمسك عليكم من
وبعد أن بين وجوب التذكية للذبائح لإبعاد المسلمين مما كان عليه المشركون من أكل الميتة، وشدد في التسمية على الطعام من صيد أو ذبيحة لإبعادهم عما كانوا عليه من الذبح لغير الله بالإهلال به لأصنامهم ليطهرهم من كل ما كانوا عليه من أدران الشرك..
٥ - بين حكم مؤاكلة أهل الكتاب ومناكحتهم، لأنَّهم لما كانوا في الأصل أهل توحيد ثم سرت إليهم نزعات الشرك ممن دخل في دينهم من المشركين، كان هذا مظنة التشديد في مؤاكلتهم ومناكحتهم؛ كما شدد في أكل ذبائح مشركي العرب، ونكاح نسائهم، فذكر أنا لا نعاملهم معاملة المشركين في ذلك، بل تحل لنا مؤاكلتهم، ونكاح نسائهم فقال: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾ هذه الجملة مؤكدة للجملة الأولى وهي قوله: ﴿أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾؛ أي: الآن أحل لكم المستلذات المشتهيات لأهل المروء والأخلاق الجميلة على سبيل التفصيل، بعد أن كان حلالًا لكم بالإجمال، وصار حكمها مستقرًّا ثابتًا.
وعبارة الخازن: وإنما كرر إحلال الطيبات للتأكيد، كأنَّه قال: اليوم أحل لكم الطيبات التي سألتم عنها، ويحتمل أن يراد باليوم اليوم الذي أنزلت فيه هذه الآية، أو اليوم الذي تقدم ذكره في قوله: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ﴾. ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾. ويكون الغرض من ذكر هذا الحكم أنه تعالى قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ فبين أنه كما أكمل الدين وأتم النعمة.. فكذلك أتم النعمة بإحلال الطيبات، وقيل: ليس المراد باليوم يومًا معينًا.
وفي هذه الآية: دليل (١) على أن جميع طعام أهل الكتاب من غير فرق بين اللحم وغيره حلال للمسلمين، وإن كانوا لا يذكرون على ذبائحهم اسم الله، وتكون هذه الآية مخصصة لعموم قوله: ﴿وَلَا تَأكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾. وظاهر هذا أن ذبائح أهل الكتاب حلال، وإن ذكر اليهودي في ذبيحته اسم عزير، وذكر النصراني على ذبيحته اسم المسيح، وإليه ذهب أبو الدرداء وعبادة بن الصامت وابن عباس والزهري وربيعة والشعبي ومكحول، وقال علي وعائشة وابن عمر: إذا سمعت الكتابي يسمي غير الله فلا تأكل، وهو قول طاووس والحسن وتمسكوا بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَأكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ ويدل عليه قوله تعالى: ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾. وقال مالك: إنه يكره ولا يحرم، فهذا الخلاف إذا علمنا أن أهل الكتاب ذكروا على ذبائحهم اسم غير الله، وأمَّا مع عدم العلم فقد حكى الطبري، وابن كثير الإجماع على حلها لهذه الآية، ولما ورد في السنة من أكله - ﷺ - من الشاة المصلية التي أهدتها إليه اليهودية، وهو في "الصحيح"، وكذلك جراب الشحم الذي أخذه بعض الصحابة من خيبر، وعلم بذلك النبي - ﷺ - وهو في "الصحيح" أيضًا، وغير ذلك، والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، وأمَّا المجوس: فذهب الجمهور إلى أنها لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم،
﴿وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ﴾؛ أي: وذبائحكم أيها المؤمنون حل لأهل الكتاب، فلا جناح عليكم أن تطعموهم من طعامكم أو تبيعوهم منه. وفائدة (١) ذكر ذلك: بيان أن إباحة الذبائح حاصلة من الجانبين، وليس كذلك إباحة المناكحة، فذكره للتمييز بين النوعين، وقال الشوكاني: وهذا من باب المكافأة والمجازاة، وإخبار للمسلمين بأن ما يأخذونه منهم من أعراض الطعام حلال لهم بطريق الدلالة الالتزامية.
﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ﴾؛ أي: وأحل لكم أيها المؤمنون نكاح الحرائر العفائف من المؤمنات إذا أعطيتموهن مهورهن، وإنما خص المحصنات بالذكر - وهن الحرائر أو العفائف - ليحث المؤمنين على تخيير النساء، ليكون الولد كريم الأصل من الطرفين، لا لنفي نكاح من عداهن، فإن نكاح الإماء المسلمات صحيح بالاتفاق عند توفر الشرائط، وكذا نكاح غير العفيفات إذا تابت وحسنت توبتها. روى (٢) طارق بن شهاب أن رجلًا أراد أن يزوج أخته فقالت: إني أخشى أن أفضحك، إني قد بغيت، فأتى عمر، فذكر ذلك له منها فقال: أليس قد ثابت؟ قال: بلى. قال: فزوجها. وقرأ الشعبي: بكسر الصاد وبه قرأ الكسائي وقد تقدم الكلام في هذا مستوفى في البقرة والنساء، وذكرهن هنا توطئة وتمهيدًا لقوله: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾؛ أي: وأحل لكم أيها المؤمنون نكاح الحرائر من الذين أعطوا الكتاب من قبلكم وهم اليهود والنصارى ﴿إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾؛ أي: إذا أعطيتم من نكحتم من محصناتهم مهورهن، وتقييد الحل بإيتاء المهور لتأكيد الوجوب لا لاشتراطه في الحل، والتقييد بالحرائر لإخراج الإماء الكتابيات لأنه لا يجوز نكاحها إلا عند أبي حنيفة.
(٢) الخازن.
وعبارة الخازن هنا: يعني ولا منفردين ببغيّ واحدة قد خادنها وخادنته، واتخذها لنفسه صديقة يفجر بها وحده، فقد حرم الله الجماع على جهة السفاح وهو الزنا، واتخاذ الصديق وهو الخدن، وأحله على جهة الإحصان، وهو التزوج بعقد صحيح. والمحصنون الأعفاء عن الزنا، والمسافحون الذين يأتون الفاحشة، مجاهرين بها، والمتخذوا الأخدان: الذين يأتونا سرًّا بالاختصاص بخدن من الأخدان، والخدن يطلق على الصاحب والصاحبة؛ أي: هن حل لكم إذا آتيتموهن أجورهن فعلًا، أو التزمتم بها حال كونكم أعفاء عن الزنا جهرًا وسرًّا، إذ المقصد من الزواج أن يكون الرجل محصنًا والمرأة محصنة يعف كل منهما الآخر، يجعله في حصن يمنعه من الفاحشة على أي وجه كانت، فلا يزني جهرة ولا سرًّا باتخاذ صاحبة خاصة به، ولا تكون المرأة كذلك.
﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ﴾؛ أي: ومن يجحد وينكر ما أمر الله به من توحيده، ونبوة محمد - ﷺ -، وما جاء به من عند الله تعالى ﴿فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾؛ أي: فقد بطل ثواب عمله الذي كان عمله في الدنيا، وخاب وخسر في الدنيا والآخرة، قيل في معنى الآية: ومن ينكر بشرائع الإسلام وتكاليفه التي من جملتها ما بين هنا من الأحكام المتعلقة بالحل والحرمة، ويمتنع عن قبولها.. فقد حبط عمله
٦ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وصدقوا بما جاء به محمد - ﷺ - ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾؛ أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة تعبيرًا بالمسبب الذي هو القيام عن السبب الذي هو الإرادة على حد قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٩٨)﴾؛ أي: إذا أردت قراءته، وجمور المسلمين على أن الطهارة لا تجب على من قام إلى الصلاة إلا إذا كان محدثًا؛ أي: إذا أردتم فعل الصلاة والقيام إليها وأنتم محدثون.. فاغسلوا وجوهكم... إلخ، رفعًا للحديث الأصغر، وهذا التقييد مستفاد من السنة العملية في الصدر الأول. فقد روى أحمد ومسلم وأصحاب السنن من حديث بريدة قال: كان النبي - ﷺ - يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه، وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: يا رسول الله إنك فعلت شيئًا لم تكن تفعله؟ فقال: "عمدًا فعلته يا عمر". وروى البخاري وأصحاب السنن عن عمرو بن عامر الأنصاري سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي - ﷺ - يتوضأ عند كل صلاة قال: قلت: فأنتم كيف تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث. وروى أحمد والشيخان من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ". فهذه الأخبار تدل على أن المسلمين لم يكونوا في عهد النبي - ﷺ - يتوضؤون لكل صلاة، وإنما كان النبي - ﷺ - يتوضأ لكل صلاة غالبًا،
والخلاصة: أن الوضوء لا يجب إلا على المحدث، وإنما يستحب تجديده لكل صلاة. وفروض الوضوء المذكورة في هذه الآية أربعة:
الأول: غسل الوجه، وذكره سبحانه وتعالى بقوله: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾؛ أي: أمروا (١) الماء عليها، ولا حاجة إلى الدلك خلافًا لمالك. والغَسل بالفتح: إسالة الماء على الشيء لإزالة ما عليه من وسخ ونحوه، والوجوه: جمع وجه وحده: من أعلى تسطيح الجبهة إلى أسفل اللَّحْيَيْن طولًا، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضًا؛ لأنَّه مأخوذ من المواجهة الحاصلة بما ذكر، فيجب غسل جميع الوجه في الوضوء، ويجب إيصال الماء إلى ما تحت الحاجبين وأهداب العينين والعذارين، والشارب والعنفقة، وإنْ كانت كثة، وأما اللحية: فإن كانت كثة لا ترى البشرة من تحتها.. لا يجب غسل ما تحتها، ويجب غسل ما تحت اللحية الخفيفة؛ والخفيفة هي ما ترى بشرتها من خلالها في مجلس التخاطب، والكثة بخلافها.
واستدل الشافعي على وجوب النية عند غسل الوجه بهذه الآية (٢)، وحجته أن الوضوء مأمور به، وكل مأمور به يجب أن يكون منويًّا، ولما روي في "الصحيحين" من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، أن النبي - ﷺ - قال: "إنّما الأعمال بالنيات، وإنَّما لكل امرئ ما نوى". والوضوء من الأعمال، ويجب أن يكون منويًّا، وإنَّما قلنا: إن الوضوء مأمور به، وإنَّه من أعمال الدين؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾. والإخلاص عبارة عن النية
(٢) الخازن.
واستدل أبو حنيفة على عدم وجوب النية في الوضوء بهذه الآية، قال: إن النية ليست شرطًا لصحة الوضوء؛ لأنَّ الله تعالى أوجب غسل الأعضاء الأربعة في هذه الآية، ولم يوجب النية فيها، فإيجاب النية زيادة على النص، والزيادة على النص نسخ، ونسخ القرآن بخبر الواحد وبالقياس غير جائز. وأجيب عنه بأنا إنَّما أوجبنا النية في الوضوء بدلالة القرآن وهو قوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾.
والفرض الثاني من فروض الوضوء المذكورة في القرآن: غسل اليدين، وذكره الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿و﴾ اغسلوا ﴿أيديكم إلى المرافق﴾ والأيدي جمع يد، وحدها في الوضوء: من رؤوس الأصابع إلى المرفق. والمرفق بكسر أوله هو من الإنسان أعلى الذراع وأسفل العضد؛ أي: مجتمع الذراع والعضد. وذهب جمهور العلماء إلى وجوب إدخال المرفقين في الغسل، وحجتهم أن كلمة ﴿إلى﴾ هنا بمعنى (مع) نظير قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾؛ أي: مع أموالكم.
ويعضده من السنة ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه توضأ، فغسل وجهه، فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - ﷺ - يتوضأ.
ونقل عن مالك والشعبي وزفر وأبي بكر بن داود الظاهري: أنَّه لا يجب إدخال المرفقين في الغسل، واختاره ابن جرير الطبري. ونقل عن مالك وقد سئل عن قول الله عز وجل: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ فقال: الذي أمر به أن يبلغ المرفقين في الغسل لا يجاوزهما. وحجة أصحاب هذا القول أن كلمة (إلى) لانتهاء الغاية، وما يجعل غاية للحكم يكون خارجًا عنه كما في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾؛ ولأن الحد لا يدخل في المحدود، فوجب أن
وأجيب عنها بأنَّ الحد إذا كان من جنس المحدود دخل فيه، كما في هذه الآية؛ لأنَّ المرفق من جنس اليد، وإذا لم يكن من جنس المحدود.. لم يدخل فيه، كما في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ لأنَّ النهار من غير جنس الليل، فلا يدخل فيه.
والثالث من فروض الوضوء المذكورة في القرآن: مسح الرأس، وذكره بقوله عز وجل: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ جمع رأس والرأس معروف. وقد اختلف فقهاء الأمصار في أقل ما يحصل به فرض مسح الرأس، فقال الشافعي: يكفي أقل ما يصدق عليه اسم المسح ولو شعرة. وقال مالك: يجب مسح جميعه وهو إحدى الروايتين عن أحمد، والرواية الأخرى عنه أنه يجب مسح أكثره. وقال أبو حنيفة: يجب مسح ربعه؛ لأن المسح إنَّما يكون باليد وهي تستوعب مقدار الربع في الغالب، وفي رواية أخرى عنه: أنه يجب مسح قدر ثلاثة أصابع منه.
والمراد إلصاق المسح بالرأس، وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح بالرأس، فأخذ مالك بالاحتياط فأوجب الاستيعاب، وأخذ الشافعي باليقين فأوجب مسح ما يقع عليه اسم المسح، وأخذ أبو حنيفة ببيان السنة وهو ما يروى عن الصغيرة بن شعبة أن النبي - ﷺ -: (توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين) متفق عليه. وقدرت الناصية بربع رأس.
والفرض الرابع من الفروض المذكورة في القرآن: غسل الرجلين، وذكره الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿و﴾ اغسلوا ﴿أرجلكم إلى الكعبين﴾ أي مع الكعبين. والكعبان: ها العظمان الناتئان عند مفصل الساق من الجانبين، أي: واغسلوا أرجلكم مع الكعبين ويؤيده عمل النبي - ﷺ - وعمل الصحابة، وقول أكثر الأئمة. قد روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي - ﷺ - رأى رجلًا لم يغسل عقبة فقال: "ويل للأعقاب من النار". وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: تخلف عنا رسول الله - ﷺ - في سفرة، فأدركنا وقد أرهقنا العصر، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، قال: فنادى بأعلى صوته: "ويل للأعقاب من النار" مرتين أو ثلاثًا،
والخلاصة: أن غسل الرجلين المكشوفتين ومسح المستورتين هو الثابت بالسنة، المتواترة المبينة للقرآن، والموافق لحكمة هذه الطهارة.
وقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر عنه (١): ﴿وأرجلِكم﴾ بالجر، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه والكسائي ويعقوب: ﴿وأرجلَكم﴾ بالنصب. أما على قراءة الجر فهو إما معطوف على الرؤوس، فكما يجب المسح في الرؤوس كذلك من الأرجل، وإنَّما عطفت الأرجل على الممسوح للتنبيه على الإسراف في استعمال الماء فيها؛ لأنها موضع صب الماء كثيرًا، والمراد غسلها، أو مجرور بحرف جر محذوف متعلق بـ فعل محذوف، تقديره: وافعلوا بأرجلكم غسلًا، وحذف حرف الجر وإبقاء الجر جائز، ولا يجوز هذا الكسر على الجوار على أنَّه منصوب في المعنى، عطفًا على المغسول؛ لأنَّ الجر بالجوار لا يرتكب إلا عند أمن اللبس، وهنا لا يؤمن اللبس، وأيضًا شرطه أن يكون بدون عاطف، والعاطف هنا موجود. وأمَّا على قراءة النصب فهو إمَّا معطوف على الرؤوس؛ لأنه منصوب المحل، والعطف على المحل جائز كالعطف على اللفظ كما هو مشهور عند النحاة، وإمّا معطوف على وجوهكم، فظهر لنا أن العامل في قوله: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾ أحد شيئين، إمَّا قوله: ﴿وَامْسَحُوا﴾. وإمَّا قوله: ﴿فَاغْسِلُوا﴾ ولكن الأولى إعمال الأقرب منهما، حتى إن
فصل
قد تقدم أن الفروض المذكورة في هذه الآية أربعة، وهي: غسل الوجه، وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين، وقد تقدم استدلال الشافعي بهذه الآية على وجوب النية في الوضوء، فصارت فرضًا خامسًا، وذهب الشافعي ومالك وأحمد إلى وجوب الترتيب في الوضوء، وهو أن يغسل الأعضاء في الوضوء على الولاء كما ذكره الله تعالى في هذه الآية، فيغسل وجهه أولًا، ثم يديه، ثم يمسح رأسه، ثم يغسل رجليه، فصار الترتيب فرضًا سادسًا. وذهب أبو حنيفة إلى أن الترتيب في الوضوء غير واجب، واحتج الشافعي على وجوب الترتيب بهذه الآية، وذلك أن الله تعالى أمر بغسل الوجه، ثم بغسل اليدين، ثم بمسح الرأس، ثم بغسل الرجلين، فوجب أن يقع الفعل مرتبًا كما أمر الله تعالى، ولقوله - ﷺ - في حديث حجة الوداع "أبدأ بما بدأ الله به". وهذا الحديث وإن ورد في قصة السعي بين الصفا والمروة، فإنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولأن أفعال النبي - ﷺ - في الوضوء ما وردت إلا مرتبة، كما ورد في نص الآية، ولم ينقل عنه ولا عن غيره من الصحابة أنه توضأ منكسًا أو غير مرتب، فثبت أن ترتيب أفعال الوضوء كما أمر الله تعالى ونص عليه في هذه الآية واجب، واحتج أبو حنيفة لمذهبه بهذه الآية أيضًا وذلك: أن الواو لا تفيد الترتيب، فإذا قلنا بوجوب الترتيب صار ذلك زيادة على النص، وذلك غير جائز. وأجيب عنه بأنه لم ينقل عن النبي - ﷺ - أنه توضأ إلا
فصل في ذكر الأحاديث التي وردت في صفة الوضوء وفضله عن حمران مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه أن عثمان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرات، فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويديه إلى المرفقين ثلاثًا، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرات إلى الكعبين، ثم قال: رأيت رسول الله - ﷺ - توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال: "من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه.. غفر له ما تقدم من ذنبه". متفق عليه.
زاد في رواية بعد قوله "فأقبل بيديه وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه".
وعن عبد خير قال: أتانا علي كرم الله وجهه - وقد صلى - فدعا بطهور، فقلنا: ما يصنع بالطهور وقد صلى! ما يريد إلا ليعلمنا، فأتي بإناء فيه ماء وطست فأفرغ من الإناء على يمينه، فغسل يديه ثلاثًا، ثم تمضمض واستنشق ثلاثًا، فمضمض ونثر من كف يأخذ منه، ثم غسل وجهه ثلاثًا، وغسل يده اليمنى ثلاثًا، وغسل الشمال ثلاثًا، ثم جعل يده في الإناء فمسح رأسه مرة واحدة، ثم غسل رجله اليمين ثلاثًا، ورجله الشمال ثلاثًا، ثم قال: من سره أن يعلم وضوء رسول الله - ﷺ - فهو هذا. أخرجه أبو داود.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رجلًا أتى النبي - ﷺ - فقال: يا رسول الله كيف الطهور؟ (فدعا بماء في إناء، فغسل كفيه ثلاثًا، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ثم غسل ذراعيه ثلاثًا، ثم مسح برأسه، فأدخل أصبعيه السبابتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه، ثم غسل رجليه ثلاثًا، ثلاثًا، ثم قال: هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم، أو قال: ظلم وأساء). أخرجه أبو داود.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله - ﷺ - مسح برأسه وأذنيه
وعن جابر رضي الله عنه قال: أخبرني عمر بن الخطاب أن رجلًا توضأ، فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي - ﷺ - فقال: "ارجع وأحسن وضوءك"؟ قال: فرجع فتوضأ ثم صلى. أخرجه مسلم.
وعن خالد رضي الله عنه عن بعض أصحاب النبي - ﷺ - أنَّ النبي - ﷺ - رأى رجلًا وفي قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره النبي - ﷺ - أن يعيد الوضوء والصلاة. أخرجه أبو داود.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: تخلف عنا رسول الله - ﷺ - في سفرة سافرناها فأدركنا - وقد أرهقتنا الصلاة - ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادانا بأعلى صوته: "ويل للأعقاب من النار" مرتين أو ثلاثًا. متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبي - ﷺ - توضأ مرة مرة. أخرجه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - ﷺ - توضأ مرتين مرتين. أخرجه أبو داود والترمذي وقال: وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - ﷺ - توضأ ثلاثًا ثلاثًا.
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: كان علينا رعاية الإبل، فجاءت نوبتي، فروحتها بعشي، فأدركت رسول الله - ﷺ - قائمًا يحدث الناس، فأدركت من قوله: "ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة فقلت ما أجود هذا، فإذا قائل بين يدي يقول: التي قبلها أجود، فنظرت فإذا عمر قال: إنِّي قد رأيتك جئت آنفًا؟ قال: ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وأن
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال "إذا توضأ العبد المسلم - أو المؤمن - فغسل وجهه.. خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه.. خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه.. خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيًّا من الذنوب". أخرجه مسلم.
وعن نعيم بن عبد الله بن المجمر، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي - ﷺ - قال: "إنَّ أمتي يدعون يوم القيامة غرًّا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل". متفق عليه.
وفي رواية قال: رأيت أبا هريرة رضي الله عنه يتوضأ، فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - ﷺ - يتوضأ، وقال: قال رسول الله - ﷺ -: "أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله". وفي راوية لمسلم قال: سمعت خليلي رسول الله - ﷺ - يقول: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - ﷺ - قال: "من توضأ على طهر.. كتب الله له به عشر حسنات". أخرجه الترمذي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه". أخرجه أبو داود وابن ماجه.
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا﴾؛ أي: أصحاب جنابة وحدث أكبر؛ أي: وإنْ أصابتكم جنابة إمَّا بخروج المني، على أي صفة كان من احتلام أو غيره، أو بالتقاء
وقرأ الجمهور: ﴿فَاطَّهَّرُوا﴾. تشديد الطاء والهاء المفتوحتين وأصله تطهروا فأدغمت التاء في الطاء، واجتلبت همزة الوصل، وقرىء: ﴿فاطهروا﴾ بسكون الطاء والهاء مكسورة من اطهر رباعيًّا؛ أي: فأطهروا أبدانكم، والهمزة للتعدية. ولما بين الله سبحانه وتعالى وجوب الطهارتين: الوضوء والغسل، وكان المسلم لا بد له من طهارة الوضوء مرة أو أكثر من ذلك في اليوم، ولا بد له من الغسل في كل أسبوع مرة أو أكثر غالبًا.. بين الرخصة في تركهما عند المشقة أو العجز؛ لأن الدين يسر لا حرج فيه ولا عنت فقال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾؛ أي: وإنْ كنتم مرضى مرضًا يضره الماء أو يشق فيه استعمال الماء جلديًّا كان كالجدري والجرب وغيرهما من القروح والجراح أو غير جلدي كالباطني ﴿أَوْ﴾ مستقرين ﴿عَلَى سَفَرٍ﴾ طويلًا أو قصيرًا، طاعة أو غيرها، ومن شأن السفر أن يشق فيه الوضوء والغسل ﴿أوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾؛ أي: المكان المنخفض الذي تقضى فيه حاجة الإنسان، التي لا بد منها، ويراد به شرعًا قضاء الحاجة من بول أو غائط؛ أي أحدثتم الحدث الموجب للوضوء عند إرادة الصلاة ونحوها، كالطواف، ويسمى الحدث الأصغر ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ بذكر أو غيره، المراد
﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ﴾ أيها المؤمنون فيما شرعه لكم في هذه الآية، وفي غيرها ﴿مِنْ حَرَجٍ﴾؛ أي: حرجًا ما وضيقًا؛ أي: أدنى ضيق وأقل مشقة بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم عند عدم الماء؛ لأنَّه تعالى غني عنكم، رحيم بكم، فلا يشرع لكم إلا ما فيه الخير والصلاح لكم ﴿وَلَكِنْ يُرِيدُ﴾ الله سبحانه وتعالى ﴿لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ من الأقذار والرذائل والمنكرات والعقائد الفاسدة، فتكونوا أنظف الناس أبدانًا، وأزكاهم نفوسًا، وأصحهم أجسادًا، وأرقاهم أرواحًا. وقيل المعنى (١): ليطهر قلوبكم عن صفة التمرد عن طاعة الله تعالى؛ لأنَّ الكفر والمعاصي نجاسات للأرواح، وذلك لأنه تعالى لما أمر العبد بإيصال الماء إلى هذه الأعضاء المخصوصة - وكانت طاهرة - لم يعرف العبد في هذا التكليف فائدة معقولة، فلمَّا انقاد لهذا التكليف.. كان ذلك الانقياد محض إظهار العبودية، فأزال هذا الانقياد عن قلبه آثار التمرد، فكان ذلك طهارة للقلوب والأبدان، ﴿وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ فيجمع (٢) لكم بين طهارة الأبدان وطهارة الأرواح، والإنسان إنما هو روح وجسد. والصلاة تطهر الروح وتزكي النفس، فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتعود المصلي مراقبة ربه في السر والعلن، وخشيته حين الإساءة، والرجاء فيه لدى الإحسان، والطهارة
(٢) المراغي.
فصل في ذكر الحكمة في شرع الوضوء والغسل
للوضوء والغسل فوائد أهمها (١):
١ - أن غسل البدن كله وغسل الأطراف يفيد صاحبه نشاطًا وهمة، ويزيل ما يعرص للجسد من الفتور والاسترخاء بسبب الحدث، أو بغيره من الأعمال التي تؤثر تأثيره، وبذا يقيم الصلاة على وجهها، ويعطيها حقها من الخشوع؛ ومراقبة الله تعالى، إذ المشاهد أنَّه إذا بلغ الإنسان من هذه اللذة الجسيمة غايتها، بالوقاع أو الإنزال، حصل تهيج عصبي كبير، يعقبه فتور شديد، بحسب سنة رد الفعل، ولا يعيد نشاطه إلا غسل البدن كله.
٢ - أن النظافة ركن الصحة البدنية، فإن الوسخ والأقذار مجلبة الأمراض والأدواء الكثيرة، ومن ثم ترى الأطباء يشددون في أيام الأوبئة والأمراض المعدية في المبالغة في النظافة، وجدير بالمسلمين أن يكونوا أصح الناس أجسادًا؛ وأقلهم أمراضًا؛ لأنَّ دينهم مبني على المبالغة في نظافة الأبدان والثياب والأمكنة، فإذا هم فعلوا ما أوجبه الدين تنتفي الأسباب التي تولد جراثيم - أصول - الأمراض عند الناس.
ولأجل هذا ورد الأمر بالغسل والطيب ولبس الثياب النظيفة يوم الجمعة، لأنّه يوم يجتمع فيه الناس في المساجد لعبادة الله تعالى. روى مالك والشافعي وأحمد والبخارى ومسلم من طرق عدة أن النبي - ﷺ - قال: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم"، أي: بالغ ومكلف.
٧ - وبعد أن بين سبحانه وتعالى هذه الأحكام، وذكر رفع الحرج الذي تم به الإنعام، ذكرنا بنعمه التي أنعم بها علينا فقال: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ التي هي نعمة الإِسلام؛ أي: وتذكروا أيها المؤمنون إذ كنتم كفارًا متباغضين، فأصبحتم بهداية الدين إخوانًا متحابين. وقيل المعنى؛ أي: تأملوا في جنس نعمة الله تعالى عليكم، وهو إعطاء نعمة الحياة والصحة والعقل والهداية والصون عن الآفات، والإيصال إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة، فجنس نعمة الله جنس لا يقدر عليه غير الله، فمتى كانت النعمة على هذا الوجه.. كان وجوب الاشتغال بشكرها أتم ﴿وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾؛ أي: وتذكروا العهد الذي عاهدكم به على لسان رسوله حين بايعتم رسوله محمدًا - ﷺ - على السمع والطاعة في المنشط والمكره، المحبوب والمكروه والعسر واليسر، حين قلتم له: سمعنا ما أمرتنا به ونهيتنا عنه، وأطعناك فيه، فلا نعصيك في معروف، وكل ما جئتنا به فهو معروف.
مثل مبايعته - ﷺ - مع الأنصار في أول الأمر ليلة العقبة، ومبايعته - ﷺ - عامة المؤمنين بيعة الرضوان تحت الشجرة في الحديبية وغيرهما.
وكل نبي بعث في قوم أخذ عليهم ميثاق الله بالسمع والطاعة، وقبول الدعوة والدخول في الدين، يعد قبولًا لهذا العهد، فعلينا أن نعد هذا التذكير خطابًا لنا، كما عده السلف من الصحابة خطابًا لهم ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أيها المؤمنون في نسيان
٨ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وصدقوا بما جاء به محمَّد - ﷺ - ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾؛ أي: كونوا مبالغين في القيام بالحق والعدل في أنفسكم، وفي غيركم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخلصين ﴿لِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى في كل ما تعملونه من أمر دينكم وأمر دنياكم، بأن تريدوا بعملكم الخير والتزام الحق ابتغاء مرضاة الله تعالى من غير اعتداء على أحد ﴿شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾؛ أي: شاهدين بالعدل والحق والصدق بلا محاباة لمشهود له، ولا لمشهود عليه، لأجل قرابة أو مال أو جاء، ولا تركه لفقر أو مسكنة أو عداوة، فالعدل هو ميزان الحقوق، إذ متى وقع الجور في أمة لأي سبب.. زالت الثقة من الناس، وانتشرت المفاسد، وتقطعت روابط المجتمع، فلا يلبث أن يسلط الله عليهم بعض عباده الذين هم أقرب منه إلى العدل، فيذيقوهم الوبال والنكال، وتلك سنة الله في حاضر الأمم وغابرها، ولكن الناس لا يعتبرون، والشهادة هنا عبارة عن إظهار الحق للحاكم ليحكم به، أو عن إظهار الحاكم الحق بالحكم به، أو إظهاره بالإقرار به لصاحبه، والتكاليف محصورة في نوعين: تعظيم أمر الله تعالى، والشفقة على خلق الله. فقوله تعالى: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ﴾. إشارة إلى النوع الأول وهو حقوق الله وقوله: ﴿شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾ إشارة إلى الثاني وهو حقوق الخلق ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾؛ أي: لا يحملنكم ﴿شَنَآنُ قَوْمٍ﴾؛ أي: شدة بغضكم لقوم مشركين ﴿عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا﴾؛ أي: على ترك العدل فيهم، فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل فعله، كمثلة وقذف وقتل نساء وصبية ونقض عهد تشفيًا مما في قلوبكم، أو المعنى: ولا يحملنكم بغض قوم على أن تجوروا عليهم، وتجاوزوا الحد فيهم، بل اعدلوا فيهم، وإن أساؤوا عليكم، ولا تحملنكم العداوة والبغضاء لهم على ترك العدل في أمرهم بالشهادة لهم بحقهم إذا
وهذه (١) الجملة مؤكدة للجملة السالفة، كرره للعناية بأمر العدل، وأنَّه فريضة لا هوادة فيها؛ لأنّه أقرب لتقوى الله تعالى، والبعد عن سخطه، وتركه من أكبر المعاصي، لما ينشأ عنه من المفاسد التي تقوض نظم المجتمعات وتقطع الروابط بين الأفراد، وتجعل بأسهم شديدًا.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى فيما أمركم به ونهاكم عنه ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ فلا يخفى عليه شيء من أعمالكم وأحوالكم، فيجازيكم عليها.
والمعنى: واتقوا سخطه وعقابه؛ لأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، ظاهرها وباطنها، واحذروا أن يجازيكم بالعدل على ترككم للعدل، وقد مضت سنته في خلقه بأن يجعل جزاء ترك العدل في الدنيا الذلة والمهانة للأمم والأفراد، وفي الآخرة الخزي يوم الحساب.
٩ - ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بما جاء به محمَّد - ﷺ - ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ بالعدل والتقوى وبشرهم بأن يكون ﴿لَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿مَغْفِرَةٌ﴾؛ أي: ستر لذنوبهم ومحو لسيئاتهم ﴿وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾؛ أي: ثواب جسيم هو الجنة والرضوان منه تعالى، وهذه الجملة الإسمية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا لسؤال مقدر، فكأنه قيل وأي شيء وعدهم؟ فقال المجيب لهم: مغفرة وأجر عظيم.
١٠ - ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وجحدوا بوحدانية الله تعالى وبرسالة رسله، ونقضوا عهوده ومواثيقه. والكفر هنا هو الكفر بالله ورسله، لا فرق في ذلك بين الكفر بالجميع وبين الكفر بالبعض ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ القرآنية، وبما جاءت به الرسل من عنده تعالى ﴿أُولَئِكَ﴾ الكافرون المكذبون ﴿أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾؛ أي: ملازموها ومصاحبوها أبدًا لا يفارقونها. وهذه الآية نص قاطع في أن الخلود في النار ليس إلا للكفار؛ لأنَّ المصاحبة تقتضي الملازمة، كما يقال: فلان صاحبُ فلان، يعني ملازم له، وهذه الجملة مستأنفة، أتى بها جمعًا بين الترغيب والترهيب، إيفاء لحق الدعوة بالتبشير والإنذار.
وآيات الله قسمان: آياته المنزلة على رسله وآياته التي أقامها في الأنفس والآفاق للدلالة على وحدانيته وكماله وقدرته وإرادته، وعلى صدق رسله فيما يبلغون عنه، والجحيم النار العظيمة كما قال تعالى حكاية عن قوم إبراهيم: ﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾؛ أي: أنَّ هؤلاء الكفار المكذبين سيصلون العذاب في نار عظيمة، أعدَّها الله تعالى لمن كفر وكذب بآياته؛ لأن نفوسم قد فسدت، وسوء حالهم قد ران على قلوبهم فأصبحوا صمًّا عميًا لا يبصرون.
١١ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله، يعني محمدًا - ﷺ - وأصحابه ﴿اذْكُرُوا﴾؛ أي: تذكروا ﴿نِعْمَتَ اللَّهِ﴾؛ أي: إنعامه تعالى عليكم، بدفع بأس العدو عنكم بالشكر عليها ﴿إِذْ هَمَّ قَوْمٌ﴾؛ أي: إذ قصد قوم من الكفار ﴿أَنْ يَبْسُطُوا﴾ ويمدوا ﴿إِلَيْكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿يْدِيَهُمْ﴾ بالقتل والبطش والإهلاك، يقال: بسط إليه يده، إذا بطش به، وبسط إليه لسانه، إذا شتمه، ومعنى بسط اليد مدها إلى المبطوش به ﴿فَكَفَّ﴾ الله سبحانه وتعالى ﴿أَيْدِيَهُمْ﴾ وصرفهم ﴿عَنْكُمْ﴾ وحال بينكم وبين ما أرادوه بكم من الضرر. روي من طرق متعددة أن الآية نزلت في رجل من قبيلة هم بقتل النبي - ﷺ -، أرسله قومه لذلك، وكان
وفي رواية أخرى: إن السيف الذي كان بيد الأعرابي كان سيف رسول الله - ﷺ -، علقه في شجرة وقت الراحة، فأخذه الرجل، وجعل يهزه ويهم بقتل النبي - ﷺ -، ثم سقط في يده، فأخذه رسول الله - ﷺ - وقال: "من يمنعك مني"؟ قال: لا أحد، ثم صاح رسول الله - ﷺ - بأصحابه، فأخبرهم، وأبى أن يعاقبه، كما مر ذلك كله في أسباب النزول.
وعلى هذا فالمراد تذكيرهم بنعمة الله عليهم، بدفع الشر والمكروه عن نبيهم، فإنَّه لو حصل ذلك.. لكان من المحن الكبرى التي تصحب المسلمين.
وقيل: إن المراد تذكيرهم بما أنعم الله عليهم من قوة الإِسلام، وعظمة شوكة المسلمين، فبعد أنْ كانوا أذلاء مغلوبين على أمرهم، بدل الحال غير الحال، وأصبحوا أعزة بعد الذلة، وغالبين بعد أن كانوا مقهورين، فهو سبحانه وتعالى يذكر المسلمين بوقائع الاعتداء كلها، سواء في ذلك حادثة المحاربي وأمثالها؛ لأن حفظه أولئك السلف هو حفظه لذلك الدين القويم، فالنبي - ﷺ - قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وأصحابه هم الذين تلقوها عنه وأدوها لمن بعدهم قولًا وعملًا.
ومن فوائد هذا التذكير للمتأخر ترغيبه في التأسي بالسلف في القيام بما جاء به الدين، من الحق والعدل والبر، ومعنى قوله: ﴿إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ﴾؛ أي: شارفوا أن يمدوا أيديهم إليكم بصنوف البلاء، من قتل ونهب، فكف الله تعالى بلطفه ورحمته أيديهم عنكم، فلم يستطيعوا تنفيذ ما هموا به ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى فيما أمركم به، وفيما نهاكم عنه؛ أي: كونوا مواظبين على طاعة الله تعالى، ولا تخافوا أحدًا في إقامة طاعات الله تعالى ﴿وَعَلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى لا على غيره ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: فليعتمد المؤمنون في جميع أمورهم: دينهم ودنياهم، فإنَّه تعالى الكافي لإيصال الخير ودفع الشر.
والمعنى: واتقوا الله الذي أراكم قدرته على أعدائكم وقت ضعفكم وقوتهم، وتوكلوا عليه وحده، فقد أراكم عنايته بمن يكون أمورهم إليه بعد مراعاة سننه، والسير عليها في اتقاء كل ما يخشى ضره، وتسوء عاقبته، لا على
الإعراب
﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ﴾.
﴿يَسْأَلُونَكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة مستأنفة. ﴿مَاذَا﴾: (ما): اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. (ذا): اسم الموصول في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب مفعول ثان لِـ ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ ﴿أحل﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على الموصول ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ هـ، والجملة صلة الموصول لا محل لها من الإعراب. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت ﴿أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿لَكُمُ﴾: متعلق بـ هـ، والجملة في محل النصب مقول القول ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: موصولة أو موصوفة في محل الرفع معطوف على ﴿الطَّيِّبَاتُ﴾ ولكنه على حذف مضاف كما مر في بحث التفسير تقديره: وصيد ما علمتم. ﴿عَلَّمْتُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعولاه محذوف تقديره: وما علمتموه الاصطياد. ﴿مِنَ الْجَوَارِحِ﴾: جار ومجرور حال من المفعول الأول الذي هو الضمير المحذوف تقديره: وما علمتموه حالة كونه كائنًا من الجوارح؛ أي: من الحيوان الكاسب لكم، وجملة (علم) صلة الموصول، والعائد الضمير المحذوف.
أحدها: أنها موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف؛ أي: ما علمتموه، ومحلها الرفع عطفًا على مرفوع ما لم يسم فاعله؛ أي: وأحل لكم صيد أو أخذ ما علمتم، فلا بدّ من تقدير هذا المضاف.
والثاني: أنها شرطية، فمحلها رفع بالابتداء والجواب قوله: ﴿فَكُلُوا﴾ وإنَّما دخلت الفاء لكون الجواب جملة طلبية.
والثالث: أنَّها موصولة أيضًا، ومحلها الرفع بالابتداء، والخبر قوله: ﴿فَكُلُوا﴾ وإنَّما دخلت الفاء تشبيهًا للموصول باسم الشرط وقوله: ﴿مِنَ الْجَوَارِحِ﴾ في محل نصب على الحال، وفي صاحبها وجهان: أحدهما: الموصول، وهو ما، والثاني: أنَّه الهاء العائد على ما الموصولة، وهو في المعنى كالأول، قال الشيخ: وفائدة هذه الحال وإنْ كانت مؤكدة لقوله: ﴿عَلَّمْتُمْ﴾ فكان يستغنى عنها الإشارة إلى أن يكون المعلم ماهرًا في التعليم حاذقًا. اهـ. "سمين".
﴿مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾.
﴿مُكَلِّبِينَ﴾: حال من التاء في علمتم، ومفعولاه محذوفان تقديرهما: مكلبين إياهن الاصطياد؛ أي: معلمين ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور في محل النصب مفعول ثان لتعلمون، ومن فيه تبعيضية ﴿عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول أول وفاعل، والمفعول الثاني محذوف تقديره: علمكم الله إياه، وجملة ﴿عَلَّمَكُمُ﴾: صلة لما أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف، وجملة ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ﴾: في محل النصب حال ثانية من فاعل علمتم.
وفي "الفتوحات" قوله: ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ﴾ في هذه الجملة أربعة أوجه (٢):
أحدها: أنَّها جملة مستأنفة.
(٢) الجمل.
الثالث: أنها حال من الضمير المستتر في مكلبين فتكون حالًا من حال، وتسمى المتداخلة وعلى كلا التقديرين المتقدمين فهي حال مؤكدة؛ لأن معناها مفهوم من علمتم ومن مكلبين.
الرابع: أن تكون جملة معترضة، وهذا على جعل ما شرطية أو موصولة خبرها ﴿فَكُلُوا﴾ فيكون قد اعترض بين الشرط وجوابه، أو بين المبتدأ وخبره. اهـ "سمين" انتهت.
﴿فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٤)﴾.
﴿فَكُلُوا﴾ (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أنه أحل لكم صيد ما علمتم وأردتم بيان كيفية الانتفاع به، وكيفية أكله.. فأقول لكم كلوا، ﴿كلوا﴾: فعل وفاعل. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور في محل النصب مفعول به لِـ ﴿كلوا﴾ و (من) فيه تبعيضية. ﴿أَمْسَكْنَ﴾: فعل وفاعل ومفعوله محذوف تقديره: أمسكنه. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ هـ، وجملة أمسكن صلة لما أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف، وجملة (كلوا): في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وكون الفاء فصيحة إنَّما يتمشى على القول بأن ما علمتم معطوف على الطيبات، لا على الوجهين الأخيرين من الأوجه الثلاثة المذكورة فيه. ﴿وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ﴾: فعل وفاعل ومفعول به ومضاف إليه ﴿عَلَيْهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ اذكروا، والجملة معطوفة على جملة ﴿كلوا﴾. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على كلوا. ﴿إنَّ﴾: حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها ﴿سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ خبر إنَّ ومضاف إليه، وجملة إنَّ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾.
﴿الْيَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بـ ما بعده ﴿أُحِلَّ﴾: فعل
﴿إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٥)﴾.
﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بـ ﴿أُحِلَّ﴾ أو بحل المحذوف. ﴿آتَيْتُمُوهُنَّ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿أُجُورَهُنَّ﴾: مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾. ﴿مُحْصِنِينَ﴾: حال من الضمير المرفوع في ﴿آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ فيكون العامل آتيتم، ويجوز أن يكون العامل ﴿أُحِلَّ﴾: أو (حل) المحذوف، ذكره أبو البقاء. ﴿غَيْرَ﴾: صفة لمحصنين. ﴿مُسَافِحِينَ﴾: مضاف إليه، أو حال من الضمير المستكن في ﴿مُحْصِنِينَ﴾، أو حال من فاعل ﴿آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ على أنه حال ثانية منه، وذلك عند من يجوز ذلك ﴿وَلَا﴾: (الواو):
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ (يا): حرف نداء. (أي): منادى نكرة مقصودة. (ها): حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات، (أي): من الإضافة. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع صفة لأي، تابع للفظه، والجملة مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿قُمْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿إِلَى الصَّلَاةِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قُمْتُمْ﴾. ﴿فَاغْسِلُوا﴾: الفاء رابطة لجواب إذا. ﴿اغسلوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب إذا لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿وُجُوهَكُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿وَأَيْدِيَكُمْ﴾: معطوف على وجوهكم. ﴿إِلَى الْمَرَافِقِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿اغسلوا﴾. وقال العكبري: ويجوز أن يتعلق بمحذوف
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾.
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ﴾ جازم وفعل ناقص واسمه. ﴿جُنُبًا﴾ خبر كان ﴿فَاطَّهَّرُوا﴾: (الفاء): رابطة الجواب. ﴿اطهروا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم جواب إنْ الشرطية، وجملة إنْ الشرطية مستأنفة. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ﴾: جازم وفعل ناقص واسمه ﴿مَرْضَى﴾: خبره ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف معطوف على خبر كان تقديره: أو مستقرين على سفر ﴿أوْ جَاءَ أَحَدٌ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم معطوف على قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ على كونها فعل شرط لإن ﴿مِنْكُمْ﴾: جار ومجرور صفة لأحد ﴿مِنَ الْغَائِطِ﴾: جار ومجرور متعلق بجاء ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾. ﴿فَلَمْ﴾: (الفاء): عاطفة. ﴿لم﴾: حرف جزم. ﴿تَجِدُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بلم. ﴿مَاءً﴾: مفعول به؛ لأنَّ وجد لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد؛ لأنَّه من وجدان الضالة، والجملة في محل الجزم، معطوفة على جملة الشرط، لكنه قيد في غير المرض وهو الثلاثة بعده، وأمَّا المرض.. فيتيمم معه ولو مع وجود الماء ﴿فَتَيَمَّمُوا﴾: (الفاء): رابطة لجواب الشرط. ﴿تيمموا﴾: فعل وفاعل. ﴿صَعِيدًا﴾: مفعول به. ﴿طَيِّبًا﴾: صفة له، والجملة في محل الجزم جواب لإنْ الشرطية، وجملة إنْ الشرطية مستأنفة.
﴿فَامْسَحُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجزم معطوفة على جملة تيمموا على كونها جواب الشرط ﴿بِوُجُوهِكُمْ﴾: جار ومجرور. ومضاف إليه متعلق بـ ﴿امسحوا﴾ ﴿وَأَيْدِيكُمْ﴾ معطوف على ﴿وُجُوهِكُمْ﴾ ﴿مِنْهُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿امسحوا﴾. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿يُرِيدُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لِيَجْعَلَ﴾: اللام حرف جر وتعليل. ﴿يجعل﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾. ﴿عليكم﴾: متعلق به. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿حَرَجٍ﴾: مفعول به لجعل؛ لأنه يتعدى إلى مفعول واحد؛ لأنه بمعنى أوجد، والجملة الفعلية صلة أن المصدرية، أن مع صلتها: في تأويل مصدر مجرور باللام، ومفعول ﴿يُرِيدُ﴾ محذوف تقديره: ما يريد الله الرخصة في التيمم لجعله حرجًا عليكم، واللام متعلقة بـ ﴿يُرِيدُ﴾ وقيل: اللام زائدة، وجملة أن المصدرية مفعول ﴿يُرِيدُ﴾ تقديره: ما يريد الله برخصة التيمم جعل حرج عليكم. ﴿وَلَكِنْ﴾: (الواو): عاطفة. ﴿لكن﴾: حرف استدراك. ﴿يُرِيدُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، ومفعول ﴿يُرِيدُ﴾ محذوف تقديره: ولكن يريد الرخصة في التيمم ليطهركم، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ﴾. ﴿لِيُطَهِّرَكُمْ﴾: (اللام): حرف جر وتعليل. ﴿يطهر﴾: منصوب بـ ﴿أنْ﴾ مضمرة، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾. و ﴿الكاف﴾: مفعوله، وجملة (أنْ) المضمرة مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام وهي متعلقة بـ ﴿يُرِيدُ﴾؛ والتقدير: ولكن يريد الرخصة في التيمم لتطهيره إياكم، وقيل: اللام زائدة كما تقدم والتقدير: ولكن يريد تطهيره إياكم. ﴿وَلِيُتِمَّ﴾: (الواو): عاطفة. (اللام): حرف جر وتعليل. ﴿يتم﴾: منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿نِعْمَتَهُ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يتم﴾: وجملة أنْ المضمرة مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: ﴿لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ والتقدير: على الوجه الأول؛ ولكن يريد الرخصة في التيمم لتطهيره إياكم ولإتمام نعمته عليكم،
﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٧)﴾.
﴿وَاذْكُرُوا﴾: (الواو): استئنافية. ﴿ذكروا﴾: فعل وفاعل. ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بنعمة الله، والجملة مستأنفة ﴿وَمِيثَاقَهُ﴾: معطوف على نعمة الله ﴿الَّذِي﴾: صفة للميثاق ﴿وَاثَقَكُمْ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾. ﴿بِهِ﴾ متعلق بواثق، والجملة الفعلية صلة الموصول والعائد ضمير به ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ ﴿وَاثَقَكُمْ﴾ ﴿قُلْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذْ﴾ ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾: مقول محكي وإن شئت قلت ﴿سَمِعْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْتُمْ﴾. ﴿وَأَطَعْنَا﴾: معطوف على ﴿سَمِعْنَا﴾. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿اذكروا﴾ ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب ﴿اللَّهَ﴾: اسمها ﴿عَلِيمٌ﴾: خبرها ﴿بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بعليم، وجملة إن مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٨)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ (يا): حرف نداء. (أي): منادى نكرة مقصودة. (ها): حرف تنبيه. ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لأي، وجملة النداء مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة له الموصول. ﴿كُونُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿قَوَّامِينَ﴾: خبره. ﴿لِلَّهِ﴾: متعلق بقوامين. ﴿شُهَدَاءَ﴾: خبر ثان لكونوا، وجملة كونوا جواب النداء. ﴿بِالْقِسْطِ﴾: جار ومجرور متعلق بشهداء. ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ (الواو): عاطفة. ﴿لا﴾: ناهية. ﴿يجرمن﴾: فعل مضارع في محل الجزم بلا الناهية مبني
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١٠)﴾.
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف تقديره: وعد الله الذين آمنوا المغفرة والأجر العظيم، والجملة الفعلية مستأنفة ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على آمنوا ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم ﴿مَغْفِرَةٌ﴾: مبتدأ مؤخر ﴿وَأَجْرٌ﴾: معطوف عليه ﴿عَظِيمٌ﴾: صفة لأجر، والجملة الإسمية مستأنفة استغنى بها عن ذكر المفعول الثاني لوعد لا محل لها من الإعراب. ﴿وَالَّذِينَ﴾: مبتدأ أول ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول ﴿وَكَذَّبُوا﴾: معطوف على ﴿كَفَرُوا﴾. ﴿بِآيَاتِنَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿كذبوا﴾. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ ثان ﴿أَصْحَابُ﴾: خبر للمبتدأ الثاني ﴿الْجَحِيمِ﴾: مضاف إليه والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره جملة كبرى في ضمنها جملة صغرى مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾: ﴿يَا﴾: حرف نداء، ﴿أيها﴾ منادى. ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لأي. ﴿آمَنُوا﴾: صلة، والجملة مستأنفة. ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب النداء ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿نِعْمَتَ اللَّهِ﴾. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى متعلق بـ ﴿نِعْمَتَ اللَّهِ﴾: ﴿هَمَّ قَوْمٌ﴾ فعل وفاعل مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾ ﴿أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول وجار ومجرور في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿هَمَّ﴾ ﴿فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ﴾: فعل ومفعول، والفاعل ضمير يعود على ﴿الله﴾: (الفاء): تفريعية عاطفة على ﴿هم﴾ ﴿عَنْكُمْ﴾ متعلق بكف ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة ﴿وَعَلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بقوله: ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾: وهو فعل وفاعل، و (الفاء): زائدة، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿الطَّيِّبَاتُ﴾: جمع طيبة وطيب والطيب ضد الخبيث، وهو صفة مشبهة من طاب يطيب من باب باع طيبًا وطابًا وطيبة وتطيابًا إذا لذّ وحلا وحسن وجاد، فالطيبات المستلذات. ﴿مِنَ الْجَوَارِحِ﴾: الجوارح الكواسب من سباع البهائم، والطير، كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والباز والشاهين، وهي جمع جارحة، والهاء فيها للمبالغة، وهي صفة غالبة إذ لا يكاد يذكر معها الموصوف ذكره أبو البقاء، وسميت بذلك لأنها تجرح ما تصيد غالبًا، أو لأنها تكتسب، يقال: امرأة لا جارح لها؛ أي: لا كاسب، ومنه ﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾؛ أي: ما كسبتم، ويقال: جرح واجترح بمعنى اكتسب ﴿مُكَلِّبِينَ﴾: جمع مكلب بالتشديد من التكليب، وهو تعليم الكلاب وإضراؤها، ثم استعمل في تعليم الجوارح مطلقًا. وقال أبو حيان: المكلب بالتشديد معلم الكلاب ومضربها على الصيد، وبالتخفيف صاحب الكلاب، وقال الزجاج: رجل مكلب ومكلب وكلاب صاحب كلاب ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ﴾: جمع محصنة يقال: أحصنت المرأة إذا عفت، فهي
﴿مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾؛ أي: مسرين بالزنا، والأخدان: جمع خدن بكسر أوله، والخدن الصديق، يطلق على الذكر والأنثى، وفي "المصباح" الخدن: الصديق في السر، والجمع: أخدان مثل حمل وأحمال انتهى. ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ الغسل (١) في اللغة إيصال الماء إلى المغسول مع إمرار شيء عليه كاليد ونحوها، قاله بعضهم وقال آخرون: هو إمرار الماء على الموضع، ومن ذلك قول بعض العرب:
فَيَا حُسْنَهَا إِذْ يَغْسِلُ الدَّمْعُ كُحْلَهَا
والوجوه جمع وجه، وهو ما تحصل به المواجهة عن الرأس ﴿وَأَيْدِيَكُمْ﴾ جمع يد، أصله يدي؛ بدليل جمعه على الأيدي حذفت لامه اعتباطًا؛ أي: لغير علة تصريفية ﴿إِلَى الْمَرَافِقِ﴾: جمع مرفق، والمرفق المفصل بين المعصم والعضد، وفتح الميم وكسر الراء أشهر ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾: جمع رجل والرجل معروفة، وجمعت على أفعل في القلة والكثرة ﴿إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ تثنية كعب، والكعب (٢) العظم الناتىء في وجه القدم، حيث يجتمع شراك النعل ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾ لجنب صفة يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والجمع، فاطهروا بتشديد الطاء والهاء أصله تطهروا من باب تفعل الخماسي، فأدغمت التاء في الطاء واجتلبت همزة الوصل فصار اطهروا كما مر في مبحث القراءة ﴿مَرْضَى﴾: جمع مريض كجرحى جمع جريح وقتلى جمع قتيل ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾: يقال: غاط الحفرة يغوط غوطًا، من باب قال إذا حفرها، وغاط في
(٢) البحر المحيط.
﴿كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ﴾: جمع قوام مبالغة قائم، والقوام بالشيء هو القائم به حق القيام ﴿شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾؛ أي: شهداء بالعدل جمع شهيد، ككرماء جمع كريم، وشرفاء، جمع شريف.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع:
فمنها: التكرار في قوله: ﴿مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾ وفي قوله: ﴿أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾، وقوله: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾، وفي لفظ الجلالة في قوله: ﴿وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾، وفي قوله: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ﴾، ﴿وَطَعَامُكُمْ﴾، وفي قوله: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ﴾، ولفظ اليوم في قوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾، وفي قوله: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾.
ومنها: عطف الخاص على العام في قوله: ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ﴾؛ أي: صيد ما علمتم، وفائدته: دفع توهم أن مصيد الجارحة ليس من الطيبات.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾، وفي قوله: ﴿عَلَّمْتُمْ﴾ و ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾.
ومنها: الطباق المعنوي في قوله: ﴿مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿مُكَلِّبِينَ﴾؛ لأن مكلبين بمعنى معلمين مؤكد لعلمتم.
ومنها: الاعتراض في قوله: ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾ قد اعترض بها بين الشرط وجوابه، أو بين المبتدأ والخبر على جعل ما في قوله: ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ﴾ شرطية أو موصولة خبرها ﴿فَكُلُوا﴾.
ومنها: إقامة المسبب مقام السبب في قوله: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾؛ أي: أردتم القيام إليها، وذلك أنَّ القيام متسبب عن الإرادة، والإرادة سببه.
ومنها: الحذف في عدة مواضع كقوله: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾؛ لأنه على تقدير: وإذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون فاغسلوا وجوهكم... إلخ.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (١٤) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أنه سبحانه وتعالى لما ذكر الميثاق الذي أخذه على المؤمنين في قوله: ﴿وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ﴾. ثم ذكر وعده إياهم،
وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: لما ذكرنا (١) الله سبحانه وتعالى بميثاقه الذي واثقنا به على السمع والطاعة لخاتم النبيين - ﷺ -، بين لنا في هذه الآيات أخذ الميثاق على اليهود والنصارى، وما كان من نقضهم له، ومن عقابه لهم على ذلك في الدنيا بضروب الذلة والمسكنة، وفي الآخرة بالخزي والعذاب، لنعتبر بحالهم، ونبتعد أن نكون على مثالهم، وليشرح لنا العلة في كفرهم بالنبي - ﷺ -، وسبب تصديهم لإيذائه وعداوة أمته، وليقيم الحجة عليهم بما تراه من ذكر المحاجة، وبيان أنواع كفرهم وضلالهم.
قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (٢) بين أنه أخذ الميثاق على اليهود والنصارى، كما أخذه على هذه الأمة، وأنهم نقضوا العهد والميثاق وتركوا ما أمروا به، وأنهم أضاعوا حظًّا عظيمًا مما أوحاه إليهم، ولم يقيموا ما حفظوا منه.. دعاهم عقب ذلك إلى الإيمان بمحمد - ﷺ - وبالكتاب الذي جاء به، وهذا البيان من دلائل نبوته - ﷺ -، وهو من معجزات القرآن الكثيرة المنبثة في تضاعيفه.
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (٣) أقام الحجة على أهل الكتاب عامة.. بين ما كفرت به النصارى خاصة.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا﴾... الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة قال: إنَّ (١) النبي - ﷺ - أتاه اليهود يسألونه عن الرجم؟ فقال: "أيكم أعلم"؟ فأشاروا إلى ابن صوريا، فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى، والذي رفع الطور والمواثيق التي أخذت عليهم حتى أخذه أفكل - الرعدة -؟ فقال: إنَّه لما كثر فينا جلدنا مئة، وحلقنا الرؤوس، فحكم عليهم، فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ إلى قوله: ﴿صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ...﴾ الآيات، سبب نزولها: ما رواه ابن إسحاق عن ابن عباس قال: أتى رسول الله - ﷺ - نعمان بن قصي وبحر بن عمر وشاس بن عدي، فكلموه وكلمهم، ودعاهم إلى الله، وحذرهم نقمته وعذابه، فقالوا: تخوفنا به يا محمَّد؟ نحن والله أبناء الله وأحباؤه فأنزل الله فيهم: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى...﴾ الآية.
وروي عنه قال: دعا رسول الله - ﷺ - يهود إلى الإِسلام، ورغبهم فيه، فأبوا عليه، فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة: يا معشر يهود اتقوا الله فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهوذ: ما قلنا لكم هذا، وما أنزل الله من كتاب من بعد موسى، ولا أرسل بشيرًا ولا نذيرًا بعده، فأنزل الله: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ...﴾ الآية.
التفسير وأوجه القراءة
١٢ - ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد جعل الله سبحانه وتعالى العهد المؤكد باليمين على بني إسرائيل، بواسطة موسى عليه
روي أنه لما نجا بنو إسرائيل واستقروا بمصر بعد هلاك فرعون.. أمرهم الله سبحانه وتعالى بالسير إلى بيت المقدس، وكان يسكنها الكنعانيون الجبابرة، وقال لهم: إني جعلتها لكم وطنًا ودار هجرة، فأخرجوا إليها وجاهدوا من كان فيها من الجبابرة، وإني ناصركم، وأمر موسى أن يأخذ من كل سبط نقيبًا يكون كفيلًا بالوفاء بتنفيذ ما أمروا به، فاختار النقباء وأخذ الميثاق على بني إسرائيل، وتكفل له به النقباء، وسار بهم، فلما دنا من الأرض المقدسة، بعث النقباء يتجسسون الأخبار، فرأوا أجسامًا قوية، وأجرامًا كبيرًا، وشوكة وقوة، فهابوهم ورجعوا، وحدثوا قومهم بما رأوا، وقد كان موسى نهاهم عن ذلك، فنكثوا الميثاق إلا نقيبين - كالبًا ويوشع - وهما اللذان قال الله فيهما: ﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ اَلَذِينَ يَخَافُونَ﴾ الآية وسيأتي الكلام في ذلك بعد.
﴿وَقَالَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى للنقباء على لسان موسى عليه السلام حين ذهبوا للتجسس ﴿إِنِّي مَعَكُمْ﴾ بالنصر والعون والحفظ من الجبابرة. وقيل (١) هو خطاب لعامة بني إسرائيل، والقول الأول أولى؛ لأنَّ الضمير يعود إلى أقرب مذكور، فكان عوده إلى النقباء أولى. ومعنى كونه معهم، أنَّه ناصرهم ومعينهم ما داموا محافظين على الميثاق، وهو راءٍ لأفعالهم، سميع لأقوالهم، عليم بضمائرهم، وقادر على مجازاتهم. ثم ابتدأ الكلام فقال مخاطبًا لعامة بني إسرائيل على لسان موسى عليه السلام وعزتي وجلالي ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ﴾ وأديتم ﴿الصَّلَاةَ﴾ المفروضة عليكم على وجهها ﴿وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ﴾؛ أي: وأعطيتم ما فرض عليكم من الصدقات التي تتزكى بها نفوسكم. ﴿وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي﴾ الذين أرسلتهم إليكم بعد موسى، كداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى، ومحمد - ﷺ -.
١٣ - ثم بين أنهم لم يوفوا بهذا العهد فجازاهم على سوء صنيعهم فقال: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾؛ أي: فبسبب نقضهم ورميهم وغدرهم الميثاق الذي أخذ عليهم بتكذيب الرسل، وقتل الأنبياء، وكتمان صفة محمَّد - ﷺ -، ومن ذلك الميثاق
وقرأ الجمهور من السبعة (١): ﴿قَاسِيَةً﴾ اسم فاعل من قسا يقسو، وقرأ عبد الله وحمزة الكسائي: ﴿قَاسِيَةً﴾ بغير ألف وبتشديد الياء، وهي فعلية للمبالغة، كشاهد وشهيد، وقيل معنى قسية على هذه القراءة رديئة يابسة. وقرأ الهيصم بن شراخ ﴿قسية﴾ بضم القاف وتشديد الياء كجي، وقرىء بكسر القاف إتباعًا؛ أي: (٢) استحقوا مقتًا وغضبًا وبعدًا من ألطافنا، فإن نقض الميثاق أفسد قطرتهم، ودنس نفوسهم، وقسى قلوبهم، حتى قتلوا الأنبياء بغير حق، وافتروا على مريم وأهانوا ولدها الذي أرسل إليهم لإصلاح ما فسد من عقائدهم وأخلاقهم، وحاولوا قتله، وافتخروا بذلك، فبكل ذلك بعدوا عن رحمة الله تعالى، إذ جرت سنته أن الأعمال السيئة تؤثر في النفوس آثارًا سيئة، فتجعل القلوب قاسية لا تؤثر فيها الحجة والموعظة، ومن ثم تستحق مقت الله وغضبه والبعد من فضله ورحمته، وما مثل هذا إلا مثل من يهمل العناية بنفسه، ولا يراعي القوانين الصحية، فهو لا شك سيصاد بالأمراض والأسقام، ولا يلومن حينئذ إلا نفسه إذ كان هو السبب في ذلك بإهماله رعاية نفسه حالة كونهم ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ﴾؛ أي: يغيرون كلام الله الذي أنزل في التوراة وحكمه الذي شرع لهم فيها ﴿عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾؛ أي: عن حاله التي نزلت عليها؛ أي: يغيرون ما شق عليهم من أحكامها، كآية الرجم، بدلوها لرؤسائهم بالتحميم - وهو تسويد الوجه بالفحم - وغيروا أيضًا نعت محمَّد - ﷺ - التي نزلت في التوراة تلبيسًا على سفلتهم؛ أي: أزالوا صفته المكتوبة في التوراة، وكتبوا مكانها صفة أخرى، فغيروا المعنى والألفاظ، فتحريف الكلم عن مواضعه يكون إما بتحريف الألفاظ بالتقديم والتأخير والزيادة والنقصان، وإمَّا بتحريف المعاني، يحمل الألفاظ على غير ما
(٢) المراغي.
وقرأ الجمهور: ﴿الْكَلِمَ﴾ بفتح الكاف وكسر اللام وقرأ أبو عبد الرحمن والنخعي: ﴿الكلام﴾ بالألف وقرأ أبو رجاء ﴿الكلم﴾ بكسر الكاف وسكون اللام. وهذه الجملة (١) وما بعدها جاءت بيانًا لقسوة قلوبهم، ولا قسوة أشد من الافتراء على الله تعالى، وتغيير وحيه ﴿وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾؛ أي: تركوا بعضًا مما أمروا به في كتابهم، وهو الإيمان بمحمد - ﷺ -، وهذا (٢) أيضًا من قسوة قلوبهم، وسوء فعلهم بأنفسهم، حيث ذكروا بشيء فنسوه. وتركوه، وهذا الحظ هو من الميثاق المأخوذ عليهم ﴿وَلَا تَزَالُ﴾ يا محمَّد ﴿تَطَّلِعُ﴾ وتقف وتظهر ﴿عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ﴾؛ أي: على خيانة من اليهود، فالخائنة مصدر بمعنى الخيانة كالقائلة بمعنى القيلولة، والخاطئة بمعنى الخطيئة، ويدل على ذلك قراءة الأعمش: ﴿على خيانة﴾ أو اسم فاعل، والهاء للمبالغة، كرواية؛ أي: خائن أو صفة لمؤنث؛ أي: قرية خائنة أو فعلة أو نفس خائنة.
أي: إنك يا محمَّد لا تزال تطلع من هؤلاء اليهود على خيانة إثر خيانة، فلا تظنن أنك أمنت كيدهم بتأمينك إياهم على أنفسهم، فهم قوم لا وفاء لهم، ولا أمان، فمن نقض عهد الله وميثاقه.. فكيف يرجى منه وفاء؟! وكيف تكون منه أمانة؟! فهذه عادتهم وديدنهم معك، وهم على ما كان أسلافهم من خيانة الرسل، وقتلهم الأنبياء، فهم لا يزالون يخونونك وينكثون عهودك، ويظاهرون عليك أعداءك، ويهمون بالفتك منك وأن يسموك، وقوله: ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ استثناء من الضمير في منهم، وهم الذين آمنوا كعبد الله بن سلام وأصحابه ممن أسلموا وصدقوا الله ورسوله، فلا تظنن بهم سوءًا ولا تخف منهم خيانة ولا خديعة، أو هم الذين بقوا على الكفر لكنهم بقوا على العهد ولم يخونوا فيه.
﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾؛ أي: سامح عما فرطوا في حقك ولا تعاقبهم ﴿وَاصْفَحْ﴾؛
(٢) البحر المحيط.
وقد ثبت أن النبي - ﷺ - رغب - عند ما دخل المدينة - في مصالحة اليهود وموادعتهم، فعقد معهم العهد على أن لا يحاربوه ولا يظاهروا من يحاربه، ولا يمالئوا عليه عدوًّا له، وأن يكونوا آمنين على أنفسهم وأموالهم وحريتهم، وكان إذ ذاك منهم ثلاث طوائف حول المدينة، وهم بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، فنقضوا العهد، وهموا بقتل النبي - ﷺ -، فحل له قتالهم، ولكنه رجح السلم على الحرب، واكتفى بطردهم من جواره، وبعث إليهم أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني، وقد أجلتكم عشرًا، فمن وجدته بها بعد ذلك.. ضربت عنقه فأقاموا يتجهزون أيامًا، ثم ثبط عزيمتهم عبد الله بن أبي، وأرسل إليهم أن لا تخافوا، إن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم فيموتون دونكم، وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان، وكان رئيسهم المطاع حيي بن أخطب شديد العدواة للنبي - ﷺ -، وهو الذي زين لهم قتله والغدر له، فركن إلى قول ابن أبيّ، وبعث إلى النبي - ﷺ -: إنا لن نخرج من المدينة فافعل ما بدا لك.
فعلم النبي - ﷺ - أنهم يريدون الحرب، فخرج هو والمسلمون للقائهم، يحمل لواءه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلما وصلوا إليهم أقاموا على حصونهم
(٢) المراغي.
١٤ - ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ﴾ وعهدهم وكتبنا عليهم في الإنجيل اتباع محمَّد - ﷺ -، وبيان صفته، وأن لا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئًا، كما أخدنا الميثاق على بني إسرائيل اليهود، وإنما قال (١) تعالى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾. ولم يقل من النصارى؛ لأنهم الذين ابتدعوا هذا الاسم وسموا به أنفسهم ادعاء لنصر دين الله؛ حيث قالوا لعيسى: نحن أنصار الله، لا أن الله تعالى سماهم به ﴿فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾؛ أي: تركوا نصيبًا عظيمًا مما أمروا به في الإنجيل، وهو الإيمان بمحمد - ﷺ -، وخص هذا (٢) الواحد بالذكر مع أنهم تركوا أكثر ما أمرهم الله تعالى به؛ لأن هذا هو المعظم والمهم ﴿فَأَغْرَيْنَا﴾؛ أي: ألقينا وأوقعنا ﴿بَيْنَهُمُ﴾؛ أي: بين فرق النصارى، النسطورية، واليعقوبية، والملكانية، كل فرقة منهم تعادي الأخرى، وقيل: الضمير يعود إلى اليهود والنصارى؛ أي: أوقعنا بين اليهود والنصارى، قاله مجاهد وقتادة والسدي، فإنهم أعداء يلعن بعضهم بعضًا ويكفر بعضهم بعضًا. ﴿الْعَدَاوَةَ﴾ بالقتل والأسر ﴿وَالْبَغْضَاءَ﴾؛ أي: البغض في القلب ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾؛ لأن نسيان حظ عظيم من كتابهم كان سببًا في تفرقهم في الدين، واتباع أهوائهم، وتبع هذا أن وقعت بينهم العداوة والبغضاء بمقتضى سننه تعالى في هذه الحياة.
(٢) البحر المحيط.
١٥ - وبين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية: أن النصارى نسوا حظًّا مما ذكروا به، كما نسي اليهود، وسر هذا أن المسيح عليه السلام لم يكتب ما ذكرهم به من المواعظ وتوحيد الله وتنزيهه وطرق الإرشاد إلى عبادته، وكان الذين اتبعوه من العامة، وأمثلهم حواريه وهم من الصيادين، وقد اشتد اليهود في مطاردتهم في كل مكان، ومن ثم لم تكن لهم جماعات ذات نفوذ وقوة، وعلم تدون ما حفظوه من الإنجيل. ثم دعاهم إلى الإيمان بمحمد - ﷺ - فقال: ﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ﴾؛ أي: يا معشر اليهود والنصارى ﴿قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا﴾ محمد - ﷺ - خاتم النبيين حالة كونه ﴿يُبَيِّنُ﴾ ويظهر ويوضح ﴿لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ﴾ ـنه وتكتمونه ﴿مِنَ﴾ الأحكام والبشارات المذكورة في ﴿الْكِتَابِ﴾؛ أي: في التوراة كنعت محمد - ﷺ -، وآية الرجم، وبشارة عيسى بأحمد في الإنجيل ﴿وَيَعْفُو﴾ ويسامح ﴿عَنْ كَثِيرٍ﴾ مما كنتم تكتمونه؛ أي: لا يظهره إذا لم تدع حاجة دينية إلى إظهاره، ولا يخبركم بكتمانكم إياه، ولا يفضح بذلك إبقاء عليكم. وقيل: المعنى يعفو عن كثير منكم، فلا يؤاخذهم بما يصدر منهم. وأكثر (١) نوازل الإخفاء إنما نزلت لليهود؛ لأنهم كانوا مجاوري الرسول في مهاجره، وفي هذه الآية دلالة على صحة نبوته - ﷺ -: لأن في إعلامه بما يخفون من كتابهم - وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ولا يصحب القراء - دلالة على أنَّه إنَّما يعلمه الله تعالى.
والمعنى (٢): يا أهل الكتاب إنَّا أرسلنا إليكم محمدًا - ﷺ - رسول الله، وخاتم النبيين، يبين لكم كثيرًا من الأحكام التي كنتم تخفونها، وقد أنزلها عليكم في
(٢) المراغي.
(٢) المراح.
(٣) البحر المحيط.
(٤) المراغي.
وخلاصة ذلك: أنَّه يتبع دينًا يجد فيه ما يوصله إلى السلامة من الشقاء في الدنيا والآخرة، لأنَّه دين الإخلاص والعدل والمساواة.
٢ - أنه يخرج معتنقيه من ظلمات الوثنية والأوهام والخرافات التي أفسد بها الرؤساء جميع الأديان إلى نور التوحيد الخالص الذي يجعل صاحبه حرًّا كريمًا بين يدي الخلق، خاضعًا للخالق وحده.
٣ - أنه يهدي إلى الطريق الموصل إلى المقصد والغاية من الدين إذا اعتصم به من اتبعه على الوجه الصحيح الذي أنزل لأجله، كما عمل بذلك أهل الصدر الأول من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
وقرأ عبيد بن عمير والزهري وسلام وحميد ومسلم بن جندب (١): ﴿به الله﴾، بضم الهاء حيث وقع. وقرأ الحسن وابن شهاب: ﴿سبل﴾ ساكنة الباء.
١٧ - وعزتي وجلالي: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ لا غيره، قال ابن عباس رضي الله عنهما (٢): هؤلاء نصارى نجران، فإنهم قالوا هذه المقالة، وهو مذهب اليعقوبية والملكانية من النصارى؛ لأنَّهم يقولون في المسيح: إنَّه هو الله. تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، وإنَّما قالوا هذه المقالة الخبيثة لأنهم يقولون بالحلول، وأن الله قد حل في بدن عيسى، فلما كان اعتقادهم ذلك لا جرم.. حكم الله عليهم بالكفر، وقيل: لم يصرح به أحد منهم، ولكن مذهبهم يؤدي إليه، حيث اعتقدوا اتصاف عيسى بصفاته الخاصة؛ أي: بأنَّه يخلق ويحيي ويميت ويدبر أمر العالم. ثم ذكر الله تعالى ما يدل على
(٢) الخازن.
والاستفهام فيه للتوبيخ والتقريع مضمن معنى الإنكار؛ أي. لا أحد يملك ذلك، ولو كان المسيح إلهًا لقدر على ذلك.
وخلاصة هذا: أن المسيح وأمه من المخلوقات القابلة للفناء والهلاك كسائر أهل الأرض، فإذا أراد الله أن يهلكهما ويهلك أهل الأرض جميعًا. لا يستطيع أحد أن يرد إرادته؛ لأنّه هو مالك الملك الذي يصرفه بمقتضى مشيئته وإرادته، وإذا كان المسيح لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ولا عن أمه الهلاك كما لا يستطيع أن يدفعه عن غيره.. فكيف يكون هو الله الذي بيده ملكوت كل شيء، فعيسى مماثل لمن في الأرض في الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وتغيير الصفات والأحوال، فلا يكون خالقًا. ثم ذكر ما هو كالدليل على ذلك فقال: ﴿وَلِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وسلطنتهما وتصرفهما ﴿و﴾ ملك ﴿ما بينهما﴾؛ أي: بين السموات والأرض وما فيهما قاطبة، فهو صاحب الملك المطلق، والتصرف في السموات والأرض وما بينهما؛ أي: بين العالمين العلوي والسفلي بالنسبة إليكم، وإنَّما قال: وما بينهما ولم يقل: وما بينهن.. لأنه أراد
والخلاصة: أن كل من تعلقت به مشيئته تعالى ينفذ بقدرته، وإنَّما يعد بعضه غريبًا بالنسبة إلى علم البشر الناقص، لا بالنسبة إليه تعالى، وكذلك غرابة بعض أفعالهم قد تكون من علم كسبي يجهله غيرهم، أو عن تأييد رباني لا صنع لهم فيه ولا تأثير.
١٨ - ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ﴾ لعائن الله عليهم: نحن أبناء الله وأحباءه، أثبتت لأنفسها ما أثبتته لعزير، حيث قالوا: عزير ابن الله ﴿و﴾ قالت {النصارى نحن أبناء الله
وختمها بقوله: ﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ إشارة إلى أنَّه سيعذبهم في الآخرة على هذا الكفر والدعاوى الباطلة، وأنَّهم عندما يصيرون إليه يعلمون أنَّهم عبيد آبقون يجازون، لا أبناء وأحباء يحابون. وقد كان اليهود يعتقدون أنَّهم شعب الله الخاص، ميزهم عن سائر البشر، فليس لشعب آخر أن يطلب مساواته بهم، وإنْ كان أصح منهم إيمانًا وأصلح أعمالًا، ولا ينبغي أن يتبعوا محمدًا - ﷺ - لأنه عربي لا إسرائيلي، والفاضل لا يتبع المفضول، والله لا يعاملهم إلا معاملة الوالد
وقد جاهد النبي - ﷺ - غرور اليهود جهادًا عظيمًا، ولم يجد ذلك فيهم شيئًا، فرفضوا دعوته، وردوا ما جاءهم به من أن العمل مرضاة لله، وبه تنال تزكية النفس، وإصلاحها كما جاهد صلف خبث النصارى وكبرهم، وكانوا زمن التنزيل أشد من اليهود فسادًا وظلمًا وعدوانًا بشهادة المؤرخين، ومع كل هذا يدعون أنَّهم أبناء الله وأحباؤه، وأنَّهم ليسوا في حاجة إلى إصلاح دينهم، ولا دنياهم، كما فعل اليهود مثل ذلك.
والخلاصة: أن هذه الآيات تبين لنا سنة الله في البشر، وأن الجزاء إنما يكون على الأعمال لا على الأسماء والألقاب،
١٩ - ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾؛ أي: يا معشر اليهود والنصارى ﴿قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا﴾ محمَّد - ﷺ - الذي بشرتم به في كتبكم، وأخبركم به أنبياؤكم حالة كونه ﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ﴾؛ أي: في زمن انقطاع من الرسل وطول عهد بالوحي، جميع ما تحتاجون إليه من أمور دينكم ودنياكم، من عقائد أفسدتها عليكم نزعات الوثنية، وأخلاق وآداب صحيحة أفسدها عليكم إفراطكم في الأمور المادية والروحية، وعبادات وأحكام تصلح أمور الأفراد والمجتمع. وقد أرسل صلوات الله عليه، وقد فشا التغيير والتحريف في الشرائع المتقدمة لتقادم عهدها، وطول زمانها، فاختلط فيها الحق بالباطل، والصدق بالكذب، وصار ذلك عذرًا ظاهرًا في إعراض الخلق عن العبادات، إذ لهم أن يقولوا: يا إلهنا عرفنا أنَّه لا بدّ من عبادتك، ولكن كيف نعبدك؛ فبعث الله محمدًا - ﷺ - في ذلك الحين لإزالة هذا العذر الذي بينه سبحانه بقوله: ﴿أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ﴾؛ أي: إنَّما أرسلنا إليكم رسولنا في زمن فترة الرسل، وانقطاع الوحي، كراهية أن تقولوا ما جاءنا من بشير يبشرنا بحسن العاقبة للمؤمنين، ولا نذير ينذرنا بسوء العاقبة للمفسدين والضالين؛ أي: أرسلناه كراهية أن تقولوا هذا القول معتذرين عن تفريطكم ﴿فـ﴾ ـلا تعتذروا لأنَّه ﴿قد جاءكم بشير ونذير﴾ يبين لكم أمر النجاة والخلاص والسعادة الأبدية، وأنها منوطة
فائدة: وقد اختلفوا (١) في مقدار هذه الفترة كم هي؟ فقال أبو عثمان النهدي وقتادة في رواية عنه: كانت ست مئة، ورواه البخاري عن سلمان الفارسي وعن قتادة خمس مئة وستون سنة. وقال معمر عن بعض أصحابه: خمس مئة وأربعون سنة. وقال الضحاك: أربع مئة وبضع وثلاثون سنة. وذكر ابن عساكر في ترجمة عيسى عليه السلام عن الشعبي أنه قال: ومن رفع المسيح إلى هجرة النبي - ﷺ - تسع مئة وثلاث وثلاثون سنة، والمشهور هو القول الأول وهو أنها ست مئة سنة. ومنهم عن يقول ست مئة وعشرون سنة، ولا منافاة بينهما، فإن القائل الأول أراد ست مئة سنة شمسية، والآخر أراد قمرية. وبين كل مئة سنة شمسية، وبين القمرية نحو من ثلاث سنين. وكانت هذه الفترة بين عيسى بن مريم وبين محمَّد - ﷺ -، كما ثبت في "صحيح البخاري" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "أنا أولى الناس بابن مريم لأنه ليس بيني وبينه نبي". وفي هذا رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبي، يقال له خالد بن سنان. كما حكاه القضاعي وغيره.
وفي هامش "ابن كثير": التحقيق الموافق للحساب الفلكي أن الهجرة النبوية كانت سنة ست مئة واثنين وعشرين لميلاد عيسى. والبعثة كانت قبل الهجرة بعشر سنين، باعتبار التبليغ، فهذا قريب ما اعتمده المؤلف انتهى.
ومدة ما بين موسى وعيسى ألف سنة، لكنها ليست فترة لبعثة كثيرين من الأنبياء بينهما، وكانوا ألف نبي على ما قيل، ويتعبدون بشريعة موسى، كداود وسليمان وزكريا ويحيى، على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه.
الإعراب
﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾: (الواو): استئنافية. ﴿لقد﴾: اللام موطئة لقسم محذوف. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿أَخَذَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل. ﴿مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف، وجملة القسم المحذوف مستأنفة. ﴿وَبَعَثْنَا﴾؛ (الواو): عاطفة. ﴿بعثنا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها جواب القسم. ﴿مِنْهُمُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿بعثنا﴾ أو حال من ﴿اثْنَيْ عَشَرَ﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، كما ذكره أبو البقاء. ﴿اثْنَيْ عَشَرَ﴾: عدد مركب معرب الصدر مبني العجز. ﴿أثني﴾: مفعول به لـ ﴿بعثنا﴾: منصوب وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة لأنه ملحق بالمثنى، الذي رفعه بالألف ونصبه وجره بالياء، وحذفت النون لشبه الإضافة، أو لشبه التركيب على ما قيل ﴿عَشَر﴾: جزء المفعول في محل النصب مبني على الفتح لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا، لتضمنه معنى حرف العطف، وإنَّما حرك ليعلم أنَّ له أصلًا في الإعراب، وكانت الحركة فتحة طلبًا للخفة لشبه التركيب لثقله ﴿نَقِيبًا﴾ تمييز منصوب.
{وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي
﴿وَقَالَ﴾: (الواو): عاطفة، ﴿قال الله﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿لقد أخذ الله﴾ على كونها جواب قسم لا محل لها من الإعراب. ﴿إِنِّي مَعَكُمْ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لقال، وإن شئت قلت: ﴿إِنِّي﴾: ﴿إِنِّ﴾: حرف نصب، و (الياء): ضمير المتكلم اسمها. ﴿مَعَكُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر إن تقديره: إني كائن معكم بالحفظ والمعونة، وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿لَئِنْ﴾: (اللام): موطئة للقسم. ﴿إنْ﴾: حرف شرط جازم. ﴿أَقَمْتُمُ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بإن الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿الصَّلَاةَ﴾: مفعول به. ﴿وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، في محل الجزم، معطوفة على جملة ﴿أَقَمْتُمُ﴾ على كونها فعل شرط لـ ﴿إن﴾. ﴿وَآمَنْتُمْ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿أَقَمْتُمُ﴾. ﴿بِرُسُلِي﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿آمنتم﴾. ﴿وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿أَقَمْتُمُ﴾. ﴿وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ﴾. ﴿قَرْضًا﴾: مفعول مطلق لـ ﴿أقرضتم﴾. ﴿حَسَنًا﴾ صفة لـ ﴿قَرْضًا﴾. وقال أبو البقاء (١): ﴿قَرْضًا﴾: يجوز أن يكون مصدرًا محذوفَ الزوائد، والعامل فيه ﴿أقرضتم﴾؛ أي: إقراضًا، ويجوز أن يكون ﴿قَرْضًا﴾ بمعنى مقرضًا، فيكون مفعولًا به انتهى.
﴿لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾.
﴿لَأُكَفِّرَنَّ﴾: اللام: زائدة، زيدت لتأكيد لام القسم المذكورة سابقًا.
﴿أكفرن﴾ فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول قال، وجواب الشرط محذوف، تقديره: إنْ أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة.. أكفر
وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ | جَوَابَ مَا أخَّرْتَ فَهُوَ مُلْتَزَمْ |
﴿فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾.
﴿فَمَنْ﴾: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم حكم من أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وآمن، وأردتم بيان حكم من كفر بعد ذلك.. فأقول لكم. ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو جملة الجواب أو هما. ﴿كَفَرَ﴾: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿كَفَرَ﴾. ﴿فَقَدْ﴾: الفاء: رابطة لجواب من الشرطية وجوبًا، لكون الجواب مقرونًا بقد. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿ضَلَّ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه جواب الشرط، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾: مفعول به ومضاف إليه، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة.
﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾.
﴿وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾.
﴿وَنَسُوا﴾: (الواو): عاطفة. ﴿نسوا﴾: فعل وفاعل. ﴿حَظًّا﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿يُحَرِّفُونَ﴾. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿حَظًّا﴾. ﴿ذُكِّرُوا﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿بِهِ﴾: متعلق به، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير ﴿بِهِ﴾. ﴿وَلَا﴾: (الواو): استئنافية. ﴿لا﴾: نافية. ﴿تَزَالُ﴾: فعل مضارع مرفوع - هي فعل من الأفعال الناقصة - واسمه ضمير يعود على محمَّد، أو على أي مخاطب. ﴿تَطَّلِعُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿عَلَى خَائِنَةٍ﴾: جار ومجرور، متعلق به. ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿خَائِنَةٍ﴾، وجملة ﴿تَطَّلِعُ﴾ في محل النصب خبر زال تقديره: ولا تزال يا محمَّد مطلعًا على خائنة منهم، وجملة زال مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿قَلِيلًا﴾: منصوب على الاستثناء، والمستثنى منه ضمير منهم ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿قَلِيلًا﴾.
﴿فَاعْفُ﴾: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أخلاقهم الشنيعة، من التحريف والنسيان والخيانة، وأردت بيان ما هو الأصلح لك، وما هو الأنفع لهم.. فأقول لك: اعف. ﴿اعف﴾: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق به. ﴿وَاصْفَحْ﴾: فعل أمر معطوف على ﴿فَاعْفُ﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾ وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل الجر مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾.
﴿وَمِنَ الَّذِينَ﴾: (الواو): استئنافية. ﴿من الذين﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَخَذْنَا﴾ الآتي على كونه مفعولًا أول. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجله صلة الموصول. ﴿إِنَّا نَصَارَى﴾: ناصب واسمه وخبره، والجملة الإسمية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿أَخَذْنَا﴾ فعل وفاعل. ﴿مِيثَاقَهُمْ﴾: مفعول ثان لـ ﴿أَخَذْنَا﴾ والتقدير: وأخذنا من الذين قالوا إنَّا نصارى ميثاقهم، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ والتقدير: ولقد أخذ الله الميثاق على اليهود فنقضوه، وأخذه على النصارى فنقضوه. ﴿فَنَسُوا حَظًّا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَخَذْنَا﴾. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿حَظًّا﴾. ﴿ذُكِّرُوا﴾ فعل ونائب فاعل ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور، تعلق به، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها.
﴿فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾.
﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (١٥)﴾.
﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء مستأنفة. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿جَاءَكُمْ﴾: فعل ومفعول به. ﴿رَسُولُنَا﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿يُبَيِّنُ﴾: فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير يعود على ﴿الرسول﴾. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿كَثِيرًا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿رَسُولُنَا﴾. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿كَثِيرًا﴾. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿تُخْفُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾: جار ومجرور متعلق به، أو حال من الضمير المحذوف، أو من ﴿ما﴾، والجملة الفعلية في محل النصب خبر كان، وجملة كان صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: تخفونه. ﴿وَيَعْفُو﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الرسول. ﴿عَنْ كَثِيرٍ﴾: جار ومجرور، متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿يُبَيِّنُ﴾. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿جَاءَكُمْ﴾: فعل ومفعول. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿نُورٌ﴾: فاعل. ﴿وَكِتَابٌ﴾:
﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)﴾.
﴿يَهْدِي﴾: فعل مضارع. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور، متعلق به. ﴿اللَّهُ﴾: فاعل. ﴿مَنِ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول أول لـ ﴿يَهْدِي﴾. ﴿اتَّبَعَ﴾: فعل ماضٍ وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنِ﴾. ﴿رِضْوَانَهُ﴾: مفعول ﴿اتَّبَعَ﴾ وهو مضاف. والهاء مضاف إليه، وجملة ﴿اتَّبَعَ﴾: صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿سُبُلَ السَّلَامِ﴾: مفعول ثانٍ لـ ﴿يَهْدِي﴾ أو بدل من ﴿رِضْوَانَهُ﴾ وجملة ﴿يَهْدِي﴾: من الفعل والفاعل في محل النصب بدل من جملة ﴿يُبَيِّنُ﴾ على كونها حالًا من ﴿رَسُولُنَا﴾ ويجوز (٢) أن تكون حالًا من الضمير في ﴿يُبَيِّنُ﴾، ويجوز أن تكون صفة لـ ﴿نُورٌ﴾ أو لـ ﴿كتاب﴾ والهاء في ﴿بِهِ﴾ تعود على من سواء جعل ﴿يَهْدِي﴾ حالًا منه، أو صفة له، فلذلك أفرد، ذكره أبو البقاء. ﴿وَيُخْرِجُهُمْ﴾: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾ وضمير المفعول في ﴿يخرجهم﴾ عائد إلى ﴿مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ﴾، وجمعه باعتبار المعنى، كما أفرده في ﴿اتَّبَعَ﴾ نظرًا للفظ. ﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ﴾: متعلق بـ ﴿يخرج﴾. وكذا قوله: ﴿إِلَى النُّورِ﴾ متعلق به. ﴿بِإِذْنِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿اتَّبَعَ﴾: أو بـ ﴿يخرجهم﴾ كما مرت الإشارة إليه في مبحث التفسير. ﴿وَيَهْدِيهِمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿إِلَى صِرَاطٍ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿مُسْتَقِيمٍ﴾: صفة لصراط، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ﴾.
(٢) العكبري.
﴿لَقَدْ﴾: (اللام): موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿كَفَرَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف مع جوابه مستأنفة. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالُوا﴾ وإن شئت قلت: ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل. ﴿الْمَسِيحُ﴾: خبر ﴿إنَّ﴾. ﴿ابْنُ﴾: صفة لـ ﴿الْمَسِيحُ﴾. ﴿مَرْيَمَ﴾: مضاف إليه، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾.
﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ إلى قوله ﴿جَمِيعًا﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿فَمَنْ﴾ (١): الفاء عاطفة على محذوف تقديره: قل كذبوا فمن يملك من الله شيئًا، أوليس الأمر كذلك. ﴿مَن﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. ﴿يَمْلِكُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَمْلِكُ﴾. وقال أبو البقاء: إنَّه حال من شيئًا من حيث إنَّه كان صفة في الأصل للنكرة، تقدم علمها فانتصب حالًا. انتهى. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿مَن﴾ الاستفهامية، وجملة ﴿مَن﴾ الاستفهامية في محل النصب معطوفة على الجملة المحذوفة التي قدرناها سابقًا على كونها مقولًا لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿شَيْئًا﴾ مفعول به ﴿إنْ﴾: حرف شرط. ﴿أَرَادَ﴾: فعل ماضٍ في محل الجزم بأن الشرطية على كونها فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾. ﴿أَنْ يُهْلِكَ﴾: ناصب ومنصوب وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾. ﴿الْمَسِيحَ﴾: مفعول به. ﴿ابْنَ﴾: صفة لـ ﴿الْمَسِيحَ﴾. ﴿مَرْيَمَ﴾: مضاف إليه وجملة
﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)﴾.
﴿وَلِلَّهِ﴾: (الواو): استئنافية. ﴿لله﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ﴾: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿وَمَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل الجر معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿بَيْنَهُمَا﴾: ظرف ومضاف إليه صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها ﴿يَخْلُقُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾ والجملة (٢) مستأنفة ﴿مَا يَشَاءُ﴾ ما موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿يَخْلُقُ﴾. ﴿يَشَاءُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما يشاؤه. ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿قَدِيرٌ﴾ وهو خبر المبتدأ، والجملة الإسمية معطوفة على جملة ﴿يَخْلُقُ﴾ على كونها مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨)﴾.
(٢) العكبري.
﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)﴾.
﴿اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾: نقيب القوم: من ينقب عن أحوالهم، ويبحث عن شؤونهم، ونقب عليهم نقابة إذا صار عليهم نقيبًا؛ أي: يفتش عن أحوالهم وأسرارهم. والنقيب: فعيل بمعنى فاعل، مشتق من التنقيب وهو التفتيش، ومنه: ﴿فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ﴾، وسمي بذلك؛ لأنه يفتش عن أحوال القوم وأسرارهم كما مر آنفًا، وقيل: هو بمعنى مفعول، كأن القوم اختاروه على علم منهم وتفتيش عن أحواله، والظاهر أن النقيب فعيل للمبالغة، كعليم وخبير.
﴿وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾: عزر (١) الرجل، قال يونس بن حبيب: أثنى عليه بخير، وقال أبو عبيدة: عظمه، وقال الفراء: رده عن الظلم، ومنه التعزير؛ لأنه يمنع من معاودة القبيح. وفي "المختار": التعزير التوقير والتعظيم وفي "القاموس": التعزير: ضربٌ دون الحد، وهو أشد الضرب، والتفخيم والتعظيم، وضد الإهانة كالعزر والتقوية والنصر اهـ.
﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾ يجوز أن يكون مصدرًا محذوف الزوائد وعامله ﴿أَقْرَضْتُمُ﴾؛ أي: إقراضًا، ويجوز أن يكون بمعنى المقرض، فيكون مفعولًا به، والقرض الحسن: ما كان عن طيب نفس ﴿سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾؛ أي: وسطه، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: السبيل المستوي ﴿لَعَنَّاهُمْ﴾؛ أي: طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا. ﴿قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾: اسم فاعل من: قسا يقسو قسوة، فياؤه بدل واو، فأصله قاسوة؛ لأنه من القسوة. ويقرأ: قسية على وزن فعيلة، قلبت الواو ياء، وأدغمت فيها ياء، وفعيلة هنا بمعنى؛ فاعلة، ومعنى قاسية يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق.
﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ﴾: والتحريف إمالة الشيء، عن موضعه إلى أي جانب من الجوانب ﴿تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ﴾ يقال: طلع الشيء إذا برز وظهر، واطلع افتعل منه.
أحدها: أنها اسم فاعل، والهاء للمبالغة كراوية ونسابة؛ أي: على شخص خائن.
والثاني: أن التاء للتأنيث، وأنث على معنى طائفة، أو نفس أو فعلة خائنة.
والثالث: أنها مصدر كالعافية والعاقبة، ويؤيد هذا الوجه قراءة الأعمش ﴿على خيانة﴾، وأصل خائنة خاونة فأعلَّ إعلال قائمة اهـ "سمين".
﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ وفي "المختار": والنصير الناصر، وجمعه أنصار، كشريف وأشراف، وجمع الناصر نصر كصاحب وصحب. والنصارى: جمع نصران ونصرانة، كالندامى جمع ندمان وندمانة، ولم يستعمل نصران إلا بياء النسب ونصره تنصيرًا جعله نصرانيًّا. وفي الحديث: "فأبواه يهودانه أو ينصرانه" اهـ. وفي "المصباح": ورجل نصارني بفتح النون، وامرأة نصرانية، ويقال: إنه نسبة إلى قرية اسمها نصرى، ولهذا قيل في الواحد نصرى على القياس والنصارى جمعه، مثل مهرى ومهارى، ثم أطلق النصراني على كل من تعبد بهذا الدين. اهـ.
﴿فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾ من (٢) أغراه بكذا؛ أي: ألزمه إياه، وأصله من الغراء بفتح الغين وكسرها، وهو ما يلصق به الورق أو الجلد ولامه واو. والأصل فأغرونا، وإنَّما قلبت الواو ياء لوقوعها رابعة، ومنه قولهم بيت مغروٌّ؛ أي: معمول بالغراء ويقال غرى بالشيء، يغرى غراءً وغرى لصق به، وأغرى فلان زيدًا بعمرو ولعه به، وأغريت الكلب بالصيد أشليته، وقال النضر: أغرى بينهم: هيّج.
وفي "المصباح": غرى بالشيء غرىً - من باب تعب - أولع به من حيث لا يحمله عليه حامل، وأغريته به إغراء فأغري به بالبناء للمفعول، والاسم الغراء الفتح والمد، والغراء مثل كتاب ما يلصق معمول من الجلود، وقد يعمل من السمك والغرا - مثل العصا - لغة فيه، وغروت الجلد أغروه من باب عدا؛ ألصقته
(٢) الفتوحات.
﴿فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ والملك (١) والمِلك: الضبط. والحفظ والقدرة من قولهم: ملكت على فلان أمره؛ أي: قدرت عليه؛ أي: فمن يقدر؛ أي: يمنع.
﴿عَلَى فَتْرَةٍ﴾: والفترة أصلها السكون، يقال: فتر الشيء إذا سكن، وقيل: هي الانقطاع. قاله أبو علي الفأرسي وغيره، ومنه فتر الماء إذا انقطع عما كان عليه من البرد إلى السخونة، وفتر الرجل عن عمله إذا انقطع عما كان عليه من الجد فيه، وامرأة فاترة الطرف؛ أي: منقطعة عن حدة النظر، والمعنى: أنه انقطع الرسل قبل بعثه - ﷺ - مدةً من الزمان، والهاء (٢) فيه ليست للمرة الواحدة، بل فترة مرادف للفتور.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والبيان والبديع:
فمنها: الالتفات في قوله: ﴿وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾. ففيه التفات من الغيبة إلى التكلم، ومقتضى الظاهر أن يقول: وبعث الله، وإنَّما التفت اعتناء بشأنه.
ومنها: المجاز المرسل في ﴿وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾، بإسناد الفعل إلى الآمر مثل قولهم: بنى الأمير المدينة.
ومنها: إطلاق المشترك وإرادة أحد معانيه في قوله: ﴿وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾؛ لأنَّ المراد به هنا: النصر.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾.
(٢) البحر المحيط.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ إلى خطاب الفريقين.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿فَنَسُوا حَظًّا﴾؛ لأن النسيان مجاز عن الترك من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ﴾؛ لأنه كناية عن إيقاع العداوة بينهم، والتعبير بالإغراء أبلغ، كأن العداوة لاصقة بهم كالغراء اللاصق بالجلد.
ومنها: القصر في قوله: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾. وذلك أن الخبر إذا عرف بالألف واللام.. أفاد القصر، سواء كان التعريف فيه عهديًّا أو جنسيًّا، فإذا ضم معه ضمير الفصل.. ضاعف تأكيد معنى القصر، فإذا صدرت الجملة بإنّ.. بلغ الكمال في التحقيق.
ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في قوله: ﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾:.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا﴾، وفي قوله: ﴿يَهْدِي بِهِ﴾. و ﴿يهديهم﴾.
ومنها: الحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (٢٠) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (٢١) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (٢٢) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (٢٤) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٢٥) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٢٦)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما أقام الحجة على بني إسرائيل، وأثبت لهم رسالة نبيه - ﷺ - بما أوحاه إليه بشأنهم وشأن كتبهم وأنبائهم، من البشارات، وأخبار الغيب، وتحريف الكتب ونسيان حظ منها، وأيد ذلك بدحض شبهاتهم، وإبطال غرورهم، وهم مع كل هذا لم يزدادوا إلا كفرًا وعنادًا.. بين هنا تمرد أسلاف اليهود على موسى عليه السلام وعصيانهم إياه، مع تذكيره إياهم نعم الله تعالى وتعداده لما هو العظيم منها، وأن هؤلاء الذين هم بحضرة الرسول هم جارون معكم مجرى أسلافهم مع موسى، ليعلم الرسول - ﷺ - أن مكابرتهم للحق من أخلاقهم توارثوها من أسلافهم، وتأصلت في طباعهم، فلا بدع إذا هم أعرضوا عن دعوتك، وصدوا عن هديك. وفي هذا من تسلية النبي - ﷺ - ما لا يخفى إلى ما فيه من زيادة معرفة طبائع الأمم، وسنن الاجتماع البشري.
التفسير وأوجه القراءة
٢٠ - قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾ جملة مستأنفة لبيان ما فعلوا بعد أخذ
الأول: وهو أرفعها قدرًا وأعلاها ذكرًا ما ذكره بقوله: ﴿إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ﴾؛ يعني: أن موسى عليه السلام ذكر قومه بني إسرائيل بأيام الله عندهم، وبما أنعم به عليهم فقال: يا قومي اذكروا إنعام الله تعالى عليكم حين جعل فيكم أنبياء؛ لأنه لم يبعث في أمة من الأمم ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء، فمنهم السبعون الذين اختارهم موسى من قومه، فانطلقوا معه إلى الجبل، ومنهم أولاد يعقوب؛ فإنهم كانوا أنبياء على قول الأكثرين.
والمعروف عند أهل الكتاب (٢) أن المراد بالنبوة الإخبار ببعض الأمور
(٢) المراغي.
والثاني: ما ذكره بقوله: ﴿وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا﴾؛ أي: واذكروا إنعام الله تعالى عليكم حين جعلكم ملوكًا وأحرارًا تملكون أنفسكم بعد أن كنتم عبيدًا في أيدي القبط. والمراد من الملك هنا: الحرية في تدبير أمورهم وأمور أسرهم بأنفسهم. وفي هذا من تعظيم هذه النعمة ما لا يخفى، ويؤيد هذا: ما رواه أبو سعيد الخدري، مرفوعًا "كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملِكًا". وما رواه أبو داود عن زيد بن أسلم: "من كان له بيت وخادم.. فهو ملك ولا شك أن من كان متمتعًا بمثل هذا.. كان متمتعًا بنحو ما يتمتع به الملوك من الراحة والحرية في التصرف في سياسة بيته، والناس يقولون إلى الآن لمن كان مخدومًا مع عشيرته، هانئًا في معيشته، مالكًا لمسكنه: هذا ملك أو ملك زمانه، يريدون أنه يعيش عيشة الملوك. وقال الضحاك: كانت منازلهم واسعة، فيها مياه جارية، ومن كان مسكنه واسعًا وفيه ماء جارٍ.. فهو ملك.
والثالث: ما ذكره بقوله: ﴿وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: ويا قوم اذكروا إنعام الله تعالى عليكم حين أعطاكم ما لم يعطِ أحدًا من العالمين، من فلق البحر، وإغراق العدوّ، وإيراث أموالهم، وإنزال المن والسلوى، وإخراج المياه العذبة من الحجر، وتظليل الغمام؛ فإن ذلك لم يوجد في غير بني إسرائيل، أو عالمي زمانهم، وشعوبه التي كانت مستعبدة للطغاة من الملوك، فقد خصهم بأنواع عظيمة من الإكرام، فقد فلق البحر لهم، وأهلك عدوهم، وأورثهم أموالهم، وأنزل عليهم المنّ والسلوى، وأظل فوقهم الغمام، إلى غير ذلك من النعم التي أنعم الله بها عليهم،
٢١ - وبعد أن ذكرهم موسى بهذه النعم وشرحها لهم، أمرهم بمجاهدة العدوّ، وأبان لهم أن الله ناصرهم ما نصروه فقال: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا
قلت: إنَّ المراد بالكتب الأمر بالدخول، أو بأن معنى قوله: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾؛ أي: قدرها لكم في اللوح المحفوظ إنْ لم تقع منكم مخالفة، وقد وقعت فحرمت عليهم أربعين سنة، فهو قضاء معلق.
وقيل معنى: (٣) ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾؛ أي: وهبها الله لكم ميراثًا من أبيكم إبراهيم عليه السلام. روي أن إبراهيم عليه السلام لما صعد جبل لبنان قال الله سبحانه وتعالى له: "انظر فما أدركه بصرك.. فهو مقدس وهو ميراث لذريتك" وكان بنو إسرائيل يسمون أرض الشام أرض الموعد. قال ابن عباس: الأرض هي الطور وما حوله. وقرأ ابن محيصن هنا وفي جميع القرآن: ﴿يا قومُ﴾ مضموم الميم ويروى قراءة عن ابن كثير، ووجهها أنها لغة في المضاف لياء المتكلم كقراءة: ﴿قال رب احكم بالحق﴾. وقرأ ابن السميقع: ﴿يا قومي ادخلوا﴾ بفتح الياء؛ لأنَّه منادى مضاف لياء المتكلم، قال ابن مالك:
(٢) صاوى.
(٣) المراح.
وَاجْعَلْ مُنَادَى صَحَّ أَنْ يُضَفْ لِيَا | كَعَبْدِ عَبْدِيْ عبد عَبْدَا عَبْدِيَا |
ونص هذا الوعد في سفر التكوين من التوراة: أنَّه لما مرّ إبراهيم بأرض الكنعانيين.. ظهر له الربّ وقال: لنسلك أعطيت هذه الأرض. وجاء فيه أيضًا: في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقًا قائلًا: لنسلك أعطيت هذه من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر فرات.
﴿وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ﴾؛ أي: لا تنكصوا ولا ترجعوا إلى خلفكم وعلى أعقابكم؛ أي: إلى مصر خوف العدوّ، وتتركوا طاعتي وما أوجبته عليكم من قتال الجبارين جبنًا وفشلًا ﴿فَتَنْقَلِبُوا﴾ وتصيروا بسبب ذلك ﴿خَاسِرِينَ﴾ لخيري الدنيا والآخرة؛ لأن الفرار من الزحف من الكبائر، فإنهم لما سمعوا أخبار الجبارين قالوا: نجعل لنا رئيسًا ينصرف بنا إلى مصر، وصاروا يبكون ويقولون: يا ليتنا متنا بمصر.
والمعنى: أي لا ترجعوا عما جئتكم به من التوحيد والعدل والهدى والرشاد إلى الوثنية، والفساد في الأرض، بالظلم والبغي واتباع الأهواء؛ فإنَّ في هذا الرجوع خسرانًا لكم، إذ تخسرون فيه هذه النعم، ومنها الأرض المقدسة التي ستعطونها جزاء شكركم، فتحرمون من خيراتها وبركاتها، وقد جاء في بعض أوصافها: "أنها تفيض لبنًا وعسلًا" وتعاقبون بالتيه أربعين سنة، ينقرض فيها المرتدون على أدبارهم.
ثم بعث موسي عليه السلام اثني عشر نقيبًا ليتجسسوا لهم عن أحوال تلك الأرض، فلما دخلوا تلك البلاد.. رأوا أجسامًا عظيمة هائلة، ثم انصرفوا إلى
٢٢ - ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا﴾؛ أي: قال قوم موسى له: إن في الأرض المقدسة ﴿قَوْمًا جَبَّارِينَ﴾؛ أي: عاتين متغلبين لا طاقة لنا بهم، ولا قوة لنا بقتالهم، وسمي أولئك القوم جبارين لشدة بطشهم، عظم خلقهم، وكانوا ذوي أجسام عظيمة، وأشكالٍ هائلة، وهم العمالقة بقية قوم عاد. وقيل: من الروم من ولد عيص بن إسحاق.
وقرأ ابن السميقع: ﴿قالوا يا موسى فيها قوم جبارون﴾. ﴿وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا﴾؛ أي: لن ندخل أرض الجبارين التي أمرهم الله بدخولها؛ وهي الأرض المقدسة ﴿حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا﴾؛ أي: حتى يخرج الجبارون من الأرض المقدسة، من غير صنع منا، فإنَّه لا طاقة لنا بإخراجهم منا، وإنَّما قالوا ذلك.. استبعادًا لخروج الجبارين منها، كقوله: ﴿ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط﴾ ﴿فَإِنْ يخرُجُوا مِنها﴾ بسبب ليس منا ﴿فَإنَّا داخلون﴾ فيها.
والخلاصة (١): أنَّ موسى لما قرب بقومه حدود الأرض المقدسة العامرة الآهلة.. أمرهم بدخلوها مع الاستعداد لقتال من يقاتلهم من أهلها، وأنهم لما غلب عليهم الضعف والذل، واضطهاد المصريين لهم، وظلمهم إياهم.. أبوا وتمردوا واعتذروا بضعفهم، وقوة أهل تلك البلاد، وحاولوا الرجوع إلى مصر، وقالوا لموسى: إنَّا لن ندخل هذه الأرض ما دام هؤلاء الجبارون فيها، وقولهم ﴿فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ تأكيد لما فهم مما قبله، مشعر بأنه لا علة لامتناعهم إلا ما ذكروه، وفي إجابتهم هذه دليل على منتهى الضعف، وخور
٢٣ - ﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ﴾ الله تعالى في مخالفة أمره ونهيه ويراقبونه ﴿أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا﴾ بالهداية والثقة بعون الله، والاعتماد على نصرة الله، والأشهر عند المفسرين أن الرجلين يوشع بن نون بن أفراثيم بن يوسف عليه السلام، وهو ابن أخت موسى، ونبىء بعد موسى، وكالب بن يوقنا ختن موسى على أخته مريم بنت عمران، وهما اللذان وفيا من النقباء الذين بعثهم موسى في كشف أحوال الجبابرة، فكتما ما اطلعا عليه من حال الجبابرة إلا عن موسى، وأفشى ذلك بقية النقباء في أسباطهم، فآل بهم ذلك إلى الخور والجبن، بحيث امتنعوا عن القتال، فإذا فسرنا الرجلين بيوشع وكالب.. يستفاد من الكلام: أن مع موسى أقوامًا يخافون الله فلا يبالون بالعدو لصحة إيمانهم وقوته، وهذان منهم، أو المعنى: من الذين يخافون العدوّ، لكن أنعم الله عليهما بالإيمان والثبات. وقيل (١): هما رجلان من الجبابرة أنعم الله عليهما بالإيمان فآمنا، واجتمعا مع موسى، فحينئذ فالموصول واقع على الجبابرة، والواو في يخافون على بني إسرائيل، والعائد محذوف، والتقدير: قال رجلان من الجبارين الذين يخافهم بنو إسرائيل، أنعم الله عليهما بالإيمان مع موسى، ويدل على هذا التأويل قراءة ابن عباس وابن جبير ومجاهد: ﴿يخافون﴾ بضم الياء على صيغة المبني للمجهول؛ أي: الذين يخافهم بنو إسرائيل، وتحتمل هذه القراءة أن يكون الرجلان يوشع وكالب. ومعنى يخافون؛ أي: يهابون ويوقرون، ويسمع كلامهم لتقواهم وفضلهم، ويحتمل أن يكون من أخاف؛ أي: يخيفون بأوامر الله ونواهيه، وزجره ووعيده، فيكون ذلك مدحًا لهم كقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى﴾. ذكره أبو حيان في
وفي قراءة عبد الله: ﴿أنعم الله عليهما ويلكم ادخلوا عليهم الباب﴾. وهذا يدل على أن موسى كان قد أنزل محلته قريبًا من المدينة ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ﴾؛ أي: باب بلدهم ﴿فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ﴾ من غير حاجة إلى القتال، فإنا شاهدنا أن قلوبهم ضعيفة، وإنْ كانت أجسامهم عظيمة؛ وإنَّما جزم هذان الرجلان بالغلبة؛ لأنَّهما كانا جازمين بنبوة موسى، فلما أخبرهم موسى بأن الله تعالى أمرهم بالدخول في تلك الأرض، وكتبها لهم قطعا بأن النصرة لهم، والغلبة حاصلة في جهتهم ﴿وَعَلَى اللَّهِ﴾ لا على غيره ﴿فَتَوَكَّلُوا﴾ في حصول هذا النصر لكم بعد ترتيب الأسباب، ولا تعتمدوا عليها فإنها غير مؤثرة ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ بصحة نبوة موسى، ومقرين بوجود الإله القادر، مصدقين لوعده.
والمعنى: أي (١) ادخلوا عليهم باب المدينة، فإذا فعلتم ذلك.. نصركم الله، وأيدكم بروح من عنده، بعد أن تعلموا ما في طاقتكم من طاعة ربكم، الذي تثقون به فيما لا يصل إليه كسبكم، إن كنتم مؤمنين بأن وعد الله حق، وأنَّه قادر على الوفاء به؛ وإنَّما جزم الرجلان بأنهم سيغلبون إذا دخلوا.. ثقة بنبوة موسى، وهو قد أخبرهم بأنَّ الله أمرهم بدخول الأرض المقدسة التي كتبها لهم، لا جرم قطعا بالنصر والغلبة على العدوّ.
٢٤ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال بنو إسرائيل لموسى ﴿يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا﴾؛ أي: أرض الجبارين ﴿أَبَدًا﴾؛ أي: مدة حياتنا ﴿مَا دَامُوا فِيهَا﴾؛ أي: ما دام الجبارون مقيمين في أرضهم، وكان هذا القول منهم فشلًا وجبنًا، أو عنادًا وجرأة على الله وعلى رسوله ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ﴾ يا موسى ﴿وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا﴾ هم قالوا هذه المقالة جهلًا باللهِ عَزَّ وَجَلَّ وبصفاته، وكفرًا بما يجب له، أو استهانة بالله ورسوله، وقلة
والخلاصة (٢): أنَّهم أصروا على العناد والتمرد، ولم تغن عنهم عظات الرجلين شيئًا، فأكدوا لموسى أنَّهم لا يدخلون هذه الأرض مدى حياتهم ما دام فيها الجبارون؛ لأنهم لا طاقة لهم بالحرب والقتال، إذ ليسوا من أهله، فإنْ صحت عزيمتك على ذلك.. فاذهب أنت ربك الذي أمرك بذلك، فقاتلا الجبارين، وأخرجاهم من هذه الأرض، وإنَّا ها هنا قاعدون منتظرون. وهذا القول الذي صدر منهم يدل علي منتهى الجفاء والبعد عن الأدب، وليس هذا بالغريب من أمثال هؤلاء الذين عبدوا العجل، وكان دأبهم الشغب مع أنبيائهم، وقتلوا كثيرًا منهم، كأشعيا وزكريا، وقص القرآن كثيرًا من فساد طباعهم، وقسوتهم وغلظهم.
٢٥ - ﴿قالَ﴾ موسى عليه السلام لما رأى منهم عنادًا وتمردًا على طريق الحزن والشكوى إلى الله تعالى، معتذرًا من فسق قومه عن أمره الذي يبلغه عنه ﴿رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ﴾ أمر أحد أحمله على طاعتك ﴿إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي﴾ وقرأ الحسن بفتح الياء فيهما؛ أي: إلا أمر نفسي وأمر أخي، ولا أثق بغيرنا أن يطيعك في اليسر والعسر والمنشط والمكره والمحبوب والمكروه.
وفي هذا إيماء إلى أنَّه لم يكن موقنًا بثبات يوشع وكالب، ورغبتهما في الطاعة، إذ أمر الله بدخول أرض الجبارين، والتصدي لقتالهم، فإن من يجرؤ على القتال مع الجيش الكبير.. ربما لا يجرؤ عليه مع العدد القليل {فَاَفْرق
(٢) المراغي.
يَا رَبُّ فَافْرِقْ بَيْنَهُ وَبَيْنِي | أَشَدَّ مَا فَرَّقْتَ بَيْنَ اثْنَيْنِ |
٢٦ - ﴿قَالَ﴾ الله سبحانه وتعالى لموسى مجيبًا دعوته: يا موسى ﴿فَإِنَّهَا﴾؛ أي: فإن الأرض المقدسة ﴿مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: ممنوع عليهم الدخول فيها أبدًا حتى يموتوا ويدخلها أبناؤهم. والمراد بالتحريم: تحريم منع وفعل، لا تحريم تعبد وتكليف، فلا يدخلونها ولا يملكونها بسبب عصيانهم، نظير قوله تعالى: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ﴾، وكون التحريم مؤبدًا إنْ قلنا إن الكلام تم عند قوله. ﴿مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ وقوله: ﴿أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ ظرف لقوله: ﴿يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: يسيرون في البرية مدة أربعين سنة، تائهين متحيرين لا يدرون أين مصيرهم. وقيل: معناه أن الأرض المقدسة محرمة عليهم أربعين سنة، ثم يدخلونها وتفتح لهم، وعلى هذا القول فأربعين سنة ظرف لقوله: ﴿مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ فلما (١) انقضت مدة أربعين سنة.. خرج بهم يوشع بن نون عليه السلام أو بمن بقي منهم وبسائر بني إسرائيل من الجيل الثاني، فقصد بهم بيت المقدسة فحاصرها، فكان فتحها يوم الجمعة بعد العصر. فلمَّا تضيفت الشمس للغروب وخشي دخول السبت عليهم قال: إنَّك مأمورة، وأنا مأمور، اللهم احبسها عليّ، فحبسها الله تعالى
وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَأسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ تسلية لموسى عليه السلام عنهم لما ندم على الدعاء عليهم، وبين أنهم أحقاء بذلك لفسقهم؛ أي؛ لا تحزن يا موسى على هلاكهم وعقوبتهم؛ لأنهم أهل مخالفة وخروج عن الطاعة، فهم فاسقون متمردون مستحقون لهذا التأديب الإلهي، وقيل: الخطاب لمحمد - ﷺ -، والمراد بالفاسقين معاصروه؛ أي: هذه فعال أسلافهم، فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك، وردهم عليك؛ فإنَّها سجية خبيثة موروثة عندهم.
فائدة: واختلف المفسرون في مقدار الأرض التي تاهوا فيها (١)، فقيل: مقدار ستة فراسخ، وقيل: ستة فراسخ في اثني عشر فرسخًا، وقيل: تسع فراسخ في ثلاثين فرسخًا، وكان القوم ست مئة ألف مقاتل، وكانوا يرحلون ويسيرون يومهم أجمع، فإذا أمسوا.. إذ هم في الموضع الذي رحلوا منه، وكان ذلك التيه عقوبة لبني إسرائيل، ما خلا موسى وهارون ويوشع وغالب؛ فإن الله تعالى سهله عليهم، وأعانهم عليه، كما سهل على إبراهيم النار وجعلها بردًا وسلامًا.
فإنْ قلت: (٢) كيف يعقل بقاء هذا الجمع العظيم، في هذا المقدار الصغير من الأرض أربعين سنة، بحيث لم يخرج منه أحد؟.
قلت: هذا من باب خوارق العادات، وخوارق العادات في أزمان الأنبياء غير مستبعدة؛ فإن الله على كل شيء قدير. وقيل: إن فسرنا ذلك التحريم بتحريم التعبد.. زال هذا الإشكال لاحتمال أن الله ما حرم عليهم الخروج من تلك الأرض، بل أمرهم بالمكث فيها أربعين سنة في المشقة والمحنة، جزاءً لهم على سوء صنيعهم، ومخالفتهم أمر الله، ولما حصل بنو إسرائيل في التيه شكوا إلى
(٢) الخازن.
وقد أفسد ظلم الفراعنة فطرة بني إسرائيل في مصر، وطبع عليهم بطابع الذلة والمهانة، وقد أراهم الله تعالى ما لم ير أحدًا من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته، وصدق رسوله موسى عليه السلام، وبيَّن لهم أنَّه أخرجهم من مصر لينقذهم من العبودية إلى نعيم الحرية، ومع هذا كله كانوا إذا أصابهم نصب أو جوع، أو كلفوا أمرًا يشق عليهم، يتطيرون بموسى، ويذكرون مصر ويحنون إلى العودة إليها، وحين غاب عنهم موسى عليه السلام لمناجاة ربه، اتخذوا لهم عجلًا من حليهم وعبدوه، وكان يعلم أن نفوسهم ميتة، لا تطيعهم على دخول أرض الجبارين وأن وعده تعالى لأجدادهم إنَّما يتم إذا هلك ذلك الجيل الذي
قصة وفاة موسى وهارون عليهما السلام
فأما هارون (١): فإنه كان أكبر من موسى بسنة، قال السدي: أوحى الله عز وجل إلى موسى أني متوفي هارون، فأتِ به جبل كذا وكذا، فانطلق موسى وهارون نحو ذلك الجبل، فإذا بشجرة لم يرَ مثلها. وإذا بيت مبني وفيه سرير عليه فراش، وفيه رائحة طيبة، فلما رأى هارون ذلك البيت أعجبه وقال: يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير، قال: نمْ، قال: إني أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب عليّ، قال: لا تخف إنِّي أكفيك رب هذا الييت فنم، قال: يا موسى فنم أنت معي، فإن جاء رب هذا البيت غضب علي وعليك جميعًا، فلما ناما أخذ هارون الموتُ، فلما وجد مسه قال: يا موسى خدعتني، فلما قبض هارون، ورفع البيت والسرير إلى السماء - وهارون عليه - وذهبت الشجرة، فرجع موسى إلى بني إسرائيل وليس هارون معه، فقال بنو إسرائيل: حسد موسى هارون فقتله لحبنا إياه، قال موسى: ويحكم إن هارون كان أخي، أفتروني أقتله؟ فلما أكثروا عليه، قام موسي، فصلى ركعتين، ثم دعا الله عز وجل، فنزل السرير - وعليه هارون - فنظروا إليه وهو بين السماء والأرض فصدقوه، ثم رفع.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: صعد موسى وهارون عليهما السلام إلى الجبل، فمات هارون وبقي موسى، فقال بنو إسرإئيل لموسى: أنت قتلته، وآذوه، فأمر الله الملائكة، فحملوه حتى مروا به على بني إسرائيل، وتكلمت الملائكة، فصدقت بنو إسرائيل أنه مات، وبرأ الله موسى مما قالوه، ثم
وأما وفاة موسى عليه السلام، فقال ابن إسحاق: كان صفي الله موسى عليه السلام قد كره الموت وأعظمه، فأراد الله تعالى أن يحبب إليه الموت، فنبأ يوشع بن نون، فكان موسى يغدو ويروح إليه ويقول له: يا نبي الله ما أحدث الله إليك؟ فيقول له يوشع: يا نبى الله ألم أصحبك كذا وكذا سنة فهل كنت أسألك عن شيء مما أحدث الله إليك، حتى كنت أنت تبتدىء به، وتذكره لي، ولا يذكر له شيئًا؟ فلما رأى موسى ذلك، كره الحياة وأحب الموت.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "أرسل ملك الموت إلى موسى، فلما جاءه صكه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت؟ فرد الله عليه عينه وقال: ارجع فقل له يضع يده على متن ثور، فله بكل ما غطت يده من شعرة سنة، قال: أي رب ثم مه؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر؟ قال رسول الله - ﷺ -: فلو كنت ثَم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر". متفق عليه.
وفي رواية لمسلم قال: جاء ملك الموت إلى موسى، فقال: أحب ربك، قال: فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها. ثم ذكر معنى ما تقدم. قال النواوي: قال المازري: وقد أنكر بعض الملاحدة هذا الحديث، وأنكره تصوره، قالوا: كيف يجوز على موسى فقأ عين ملك الموت؟ وأجاب عنه العلماء بأجوبة:
أحدها: أنه لا يمتنع أن يكون الله قد أذن لموسى في هذه اللطمة، ويكون ذلك امتحانًا للملطوم، والله تعالى يفعل في خلقه ما يشاء، ويمتحنهم بما أراد.
والثاني: أن موسى لم يعلم أنه ملك من عند الله تعالى، وظن أنَّه رجل قصده يريد نفسه، فدافعه عنها، فأدت المدافعة إلى فقأ عينه، لا أنه قصدها بالفقأ، وتؤيده رواية صكّه، وهذا جواب الإِمام أبي بكر بن خزيمة وغيره من المتقدمين، واختاره المازري والقاضي عياض، قالوا: وليس في الحديث تصريح
قال بعض العلماء: وإنَّما سأل موسى الإدناء ولم يسأل نفس بيت المقدس؛ لأنَّه خاف أن يكون قبره مشهورًا عندهم فيفتتن به الناس كما مر، والله أعلم.
قال وهب بن منبه: خرج موسى لبعض حاجته، فمرّ برهط من الملائكة يحفرون قبرًا لم ير شيئًا أحسن منه، ولا مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة، فقال لهم: يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر؟ فقالوا: لعبد كريم على ربه، فقال: إن هذا العبد من الله بمنزلة ما رأيت كاليوم قط؟ فقالت الملائكة: يا صفي الله تحب أن يكون لك؟ قال: وددت، قالوا: فانزل واضطجع فيه وتوجه إلى ربك، فنزل واضطجع وتوجه إلى ربه عز وجل، ثم تنفس أسهل تنفس، فقبض الله روحه، ثم سوت الملائكة عليه التراب.
وقيل: إن ملك الموت أتاه بتفاحة من الجنة فشمها فقبض روحه، وكان عمر موسى عليه السلام مئة وعشرين سنة، فلما مات موسى عليه السلام.. انقضت الأربعون سنة، وبعث الله يوشع إلى بني إسرائيل، فأخبرهم أن الله قد أمره بقتال الجبارين، فصدقوه وتابعوه، فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحاء - وهي مدينة الجبارين - ومعه تابوت الميثاق، فأحاط بمدينة أريحاء ستة أشهر. فلما كان في السابع نفخوا في القرون، وضجوا في الشعب ضجة واحدة، فسقط سور المدينة، فدخلوها وقاتلوا الجبارين وهزموهم، وهجموا عليهم يقتلونهم، فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل من الجبابرة بضربونها حتى يقطعونها، وكان القتال والفتح يوم الجمعة، فبقيت منهم بقية، وكادت الشمس أن تغرب وتدخل ليلة السبت، فقال: اللهم اردد علي الشمس، وقال للشمس: إنك في طاعة الله، وأنَّا في طاعة الله، وسأل الشمس أن تقف والقمر أن يقف، حتى
وفي الحديث الصحيح ما يدل على صحة هذا، وهو ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولم يبن بها، ولا أحد بني بيوتًا ولم يرفع سقوفها، ولا رجل اشترى غنمًا، أو خلفات وهو ينتظر أولادها، فغزا، فدنا من القرية صلاة العصر أو قريبًا من ذلك، فقال للشمس: إنَّك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا، فحبست حتى فتح الله عليه، فجمع الغنائم، فجاءت - يعني النار - لتأكلها، فلم تطعهما، فقال: إنَّ فيكم غلولًا، فليبايعني من كل قبيلة رجل، فلزقت يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول، فجاؤوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب، فوضعها فجاءت النار فأكلتها". زاد في رواية فلم تحل الغنائم لأحد قبلنا، ثم أحل الله لنا الغنائم لما رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا. أخرجه البخاري ومسلم.
الإعراب
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ﴾.
﴿وَإِذْ﴾ (الواو): استئنافية. ﴿إذ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره: اذكر يا محمَّد وقت قول موسى لقومه، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿قَالَ مُوسَى﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه. ﴿لِقَوْمِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿قَالَ﴾. ﴿يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿خَاسِرِينَ﴾ مقول محكي لقال، وإن شئت قلت: ﴿يَا قَوْمِ﴾ يا:
وَاجْعَلْ مُنَادَى صَحَّ أَنْ يُضَفْ لِيَا | كَعَبْدِ عَبْدِيْ عَبْدَ عَبْدَا عَبْدِيَا |
﴿اذْكُرُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة في على النصب مقول القول على كونها جواب النداء، ﴿عَلَيْكُمْ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ أو حال منها ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾. ﴿جَعَلَ﴾: فعل ماضٍ وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾ ﴿فِيكُمْ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿جَعَلَ﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا له. ﴿أَنْبِيَاءَ﴾: مفعول أول له، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لإذ. ﴿وَجَعَلَكُمْ﴾: فعل ومفعول أول وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾ ﴿مُلُوكًا﴾: مفعول ثانٍ لجعل،
﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (٢٢)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل والجملة مستأنفة. ﴿يَا مُوسَى﴾ إلى قوله: ﴿دَاخِلُونَ﴾ مقول محكي، وإنْ شئت قلت: ﴿يَا مُوسَى﴾ منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿فِيهَا﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿إِنَّ﴾. ﴿قَوْمًا﴾: اسمها مؤخر. ﴿جَبَّارِينَ﴾ صفة ﴿قَوْمًا﴾، وجملة إنَّ في محل النصب مقول القول على كونها جواب النداء. ﴿وإنَّا﴾ الواو: عاطفة. ﴿إِنَّا﴾ ﴿إنَّ﴾: حرف نصب. ونا: اسمها. ﴿لَنْ نَدْخُلَهَا﴾ ناصب وفعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على قوم موسى، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إنَّ،
﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣)﴾.
﴿قَالَ رَجُلَانِ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾: جار ومجرور صفة أولى لـ ﴿رَجُلَانِ﴾ ﴿يَخَافُونَ﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل ﴿أَنْعَمَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل ﴿عَلَيْهِمَا﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿أَنْعَمَ﴾ وجملة ﴿أَنْعَمَ اللَّهُ﴾ في محل الرفع صفة ثانية لـ ﴿رَجُلَانِ﴾، ﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ﴾ إلى قوله ﴿مُؤْمِنِينَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قال﴾، وإن شئت قلت: ﴿ادْخُلُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿عَلَيْهِمُ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿ادْخُلُوا﴾. ﴿الْبَابَ﴾: مفعول به. ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ﴾: (الفاء): فاء الفصيحة لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم قولنا: ادخلوا عليهم الباب، وأردتم بيان ما يترتب على الدخول.. فأقول لكم. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مضمنة معنى الشرط، في محل النصب على الظرفية،
﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (٢٤)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿يَا مُوسَى﴾ إلى قوله: ﴿قَاعِدُونَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالُوا﴾، وإنْ شئت قلت: ﴿يَا مُوسَى﴾: منادى مفرد علم، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه. ﴿لَنْ نَدْخُلَهَا﴾: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على قوم موسى، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إنَّ، وجملة إنَّ في محل النصب مقول القول. ﴿أَبَدًا﴾: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بـ ﴿نَدْخُلَهَا﴾. ﴿مَّا﴾. مصدرية ظرفية. ﴿دَامُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿فِيهَا﴾: جار ومجرور خبر دام، وجملة دام صلة ما المصدرية ما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف المقدر إليه تقديره: مدة دوامهم فيها وهذا الظرف المقدر (١) بدل من ﴿أَبَدًا﴾ بدل بعض من كل لأنَّ الأبد يعم الزمن المستقبل كله، ودوام الجبارين فيها بعضه،
أحدها: أنه مرفوع عطفًا على العامل المستتر في ﴿اذهب﴾ وجاز ذلك للتأكيد بالضمير على حد قوله:
وَإِنْ عَلَى ضَمِيْرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ | عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيْرِ الْمُنْفَصِلْ |
الثالث: أنه مبتدأ والخير محذوف، والواو واو الحال.
والرابع: أن الواو للعطف، وما بعدها مبتدأ محذوف الخبر أيضًا، ولا محل لهذه الجملة عن الإعراب لكونها دعاء والتقدير: وربك يعينك. اهـ. "سمين".
﴿فَقَاتِلَا﴾ الفاء: عاطفة. ﴿قاتلا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَاذْهَبْ﴾. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه ﴿هَاهُنَا﴾ ها: حرف تنبيه. هنا: ظرف مكان في محل النصب على الظرفية، مبني على السكون لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا، والظرف متعلق بـ ﴿قَاعِدُونَ﴾. ﴿قَاعِدُونَ﴾ خبر إنَّ، وجملة إن مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٢٥)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة.
﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٢٦)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإنْ شئت قلت: ﴿فَإِنَّهَا﴾: (الفاء): استئنافية. (إنَّ): حرف نصب. و (الهاء): اسمها. ﴿مُحَرَّمَةٌ﴾: خبرها. ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿مُحَرَّمَةٌ﴾، وجملة (إنَّ) في محل النصب مقول (قال). ﴿أَرْبَعِينَ﴾ منصوب على الظرفية الزمانية وعلامة نصبه الياء. ﴿سَنَةً﴾ تمييز لـ ﴿أَرْبَعِينَ﴾، والظرف متعلق بـ ﴿مُحَرَّمَةٌ﴾. ﴿يَتِيهُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلق به، والجملة في محل النصب حال من الضمير المجرور في ﴿عَلَيْهِمْ﴾. وفي "الفتوحات" قوله: ﴿أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ ظرف لقوله: ﴿يَتِيهُونَ﴾ فيكون التحريم على هذا غير مؤقت بهذه المدة، أو هو ظرف لـ ﴿مُحَرَّمَةٌ﴾ فيكون التحريم مقيدًا بهذه المدة. والأول: تفسير كثير من السلف. وأمَّا الوجه الثاني: فيدل عليه ما روي أنَّ موسى عليه السلام سار بعده بمن بقي منهم، ففتح أريحاء وأقام فيها ما شاء الله، ثم قبض. اهـ
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا﴾ الملوك: جمع مَلِك بفتح أوله وكسر ثانيه، والملك صاحب الملك، وصاحب الأمر، وصاحب السلطة على أمة أو قبيلة أو بلاد. ومعنى كونهم ملوكًا: أنَّهم ملكوا أمرهم بعد أن كانوا مملوكين لفرعون. ﴿عَلَى أَدْبَارِكُمْ﴾ والأدبار جمع دبر بفتح أوله وسكون ثانيه، والدبر خلف الشيء ووراءه، تقول: جعل كلامي دبر أذنيه؛ أي: تغافل عنه ولم يلتفت إليه. والمعنى هنا: لا ترجعوا وراءكم هاربين من الأعداء ﴿قَوْمًا جَبَّارِينَ﴾ جمع سلامة لجبار قال (١) الزجاج: الجبار من الآدميين العاثي، وهو البالغ النهاية في الفساد أو الكفر، أو الذي يجبر الناس على ما يريد، وأصله على هذا من الإجبار، وهو الإكراه؛ فإنَّه يجبر غيره على ما يريده، يقال: أجبره إذا أكرهه، وقيل: هو مأخوذ من جبر العظم، فأصل الجبار على هذا: المصلح لأمر نفسه، ثم استعمل في كل من جر إلى نفسه نفعًا بحق أو باطل. قال الفراء: لم أسمع فعالًا من أفعل إلا في حرفين: جبار من أجبر، ودراك من أدرك. وقال أبو حيان: والجبار فعال من الجبر، كأنه لقوته وبطشه يجبر الناس على ما يختار، والجبارة النخلة الطويلة العالية التي لا تنال بيد، واسم الجنس جبار. والمراد هنا: أنهم قوم عظام الأجسام، طوال متعاظمون، قيل: هم قوم من بقية قوم عاد، وقيل: هم من ولد عيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، وقيل: هم من الروم، ويقال: إنَّ منهم عوج بن عنق المشهور المفرط، وما ذكره بعض المفسرين هنا والقصاصون في
﴿يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ من التيه، وهو في اللغة الحيرة، يقال: منه تاه يتيه تيهًا، من باب باع، أو تاه يتوه توهًا من باب قال: إذا تحير في أمره. والأرض (١) التوهاء: التي لا يهتدى فيها وأرض تيه، وقال ابن عطية: التيه لذهاب في الأرض إلى غير مقصود.
﴿فَلَا تَأسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ والأسى (٢): الحزن، يقال: أسى من باب جوى بكسر العين، يأسى أسى بفتحها، ولام الكلمة يحتمل أن تكون من واو، وهو الظاهر لقولهم: رجل أسوان بزنة سكران؛ أي: كثير الحزن، ويقال في تثنيته: أسوان، ويحتمل أن تكون من ياء، فقد حكى رجل أسيان؛ أي: كثير الحزن، فتثنيته على هذا أسيان. اهـ "سمين". وفي "المصباح" أسي أسى من باب تعب إذا حزن، فهو أسود مثل حزين، وأسوت بين القوم أصلحت، وآسيته بنفسي بالمد سويته، ويجوز إبدال الهمزة واوًا في لغة اليمن فيقال: وسيته انتهى. وفي "المختار" وأسا على مصيبته من باب عدا؛ أي: حزن، وقد أسى له؛ أي: حزن له انتهى.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من الفصاحة والبلاغة والبديع:
فمنها: التكرار في قوله: ﴿إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا﴾، وفي قوله: ﴿الْفَاسِقِينَ﴾.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿مُّلُوكًا﴾؛ لأن المعنى: جعلكم كالملوك في الاستقلال بأمر أنفسكم.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ﴾ لأنه كناية عن الهرب، وفي
(٢) الجمل.
ومنها: التنبيه والإشارة في قوله: ﴿هَاهُنَا﴾.
ومنها: الاعتراض في قوله: ﴿أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا﴾؛ لأنها جملة اعتراضية لبيان فضل الله على عباده الصالحين.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾؛ لأن المحرم عليهم دخولُ الأرض المقدسة لا ذاتها.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾؛ لأنه بمعنى قدَّر الله لكم.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا﴾، وفي قوله: ﴿فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا﴾، وفي قوله: ﴿فَإِنْ يَخْرُجُوا﴾.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿مَا دَامُوا فِيهَا﴾؛ لأنه مؤكِّد لقوله: ﴿أَبَدًا﴾؛ لأنه على تقدير الظرف؛ لأن المعنى: لن ندخُلَها أبدًا مدَّة دوامهم فيها.
ومنها: الحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٣٧)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (١)، هي: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر تمرد بني إسرائيل وعصيانهم أمر الله تعالى في النهوض لقتال الجبارين.. ذكر قصة ابني آدم وعيان قابيل أمر الله، وأنهم اقتفوا في العصيان أول عاصٍ لله تعالى، وأنهم
وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) حسد اليهود للنبي - ﷺ -، وإعراضهم عن دعوته مع وضوح البراهين الدالة على صدقه، وكثرة الآيات المثبتة لنبوته، حتى هم قوم منهم أنْ يبسطوا أيديهم لقتله، وقتل كبار أصحابه؛ كما ذكر ذلك في قوله: ﴿إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ﴾.. ذكر هنا قصة ابني آدم بيانًا لكون الحسد - الذي صرف اليهود عن الإيمان بالنبي - ﷺ - وحملهم على عداوته - عريقًا في الآدميين وأثرًا من أثار سلفهم، كان لهؤلاء منه الحظ الأوفر. فلا تعجب من حالهم بعد هذا؛ فإن لهم أشباهًا ونظائر في البشر كابني آدم، وقد حدث بينهم من أجل التحاسد سفك الدماء، وقتل الأخ أخاه، وبذر تلك البذور السيئة في بني آدم إلى قيام الساعة.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة (٢)؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر في الآية قبلها تغليظ الإثم في قتل النفس بغير نفس ولا فسادٍ في الأرض.. أتبعه ببيان الفساد في الأرض الذي يوجب القتل؛ فإن بعض ما يكون فسادًا في الأرض لا يوجب القتل، ولا خلاف بين أهل العلم أنَّ حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من
(٢) البحر المحيط.
وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا بين فظاعة جرم القتل، وشدد في تبعة القاتل، فذكر أن من قتل نفسًا بغير حق فكأنَّما قتل الناس جميعًا.. ذكر هنا العقاب الذي يؤخذ به المفسدون في الأرض؛ حتى لا يتجرأ غيرهم على مثل فعلهم.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر فيما سلف أن اليهود قد هموا ببسط أيديهم إلى الرسول حسدًا منهم له، وغرورًا بدينهم، واعتقادًا منهم أنَّهم أبناء الله وأحباؤه.. أمر المؤمنين بأنْ يتقوه، ويبتغوا إليه الوسيلة بالعمل الصالح، ولا يفتتنوا بدينهم كما فعل أهل الكتاب، ثم أكد ذلك فبين أنَّ الفوز والفلاح لا يكون إلا بهما، فمن لم ينلهما لاقى من الأهوال يوم القيامة ما لا يستطاع وصفه.
وقال أبو حيان: (٢) مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّه سبحانه وتعالى لما ذكر جزاء من حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادًا من العقوبات الأربع، والعذاب العظيم المعد لهم في الآخرة.. أمر المؤمنين بتقوى الله وابتغاء القربات إليه؛ فإن ذلك هو المنجي من المحاربة والعذاب المعد للمحاربين.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (٣): أنَّ الله سبحانه وتعالى لما أرشد المؤمنين إلى معاقد الخير ومفاتح السعادة، وذكر فوزهم في الآخرة وما آلوا إليه من الفلاح.. شرح حال الكفار، وعاقبة كفرهم، وما أعد لهم من العذاب.
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا...﴾ الآيتين، وقد ذهب أكثر الأئمة (١) إلى أنَّ الآيتين نزلتا في عكل وعرينة؛ فقد روى أحمد والبخاري ومسلم وأصحابُ السنن عن أنسٍ رضي الله عنه: أنَّ ناسًا من عكل وعرينة قدموا على النبي - ﷺ -، وتكلموا بالإِسلام، فاستوخموا المدينة - وجدوها رديئة المناخ - فأمر لهم النبي - ﷺ - بذود - بضع من الإبل - وراعٍ، وأمرهم أنْ يخرجوا فيشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبيّ - ﷺ -، واستاقوا الذود، فبلغ ذلك النبي - ﷺ -، فبعث الطلب في آثارهم، فأمر بهم فسمروا أعينهم - كحلوها بمسامير الحديد المحماة - وقطعوا أيديهم، وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم، زاد البخاري: أن قتادة الذي روى الحديث عن أنس نقال: بلغنا أن النبي - ﷺ - بعد ذلك (كان يحث على الصدقة، وينهى عن المثلة). وروى أبو داودَ والنسائي عن أبي الزناد أنَّ رسول الله - ﷺ - لما قطع الذين سرقوا لقاحه، وسمل أعينهم بالنار، عاتبه الله تعالى في ذلك فأنزل: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا...﴾ الآية.
التفسير وأوجه القراءة
٢٧ - ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: واقرأ يا محمَّد على هؤلاء الحسدة من اليهود وأشباههم ﴿نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ﴾ عليه السلام؛ أي: خبر ولدي آدم من صلبه على الراجح عند المفسرين قابيل وهو أكبرهما وهابيل وهو أصغرهما تلاوةً متلبسة ﴿بِالْحَقِّ﴾ والصدق، مظهرة وكاشفة له، ومبينة لغرائز البشر وطبائعهم، وهي أنَّهم جبلوا على التباين والاختلاف الذي يفضي إلى التحاسد، والبغي، والقتل، ليعلموا الحكمة فيما شرعه الله في عقاب البغاة من الأفراد والجماعات، ويفقهوا أن بغي اليهود على الرسول والمؤمنين ليس من دينهم في شيء، وإنَّما ذاك للحسد
والقرابين عند اليهود أنواع: منها المحرقات للتكفير عن الخطايا بذبح ذكور البقر والغنم السالمة من العيوب، ومنها التقدمات من الدقيق والزيت والألبان، ومنها ذبائح السلامة لشكر الرب تعالى، والقربان عند النصارى: ما يقدسه الكاهن من الخبز والخمر، فيتحول في اعتقادهم إلى لحم المسيح ودمه حقيقة، والقربان عند المسلمين: اسم لذبائح النسك كالأضاحي وغيرها.
فأضمر الذي لم يتقبل منه القربان - وهو قابيل - لأخيه هابيل الحسد إلى أن
وخلاصة جوابه: إني لم أذنب إليك ذنبًا تقتلني به، فإن كان الله لم يتقبل قربانك.. فحاسب نفسك لتعرف سبب ذلك؛ فإن الله إنما يتقبل من المتقين فاحمل نفسك على تقوى الله، والإخلاص له في العمل، ثم تقرب إليه بالطيبات يتقبل منك. قال تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾. وفي الحديث: "إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب". وفي هذا من العبرة ما كان ينبغي أن يتعظ يه المراؤون الذين يبتغون بما يتصدقون به الصيت - الذكر الحسن - واجتلاب الثناء من الناس، وحسن الأحدوثة.
٢٨ - ثم بين الله سبحانه وتعالى ما يجب للناس من احترام الدماء، وحفظ الأنفس، ولا سيما بين الأخوة فقال إخبارًا عن هابيل: والله ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ﴾ ومددت ﴿إلى يدك لـ﴾ ـكي ﴿تقتلني﴾ وتباشر قتلي حسبما أوعدتني ﴿مَا أَنَا بِبَاسِطٍ﴾ وماد ﴿يَدِيَ إِلَيْكَ﴾ يا قابيل ﴿لـ﴾ ـكي ﴿أقتلك﴾ وأباشر قتلك؛ أي: إن مددت يدك لتقتلني، فما أنا بالمجازي لك على السيئة بسئة مثلها، فذاك لا يتفق مع شمائلي، وصفاتي، وأخلاقي؛ إذ لست ممن يتصف بهذه الصفة المنكرة التي تنافي تقوى الله تعالى والخوف من عذابه. ثم بين علة امتناعه عن قتله فقال: ﴿إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى وأخشى ﴿رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ ومالك المخلوقات أن
٢٩ - ثم قفى على عظته البالغة، ونصائحه النافعة، بالتذكير بعذاب الآخرة من قبل أنَّ الوعظ لا يؤثر في كل نفس فقال: ﴿إِنِّي أُرِيدُ﴾ وأقصد بالابتعاد من مقابلة الجريمة بمثلها. وقرىء: ﴿أني أريد﴾ كما هو صح - بفتح الهمزة - بمعنى كيف أريد. ﴿أَنْ تَبُوءَ﴾ وترجع يا قابيل ﴿بِإِثْمِي﴾؛ أي: بإثم قتلك إياي ﴿وَإِثْمِكَ﴾ الذي كان مثل قبل قتلي؛ أي: وإثمك الخاص بك، الذي كان من أثاره عدم قبول قربانك. وروي هذا عن ابن عباس. وقيل: (١) إن المراد أنَّ القاتل يحمل في الآخرة إثم من قتله، إنْ كان له آثام؛ لأن الذنوب والآثام التي فيها حقوق العباد لا يغفر الله منها شيئًا حتى يأخذ لكل ذي حق حقه، فيعطي المظلوم من حسنات الظالم ما يساوي حقه إنْ كانت له حسنات توازي ذلك، أو يحمل الظالم من آثام المظلوم وأوزاره ما يوازي ذلك إنْ كان له آثام وأوزار، وما نقص من هذا أو ذاك، يستعاض عنه بما يوازيه من الجزاء في الجنة أو النار.
﴿فَتَكُونَ﴾؛ أي: فتصير سبب ما حملت من الإثمين ﴿مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ﴾ وأهلها في الآخرة جزاء ظلمك ﴿وَذَلِكَ﴾؛ أي: عذاب النار ﴿جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: عقاب من تعدى، وعصى أمر الله بقتل أخيه، وبسائر المعاصي. وقيل:
وقد سلك في عظته وجوهًا تأخذ بمجامع اللب، ويرعوي لها فؤاد المنصف، فقد تبرأ من كونه سببًا في حرمانه من تقبل القربان؛ لأن سبب التقبل عند الله هو التقوى، ثم انتقل إلى تذكيره بما يجب من خوف الده، ثم إلى تذكيره بأن المعتدي يحمل إثم نفسه، وإثم من اعتدى عليه، ثم إلى تذكيره بعذاب النار لأنَّها مثوى الظالمين؛ ثم أبان (٢) سبحانه وتعالى أنَّ المواعظ لم تجد فيه فتيلًا ولا قطميرًا، فماذا تغني الزواجر والعظات في نفس الحاسد الظالم؟ فقال:
٣٠ - ﴿فَطَوَّعَتْ﴾ وزينت ﴿لَهُ﴾؛ أي: لقابيل ﴿نَفْسُهُ﴾ الأمارة بالسوء، وسهلت عليه ﴿قَتْلَ أَخِيهِ﴾ هابيل ﴿فَقَتَلَهُ﴾؛ أي: أنَّه كان يهاب قتل أخيه، وتجبن فطرته دونه، وما زالت نفسه الأمارة تشجعه عليه حتى تجرأ وقتله عقب التطويع بلا تفكر ولا تدبر في العاقبة، والمشاهد بالاختبار من أحوال الناس أن من تحدثه نفسه بالقتل يجد من نفسه صارفًا، أو عدة صوارف تنهاه عن القتل، حتى تطوع له نفسه القتل بترجيح الفعل على الترك فحينئذ يقتل إنْ قدر.
قال ابن جريج (٣): لما قصد قابيل قتل هابيل لم يدرِ كيف يقتله، فتمثل له إبليس وقد أخذ طيرًا، فوضع رأسه على حجر، ثم رضخه بحجر آخر، وقابيل ينظر إليه، فعلم منه القتل، فوضع قابيل رأس هابيل بين حجرين وهو مستسلم صابر، وقيل: بل اغتاله وهو نائم فقتله. واختلف في موضع قتله، فقال ابن عباس.. على جبل نور وقيل: على عقبة حراء، وقيل: بالبصرة عند مسجدها الأعظم، وكان عمر هابيل يوم قتل عشرين سنة، ولكن هذا الكلام كله من الإسرائيليات التي لا مستند لها يوثق به. وقد تكلم (٤) المفسرون في أشياء من كيفية قتله، وعمره حين قتل، ولهم في ذلك اختلاف، ولم تتعرض الآية لشيء
(٢) المراغي.
(٣) المراح.
(٤) البحر المحيط.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنَّه أول من سن القتل". متفق عليه.
٣١ - قال أصحاب الأخبار (١): لما قتل قابيل هابيل تركه بالعراء - الفضاء الذي لا يستتر فيه شيء - ولم يدر ما يصنع به؛ لأنَّه أول ميت من بني آدم على وجه الأرض، فقصدته السباع لتأكله، فحمله قابيل على ظهره في جراب أربعين يومًا، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: سنة حتى أروح وأنتن، فأراد الله أن يري قابيل سنته في موتى بني آدم في الدفن، فبعث الله غرابين فاقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، فحفر له بمنقاره ورجليه حفيرة، ثم ألقاه فيها، وواراه بالتراب، وقابيل ينظر، فذلك قوله تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى وهيج وأظهر له ﴿غُرَابًا يَبْحَثُ﴾ ويحفر ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ حفيرة بمنقاره ورجليه بعد قتل صاحبه، ثم ألقاه فيها، وأثار التراب عليه، فتعلم قابيل ذلك من الغراب، واللام في قوله: ﴿لِيُرِيَهُ﴾ إمَّا (٢) متعلقة بـ ﴿بعث﴾ حتمًا والضمير المستكن فيه عائد إلى الله تعالى؛ أي: بعث الله سبحانه وتعالى الغراب ليري الله سبحانه القاتل قابيل ﴿كَيْفَ يُوَارِي﴾ ويستر ذلك القاتل ﴿سَوْءَةَ أَخِيهِ﴾؛ أي: جيفة أخيه المقتول، أو متعلقة بـ ﴿يبحث﴾، أو بـ ﴿بعث﴾، والضمير راجع للغراب؛ أي: غرابًا يبحث في الأرض ليري ذلك الغراب القاتل كيف يواري سوأة أخيه، و ﴿كيف﴾ حال من ضمير يواري العائد
(٢) المراح.
وفي الآية إيماء إلى أنَّ الإنسان قد يستفيد من تجارب ما سواه، ولمَّا كان (١) الإنسان في أعماله موكولًا إلى كسبه واختياره، وكان هذا القتل أول قتل وقع من بني آدم، لم يعرف القاتل كيف يواري جثة أخيه المقتول الذي يسؤوه أن يراها بارزة للعيان، وفي ذلك دلالة على أن الإنسان في نشأته الأولى كان ساذجًا قليل المعرفة، لكن لما فيه من الاستعداد والعقل، كان يستفيد من كل شيء علمًا، واختبارًا، وتنمية لمعارفه وعلومه، وقد أعلمنا الله سبحانه وتعالى أنَّ القاتل تعلم دفن أخيه من الغراب، فإنَّه تعالى بعث غرابًا إلى ذلك المكان الذي هو فيه، فبحث في الأرض؛ أي: حفر برجليه فيها يفتش عن شيء كالطعام ونحوه، فأحدث حفرة في الأرض، فلما رآها القاتل - وقد كان متحيرًا في مواراة أخيه - زالت الحيرة عنه، واهتدى إلى دفنه في حفرة مثلها.
وقوله: ﴿لِيُرِيَهُ﴾؛ أي: أنَّه تعالى ألهم الغراب ذلك ليتعلم ابن آدم منه الدفن، وحين رأى القاتل الغراب يبحث في الأرض تعلم منه سنة الدفن، وظهر له جهله، وضعفه، كما أشار إلى ذلك سبحانه حاكيًا عنه: ﴿قَالَ﴾: قابيل ﴿يَا وَيْلَتَا﴾؛ أي: يا هلكتى أحضري إلي لأتعجب منك، فهذا أوانك - وهي كلمة جزع (٢) وتحسر، والألف فيها بدل من ياء المتكلم - والويل والويلة الهلكة والاستفهام في قوله: ﴿أَعَجَزْتُ﴾ استفهام (٣) تعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب؛ أي: يا ويلتى هل ضعفت ﴿أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ﴾ الذي وارى الغراب الآخر ﴿فَأُوَارِيَ﴾ وأستر ﴿سَوْءَةَ أَخِي﴾؛ أي: جيفته وعورته عن الأعين
(٢) البيضاوي.
(٣) أبو السعود.
والمعنى: قال القاتل (٢): وافضيحتي أقبلي فقد آن الأوان لمجيئك، فهل بلغ من عجزي أن كنت دون الغراب علمًا وتصرفًا، والندم الذي أظهره من الأمور التي تعرض لكل من يفعل شيئًا، ثم يتبين له خطأ فعله، وسوء عاقبته، والندم الذي يكون توبةً هو ما يصدر من الشخص خوفًا من الله تعالى، وحسرة على تعدي حدوده، وهو الذي عناه النبي - ﷺ - بقوله: "الندم توبة". رواه أحمد والبخاري والحاكم والبيهقي.
فصل في ذكر قصة القربان وسببه وقصة قتل قابيل هابيل
ذكر أهل العلم بالأخبار والسير: أن حواء كانت تلد لآدم في كل بطن غلامًا وجارية، فكان جميع ما ولدته أربعين ولدًا في عشرين بطنًا، أولهم قابيل وتوأمته إقليما، وآخرهم عبد المغيث وتوأمته أم المغيث، ثم بارك الله تعالى في نسل آدم. قال ابن عباس: لم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفًا. واختلفوا في مولد قابيل وهابيل، فقال بعضهم: غشى أدم حواء بعد مهبطهما إلى الأرض بمئة سنة، فولدت له قابيل وتوأمته إقليما في بطن، ثم هابيل وتوأمته لبودا في بطن. وقال محمَّد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: أن آدم
(٢) المراغي.
قال المطلب بن عبد الله بن حنطب (١): لما قتل ابن آدم أخاه.. رجفت الأرض بمن عليها سبعة أيام، وشربت دم المقتول كما تشرب الماء، فناداه الله تعالى: يا قابيل أين أخوك هابيل؟ فقال: ما أدري ما كنت عليه رقيبًا، فقال الله تعالى: إن دم أخيك ليناديني من الأرض، فلم قتلت أخاك؟ فقال: أين دمه إن قتلته؟ فحرم
ويروى عن ابن عباس قال: لما قتل قابيل هابيل، كان آدم بمكة لزيارة البيت، وكان أولاده بالهند، فاشتاك الشجر - أي ظهر له شوك - وتغيرت الأطعمة، وحمضت الفواكه، وأغبرت الأرض، فقال: قد حدث في الأرض حدث، فأتى الهند عند أولاده، فوجد قابيل قد قتل أخاه هابيل. وقيل: لما رجع آدم من مكة سأل قابيل عن أخيه؟ فقال: ما كنت عليه وكيلًا، فقال: بل قتلته، ولذلك اسود جلدك. وقيل: أن آدم مكث بعد قتل هابيل مئة سنة لا يضحك، وأنه رثاه بشعر فقال:
تَغَيَّرَتِ الْبِلاَدُ وَمَنْ عَلَيْهَا | فَوَجْهُ الأرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيْحُ |
تَغَيَّرَ كُلُّ ذِيْ طَعْمٍ وَلَوْنٍ | وَقَلَّ بَشَاشَةُ الْوَجْهِ الْمَلِيْحِ |
وَمَا لِيْ لاَ أَجُوْدُ بِسَكْبِ دَمْعٍ | وَهَابِيْلٌ تَضَمَّنَهُ الضَّرِيْحُ |
أَرَى طُوْلَ الْحَيَاةِ عَلَيَّ غَمًّا | فَهَلْ أَنَا مِنْ حَيَاتِي مُسْتَرِيْحُ |
وهذا كله من الإسرائيليات التي لا أصل لها ننقلها ولا نصدقها ولا نكذبها، ولكن يستأنس بها.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يَا وَيْلَتَا﴾ - بألف بعد التاء وهي بدل من ياء المتكلم - وأصله: يا ويلتي بالياء، وهي قراءة الحسن، وأمال حمزة والكسائي وأبو عمرو ألف ويلتي. وقرأ الجمهور: ﴿أَعَجَزْتُ﴾ بفتح الجيم. وقرأ ابن مسعود والحسن وفياض بن غزوان وطلحة وسليمان بن علي بكسرها، وهي لغة شاذة؛ وإنما مشهور الكسر في قولهم: عجزت المرأة؛ إذا كبرت عجيزتها. وقرأ الجمهور: ﴿فَأُوَارِيَ﴾ بنصب الياء عطفًا على قوله: أن أكون؛ كأنه قال: أعجزت أنْ أواري سوأة أخي. وقرأ طلحة بن مصرف والفياض بن غزوان: ﴿فأواريْ﴾ بسكون الياء. فالأولى أن يكون على
وقرأ الزهري: ﴿سَوَةَ أَخِي﴾ بحذف الهمزة، ونقل حركتها إلى الواو، ولا يجوز قلب الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها؛ لأن الحركة عارضة، كهي في سمول لغة في سموءل. وقرأ أبو حفص: ﴿سوة أخي﴾ بقلب الهمزة واوًا وإدغام الواو فيه، كما قالوا في شيء: شيّ، وفي سيئة: سيَّة. قال الشاعر:
وَإِنْ رَأَوْا سَيَّةً طَارُوُا بِهَا فَرَحًا | مِنِّي وَمَا عَلِمُوْا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوْا |
ويروى عن نافع أنَّه كان يقف على اسم الإشارة، ويجعله من تمام الكلام الأول، وحينئذ الجار والمجرور متعلق بما قبله، واسم الإشارة عائد على ﴿قتل قابيل هابيل﴾. والمعنى: فأصبح قابيل من النادمين من أجل قتله هابيل وعدم موارته له التراب. وقرأ ابن القعقاع: ﴿مِن اجل ذلك﴾ بكسر الهمزة وحذفها، ونقل حركتها إلى الساكن قبلها، كما قرأ ورش ﴿منَ اجل﴾ بحذفها وفتحها ونقل الحركة إلى النون، وقرأ الجمهور بفتح الهمزة، والمعنى على مذهب الجمهور: من أجل جناية قابيل على هابيل، وبسبب جريمته ومعصيته ﴿كَتَبْنَا﴾؛ أي: أوجبنا وفرضنا في التوراة ﴿عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ﴾؛ أي: أن الشأن والحال ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا﴾ واحدة من بني آدم ﴿بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾؛ أي: بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص ﴿أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: أو بغير فساد يوجب إهدار الدم، من كفر أو زنا أو قطع طريق. والمعنى (٢): أن نبأ ابني آدم هو الذي تسبب عنه الكتب المذكور على بني إسرائيل، وعلى هذا جمهور المفسرين، وخص بني
(٢) الشوكاني.
وقرأ الجمهور: ﴿فَسَادٍ﴾ بالجر عطفًا على نفس. وقرأ الحسن بالنصب على تقدير فعل محذوف يدل عليه أول الكلام، أو أحدث فسادًا في الأرض وفي هذا ضعف. ومعنى قراءة الجمهور: أن من قتل نفسًا بغير سبب من قصاص، أو فساد في الأرض. وقد تقرر أن كل حكم مشروط بتحقق أحد شيئين، فنقيضه مشروط بانتفائهما معًا، وكل حكم مشروط بتحققهما معًا فنقيضه مشروط بانتفاء أحدهما ضرورة أن نقيض كل شيء مشروط بنقيض شرطه، وقد اختلف في هذا الفساد المذكور في هذه الآية ماذا هو؟ فقيل: هو الشرك، وقيل: قطع الطريق، وظاهر النظم القرآني أنَّه هو كل ما يصدق عليه أنَّه فساد في الأرض، فيشمل الشرك، وقطع الطريق، وسفك الدماء، وهتك الحرم، ونهب الأموال، والبغي على عباد الله بغير حق، وهدم البنيان، وقطع الأشجار، وتغوير الأنهار، إلى غير ذلك. ﴿فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ في تعظيم (١) أمر القتل العمد العدوان، وكما أن قتل كل الخلق أمر مستعظم مستشبع عند كل أحد.. فكذلك قتل الواحد مستفظع مستعظم، وكيف لا يكون مستعظمًا وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (٩٣)﴾. والمعنى: يقتل بها كما لو قتلهم جميعًا، ويصلى النار كما يصلاها لو قتلهم ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا﴾ أي: ومن خلص نفسًا واحدة من المهلكات كالحرق، والغرق، والجوع المفرط، والبرد والحر المفرطين، أو تسبب في بقائها بعفو، أو منع عن قتلها ﴿فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ يعني: أن له من الثواب مثل ثواب من أحيا الناس جميعًا، وقيل: (٢) معناه من استحل قتل مسلم بغير
(٢) الخازن.
وخلاصة معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا﴾ إلخ؛ أي. (١) أنَّه بسبب هذا الجرم الفظيع، والقتل الشنيع الذي فعله أحد هذين الأخوين ظلمًا وعدوانًا، فرضنا على بني إسرائيل أنَّه من قتل نفسًا؛ أي: بغير سبب موجب للقصاص الذي شرعه الله تعالى في قوله: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ الآية. ﴿أَوْ﴾ قتل نفسًا بغير سبب ﴿فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ﴾ يسلب الأمن والطمأنينة، كالحرق، وإهلاك الحرث والنسل، كما تفعله عصابات اللصوص المسلحة المستعدة لقتل الأنفس، ونهب الأموال، أو إفساد الأمر على الدولة التي تقوم بتنفيذ حدود الله تعالى، من يفعل شيئًا من ذلك.. فكأنما قتل الناس جميعًا؛ إذ الواحد يماثل النوع، فمن استحل دمه بغير وجه حق.. استحل دم كل واحد كذلك لأنَّه مثله، والمقصد من ذلك تعظيم أمر القتل العمد العدوان، وتفخيم شأنه؛ أي: فكما أن قتل كل الخلق مستعظم مستبشع لدى الناس كلهم.. فكذلك قتل الواحد مستفظع مستعظم، وكيف لا يكون مستعظمًا وقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾ الآية. وقرىء: ﴿مِنْ أَجْلِ﴾ بحذف الهمزة وإلقاء فتحتها على النون. وقريء ﴿مِنْ أَجْلِ﴾ بكسر الهمزة وهي لغة فيه كما مرّ. ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾؛ أي: ومن كان سببًا في حياة نفس واحدة بإنقاذها من موت كانت مشرفة عليه.. فكأنما أحيا الناس جميعًا؛ لأنَّ الباعث له على الإنقاذ - وهو الشفقة والرحمة واحترام الحياة الإنسانية، والوقوف عند حدود الشرع - دليل على أنه إذا استطاع أن ينقذهم كلهم من الهلاك.. لا يدخر وسعًا، ولا يني في ذلك.
وفي الآية إرشاد إلى ما يجب عن وحدة البشر، وحرص كل منهم على حياة الجميع، والابتعاد عن ضرر كل فرد، فانتهاك حرمة الفرد انتهاك لحرمة الجميع،
ثم ذكر أن بني إسرائيل غلاظ القلوب، مسرفون في القتل وفي غيره، مع كثرة مجيء الرسل إليهم فقال: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد جاءت بني إسرائيل ﴿رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾؛ أي: بالمعجزات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم، المؤكدة لوجوب مراعاته، والمحافظة عليه، وببيان الأحكام والشرائع التي كتبنا عليهم، فلم تغن عن الكثير منهم شيئًا، إذ لم تهذب نفوسهم، ولم تطهر أخلاقهم، فكانوا بعد كل هذا التشديد عليهم في أمر القتل يسرفون فيه وفي سائر ضروب البغي والعدوان، كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ﴾؛ أي: ثمَّ إنَّ كثيرًا من بني إسرائيل ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾؛ أي: بعد مجيء الرسل، وبعد ما كتبنا عليهم تحريم القتل ﴿فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾؛ أي: لمجاوزون حد الحق، ومبالغون في إكثار القتل، لا يبالون بعظمته؛ فإنهم كانوا أشدّ الناس جراءةً على القتل، حتى كانوا يقتلون الأنبياء. وإنَّما (١) قال تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ﴾.. لأنّه تعالى علم أنَّ منهم من يؤمن بالله ورسوله وهم قليل منهم، وعبارة "البيضاوي" هنا: أي (٢) بعدما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم من أجل أمثال تلك الجناية، وأرسلنا إليهم الرسل بالآيات الواضحة، تأكيدًا للأمر، وتجديدًا للعهد، كي يتحاموا عنها، كثير منهم يسرفون في الأرض بالقتل، ولا يبالون به، وبهذا اتصلت الآية بما قبلها، والإسراف التباعد عن حدّ الاعتدال في الأمر.
والعبرة في قصة ابني آدم: أن الحسد كان مثار أول جناية في البشر، ولا يزال هو أسّ المفاسد في المجتمع، فترى الحاسد تثقل عليه نعمة الله على أخيه نسبًا، أو جنسًا، أو دينًا، فيبغي عليه ولو بما فيه ضرر له وللمحسود. والأمة التي تنشر بين أفرادها هذه الرذيلة، فلما تنجح وتتوجه همم أبنائها إلى ما يرقي شأنهم
(٢) البيضاوي.
٣٣ - ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾؛ أي: إنَّما (١) جزاء الذين يخالفون أحكام الله، وأحكام رسوله، أو إنَّما مكافأة الذين يحاربون أولياء الله، وأولياء رسوله، وهم المسلمون ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾؛ أي: يعملون في الأرض عمل فساد، أو يسرعون في الأرض مفسدين بالمعاصي من القتل، وأخذ المال ﴿أَنْ يُقَتَّلُوا﴾ واحدًا بعد واحد إن قتلوا ﴿أَوْ يُصَلَّبُوا﴾ ثلاثة أيام بعد القتل والصلاة عليهم. وقيل: يصلبون أحياءً، ثم يطعن بطنهم برمح حتى يموتوا إن جمعوا بين القتل وأخذ المال، وعبارة "المنهاج" في باب قاطع الطريق: فإن قتل وأخذ مالًا.. قتل ثمَّ صلب مكتفًا معترضًا على نحو خشبة ثلاثة أيام بلياليها وجوبًا، ثم ينزل إن لم يخف تغيره قبلها، وإلا أنزل وقت التغير، وقيل: يبقى وجوبًا حتى يتهرى ويسيل صديده تغليظًا عليه. وفي قول: يصلب حيًّا قليلًا، ثم ينزل فيقتل، والمراد بالقليل: أدنى زمن ينزجر به غيره عرفًا، انتهى مع بعض زيادات للرملي، و ﴿أو﴾ (٢) لتقسيم عقوباتهم تقسيمًا موزعًا على جناياتهم. قال ابن جريج: ﴿أو﴾ في جميع القرآن للتخيير إلا في هذه الآية. قال الشافعي رحمه الله: وبه أقول. اهـ. "كرخي". ﴿أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ﴾ بمفصل الكف ﴿وَأَرْجُلُهُمْ﴾ بمفصل القدم، حال كونها ﴿مِنْ خِلَافٍ﴾؛ أي: مختلفة في القطع بأن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، والتشديد في ﴿أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ﴾: قراءة الجمهور، وهو للتكثير بالنسبة إلى الذين يوقع بهم الفعل، والتخفيف في ثلاثتها قراءة الحسن ومجاهد وابن محيصن، ذكره أبو حيان في "البحر" ﴿أَوْ يُنْفَوْا﴾؛ أي: يطردوا ويخرجوا ﴿مِنَ الْأَرْضِ﴾؛ أي: من أرضهم التي يريدون الإقامة بها إلى مسافة قصر فما فوقها؛ لأنَّ المقصود من النفي
(٢) جمل.
وقال أبو حنيفة (٢): النفي من الأرض هو الحبس، وهو أختيار أكثر أهل اللغة، قالوا: والمحبوس قد يسمى منفيًّا من الأرض لأنَّه لا ينتفع بشيء من طيبات الدنيا ولذاتها، ولا يرى أحدًا من أحبابه، فصار منفيًّا عن جميع اللذات والشهوات والطيبات، فكان كالمنفي في الحقيقة. قال الشاعر وهو مسجون:
خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنْ أهْلِهَا | فَلَسْنَا مِنَ الأَمْوَاتِ فِيْهَا وَلَا الأَحْيَا |
إِذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ | عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا |
وَتُعْجِبُنَا الرُّؤيَا يَحُلُّ حَدِيْثَنَا | إِذَا نَحْنُ أَصْبَحْنَا الْحَدِيْثَ عَنِ الرُّؤْيَا |
الأول: أن هؤلاء المحاربين إذا قتلوا وأخذوا المال.. فالإمام إنْ أخذهم أقام عليهم الحدّ، وإنْ لم يأخذهم طلبهم أبدًا، فكونهم خائفين من الإِمام هاربين من بلد هو المراد من النفي.
والثاني: القوم الذين يحضرون الواقعة، ويكثرون جمع هؤلاء المحاربين، ويخيفون المسلمين، ولكنهم ما قتلوا وما أخذوا المال.. فإن الإِمام يأخذهم، ويعزرهم، ويحبسهم، فالمراد بنفيهم من الأرض هو هذا الحبس لا غير.
وقد جعل الله (٣) سبحانه وتعالى هذا النوع من العدوان محاربة الله ورسوله؛ لأنَّه اعتداء على الحق والعدل الذي أنزل الله على رسوله، ولما فيه من عدم الإذعان لدينه وشرعه في حفظ الحقوق، كما قال تعالى في المصرّين على أكل
(٢) المراح
(٣) المراغي.
الأول: أن يكون معهم سلاح، وإلا كانوا غير محاربين.
الثاني: أن يكون ذلك في الصحراء، فإن فعلوا ذلك في البنيان لم يكونوا محاربين كما قال أبو حنيفة والثوري وإسحاق.
الثالث: أن يأتوا مجاهرة، ويأخذوا المال، فإن أخذوه خفية.. فهم سراق، وإن اختطفوه وهربوا.. فهم منتبهون لا قطع عليهم، وكذا إن خرج الواحد والإثنان على آخر قافلة، فاستلبوا منها شيئًا؛ لأنهم لا يرجعون إلى قوة ومنعة، وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم.. فهم قطاع طريق.
والجزاء الذي يعاقب به أمثال هؤلاء المفسدين أحد أنواع أربعة: إما القتل، أو الصلب، أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض، وفوض لأولي الأمر الاجتهاد في تقدير العقوبة بقدر الجريمة.
والحكمة في عدم التعيين والتفصيل: أن المفاسد كثيرة تختلف باختلاف الزمان والمكان، وضررها يختلف كذلك، فمنها القتل، ومنها السلب، ومنها هتك الأعراض، ومنها إهلاك الحرث والنسل؛ أي: قطع الشجر، وقلع الزرع، وقتل المواشي، والدواب، أو الجمع بين جريمتين أو أكثر من هذه المفاسد، فللإمام أن يقتلهم إن قتلوا، أو يصلبهم إنْ جمعوا بين أخذ المال والقتل، أو
وهؤلاء المفسدون ضوعفت لهم العقوبات، فالقتل العمد العدوان يوجب القتل، ويجوز لولي الأمر العفو وترك القصاص، فغلظ ذلك في قاطع الطريق، وصار القتل حتمًا لا هوادة فيه، ولا يجوز العفو عنه، وأخذ المال يتعلق به قطع اليمنى في غير قاطع الطريق بقطع الطرفين، وإن جمعوا بين القتل وأخذ المال.. جمع في حقهم بين القتل والصلب؛ لأن بقاءهم مصلوبين في ممر الطرق يكون سببًا لاشتهار إيقاع هذه العقوبة، فيصير ذلك زاجزًا لغيرهم عن الإقدام على مثل هذه المعصية، وإن اقتصروا على مجرد الإخافة عوقبوا بعقوبة خفيفة، وهي النفي من الأرض.
ثم بين آثار هذه العقوبة في الدنيا والآخرة فقال: ﴿ذَلِكَ﴾ الجزاء المذكور فيهم من القطع، والقتل، والصلب، والنفي. ﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ﴾؛ أي: ذل وهوان وفضيحة للمحاربين المذكورين في الدنيا بين الناس ليكونوا عبرة وعظة لغيرهم من المسلمين ﴿وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾؛ أي: شديد هو عذاب النار، وبقدر تأثير إفسادهم في تدنيس نفوسهم، وتدسيتها، وظلمة أرواحهم بما اجترحت من الذنوب والآثام.
واستحقاق الأمرين إنما هو للكافر (١)، وأما المسلم: فإنَّه إذا أقيم عليه الحد في الدنيا.. سقطت عنه عقوبة الآخرة، فالآية محمولة على الكافر، أو إن فيها تقديرًا في قوله: ﴿وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾ إلخ؛ أي: إذا لم تقم عليه الحدود المذكورة؛ لأنَّ (٢) المسلم إذا عوقب بجناية في الدنيا.. كانت عقوبته كفارة له، وإن لم يعاقب في الدنيا فهو في خطر المشيئة، إنْ شاء عذبه بجنايته ثم يدخله الجنة، وإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة، هذا مذهب أهل السنة. ففي (٣) "صحيح
(٢) الخازن.
(٣) ابن كثير.
وعن عليّ قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من أذنب ذنبًا في الدنيا فعوقب به، فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنبًا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود عليه في شيء قد عفا عنه". رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب.
٣٤ - ثم استثنى ممن يستحق العقوبة من تاب فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ ورجعوا من شركهم وحربهم لله ورسوله، ومن السعي في الأرض بالفساد ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ أيها الولاة بالأخذ لهم، فلا سبيل لكم عليهم بشيء من العقوبات المذكورة في الآية المتقدمة. ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿غَفُورٌ﴾ لهم لما فرط منهم من الشرك وغيره ﴿رَحِيمٌ﴾ بهم بقبول توبتهم.
والمعنى: (١) لكم أن تعاقبوا هذا العقاب الذي تقدم ذكره من قطعوا الطريق وعثوا في الأرض فسادًا إلا من تابوا إلى الله، وأنابوا إليه من قبل أن يتمكن منهم الحاكم، ويقدر على عقوبتهم، فإن توبتهم حينئذ - وهم في قوة ومنعة - جديرة بأن تكون توبة خالصة لله، صادرة عن اعتقاد بقبح الذنب، والعزم على عدم العودة إلى فعل مثله، وليس سببها الخوف من عقاب الدنيا، وإذًا فهم قد تركوا الإفساد، ومحاربة الله ورسوله، ومن ثم لا يجمع لهم بين أشد العقاب في الدنيا والعذاب في الآخرة، بل يصير أمرهم لمغفرة الله ورحمته كما قال: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾؛ أي: فاعلموا أن الله غفور لما فرط من ذنوبهم، رحيم بهم يرفع العقاب عنهم، وهذه التوبة ترفع عنهم حق الله كله من عقاب في الدنيا والآخرة،
وإذًا فتوبته لا تصح إلا إذا أعاد الأموال المسلوبة إلى أربابها، فإذا رأى ولي الأمر إسقاط حق مالي عن المفسد مراعاة للمصلحة العامة.. وجب أن يضمنه من بيت المال "وزارة المالية".
والخلاصة: أن هاتين الآيتين تضمنتا عقاب المحاربين المفسدين في الأرض، الذين يعملون أعمالًا مخلة بالأمن على الأنفس، والأموال، والأعراض في بلاد الإِسلام، معتصمين في ذلك بقوتهم، مع عدم الإذعان لأحكام الشريعة باختيارهم، وهو أن يطاردهم الحكام ويتبعوهم حتى إذا قدروا عليهم.. عاقبوهم بتلك العقوبات بعد تقدير كل مفسدة بقدرها، ومراعاة المصلحة العامة، ومن تاب قبل القدرة عليه.. لا يعاقب بما هنا من العقوبات حكمه حكم سائر المسلمين. والظاهر (١) من الاستثناء المذكور في الآية عدم الفرق بين الدماء والأموال، وبين غيرها من الذنوب الموجبة للعقوبات المعينة المحدودة، فلا يطالب التائب قبل القدرة بشيء من ذلك، وعليه عمل الصحابة، وذهب بعض أهل العلم إلى أنَّه لا يسقط القصاص وسائر حقوق الآدميين بالتوبة قبل القدرة، والحق: هو القول الأولى، وأما التوبة بعد القدرة فلا تسقط بها العقوبة المذكورة في الآية كما يدل عليه قيد ﴿قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾
٣٥ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وصدقوا بما جاء به محمد - ﷺ - ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ أي: خافوا عقاب الله وسخطه بترك المنهيات ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾؛ أي: واطلبوا الوسيلة، والقرب إليه، واسحقاق مثوبته، ومرضاته بفعل المأمورات ﴿وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ﴾؛ أي: في سبيل عبوديته، وطريق الإخلاص في معرفته وخدمته؛ أي: جاهدوا أنفسكم بكفها عن أهوائها، وحملها
واعلم أنَّ (١) مجامع التكليف محصورة في نوعين: أحدهما: ترك المنهيات، وهو المشار إليه بقوله تعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ وثانيهما: فعل المأمورات وهو المشار إليه بقوله: ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ والمراد بطلب الوسيلة والقرب إليه تعالى هو تحصيل مرضاته، وذلك بالعبادات والطاعات. ولما أمر الله تعالى بترك ما لا ينبغي وبفعل ما ينبغي، وكان الانقياد لذلك عن أشق الأشياء على النفس، وأشدها ثقلًا على الطبع، لأن النفس لا تدعو إلا إلى المشتهيات واللذات المحسوسة.. أردف ذلك التكليف بقوله: ﴿وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ﴾؛ أي: بمحاربة أعدائه البارزة والكامنة. ثم إن من يعبد الله تعالى فريقان: منهم من يعبده لا لغرض سوى الله، وهو المشار إليه بقوله: ﴿وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ﴾ ومنهم من يعبده للثواب مثلًا، وهو المشار إليه بقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾؛ أي: تفوزون بالمحبوب، وتخلصون من المكروه،
٣٦ - ثم أكد ما سبق من أن مدار الفوز والفلاح تقوى الله وتزكية النفس، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: إن الذين جحدوا ربوبية ربهم، وعبدوا غيره من عجل أو صنم أو وثن وماتوا وهم على هذه الحال قبل التوبة ﴿لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾؛ أي: لو ثبت أن لكل واحد منهم ما في الأرض من أصناف أموالها، وذخائرها وسائر منافعها جيعًا ﴿وَمِثْلَهُ مَعَهُ﴾؛ أي: وضعفه معه ﴿لِيَفْتَدُوا بِهِ﴾؛ أي: ليجعلوا كلًّا منهما فدية لأنفسهم ﴿من عذاب يوم القيامة﴾؛ أي: من تعذيب الله إياهم على تركهم أمره، وعبادتهم غيره، فافتدوا بذلك كله من العذاب الواقع يوم القيامة؛ ﴿مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ﴾؛ أي: ما تقبل الله منهم ذلك فداء وعوضًا
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: بل هو معذبهم عذابًا موجعًا مؤلمًا لهم؛ لأنَّ سنته تعالى قد مضت بأن سبب الفلاح والنجاة إنما تكون من نفس الإنسان لا من خارج عنها ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (١٠)﴾.
وهذا هو الفارق بين الإِسلام وغيره من الأديان، فالنصارى يعتقدون أن خلاصهم وسعادتهم يكون بالمسيح فدية لهم يفتديهم بنفسه مهما كانت حالهم، والمسلمون يعتقدون أن العمدة في النجاة تزكية النفس بالفضائل والأعمال الصالحة.
٣٧ - فهذه الجملة الأخيرة تصريح بعدم قبول الفداء، وتصوير للزوم العذاب، فلا سبيل لهم إلى الخلاص منه. ثم ذكر ما يلاقونه من الأهوال حينئذ فقال: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ﴾؛ أي: يتمنون الخروج من النار دار العذاب
الإعراب
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ﴾.
﴿وَاتْلُ﴾: (الواو): عاطفة أو استئنافية. ﴿اتل﴾: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة - وهي الواو - وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة على الجملة المقدرة في قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ...﴾ إلخ، يعني: اذكر يا محمَّد لقومك وأخبرهم خبر ابني آدم، أو الجملة مستأنفة استئنافًا نحويًّا. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿اتل﴾. ﴿نَبَأَ﴾: مفعول به، وهو مضاف. ﴿ابْنَيْ﴾: مضاف إليه وهو مضاف. ﴿آدَمَ﴾: مضاف إليه مجرور بالفتحة؛ لأنَّه اسم لا ينصرف، والمانع له من الصرف العلمية والعجمية. ﴿بِالْحَقِّ﴾: جار ومجرور (٢) متعلق بمحذوف صفة لمصدر محذوف تقديره: واتل عليهم تلاوةً متلبسة بالحق والصدق، حسبما تقرر في كتب الأولين. وفي "السمين" قوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ فيه ثلاثة أوجه (٣):
أحدها: أنَّه حال من فاعل ﴿اتل﴾ ذلك حال كونك متلبسًا بالحق؛ أي: بالصدق.
(٢) أبو السعود.
(٣) السمين.
الثالث: أنَّه صفة لمصدر ﴿اتل﴾؛ أي: اتل ذلك تلاوةً متلبسةً بالحق والصدق، وكان هذا الوجه هو اختيار الزمخشري؛ لأنَّه بدأ به، وعلى كل من الأوجه الثلاثة: فالباء للمصاحبة وهي متعلقة بمحذوف. اهـ.
﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ﴾.
﴿إِذْ﴾: ظرف لم مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية مبني على السكون لشبهه بالحرف شبهًا افتقاريًّا، والظرف متعلق بـ ﴿نَبَأَ﴾؛ أي اتل نبأهما وقصتهما الواقع في ذلك الوقت. ﴿قَرَّبَا﴾ فعل وفاعل. ﴿قُرْبَانًا﴾: مفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿فتقبل﴾: ﴿الفاء﴾): عاطفة. ﴿تقبل﴾: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿قُرْبَانًا﴾. ﴿مِنْ أَحَدِهِمَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿تقبل﴾ وتفعل هنا بمعنى الثلاثي المجرد، والجملة في محل الجر، معطوفة على جملة ﴿قَرَّبَا﴾. ﴿وَلَمْ يُتَقَبَّلْ﴾: الواو عاطفة. ﴿لم يتقبل﴾: جازم ومجزوم، ونائب فاعله ضمير يعود على القربان. ﴿مِنَ الْآخَرِ﴾: جار ومجرور، متعلق به، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ وفاعله ضمير يعود على ﴿الْآخَرِ﴾ والجملة مستأنفة. ﴿لَأَقْتُلَنَّكَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾ وإن شئت قلت: (اللام): موطئة للقسم. ﴿أقتلن﴾: فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد الثقيلة حرف لا محل لها من الإعراب مبني على الفتح. و (الكاف): ضمير المخاطب في محل النصب مفعول به، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْآخَرِ﴾، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿أَحَدِهِمَا﴾ والجملة
﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ﴾.
وقوله: ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي﴾ إلى قوله: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾ وإن شئت قلت: ﴿لَئِنْ﴾: (اللام): موطئة لقسم محذوف. ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿بَسَطْتَ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها، ﴿إِلَيَّ﴾ ﴿إلى﴾: حرف جر مبني بسكون على الألف المنقلبة ياء مدغمة في ياء المتكلم. وياء المتكلم في محل الجر بـ ﴿إلى﴾ مبني على الفتح، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿بَسَطْتَ﴾ ﴿يَدَكَ﴾ مفعول به ومضاف إليه. ﴿لِتَقْتُلَنِي﴾: (اللام): حرف جر وتعليل. ﴿تقتل﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله: ضمير مستتر يعود على ﴿الْآخَرِ﴾ والنون: نون الوقاية والياء: ضمير المتكلم في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لقتلك إياي، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿بَسَطْتَ﴾. ﴿مَا﴾: حجازية تعمل عمل ليس. ﴿أَنَا﴾ في محل الرفع اسمها. ﴿بِبَاسِطٍ﴾: خبرها، والباء: زائدة في خبر ﴿مَا﴾ الحجازية، وهو اسم فاعل يعمل عمل الفعل الصحيح، وفاعله: ضمير يعود على ﴿أَنَا﴾. ﴿يَدِيَ﴾: مفعول ﴿باسط﴾ ومضاف إليه. ﴿إِلَيْكَ﴾: جار ومجرور متعلق ﴿بِبَاسِطٍ﴾ وجملة ﴿مَا﴾ الحجازية جواب القسم المحذوف لا محل لها من الإعراب، وجواب الشرط محذوف، دل عليه جواب القسم تقديره: إن بسطت إلى يدك لتقتلني.. فما أبسط يدي إليك لأقتلك، جريًا على القاعدة المقررة عند النحاة، من أنَّه إذا اجتمع شرط وقسم.. كان المذكور جوابًا للسابق منهما، إلا فيما استثني عندهم كما مر لك ذكره مرارًا.
﴿إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾.
﴿إِنِّي﴾: ﴿أَنْ﴾ حرف نصب. و (الياء): اسمها. ﴿أَخَافُ اللَّهَ﴾ فعل
﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩)﴾.
﴿إِنِّي﴾ حرف نصب. والياء اسمها. ﴿أُرِيدُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على المتكلم، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إنَّ، وجملة إنَّ من اسمها وخبرها في محل الجر، معطوفة على جملة إن الأولى على كونها تعليلًا ثانيًا لما قبلها. وقال أبو السعود: وإنَّما لم يعطف على التعليل قبله.. تنبيهًا على كفاية كل منهما في العلية. انتهى. ﴿أَنْ تَبُوءَ﴾ ناصب ومنصوب، وفاعله ضمير المخاطب أعني قابيل. ﴿بِإِثْمِي﴾: جار ومجرور ومضاف، متعلق بـ ﴿تَبُوءَ﴾. ﴿وَإِثْمِكَ﴾: معطوف عليه، وجملة ﴿تَبُوءَ﴾: صلة ﴿أَنْ﴾ المصدرية، ﴿أَنْ﴾ مع صلتها: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: إنِّي أريد بوءك بإثمي وإثمك، ﴿فَتَكُونَ﴾: معطوف على ﴿تَبُوءَ﴾ منصوب، واسمها ضمير يعود على المخاطب. ﴿مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر ﴿تكون﴾. ﴿وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة.
﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٣٠)﴾.
﴿فَطَوَّعَتْ﴾: (الفاء): عاطفة. ﴿طوعت﴾: فعل ماضٍ. ﴿لَهُ﴾ متعلق به، ﴿نَفْسُهُ﴾: فاعل ومضاف إليه. ﴿قَتْلَ أَخِيهِ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: ﴿قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ﴾. ﴿فَقَتَلَهُ﴾: (الفاء): عاطفة تفريعية. ﴿قتله﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على القاتل، والجملة معطوفة على جملة ﴿طوعت﴾. ﴿فَأَصْبَحَ﴾: (الفاء): عاطفة تفريعية. ﴿أصبح﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على القاتل. ﴿مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾: جار ومجرور خبر ﴿أصبح﴾ وجملة ﴿أصبح﴾: معطوفة على جملة قوله: ﴿فَقَتَلَهُ﴾.
﴿فَبَعَثَ﴾: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنَّه قتل أخاه، وأردت بيان ما فعله بجيفة أخيه.. فأقول لك: ﴿بعث الله غرابًا﴾: ﴿بعث الله﴾: فعل وفاعل. ﴿غُرَابًا﴾: مفعول، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿يَبْحَثُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْغُرَابِ﴾، والجملة صفة لـ ﴿غُرَابًا﴾. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَبْحَثُ﴾. ﴿لِيُرِيَهُ﴾ اللام حرف جر وتعليل. ﴿يريه﴾: فعل ومفعول أول منصوب بأنْ مضمرة جوازًا بعد لام كي: لأنّه من أرى، بمعنى عرف يتعدى بالهمزة إلى مفعولين، وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على ﴿اللَّهُ﴾ إن قلنا اللام متعلقة بـ ﴿بعث﴾، أو على الغراب إن قلنا هي متعلقة بـ ﴿يَبْحَثُ﴾. ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام في محل النصب على الحال من فاعل ﴿يُوَارِي﴾ مبني على الفتح لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا. ﴿يُوَارِي﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على القاتل أعني قابيل. ﴿سَوْءَةَ أَخِيهِ﴾: مفعول به ومضاف إليه، وجملة ﴿يُوَارِي﴾: في محل النصب سادة مسد المفعول الثاني لأرى؛ لأنَّها معلقة عنها باسم الاستفهام، وجملة يرى من الفعل والفاعل: صلة أنْ المضمرة، أنْ مع صلتها: في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور إما متعلق بـ ﴿بعث﴾ تقديره: فبعث الله غرابًا، لإراءة الله إياه كيفية مواراة سوأة أخيه، أو متعلق بـ ﴿يَبْحَثُ﴾ تقديره: غرابًا يبحث في الأرض لإراءة الغراب إياه كيفية مواراة سوأة أخيه. وفي "الفتوحات" قوله: ﴿لِيُرِيَهُ﴾ إما متعلق بـ ﴿بعث﴾، فالضمير المستتر في الفعل عائد على ﴿اللَّهُ﴾ أو متعلق بـ ﴿يَبْحَثُ﴾ فالضمير عائد على الغراب. وفي "السمين" قوله: ﴿لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي﴾ هذه اللام يجوز فيها وجهان:
أحدهما: أنَّها متعلقة بـ ﴿يَبْحَثُ﴾؛ أي: ينبش ويثير التراب للإراءة.
والثاني: أنَّها متعلقة بـ ﴿بعث﴾، وكيف معمولة لـ ﴿يُوَارِي﴾، وجملة الاستفهام معلقة للرؤية البصرية، فهي في محل المفعول الثاني سادة مسده؛ لأنَّ رأى البصرية قبل تعديتها بالهمزة متعدية لواحد، فاكتسبت بالهمزة مفعولًا آخر،
﴿قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على القاتل، والجملة مستأنفة. ﴿يَا وَيْلَتَا﴾: إلى قوله: ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإنْ شئت قلت: ﴿يَا وَيْلَتَا﴾: ﴿يا﴾: حرف نداء. ﴿ويلتى﴾: منادى مضاف منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المنقلبة ألفًا للتخفيف بعد قلب الكسرة فتحة لمناسبة الألف، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، ويلة: مضاف. و (ياء المتكلم المنقلبة ألفًا للتخفيف): في محل الجر مضاف إليه، مبني على السكون لشبهها بالحرف شبهًا وضعيًّا، وجملة النداء: في محل النصب مقول. ﴿قَالَ﴾. وفي هذا المقام بحث نفيس ذكرته في رسالتي "هدية أولي العلم والإنصاف في إعراب المنادى المضاف". ﴿أَعَجَزْتُ﴾: (الهمزة): للاستفهام التعجبي. ﴿عجزت﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية جواب النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَنْ أَكُونَ﴾: ناصب وفعل ناقص واسمه ضمير المتكلم يعود على القاتل، ﴿مِثْلَ هَذَا﴾: خبر أكون ومضاف إليه. ﴿الْغُرَابِ﴾: بدل من اسم الإشارة، وجملة ﴿أَنْ﴾: المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: أعجزت كوني مثل هذا الغراب. ﴿فَأُوَارِيَ﴾: (الفاء): عاطفة، ﴿أُوَارِيَ﴾؛ معطوف على ﴿أَكُونَ﴾ وفاعله ضمير يعود على القاتل، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَكُونَ﴾. ﴿سَوْءَةَ أَخِي﴾: مفعول به ومضاف إليه، ﴿فَأَصْبَحَ﴾ (الفاء): عاطفة. ﴿أصبح﴾: فعل ماضٍ ناقص واسمه ضمير يعود على القاتل. ﴿مِنَ النَّادِمِينَ﴾: جار ومجرور خبر ﴿أصبح﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿قَالَ﴾.
﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾.
﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿كَتَبْنَا﴾ وتقديمه
﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾.
﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا﴾ (الواو): عاطفة. ﴿من﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما. ﴿أَحْيَاهَا﴾: فعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿من﴾: وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ﴾: فعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾ ﴿جَمِيعًا﴾: حال من الناس، أو تأكيد له، وجملة ﴿مَنْ﴾: الشرطية معطوفة على جملة ﴿مَنْ﴾ الأولى. ﴿وَلَقَدْ﴾: (الواو): استئنافية. اللام: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿جَاءَتْهُمْ﴾: فعل ومفعول. ﴿رُسُلُنَا﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة
﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾.
﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر. ﴿جَزَاءُ الَّذِينَ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿يُحَارِبُونَ اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿وَرَسُولَهُ﴾: معطوف على الجلالة، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿وَيَسْعَوْنَ﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿يُحَارِبُونَ﴾. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق بـ ﴿وَيَسْعَوْنَ﴾. ﴿فَسَادًا﴾: مفعول من أجله. وفي "الفتوحات" وفي نصب ﴿فَسَادًا﴾ ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّه مفعول من أجله؛ أي: يحاربون ويسعون لأجل الإفساد، وشرط النصب موجود.
والثاني: أنَّه مصدر واقع موقع الحال؛ أي: ويسعون في الأرض مفسدين أو ذوي فساد، أو جعلوا نفس الفساد مبالغة.
والثالث: أنَّه منصوب على المصدر؛ أي: أنَّه نوع من العامل قبله، لأنَّ يسعون معناه في الحقيقة يفسدون فسادًا، وفسادًا اسم مصدر قائم الإفساد، والتقدير: يفسدون في الأرض بسعيهم فسادًا. انتهت.
﴿أَنْ يُقَتَّلُوا﴾: ناصب وفعل ونائب فاعل، وجملة ﴿أَن﴾ المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الخبرية تقديره: إنَّما جزاء الذين يحاربون الله تقتيلهم، والجملة الإسمية مستأنفة ﴿أَوْ يُصَلَّبُوا﴾: فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿يُقَتَّلُوا﴾. ﴿أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ﴾: فعل ونائب فاعل ومضاف إليه معطوف على ﴿يُقَتَّلُوا﴾. ﴿وَأَرْجُلُهُمْ﴾: معطوف على ﴿أَيْدِيهِمْ﴾، ﴿مِنْ خِلَافٍ﴾: جار ومجرور حال من الأيدي والأرجل؛ أي: حالة كونها مختلفة في القطع بمعنى أنَّه تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى ﴿أَوْ يُنْفَوْا﴾: فعل مغير الصيغة ونائب فاعل معطوف على ﴿يُقَتَّلُوا﴾. ﴿مِنَ الْأَرْضِ﴾ متعلق به، وأو في جميع الأمثلة للتقسيم والتنويع؛ أي: تقسيم عقوبتهم تقسيمًا موزعًا على حالتهم وجناياتهم.
﴿ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ أول. ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿خِزْيٌ﴾: مبتدأ ثانٍ مؤخر. ﴿فِي الدُّنْيَا﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿خِزْيٌ﴾ والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للمبتدأ الأول، وجملة المبتدأ الأول مع خبرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. وفي "الفتوحات" وفي قوله: ﴿ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا﴾ ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون ﴿لَهُمْ﴾ خبرًا مقدمًا و ﴿خِزْيٌ﴾: مبتدأ مؤخرًا. ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ صفة له، فيتعلق بمحذوف.
والثاني: أن يكون ﴿خِزْيٌ﴾ خبرًا لـ ﴿ذَلِكَ﴾ و ﴿لَهُمْ﴾ متعلق بمحذوف على أنَّه حال من ﴿خِزْيٌ﴾؛ لأنَّه في الأصل صفة له، فلما قدم عليه.. انتصب حالًا.
والثالث: أنْ يكون ﴿لَهُمْ﴾: خبرًا لذلك و ﴿خِزْيٌ﴾: فاعل ورفع الجار هنا الفاعل لما اعتمد على المبتدأ. اهـ. "سمين". ﴿وَلَهُمْ﴾: (الواو): عاطفة.
﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)﴾.
﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء من ﴿الَّذِينَ يُحَارِبُونَ﴾، ﴿تَابُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، ﴿مِنْ قَبْلِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَابُوا﴾ قبل مضاف. ﴿أَنْ تَقْدِرُوا﴾: ناصب وفعل وفاعل، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من قبل قدرتكم، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَقْدِرُوا﴾. ﴿فَاعْلَمُوا﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنَّها أفصح عن جواب شرط مقدر تقديره إذا عرفتم هذا الاستثناء وأردتم بيان سعة رحمة الله وغفرانه.. فأقول لكم، ﴿اعلموا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذًا المقدرة مستأنفة. ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿غَفُورٌ﴾ خبر أول لـ ﴿أَنَّ﴾. ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثانٍ لها، وجملة أنَّ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿اعلموا﴾ تقديره: فاعلموا كون الله تعالى غفورًا رحيمًا. وفي "الفتوحات" قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ فيه وجهان:
أحدهما: إنَّه منصوب على الاستثناء من المحاربين.
والثاني: أنَّه مرفوع بالابتداء، والخبر قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، والعائد محذوف؛ أي: غفور لهم، ذكر هذا الثاني أبو البقاء، وحينئذ يكون الاستثناء منقطعًا بمعنى: لكن التائبون يغفر لهم. اهـ. "سمين".
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: ﴿يا﴾: حرف نداء. ﴿أي﴾ منادى نكرة مقصودة. ﴿ها﴾:
أحدهما: أنَّه متعلق بالفعل قبله.
والثاني: أنَّه متعلق بنفس الوسيلة. قال أبو البقاء: لأنَّها بمعنى المتوسل به، فلذلك عملت فيما قبلها يعني: أنَّها ليست بمصدر، حتى يمتنع أنْ يتقدم معمولها عليها، ويجوز أنْ يكون حالًا؛ أي: وابتغوا الوسيلة كائنة إليه، ﴿الْوَسِيلَةَ﴾ مفعول به ﴿وَجَاهِدُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾. ﴿فِي سَبِيلِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿وَجَاهِدُوا﴾. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: ﴿لعل﴾: حرف ترج ونصب بمعنى كي، و (الكاف): اسمها. وجملة ﴿تُفْلِحُونَ﴾: خبرها، وجملة ﴿لعل﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾ إنَّ: حرف نصب. واسم الموصول في محل النصب اسمها ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول ﴿لَوْ﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب مقدر. ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم، لـ ﴿أَنَّ﴾. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب اسم ﴿أَنَّ﴾ مؤخر عن خبرها. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: جار ومجرور صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها. ﴿جَمِيعًا﴾ توكيد لاسم ﴿أَنَّ﴾ أو حال منه.
﴿وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
﴿وَمِثْلَهُ﴾ ﴿مثل﴾: معطوف على اسم أنَّ وهو ما الموصولة، وقيل: إنَّه منصوب على أنَّه مفعول معه وهو رأي الزمخشري وهو مضاف، و (الهاء): مضاف
وَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيْبُ
أي: لو أن لهم ما في الأرض ليفتدوا به ومثله معه ليفتدوا به، وإما لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة، بأن يؤول المرجع المتعدد بالمذكور كما مر بعض ذلك في بحث التفسير ذكره في "الفتوحات". وجملة أنْ المضمرة مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام كي تقديره: لافتدائهم به أنفسهم من عذاب يوم القيامة، الجار والمجرور، متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر أن وهو لهم ﴿مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يفتدوا﴾ أيضًا. ﴿مَا﴾: نافية رابطة لجواب ﴿لَو﴾ وجاء على الأكثر من كون الجواب المنفي بغير لام. ﴿تُقُبِّلَ﴾: فعل ماضٍ مغير الصيغة بمعنى قبل، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾: الموصولة ومثله. ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية جواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية من فعل شرطها وجوابها في محل الرفع خبر إنَّ في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ والتقدير: إنَّ الذين كفروا غير مقبول منهم فداؤهم لو ثبت كون ما في الأرض جميعًا ومثله معه لهم فافتداؤهم به، وجملة إنَّ من اسمها وخبرها مستأنفة ﴿وَلَهُمْ﴾ (الواو): عاطفة. ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿عَذَابٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿أَلِيمٌ﴾: صفة له، والجملة معطوفة على جملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية على كونها خبرًا لـ ﴿أَنَّ﴾.
﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٣٧)﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ﴾ اتل فعل أمر من تلا يتلو تلاوة، يقال: تلا الكتاب إذا قرأه، والتلاوة: القراءة، ولا تكاد تستعمل إلا في قراءة كلام الله تعالى، والنبأ: الخبر الذي يهتم به لفائدة ومنفعة عظيمة، سمي به لأنَّه يأتي من مكان إلى آخر، ويجمع على أنباء ﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا﴾ والقربان فيه احتمالان (١):
أحدهما: وبه قال الزمخشري: أنَّه اسم لما يتقرب به إلى الله عَزَّ وَجَلَّ من صدقة أو ذبيحة أو نسك أو غير ذلك، يقال: قرب صدقة وتقرب بها.
والاحتمال الثاني: أنْ يكون مصدرًا في الأصل، ثم أطلق على الشيء المتقرب به كقولهم: نسج اليمن وضرب الأمير، ويؤيد ذلك أنَّه لم يثن مع أن الموضع موضع تثنية لأن كلًّا من قابيل وهابيل له قربان يخصه، والأصل إذ قربا قربانين، وإنَّما لم يثن؛ لأنَّه مصدر في الأصل يستوي فيه الواحد وغيره ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ﴾ يقال: بسط اليد إليه يبسط من باب نصر بسطًا إذا مدها إليه ليقتله ﴿أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ﴾ يقال: باء يبوء بوءًا من باب قال: إذا رجع ويقال: باء بالحق، أو بالذنب، إذا أقر به، وباء فلان بفلان بواء، إذا قتل به وصار دمه بدمه، وفي
﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا﴾ الغراب (٢) طائر معروف، ويجمع في القلة على أغربة، وفي الكثرة على غربان وغراب اسم جنس، وأسماء الأجناس إذا وقعت على مسمياتها من غير أن تكون منقولة من شيء.. فإن وجد فيها ما يمكن اشتقاقه حمل على أنَّه مشتق، إلا أن ذلك قليل جدًّا، بل الأكثر أن تكون غير مشتقة نحو: تراب وحجر وماء، ويمكن أن يكون غراب مأخوذًا من الاغتراب، فإن العرب تتشاءم به، وتزعم أنَّه دال على الفراق ﴿يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ﴾ البحث في الأرض.. نبش التراب وإثارته. ﴿لِيُرِيَهُ﴾ من أرى الرباعي التي هي مزيد رأى به. معنى: عرف المتعدية لواحد، فتتعدى بالهمزة لاثنين: الأول: الضمير البارز، والثاني: جملة كيف ﴿يُوَارِي﴾ يقال: وارى الشيء يواري مواراة، من باب فاعل إذا أخفاه، والسوأة ما يسوء ظهوره، والعورة والسوأة يجوز تخفيف همزتها بإلقاء حركتها على الواو، فتبقى سوأة أخيه، ولا تقلب الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها؛ لأن حركتها عارضة، ذكره أبو البقاء. ﴿وَيْلَتَا﴾ الويل حلول الشر، والويلة: الفضيحة والبلية والهلكة؛ أي: وافضيحتاه، وهي كلمة جزع وتحسر، والألف فيه بدل من ياء المتكلم ﴿أَعَجَزْتُ﴾ من باب فعل المفتوح، وهي اللغة الفاشية، وحكى الكسائي فيه: فعل بكسر العين والعجز: عدم الإطاقة ﴿مِنَ النَّادِمِينَ﴾ من الندم: وهو التحسر والتلهف، يقال: ندم يندم، من باب فرح إذا تحسر.
(٢) البحر المحيط.
وعبارة الشوكاني: أي من أجل ذلك القاتل وجريرته، وبسبب معصيته، وقال الزجاج: أي: من جنايته، قال: يقال: أجل الرجل على أهله شرًّا بأجل أجلًا، إذا جنى مثل أخذ يأخذ أخذًا انتهت. والإسراف البعد عن حد الاعتدال مع عدم المبالاة. ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ من حارب من باب فاعل الرباعي يحارب محاربة، والمحاربة من الحرب ضد السلم، والسلم السلامة من الأذى، والضرر والأفة والأمن على النفس والمال، والأصل في معنى كلمة الحرب التعدي وسلب المال، وحربية الرجل: ماله الذي يعيش به، والفساد ضد الصلاح، وكل ما يخرج عن وضعه الذي يكون صالحًا نافعًا.. يقال: إنّه فسد، ومن كان سببًا لفساد شيء يقال إنَّه أفسده، فإزالة الأمن من الأنفس أو الأموال أو الأعراض، ومعارضته تنفيذ الشريعة العادلة كل ذلك.. إفساد في الأرض ﴿أَنْ يُقَتَّلُوا﴾ والتقتيل المبالغة في القتل بكونه حتمًا لا هوادة فيه، ولا عفو من ولي الدم ﴿أَوْ يُصَلَّبُوا﴾ والتصليب المبالغة في الصلب، أو تكرار الصلب، كما قال الشافعي: يصلب بعد القتل ثلاثة أيام؛ بأن يربط على خشبة ونحوها منتصب القامة ممدود اليدين، وربما طعنوا المصلوب ليعجلوا موته ﴿أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ﴾ وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف معناه: إذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرجل اليسرى، والعكس بالعكس ﴿أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾ والنفي من الأرض: النقل من البلد أو القطر الذي أفسدوا فيه إلى غيره من بلاد الإِسلام إذا كانوا مسلمين؛ فإن كانوا كفارًا.. جاز نفيهم إلى بعض بلاد الإِسلام، أو بعض بلاد الكفار ﴿لَهُمْ خِزْيٌ﴾ الخزي: الذل والفضيحة، يقال: أخزاه الله، إذا فضحه وأذله ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا﴾؛ أي: من قبل التمكن من عقابهم. ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ اتقاء الله: هو اتقاء سخطه وعقابه
أَرَى النَّاسَ لاَ يَدْرُوْنَ مَا قَدْرُ أَمْرِهِمْ | أَلاَ كُلُّ ذِيْ لُبٍّ إِلَى الله وَاسِلُ |
إِذَا غَفِلَ الْوَاشُوْنْ عُدْنَا لِوَصْلِنَا | وَعَادَ التَّصَابِي بَيْنَنَا وَالْوَسَائِلُ |
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
منها: الطباق بين كلمة ﴿قَتَلَ﴾ و ﴿أَحْيَا﴾ وهو من المحسنات البديعية، وكذلك بين ﴿يعذب﴾ و ﴿يغفر﴾.
ومنها: الحذف في قوله: ﴿يُحَارِبُونَ اللَّهَ﴾؛ لأنّه على حذف مضاف؛ أي: يحاربون أولياء الله لأن الله تعالى لا يحارب ولا يغالب، فالكلام على سبيل المجاز.
ومنها: الإبهام في قوله: ﴿فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ﴾.
ومنها: التعريض بعدم تقوى القاتل في قوله: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿فَتُقُبِّلَ﴾، ﴿وَلَمْ يُتَقَبَّلْ﴾.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ﴾.
ومنها: القصر في قوله: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا﴾ لأنَّ تقديم المعمول على عامله يفيد الحصر على تفسير الجمهور.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا﴾، ﴿فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾، ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ﴾.
ومنها الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا﴾ لأنه استعار الإحياء للاستبقاء؛ لأنَّ المراد استبقاءها وعدم التعرض لقتلها، وإحياء النفس بعد موتها لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ﴾ الآية. قال الزمخشري (١): هذا تمثيل للزوم العذاب لهم، وأنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه من الوجوه.
ومنها: طباق السلب في قوله: ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ﴾ ﴿مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ﴾.
ومنها: التقسيم في قوله: ﴿أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿كَتَبْنَا﴾؛ أي: أمرنا بكتابته في الكتب المنزلة، ففيه نسبة الفعل إلى الآمر.
ومنها: تنزيل غير العاقل منزلة العاقل في قوله: ﴿يَا وَيْلَتَا﴾ لأنَّ أصل النداء أنْ يكونَ للعاقل حقيقة، وقد ينادى ما لا يعقل مجازًا.
ومنها: الاهتمام في قوله: ﴿سَوْءَةَ أَخِيهِ﴾؛ لأنَّ المراد بسوأة أخيه جسده، فإنَّه مما يستقبح بعد موته، وخصت السوأة بالذكر للاهتمام بها، ولأن سترها
ومنها: الإتيان بضمير الشأن في قوله: ﴿أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا﴾ المنبىء (١) عن كمال شهرته ونباهته وتبادره إلى الأذهان، عند ذكر الضمير الموجب لزيادة تقرير ما بعده في الذهن، فإن الضمير لا يفهم منه من الأول إلا شأن مبهم له خطر، فبقى الذهن مترقيًا لما يعقبه، فيتمكن عند وروده فضل تمكن؛ فكأنّه قيل: إن الشأن الخطر هذا. اهـ. "أبو السعود".
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها (١): أنّه تعالى لما ذكر جزاء المحاربين بالعقوبات التي فيها قطع الأيدي والأرجل من خلاف، ثم أمر بالتقوى لئلا يقع الإنسان في شيء من الحرابة، ثم ذكر حال الكفار.. ذكر حكم السرقة؛ لأن فيها قطع الأيدي بالقرآن، والأرجل بالسنة على ما يأتي ذكره، وهو أيضًا حرابة من حيث المعنى؛ لأنَّ فيه سعيًا بالفساد، إلا أن تلك على سبيل الشوكة والظهور، والسرقة على سبيل الاختفاء والتستر.
وعبارة المراغي هنا: لما بين الله (٢) سبحانه وتعالى عقاب المحاربين الذين
(٢) المراغي.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...﴾ مناسبتها لما قبلها (١): أنّه تعالى لما ذكر تصرفه في أحكام السراق، ولم يحاب ما ذكر من العقوبات عليهم.. نبه على أن ذلك هو تصرف في ملكه، وملكه لا معقب لحكمه فيه، فيعذب من يشاء عذابه، وهم المخالفون لأوامره، ويغفر لمن يشاء وهم التائبون.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّه تعالى لما بين أحكام الحرابة والسرقة، وكان في ذكر المحاربين أنَّهم يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فسادًا.. أمره تعالى أنْ لا يحزن، ولا يهتم بأمر المنافقين وأمر اليهود من تعنتهم وتربصهم به، وبمن معه الدوائر، ونصبهم له حبائل المكروه، وما يحدث لهم من الفساد في الأرض، ونصب المحاربة لله ولرسوله، وغير ذلك من الرذائل الصادرة عنهم.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ...﴾ الآية، سبب نزولها (٢): ما أخرجه أحمد وغيره عن عبد الله بن عمرو: أن امرأة سرقت على عهد رسول الله - ﷺ - فقطعت يدها اليمنى، فقالت: هل لي من توبة يا رسول الله؟ فأنزل الله في سورة المائدة ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ...﴾ الآية.
(٢) لباب النقول.
وللآيات سبب آخر أيضًا: وهو ما أخرجه أبو داود بسند رجاله رجال "الصحيح" (ج ٤/ ص ٢٨٦) عن ابن عباس قال: كانت قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلًا من النضير.. قتل به، وإذا قتل رجل من النضير.. يودي بمئة وسق من التمر، فلما بعث النبي - ﷺ - قتل رجل من النضير رجلًا من قريظة فقالوا: ادفعوه إلينا نقتله، فقالوا: بيننا وبينكم النبي - ﷺ -، فأتوه فنزلت ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ والقسط: النفس بالنفس، ثم نزلت ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى (ج ٢/ ص ٦١) وقد يمكن أنه قد اجتمع هذان السببان في وقت واحد، فنزلت هذه الآيات في ذلك كلّه. والله أعلم.
٣٨ - قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ شروع (١) في بيان حكم السرقة الصغرى بعد بيان أحكام الكبرى، ولما كانت السرقة معهودة من النساء كالرجال.. صرح بالسارقة، مع أنَّ المعهود في الكتاب والسنة إدراج النساء في الأحكام الواردة في شأن الرجال، وقدم السارق هنا والزانية في آية النور لأن الرجال إلى السرقة أميل، والنساء إلى الزنا أميل؛ أي: ومن سرق من رجل أو امرأة فاقطعوا أيها الولاة والحكام يده من الكف إلى الرسغ؛ لأن السرقة تحصل بالكف مباشرة، والساعد والعضد يحملان الكف كما يحملهما معهما البدن، وقطعت اليد لأنها آلة السرقة، ولم تقطع آلة الزنا تفاديًا عن قطع النسل، والتي تقطع أولًا هي اليمنى؛ لأنَّ التناول غالبًا يكون بها، ولأنه - ﷺ - أتي بسارق وهو طعمة فأمر بقطع يمينه من الرسغ. وكما يدل عليه قراءة ابن مسعود الشاذة: (وَالسَّارِقُون وَالسَّارِقَاتُ فَاقْطَعُوا أيمانهم). والسرقة: أخذ الشيء في خفية عن الأعين، وإنَّما سُمِّيَ السارق سارقًا.. لأنَّه يأخذ الشيء الذي ليس له أخذه في خفاء، ومنه: استرق السمع مستخفيًا. والقطع معناه: الإبانة والإزالة، وجمع الأيدي لكراهة الجمع بين تثنيتين، وقد بينت السنة المطهرة أنَّ موضع القطع الرسغ، وقال قوم: يقطع من المرفق، وقال الخوارج: من المنكب.
وقد اختلف الأئمة في المقدار الذي يوجب قطع اليد في السرقة (٢)، فروي عن الحسن البصري، وداود الظاهري أنَّه يثبت القطع بالقليل والكثير لظاهر الآية، وللحديث "لعنَ الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده" رواه الشيخان عن أبي هريرة، وجمهور العلماء من السلف والخلف على أنَّ القطع لا يكون إلا في سرقة ربع دينار - ربع مثقال من الذهب - أو ثلاثة دراهم من الفضة، لحديث عائشة "كان رسول الله - ﷺ - يقطع يد السارق في ربع دينار
(٢) المراغي.
وتثبت السرقة بالإقرار أو بالبينة، ويسقط الحدّ بالعفو عن السارق قبل رفع أمره إلى الإمام. وعبارة "زاد المسير": ولا يقطع إلا بشهادة عدلين، أو بإقراره مرتين. وبه قال ابن أبي ليلى وابن شبرمة وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: يثبت بمرة، ويجتمع القطع والغرم موسرًا كان أو معسرًا. وقال أبو حنيفة: لا يجتمعان، فإنْ كانت العين باقية.. أخذها ربها، وإنْ كانت مستهلكة.. فلا ضمان. وقال مالك: يضمنها إنْ كان موسرًا، ولا شيء عليه إنْ كان معسرًا. انتهت. وقرأ (١) الجمهور: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾ بالرفع وفيها وجهان، أحدهما: وهو مذهب سيبويه والمشهور من أقوال البصريين: أنَّ السارق والسارقة مبتدأ محذوف الخبر تقديره: فيما يتلى عليكم أو فيما فرض عليكم؛ أي: حكم السارق والسارقة فيما يتلى عليكم، ويكن قوله: ﴿فاقْطَعُوا﴾ بيانًا لذلك الحكم المقدر، فما بعد الفاء مرتبط بما قبلها، ولذلك أتى بها فيه؛ لأنَّه هو المقصود؛ ولو لم يؤت بالفاء.. لتوهم أنَّه أجنبي، والكلام على هذا جملتان، الأولى: خبرية، والثانية: إنشائية. والثاني وهو مذهب الأخفش، ونقل عن المبرد وجماعة كثيرة أنَّه مبتدأ أيضًا، والخبر: الجملة الإنشائية من قوله: ﴿فَاقْطَعُوا﴾. وإنما دخلت الفاء في الخبر لأنه يشبه الشرط في العموم، إذ الألف واللام فيه موصولة بمعنى الذي والتي والصفة صلتها، وهي في قوة قولك: والذي يسرق والتي تسرق فاقطعوا، وأجاز الزمخشري الوجهين. اهـ. "سمين".
وقرأ عبد الله (٢): (والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم) وقرأ عيسى بن
(٢) البحر المحيط.
يَدٌ بِخَمْسِ مِئِيْنَ عَسْجَدٌ وُديَتْ | مَا بَالُهَا قُطِعَتْ في رُبْعِ دِيْنَارِ |
عِزُّ الأمَانَةِ أَغْلاَهَا وَأرْخَصَها | ذُلُّ الْخِيَانَةِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ الْبَارِيْ |
فصل في بيان الأحكام المتعلقة بالآية وفيه خمس مسائل
المسألة الأولى: اقتضت هذه الآية وجوب القطع على كل سارق، وقطع رسول الله - ﷺ - في السرقة. وعن عائشة رضي الله عنها: "أن قريشًا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله - ﷺ -؟ قالوا: من يجترىء عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله - ﷺ -، فكلمه أسامة، فقال رسول الله - ﷺ -: "أتشفع في حد من حدود الله! "، ثم قام فخطب ثم قال: "إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف.. تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف..
وعن عائشة رضي الله عنها: أتي رسول الله - ﷺ - بسارق فقطعه، فقالوا: ما كنا نراك تبلغ به هذا؟ قال: "لو كانت فاطمة لقطعتها" أخرجه النسائي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله - ﷺ - قال: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يدة، ويسرق الحبل فتقطع يده". متفق عليه. قال الأعمش: يرون أنه بيض الحديد، وإنَّ من الحبال ما يساوي دراهم. أما السارق الذي يجب عليه القطع.. فهو البالغ العاقل، العالم بتحريم السرقة، فلو كان حديث عهد بالإِسلام ولا يعلم أنَّ السرقة حرام فلا قطع عليه.
المسألة الثانية: اختلف العلماء في قدر النصاب الذي يقطع به، فذهب أكثر العلماء إلى أنَّه ربع دينار، فإن سرق ربع دينار، أو متاعًا قيمته ربع دينار.. يقطع، وهذا قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وبه قال عمر بن عبد العزيز والأوزاعي والشافعي. ويدل له: ما روي عن عائشة أنَّ رسول الله - ﷺ - قال: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا" أخرجاه في "الصحيحين".
وذهب مالك وأحمد وإسحاق إلى أنَّه ثلاثة دراهم أو قيمتها؛ لما روي عن ابن عمر: أن رسول الله - ﷺ - "قطع سارقًا في مجن قيمته ثلاثة دراهم" أخرجه الجماعة. والمجن: الترس.
ويروى: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن قدر النصاب الذي تقطع فيه اليد خمسة دراهم، وبه قال ابن أبي ليلى، لما روي عن أنس قال: قطع أبو بكر في مجن قيمته خمسة دراهم وفي رواية: (قطع رسول الله - ﷺ -) أخرجه النسائي، وقال: الرواية الأولى أصح.
وذهب قوم إلى أنَّه قطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم، ويروى ذلك عن ابن مسعود، وإليه ذهب سفيان الثوري وأبو حنيفة، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله - ﷺ -: أول من قطع في مجن قيمته دينار أو عشرة
فإذا سرق نصابًا من المال من حرزٍ لا شبهة له فيه.. قطعت يده اليمنى من الكوع، ولا يجب القطع بسرقة ما دون النصاب. وقال ابن عباس وابن الزبير والحسن: القدر غير معتبر فيجب القطع في القليل والكثير، وكذا الحرز غير معتبر أيضًا عندهم، وإليه ذهب داود الظاهري، واحتجوا بعموم الآية، فإن قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ يتناول القليل والكثير، وسواء من حرز أو غير حرز.
المسألة الثالثة في الحرز: الحرز: هو ما جعل للسكنى وحفظ الأموال، كالدور والمضارب والخيم التي يسكنها الناس، ويحفظون أمتعتهم فيها، فكل ذلك حرز وإن لم يكن فيه حافظ ولا عنده، وسواء سرق من ذلك وهو مفتوح الباب أو مغلق، فأما ما كان في غير بناء ولا خيمة.. فإنَّه ليس بحرز، إلا أن يكون عنده من يحفظه. أما نباش القبور فإنَّه يقطع، وهو قول مالك والشافعي وأحمد، وقال ابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة: لا قطع عليه، فإن سرق شيئًا من غير حرز كثمر من بستان لا حارس له، أو حيوان في برية ولا راعٍ له، أو متاع في بيت منقطع عن البيوت.. فلا قطع عليه.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله - ﷺ - سئل عن الثمر المعلق؟ فقال: "من أصاب بفيه منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه"، أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي، وزاد فيه "ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثله والعقوبة، ومن سرق منه شيئًا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثله والعقوبة"، قوله: غير متخذ خبنة - الخبنة بالخاء المعجمة وبعدها باء موحدة ثم نون - وهو ما يحمله الإنسان في حضنه، وقيل: هو ما يأخذه في خبنة ثوبه، وهو ذيله وأسفله، والجرين: موضع التمر الذي يجفف فيه مثل البيدر للحنطة.
وروى مالك في "الموطأ"، عن أبي حسين المكي أن رسول الله - ﷺ - قال: "لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة الجبل، فإذا أواه المراح أو الجرين..
وعن جابر أن النبي - ﷺ - قال: "ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع" أخرجه الترمذي والنسائي.
المسألة الرابعة: إذا سرق مالًا له فيه شبهة، كالولد يسرق من مال والده، أو الوالد يسرق من مال ابنه، أو العبد يسرق من مال سيده، أو الشريك يسرق من مال شريكه.. فلا قطع على أحد من هؤلاء فيه. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تقطع المرأة إذا سرقت من مال زوجها، ولا هو إذا سرق من مال زوجته. وقال مالك: يقطعان، ذكره أبو حيان في "البحر".
المسألة الخامسة: إذا سرق أول مرة.. قطعت يده اليمنى من الكوع، وإذا سرق ثانية.. قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم، واختلفوا فيما إذا سرق مرة ثالثة، فذهب أكثرهم إلى أنَّه تقطع يده اليسرى، فإن سرق مرة رابعة.. قطعت رجله اليمنى، ثم إذا سرق بعد ذلك.. يعزر ويحبس حتى تظهر توبته. يروى هذا عن أبي بكر، وهو قول قتادة، وبه قال مالك والشافعي لما روي عن ابن عباس أنَّ رسول الله - ﷺ - قال في السارق: "إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله" ذكره البغوي بغير سند. وذهب قوم إلى أنه إنْ سرق بعدما قطعت يده ورجله.. فلا قطع عليه بل يحبس. وروي عن علي أنه قال: إني أستحيي أن لا أدع له يدًا يستنجي بها، ولا رجلًا يمشي بها. وهذا قول الشعبي والنخعي والأوزاعي، وبه قال أحمد وأصحاب الرأي.
فصل
وهذه التوبة مقبولة فيما بينه وبين الله؛ فأما القطع: فلا يسقط عنه بالتوبة عند أكثر العلماء؛ لأن الحد جزاء على الجناية، ولا بد من التوبة بعد القطع، وتوبته: الندم على ما مضى، والعزم على تركه في المستقبل، وإعادة المال المسروق بعينه إن كان باقيًا، وإلا فدفع قيمته إن قدر. وعن أبي أمية المخزومي أن رسول الله - ﷺ - أتى بلص قد اعترف اعترافًا ولم يوجد معه متاع فقال له رسول الله - ﷺ -: "إما إخالك سرقت"، فقال: بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثًا، كل ذلك يعترف، فأمر به فقطع، ثم جيء به، فقال له رسول الله - ﷺ -: "استغفر الله وتب إليه" فقال الرجل: أستغفر الله وأتوب إليه، فقال النبي - ﷺ -: "اللهم تب عليه"، أخرجه أبو داود والنسائي بمعناه. وإذا قطع السارق.. يجب عليه غرم ما سرق من المال عند أكثر أهل العلم. وقال الثوري وأصحاب الرأي: لا غرم عليه، فلو كان المسروق باقيًا عنده.. يجب عليه أن يرده إلى صاحبه وتقطع يده؛ لأنَّ القطع حق الله، والغرم حق الآدمي، فلا يسقط أحدهما بالآخر، والله أعلم.
٤٠ - ثم بين الله سبحانه وتعالى أن عقاب السراق والعفو عن التائبين جاء وفق الحكمة والعدل والرحمة فقال: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ﴾ يا محمَّد أو يا مخاطَب ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي سلطنتهما وتدبيرهما وتصرفهما، يدبر الأمر فيهما بحكمته وعدله ورحمته وفضله، يعني أنَّ الله تعالى
﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾؛ أي: قادر على تعذيب من أراد تعذيبه من خلقه، وعلى غفران ذنوب من أراد إسعاده وإنقاذه من الهلكة من خلقه؛ لأنَّ الخلق كلهم عبيده، وفي ملكه، فلا يعجزه شيء في تدبير ملكه.
٤١ - ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾ خاطب الله محمدًا - ﷺ - بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ في مواضع كثيرة من القرآن، وما خاطبه بيا أيها الرسول إلا في موضعين، هما: في سورة المائدة في هذا الموضع، وموضع آخر بعده وهو قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ وهذا الخطاب للتشريف والتعظيم، وتأديب المؤمنين وتعليمهم أن يخاطبوه بوصفه كما كان يفعل بعض أصحابه بقولهم: يا رسول الله، وجهل هذا بعض الأعراب لخشونتهم وسذاجة فطرتهم فكانوا ينادونه؛ يا محمَّد، حتى أنزل الله: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ فكفوا عن ندائه باسمه. والحاصل: أن نداءه بيا أيها النبي وبيا أيها الرسول نداء تشريف وتعظيم وتفخيم لقدره، ونادى غيره من الأنبياء باسمه فقال: ﴿يَا آدَمُ اسْكُنْ﴾ ﴿يَا نُوحُ اهْبِطْ﴾ ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾، ﴿يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ﴾، {يا عِيسَى إِنِّي
والمراد بالنهي عن الحزن هو أمر طبيعي، وليس للإنسان فيه اختيار النهي عن لوازمه التي يفعلها الناس مختارين من تذكر المصائب، وتعظيم شأنها، وبذا يتجدد الألم، ويبعد أمد السلوى. ثم بين أن أولئك المسارعين في الكفر من المنافقين ومن اليهود فقال: ﴿مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا﴾ فـ (مِن) فيه بيانية للمسارعين والباء في قوله: ﴿بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ متعلقة بقالوا، لا بآمنا، وهؤلاء الذين قالوا آمنا بأفواههم ﴿وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾ هم المنافقون وقوله: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ يعني اليهود، معطوف على ﴿مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ وهو تمام الكلام، يعني أنَّ المسارعين في الفكر هم طائفة من المنافقين، وطائفة من اليهود.
والمعنى: لا يحزنك يا محمَّد الذين يسارعون في الكفر حالة كونهم من المنافقين الذين أذاعوا الإيمان بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، وحالة كونهم من الذين هادوا؛ أي: من اليهود.
٤٢ - وقوله: ﴿سَمَّاعُونَ﴾ راجع للفريقين، أو إلى المسارعين، واللام في قوله: ﴿لِلْكَذِبِ﴾ للتقوية أو لتضمين السماع معنى القبول، وسماعون خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم؛ أي: كل من الفريقين من المنافقين واليهود سماعون؛ أي: كثيروا الاستماع، سماع قبول للكذب الذي يقوله ويفتريه رؤوسائهم وأحبارهم في نعوت النبي - ﷺ -، وفي أحكام دينهم التي يتلاعبون فيها بأهوائهم. وقرأ الحسن وعيسى بن عمر: ﴿لِلْكِذْبِ﴾ بكسر الكاف وسكون الذال، وقرأ زيد بن علي أيضًا: "الكُذُب" بضم الكاف والذال، وجمع كذوب كصبور وصبر؛ أي: سماعون لكذب الكذب {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ
والإشارة بقوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ إلى من تقدم ذكرهم من الذين قالوا: ﴿آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ﴾، ﴿وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾؛ أي: أولئك المنافقون واليهود هم ﴿الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾؛ أي: لم يرد تطهيرها من أرجاس الكفر والنفاق، وخبث الضلالة؛ لإنهماكهم فيهما، كما طهر قلوب المؤمنين؛ أي (٢): إنَّ أولئك الذين بلغت منهم الفتنة ذلك المبلغ، هم الذين لم يرد الله تطهير قلوبهم من الكفر والنفاق؛ لأن إرادته إنَّما تتعلق بما اقتضته سننه العادلة في نفوس البشر من أنَّها إذا دأبت على الباطل، ومرنت على الكيد والشر، وألفت الخلاف والضر، تحيط بها خطيئتها، وتطبق عليها ظلمتها.. فلا يبقى لديها لنور الحق منفذ، وتصبح غير قابلة للاستبصار والاعتبار الذي جعله الله وسيلة للاتعاظ والهداية، فهؤلاء الرؤساء من اليهود وأعوانهم لا تقبل طباعهم سواها، فلا تتعلق إرادته سبحانه بتطهير قلوبهم، وإلا كان ذلك خلافًا لما اقتضته سننه، وتبديلًا لنظمه في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلًا".
(٢) المراغي.
قوله: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ كرره (١) تأكيدًا لقبحه، وليكون كالمقدمة لما بعده وهو: ﴿أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ وهو من أخبار ذلك المبتدأ المقدر سابقًا؛ أي: سماعون للكذب الذي كانوا ينسبونه إلى التوراة ﴿أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾؛ أي: الحرام الذي (٢) يصل إليهم من الرشوة في الحكم، ومهر البغي، وعسيب الفحل، وثمن الدم، وثمن الكلب، وثمن الخمر، وثمن الميتة، وحلوان الكاهن، وأجرة النائحة والمغنية، وأجرة مصور التماثيل، وثمن النرد وآلات اللهو، وثمن الصور الحيوانية إلى غير ذلك من أنواع المحرمات، روي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب (٣): ﴿السُّحُتِ﴾ بضمتين. وقرأ باقي العشرة بإسكان الحاء، وزيد بن علي وخارجة بن مصعب، عن نافع بفتح
(٢) المراح.
(٣) البحر المحيط.
قيل: نزلت (١) في حكام اليهود، مثل كعب بن الأشرف ونظرائه، كانوا يرتشون ويقضون لمن رشاهم. قال الحسن: كان الحاكم منهم إذا أتاهم أحدهم برشوة.. جعلها في كمه، ثم يريها إياه ويتكلم بحاجته، فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه، فيسمع الكذب ويأكل الرشوة وهي: السحت. وأصل السحت الاستئصال، يقال: سحته إذا استأصله، وسميت الرشوة في الحكم سحتًا؛ لأنها تستأصل دين المرتشي، والسحت كله حرام، تحمل عليه شدة الشره، وهو يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا تكون له بركة، ولا لآخذه مروءة، ويكون في حصوله عار، بحيث يخفيه لا محالة، ومعلوم أن حال الرشوة كذلك، فلذلك حرمت الرشوة على الحاكم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - ﷺ - قال: "لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم". أخرجه الترمذي. وأخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال الحسن: إنّما ذلك في الحاكم إذا رشوته ليحق لك باطلًا، أو يبطل عنك حقًّا. وقال ابن مسعود: الرشوة في كل شيء، فمن شفع شفاعة ليرد بها حقًّا، أو يدفع بها ظلمًا فأهدى بها إليه فقبل.. فهو سحت، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم، فقال: الأخذ على الحكم كفر، قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾.
﴿فَإِنْ جَاءُوكَ﴾ يا محمَّد؛ أي: جاءك اليهود متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من الخصومات ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾؛ أي: فأنت (٢) مخير بين
(٢) المراغي.
فصل
اختلف علماء التفسير في حكم هذه الآية على قولين:
أحدهما: أنَّها منسوخة، وذلك أن أهل الكتاب كانوا إذا ترافعوا إلى النبي - ﷺ -.. كان مخيرًا، فإن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، ثم نسخ ذلك بقوله ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ فلزمه الحكم بينهم وزال التخيير، وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعطاء ومجاهد وعكرمة والسدي.
والثاني: أنَّها محكمة، والحكام المسلمين بالخيار إذا ترافعوا إليهم.. فإن شاؤوا حكموا بينهم، وإن شاؤوا أعرضوا عنهم، وهذا القول مروي عن الحسن والشعبي والنخعي والزهري، وبه قال أحمد ابن حنبل، وهو الصحيح لأنّه لا منافاة بين الآيتين. أمَّا قوله: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ ففيه التخيير بين الحكم والإعراض. وأمَّا قوله: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ ففيه بيان كيفية الحكم إذا حكم بينهم.
قال الإِمام فخر الدين الرازي (١): ومذهب الشافعي أنَّه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليه؛ لأنَّ في إمضاء حكم الإِسلام عليهم إذلالًا وصَغارًا لهم، فأمَّا المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد
﴿وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ﴾؛ أي: وإن اخترت الإعراض عنهم ولم تحكم بينهم ﴿فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا﴾ من الضرر، فالله حافظك من ضررهم؛ أي: لأنهم إنَّما يتحاكمون إليك لطلب الأخف، فإذا أعرضت عنهم، وأبيت عن الحكم بينهم.. شق عليهم إعراضك عنهم، وصاروا أعداء لك، فلا تضرك عداوتهم لك، فإن الله تعالى يعصمك من الناس ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ﴾، أي: وإن اخترت الحكم بينهم ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾؛ أي: بالعدل الذي أمرت به، وهو ما تضمنه القرآن واشتملت عليه شريعة الإِسلام ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾؛ أي: يثيب العادلين في الحكم.
٤٣ - والاستفهام في قوله ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ﴾ إلخ، إستفهام تعجيب من الله سبحانه وتعالى لنبيه - ﷺ - من تحكيمهم إياه، مع أنهم لا يؤمنون به وبكتابه، والحال أن الحكم منصوص عليه في التوراة التي يدعون الإيمان بها، وتنبيه على أنَّهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع، وإنَّما طلبوا به ما هو أهون عليهم لكان لم يكن ذلك حكم الله على زعمهم، ثم يعرضون عن حكمه - ﷺ - الموافق لكتابهم من بعد التحكيم، والرضا بحكمه - ﷺ - فقوله: ﴿وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ﴾ حال من فاعل يحكمونك وقوله: ﴿فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ﴾ حال من التوراة وقوله: ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ﴾ معطوف على يحكمونك.
والمعنى: واعجب يا محمَّد من تحكيمهم إياك في حد الزنا، والحال أن عندهم التوراة كتابهم حالة كون التوراة موصوفة بكون حكم الله بالرجم في الزنا موجودًا فيها، ثم اعجب من توليهم وإعراضهم عن حكمك من بعد تحكيمهم
فائدة: والاستفهام التعجبي ضابطه هو إيقاع (١) المخاطب في العجب؛ أي: التعجب. والتعجب هنا من وجهين:
الأول: قوله: ﴿وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ...﴾ إلخ.
والثاني: قوله: ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ...﴾ إلخ كما أشرنا إليه في التفسير؛ أي: وكيف (٢) يحكمونك في قضية كقضية الزانيين وعندهم التوراة، وهي شريعتهم فيها حكم الله فيما يحكمونك فيه، ثم يتولون عن حكمك بعد أن رضوا به وآثروه على شريعتهم لموافقته إياها. وخلاصة ذلك أن أمرهم لمن أعجب العجب، وما سبب ذلك إلا أنَّهم ليسوا بمؤمنين بالتوراة إيمانًا صحيحًا، ولا هم مؤمنين بك، إذ المؤمن بشرع لا يرغب عنه إلى غيره، إلا إذا آمن بأن ما رغب إليه شرع من الله أيضًا، أيد به الأول، أو نسخه لحكمة اقتضت ذلك ﴿مَا أُولَئِكَ﴾ البعداء من الله تعالى يعني اليهود ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ بالتوراة وإن كانوا يظهرون الإيمان بها لإعراضهم عنها أولًا، وعما يوافقها ثانيًا، أو بك ولا بها، وإن طلبوا الحكم منك لأنَّهم لا يعتقدون صحة حكمك، وذلك دليل على أنَّه لا إيمان لهم بشيء، وأنَّ مقصودهم تحصيل منافع الدنيا، وأغراضهم الفاسدة، دون اتباع الحق.
الإعراب
﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨)﴾.
﴿وَالسَّارِقُ﴾ مبتدأ. ﴿وَالسَّارِقَةُ﴾: معطوف عليه، وفي الخبر وجهان:
أحدهما: وعليه سيبويه أنّه محذوف تقديره: حكم السارق والسارقة فيما
(٢) المراغي.
وثانيهما: وعليه الأخفش وجماعة من النحاة: أن الخبر الجملة الإنشائية من قوله: ﴿فَاقْطَعُوا﴾ وإنَّما دخلت الفاء في الخبر لشبه المبتدأ باسم الشرط في العموم، إذ الألف واللام فيه موصولة، بمعنى الذي والتي، والصفة صلتها، فهي في قوة قولك: والذي يسرق والتي تسرق فاقطعوا أيديهما، والجملة من المبتدأ والخبر على كلا الوجهين مستأنفة كما سبق، ذلك كله في بحث التفسير. ﴿أَيْدِيَهُمَا﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿جَزَاءً﴾: مفعول لأجله منصوب، بـ ﴿اقْطَعُوا﴾ فالجزاء علة للأمر بالقطع، أو منصوب على المصدرية بفعل محذوف تقديره: جازاهما الله جزاء على ما كسباه والجملة المحذوفة معللة للقطع أيضًا، كما ذكره أبو البقاء. ﴿بِمَا﴾: الباء: حرف جر بمعنى على. ﴿مَا﴾: موصولة أو مصدرية. ﴿كَسَبَا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: على الذي كسباه من السرقة، أو صلة (ما) المصدرية تقديره: على كسبهما، والجار والمجرور على كلا الوجهين متعلق بـ ﴿جَزَاءً﴾. ﴿نَكَالًا﴾: مفعول لأجله منصوب (١) بـ ﴿جَزَاءً﴾ فالنكال علة للجزاء، فتكون العلة معللة بشيء آخر، فتكون كالحال المتداخلة، كما تقوله: ضربته تأديبًا له، إحسانًا إليه، فالتأديب علة للضرب، والإحسان علة للتأديب. اهـ. "سمين". ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿نَكَالًا﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿عَزِيزٌ﴾ خبر أول. ﴿حَكِيمٌ﴾ خبر ثان، والجملة مستأنفة.
﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩)﴾.
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري. وما ذكر الشوكاني في أن الاستفهام للإنكار غير صواب. ﴿لَمْ﴾ حرف نفي وجزم. ﴿تَعْلَمْ﴾: فعل مضارع مجزوم، بـ ﴿لَمْ﴾ وفاعله ضمير يعود على محمَّد، أو على أي مخاطب، والجملة مستأنفة. ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ﴾: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه. ﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾ وجملة ﴿أَنَّ﴾ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر ساد مسد مفعول علم تقديره: ألم تعلم كون ملك السماوات والأرض له تعالى. ﴿يُعَذِّبُ﴾ فعل مضارع والفاعل يعود على الله. ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل نصب مفعول به ﴿يَشَاءُ﴾ مضارع صلة
﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ (يا): حرف نداء. (أي): منادى نكرة مقصودة. (ها): حرف تنبيه زائد. ﴿الرَّسُولُ﴾: صفة لـ (أي)، وجملة النداء مستأنفة. ﴿لَا يَحْزُنْكَ﴾: جازم وفعل ومفعول. ﴿الَّذِينَ﴾ فاعل، والجملة الفعلية جواب النداء. ﴿يُسَارِعُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿فِي الْكُفْرِ﴾ متعلق به، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل.
﴿مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾.
﴿مِنَ الَّذِينَ﴾: جار ومجرور حال من الضمير في ﴿يُسَارِعُونَ﴾ أو من ﴿الَّذِينَ يُسَارِعُونَ﴾. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿آمَنَّا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿بِأَفْوَاهِهِمْ﴾: جار. ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قالوا بأفواههم: آمنا. ﴿وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾: جازم وفعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة في محل النصب حال من ضمير ﴿قَالُوا﴾. ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: ﴿مِنَ الَّذِينَ قَالُوا﴾، ﴿هَادُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم؛ أي: كل من الفريقين: اليهود والمنافقين قوم سماعون، والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره مستأنفة، قوله: ﴿لِلْكَذِبِ﴾ فيه وجهان (١):
أحدهما: اللام زائدة، تقديره: سماعون للكذب.
والثاني: ليست زائدة، فهي متعلقة بـ ﴿سَمَّاعُونَ﴾، والمفعول محذوف تقديره
﴿سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾.
﴿سَمَّاعُونَ﴾ خبر ثان للمبتدأ المقدر سابقًا، وقيل توكيد لفظي للأول وتكرير له. ﴿لِقَوْمٍ﴾ متعلق به؛ أي: لأجل قوم، ويجوز أن تتعلق اللام في ﴿لِقَوْمٍ﴾ بالكذب سماعون الثاني: مكرر والتقدير: ليكذبوا لقوم آخرين. ﴿آخَرِينَ﴾ صفة أول ﴿لِقَوْمٍ﴾. ﴿لَمْ يَأتُوكَ﴾: جازم وفعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر صفة ثانية ﴿لِقَوْمٍ﴾. ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجر صفة ثالثة ﴿لِقَوْمٍ﴾ أو في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هم يحرفون الكلم، أو في محل النصب حال من فاعل ﴿لَمْ يَأتُوكَ﴾.
﴿يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا﴾.
﴿يَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر صفة رابعة ﴿لِقَوْمٍ﴾، أو في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم يقولون، أو في محل النصب حال من فاعل ﴿يُحَرِّفُونَ﴾. ﴿إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا﴾ إلى قوله: ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ﴾ مقول محكي لـ ﴿يَقُولُونَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿إِنْ﴾ حرف شرط جازم. ﴿أُوتِيتُمْ﴾: فعل ونائب فاعل في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها. هذا في محل النصب مفعول ثان. لـ ﴿أُوتِيتُمْ﴾ والأول كان نائب فاعل له. ﴿فَخُذُوهُ﴾ الفاء: رابطة لجواب (إنْ) الشرطية وجوبًا. ﴿خُذُوهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول به في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول القول. ﴿وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ﴾ الواو: عاطفة. ﴿إِنْ﴾ حرف شرط. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم. ﴿تُؤْتَوْهُ﴾: فعل ونائب فاعل ومفعول ثان مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، والجملة في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿فَاحْذَرُوا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا. ﴿احْذَرُوا﴾ فعل وفاعل مبني على حذف النون، والجملة في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونها جوابًا
﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾.
﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب. ﴿يُرِدِ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿فِتْنَتَهُ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿فَلَنْ﴾ (الفاء) رابطة لجواب من الشرطية وجوبًا، لكون الجواب مقرونًا بلن. ﴿لن﴾: حرف نصب. ﴿تَمْلِكَ﴾ منصوب بـ ﴿لن﴾، وفاعله ضمير يعود على محمد. ﴿لَنْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَمْلِكَ﴾. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَمْلِكَ﴾ أيضًا، أو حال من ﴿شَيْئًا﴾؛ لأنّه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿شَيْئًا﴾ مفعول به أو منصوب على المصدرية، وجملة ﴿تَمْلِكَ﴾ في محل الجزم بمن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مِنَ﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٤١)﴾.
﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ ﴿الَّذِينَ﴾: خبر والجملة مستأنفة ﴿لَمْ يُرِدِ اللَّهُ﴾ جازم وفعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد الضمير في ﴿قُلُوبَهُمْ﴾ ﴿أَنْ﴾ حرف نصب. ﴿يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾: فعل ومفعول به ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: لم يرد الله تطهير قلوبهم. ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿فِي الدُّنْيَا﴾: جار ومجرور متعلق بالاستقرار المتعلق به الخبر. ﴿خِزْيٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية مستأنفة (١) استئنافًا بيانيًّا لجواب سؤال ناشئ من تفصيل أفعالهم وأحوالهم الموجبة للعقاب، كأنَّه قيل: فما لهم من العقوبة؟ فقيل: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا
﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾.
﴿سَمَّاعُونَ﴾: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم سماعون، والجملة مستأنفة كرره للتأكيد وتوطئة لما بعده. ﴿لِلْكَذِبِ﴾ متعلق به. ﴿أَكَّالُونَ﴾: خبر لمبتدإ محذوف. ﴿لِلسُّحْتِ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة بعاطف مقدر على الجملة التي قبلها. ﴿فَإِنْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت حالهم الخبيثة وأردت بيان حكم ما إذا تحاكموا إليك.. فأقول لك. ﴿إن جاءوك﴾ إن حرف شرط. ﴿جَاءُوكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بإنْ على كونه فعل شرط لها. ﴿فَاحْكُمْ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إنْ﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿احْكُمْ﴾: فعل أمر في محل الجزم (بإنْ) على كونه جوابًا لها مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿بَيْنَهُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿احْكُمْ﴾. ﴿أَوْ﴾ حرف عطف وتخيير ﴿أَعْرِضْ﴾: فعل أمر في محل الجزم معطوف على ﴿احْكُمْ﴾، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿عَنْهُمْ﴾: جار ومجرور، متعلق به، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية: في محل النصب قول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا﴾.
﴿وَإِنْ﴾: (الواو): عاطفة. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿تُعْرِضْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه فعل شرط لها وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق به. ﴿فَلَنْ﴾: الفاء: رابطة لجواب ﴿إِنْ﴾ الشرطية وجوبًا، لاقترانه بـ (لن). ﴿لن﴾: حرف نصب. ﴿يَضُرُّوكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به منصوب بـ (لن). ﴿شَيْئًا﴾ منصوب على المفعولية المطلقة؛ أي: شيئًا من الضرر،
﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.
﴿وَإِنْ﴾: (الواو): عاطفة. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿حَكَمْتَ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿فَاحْكُمْ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إِنَّ﴾ الشرطية. ﴿احْكُمْ﴾: فعل أمر في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿بَيْنَهُمْ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿احْكُمْ﴾. ﴿بِالْقِسْطِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿احْكُمْ﴾ تقديره: حالة كونك متلبسًا بالقسط، وجملة إن الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة إن الأولى. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه ﴿يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ﴾.
﴿وَكَيْفَ﴾: (الواو): استئنافية. ﴿كيف﴾ اسم استفهام في محل النصب حال من فاعل ﴿يُحَكِّمُونَكَ﴾ مبني على الفتح لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا. ﴿يُحَكِّمُونَكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول مرفوع بثبات النون، والجملة مستأنفة. ﴿وَعِنْدَهُمُ﴾ الواو: واو الحال. ﴿عندهم﴾: ظرف ومضاف إليه خبر مقدم. ﴿التَّوْرَاةُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿يُحَكِّمُونَكَ﴾. ﴿فِيهَا﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿حُكْمُ اللَّهِ﴾ مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب حال من التوراة، والعامل فيها ما في (عند) من معنى الفعل.
﴿ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف. ﴿يَتَوَلَّوْنَ﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَتَوَلَّوْنَ﴾، والجملة معطوفة على جملة
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾: ﴿السارق﴾: اسم فاعل من سرق يسرق من باب ضرب سرقًا بفتح الراء وسرقًا بكسرها، وسرقة بفتحها وسرقة بكسرها وسرقانًا، يقال: سرقه الشيء، وسرق منه الشيء، إذا أخذه منه خفية وبحيلة. وقال (١) الجوهري: السرقة بكسر الراء اسم الشيء المسروق، والمصدر من سرق يسرق سرقًا، وسرقة، وهو: أخذ الشيء في خفية عن الأعين، ومنه استرق السمع ومسارقة النظر. ﴿وَالسَّارِقُ﴾ اسم فاعل لمذكر يجمع على سرقة ككامل وكملة، وعلى سراق كعاذل وعذال، وعلى سارقون. ﴿وَالسَّارِقَةُ﴾: اسم فاعل لمؤنث يجمع على سوارق وسارقات. وقال ابن عرفة (٢): السارق عند العرب: من جاء مستترًا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له. ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾: يقال قطع الشيء يقطع، من باب فتح قطعًا ومقطعًا وتقطاعًا إذا جزه وأبانه وفصله، والقطع معناه: الإزالة والإبانة. والأيدي جمع يد برد اللام المحذوف في المفرد اعتباطًا؛ أي: لغير علة تصريفية، وجمعه هنا فرارًا من كراهة الجمع بين تثنيتين، لو قال فاقطعوا يديهما، واليد: الجارحة المعروفة، واختلفوا في محل قطعها كما بيناه في بحث التفسير.
﴿جَزَاءً﴾ مصدر معنوي لاقطعوا؛ فهو منصوب به؛ لملاقته له في المعنى، أو منصوب بمحذوف يلاقيه في اللفظ تقديره: فجازوهما جزاء ﴿نَكَالًا﴾ اسم مصدر لنكل من باب فعل المضاعف ينكل تنكيلًا ونكالًا، ككلم يكلم تكليمًا وكلامًا. وفي "المصباح": نكل به ينكل من باب قتل نكلة قبيحة إذا أصابه بنازلة،
(٢) البحر المحيط.
قال الشوكاني (١): الحزن والحزن: خلاف السرور، وحزن الرجل بالكسر فهو حزن وحزين، وأحزنه غيره وحزنه، قال اليزيدي: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم وقد قرئ بهما ﴿يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ يقال: سارع (٢) إلى الشيء إذا أسرع إليه من خارج ليصل إليه، وأسرع فيه إذا أسرع فيه وهو داخل فيه، وهنا كان الكفار داخلين في ظرف الكفر محيطًا بهم سرادقه، فالمفاعلة في سارع ليست على بابه، فهو بمعنى أسرع ﴿سَمَّاعُونَ﴾ جمع سماع من صيغ المبالغة على زنة فعال معدول عن سامعون وكذلك ﴿أَكَّالُونَ﴾ جمع أكال مبالغة آكل ﴿لِلسُّحْتِ﴾ السحت والسحت بسكون الحاء وضمها: الحرام وكل ما خبث من المكاسب وحرم، فلزم منه العار، وقبح الذكر، كثمن الكلب والخنزير والخمر والرشوة في الحكم، سمي بذلك لأنه يسحت البركة؛ أي: يذهبها، أو لأنه يسحت عمر صاجه، ويقال؛ سحته الله؛ أي: أهلكه، ويقال: أسحته إذا استأصله. وفي "المختار": وسحته من باب قطع وأسحته استأصله، وقرىء بهما في قوله تعالى: ﴿فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ﴾؛ أي: يستأصلكم ويهلككم، ومصدر الثلاثي سحت بفتحتين وسحت بإسكان الحاء. وقال الفراء: أصل السحت كلب الجوع، ويقال: فلان مسحوت المعدة إذا كان لا يلقى أحدًا إلا خائفًا، وهو راجع لمعنى الهلاك، ويقال للحالق اسحت؛ أي: استأصل، وسمى الحرام سحتًا لأنَّه يسحت الطاعات؛ أي: يذهبها ويستأصلها.
(٢) المراغي.
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
منها: العموم في قوله: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾؛ لأن أن فيهما موصولة فتعم؛ لأن المعنى: والذي سرق والتي سرقت.
ومنها: المجاز المرسل بإطلاق الكل وإرادة البعض في قوله: ﴿أَيْدِيَهُمَا﴾ لأنَّ المقطوع الكف لا كل اليد.
ومنها: وضع الجمع موضع المثنى؛ لأنَّ المقطوع يمينهما؛ لأنّه ليس في الإنسان إلا بيمين واحدة، وما هذا سبيله يجعل فيه الجمع مكان الاثنين كما في قوله تعالى: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾.
ومنها: الخطاب بلفظ الرسالة للتشريف والتفخيم في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾.
ومنها: إيثار كلمة ﴿فِي﴾ الدالة على الظرفية على كلمة ﴿إلى﴾ الأصلية في تعدية مادة سارع في قوله: ﴿يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ للإيماء إلى أنهم مستقرون في الكفر لا يفارقونه، وإنَّما ينتقلون بالمسارعة عن بعض فنونه إلى بعض آخر.
ومنها: التفصيل في قوله: ﴿مِنَ الَّذِينَ قَالُوا﴾، و ﴿وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾
ومنها: المبالغة في قوله: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾، و ﴿أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿سَمَّاعُونَ﴾، وفي قوله: ﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيَا﴾، و ﴿وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾ لزيادة التأكيد والتقرير.
ومنها: تنكير ﴿خِزْيٌ﴾ للتفخيم والتهويل.
ومنها: الطباق بين كلمتي ﴿الدُّنْيَا﴾ و ﴿الْآخِرَةِ﴾.
ومنها: الاستفهام التعجيبي في قوله: ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ﴾ لأنَّه تعجيب لرسول الله - ﷺ - من تحكيمهم إياه، وهم لا يؤمنون به وبكتابه.
ومنها: اللف والنشر المشوش في قوله: ﴿وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ﴾، وقوله: ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ﴾ فهما راجعان لقوله: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ على خلاف الترتيب السابق.
ومنها: الحذف في مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤٧) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر عجيب حال اليهود من تركهم حكم التوراة وهم يعلمونه، وطلبهم من النبي - ﷺ - الحكم بينهم ورضاهم به إذا وافق أهوائهم، وتركهم له إذا جاء على غير ما يريدون.. ذكر هنا أمر التوراة وأنها أنزلت هداية لبني إسرائيل، ثم أعرضوا عن العمل بها لما عرض لهم من الفساد،
﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أنَّه تعالى لما ذكر أنَّه بين في التوراة أن حكم الزاني المحصن الرجم، وغرته اليهود.. ذكر هنا أنَّه بين في التوراة أن النفس بالنفس وغيرته اليهود أيضًا، ففضلوا بني النضير علي بني قريظة، وخصوا إيجاب القود علي بني قريظة دون بني النضير.
قوله تعالى: ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (٢): أنَّه لما ذكر تعالى أنَّ التوراة يحكم بها النبيون.. ذكر هنا أنَّه قفاهم بعيسى ابن مريم تنبيهًا على أنَّه من جملة الأنبياء، وتنويهًا وتنزيهًا له عما تدعيه اليهود فيه، وأنَّه من جملة مصدقي التوراة.
قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (٣): أن الله سبحانه وتعالى لما بين إنزال التوراة ثم الإنجيل علي بني إسرائيل، وذكر ما أودعه فيهما من الهدى والنور، وما ألزمهم به من إقامتهما، وما أوعدهم به من العقاب على ترك الحكم بهما.. ذكر هنا إنزاله القرآن على خاتم الأنبياء محمَّد - ﷺ -، ومنزلته من الكتب قبله، وأنَّ الحكمة اقتضت تعدد الشرائع والمناهج لهداية البشر.
وعبارة أبي حيان (٤) قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنَّه أنزل التوراة فيها هدى ونور، ولم يذكر من أنزلها عليه لاشتراكهم كلهم في أنَّها أنزلت على موسى، فترك ذكره للعلم بذكر، ثم ذكر عيسى وأنَّه أتاه الإنجيل، فذكره ليقروا أنَّه من
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ...﴾ الآية، قال المفسرون (١): سبب نزول هذه الآية: استفتاء اليهود رسول الله - ﷺ - في أمر الزانيين وقد سبق.
قوله تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ...﴾ الآية، سبب نزولها (٢): أنَّ جماعة من اليهود - منهم كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس - قال بعضهم لبعض.. اذهبوا بنا إلى محمَّد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا: يا محمَّد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم، وأنا إن تبعناك اتبعك اليهود، وإنَّ بيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك، فتقفي لنا عليهم ونحن نؤمن بك، فأبى ذلك رسول الله - ﷺ -، ونزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.
وذكر مقاتل: أن جماعة من بني النضير قالوا له: هل لك أن تحكم لنا على أصحابنا أهل قريظة في أمر الدماء كما كنا عليه من قبل ونبايعك؟ فنزلت هذه الآية. قال القاضي أيو يعلى: وليست هذه الآية تكرارًا لما تقدم، وإنما نزلتا في شيئين مختلفين، أحدهما: في شأن الرجم، والآخر في التسوية في الديات حين تحاكموا إليه.
قوله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾ الآية، سبب نزولها (٣): أن النبي - ﷺ - لما حكم بالرجم على اليهوديين تعلق بنو قريظة ببني النضير وقالوا: يا محمَّد
(٢) زاد المسير.
(٣) زاد المسير.
قال الزجاج: ومعنى الآية: أتطلب اليهود حكمًا لم يأمر الله به وهم أهل كتاب الله كما تفعل الجاهلية؟
التفسير وأوجه القراءة
٤٤ - ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ﴾ على موسى عليه السلام ﴿فِيهَا هُدًى﴾؛ أي: بيان (١) للأحكام والشرائع والتكاليف ﴿وَنُورٌ﴾؛ أي: بيان للتوحيد والعقائد والنبوة والمعاد.
وعبارة المراغي هنا: أي إنَّا (٢) أنزلنا التوراة على موسى مشتملة على هدى وإرشاد للناس إلى الحق، وعلى نور وضياء يكشف به ما تشابه عليهم وأظلم، وبهذا الهدى خرج بنو إسرائيل من وثنية المصريين وضلالهم، وبذلك النور أبصروا طريق الاستقلال أمر دينهم ودنياهم ﴿يَحْكُمُ بِهَا﴾؛ أي: بالتوراة. ﴿النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا﴾؛ أي: انقاد، والحكم بالتوراة، فإن من الأنبياء من لم تكن شريعته شريعة التوراة، والذين كانوا منقادين لحكم التوراة هم الذين كانوا من مبعث موسى إلى عيسى عليهما السلام. وقيل: بينهما ألف نبي، وكلهم بعثوا بإقامة التوراة حتى يحدوا حدودها، ويقوموا بفرائضها، ويحلوا حلالها، ويحرموا حرامها ﴿لِلَّذِينَ هَادُوا﴾ متعلق بيحكم؛ أي: يحكمون بها فيما بين اليهود؛ أي: يحكمون لهم وعليهم وبهم.
(٢) المراغي.
وقال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي (٢): يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو سيدنا محمَّد - ﷺ - لأنَّه حكم على اليهوديين بالرجم، وكان هذا حكم التوراة، وإنَّما ذكر بلفظ الجمع تعظيمًا له، ولأنَّه قد اجتمع فيه من خصال الخير ما كان حاصلًا لأكثر الأنبياء.
وقال ابن الأنباري: هذا رد على اليهود والنصارى؛ لأنَّ بعضهم كانوا يقولون الأنبياء كلهم يهود أو نصارى، فرد الله عليهم بذلك؛ أي: فإنَّ الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانية بل كانوا مسلمين؛ أي: منقادين لتكاليف الله تعالى، وفي ذلك تنبيه على قبح طريقة هؤلاء اليهود المتأخرين، فإن غرضهم من ادعاء الحكم بالتوراة أخذ الرشوة، واستتباع العوام، وتعريض بهم بأنهم بعدوا عن الإِسلام الذي هو دين الأنبياء عليهم السلام.
وقال ابن عباس: ﴿لِلَّذِينَ هَادُوا﴾؛ أي: تابوا من الكفر ورجعوا عن عبادة العجل، وقال الزجاج (٣): ويحتمل أن يكون في الآية تقديم وتأخير على معنى: إنَّا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا ﴿وَالرَّبَّانِيُّونَ﴾؛ أي: ويحكم بأحكام التوراة الربانيون؛ أي: العلماء المجتهدون الذين انسلخوا من الدنيا، وزهدوا فيها، واشتغلوا بتربية الناس بالدين والعلم ﴿وَالْأَحْبَارُ﴾؛ أي: ويحكم بها الأحبار؛ أي: العلماء الذين حبروا وستروا الجهل والضلال بعلمهم وصلاحهم، والتزموا طريقة النبيين، وجانبوا دين اليهود، فالمراد بالربانيين الزهاد، وبالأحبار العلماء. وعن ابن عباس: الربانيون الذين يسوسون الناس بالعلم ويربونهم بصغاره قبل كباره، والأحبار هم الفقهاء وسائر علمائهم
(٢) المراح.
(٣) زاد المسير.
وقال ابن الجوزي (٢): وهل بين الربانيين والأحبار سرق أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: لا فرق، والكل علماء هذا قول الأكثرين، منهم ابن قتيبة والزجاج.
والثاني: قد روي عن مجاهد أنَّه قال: الربانيون الفقهاء العلماء، وهم فوق الأحبار، وقال السدي: الربانيون العلماء والأحبار القراء. وقال ابن زيد: الربانيون الولاة والأحبار العلماء. وقيل: الربانيون علماء النصارى، والأحبار علماء اليهود.
وقال الشوكاني: قوله: ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ﴾: (الباء): سببية (٣) ﴿اسْتُحْفِظُوا﴾: أمروا بالحفظ؛ أي: أمرهم الأنبياء بحفظ التوراة عن التغيير والتبديل، والجار والمجرور متعلق بيحكم؛ أي: يحكمون بها بسبب هذا
(٢) زاد المسير.
(٣) فتح القدير.
وعبارة المراغي: ﴿وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾؛ أي: وكان السلف الصالح منهم رقباء على الكتاب وعلى من تحدثه نفسه العبث به كما فعل عبد الله بن سلام في مسألة الرجم، لا كما فعل الخلف من كتمان بعض أحكامه اتباعًا للهوى، أو خوفًا من أشرافهم إن أقاموا عليهم حدوده، وطمعًا في صلاتهم إذا هم حابوهم، ومما كتموه صفة النبي - ﷺ - والبشارة به، ثم خاطب الله تعالى رؤساء اليهود الذين كانوا زمن التنزيل لا يخافون الله في الكتمان والتبديل بعد أن قص سيرة السلف الصالح من بني إسرائيل لعلهم يعتبرون ويرعوون عن غيهم فقال: ﴿فَلَا تَخْشَوُا﴾ يا رؤساء اليهود. ﴿النَّاسَ﴾؛ أي: ملوككم وأشرافكم في الحكم عليهم بكتابي ﴿وَاخْشَوْنِ﴾؛ أي: وخافوا عقابي في كتمان كتابي؛ أي: إياكم وأن تحرفوا كتابي أيها اليهود للخوف من الناس والملوك والأشراف فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم، وتستخرجوا الحيل في سقوط تكاليف الله تعالى عنهم، فلا تكونوا خائفين من الناس بل كونوا خائفين مني ومن عقابي في كتمان الأحكام ونعوت محمد - ﷺ -. والمعنى: وإذا كان حال أسلافكم وسيرتهم كما ذكر أيها اليهود المعاصرون لمحمد - ﷺ - ولا شك أنكم لا تنكرونه كما تنكرون غيره مما قصه الله على رسوله - ﷺ -.. فلا تخشوا الناس فتكتموا ما عندكم من الكتاب خشية أحد أو طمعًا في منفعة عاجلة منه، واخشوني واقتدوا بمن كان قبلكم من الربانيين والأحبار، واحفظوا التوراة ولا تعدلوا عن ذلك، فإن النفع والضر بيدي.
﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي﴾؛ أي: ولا تستبدلوا بآياتي التي في التوراة ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾؛ أي: عوضًا يسيرًا من الدنيا؛ أي: لا تأخذوا بكتمانها عرضًا قليلًا من الدنيا؛ أي: كما نهيتكم عن تغيير أحكامي لأجل الخوف من الناس.. فكذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع في المال والجاه، وأخذ الرشوة، فإن كل متاع الدنيا قليل، وما عند الله خير وأبقى.
﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾؛ أي: وكل من رغب عن الحكم بما أنزل الله وأخفاه، وحكم بغيره، كحكم اليهود في الزانيين المحصنين بالتحميم، وكتمانهم الرجم وقضائهم في بعض قتلاهم بدية كاملة، وفي بعضهم بنصف الدية، والله قد سوى بين الجميع في الحكم ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ الذين ستروا الحق الذي كان عليهم كشفه وتبينه، وغطوه وأظهروا لهم غيره، وقضوا به. وعبارة، "المراح" هنا: قال ابن عباس: ومن لم يبين ما بين الله تعالى في التوراة من نعت محمَّد، وآية الرجم.. فأولئك هم الكافرون بالله والرسول والكتاب. وقال عكرمة: أي: ومن لم يحكم بما أنزل الله، منكرًا له بقلبه، وجاحدًا له بلسانه.. فقد كفر. أمَّا من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه ذلك إلا أنَّه حكم بضده.. فهو ظالم فاسق لتركه حكم الله تعالى. انتهت. وخلاصة المعنى: ومن لم يحكم بما أنزل الله مستهينًا به منكرًا له.. كان كافرًا لجحوده به، واستخفافه بأمره، وإنما ذكر (١) الكفر هنا لأنَّه يناسب المقام؛ لأنَّه جاء عقب قوله: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ وهذا كفر، فناسب ذكر الكفر هنا، والإشارة بقوله ﴿أُولَئِكَ﴾ إلى من، والجمع باعتبار معناها، وكذلك ضمير الجماعة في قوله: ﴿هُمُ الْكَافِرُونَ﴾.
فصل
واختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآيات الثلاث فيه (٢)، وهي قوله: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾. فقال
(٢) الخازن.
وعن ابن عباس قال: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ إلى قوله: ﴿الْفَاسِقُونَ﴾ هذه الآيات الثلاث في اليهود خاصةً قريظة والنضير، أخرجه أبو داود. وقال مجاهد في هذه الآيات الثلاث: من ترك الحكم بما أنزل الله ردًّا لكتاب الله.. فهو كافر ظالم فاسق. وقال عكرمة: ومن لم يحكم بما أنزل الله، جاحدًا به.. فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم به.. فهو ظالم فاسق. وهذا قول ابن عباس أيضًا، واختيار الزجاج لأنَّه قال: من زعم أن حكمًا من أحكام الله تعالى التي أتت بها الأنبياء باطل.. فهو كافر. وقال طاووس: قلت لابن عباس أكافر من لم يحكم بما أنزل الله؟ فقال: به كفر وليس بكفر، ينقل عن الملة كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ونحو هذا روي عن عطاء قال: هو كفر دون الكفر. وقال ابن مسعود والحسن والنخعي: هذه الآيات الثلاث عامة في اليهود، وفي هذه الأمة، فكل من ارتشى وبدل الحكم، فحكم بغير حكم الله تعالى.. فقد كفر وظلم وفسق، وإليه ذهب السدي؛ لأنه ظاهر الخطاب. وقيل: هذا فيمن علم نص حكم الله ثم رده عيانًا محمدًا وحكم بغيره، وأما من خفي عليه النص، أو أخطأ في التأويل.. فلا يدخل في هذا الوعيد. وقال الرازي نقلًا عن عكرمة: إنَّ الحكم بالكفر على من حكم بغير ما أنزل الله إنَّما يكون فيمن أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أمَّا من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه كونه حكم الله إلا أنّه أتى بما يضاده.. فهو حاكم بما أنزل الله ولكنَّه تارك له، فلا يدخل تحت هذه الآية. وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال: الثلاث الآيات التي في المائدة: ﴿مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ إلخ، ليس في الإِسلام منها شيء، هي من الكفار. وعن الشعبي أنَّه قال: الثلاث الآيات التي في
٤٥ - ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا﴾؛ أي: فرضنا علي بني إسرائيل في التوراة ﴿أَنَّ النَّفْسَ﴾ الجانية مقتولة ﴿بِالنَّفْسِ﴾ المجني عليها فمدخول الباء هو المجنيّ عليه في هذا وما عطف عليه ﴿وَالْعَيْنَ﴾ مفقوءة ﴿بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ﴾ مجدوعة ﴿بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ﴾ مقطوعة ﴿بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ﴾ مقلوعة ﴿بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ﴾ والمراد بها ما يشمل الأطراف ﴿قِصَاصٌ﴾؛ أي: ذات قصاص إذا كانت بحيث تعرف المساواة؛ أي: يقتص فيها إذا أمكن فيها القصاص كالشفتين والأنثيين واليدين والقدمين واللسان والذكر ونحو ذلك. أمَّا ما لا يمكن فيه القصاص، كرض في لحم أو كسر في عظم، أو جراحة في بطن يخاف منها التلف.. ففيه أرش وحكومة. والحكومة (١): جزء من دية النفس نسبته إليها كنسبة ما نقص من قيمة المجني عليه بفرضه رقيقًا، فلو كانت قيمته بلا جناية عشرة وبها تسعة.. فالحكومة عشر الدية، وهذا الحكم وإن كتب عليهم فهو مقرر في شرعنا.
وفي هذه الآية توبيخ لليهود، وتقريع لكونهم يخالفون ما كتبه الله عليهم في التوراة كما حكاه هنا، ويفاضلون بين الأنفس كما سبق، وقد كانوا يقيدون بني النضير من بني قريظة، ولا يقيدون بني قريظة من بني النضير.
وظاهر النظم القرآني (٢): أن العين إذا فقئت حتى لم يبق فيها مجال للإدراك.. أنَّها تفقأ عين الجاني بها، والأنف إذا جدعت جميعها.. فإنّها تجدع أنف الجاني بها، والأذن إذا قطعت جميعها.. فإنها تقطع أذن الجاني بها، وكذلك السنن. فأمَّا إذا كانت الجناية ذهبت ببعض إدراك العين، أو ببعض الأنف، أو يبعض الأذن.. فليس في هذه الآية ما يدل على ثبوت القصاص، وقد اختلف في ذلك إذا كان معلوم القدر يمكن الوقوف على حقيقته، وكلامهم مدوّن في كتب الفروع.
(٢) الشوكاني.
﴿فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ﴾؛ أي: فمن تصدق بما يثبت له من حق القصاص، وعفا عن الجاني، ﴿فَهُوَ﴾؛ أي: فهذا التصدق ﴿كَفَّارَةٌ لَهُ﴾؛ أي: لذلك المتصدق يكفر الله به ذنوبه، ويعفو عنه كما عما عن أخيه بقدر ما تقتضيه الموازنة كسائر طاعاته، وفي هاء ﴿له﴾ (٢) قولان: أحدهما: أن الهاء في ﴿له﴾ كناية عن المجروح أو وليّ المقتول، وذلك أن المجروح إذا تصدق بالقصاص.. كان ذلك كفارة لذنوبه، وهذا قول ابن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص والحسن، يدل له ما روى عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله - ﷺ -. يقول: "ما من رجل
(٢) الخازن.
قال ابن القيم: والتحقيق أن القاتل يتعلق به ثلاثة حقوق: حق لله تعالى، وحق للمقتول، وحق للولي، فإذا سلم القاتل نفسه طوعًا واختيارًا إلى الولي ندمًا على ما فعل، وخوفًا من الله تعالى، وتوبة نصوحًا.. سقط حق الله تعالى بالتوبة، وحق الأولياء بالاستيفاء أو الصلح أو العفو، وبقي حق للمقتول يعوضه الله عنه يوم القيامة عن عبده، ويصلح بينه وبينه انتهى.
ولو سلم القاتل نفسه اختيارًا من غير ندم وتوبة، أو لم يمكن من نفسه بل قتل كرهًا.. سقط حق الوارث فقط، وبقي حق الله تعالى؛ لأنه لا يسقط إلا بالتوبة، وبقي أيضًا حق المقتول، ويطالبه به في الآخرة لأن القاتل لم يسلم نفسه تائبًا، ولم يصل منه للمقتول شيء. ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ تعالى في القصاص، وفي غيره، نزلت (١) هذه الآية حين اصطلحوا على أنْ لا يقتل الشريف بالوضيع ولا الرجل بالمرأة ﴿فَأُولَئِكَ﴾ الممتنعون عن حكم الله ﴿هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ لأنفسهم، حيث لم يحكموا بما أنزل الله تعالى، الضارون لها بالعقوبة المؤبدة؛ أي: إن (٢) كل من أعرض عما أنزل من القصاص المبني على قاعدة المساواة بين الناس، وحكم بغيره.. فهو من الظالمين، إذ العدول عن ذلك لا يكون إلا بتفضيل أحد الخصمين على الآخر، وغمص حق المفضل عليه وظلمه.
(٢) المراغي.
٤٦ - قوله: ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ شروع (٢) في بيان أحكام الإنجيل إثر بيان أحكام التوراة، وهو عطف على أنزلنا التوراة في قوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ﴾؛ أي: وأتبعنا على آثار النبييين الذين يحكمون بالتوراة وبعثنا عقبهم بعيسى ابن مريم حالة كون عيسى ﴿مُصَدِّقًا﴾ وموافقًا بقوله وفعله ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾؛ أي: لما قبل عيسى مما أتى به موسى ﴿مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ في التوحيد وبعض الشرائع، ومعنى كون عيسى مصدقًا للتوراة أنه أقرّ بأنه كتاب منزل من عند الله تعالى، وأقر بأنه كان حقًّا، وجب العمل به قبل ورود النسخ والمعنى؛ أي: (٣) وبعثنا عيسى بن مريم بعد هؤلاء النبيين الذين كانوا يحكمون بالتوراة متبعًا طريقهم، جاريًا على هديهم، مصدقًا للتوراة التي تقدمته بقوله وعمله، فشريعة عيسى عليه السلام هي التوراة، وقد نقلوا عنه في أناجيلهم أنه قال: "ما جئت لأنقض الناموس" شريعة التوراة "وإنَّما جئت لأتمم"، أي: لأزيد عليها ما شاء الله أن أزيد من الأحكام والمواعظ، ولكن النصارى نسخوها وترهوا العمل بها إتباعًا لبولس - رئيسهم - وقوله: ﴿وَآتَيْنَاهُ﴾؛ أي: أعطينا عيسى ﴿الْإِنْجِيلَ﴾ بكسر الهمزة وقرىء شاذًا بفتحها معطوف على قفينا وقوله: ﴿فِيهِ هُدًى وَنُورٌ﴾ حال من الإنجيل؛ أي: وأعطيناه الإنجيل حالة كون الإنجيل مشتملًا على الهدى، ومنقذًا من الجهالة والضلالة، لاشتماله على الدلائل الدالة على التوحيد، والتنزيه المنافي للوثنية التي هي مصدر الخرافات والأباطيل، وعلى براءة الله تعالى عن الزوجة والولد والمثل والضد، وعلى النبوة، وعلى المعاد، ومشتملًا على النور والبيان الذي يبصر به طالب الحق طريقه الموصل إليه؛ لأنه بيان للأحكام الشرعية، ولتفاصيل التكاليف.
(٢) أبو السعود.
(٣) المراغي.
والمعنى: أي حال كونه موافقًا لما في التوراة من أصول الدين، ومن بعض الشرائع، أو معترفًا بأنها من عند الله وإن نسخت أحكامها؛ لأن الله سبحانه وتعالى كلف أمة كل عصر بأحكام تناسبها، فالنسخ في الأحكام الفرعية لا الأصول كالتوحيد فلا نسخ فيه، بل ما كان عليه آدم من التوحيد هو ما عليه باقي الأنبياء ﴿وَ﴾ حالة كون الإنجيل ﴿هُدًى﴾ للناس؛ أي: سبب أهتداء لهم لاشتماله على البشارة بمبعث محمَّد - ﷺ -، فهو سبب لاهتداء الناس إلى نبوة محمَّد - ﷺ -، فهذه المسألة أشد المسائل احتياجًا إلى البيان، فالإنجيل يدل دلالة ظاهرة عليها لكثرة المنازعة بين المسلمين واليهود والنصارى في ذلك، فظهر مما ذكرنا لك الفرق بين هدى وهدى مرتين ﴿و﴾ حالة كون الإنجيل ﴿وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾؛ أي؛ واعظًا لهم لاشتماله على النصائح والزواجر والمواعيظ البليغة، والأمثال والحكم النافعة، وإنَّما خص الموعظة بالمتقين؛ لأنهم الذين ينتفعون بها. والحكمة (١) في زيادة الموعظة في الإنجيل دون التوراة لأن التوراة كان فيها الأحكام الشرعية فقط، وإنما المواعظ كانت في الألواح وقد تكسرت، وأما الإنجيل فهو مشتمل على الأحكام والمواعظ جميعًا.
وقرأ الضحاك: ﴿وهدى وموعظة للمتقين﴾ بالرفع، أي: وهو هدى وموعظة.
٤٧ - وقرأ الجمهور بالنصب كما تقدم تقريره ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ﴾ قرأ الجمهور بالأم الأمر ساكنة، وجزم الفعل بعدها، وبالواو حينئذ عاطفة، والجملة مقول لقول
قال أهل المعاني (٤): قوله: ﴿وَلْيَحْكُمْ﴾ يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون المعنى: وقلنا ليحكم أهل الإنجيل، فيكون هذا إخبارًا عما فرض عليهم في وقت إنزاله عليهم من الحكم بما تضمنه الإنجيل، ثم حذف القول؛ لأن ما قبله من قوله: (وكتبنا) (وقفينا) يدل عليه، وحذف القول كثير.
والوجه الثاني: أن يكون قوله (ليحكم) ابتداءً واستئنافًا، وفيه أمر للنصارى بالحكم بما في كتابهم وهو الإنجيل.
فإن قلت: فعلى هذا الوجه كيف جاز أن يؤمروا بالحكم بما في الإنجيل بعد نزول القرآن.
(٢) البحر المحيط.
(٣) بيضاوي.
(٤) الخازن.
وعبارة المراغي: ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ﴾؛ أي: (١) وقلنا لهم: ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه من الأحكام، والمراد: وأمرناهم بالعمل به، فهو كقوله في أهل التوراة ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا﴾، وخلاصة ذلك زجرهم عن تحريف ما في الإنجيل وتغييره، مثل ما فعل اليهود من إخفاء أحكام التوراة ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ في الكتب المنزلة من عنده تعالى ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾؛ أي: المتمردون الخارجون عن الإيمان إنْ كان مستهينًا، وعن طاعة الله إنْ كان لاتباع الشهوات. والآية تدل على أن الإنجيل مشتمل على أحكام، وأن عيسى عليه السلام كان مستقلًا بشرع مأمورًا بالعمل بما فيه من الأحكام، قلت أو كثرت، لا بما في التوراة خاصة، ويشهد لذلك حديث البخاري "أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها، وأهل الإنجيل الإنجيل فعملوا... " الحديث. وناسب (٢) هنا ذكر الفسق؛ لأنه خروج عن أمر الله تعالى إذ تقدم قوله: ﴿وَلْيَحْكُمْ﴾ وهو أمركما قال تعالى: ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾؛ أي: خرج عن طاعة أمره تعالى، فقد اتضح مناسبة ختم الجملة الأولى بالكافرين، والثانية بالظالمين، والثالثة بالفاسقين.
٤٨ - وفي الحقيقة (٣): الفسق يرجع للظلم؛ لأنّه مخالفة الأمر، فتعبيره بالظلم أولًا، وبالفسق ثانيًا، تفنن. قوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ معطوف على قوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ﴾ وما عطف عليه؛ أي: وأنزلنا إليك يا محمَّد الكتاب؛ أي: القرآن حالة كونه متلبسًا ﴿بِالْحَقِّ﴾ والصدق والعدل، فالجار والمجرور في محل الحال من الكتاب، أو من فاعل أنزلنا، أو من الكاف في إليك، وحالة كونك ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾؛ أي: لما تقدمه ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾؛ أي: من (٤) الكتب المتقدمة المتضمنة ذكره ومدحه، وأنه سينزل من عند الله تعالى على عبده ورسوله
(٢) البحر المحيط.
(٣) صاوي.
(٤) ابن كثير.
وقرأ ابن محيصن ومجاهد (٢): ﴿وَمُهَيْمِنًا﴾ بفتح الميم الثانية على صيغة اسم المفعول؛ أي: مؤتمنًا ومحفوظًا عليه، فإنه يصان من التحريف والتبديل، والحافظ هو الله تعالى، ففي قراءة اسم الفاعل الضمير في عليه، عائد على الكتاب الثاني وفي قراءة اسم المفعول، عائد على الكتاب الأول، وفي كلا الحالين هو حال من الكتاب
(٢) البحر المحيط.
﴿فَاحْكُمْ﴾ يا محمَّد ﴿بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: بين جميع أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك ﴿بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: بالقرآن والرجم الذي أنزل الله تعالى إليك لاشتماله على جميع ما شرعه الله لعباده في جميع الكتب السابقة عليه ﴿وَلَا تَتَّبِعْ﴾ يا محمد ﴿أَهْوَاءَهُمْ﴾؛ أي: أهواء أهل الكتاب وشهواتهم التي هي الجلد والتحميم في الزاني المحصن، التي طلبوها منك حالة كونك معرضًا ومنحرفًا ﴿عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾ الذي هو الرجم في المحصن، وفيه (١) النهي له - ﷺ - أن يتبع أهوية أهل الكتاب ويعدل عن الحق الذي أنزله الله عليه، فإن أهل كل ملة من أهل الملل يهوون أن يكون الأمر على ما هم عليه وما أدركوا عليه سلفهم، وإن كان باطلًا منسوخًا أو محرفًا عن الحكم الذي أنزله الله على الأنبياء، كما وقع في الرجم ونحوه مما حرفوه من كتب الله تعالى.
والفاء في قوله: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ﴾ فاء الفصيحة، والمعنى: وإذا (٢) كان هذا شأن القرآن ومنزلته مما قبله من الكتب الإلهية وهو أنه رقيب وشهيد.. فاحكم بين أهل الكتاب بما أتزل الله إليك فيه من الأحكام دون ما أنزله إليهم، إذ شريعتك ناسخة لشريعتهم ﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾؛ أي: ولا تتبع ما يريدون، وهو الحكم بما يسهل عليهم، ويخفُّ احتماله، مائلًا بذلك عما جاءك من الحق الذي لا شك فيه ولا ريب ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ فاللام متعلقة بجعلنا، ومنكم صفة لكل، ولا يضر الفصل بينهما بالعامل، والمعنى: لكل أمة كائنة منكم يا أيها الأمم الثلاثة، أمة موسى، وأمة عيسى، وأمة محمَّد، جعلنا؛ أي: عينًا ووضعنا شرعة ومنهاجًا خاصين بتلك الأمة لا تكاد أمة تخطىء شرعتها التي عينت لها، فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى شرعتهم التوراة، والتي كانت من مبعث عيسى إلى مبعث محمَّد - ﷺ - شرعتهم الإنجيل، وأما أنتم أيها الموجودون في عصر محمَّد - ﷺ - من سائر
(٢) المراغي.
فائدة: قال العلماء (١): وردت آيات دالة على عدم التباين بين طرق الأنبياء، منها قوله: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا﴾ إلى قوله: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ ومنها قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ ووردت آيات دالة على حصول التباين بينها، منها هذه الآية وهي قوله: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ وطريق الجمع بين هذه الآيات: أن كل آية دلت على عدم التباين، فهي محمولة على أصول الدين من الإيمان باللهِ، وملائكه، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فكل ذلك جاءت به الرسل من عند الله، فلم يختلفوا فيه، وأما الآيات الدالة على حصول التباين بينها.. فمحمولة على الفروع وما يتعلق بظواهر العبادات، فجائز أن يتعبد الله عباده في كل وقت بما شاء، فهذا هو طريق الجمع بين الآيات، والله أعلم بأسرار كتابه.
والخلاصة: أنَّ الشريعة اسم للأحكام العملية وأنَّها أخص من كلمة الدين، وتدخل في مسمى الدين من جهة أن العامل بها يدين لله تعالى بعمله، ويخضع له ويتوجه إليه مبتغيًا مرضاته وثوابه بإذنه. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى أن يجعلكم أمة واحدة ذات شريعة واحدة، ورسول واحد، وكتاب واحد، ومنهاج واحد، تسيرون عليه، وتعملون به بأنَّه يخلقكم على استعداد واحد، وأخلاق واحدة، وطور واحد، في معيشتكم، فتصلح لكم شريعة واحدة في كل الأزمان فتكونون كسائر أنواع المخلوقات التي يقف استعدادها عند مستوى معين، كالطير أو كالنحل.. ﴿لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾؛ أي: جماعة متفقة على شريعة واحدة في جميع الأعصار، من غير اختلاف ولا نسخ ولا تحويل؛ أي: لفعل ذلك، إذ هو داخل تحت قدرته لا يستعصي عليه ﴿ولكن﴾ لم يشأ الله أن يجعلكم أمة واحدة، بل شاء الله أن يجعلكم أمة مختلفة في الشرائع ﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ ويختبركم ﴿فِي مَا آتَاكُمْ﴾ وأعطاكم من الشرائع المختلفة المناسبة للأزمنة والجماعة، هل تعملون بها منقادين لله تعالى، معتقدين أنَّ اختلافها مبني على الحكم اللطيفة والمصالح النافعة لكم، أم تتبعون الهوى وتقصرون في العمل؟
ومعنى ﴿فِي مَا آتَاكُمْ﴾؛ أي: فيما (٢) أنزله عليكم من الشرائع المختلفة باختلاف الأوقات والأزمان والرسل، هل تعملون بذلك وتذعنون له، أو تتركونه وتخالفون ما اقتضته مشيئة الله وحكمته، وتميلون إلى الهوى وتشترون الضلالة بالهدى؟ وفيه دليل على أن اختلاف الشرائع هو لهذه العلة، أعني الابتلاء
(٢) الشوكاني.
ثم بين أنَّ الشرائع إنَّما وضعت للاستباق إلى الخير، لتجازى كل نفس بما عملت، فقال: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ فالخطاب فيه لأمة محمد - ﷺ -؛ أي: إذا كانت المشيئة قد قضت باختلاف الشرائع لابتلائكم.. فبادروا يا أمة محمد بالأعمال الصالحات التي تقربكم إلى الله زلفى، وسارعوا إلى ما هو خير لكم في دينكم ودنياكم، انتهازًا للفرصة وإحرازًا للفضل والسبق ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١)﴾ وإنكم ﴿إِلَى اللهِ﴾ دون غيره ﴿جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ﴾؛ أي: ترجعون إليه كلكم في الحياة الثانية ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ﴾؛ أي: يخبركم عند الحساب ﴿بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾؛ أي: بحقيقة ما كنتم تختلفون فيه في الدنيا وفي أمور الدين، ويجازي المحسن على قدر إحسانه، والمسيء بإسائته، فاجعلوا الشرائع سببًا للتنافس في الخيرات، لا لإقامة الشحناء والعداوة بين الأجناس والعصبيات، والأثرة والتقدم بالوطن والجنسيات، لا بالعلم والتقوى والفضائل الدينيات. وهذه الجملة كالعلة لما قبلها.
٤٩ - قوله: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ معطوف على الكتاب؛ أي: وأنزلنا عليك الكتاب والحكم بما فيه، وقد استدل بهذا على نسخ التخيير المتقدم في قوله: ﴿أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾؛ أي: إنا أنزلنا إليك الكتاب فيه حكم الله وأنزلنا إليك فيه ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليك ﴿بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ من القصاص ﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾؛ أي: شهواتهم بالاستماع لهم، وقبول كلامهم، ولو لمصلحة في ذلك، كتأليف قلوبهم وجذبهم إلى الإِسلام، فالحق لا يوصل إليه بطريق الباطل، أي: ولا تتبع أهوائهم في عدم قتل الشريف بالوضيع وعدم قتل الرجل بالمرأة. قال العلماء (١): ليس في هذه الآية تكرار لما تقدم، وإنَّما أنزلت في حكمين مختلفين: أمَّا الآية الأولى: فنزلت في رجم المحصن، وأن اليهود طلبوا منه أن يجلده، وهذه الآية نزلت في شأن الدماء والديات حين
أخرج ابن جرير والبيهقي عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس من اليهود: اذهب وابنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه، فقالوا: يا محمد إنك عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وأنا إن اتبعناك.. اتبعنا يهود ولم يخالفونا، وأنَّ بيننا وبين قومنا خصومة فنخاصمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدقك، فأبى ذلك وأنزل الله عزّ وجل فيهم: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ إلى قوله: ﴿لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ كما مرّ ذلك في أسباب النزول، يريد أن الحكمة في إنزال هذه الآية: إقرار النبي - ﷺ - على ما فعل، والأمر بالثبات على ما سار عليه من التزام حكم الله، وعدم الانخداع لليهود.
فقوله: ﴿أَنْ يَفْتِنُوكَ﴾ بدل اشتمال من المفعول؛ أي: واحذرهم فتنتهم، أو مضاف إليه لمفعول من أجله محذوف؛ أي: احذرهم مخافة أنْ يفتنوك؛ أي: يصرفوك عن الحق، ويلقوك في الباطل كما سيأتي في بحث الإعراب ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾؛ أي: فإن أعرضوا عن حكمك بما أنزل الله بعد تحاكمهم إليك وأرادوا غيره ﴿فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ﴾؛ أي: فاعلم يا محمد ما سبب ذاك إلا لأن الله يريد ﴿أَنْ يُصِيبَهُمْ﴾ ويعذبهم في الحياة الدنما قبل الآخرة ﴿بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ وهو ذنب التولي والإعراض عما جئت به؛ لأنَّ استثقالهم لأحكام التوراة وتحاكمهم إليك لعلك تتبع أهوائهم، ومحاولتهم لفتنتك عن بعض ما أنزل الله إليك، كل هذه أمارات على فساد الأخلاق وانحلال روابط الاجتماع، ولا بد أن تكون نتيجتها وقوع العذاب بهم، وقد حل بيهود المدينة وما حولها بغدرهم ما حل، فقد أجلى النبي - ﷺ - بني النضير عنها وقتل بني قريظة.
وإنَّما خص بعض الذنوب؛ لأن الله جازاهم في الدنيا على بعض ذنوبهم
٥٠ - والاستفهام في قوله: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾ للإنكار والتوبيخ، والفاء للعطف على مقدر كما في نظائره، أي: أيعرضون عن حكمك بما أنزل الله عليك، ويتولون عنه فيبغون عنك حكم الجاهلية المبني على التحيز والهوى لجانب دون آخر، وترجيح القوي على الضعيف؟ والمعنى: لا يبغون حكم الجاهلية منك على سبيل الظفر به لعصمتك. روي: أن بني النضير تحاكموا إلى الرسول - ﷺ - في خصومة كانت بينهم وبين بني قريظة، وطلب بعضهم من النبي - ﷺ - أن يحكم بينهم بما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل وجعل دية القرظي ضعفي دية النضيري لمكان القوة والضعف، فقال - ﷺ -: "القتلى بواء" سواء، فقال بنو قريظة: لا نرضى ذلك، فنزلت الآية.
وخلاصة ذلك: توبيخهم، والتعجيب من حالهم بأنهم أهل كتاب وعلم، ومع ذلك كانوا يبغون حكم الجاهلية الذي يجيء به محض الجهل وصريح الهوى. وقرأ الجمهور (١) ﴿أفحكم﴾ بنصب الميم، وهو مفعول يبغون. وقرأ السلمي وابن وثاب وأبو رجاء والأعرج: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ برفع الميم على الابتداء، والظاهر أن الخبر هو قوله: ﴿يبغون﴾ وحسن حذف الضمير قليلًا في هذه القراءة كون الجملة فاصلة. وقرأ قتادة: ﴿أبحكم الجاهلية﴾ بالباء الجارة بدل الفاء، وقرأ قتادة والأعمش أيضًا: ﴿أفحكم﴾ بفتح الحاء والكاف والميم، وهو جنس لا يراد به واحد، كأنه قيل: أحكام الجاهلية يبغون؛ أي: أفيطلبون حاكمًا كحكام الجاهلية، وهي: إما الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى الموجبة للمداهنة في الأحكام، وإما أهل الجاهلية، وهي إشارة إلى الكهان الذين كانوا
والخلاصة: أن مما ينبغي التعجب منه من أحوالهم، أنَّهم يطلبون حكم الجاهلية الجائر ويؤثرونه على حكم الله العادل، وفي الأول: تفضيل القوي على الضعيف واستذلاله واستئصال شأفته، وفي الثاني: العدل الذي يستقيم به أمر الخلق وبه ينتشر الأمن والرضا والطمأنينة بين الناس، ويشعر كل منهم بالهدوء وراحة الضمير، واللام في (٢) قوله: ﴿لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ للبيان كما في قوله تعالى: ﴿هَيتَ لَكَ﴾ وقولهم: سقيًا لك، فيتعلق بمحذوف تقديره؛ أي: هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون، فإنهم هم الذين يتدبرون الأمور، ويتحققون الأشياء بأنظارهم، فيعلمون أنْ لا أحسن حكمًا من الله تعالى، وقيل: بمعنى عند كما أشرنا إليه في الحل.
الإعراب
{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا
(٢) البيضاوي.
﴿إِنَّا﴾: (إن): حرف نصب. و (نا) ضمير المتكلمين في محل النصب اسمها. ﴿أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر (إنَّ) وجملة (إنَّ) مستأنفة. ﴿فِيهَا﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿هُدًى﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿وَنُورٌ﴾: معطوف عليه، والجملة الإسمية في محل النصب حال من ﴿التَّوْرَاةَ﴾. ﴿يَحْكُمُ﴾: فعل مضارع. ﴿بِهَا﴾: متعلق به. ﴿النَّبِيُّونَ﴾: فاعل، والجملة في محل النصب حال من الضمير المجرور في ﴿فِيهَا﴾: أو مستأنفة (١) مبينة لرفعة رتبتها وسمو طبقتها، وقد جوز كونها حالًا من ﴿التَّوْرَاةَ﴾ فتكون حالًا مقدرة. ﴿الَّذِينَ﴾ صفة لـ ﴿النَّبِيُّونَ﴾. ﴿أَسْلَمُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿الَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يحكم﴾. ﴿هَادُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ﴾: معطوفان على ﴿النَّبِيُّونَ﴾. ﴿بِمَا﴾: (الباء): حرف جر. (ما): اسم موصول في محل الجر بالباء، الجار (٢) والمجرور بدل من الجار والمجرور في قوله: ﴿يَحْكُمُ بِهَا﴾: وقد أعاد الجار لطول الكلام، وهو جائز أيضًا، وإن لم يطل، وقيل: متعلق بفعل محذوف عامل في ﴿وَالرَّبَّانِيُّونَ﴾ تقديره: يحكم الربانيون والأحبار بما استحفظوا، وقيل: الجار والمجرور في محل النصب مفعول به لـ ﴿يَحْكُمُ﴾ تقديره: يحكمون بسبب استحفاظهم ذلك. ﴿اسْتُحْفِظُوا﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة صلة ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: بما استحفظوه. ﴿مِنْ كِتَابِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من الضمير المحذوف أو من (ما). ﴿وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾: (الواو): عاطفة، ﴿وَكَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿عَلَيْهِ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿شُهَدَاءَ﴾. ﴿شُهَدَاءَ﴾: خبر كانوا، وجملة ﴿كانوا﴾: معطوفة على جملة ﴿اسْتُحْفِظُوا﴾ على كونها صلة (لما). ﴿فَلَا تَخْشَوُا﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أيها اليهود
(٢) العكبري.
﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾.
﴿وَكَتَبْنَا﴾: (الواو) عاطفة. ﴿كَتَبْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿كتبنا﴾. ﴿فِيها﴾ متعلق به أيضًا، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿أَنْزَلْنَا﴾. ﴿أَن﴾: حرف نصب. ﴿النَّفْسَ﴾: اسمها. ﴿بِالنَّفْسِ﴾: جار ومجرور ﴿أَنَّ﴾: تقديره أنَّ النفس القاتلة مقتولة بالنفس المقتولة، جملة
أما قراءة (١) الكسائي برفع ﴿والعين﴾ وما بعدها.. فوجهها أبو علي الفارسي بوجهين:
أحدهما: أنْ تكون (الواو): عاطفة جملة اسمية على جملة فعلية، فتعطف الجمل كما تعطف المفردات، بمعنى أن قوله: ﴿وَالْعَيْنَ﴾: مبتدأ و ﴿بِالْعَيْنِ﴾: خبره، وكذا ما بعده، والجملة الإسمية معطوفة على الجملة الفعلية من قوله: ﴿وَكَتَبْنَا﴾ وعلى هذا فيكون ذلك ابتداء تشريع وبيان حكم جديد غير مندرج فيما كتب في التوراة، (فالواو) ليست مشركة للجملة مع ما قبلها، لا في اللفظ ولا في المعنى.
الوجه الثاني: من توجيهي الفارسي: أن تكون (الواو) عاطفة جملة إسمية على الجملة من قوله: ﴿أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ لكن من حيث المعنى لا من حيث اللفظ.
وأما قراءة أبي عمرو وابن كثير وابن عامر بالنصب فيا عدا ﴿الْجُرُوحَ﴾.
الوجهان المذكوران في قراءة الكسائي، وقد تقدم إيضاحهما.
والوجه الثالث: أنه مبتدأ، وخبره قصاص، يعني أنَّه ابتداء تشريع وتعريف وحكم جديد.
﴿فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
﴿فَمَنْ﴾: (الفاء): فاء الفصيحة لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت حكم ما إذا اقتص من أن النفس مأخوذة بالنفس، والعين مأخوذة بالعين، وأردت بيان أجر من عما عنه.. فأقول لك. (من): اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما. ﴿تَصَدَّقَ﴾: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَصَدَّقَ﴾. ﴿فَهُوَ﴾: (الفاء): رابطة لجواب من الشرطية. ﴿هُوَ﴾: مبتدأ. ﴿كَفَّارَةٌ﴾: خبره. ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿كَفَّارَةٌ﴾ أو متعلق به، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ﴾: (الواو): استئنافية. ﴿من﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب. ﴿لَمْ يَحْكُمْ﴾: جازم ومجزوم وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾ والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونها فعل شرط لها. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَحْكُمْ﴾. ﴿أَنْزَلَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل والجملة الفعلية صلة لما، أو صفة لها، والعائد محذوف تقديره: بما أنزل الله. ﴿فَأُولَئِكَ﴾ (الفاء): رابطة ﴿أولئك﴾ مبتدأ. ﴿هم﴾: ضمير منفصل. ﴿الظَّالِمُونَ﴾: خبر، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونها جواب شرط لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾.
﴿وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾.
﴿وَآتَيْنَاهُ﴾: الواو عاطفة. ﴿آتيناه الإنجيل﴾: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة معطوفة على جملة ﴿قفينا﴾. ﴿فِيهِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿هُدًى﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿وَنُورٌ﴾: معطوف عليه، والجملة في محل النصب حال من ﴿الْإِنْجِيلَ﴾. وفي "الفتوحات" (١) قوله: ﴿فِيهِ هُدًى وَنُورٌ﴾ حال من ﴿الْإِنْجِيلَ﴾ و ﴿هُدًى﴾ فاعل به؛ لأنَّه اعتمد بوقوعه حالًا، وأعربه أبو البقاء مبتدأ وخبرًا، والجملة حال، والأول أحسن؛ لأنَّ الحال بالمفرد أولى، وأيضًا يدل على عطف ﴿وَمُصَدِّقًا﴾ المفرد عليه، وعطف المفرد على المفرد الصريح، أولى من عطفه على المؤول اهـ "كرخي". ﴿وَمُصَدِّقًا﴾: حال ثانية من ﴿الْإِنْجِيلَ﴾ فهي حال مؤكدة؛ لأنَّ الكتب الإلهية يصدق بعضها بعضًا، وقيل: حال من ﴿عيسى﴾ أيضًا. ﴿لِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿مُصَدِّقًا﴾. ﴿بَيْنَ يَدَيْهِ﴾: ظرف ومضاف إليه صلة ﴿لِمَا﴾. ﴿مِنَ التَّوْرَاةِ﴾: حال من (ما) أو من الضمير المستقر في الظرف ﴿وَهُدًى وَمَوْعِظَةً﴾ حالان من ﴿الْإِنْجِيلِ﴾ أيضًا، ويجوز (٢) ﴿أن﴾ يكون من ﴿عيسى﴾؛ أي: هاديًا وواعظًا، أو ذا هدى وذا موعظة، ويجوز أن يكون مفعولًا لأجله؛ أي: قفينا للهدى، أو آتيناه الإنجيل للهدى. وقد قرئ في الشاذ بالرفع؛ أي: وفي الإنجيل هدى وموعظة، وكرر الهدى توكيدًا. ذكره أبو البقاء. ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾: جار ومجرور
(٢) العكبري.
﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤٧)﴾.
﴿وَلْيَحْكُمْ﴾: (الواو): استئنافية أو عاطفة. ﴿اللام﴾ لام الأمر مبنى على السكون لوقوعه إثر عاطف. ﴿يَحْكُمْ﴾: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر. ﴿أَهْلُ الْإِنْجِيلِ﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة، أو مقول لقول محذوف معطوف على ﴿آتَيْنَا﴾ تقديره: وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل وقلنا ليحكم أهل الإنجيل. وقرىء بكسر اللام وفتح الميم على أنَّها لام كي، والجملة حينئذٍ معطوفة على محذوف تقديره: وقفينا بعيسى ابن مريم الإنجيل ليؤمنوا، وليحكم أهل الإنجيل، أو مستأنفة والتقدير: وآتيناه الإنجيل ليحكم أهل الإنجيل. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق ﴿يَحْكُمْ﴾. ﴿أَنْزَلَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما أنزل الله. ﴿فِيهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَنْزَلَ﴾. ﴿وَمَن﴾ (الواو): استئنافية. ﴿من﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو جملة الجواب. ﴿لَمْ يَحْكُمْ﴾: جازم ومجزوم، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ والجملة في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَحْكُمْ﴾ ﴿أَنْزَلَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: أنزله الله. ﴿فَأُولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل. ﴿الْفَاسِقُونَ﴾: خبر، والجملة في محل الجزم جواب من الشرطية، وجملة من الشرطية مستأنفة.
﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾.
﴿وَأَنْزَلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق به. ﴿الْكِتَابَ﴾: مفعول به، والجملة معطوفة (١) على قوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ﴾ وما عطف عليه. ﴿بِالْحَقّ﴾:
﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾.
﴿فَاحْكُمْ﴾: (الفاء): فاء الصيحة لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت منزلة القرآن من الكتب الإلهية، وأنه رقيب ومهمين عليها.. فأقول لك: احكم بينهم بما أنزل الله، ويصح كون الفاء عاطفة تفريعية على قوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾. ﴿احكم﴾: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿بَيْنَهُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿احْكُمْ﴾. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿احكم﴾ ﴿أَنْزَلَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما أنزله الله تعالى. ﴿وَلَا﴾: (الواو): عاطفة. لا: ناهية جازمة. ﴿تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾: فعل ومفعول ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿فَاحْكُمْ﴾ ﴿عَمَّا﴾: جار ومجرور، متعلق بمحذوف من فاعل ﴿تَتَّبِعْ﴾ تقديره: حالة كونك عادلًا لا عما جاءك، وفي "السمين" قوله: ﴿عَمَّا جَاءَكَ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: به قال أبو البقاء أنَّه حال؛ أي: عادلًا عما جاءك، وهذا فيه نظر من حيث إن عن حرف جر ناقص لا يقع خبرًا عن جثة، فكذلك لا يقع حالًا عنها، وحرف الجر الناقص، إنما يتعلق يكون مطلق، لا يكون مقيد؛ لأن المقيد لا يجوز حذفه.
والثاني: أن عن علي بابها من المجاوزة لكن بتضمين ﴿تَتَّبِعْ﴾ معنى تزحزح وتنحرف؛ أي: لا تنحرف متبعًا، اهـ. ﴿جَاءَك﴾: فعل ومفعول وفاعله
﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾.
﴿لِكُلٍّ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿جَعَلْنَا﴾. ﴿جعلنا﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنْكُمْ﴾: جار ومجرور صفة لكل، ولا يضر فصل ﴿جَعَلْنَا﴾ بين الصفة والموصوف كما في قوله تعالى: ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾. ﴿شِرْعَةً﴾: مفعول به. ﴿وَمِنْهَاجًا﴾: معطوف عليه، والمعنى: لكل أمة كائنة منكم أيها الأمم السابقة، والآتية جعلنا شرعة ومنهاجًا، ويجوز أن يكون جعل متعديًا إلى اثنين بجعله بمعنى صيرنا، فيكون لكل مفعولًا ثانيًا مقدمًا وشرعة مفعولًا أولًا مؤخرًا. ﴿وَلَوْ﴾: (الواو): استئنافية. ﴿لو﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿شَاءَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لو﴾ لا محل لها من الإعراب ﴿لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً﴾: ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لو﴾، ﴿جعلكم أمة﴾: فعل ومفعولان. ﴿وَاحِدَةً﴾ صفة لـ ﴿أُمَّةً﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾ والجملة جواب لولا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لو﴾ من فعل شرطها وجوابها مستأنفة.
﴿وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾.
﴿وَلَكِنْ﴾: (الواو): استئنافية. ﴿لكن﴾: حرف استدراك. ﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ اللام لام كي. ﴿يبلوكم﴾: فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة الفعلية صلة أنْ المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور متعلق بفعل محذوف تقديره: ولكن فرقكم وجعلكم أممًا مختلفة ليبلوكم، ويختبركم فيما آتاكم ليظهر المطيع من العاصي، والجملة المحذوفة مستأنفة؛ أو استدراكية لا محل لها من
وَلا تُجِزْ حَالًا مِنَ الْمُضَافِ لَهْ | إلّا إِذَا اقْتَضَى الْمُضَافُ عَمَلَهْ |
﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾.
﴿وَأَنِ﴾: (الواو): عاطفة. ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿احْكُمْ﴾: فعل أمر في محل النصب بـ ﴿أن﴾ المصدرية مبنى على السكون، وفاعله ضمير يعود على محمد. ﴿بَيْنَهُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿احْكُمْ﴾، والجملة الفعلية صلة أن المصدرية، أن مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونه معطوفًا على ﴿الْكِتَابِ﴾ والتقدير: وأنزلنا إليك الكتاب والحكم بينهم. بما أنزل الله. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿احْكُمْ﴾. ﴿أَنْزَلَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: أنزله الله ﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ جازم وفعل، ومفعول، ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل
﴿وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾.
﴿وَاحْذَرْهُمْ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَأَنِ احْكُمْ﴾. ﴿أَنْ يَفْتِنُوك﴾: ناصب وفعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على كونه بدلًا من ضمير احذرهم بدل اشتمال، تقديره: واحذرهم فتنتهم إياك، أو على كونه مفعولًا لأجله، ولكنه على تقدير مضاف ققديره: واحذرهم مخافة فتنتهم إياك. ﴿عَنْ بَعْضِ مَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَفْتِنُوكَ﴾. ﴿أَنْزَلَ اللَّه﴾: فعل وفاعل. ﴿إِلَيْك﴾: متعلق به، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: أنزله الله إليك.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (٤٩)﴾.
﴿فَإِنْ﴾: (الفاء): فاء الفصيحة لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما أنزلنا إليك، وما أمرناك به، وأردت بيان حالهم وشأنهم فيما إذا تولوا عن حكمك.. فأقول لك: ﴿إِنْ تَوَلَّوْا﴾: ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿تَوَلَّوْا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية. ﴿فَاعْلَمْ﴾: الفاء: رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا. ﴿اعْلَمْ﴾: فعل أمر في محل الجزم بإن على كونه جواب شرط لها، وفاعله ضمير يعود على محمد، وجملة إن الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿أَنَّمَا﴾: أداة حصر أو تقول: ﴿أن﴾: النصب و (ما) كافة. ﴿يُرِيدُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب سادة مسد مفعولي اعلم. ﴿أَنْ يُصِيبَهُمْ﴾: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يصيب﴾ وجملة ﴿يصيب﴾: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: إصابته إياهم ببعض ذنوبهم. ﴿وَإِنَّ﴾: (الواو): عاطفة. ﴿إن﴾: حرف نصب ﴿كَثِيرًا﴾ اسمها. ﴿مِنَ النَّاسِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿كَثِيرًا﴾. ﴿لَفَاسِقُونَ﴾: اللام
﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)﴾.
﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾: (الهمزة): للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف تقديره: أيعرضون عن حكمك فيبغون حكم الجاهلية. (والفاء): عاطفة ما بعدها على ذلك المحذوف. ﴿حكم الجاهلية﴾: مفعول مقدم ومضاف إليه. ﴿يَبْغُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ذلك المحذوف، والجملة المحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ﴾: (الواو): استئنافية. ﴿من﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. ﴿أَحْسَنُ﴾: خبره. ﴿مِنَ اللَّه﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَحْسَنُ﴾، والجملة الإسمية مستأنفة ﴿حُكْمًا﴾: تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل، وأصله وحكم من أحسن من حكم الله. ﴿لِقَوْمٍ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر بمعنى عند. ﴿قوم﴾: مجرور باللام الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَحْسَنُ﴾. ﴿يُوقِنُونَ﴾ هو: فعل وفاعل والجملة في محل الجرّ صفة ﴿لِقَوْمٍ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ...﴾ الآية، التوراة هو الكتاب الذي أنزل على موسى والذيت هادوا هم اليهود ﴿وَالرَّبَّانِيُّونَ﴾ هو المنسوبون إلى الرب بمعنى الخالق المدبر لأمر الخلق ﴿وَالْأَحْبَارُ﴾ جمع حبر بسكر الحاء؛ وهو العالم ﴿شُهَدَاءَ﴾ جمع شهيد ككرماء جمع كريم. ﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ﴾ أصله تخشيوا تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، فالتقى ساكنان ثم حذفت الألف ثم حركت الواو بالحركة المجانسة لها ﴿وَقَفَّيْنَا﴾ من قفى يقفي تقفية، وهو من قفا يقفو إذا تبع قفاه؛ أي: أرسلناه عقبهم، والتضعيف فيه ليس للتعدية؛ لأن قفا متعد لواحد قبل التضعيف.
قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ وتقول العرب: قفى فلان إثر
إِنَّ الكِتَابَ مُهَيْمِنٌ لِنَبيِّنَا | وَالحَقُّ يَعْرِفَهُ ذَوُوُ الألْبَابِ |
﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾: في "المصباح": الشرعة بالكسر الدين، والشرع والشريعة ومثله مأخوذ من الشريعة وهي مورد الناس للاستسقاء سميت بذلك لوضوحها وظهورها وجمعها شرائع، وشرع الله لنا كذا يشرعه إذا أظهره وأوضحه، والمشرعة بفتح الميم والراء شريعة لما قال الأزهري: ولا تسميها العرب مشرعة حتى يكون الماء عدا لا انقطاع له كماء الأنهار، ويكون ظاهرًا، أيضًا، ولا يستقى منه برشاء، فإن كان من ماء الأمطار.. فهو الكرع بفتحتين، والناس في هذا الأمر شرع بفتحتين، وتسكن الراء للتخفيف؛ أي: سواء انتهى.
وقوله: ﴿منهاجًا﴾: في "المختار": النهج بوزن الفلس، والمنهج بوزن المذهب، والمنهاج: الطريق الواضح، ونهج الطريق أبانه، ونهجه أيضًا سلكه، وبابهما قطع، والنهج بفتحتين تتابع النفس وبابه طرب. انتهى. وفي "المصباح": النهج مثل فلس، الطريق الواضح، والمنهج والمنهاج مثله، ونهج الطريق ينهج
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والييان:
فمنها: التكرار في قوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا﴾، وفي قوله: ﴿أَنْزَلَ اللَّهُ﴾، وفي قوله: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾.
ومنها: التنزل من الأعلى إلى الأدنى في الوصف في قوله: ﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا﴾ فإن النبوة أعظم من الإِسلام قطعًا فوصفهم بالإِسلام ليس للتخصيص ولا للتوضيح بل لتنويه شأن الصفة فإن إبراز وصف في معرض مدح العظماء، منبىء عن عظم قدر الوصف لا محالة كما في وصف الأنبياء بالصلاح، ووصف الملائكة بالإيمان عليهم السلام ولذلك قيل: أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف.
ومنها: الاختصاص في قوله: ﴿لِلَّذِينَ هَادُوا﴾ فإن اللام لبيان اختصاص الحكم بهم، سواء كان لهم أم عليهم.
ومنها: توسيط المحكوم لهم بين المعطوفين في قوله: ﴿لِلَّذِينَ هَادُوا﴾ إيذانًا بأن الأصل في الحكم بها، وحمل الناس على ما فيها هم النبيون وإنما الربانيون والأحبار خلفاء ونواب عنهم في ذلك.
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ وما بعده.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾.
قال المطلب بن عبد الله بن حنطب (١): لما قتل ابن آدم أخاه.. رجفت الأرض بمن عليها سبعة أيام، وشربت دم المقتول كما تشرب الماء، فناداه الله تعالى: يا قابيل أين أخوك هابيل؟ فقال: ما أدري ما كنت عليه رقيبًا، فقال الله تعالى: إن دم أخيك ليناديني من الأرض، فلم قتلت أخاك؟ فقال: أين دمه إن قتلته؟ فحرم
ويروى عن ابن عباس قال: لما قتل قابيل هابيل، كان آدم بمكة لزيارة البيت، وكان أولاده بالهند، فاشتاك الشجر - أي ظهر له شوك - وتغيرت الأطعمة، وحمضت الفواكه، وأغبرات الأرض، فقال: قد حدث في الأرض حدث، فأتى الهند عند أولاده، فوجد قابيل قد قتل أخاه هابيل. وقيل: لما رجع آدم من مكة سأل قابيل عن أخيه؟ فقال: ما كنت عليه وكيلًا، فقال: بل قتلته، ولذلك اسود جلدك. وقيل: أن آدم مكث بعد قتل هابيل مئة سنة لا يضحك، وأنه رثاه بشعر فقال:
تَغَيَّرَتِ الْبِلاَدُ وَمَنْ عَلَيْهَا | فَوَجْهُ الأَرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيْحُ |
تَغَيَّرَ كُلُّ ذِيْ طَعْمٍ وَلَوْنٍ | وَقَلَّ بَشَاشَةُ الْوَجْهِ الْمَلِيْحِ |
وَمَا لِيْ لاَ أَجُوْدُ بِسَكْبِ دَمْعٍ | وَهَابِيْلٌ تَضمَّنَهُ الضَّرِيْحُ |
أَرَى طُوْلَ الحياة عَلَيَّ غَمًّا | فهل أنا من حياتي مُسترِيْحُ |
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ...﴾ الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أن الله سبحانه وتعالى لما نهى (٢) في الآيات السابقة عن موالاة الكافرين.. أمر هنا في هذه الآية بموالاة من تجب موالاتهم، وهم الله ورسوله والمؤمنون.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما نهى عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء من دونه، وبين العلة في ذلك، فأرشد إلى أن بعضهم أولياء بعض، ولا يوالي المؤمنين منهم أحد، ولا يواليهم ممن يدعون الإيمان إلا مرضى القلوب والمنافقون الذين يتربصون بالمؤمنين الدوائر.. أعاد النهي هنا عن اتخاذ الكفار عامة أولياء مع بيان الوصف الذي لأجله كان النهي وهو إيذاؤهم للمؤمنين بجميع ضروب الإيذاء ومقاومتهم دينهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (٣) ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
قال ابن كثير: واختلف المفسرون (١) في سبب نزول هذه الآيات الكريمات، فذكر السدي أنَّها نزلت في رجلين قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أُحد: أما أنا فإنِّي ذاهب إلى ذلك اليهودي فآوي إليه، وأتهود معه لعله ينفعني إذا وقع أمر وحدث حادث، وقال الآخر: أمَّا أنا فإني ذاهب إلى فلان النصراني بالشام، فآوي إليه وأتنصَّر معه فأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ...﴾ الآيات. وقال عكرمة: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه رسول الله - ﷺ - إلى بني قريظة فسألوه: ماذا هو صانع بنا؟ فأشار بيده إلى حلقه؛ أي: إنه الذبح. رواه ابن جرير، وقيل غير ذلك.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (٢) ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإِسلام، وكان رجال من المسلمين يوادونهما، فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا﴾. إلى قوله: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ﴾. وأخرج البيهقي في "الدلائل" من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا﴾ قال:
(٢) الشوكاني.
وأخرج ابن (١) إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أتى النبي - ﷺ - نفر عن اليهود فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال: "أومن باللهِ وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون"، فلمَّا ذكر عيسى.. جحدوا نبوته وقالوا: لا نؤمن بعيسى، ولا نؤمن بمن آمن به، فأنزل الله فيهم: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا﴾ إلى قوله: ﴿فَاسِقُونَ﴾.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: ﴿وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا﴾ الآية. قال: أناس عن ليهود كانوا يدخلون على النبي - ﷺ - فيخبرونه أنهم مؤمنون راضون بالذي جاءهم به وهم متمسكون بضلالتهم وبالكفر، فكانوا يدخلون بذلك، ويخرجون به من عند رسول الله - ﷺ -.
التفسير وأوجه القراءة
٥١ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وصدقوا بما جاء به محمد - ﷺ - ﴿لَا تَتَّخِذُوا﴾ وتجعلوا ﴿الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى﴾ وغيرهم من سائر الكفار ﴿أَوْلِيَاءَ﴾؛ أي: أصدقاء وأنصارًا وأعوانًا على أهل الإيمان بالله ورسوله؛ أي: لا يتخذ أحد منكم أحدًا منهم وليًّا.
قال ابن جرير (٢): إن الله تعالى نهى المؤمنين جميعًا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارًا وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله وأخبر أن من اتخذهم نصيرًا أو حليفًا ووليًّا من دون الله ورسوله.. فهو منهم في التحزب على الله
(٢) الطبري.
ثم ذكر علة هذا النهي فقال: ﴿بَعْضُهُم﴾؛ أي: بعض كل فريق من ذينك الفريقين ﴿أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ آخر من فريقه، لا من الفريق الآخر، لما هو معلوم من أنَّ الفريقين بينهما غاية العداوة، وإنما أوثر الإجمال تعويلًا على ظهور المراد، لوضوح انتفاء الموالاة بين الفريقين رأسًا، ومن ضرورة موالاة بعضهم لبعض اجتماع الكل على مضارتكم، فكيف يتصور بينكم وبينهم موالاة؟ وقيل: المراد أن كل واحدة من الطائفتين توالي الأخرى، وتعاضدها، وتناصرها على عداوة النبي - ﷺ -، وعداوة ما جاء به، وإن كانوا في ذات بينهم متعادين متضادين، ووجه تعليل النهي بهذه الجملة أنها تقتضي أنَّ هذه الموالاة هي شأن هؤلاء الكفار لا شأنكم، فلا تفعلوا ما هو من فعلهم، فتكونوا مثلهم، ولهذا عقب هذه الجملة التعليلية بما هو كالنتيجة لها فقال: ومن يتولهم منكم إلخ؛ أي: إنَّ اليهود بعضهم أنصار بعض، والنصارى بعضهم أنصار بعض، ولم يكن للمؤمنين منهم ولي ولا نصير، إذ كان اليهود قد نقضوا ما عقده الرسول - ﷺ - معهم من العهد من غير أن يبدأهم بقتال ولا عدوان، فصار الجميع حربًا للرسول ومن معه من المؤمنين، ثم توعد من يفعل ذلك فقال: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ﴾ يا معشر المؤمنين؛ أي: ومن ينصرهم أو يستنصر بهم من دون المؤمنين - وهم أعداء لكم - ﴿فَإِنَّهُ﴾؛ أي: فإنَّ ذلك المتولي في الحقيقة ﴿مِنْهُمْ﴾ لا منكم؛ لأنه معهم عليكم، إذ لا يتصور أن يقع ذلك من مؤمن صادق، والمعنى: فإنَّه من جملتهم وفي عدادهم؛ وهو وعيد شديد، فإنَّ المعصية الموجبة للكفر هي الي قد بلغت إلى غاية ليس ورائها غاية. قال ابن جرير (١): فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين.. فهو من أهل دينهم فإنَّه لا يتولى متول أحدًا إلا وهو راضٍ به وبدينه وما هو عليه؛ وإذا رضيه ورضي دينه.. فقد عادى من خالفه وسخطه، وصار حكمه حكمه انتهى.
والمعنى: اجعله في ظنك أنه قد مات فما تعمل بعد موته؛ أي: فاعمله الان ميتًا واستغن عنه بغيره من المسلمين.
٥٢ - ثم أخبر أن فريقًا من ضعاف الإيمان يفعل ذلك فقال: ﴿فَتَرَى﴾ يا محمد ﴿الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾؛ أي: شك ونفاق؛ أي: فترى المنافقين الذين اعتل إيمانهم بمرض النفاق كعبد الله بن أبيّ وأضرابه ﴿يُسَارِعُونَ فِيهِمْ﴾؛ أي: يبادرون في مودة اليهود وموالاتهم ومناصحتهم، لأنهم كانوا أهل ثروة ويسار، فكانوا يغشونهم ويقرضونهم ويعينونهم على مهماتهم، ويخالطونهم لأجل ذلك. وقرأ إبراهيم بن وثاب في: ﴿فيرى﴾ بالياء من تحت، فقيل: الفاعل ضمير يعود على الله، وقيل: كل من تصح منه الرؤيا، وقيل: هو الموصول، ومفعوله يسارعون على حذف أن المصدرية؛ أي: فيرى القوم الذين في قلوبهم مرض أنْ يسارعوا فيهم فلما حذفت أنْ.. ارتفع الفعل، وقرأ قتادة
(٢) المراح.
وخلاصة ذلك: أنهم يخشون أن تدول الدولة لليهود أو المشركين علي المؤمنين فيحل بهم العقاب لأنهم في شك من نصر الله لنبيّه، وإظهار دينه على الدين كله، إذ لم يوقنوا بنبوته ولا بصدقها، وهكذا شأن المنافقين في كل زمان ومكان، فكثير من وزراء بعض الدول الضعيفة يتخذ له يدًا عند دولة قوية، يلجأ إليها إذا أصابته دائرة، فتغلغل نفوذ هذه الدول في أحشاء هذه الدولة وضعف استقلالها في بلادها بعملهم ولله الأمر من قبل ومن بعد، ثم رد على هؤلاء المنافقين، وقطع أطماعهم وبشر المؤمنين فقال: ﴿فَعَسَى اللَّهُ﴾؛ أي: حقق الله سبحانه وتعالى ﴿أَنْ يَأتِيَ بِالْفَتْحِ﴾ والنصر لرسوله - ﷺ - على أعدائه، وإظهار دينه على الأديان كلها، وإظهار المسلمين على أعدائهم من الكفار واليهود والنصارى، وقد فعل الله ذلك بمنه وكرمه، فأظهر دينه ونصر عبده ﴿أَوْ﴾ يأتي بـ ﴿أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ﴾ سبحانه وتعالى في هؤلاء المنافقين، كفضيحتهم أو إيقاع العقاب بهم ﴿فَيُصْبِحُوا﴾؛ أي: فيصبح هؤلاء المنافقين ويصيروا ﴿عَلَى مَا أَسَرُّوا﴾ وأضمروه وكتموه ﴿فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ وقلوبهم من اتخاذ الأولياء على المؤمنين، وتوقع الدوائر عليهم فضلًا عما أظهروه مما أشعر على نفاقهم ﴿نَادِمِينَ﴾ خاسرين، وعسى في كلامه تعالى للتحقق؛ لأن الكريم إذا أطمع في خير.. فعله، وهو بمنزلة الوعد لتعلق النفس به ورجائها له. والفتح إمَّا فتح مكة الذي كان به ظهور الإِسلام والثقة بقوته وإنجاز الله وعده لرسوله، وإما فتح بلاد اليهود في الحجاز كخبير وفدك وغيرهما، والأمر إما الإيقاع باليهود وإجلائهم عن موطنهم وإخراجهم من
وقرأ ابن الزبير ﴿فنصبح الفساق﴾ جعل الفساق مكان الضمير، قال ابن عطية: وخص الإصباح بالذكر لأن الإنسان في ليله مفكر، فعند الصباح يرى الحالة التي اقتضاها فكره. انتهى.
٥٣ - ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: يقول بعض المؤمنين لبعض في الوقت الذي أظهر الله تعالى نفاق المنافقين متعجبين من حال المنافقين ﴿أهَؤُلَاءِ﴾ المنافقون الذين فضحهم الله تعالى الآن هم ﴿الَّذِينَ أَقْسَمُوا﴾ وحلفوا لنا ﴿بِاللَّهِ﴾ تعالى ﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ وأغلظها وأشدها وأوكدها بتعداد أسماء الله تعالى فيها، وجمع صفاته فيها قائلين ﴿إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ﴾؛ أي: نحن معكم يا معشر المؤمنين في الدين والمناصرة، ونحن معاضدوكم وناصروكم على أعدائكم اليهود، فلما حل بهم ما حل.. أظهروا ما كانوا يسرونه من موالاتهم وممالأتهم على المؤمنين كما قال في سورة التوبة: ﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦)﴾؛ أي: فهم لفرقهم وخوفهم يظهرون الإِسلام تقية، والاستفهام هنا للتعجب.
وذلك أنَّ (١) المؤمنين كانوا يتعجبون من حال المنافقين عندما أظهروا الميل إلى موالاة اليهود والنصارى، ويقولون إنَّ المنافقين حلفوا باللهِ جهد أيمانهم إنهم لمعنا ومن أنصارنا، والآن كيف صاروا موالين لأعدائنا من اليهود محبين للاختلاط بهم، فبان كذب المنافقين في أيمانهم الباطلة.
قرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف (٢): ﴿ويقول الذين أمنوا﴾ بالرفع مع إثبات الواو كما في مصاحف أهل العراق على الاستئناف. وقرأ نافع وابن كثير
(٢) المراح.
وقرأ أبو عمرو ويعقوب بالنصب مع الواو عطفًا على يصبحوا لا على يأتي: لأنَّ ذلك القول إنَّما يصدر عن المؤمنين عند ظهور ندامة المنافقين لا عند إتيان الفتح فقط، والمعنى: يقول المؤمنون مخاطبين لليهود مشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم ويرجون دولتهم عند مشاهدتهم لانعكاس رجائهم تعريضًا بالمخاطبين: ﴿أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾؛ أي: غاية إيمانهم ﴿إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ﴾ أيها اليهود بالمعونة، فإن المنافقين حلفوا لليهود بالمعاضدة كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: ﴿وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ﴾ أو المعنى: يقول المؤمنون بعضهم لبعض، مشيرين للمنافقين، متعجبين من حالهم، مستعظمين بما من الله عليهم من إخلاص الإيمان عند مشاهدتهم لإظهارهم الميل إلى موالاة اليهود والنصارى: إنهم كانوا يقسمون لنا بالله جهد أيمانهم إنهم معنا في ديننا في السر ومن أنصارنا، فالآن كيف صاروا موالين لأعدائنا، محبين للاختلاط بهم، والاعتضاد بهم، وهذا المعنى كما سبق في حلنا أولًا أنسب لقراءة الرفع مع إثبات الواو على الاستئناف، أما المعنى الأول أعني: قول المؤمنين مخاطبين لليهود، فهو أنسب لقراءة النصب، ولقراءة الرفع مع حذف الواو، ولقراءة الرفع مع الواو بجعل الواو عاطفة جملة على جملة، والله أعلم بمراده.
وقوله: ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾؛ أي: بطلت أعمال المنافقين، هو من تمام (١) قول المؤمنين، أو جملة مستأنفة والقائل هو الله سبحانه، والأعمال هي التي عملوها في الموالاة، أو كل عمل يعملونه؛ أي: ويقول المؤمنون: ضاعت أعمالهم التي يتكفلونها نفاقًا، كالصلاة والصوم والجهاد معنا ليقنعونا بأنهم منا، لأجل ما أظهروا من النفاق، وموالاة اليهود ﴿فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ﴾ في الدنيا
فائدة: وروى أرباب السير (٢): أن النبي - ﷺ - لما قدم المدينة.. صار الكفار معه ثلاثة أقسام: قسم صالحهم ووادعهم على أن لا يحاربوه، ولا يظاهروا عليه أحدًا ولا يوالوا عليه عدوه وهم على كفرهم، آمنون على دمائهم وأموالهم، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة، وقسم تاركوه، فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره، وأمر أعدائه، ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن، ومنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه من الباطن ليأمن الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون.
وقد عامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره ربه به، فصالح يهود المدينة، وكتب بينه وبينهم كتاب أمن، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة، بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، فحاربته بنو قينقاع بعد بدر وأظهروا البغي والحسد، ثم نقض العهد بنو النضير بعد ذلك بستة أشهر، ثم نقض بنو قريظة العهد لما خرج إلى غزوة الخندق، وكانوا من أشد اليهود عداوة للنبي - ﷺ -، وقد حارب كل طائفة وأظهره الله عليها، وكان نصارى العرب والروم حربًا عليه كاليهود.
٥٤ - ولما نهى (٣) الله سبحانه وتعالى فيما سلف عن موالاة اليهود والنصارى، وبين أنها مستدعية للارتداد.. شرع في بيان حال المرتدين على الإطلاق فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وصدقوا بما جاء به محمد - ﷺ - ﴿مَنْ يَرْتَدَّ﴾ ويرجح. وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر: ﴿مَنْ يَرْتَدَّ﴾ بدالين مفكوكًا وهي لغة الحجاز،
(٢) المراغي.
(٣) الجمل.
الأول والثاني منها: ما ذكره بقوله: ﴿يُحِبُّهُمْ﴾ الله سبحانه وتعالى؛ أي: يلهمهم الطاعة ويثيبهم عليها. ومعنى محبة الله إياهم: إنعامه عليهم، وتوفيقه إياهم وهدايته إياهم إلى طاعته، والعمل بما يرضى به عنهم ﴿وَيُحِبُّونَهُ﴾؛ أي: يحبون الله تعالى ويطعيونه بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ومعنى محبتهم لله تعالى: المسارعة إلى طاعته وتقديم خدمته على كل شيء، وابتغاء مرضاته، وأن لا يفعل ما يوجب سخطه وعقوبته، وأن يتحبب إليه بما يوجب له الزلفى لديه، جعلنا ممن يحبهم ويحبونه بمنه وكرمه، ولما كانت محبتهم لله ناشئة عن محبة الله إياهم.. قدم محبة الله على مجتهم، والأقرب أن الآية عامة لأصحاب رسول الله - ﷺ - ومن كان على قدمهم إلى يوم القيامة بقرينة التسويف.
والثالث منها: ما ذكره بقوله: ﴿أذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: مشفقين عليهم، عاطفين لهم، أرقاء، رحماء لأهل دينهم وإخوانهم من المؤمنين، متذللين لهم، جمع ذليل لا ذلول كما سيأتي في مبحث الصرف. وقرىء شاذًا ﴿أذلة﴾ وهو اسم، كذا ﴿أعزةً﴾ نصبًا على الحال من النكرة أعني: ﴿بِقَوْمٍ﴾؛ لأنها قربت من المعرفة بوصافها.
والرابع منها: ما ذكره بقوله: ﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾؛ أي: أشداء أقوياء، غلظاء على أعدائهم الكافرين. وقرأ عبيد الله: ﴿غلظاء على الكافرين﴾ مكان أعزة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ يعني أهل رقة على أهل دينهم ﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ أهل غلظة على من خالفهم في دينهم. وقال ابن عباس رضي الله عنه: تراهم كالولد لوالده، وكالعبد لسيده، وهم في الغلظة على الكافرين كالسبع على فريسته.
والسادس منها: ما ذكره بقوله: ﴿وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾؛ أي: لا يخافون عذل عاذل في نصرهم الدين بخلاف المنافقين، فإنهم كانوا يراقبون الكفار، ويخالفون لومهم، فبين تعالى في هذه الآية: أن من كان قويًّا في الدين، فإنَّه لا يخاف في نصره لدين الله بيده أو بلسانه لومة لائم، وهذه صفة المؤمنين المخلصين. وقال ابن كثير: أي: لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله، وإقامة الحدود، وقتال أعدائه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا يردهم عن ذلك راد، ولا يصدهم عنه صاد، ولا يحيك فيهم لوم لائم ولا عذل عاذل. وروى الإِمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "أمرني خليلي - ﷺ - بسبع: أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرني أن لا أسأل أحدًا شيئًا، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرًّا، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر قول لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهن كنز من تحت العرش". أخرجه أحمد في "المسند" (٥/ ١٥٩) وسنده حسن.
وعن عبادة بن الصامت قال: بايعت رسول الله - ﷺ - على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كان، لا نخاف في الله لومة لائم. والحاصل أنهم يظهرون العطف والحنو والتواضع للمؤمنين، ويظهرون الشدة والغلظة والترفع على الكافرين، ويجمعون بين المجاهدة في سبيل الله، وعدم خوف الملامة في الدين، بل هم متصلبون، لا يبالون بما يفعله أعداء الحق وحزب الشيطان من الإزدراء بأهل الدين، وقلب محاسنهم مساوي، ومناقبهم مثالب حسدًا وبغضًا وكراهة للحق وأهله. ﴿ذَلِكَ﴾ المذكور عن الأوصاف الستة التي وصف بها القوم من المحبة الذلة والعزة وعن بعدها؛ لأن ذلك يشار به إلى المفرد والمثنى والمجموع كما
تتمة فيما يتعلق بالآية: روى ابن جرير عن قتادة قال: أنزل الله هذه الآية يعني قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ الآية. وقد علم أنه سيرتد مرتدون من الناس، فلما قبض الله نبيه محمدًا - ﷺ -.. ارتد عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد، أهل المدينة، وأهل مكة، وأهل البحرين من عبد القيس أهل مسجد جواثي قالوا - أي المرتدون - نصلي ولا نزكي، والله لا تغصب أموالنا، فكلم أبو بكر في ذلك، فقيل له: إنهم لو قد فقهوا لهذا.. أعطوها وزادوها، فقال: لا والله لا أفرق بين شيء جمع الله بينه، ولو منعوا عقالًا مما فرض الله ووسوله.. لقاتلتهم عليه، فبعث الله عصابة مع أبي بكر، فقاتل على ما قاتل عليه نبي الله - ﷺ - حتى سبى وقتل وحرق بالنيران أناسًا ارتدوا عن الإِسلام، ومنعوا الزكاة فقاتلهم حتى أقروا بالماعون - الزكاة - صغرة: واحدهم صاغر، وهو المهيمن الذليل، أقمياء: واحدهم قميء، وهو الذليل الضعيف، فأتته وفود العرب فخيرهم بين خطة مخزية أو حرب مجلية، فاختاروا الخطة المخزية، وكانت أهون عليهم أن يقروا أن قتلاهم في النار، وأن قتلى المؤمنين في الجنة، وأن ما أصابوا من المسلمين من مال ردوه عليهم، وما أصاب المسلمون من مال لهم فهو لهم حلال، انتهى.
وعلى هذا فالقوم الذين يحبهم الله ويحبونه هم: أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة، قاله قتادة والضحاك، ورجح ابن جرير: أن الآية نزلت في قوم أبي موسى الأشعري من أهل اليمن، لما روي أن النبي - ﷺ - لما قرأ هذه الآية قال: "هم قوم أبي موسى" وإنْ لم يكونوا قاتلوا المرتدين مع أبي بكر؛ لأن الله وعد بأن يأتي بخير عن المرتدين بدلًا منهم، ولم يقل أنَّهم يقاتلون المرتدين، ويكفي في صدق الوعد أن يقاتلوا، ولو غير المرتدين. وقد ارتد كثير من القبائل في عهد النبي - ﷺ - وبعده، فقد ارتدت إحدى عشرة فرقة، منها ثلاث في عهد النبي - ﷺ - وهم:
٢ - بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب، وقد تنبأ مسليمة، وكتب إلى رسول الله - ﷺ - من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله: سلام عليك أما بعد: فإني قد أشركت في الأمر معك، وأن لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشًا قوم يعتدون، فكتب إليه النبي - ﷺ -: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب السلام على من اتبع الهدى، أما بعد ﴿فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين﴾ وكان ذلك سنة عشر، وحاربه أبو بكر، وقتله وحشي قاتل حمزة، وكان يقول: قتلت في جاهليتي خير الناس وفي إسلامي شر الناس.
٣ - بنو أسد وزعيمهم طليحة بن خويلد، وقد تنبأ فبعث إليه أبو بكر خالد بن الوليد فانهزم وهرب إلى الشام، ثم أسلم وحسن إسلامه.
وارتدت سبع في عهد أبي بكر وهم:
١ - فزارة، قوم عيينة بن حصن.
٢ - غطفان، قوم قرة بن سلمة القشيري.
٣ - بنو سليم، قوم الفجاءة بن عبد ياليل.
٤ - بنو يربوع، قوم مالك بن نويرة.
٥ - بعض بني تميم وزعيمته سجاح بنت المنذر الكاهنة، وقد تنبأت وزوجت نفسها من مسيلمة، ولها قصص طويل في التاريخ، وصح أنَّها أسلمت بعد ذلك وحسن إسلامها.
٦ - كندة، قوم الأشعث بن قيس.
ويروى أن عمر رضي الله عنه: كتب إلى أحبار الشام لما لحق بهم كتابًا جاء فيه: إن جبلة ورد إلى في سراة قومه فأسلم، فأكرمته، ثم سار إلى مكة فطاف فوطىء إزاره رجل من بني فزارة فلطمه جبلة فهشم أنفه وكسر ثناياه، فاستعدى الفزاري على جبلة إلي فحكمت إما بالعفو وإما بالقصاص، فقال: أتقتص مني وأنا ملك وهو سوقة؟ فقلت: شملك وإياه الإِسلام، فما تفضله إلا بالعافية، فسأل جبلة التأخير إلى الغد، فلمَّا كان من الليل ركب مع بني عمه، ولحق بالشام مرتدًا. وروي أنه ندم على ما فعل وأنشد:
تَنَصَّرْتُ بَعْدَ الحَقِّ عَارًا لِلَطْمَةٍ | وَلَمْ يَكُ فِيْهَا لَوْ صَبَرْتُ ضَرَرْ |
فَأَدْرَكَنِيْ مِنْهَا لِجَاجٌ حَمِيَّةً | فَبِعْتُ لَهَا الْعَيْنَ الصَّحِيْحَةَ بِالعَوَرْ |
فَيَا لَيْتَ أمِّي لمْ تَلِدْنِي وَلَيْتَنِيْ | صَبَرْتُ عَلَى القَوْلِ الذِيْ قَالَهُ عُمَرْ |
٥٥ - ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ لما نهى عن موالاة الكفرة.. ذكر عقيبه من هو حقيق بها، وإنَّما قال وليكم الله، ولم يقل أوليائكم
قال في "الأساس": العرب تسمي من آمن بالله ولم يعبد الأوثان راكعًا، وقال أبو مسلم: المراد بالركوع الخضوع. والمعنى؛ أي: أنَّ المؤمنين الذين يقومون بحق الولاية والنصرة لكم، هم الذين يقيمون الصلاة ويؤدونها حق الأداء باشتمالها على الآداب الظاهرة والباطنة، ويعطون الزكاة مستحقيها، وهم خاضعون لأوامر الله مع طيب نفس وهدوء قلب، لا خوفًا ولا رياء ولا سمعة، دون المنافقين الذين يقولون: آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ويأتون بصورة الصلاة لا بروحها ومعناها المقصود منها، فإذا هم قاموا إلى الصلاة.. قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلًا. قال ابن الجوزي: فأما اتخاذهم الدين هزوًا ولعبًا.. فهو إظهارهم الإِسلام وإخفاؤهم الكفر وتلاعبهم بالدين
٥٦ - ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ﴾ بالإيمان به والتوكل عليه ﴿وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ بنصرهم والاستنصار لهم.. فإنَّهم هم الغالبون على أعدائهم؛ لأنهم حزب الله، ﴿فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ﴾ وجنده وأنصاره ﴿هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ على أعدائهم بالحجة، فإنَّها مستمرة أبدًا، إما بالصولة والدولة، ققد يغلبون كما وقع ذلك في زمن النبي - ﷺ - غير مرة، والحزب
٥٧ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ باللهِ ورسوله محمَّد - ﷺ - ﴿لَا تَتَّخِذُوا﴾؛ أي: لا تجعلوا ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا﴾ وجعلوا ﴿دِينَكُمْ﴾ دين الإِسلام الذي هو أفضل الأديان وناسخها ﴿هُزُوًا﴾؛ أي: سخرية ﴿وَلَعِبًا﴾ أي ضحكًا، وقوله: ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ بيان للموصول السابق؛ أي: من اليهود والنصارى الذين أعطوا الكتاب ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿وَالْكُفَّار﴾ بالنصب عطف على الذين اتخذوا، أو بالجر عطف على الذين أوتوا الكتاب، والمراد بهم المشركون عبدة الأوثان، وإنَّما فصل بين أهل الكتاب والكفار - وإنْ كان أهل الكتاب من الكفار؛ لأن كفر المشركين من عبدة الأوثان أغلظ وأفحش من كفر أهل الكتاب - لأن أهل الكتاب لهم أساس، وإن حرفوا وبدلوا ﴿أَوْلِيَاءَ﴾؛ أي: أصدقاء وأنصارًا لكم؛ لأن اللائق باتخاذهم دينكم هزوًا ولعبًا أن يقابل بالبغضاء والمنابذة والمجانبة، فاتخاذكم مع ذلك أولياء وأنصارًا كالأمر الخارج عن المعقول، والمرءوة إن كنتم تعقلون، وهذا النهي عن موالاة المتخذين للدين هزوًا ولعبًا يعم كل من حصل منه ذلك من المشركين، وأهل الكتاب وأهل البدع المنتمين إلى الإِسلام والبيان بقوله: ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ إلى آخره، لا ينافي دخول غيرهم تحت النهي إذا وجدت فيه العلة المذكورة، التي هي الباعثة على النهي.
والمعنى (١): يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى الذين جاءتهم الرسل والأنبياء، وأنزلت عليهم الكتب من قبل بعث رسولنا محمَّد - ﷺ -، ومن قبل
وكذلك نهى الله عن موالاة جميع المشركين؛ لأن موالاة المسلمين لهم بعد أن أظهرهم الله عليهم بفتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجًا تكون قوة لهم وإقرارًا على شركهم الذي جاء الإِسلام لمحوه من جزيرة العرب. وقد نهج الإِسلام من أهل الكتاب سياسة غير سياسته مع مشركي العرب، فأباح أكل طعامهم ونكاح نسائهم، وشرع قبول الجزية منهم، وإقرارهم على دينهم، وخصهم هنا بلقب أهل الكتاب، ولقب المشركين بالكفار، وفي آيات أخرى بالمشركين والذين أشركوا، لانَّهم لوثنيتهم عريقون في الشرك، والكفر أصلًا فيه. أما أهل الكتاب فالشرك والكفر قد عرض للكثير منهم عروضًا وليس من أصل دينهم ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ أي: وخافوا عقاب الله أيها المؤمنون في موالاة هؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا، حتى لا يضيع الغرض منها، وتكون وهنا لكم، ونصرًا لهم ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: إن كنتم صادقي الإيمان، تحفظون كرامته، وتجتنبون مهانته، وتصدقون بالجزاء والوعيد على معصيته ومخالفته تعالى. والمعنى: واتقوا الله في موالاتهم إن كنتم مؤمنين حقًّا، فإن تقوى الله هي الحاملة على امتثال الأوامر، واجتناب النواهي.
وقرأ أبو عمرو والكسائي ويعقوب (١): ﴿والكفار﴾ بالجر على تقدير: من أي ومن الكفار، وقرأ الباقون بالنصب على معنى لا تتخذوا الكفار أولياء، وهي رواية الحسين الجعفي عن أبي عمرو، وإعراب الجر والنصب واضح، وقرأ أبي
٥٨ - ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ﴾ وأذنتم للإقبال ﴿إِلَى الصَّلَاةِ﴾ المفروضة ﴿اتَّخَذُوهَا﴾؛ أي: اتخذوا صلاتكم ﴿هُزُوًا وَلَعِبًا﴾؛ أي: لاعتقادهم أنه ليس فيها فائدة ومنفعة في الدين والدنيا قالوا: إنها لعب، والهزء السخرية، واللعب الأخذ في غير طريق، ذكره أبو حيان في "البحر"، وقيل: الضمير يعود للمناداة المدلول عليه بناديتم، ومعنى اتخاذهم الصلاة والمناداة هزوًا ولعبًا: تضاحكهم منها، وتغامزهم، والمعنى: وإذا أذن مؤذنكم داعيًا إلى الصلاة.. سخر من دعوتكم إليها من نهيتم عن ولايتهم من أهل الكتاب والمشركين، واتخذوها هزوًا ولعبًا، وروى (١) الطبراني: أن نصرانيًّا بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، قال: أحرق الله الكاذب، فدخل خادمه ذات ليلة بنار وأهله نيام، فتطاير شررها في البيت فأحرقته وأهله، وقيل: كان المنافقون من اليهود يتضاحكون عند القيام إلى الصلاة تنفيرًا للناس عنها، وقيل: إنَّ الكفار والمنافقين كانوا إذا سمعوا الأذان دخلوا على النبي - ﷺ - وقالوا: يا محمد لقد ابتدعت شيئًا لم يسمع بمثله فيما مضى، فإن كنت نبيًّا.. فقد خالفت الأنبياء قبلك، فمن أين لك صياح كصياح العير، فما أقبح هذا الصوت وهذا الأمر! فأنزل الله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ﴾ الآية وأنزل: ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ الآية.
قيل (٢): وليس في كتاب الله تعالى ذكر الأذان إلا في هذا الموضع، وأما قوله تعالى في الجمعة: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ﴾.. فهو خاص بنداء الجمعة، وقد اختلف أهل العلم في كون الأذان واجبًا أو غير واجب، وفي ألفاظه، وهو مبسوط في مواطنه.
﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: الاستهزاء المذكور ﴿بِأَنَّهُمْ﴾؛ أي: بسبب أنهم ﴿قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾؛ أي: لا يفهمون ما لهم في إجابة الصلاة وما عليهم في استهزائهم بها،
(٢) الشوكاني.
وخلاصة المعنى: أي ذلك الفعل الذي يفعلونه وهو الهزؤ والسخرية: إنما كان لجهلهم بحقيقة الأديان، وما أوجب الله فيها من تعظيمه والثناء عليه بما هو أهله، ولو كان عندهم عقل.. لخشعت قلوبهم كلما سمعوا المؤذن يكبر الله تعالى ويمجده بصوته الندي، ويدعو إلى الصلاة له، والفلاح بمناجاته وذكره، فهو ذكر مؤثر في النفوس لا تخفى محاسنه على من يعقل الحكمة في إرسال الشرائع، ويؤمن بالله العلي الكبير.
٥٩ - ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ الخطاب فيه للنبي - ﷺ -؛ أي: قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى الذين اتخذوا دينك هزوًا ولعبًا والاستفهام في قوله: ﴿هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا﴾ إنكاري تهكمي؛ أي: هل تكرهون منا أو تعيبون علينا من شيء ﴿إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ وحده ﴿و﴾ بـ ﴿مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ من القران الكريم ﴿و﴾ بـ ﴿ما أنزل من قبل﴾ على رسله سبحانه وتعالى من التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب الإلهية، وهذا على سبيل التعجب من فعل أهل الكتاب، والمعنى: هل تجدون علينا عيبًا في الدين إلا الإيمان بالله وبما أنزل إلينا وبما أنزل على جميع الأنبياء من قبل؟ وهذا ليس مما ينكر أو ينقسم منه، وهذا كما قال بعضهم:
وَلا عَيبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوْفَهُمْ | بِهِنَّ فُلولٌ من قِرَاعِ الكَتَائِبِ |
وعبارة المراغي هنا: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا...﴾ الآية؛ أي: قل يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى هل من شيء تعيبونه علينا، وتكرهوننا لأجله إلا إيماننا الصادق بالله وتوحيده، وإثبات صفات الكمال له، وإيماننا بما أنزل إلينا، وبما أنزل من قبلي على رسله لقلة إنصافكم، ولأن أكثركم فاسقون خارجون عن حظيرة الإيمان الصحيح، وليس لكم من الدين إلا العصبية الجنسية، والتقاليد الباطلة.
والخلاصة: أنَّه ما عندنا سوى ذلك، وهذا مما لا يعاب ولا ينقم منه، بل يمدح صاحبه ويكرم، لكنكم لفسقكم وخروجكم من حظيرة الدين الصحيح عبتم الحسن من غيركم، ورضيتم بالقبيح من أنفسكم وفي قوله: ﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ إشارة إلى أن الحكم بالفسق عليهم ليس على العموم بل على الأكثر فقط؛ لأنَّه قد كان في أهل الكتاب ناس لا يزالون معتصمين بأصول الدين وجوهره من التوحيد وحب الحق والعدل، وهؤلاء هم الذين سارعوا إلى الإِسلام عندما عرفوا حقيقة أمره، وتجلى لهم صدق الداعي إليه.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿تَنْقِمُونَ﴾ بكسر القاف، والماضي نَقَم بفتحها، في التي ذكرها ثعلب في الفصيح، ونقم بالكسر ينقم بالفتح لغة حكاها الكسائي
(٢) الخازن.
(٣) البحر المحيط.
٦٠ - ثم رد على الاستفهام التهكمي باستفهام تهكمي مثله فقال: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ﴾؛ أي: قل لهم يا محمد هل أخبركم أيها المستهزئون بديننا وأذاننا ﴿بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ﴾؛ أي: بمن هو شر وأقبح مثوبة وجزاء عند الله تعالى من ذلك القوم الذين اتخذتم دينهم وأذانهم هزوًا ولعبًا يعني: المؤمنين، واستعمال المثوبة في الجزاء الحسن، أكثر من استعمالها في الجزاء السيء كما هنا، وقيل إن استعمالها في الجزاء السيء من باب التهكم والإزدراء كقوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ وهذا السؤال يستدعي سؤالًا منهم عن ذلك الذي هو شر، فكأنهم سألوه وقالوا من هو؟ فأجابهم بقوله: ﴿مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ﴾؛ أي: الذي هو شر من ذلك القوم الذين اتخذتم دينهم هزوًا ولعبًا من لعنه الله سبحانه، وطرده وأبعده من رحمته ﴿وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾؛ أي: وانتقم منه؛ لأن الغضب إرادة الانتقام من العصاة، أو سخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات ﴿وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ﴾؛ أي: مسخ بعضهم قردة، وهم أصحاب السبت في زمن داود، وهم اليهود. ﴿و﴾ مسخ بعضهم ﴿الخنازير﴾ وهم كفار أهل مائدة عيسى، بعد أكلهم من المائدة، وقيل (١): كلا المسخين في أصحاب السبت مسخت شبانهم قردة،
قلت: جوابه أنَّ الكلام خرج على حسب قولهم واعتقادهم، فإنَّ اليهود حكموا بأن اعتقاد ذلك الدين شر، فقال لهم: هب أن الأمر كذلك لكن من لعنه الله وغضب عليه ومسخ صورته شر من ذلك.
وفي قوله: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ﴾ انتقال (٢) بهم من تبكيت لهم بإقامة الحجة على هزئهم ولعبهم بما ذكر إلى ما هو أشد منه تبكيتًا وتشنيعًا عليهم، ذلك هو التذكير بسوء حال أبائهم من أنبيائهم، وما كان من جزاء الله لهم على فسقهم وتمردهم، بأشد ما جازى به الفاسقين الذين ظلموا أنفسهم من اللعن والغضب والمسخ وعبادة الطاغوت.
أمَّا اللعن فقد ذكر في عدة مواضع من القران الكريم مع بيان أسبابه، والغضب الإلهي يستلزم اللعنة، واللعنة تلزمه، إذ هي منتهى المؤاخذة لمن غضب الله عليه. وأمَّا جعله منهم قردة وخنازير فقد تقدم في سورة البقرة: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (٦٥)﴾ وسيأتي في سورة الأعراف ﴿فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ وجمهرة العلماء على أنهم مسخوا فكانوا قردة وخنازير على الحقيقة، وانقرضوا لأن الممسوخ لا يكون له نسل، ونقل ابن جرير عن مجاهد، أنَّه قال: مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم كما ضرب المثل بقوله: {كَمَثَلِ
(٢) المراغي.
فائدة: قوله تعالى: ﴿وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ﴾ فيه عشرون (٢) قراءة كلها شاذة إلا اثنتين، فهما سبعيتان كما سيأتي بيانهما:
١ - قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عاصم وابن عامر ونافع والكسائي: ﴿وَعَبَد﴾ بفتح العين والباء والدال ونصب تاء ﴿الطَّاغُوتَ﴾. وفيها وجهان أحدهما: أن المعنى: وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت، والثاني: أن المعنى: من لعنه الله وعبد الطاغوت.
٢ - وقرأ حمزة: ﴿وعَبُدَ الطاغوت﴾ بفتح العين والدال وضم الباء وخفض تاء الطاغوت. قال ثعلب: ليس لها وجه إلا أن يجمع فعل على فعل، وقال الزجاج وجهها أن الاسم بني على فعل كما تقول: علم زيد ورجل حذر؛ أي: مبالغ في الحذر، فالمعنى: جعل منهم خدمة الطاغوت ومن بلغ في طاعة الطاغوت الغاية. فهاتان القِراءاتان سبعيتان.
٣ - وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب: ﴿وعبدوا﴾ بفتح العين والباء ورفع الدال على الجمع ﴿الطاغوت﴾ بالنصب.
٤ - وقرأ ابن عباس وابن أبي عبلة ﴿وعبد﴾ بفتح العين والباء والدال إلا أنهما كسر التاء ﴿الطاغوت﴾ قال الفراء: أرادا عبدة فحذفا الهاء.
٥ - وقرأ أنس بن مالك: ﴿وعبيد﴾ بفتح العين والدال وبياء بعد الباء وخفض تاء ﴿الطاغوت﴾.
(٢) زاد المسير.
٧ - وقرأ أبو هريرة وأبو رجاء وابن السميقع ﴿وعابد﴾ بألف مع كسر الباء وفتح الدال ومع كسر تاء ﴿الطاغوت﴾.
٨ - وقرأ أبو العالية ويحيى ابن وثاب ﴿وعبد﴾ بضم العين والياء وفتح الدال من كسر تاء ﴿الطاغوت﴾، قال الزجاج: وهو جمع عبيد وعبد، مثل رغيف ورغف، وسرير وسرر، والمعنى: وجعل منهم عبيد الطاغوت.
٩ - وقرأ أبو عمران الجوني ومورق العجلي والنخعي: ﴿وعبد﴾ بضم العين وكسر الباء مخففة وفتح الدال مع ضم تاء ﴿الطاغوت﴾.
١٠ - وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء وعكرمة ﴿وعبد﴾ بفتح العين والدال وتشديد الباء مع نصب التاء ﴿الطاغوت﴾.
١١ - وقرأ الحسن وأبو مجلز وأبو نهيك ﴿وعبد﴾ بفتح العين والدال وسكون الباء خفيفة مع كسر تاء ﴿الطاغوت﴾.
١٢ - وقرأ قتادة وهذيل بن شرحبيل: ﴿وعبدة﴾ بفتح العين والباء والدال وتاء في اللفظ منصوبة بعد الدال ﴿الطواغيت﴾ بألف وواو وياء بعد الغين على الجمع.
١٣ - وقرأ الضحاك وعمرو بن دينار: ﴿وعبد﴾ بضم العين وفتح الباء والدال مع تخفيف الباء وكسر تاء ﴿الطاغوت﴾.
١٤ - وقرأ سعيد بن جبير والشعبي: ﴿وعبدة﴾ مثل حمزة إلا أنهما رفعا تاء ﴿الطاغوت﴾.
١٥ - وقرأ يحيى بن يعمر والجحدري: ﴿وعبد﴾ بفتح العين وضم الباء والدال مع كسر تاء ﴿الطاغوت﴾.
١٦ - وقرأ أبو الأشهب العطاردي: ﴿وعبد﴾ بضم العين وسكون الباء وفتح الدال مع كسر تاء ﴿الطاغوت﴾.
١٨ - وقرأ معاذ القارئ: ﴿وعابد﴾ مثل قراءة أبي هريرة، إلا أنه ضم لدال.
١٩ - وقرأ أبو حيوة: ﴿وعباد﴾ بتشديد الباء وبألف بعدها مع ضم العين فتح الدال.
٢٠ - وقرأ ابن حذلم وعمرو بن فائد ﴿وعباد﴾ مثل أبي حيوة إلا أن العين مفتوحة والدال مضمومة. وهذه القراءة كلها شاذة إلا الأوليين كما مر. وقد سبق ذكر الطاغوت في سورة البقرة، وفي المراد به ما هنا قولان، أحدهما: الأصنام والثاني: الشيطان، ذكره ابن الجوزي في تفسيره.
﴿أُولَئِكَ﴾ الملعونون الممسوخون ﴿شَرٌّ مَكَانًا﴾؛ أي: أقبح مكانًا ومستقرًا من المؤمنين في الآخرة لأنَّ مكانهم سقر، ولا مكان أشدّ شرًّا منه، أو المعنى: أولئك الملعونون المغضوب عليهم المجعول منهم القردة والخنازير، العابدون الطاغوت شر مكانًا من غيرهم من الكفرة الذين لم يجمعوا بين هذه الخصال الذميمة ﴿وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾؛ أي: أكثرهم ضلالًا عن الطريق المستقيم وقصده ووسطه الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، ومثلًا هؤلاء لا يحملهم على الاستهزاء بدين المسلمين وبصلاتهم وأذانهم إلا الجهل وعمى البصيرة. قال ابن كثير: والمعنى يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا الذي هو توحيد الله، وإفراده بالعبادة دون ما سواه، كيف يصدر منكم هذا وأنتم قد وجد منكم جميع ما ذكر؟!. قال القرطبي: ولما نزلت هذه الآية عيَّر المسلمون اليهود، وقالوا لهم: يا إخوان القردة والخنازير، فسكتوا ونكسوا رؤوسهم افتضاحًا وفيهم يقول الشاعر:
فلَعْنَةُ اللهِ عَلَى اليَهُوْدِ | إِنَّ اليَهُوْدَ إِخْوَةُ القُرُوْدِ |
وفي قوله: ﴿وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ﴾ تأكيد لكونهم حين الخروج كما هم حين الدخول، واحتيج إليه لمجيئه على خلاف المعروف؛ لأنَّ من كان يجالس الرسول - ﷺ - وأصحابه يسمع منه العلم والحكمة، ويرى من أحاسن أخلاقه ما يؤثر في القلوب ويلين قاسيها.. يرجع عن سوء عقيدته، وتصفو نفسه من كدوراتها؛ إلا إذا كان متعنتًا مخادعًا، فإن الذكرى لا تنفعه والعظات والزواجر لا تؤثر فيه.
وقد كان الرجل يجيء إلى النبي - ﷺ - يريد قتله حتى إذا رآه سمع كلامه.. انجابت عن قلبه ظلمات الكفر والفسوق، وآمن به وأحبه، وما شذ هؤلاء إلا لسوء نيتهم وفساد طويتهم، وذلك ما صرف قلوبهم عن التذكر والاعتبار، ووجه هممهم إلى الكيد والخداع، فلم يكن لديهم عقول تعي وتفقه مغزى الحكم والآداب.
٦٢ - ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ﴾؛ أي: وترى يا محمد كثيرًا من هؤلاء اليهود الذين اتخذوا دينك هزوًا ولعبًا ﴿يُسَارِعُونَ﴾ ويبادرون ﴿فِي الْإِثْمِ﴾ والشرك والمعاصي ﴿وَالْعُدْوَانِ﴾ أي الظلم والتعدي على الناس وتجاوز الحدود التي ضربها الله للناس
٦٣ - ﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ﴾ وكلمة لولا حرف تحضيض وتوبيخ لعلمائهم وعبادهم على تركهم النهي عن المنكر؛ أي: هلا يمنعهم الربانيون؛ أي: السياسيون الذين هم أئمتهم في التربية والسياسة أو العباد ﴿وَالْأَحْبَارُ﴾؛ أي: العلماء في الدين؛ أي: هلا ينهى هؤلاء الذين يسارعون فيما ذكر من المعاصي عبادهم وعلماؤهم ﴿عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ﴾؛ أي: الشرك والكذب ﴿و﴾ عن ﴿أكلهم﴾ وأخذهم ﴿السُّحْتَ﴾ والحرام والله ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقبح شيئًا كان الربانيون والأحبار يصنعونه من الرضى بهذه الأوزار والخطايا، وتركهم فريضة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر مع علمهم بقبحهما ومشاهدتهم لمباشرتهم لهما.
روي عن ابن عباس أنَّه قال: ما في القرآن آية أشد توبيخًا من هذه الآية.
وقال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها، يريد ابن عباس أنها حجة على العلماء، إذا هم قصروا في الهداية والإرشاد، وتركوا النهي عن الشرور والآثان التي تفسد نظم الحياة للفرد والمجتمع، فحق على العلماء والحاكم أن يعتبروا بهذا النعي على اليهود، ساسة وعلماء ومر بين فيزدجروا ويعلموا أن هذه موعظة وذكرى لهم إن نفعت الذكرى. فقوله: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ أبلغ من قوله: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ لأن (١) العمل لا يبلغ درجة الصنع حتى يتدرب فيه
وَهَل أفْسَدَ الدِّيْنَ إِلَّا المُلُوْ | كَ وَأَحْبَارُ سُوْءٍ وَرُهْبَانُهَا |
الإعراب
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: ﴿يا﴾: حرف نداء. ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة. ﴿ها﴾: حرف تنبيه زائد، وجملة النداء مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع صفة لـ ﴿أي﴾. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿لَا تَتَّخِذُوا﴾:
﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (٥٢)﴾.
﴿فَتَرَى﴾: (الفاء) (١): إمَّا للسببية المحضة، أي: بسبب ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ المتصفين بما ذكر ترى الذين.. إلخ. أو للعطف على قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي﴾... إلخ من حيث المعنى اهـ. كرخي. ﴿ترى﴾: فعل مضارع وهي بصرية، وفاعله ضمير يعود على محمد أو على أي مخاطب، والجملة مستأنفة أو معطوفة على ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به. ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه خبر مقدم. ﴿مَرَضٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية صلة الموصول. ﴿يُسَارِعُونَ﴾: فعل
﴿وَيَقُولُ﴾: (الواو): استئنافية. ﴿يَقُولُ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل والجملة مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿أَهَؤُلَاءِ﴾: إلى قوله: ﴿إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ﴾: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿أَهَؤُلَاءِ﴾: (الهمزة): للاستفهام التعجبي. ﴿هؤلاء﴾: مبتدأ. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع خبر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ ﴿يقول﴾. ﴿أَقْسَمُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿بِاللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَقْسَمُوا﴾. ﴿جَهْدَ﴾: منصوب على المصدرية؛ أي: أقسموا إقسام اجتهاد اليمين، أو منصوب على الحالية؛ أي: مجتهدين في أيمانهم ذكره أبو السعود وهو مضاف. ﴿أَيْمَانِهِمْ﴾: مضاف إليه. ﴿إِنَّهُمْ﴾ (إن): حرف نصب. والهاء اسمها. ﴿لَمَعَكُمْ﴾: (اللام): حرف ابتداء. ﴿معكم﴾: ظرف ومضاف إليه خبر إنَّ، وجملة (إنَّ): جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب، لأنَّها تفسير وحكاية المعنى ﴿أَقْسَمُوا﴾ لكن لا بألفاظهم وإلا لقيل إنا معكم. ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، لأنَّها من كلام الرب. ﴿فَأَصْبَحُوا﴾. (الفاء): عاطفة تفريعية. ﴿أَصْبَحُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿خَاسِرِينَ﴾: خبر أصبح والجملة معطوفة على جملة ﴿حَبِطَتْ﴾.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ﴾.
﴿يَاأَيُّهَا﴾: (يا): حرف نداء. (أي): منادى نكرة مقصودة. (ها): حرف تنبيه زائد، زيدت تعويضًا عما فات، أي: من الإضافة، وجملة النداء مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع صفة لأي. ﴿آمَنُوا﴾. فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿مَنْ يَرْتَدَّ﴾: من اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما. ﴿يَرْتَدَّ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ وعلامة جزمه سكون مقدر، منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين، وكانت فتحة للخفة، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ ﴿مِنْكُمْ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿يَرْتَدَّ﴾. ﴿عَنْ دِينِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق
﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.
﴿يُحِبُّهُمْ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾ والجملة في محل الجر صفة لـ ﴿قَوْمٍ﴾ ﴿وَيُحِبُّونَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿يُحِبُّهُمْ﴾. ﴿أَذِلَّةٍ﴾ صفة ثانية لـ ﴿قوم﴾ ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ جار ومجرور متعلق به. ﴿أَعِزَّةٍ﴾ صفة ثالثة لـ ﴿قَوْمٍ﴾ ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ متعلق به. ﴿يُجَاهِدُونَ﴾ فعل وفاعل. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به؛ والجملة في محل الجر صفة رابعة لـ ﴿قوم﴾ أو في محل النصب حال من الضمير المستتر في ﴿أَعِزَّةٍ﴾ أو مستأنفة ﴿وَلَا يَخَافُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يُجَاهِدُونَ﴾. ﴿لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾: مفعول به ومضاف إليه ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ ﴿فَضْلُ اللَّهِ﴾ خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة ﴿يُؤْتِيهِ﴾: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ثانٍ لأتى لأنه بمعنى أعطى والجملة الفعلية في محل النصب حال من الجلالة، وجملة ﴿يَشَاءُ﴾ صلة من الموصول، والعائد ضمير محذوف تقديره: من يشاؤه. ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ ﴿وَاسِعٌ﴾ خبر أول ﴿عَلِيمٌ﴾ خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة.
﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾.
﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر. ﴿وَلِيُّكُمُ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿اللَّهُ﴾ خبر. ﴿وَرَسُولُهُ﴾: معطوف عليه. وكذلك ﴿وَالَّذِينَ﴾ معطوف عليه. ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول، والجملة الاسمية مستأنفة. {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ
﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (٥٦)﴾.
﴿وَمَن﴾: (الواو): استئنافية. ﴿من﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما. ﴿يَتَوَلَّ اللَّهَ﴾: فعل ومفعول مجزوم بـ ﴿من﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ﴾: معطوفان على الجلالة، وجملة ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول. ﴿فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ﴾: (الفاء): رابطة لجواب من الشرطية وجوبًا. ﴿إنَّ﴾: حرف نصب. ﴿حِزْبَ اللَّهِ﴾: اسمها ومضاف إليه. ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل. ﴿الْغَالِبُونَ﴾: خبر ﴿إنَّ﴾ وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل الجزم بمن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وجملة النداء مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ (أي). ﴿آمَنُوا﴾: صلته. ﴿لَا تَتَّخِذُوا﴾: جازم وفعل وفاعل والجملة جواب النداء
﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (٥٨)﴾.
﴿وَإِذَا﴾: (الواو): عاطفة، (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿نَادَيْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها. ﴿إِلَى الصَّلَاة﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿نَادَيْتُمْ﴾. ﴿اتَّخَذُوهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿هُزُوًا﴾: مفعول ثان. ﴿وَلَعِبًا﴾: معطوف عليه، والجملة جواب (إذا) لا محل لها من الإعراب، وجملة (إذا) من فعل شرطها وجوابها معطوفة على جملة قوله: ﴿اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا﴾ على كونها صلة الموصول والتقدير: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا، والذين إذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوًا ولعبًا. ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ (الباء): حرف جر، (أنَّ): حرف نصب، والهاء: اسمها. ﴿قَوْمٌ﴾: خبرها، وجملة ﴿لَا يَعْقِلُونَ﴾ صفة لقوم، وجملة أن في تأويل مصدر مجرور بالباء والتقدير: بسبب كونهم قومًا لا يعقلون، والجار والمجرور خبر لذلك؛ أي: ذلك كائن بسبب عدم عقلهم.
﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (٥٩)﴾.
﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (٦٠)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإنْ شئت قلت: ﴿هَلْ﴾: حرف للاستفهام التهكمي. ﴿أُنَبِّئُكُمْ﴾: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿بِشَرٍّ﴾: جار ومجرور في محل النصب مفعول ثان لنبأ، وهو هنا يتعدى إلى مفعولين فقط؛ لأنه بمعنى عرف. ﴿مِنْ ذَلِكَ﴾: جار ومجرور متعلق ﴿بِشَرٍّ﴾. ﴿مَثُوبَةً﴾: تمييز لشر منصوب به، والظاهر (١) أنَّه من تمييز النسبة للمفرد؛ لأن
وَالْفَاعِلَ الْمَعْنَي انْصِبَنْ بِأفْعَلاَ | مُفَضِّلًا كَأنْتَ أَعْلَى مَنْزِلًا |
﴿وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (٦١)﴾.
﴿وَإِذَا﴾: (الواو): استئنافية. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿جَاءُوكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الخفض بإضافة (إذا) إليها،
﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢)﴾.
﴿وَتَرَى﴾: (الواو): استئنافية، (ترى): فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿كَثِيرًا﴾: مفعول به لـ (ترى)؛ لأنَّ ترى هنا بصرية تتعدى إلى مفعول واحد، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿كَثِيرًا﴾. ﴿يُسَارِعُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿فِي الْإِثْمِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿كَثِيرًا﴾ أو صفة ثانية له، ومفعول ثان لـ (ترى) إن قلنا إنها علمية، والأول أنسب بالمقام كما في "الجمل". ﴿وَالْعُدْوَانِ﴾: معطوف على ﴿الْإِثْمِ﴾. وكذا قوله: ﴿وَأَكْلِهِمُ﴾ معطوف على ﴿الْإِثْمِ﴾ وهو من إضافة المصدر إلى فاعله. ﴿السُّحْتَ﴾: مفعوله. ﴿لَبِئْسَ﴾ (اللام): موطئة للقسم. (بئس): فعل ماض من أفعال الذم، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا تقديره: هو، يفسره التمييز المذكور بعده. ﴿مَا﴾: نكرة موصوفة في محل النصب على التمييز. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾: خبره، وجملة كان صفة لما والرابط محذوف تقديره: يعملونه، والتقدير: لبئس هو؛ أي: عملهم من جهة كونه شيئًا
وَ (مَا) مُمَيَّزٌ وَقِيْلَ فَاعِلُ... في نَحْوِ: نِعْمَ مَا يَقُوْلُ الْفَاضِلُ
وجملة (بئس) جواب لقسم محذوف لا محل لها من الإعراب.
﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣)﴾.
﴿لَوْلَا﴾: حرف تخضيض وتوبيخ. ﴿يَنْهَاهُمُ﴾: فعل ومفعول ﴿الرَّبَّانِيُّونَ﴾: فاعل. ﴿وَالْأَحْبَارُ﴾: معطوف عليه والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿عَنْ قَوْلِهِم﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَنْهَاهُمُ﴾، وهو مصدر مضاف إلى فاعله. ﴿الْإِثْمَ﴾: مفعوله. ﴿وَأَكْلِهِمُ﴾: معطوف على ﴿قَوْلِهِمُ﴾ وهو أيضًا مصدر مضاف إلى فاعله. ﴿السُّحْتَ﴾ مفعوله. ﴿لَبِئْسَ﴾: (اللام): موطئة للقسم. (بئس): فعل ماض. ﴿مَا﴾: اسم معرفة في محل الرفع فاعل، وجملة ﴿كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾: صفة لمخصوص محذوف أيضًا، والتقدير: لبئس الشيء شيئًا شيء كانوا يصنعونه.
التصريف ومفردات اللغة
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾. الأولياء جمع ولي، كأصفياء جمع صفي في الولاية، والمراد بالولاية هنا ولاية التناصر والمحالفة على المؤمنين، ومن ضرورة موالاة بعضهم لبعض اجتماع الكل على مضارتكم، فكيف يتصور بينكم وبينهم موالاة. ﴿نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾ والدائرة ما يدور به الزمان من المصائب والدواهي التي تحيط بالمرء إحاطة الدائرة بما فيها، والدائرة من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها. وقال ابن حيان: الدائرة واحدة الدوائر وهي: صروف الدهر ودوله ونوازله، وقال الشاعر:
وَيعْلَمُ أَنَ الدَّائِرَاتِ تَدُوْرُ
انتهى.
﴿هُزُوًا وَلَعِبًا﴾ يقال: هزىء بفلان ومنه هَزْءًا وهُزْءًا وهُزُءًا إذا سخر به، والهزؤ أيضًا ما يهزء منه، يقال: هو هزءة بين الناس؛ أي: يهزأون ويسخرون منه، واللعب معروف وهو مصدر على غير قياس، وفعله لعب يلعب ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ والنداء الدعاء برفع الصوت، وناداه مناداة ونداء إذا صاح به، وتنادوا؛ أي: نادى بعضهم بعضًا وتنادوا؛ أي: جلسوا في النادي.
﴿هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا﴾ وفي نقم لغتان: الفصحى وهي التي حكاها ثعلب في فصيحه، نقم بفتح القاف ينقم بكسرها، والأخرى: نقم بكسر القاف ينقم بفتحها، قال الكسائي: نقمت بالكسر لغة ونقمت الأمر أيضًا، يقال: نقمت إذا كرهته، وانتقم منه إذا عاقبه، والاسم منه النقمة والجمع نقمات مثل كلمة وكلمات، وإن شئت سكنت القاف ونقلت حركتها إلى النون، والجمع نقم مثل نعمة ونعم. ﴿مَثُوبَةً﴾ المثوبة بسكون الثاء المثلثة مع فتح الميم والواو، والمثوبة بضم الثاء مع سكون الواو الجزاء على الأعمال خيرها وشرها، وأكثر استعماله في الخير من ثاب إذا رجع ﴿وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ﴾ القردة جمع قرد بكسر أوله وسكون
لِفَعَلَ اسْمًا صَحَّ عَيْنًا أَفْعَلُ | وَلِلرُّبَاعِيِّ اسْمًا أيْضًا يُجْعَلُ |
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: منها: الإجمال الذي أريد به التفصيل في قوله: ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾؛ لأن المعنى: بعض اليهود أولياء بعض، وبعض النصارى أولياء بعض، لأن اليهود ليسوا أولياء النصارى، ولا النصارى أولياء اليهود لما بينهم من المعاداة، وإنَّما أوثر الإجمال تعويلًا على ظهور المراد لوضوح انتفاء الموالاة بين الفريقين رأسًا.
ومنها: التأكيد بقوله: ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾، لأنها جملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهي، ولتأكيد إيجاب الاجتناب المستفاد من النهي.
ومنها: المبالغة في الزجر في قوله: ﴿فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ لأن المرض حقيقة فيما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال اللائق به، ويوجب الخلل في أفعاله، وقد يؤدي إلى الموت، استعير هنا لما في قلوبهم من الجهل وسوء العقيدة، وعداوة النبي - ﷺ -، وغير ذلك من فنون الكفر المؤدية إلى الهلاك الروحاني.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿يُسَارِعُونَ﴾. لأن المسارعة حقيقة في الأجسام، وهي هنا كناية عن تنقل قلوبهم من بعض مراتب رغبة موالاتهم إلى بعض آخر.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿دَائِرَةٌ﴾ لأنها حقيقة في الشيء الذي يحيط بغيره، استعيرت لما يقع بهم من مصائب الدهر.
ومنها: التقسيم في قوله: ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ﴾.
ومنها: الاستفهام التعجبي في قوله: ﴿أهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ وفي قوله: ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ لأن فيه معنى التعجب إن كان من كلام المؤمنين، كأنه قيل: ما أحبط أعمالهم، أو فيه تعجيب للسامعين من حبوط أعمالهم إن كان من كلام الله تعالى.
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾.
ومنها: الطباق بين لفظي: ﴿أَذِلَّةٍ﴾ و ﴿أَعِزَّةٍ﴾ في قوله: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ لأنه من المحسنات البديعية.
ومنها: التعريض في قوله: ﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾ فإن فيه تعريضًا بذم المنافقين فإنهم كانوا إذا خرجوا في جيش المسلمين خافوا أولياءهم اليهود، فلا يكادون يعملون شيئًا يلحقهم فيه لوم من جهتهم، وفي تنكير لومة ولائم مبالغة لا تخفى، لأن اللومة المرة من اللوم.
ومنها: دفع الإيهام في قوله: ﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ لأنه لما قال: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ أوهم أنهم أذلاء محقرون مهانون، فدفع ذلك الإيهام بقوله: ﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾؛ أي: متغلبين عليهم.
ومنها: الوصف بالجملة الفعلية في جانب المحبة في قوله: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ لإفادة التجدد والحدوث، لأن الفعل يدل عليهما، وهو مناسب بالمقام، لأن
ومنها: الوصف بالاسم الدال على المبالغة في جانب التواضع للمؤمنين والغلظة على الكافرين دلالة على ثبوت ذلك واستقراره، فإنه عريق فيهم. ومنها التهييج في قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.
ومنها: تأكيد المدح بما يشبه الذم وبالعكس في قوله: ﴿هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ...﴾ إلخ فقد جعلوا التمسك بالإيمان موجبًا للإنكار والنقمة، مع أن الأمر بالعكس.
ومنها: الاستفهام التهكمي في: ﴿هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا﴾ وفي قوله: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ﴾ حيث استعملت المثوبة في العقوبة.
ومنها: المشاكلة في قوله: ﴿أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا﴾ لأنه في مشاكلة قولهم: لا نعلم دينًا شرًّا من دينكم.
ومنها: التخضيض والتوبيخ في قوله: ﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ﴾؛ لأنَّه
تحضيض لعلمائهم على النهي عن ذلك، وتوبيخ لهم على تركهم النهي، لأن لولا إذا دخلت على الماض أفادت التوبيخ، وإذا دخلت على المستقبل أفادت التحضيض كما ذكره "البيضاوي".
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (٦٦) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٦٧) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (٧١)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر في الآيات السالفة بعض مخازيهم من مسارعتهم في الإثم والعدوان، وأكل السحت إلى نحو أولئك مما اختلت به نظم المجتمع في الأفراد والجماعات، فأصبحوا قومًا أنانيين، همة كل واحد منهم جمع المال واكتسابه على أي صورة كان، وبأي وجه جمع، وقد أثر هذا في أخلاقهم وأعمالهم أشد الأثر كما تشهد بذلك كتب دينهم.. ذكر هنا أفظع مخازيهم، وأقبحها بجرأتهم على ربهم، ووصفهم إياه بما ليس من صفته وإنكارهم جميع أياديه عندهم، وكثرة صفحه عنهم وعفوه عن عظيم جرمهم، توبيخًا لهم وتعريفًا
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ...﴾ الآية، سبب نزولها (١): ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود يقال له النباش بن قيس: إن ربك بخيل لا ينفق، فأنزل الله: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾. الآية. وأخرج أبو الشيخ من وجه آخر عنه قال: نزلت آية: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾: في فنحاص رأس يهود بني قينقاع.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ...﴾ الآية، سبب نزولها (٢): ما أخرجه أبو الشيخ عن الحسن أن رسول الله - ﷺ - قال: "إن الله بعثني برسالة فضقت بها ذرعًا، وعرفت أن الناس مكذبي فوعدني لأبلغن أو ليعذبني" فأنزلت ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ قال: كيف أصنع وأنا وحدي يجتمعون علي؟ فنزلت: ﴿وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾. أخرج الحاكم والترمذي عن عائشة رضي الله عنه قالت: كان النبي - ﷺ - يحرس حتى نزلت هذه الآية: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ فأخرج رأسه من القبة فقال: "يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله". وأخرج الطبراني عن أبي سعيد الخدري قال: كان العباس عم رسول الله - ﷺ - فيمن يحرسه فلما نزلت: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ فترك الحرس، وأخرج أيضًا عن عصمة بن مالك الخطمي قال: كنا نحرس رسول الله - ﷺ - بالليل حتى نزلت: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ فترك الحرس.
وأخرج ابن حبان في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا إذا أصبحنا ورسول الله - ﷺ - في سفر.. تركنا له أعظم شجرة وأظلها، فينزل تحتها، فنزل ذات يوم تحت الشجرة وعلق سيفه فيها، فجاء رجل فأخذه وقال: يا محمَّد من يمنعك مني؟ فقال رسول الله - ﷺ -: "الله يمنعني منك، ضع السيف"، فوضعه
(٢) لباب النقول.
قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ...﴾ الآية، روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رافع وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف، فقالوا: يا محمَّد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا؟ قال: "بلى ولكنكم أحدثتم وجحدتم بما فيها، وكتمتم ما أمرتم أن تبينوه للناس" قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا فأعنا على الهدى والحق، فأنزل الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ﴾ الآية.
التفسير وأوجه القراءة
٦٤ - ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾؛ أي: مقبوضة عن العطاء، بخيلة عن أن تنفق. واليد (١) عند العرب تطلق على الجارحة، ومنه قوله تعالى: ﴿وَخُذ بِيَدِكَ ضِغثًا﴾ وعلى النعمة، ومنه قولهم كم يد لي عند فلان، وعلى القدرة، ومنه قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ﴾ وعلى التأييد ومنه قوله - ﷺ -: "يد الله مع القاضي حين يقضي"، وتطلق على معانٍ أخر. وهذه الآية على طريق التمثيل كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾ والعرب تطلق غل اليد على البخل، وبسطها على الجود مجازًا ولا يريدون الجارحة كما يصفون البخيل بأنه جعد الأنامل ومقبوض الكف ومنه قول الشاعر:
كَانَتْ خُرَاسَانُ أرْضًا إِذْ يَزِيْدُ بِهَا | وَكُلُّ بَابٍ مِنَ الْخَيْرَاتِ مَفْتُوْحُ |
فَاسْتَبْدَلَتْ بَعْدَهُ جَعْدًا أناملُهُ | كَأنَّمَا وَجْهُهُ بِالْخَلِّ مَنْضُوْحُ |
(٢) الخازن.
ثم رد الله سبحانه وتعالى عليهم ما قالوه، وأثبت لنفسه غاية الجود وسعة العطاء، وأن كل ما في العالم من خير هو سجل من ذلك الجود فقال: ﴿بَلْ يَدَاهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مَبْسُوطَتَانِ﴾ لا مقبوضتان ﴿يُنْفِقُ﴾ ويعطي ﴿كَيْفَ يَشَاءُ﴾ ويريد من بسط وتضييق لمن يشاء؛ أي: بل هو الجواد المتصرف وفق حكمته وسننه في الاجتماع وتقتير الرزق على بعض العباد، لا ينافي سعة الجود وسريانه في كل الوجود، فإن له سبحانه الإرادة والمشيئة في تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق بحسب السنن التي أقام بها نظام الخلق، فإن شاء وسع وإن شاء قتر، فهو الباسط القابض، فإن قبض كان ذلك لما تقتضيه حكمته الباهرة، لا لشيء آخر، فإن خزائن ملكه لا تفنى ومواد جوده لا تتناهى، وعبر عن سعة الجود ببسط اليدين، لأن الجواد السخي إذا أراد أن يبالغ في العطاء جهد استطاعته يعطي بكلتا يديه، كما قال الأعشى يمدح جوادًا:
يَدَاكَ يَدَا جُوْدٍ فَكَفٌّ مُفِيْدَةٌ | وَكَفٌّ إِذَا مَا ضُنَّ بالزَّاد تُنْفِقُ |
فصل: في يد الله سبحانه وتعالى
وأما الكلام في اليد: فقد اختلف العلماء في معناها على قولين: أحدهما: وهو مذهب جمهور السلف وعلماء أهل السنة وبعض المتكلمين وهو الذي نلقى عليه الرب جل جلاله، أن يد الله صفة من صفات ذاته، كالسمع والبصر والوجه، فيجب علينا الإيمان بها، والإذعان والتسليم بها، ونمرها كما جاءت في الكتاب والسنة، بلا كيف ولا تشبيه، ولا تعطيل. قال تعالى: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ وقال النبي - ﷺ -:"إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين".
والقول الثاني: قول أهل التأويل، فإنهم قالوا: اليد تذكر في اللغة على وجوه:
١ - الجارحة وهي معلومة.
٢ - النعمة، يقال: لفلان عندي يد أشكره عليها.
٣ - القدرة، قال الله تعالى: ﴿أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ﴾ فسروه بذوي القوى والعقول، ويقال: لا يد لك بهذا الأمر، والمعنى: سلب كمال القدرة.
٤ - الملك يقال: هذه الضيعة في يد فلان؛ أي: في ملكه، ومنه قوله تعالى: ﴿الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾؛ أي: يملك ذلك، أما الجارحة.. فمنتفية في صفة الله عَزَّ وَجَلَّ، لأن العقل دل على أنه يمتنع أن تكون يد الله عبارة عن جسم مخصوص وعضو مركب من الأجزاء والأبعاض، تعالى الله عن الجسمية والكيفية والتشبيه علوًّا كبيرًا، فامتنع بذلك أن تكون يد الله بمعنى الجارحة، وأما سائر المعاني التي فسرت بها اليد.. فحاصلة، لأن أكثر العلماء من المتكلمين زعموا أن اليد في حق الله عبارة عن القدرة، وعن الملك، وعن النعمة، وهاهنا إشكالان:
أحدهما: أن اليد إذا فسرت بمعنى القدرة.. فقدرة الله واحدة، ونص القرآن وكذا الحديث السابق آنفًا ناطق بإثبات اليدين للرحمن في قوله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾.
ونقل الإِمام الفخر الرازي عن أبي الحسن الأشعري قولًا: إن اليد صفة قائمة بذات الله تعالى، وهي صفة سوى القدرة، من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء، قال: والذي يدل عليه أنه تعالى جعل وقوع خلق آدم بيديه على سبيل الكرامة لآدم، واصطفائه له، فلو كانت اليد عبارة عن القدرة.. امتنع كون آدم مصطفى بذلك، لأن ذلك حاصل في جميع المخلوقات، فلا بدّ من إثبات صفة أخرى وراء القدرة، يقع بها الخلق والتكوين على سبيل الاصطفاء، هذا آخر كلامه، فثبت بهذا البيان قول من قال: إن اليد صفة ثابتة لله تعالى، تليق بجلاله وأنها ليست بجارحة كما تقول المجسمة تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا، ولا بقدرة ولا نعمة ولا ملك كما يقول المؤولون والله سبحانه وتعالى أعلم بكنه ذاته وصفاته ﴿يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾؛ يعني: أنه تعالى يرزق كما يريد ويختار، فيوسع على من يشاء، ويقتر على من يشاء، لا اعتراض عليه في ملكه، ولا فيما يفعله، وهذا تأكيد للوصف بالسخاء، وأنه لا ينفق إلا على ما تقتضيه مشيئته، ولا موضع لقوله ﴿يُنْفِقُ﴾ من الإعراب، إذ هي جملة مستأنفة كما سيأتي في مبحث الإعراب. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - ﷺ - قال: "قال الله تبارك وتعالى: أنفق أنفق عليك" وقال: "يد الله ملأى لا تفيضها نفقة سخاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنَّه لم ينقص ما بيده، وكان عرشه على الماء، وبيده الميزان، يرفع ويخفض"، متفق عليه. وهذا الحديث أيضًا أحد أحاديث الصفات فيجب الإيمان به، وإمراره كما جاء من غير تشبيه ولا تكييف ولا تعطيل.
لَوْ عَصرْنَا مِنْهُ البَا | نَ وَالْمِسْكَ انْعَصَرْ |
﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي ليزيدن كثيرًا من اليهود والنصارى ﴿مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ من القرآن المشتمل على هذه الأحكام الحسنة ﴿طُغْيَانًا﴾؛ أي: تماديًا على الطغيان والضلال ﴿وَكُفْرًا﴾؛ أي: ثباتًا على الكفر والشرك، والمراد بالكثير منهم علماؤهم ورؤوساؤهم، وإنما قيد بالكثير لأن منهم من آمن، ومن لا يزداد إلا طغيانًا، وهذا الإعلام بالرسول - ﷺ - بفرط عتوهم؛ أي: ليزيدن طغيانًا إلى طغيانهم، وكفرًا إلى كفرهم بما يسمعون من القرآن، كما يزداد المريض مرضًا من تناول الغذاء الصالح للأصحاء، ؛ لأنهم كلما نزلت آية من القرآن كفروا بها، فازدادوا شدة في كفرهم وطغيانًا مع طغيانهم.
والمعنى (٢): أنَّ هذا الذي أنزلناه عليك أيها النبي من خفي أمور هؤلاء اليهود المعاصرين لك، ومن أحوال سلفهم وشؤون كتبهم وحقائق تاريخهم، هو من أعظم الأدلة على نبوتك، وكان ينبغي أن يجذبهم إلى الإيمان بك، إذ لولا النبوة والوحي ما علمت من هذا شيئًا، فلا تعرف الماضي لأنك أمي لم تقرأ الكتب، ولا تعرف الحاضر من مكرهم الخفي وكيدهم السري، لكنهم لطغيانهم وتجاوزهم الحدود في الكفر والحسد للعرب لم يجذبهم ذلك الإيمان، ولم يقربه إلا قليلًا منهم، ووالله ليزيدن ذلك كثيرًا منهم طغيانًا في بغضك، وعدواتك، وكفرًا بما جئت به.
وقال قتادة: حملهم حسد محمَّد - ﷺ - والعرب على أن تركوا القرآن وكفروا
(٢) المراغي.
﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ فهي لا تنقطع أبدًا واليهود مع كونهم المديرين لأعظم الأعمال المالية، ولهم النفوذ والتأثير في السياسة وسائر شؤون الاجتماع، مبغوضون لجماهير النصارى، وقيل: ألقى ذلك بين طوائف اليهود، فجعلهم مختلفين في دينهم متعادين متباغضين إلى يوم القيامة، فكل فرقة من اليهود تخالف الأخرى فلا يكاد تتوافق قلوبهم ولا تتطابق أَقوالهم، فإن اليهود فرق، فإن بعضهم جبرية، وبعضهم قدرية، وبعضهم مرجئة، وبعضهم مشبهة، وكذا النصارى فرق، كالملكانية، والنسطورية، واليعقوبية، والماردانية.
فإن قلت: فهذا (١) المعنى أيضًا حاصل بين فرق المسلمين فكيف يكون ذلك عيبًا على اليهود والنصارى حتى يذموا به؟.
قلت: هذه البدع التي حصلت في المسلمين إنما حدثت بعد عصر النبي - ﷺ - وعصر الصحابة والتابعين. أما في الصدر الأول فلم يكن شيء من ذلك حاصلًا بينهم، فحسن جعل ذلك عيبًا على اليهود والنصارى في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن على رسول الله - ﷺ -.
﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا﴾ وأشعلوا ﴿نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ﴾ وأخمدها سبحانه وتعالى؛ أي: كلما هموا بالكيد للرسول والمؤمنين الصادقين.. خذلهم الله تعالى، وهم إما يخيبوا في سعيهم، ولا يتم لهم ما أرادوا من الإغراء والتحريض، وإما أن ينصر الله رسوله والمؤمنين.
يعني كلما (٢) أفسد اليهود وخالفوا حكم الله.. يبعث الله عليهم من يهلكهم، أفسدوا أولًا فبعث الله عليهم بختنصر البابلي، ثم أفسدوا فبعث الله
(٢) الخازن.
وكذلك عداوة النصارى للمسلمين كانت سياسية، وكانت على أشدها بينهم وبين الروم المستعمرين للبلاد المجاورة للحجاز، كالشام ومصر، وكان نصارى البلاد أقرب ميلًا إلى المسلمين بعد أن وثقوا بعدلهم، وزال عنهم ظلم الروم، مع كونهم من أهل دينهم، وقد جرت العادة أن الناس يتبعون في العداوة أو المودة ما تمليه عليهم منافعهم ومصالحهم ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾؛ أي: سعي فساد؛ أي: يجتهدون ويفعلون في الأرض فعل فساد؛ أي: يجتهدون في الكيد والمكر للإسلام وأهله، وإثارة الفتنة بينهم وفي تعويق الناس عن محمَّد - ﷺ - وليس يقدرون على غير ذلك؛ أي: إن ما يأتونه من عداوة النبي - ﷺ - والمؤمنين وإيقاد الفتن والحروب، لم يكن بقصد الإصلاح للأخلاق وشؤون العمران والاجتماع، بل
ومن ثم أبطل سبحانه وتعالى كل ما كاده أولئك القوم للنبي - ﷺ - والعرب والإِسلام، وأصلح بالإِسلام ما كانوا خربوه من البلاد، ونصر المسلمين على كل من ناوأهم، وكذلك هم تركوا التوراة والإنجيل، وهما قد أنزلا لهداية الناس إلى الصلاح والإصلاح، فزال ملكهم وسلط الله عليهم غيرهم. قال قتادة: لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس فيها،
٦٥ - وهم أبغض خلق الله إليه ثم ندمهم على سوء أعمالهم فقال: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ اليهود والنصارى ﴿آمَنُوا﴾ باللهِ وبرسوله محمَّد - ﷺ - وبما جاء به ﴿وَاتَّقَوْا﴾ ما كانوا يتعاطونه من المآثم والمحارم، أو اجتنبوا من اليهودية والنصرانية ﴿لَكَفَّرْنَا﴾ وسترنا ﴿عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ وذنوبهم التي اقترفوها وعملوها قبل الإِسلام، ومحوناها عنهم ولم نفضحهم بها، لأن الإِسلام يجب ما قبله، ﴿وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾؛ أي: ولأدخلناهم مع سائر المسلمين في الآخرة بساتين يتنعمون بها مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فالكتابي لا يدخل الجنة ولا يرفع عنه العقاب ما لم يسلم، والإِسلام يجبّ ما قبله كما مرّ آنفًا.
وفي ذلك إعلام (١) من الله سبحانه وتعالى بعظم معاصي اليهود والنصارى، وكثرة سيئاتهم، ودلالة على سعة رحمته، وفتحه باب التوبة لكل عاصٍ، وإن عظمت معاصيه، وبلغت مبلغ سيئات اليهود والنصارى، وإخبارها بأن الإيمان لا ينجي إلا إذا شفع وقرن بالتقوى، ومن ثم قال الحسن: هذا العمود فأين الأطناب.
٦٦ - ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ﴾؛ أي: أن أهل الكتاب ﴿أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ يعني (٢): أقاموا أحكامهما، بإذاعة ما فيهما وعملوا بما فيهما من الوفاء بالعهود، والتصديق
(٢) الخازن.
قلت: إنما أمرهم الله تعالى بإقامة ما فيهما من الإيمان بمحمد - ﷺ - واتباع شريعته، وهذا غير منسوخ.. لأنه موافق لما في القرآن؛ أي: ولو أنهم أقاموا ما في التوراة والإنجيل المنزلين بنور التوحيد المبشرين بالنبي، الذي يأتي من أبناء إسماعيل، والذي قال فيه عيسى عليه السلام: إنه روح الحق الذي يعلمهم كل شيء (و) أقاموا (ما أنزل إليهم من ربهم) على هذا النبي الكريم الذي بشرت به كتبهم، وقيل المراد (١) به: كتب أنبيائهم القديمة، مثل كتاب شعياء وكتاب أرمياء، وزبور داود، وفي هذه الكتب أيضًا ذكر محمَّد - ﷺ -، فيكون المراد بإقامة هذه الكتب الإيمان بمحمد - ﷺ - ﴿لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾؛ أي: لوسع الله عليهم رزقهم، ولأعطتهم السماء مطرها وبركتها، والأرض نباتها وخيرها، كما قال تعالى: ﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ وهذه الجملة كناية عن المبالغة في السعة والخصب لا أن هناك فوقًا وتحتًا. والمعنى: لأكلوا أكلًا متصلًا كثيرًا، قيل هذا في أهل الكتاب القائلين يد الله مغلولة، الذين ضيق عليهم عقوبة لهم، فلا يرد كون كثير من المتقين العاملين في غاية الضيق، فالتوسع والتضييق ليسا من الإكرام والإهانة، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ﴾ إلى قوله: ﴿كَلَّا﴾؛ أي: إن الله يجعل ضيق الرزق كسعته نعمة في بعض عباده، ونقمة على آخرين، فلا يلزم من توسيع الرزق الإكرام، ولا من تضييقه الإهانة، اهـ كرخي. وفي هذا تنبيه إلى ما أصابهم من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم لا من قصور من فيض الله وعظيم عطائه، وإشارة إلى أنهم لو أقاموهما ما عاندوا النبي ذلك العناد، فالدين عندهم إنَّما كان أماني يتمنونها، وبدعًا وتقاليد يتوارثونها، فهم بين غلوّ وتقصير، وإفراط وتفريط، ثم ذكر أنهم ليسوا سواسية في أفعالهم وأقوالهم فقال: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ﴾؛ أي: من أهل الكتاب جماعة مستقيمة معتدلة في أمر دينها والعمل به من غير غلو ولا تقصير،
والمعتدلون لا تخلو منهم أمة، لكنهم يكثرون من طور صلاح الأمة وارتقائها، ويقلون في طور فسادها وانحلالها، ولا تهلك الأمم إلا بكثرة من يعمل السوء من أشرارها، وقلة من يعمل الصالحات من أخيارها، وهؤلاء المعتدلون هم السابقون إلى كل صلاح وإصلاح يقوم به المجددون من الأنبياء في مختلف العصور، ومن ثم قبل هذا الدين الجديد هؤلاء المقتصدون من أهل الكتاب ومن غيرهم، فكانوا مع إخوانهم العرب من المجددين للتوحيد والفضائل والآداب والمحبين للعلوم والفنون.
روى ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير أن رسول الله - ﷺ - قال: "يوشك أن يرفع العلم" قلت: كيف وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبنائنا؟ فقال: "ثكلتك أمك يا ابن نفير إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة أو ليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى، فما أغنى ذلك عنهم حين تركوا أمر الله ثم قرأ: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ الآية".
وأخرج أحمد وابن ماجه عن زياد بن لبيد قال: ذكر النبي - ﷺ - شيئًا فقال: "وذلك عند ذهاب العلم" قلنا: يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن
ومغزى هذا: أن العبرة في الأديان هو العمل بها، والاهتداء بهديها، وقد كان أهل الكتاب في ذلك العصر أبعد ما كانوا عن هداية دينهم مع شدة عصبيتهم الجنسية له، كما هو شأن المسلمين اليوم. وهذه الشهادة لبعض أهل الكتاب بالقصد والاعتدال لها نظائر في آيات أخرى كقوله تعالى: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩)﴾. وقوله: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ الآية.
٦٧ - ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾ الكريم والنبي الحليم محمد - ﷺ - ﴿بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾؛ أي: أوصل إلى الخلق جميع ما أنزل إليك ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾؛ أي: من مالك أمرك ومبلغك إلى كمالك مجاهرًا به، ولا تخش في ذلك أحدًا، ولا أن ينالك من ذلك مكروه أبدًا، ولا تترك شيئًا مما أنزل إليك من ربك ثم أكد ما سلف بقوله: ﴿وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ﴾؛ أي: وإن لم تفعل ما أمرت به من تبليغ جميع ما أنزل إليك، بأن أخفيت شيئًا من ذلك في وقت من الأوقات أو كتمته، ولو إلى حين خوفًا من الأذى بالقول أو بالفعل ﴿فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾؛ أي: رسالة ربك؛ أي: فحسبك جرمًا أنك ما بلغت الرسالة ولا قمت بما بعثت لأجله وهو تبليغ الناس ما أنزل إليهم من ربهم كما قال تعالى: ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾. قال ابن عباس (١) رضي الله تعالى عنهما: يعني إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك.. لم تبلغ رسالتي، يعني أنه - ﷺ - لو ترك إبلاغ البعض.. كان كمن لم يبلغ شيئًا مما أنزل الله إليه، وحاشا رسول الله - ﷺ - أن يكتم شيئًا مما أوحي إليه. روى مسروق عن عائشة رضي الله عنها. قالت: من حدثك أن رسول الله - ﷺ - كتم شيئًا مما أنزل إليه.. فقد كذب ثم قرأت: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ أخرجاه في
ومن هذا تعلم أن ما نقل من الأقوال والآراء من جواز كتمان بعض الوحي غير القرآن عن كل الناس أو عن جمهورهم، لا يتفق مع الدين في شيء ولا يعول على ما رووه من الأخبار الضعيفة والأحاديث الموضوعة في هذا الباب، والحق الذي لا شبهة فيه أن الرسول بلغ جميع ما أنزل إليه من القرآن وبينه، ولم يخص أحدًا بشيء من علم الدين، وأنَّه لا امتياز لأحد عن أحد في علم الدين إلا بفهم القرآن فهمًا يتوسل إليه بعلم السنة، وآثار علماء الصحابة والتابعين، وعلماء الأمصار في الصدر الأول، وبمعرفة مفردات اللغة العربية وأساليبها، ومعرفة علوم الكون، وشؤون البشر، وسنن الله في الخلق. روى ابن مردويه عن ابن عباس قال: سئل رسول الله - ﷺ - أي آية من السماء أنزلت أشد عليك؟ فقال: "كنت بمنى أيام موسم، واجتمع مشركوا العرب وأفناء الناس في الموسم فنزل علي جبريل فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ...﴾ الآية. قال: فقمت عند العقبة فقلت: أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالات ربي ولكم الجنة؟ أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله وأنا رسول إليكم تفلحوا وتنجحوا ولكم الجنة، قال - ﷺ -: فما بقي رجل ولا أمة ولا صبي إلا يرمون علي بالتراب
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَعْصِمُكَ﴾؛ أي يحفظك يا محمَّد ﴿مِنَ النَّاسِ﴾؛ أي: من فتك الكفار وقتلهم إياك، فلا يصلون إليك. مأخوذ من عصام القربة وهو ما توكأ به؛ أي: يربط به فمها من سير جلد أو خيط. والمراد بالناس الكفار الذين يتضمن تبليغ الوحي بيان كفرهم وضلالهم وفساد عقائدهم وأعمالهم، والنعي عليهم وعلى سلفهم، وكان ذلك يغيظهم ويحملهم على إيذائه - ﷺ - بالقول أو بالفعل، وائتمروا به بعد موت أبي طالب وقرروا قتله في دار الندوة، ولكن الله عصمه منهم وكذلك فعل اليهود بعد الهجرة.
وإن قلت (١): أليس قد شج رأسه وكسرت رباعيته يوم أحد - وقد أوذي بضروب من الأذى - فكيف يجمع بين ذلك وبين قوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾؟.
قلت: المراد منه أنَّه يعصمه من القتل فلا يقدر عليه أحد أراده بالقتل، ويدل على صحة ذلك ما روي عن جابر أنَّه غزا مع رسول الله - ﷺ - قبل نجد، فلما قفل رسول الله - ﷺ - قفل معه، فأدركتهم القائلة في وادٍ كثير العضاه، فنزل رسول الله - ﷺ - وتفرق الناس يستظلون بالشجر، فنزل رسول الله - ﷺ - تحت الشجرة فعلق بها سيفه، ونمنا معه نومة، فإذا رسول الله - ﷺ - يدعونا، وإذا عنده أعرابي فقال: إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتًا فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله، ثلاثًا ولم يعاقبه وجلس. وفي رواية أخرى قال جابر: كنا مع رسول الله - ﷺ - بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله - ﷺ -، فجاء رجل من المشركين - وسيف رسول الله - ﷺ - معلق بالشجرة - فاخترطه فقال: تخافني؟ فقال: "لا"، فقال: من يمنعك مني؟ قال: "الله"، فتهدده أصحاب رسول الله - ﷺ -. أخرجه الشيخان في "الصحيحين"، وزاد البخاري
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سهر رسول الله - ﷺ - مقدمه المدينة ليلة فقال: "ليت رجلًا صالحًا من أصحابي يحرسني الليلة"، قالت: فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة السلاح، فقال: "من هذا"؟ قال: سعد بن أبي وقاص، فقال له رسول الله - ﷺ -: "ما جاء بك"؟ فقال: وقع في نفسي خوف على رسول الله - ﷺ -، فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله - ﷺ - ثم نام، متفق عليه.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - ﷺ - يحرس ليلًا حتى نزلت: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ فأخرج رسول الله - ﷺ - رأسه من القبة، فقال: "أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله". أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب. وقيل (١): وفي الجواب عن هذا: إن هذه الآية نزلت بعد ما شجّ رأسه في يوم أحد، لأن سورة المائدة من آخر القرآن نزولًا. وقد وضعت هذه الآية - وهي مكية - في سياق تبليغ أهل الكتاب وهو مدني، لتدل على أن النبي - ﷺ - كان عرضةً لإيذائهم أيضًا، وأن الله تعالى عصمه من كيدهم، ولتذكر بما كان من إيذاء مشركي قومه من قبلهم ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾؛ أي: إن الله سبحانه وتعالى لا يهدي أولئك القوم الكافرين الذين هم بصدد إيذائك على التبليغ إلى ما يريدون، بل يكونون خائبين، وتتم كلمات الله تعالى حتى يكمل بها الدين. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن الله لا يرشد من كذبك وأعرض عنك. وقال ابن جرير الطبري معناه: أن الله لا يوفق للرشد من حاد عن سبيل الحق وجار عن قصد السبيل وجحد ما جئت به. وقال أبو حيان: معناه إنَّما عليك البلاغ لا الهداية، فمن قضيت عليه بالكفر والموافاة عليه.. لا يهتدي أبدًا، فيكون خاصًّا. قال ابن عطية: وإما على العموم، على أن لا هداية في الكفر ولا يهدي الله الكافر في سبيل كفره.
٦٨ - ﴿قُلْ﴾ يا محمَّد لهؤلاء اليهود والنصارى فيما تبلغهم عن ربك {يَا أَهْلَ
والمعنى: وعزتي وجلالي إن الكثير من أهل الكتاب لا يزيدهم القرآن الذي أكمل الله به الدين المنزل على محمَّد خاتم النبيين إلا غلوا في تكذيبهم، وكفرًا على كفرهم، لأنهم لم ينظروا فيه نظرة إنصاف، بل نظروا إليه بعين العصبية والعدوان، إذ كانوا على تقاليد وثنية، وأعمال وعادات سخيفة، فلم يكن لهم من الدين الذي يدينون به ما يقريهم إلى فهم حقيقة الإِسلام، ليعلموا أن دين الله واحد، وأن ما سبق بدء، وهذا إتمام، أما غير الكثير - وهم الذين حافظوا على التوحيد ولم تحجبهم عن نور الحق شتى التقاليد - فهم الذين ينظرون إلى القرآن بعين البصيرة، فيعلمون أنَّه الحق من ربهم، وأنَّ من أنزل عليه هو النبي المبشر في كتبهم، فيسارعون إلى الإيمان به بحسب حظهم من سلامة الوجدان، واطمئنان النفس بما لديها من العلم والعرفان ﴿فَلَا تَأسَ﴾ ولا تحزن يا محمَّد ﴿عَلَى﴾ عدم إيمان ﴿الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾؛ أي: دع عنك التأسف على هؤلاء، فإن ضرر ذلك راجع إليهم، ونازل بهم، وفي المتبعين من المؤمنين غنى لك عنهم.
قال الراغب: الأسى الحزن، وأصله إتباع الفائت بالغم، والمعنى؛ أي: فلا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم، فإنَّ ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك ولا إلى المؤمنين، وحسبك الله ومن اتبعك من مؤمني قومك، ومن مؤمني أهل
والعبرة للمسلم من هذه الآية: أن يعلم أنه لا يكون شيء يعتد به من أمر الدين حتى يقيم القرآن، وما أنزل إليه من ربه فيه، ويهتدي بهديه، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فحجة الله على عباده واحدة، فإذا كان الله لا يقبل من أهل الكتاب قبلنا ما ورثوه من تلك التقاليد التي صدتهم عما عندهم من وحي الله تعالى.. فإنَّه لا يقبل منا مثل ذلك مع حفظنا لكتابنا حتى نقيم حدوده، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والناس عن مثل هذا غافلون، وإلى حكمة الدين ومقاصده لا ينظرون، ويحسبون أنهم على شيء ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾.
٦٩ - وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلخ. جملة مستأنفة لترغيب من عداهم من المؤمنين المخلصين، والمراد (١) بالمؤمنين هنا: الذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون، أو ما يعم المخلصين وغيرهم من المنافقين ﴿وَالَّذِينَ هَادُوا﴾؛ أي: دخلوا في دين اليهود ﴿وَالصَّابِئُونَ﴾ مبتدأ، والنصارى معطوف عليه، والخبر محذوف تقديره: كائنان كذلك، وقال الخليل وسيبويه: الرفع محمول على التقديم والتأخير، والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون والنصارى كذلك وقرأ (٢) عثمان وأبي وعائشة وابن جبير الجحدري (والصابئين) بالنصب، وبها قرأ ابن كثير. وقرأ الحسن والزهري: (والصابيون) بكسر الباء وضم الياء، وهو من تخفيف الهمزة كقراءة (يستهزيون) وقرىء: (والصابُون). بإبدال الهمزة ألفًا وحذفها وقرأ القراء السبعة ﴿وَالصَّابِئُونَ﴾ بالرفع، وعليه مصاحف الأمصار والجمهور ﴿مَنْ آمَنَ﴾ من هؤلاء المذكورين ﴿بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ﴾ عملًا ﴿صَالِحًا﴾؛ أي: خالصًا فيما بينه وبين ربه ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ من أهوال يوم القيامة ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على ما خلفوا من ورائهم من لذات الدنيا وعيشها.
والخلاصة: أن الذين صدقوا الله ورسوله، والذين دخلوا اليهودية،
(٢) البحر المحيط.
وفي الآية: إيماء إلى أهل الكتاب لم يقيموا دين الله، لا الوسائل منه ولا المقاصد، فلا هم حفظوا نصوص الكتب كلها، ولا هم تركوا ما عندهم منها على ظواهرها، ولا هم آمنوا بالله واليوم الآخر على الوجه الذي كان عليه سلفهم الصالح، وهم عملوا الصالحات كما كانوا يعملون إلا قليلًا منهم عذبوا على توحيد الله ورموا بالزندقة لرفضهم تقاليد الكنائس والبدع التي شرعها الأحبار والرهبان، كما أن فيها ترغيبًا لمن عدا من ذكروا في الإيمان والعمل الصالح ليكون لهم من الجزاء مثل ما لأولئك.
فإن قلت (١): قد قال الله تعالى في أول الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ثم قال في آخر الآية: ﴿مَنْ آمَنَ﴾ فما فائدة هذا التكرار؟
قلت: فائدته أنَّ المنافقين كانوا يظهرون الإِسلام ويزعمون أنهم مؤمنون، ففي هذا التكرار إخراجهم من قبيل المؤمنين فيكون معنى ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: بألسنتهم لا بقلوبهم ثم قال: ﴿مَنْ آمَنَ﴾ يعني من ثبت على إيمانه، ورجع عن نفاقه منهم. وقيل: فيه فائدة أخرى وهي: أن الأيمان يدخل تحته أقسام كثيرة، وأشرفها الإيمان بالله واليوم الآخر، ففائدة التكرار التنبيه على أن أشرف أقسام الإيمان هذان القسمان.
وخلاصة ذلك: أنهم بلغوا من الفساد واتباع الأهواء أخشنها مركبًا، وأشدها عتوًا وضلالًا، حتى لم يكن يؤثر في قلوبهم وعظ الرسل ولا هديهم، بل صار ذلك مغريًا لهم بزيادة الكفر والتكذيب، وقتل أولئك الهداة البررة والسادة الأخيار.
٧١ - ثم ذكر ما سولته لهم أنفسهم على سوء أفعالهم فاتال: ﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ الفتنة الاختبار بشدائد الأمور على ما فعلوه من المعاصي، كتسلط الأمم القوية عليهم بالقتل والتخريب؛ أي: وظن بنو إسرائيل ظنًّا قويًّا تمكن من نفوسهم، وأيقنوا أنَّه لا تقع لهم فتنة من الله بسبب ما فعلوه من الفساد من قتل الأنبياء وتكذيبهم، أو حسبوا أن لا يوجد بهم بلاء وعذاب من الله بقتل الأنبياء وتكذيبهم، لأنهم كانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه ويعتقدون أن كل رسول جاءهم بشرع آخر غير شرعهم، يجب عليهم تكذيبه وقتله، لأنَّهم اعتقدوا أن النسخ ممتنع على شرع موسى، وكانوا يعتقدون أن نبوة أسلافهم تدفع عنهما العقاب الذي يستحقونه بسبب ذلك القتل والتكذيب. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: ﴿تَكَونُ﴾ بالرفع على أن أن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن، وحسب بمعنى علم، لأن أن معناها التحقيق، وتكون تامة كما أشرنا إليه في الحل بقولنا: إنه لا تقع فتنةً. وقرأ نافع وابن كثير وعاصم وابن عامر بنصب نون ﴿تَكُونَ﴾ على أنَّ أنْ هي الناصبة، وحَسِبَ بمعنى الظَّنّ كما أشرنا إليه بقولنا. وحسبوا أن لا يوجد.
ثم بين نتائج ذلك الظن والحسبان فقال: ﴿فَعَمُوا﴾ عن إبصار الهدى، وعن آيات الله التي أنزلها في كتبه مرشدة إلى عقابه للأمم المفسدة الظالمة، وعما وضعه من السنن في خلقه، مصدقًا لذلك ﴿وَصَمُّوا﴾ عن سماع المواعظ التي جاءهم بها أولئك الرسل، وأنذروهم بالعقاب إذا هم خالفوها، ونقضوا الميثاق، وخرجوا عن هدي الدين، وظلموا أنفسهم، واتبعوا أهواءهم، وساروا في غيّهم، وانهمكوا في ضلالهم، وخالفوا أحكام التوراة، فقتلوا شعياء، وحبسوا أرمياء،
﴿ثُمَّ عَمُوا﴾ عن إبصار الحق ﴿وَصَمُّوا﴾ عن سماعه مرة أخرى، وعادوا إلى ظلمهم وفسادهم في الأرض، وقتلوا الأنبياء بغير حق، فقتلوا زكريا ويحيى، وأرادوا قتل عيسى عليه السلام، فسلط الله عليهم الفرس، ثم الروم، فأزالوا ملكهم واستقلالهم، ففعلوا بهم ما فعلوا. وفي قوله: ﴿كَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾ إشارة إلى أن عمى البصيرة والصمم عن المواعظ لم يكن للجميع بل كان للكثير منهم، والله تعالى يعاقب الأمم بذنوبها إذا كثرت وشاعت فيها، إذ العبرة بالغالب لا بالأقل النادر الذي لا يؤثر في صلاح ولا فساد ومن ثُمّ قال تعالى ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾. وقرأ (١) النخعي وابن وثاب بضم العين والصاد في (عموا وصموا) وتخفيف الميم من عموا، إجراءًا لهما مجرى زكم الرجل ونحوه من الأفعال المبنية للمفعول لفظًا لا معنى، أو على أنَّ المعنى: إنَّ الله عماهم وصمهم؛ أي: رماهم بالعمى والصمم، وهو قليل، واللغة الفاشية أعمى وأصم ذكره "البيضاوي". وقرأ ابن أبي عبلة: (كثيرًا منهم) بالنصب، وقرأ الجمهور بالرفع على أنَّه بدل من فاعل (عموا وصموا).
الإعراب
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾.
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ﴾: (الواو): استئنافية، ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول قال. ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية دعائية لا محل لها من الإعراب. ﴿وَلُعِنُوا﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملت ﴿غُلَّتْ﴾ أو مستأنفة. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ (لعنوا). ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: بما قالوه، ويجوز أن تكون (ما) مصدرية، والتقدير: ولعنوا بقولهم المذكور. ﴿بَلْ﴾: حرف عطف وإضراب. ﴿يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على مقدر يقتضيه المقام تقديره: ليس الأمر كما قالوا بل يداه مبسوطتان، وهو في غاية الجود. ﴿يُنْفِقُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾ والجملة مستأنفة. ﴿كَيْفَ﴾: اسم شرط غير جازم، لأنَّ شرط الجزم بها عند الكوفيين اتصال ما بها في محل النصب على
أحدهما: وهو الظاهر أنه لا محل لها من الإعراب؛ لأنَّها مستأنفة.
والثاني: أنَّها في محل رفع؛ لأنَّها خبر ثانٍ ليداه، و ﴿كَيْفَ﴾ في مثل هذا التركيب شرطية، نحو كيف تكون.. أكون، ومفعول المشيئة محذوف، وكذلك جواب الشرط أيضًا محذوف، مدلول عليه بالفعل المتقدم على ﴿كَيْفَ﴾. والمعنى: ينفق كيف يشاء أن ينفق ينفق، نظير قوله: ويبسطه في السماء كيف يشاء أن يبسطه يبسط، فحذف مفعول يشاء، وهو أن وما بعدها، وقد تقدم أن مفعول يشاء ويريد، لا يذكران إلا لغرابتهما، ولا جائز أن يكون ينفق المتقدم عاملًا في كيف؛ لأنَّ لها صدر الكلام، وماله صدر الكلام لا يعمل فيه إلا حرف الجر أو المضاف. اهـ. "سمين".
﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾.
﴿وَلَيَزِيدَنَّ﴾: (الواو): استئنافية. (اللام): موطئة للقسم. (يزيدن): فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد الثقيلة حرف لا محل لها من الإعراب. ﴿كَثِيرًا﴾: مفعول أول. ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿كَثِيرًا﴾. ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل الرفع فاعل. ﴿أُنْزِلَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾. ﴿إِلَيْكَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أُنْزِلَ﴾ وكذلك متعلق به الجار والمجرور في قوله: ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ وجملة ﴿أُنْزِلَ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها. ﴿طُغْيَانًا﴾ مفعول ثان (ليزيدن). ﴿وَكُفْرًا﴾: معطوف عليه، وجملة (يزيدن) جواب للقسم المحذوف، وجملة القسم مستأنفة.
﴿وَأَلْقَيْنَا﴾: فعل وفاعل والجملة مستأنفة. ﴿بَيْنَهُمُ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿وَأَلْقَيْنَا﴾. ﴿الْعَدَاوَةَ﴾: مفعول به. ﴿وَالْبَغْضَاءَ﴾: معطوف عليه. ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه حال من ﴿الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾؛ أي: حالة كونهما مستمرين إلى يوم القيامة. ﴿كُلَّمَا﴾: اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية مبني على السكون، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿أَوْقَدُوا نَارًا﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿لِلْحَرْبِ﴾: صفة لـ ﴿نَارًا﴾ أو متعلق بـ ﴿أَوْقَدُوا﴾، والجملة الفعلية فعل شرط لكلما لا محل لها من الإعراب. ﴿أَطْفَأَهَا اللَّهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة جواب (كلما) لا محل لها من الإعراب، وجملة (كلما): من فعل شرطها وجوابها مستأنفة. ﴿وَيَسْعَوْنَ﴾ فعل وفاعل ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلق به ﴿فَسَادًا﴾ إما مفعول لأجله؛ أي: لأجل الإفساد، أو مفعول مطلق؛ أي: سعي فساد أو حال؛ أي: يسعون مفسدين والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ وجملة ﴿لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ خبره، والجملة الإسمية مستأنفة.
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥)﴾.
﴿وَلَوْ﴾: (الواو): استئنافية. (لو): حرف شرط غير جازم. ﴿أنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد. ﴿أَهْلَ الْكِتَابِ﴾: اسمها ومضاف إليه. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿وَاتَّقَوْا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿آمَنُوا﴾ وجملة ﴿آمَنُوا﴾: في محل الرفع خبر أن تقديره: ولو أن أهل الكتاب مؤمنون ومتقون، وجملة أنَّ في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لفعل محذوف تقديره: ولو ثبت إيمان أهل الكتاب واتقاؤهم لله، وجملة الفعل المحذوف مع فاعله فعل شرط لـ (لو) لا محل لها من الإعراب. ﴿لَكَفَّرْنَا﴾: (اللام): رابطة لجواب (لو). (كفرنا): فعل وفاعل. ﴿عَنْهُمْ﴾ متعلق به. ﴿سَيِّئَاتِهِمْ﴾: مفعول به مضاف إليه، والجملة الفعلية جواب ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة (لو) الشرطية مستأنفة. ﴿وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ﴾:
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (٦٦)﴾.
﴿وَلَوْ﴾: (الواو): استئنافية أو عاطفة. (لو): حرف شرط. ﴿أَنَّهُمْ﴾ (أنَّ): حرف نصب، والهاء: في محل النصب اسمها. ﴿أَقَامُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿التَّوْرَاةَ﴾: مفعول به. ﴿وَالْإِنْجِيلَ﴾: معطوف عليه. ﴿وَمَا﴾ الواو: عاطفة. (ما): موصولة أو موصوفة في محل النصب معطوف على ﴿التَّوْرَاةَ﴾. ﴿أُنْزِلَ﴾: فعل ماضٍ مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على (ما). ﴿إِلَيْهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أُنْزِلَ﴾. ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من (ما) الموصولة، أو من الضمير في ﴿أُنْزِلَ﴾ وجملة (أُنزِلَ) صلة لـ (ما) أو صفة لها، وجملة ﴿أَقَامُوا﴾: في محل الرفع خبر أن تقديره: ولو أنَّهم مقيمون التوراة وما عطف عليه، وجملة (أنَّ) في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لفعل محذوف تقديره: ولو ثبت إقامتهم التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم، وجملة الفعل المحذوف فعل شرط لـ (لو) لا محل لها من الإعراب. ﴿لَأَكَلُوا﴾ (اللام): رابطة لجواب (لو). (أكلوا): فعل وفاعل، والجملة جواب (لو) لا محل لها من الإعراب، وجملة (لو) من فعل شرطها وجوابها مستأنفة، أو معطوفة على جملة (لو) الأولى. ﴿مِنْ فَوْقِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ (أكلوا) أو صفة لمحذوف مفعول ﴿لَأَكَلُوا﴾ تقديره: لأكلوا رزقًا كائنًا من فوقهم، أو مأخوذًا من فوقهم. ذكره أبو البقاء. ﴿وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على الجار والمجرور قبله. ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿أُمَّة﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿مُقْتَصِدَةٌ﴾: صفة لـ ﴿أُمَّةٌ﴾، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿وَكَثِيرٌ﴾: مبتدأ. ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور صفة له. ﴿سَاءَ﴾: فعل ماض بمعنى بئس من أفعال الذم. ﴿مَا﴾: موصولة في محل الرفع فاعل. وجملة
﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٦٧)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: (ياء): حرف نداء. (أي): منادى نكرة مقصودة، (ها): حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة. ﴿الرَّسُولُ﴾: صفة لأي، وجملة النداء مستأنفة. ﴿بَلِّغْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿بَلِّغْ﴾. ﴿أُنْزِلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾. ﴿إِلَيْكَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أُنْزِلَ﴾. ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾: حال من ﴿مَا﴾ أو من نائب فاعل ﴿أُنْزِلَ﴾ وجملة ﴿أُنْزِلَ﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها. ﴿وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ﴾: (الواو): استئنافية. (إن): حرف شرط جازم. ﴿لَم﴾: حرف جزم. ﴿تَفْعَلْ﴾: مجزوم بلم وفاعل وفاعله ضمير يعود على محمَّد، ومفعول تفعل محذوف تقديره: وإن لم تفعل ما أمرت به من تبليغ جميع ما أنزل إليك من ربك.. فما بلغت رسالته، والجملة الفعلية في محل الجزم ﴿بإن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿فَمَا﴾: (الفاء): رابطة لجواب (إن) الشرطية وجوبًا.
﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ﴾: مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإنْ شئت قلت: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿لَسْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿عَلَى شَيْءٍ﴾: جار ومجرور خبر ليس، وجملة ليس جواب النداء في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول منصوب بأن مضمرة بعد حتى بمعنى: إلى، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بحتى تقديره: إلى إقامة التوراة، الجار والمجرور متعلق بليس. ﴿وَالْإِنْجِيلَ﴾: معطوف على ﴿التَّوْرَاةَ﴾ ﴿وَمَا أُنْزِلَ﴾: معطوف على التوراة أيضًا. ﴿إِلَيْكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿أُنْزِلَ﴾. ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أُنْزِلَ﴾ أو حال من (ما) أو من ضمير ﴿أُنْزِلَ﴾.
﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.
﴿وَلَيَزِيدَنَّ﴾: (الواو): استئنافية. (اللام): موطئة للقسم. (يزيدن): فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. ﴿كَثِيرًا﴾: مفعول أول. ﴿مِنْهُمْ﴾: صفة له. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل الرفع
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩)﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿الَّذِينَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل والجملة صلة الموصول. ﴿وَالَّذِينَ﴾: في محل النصب معطوف على ﴿الَّذِينَ﴾ الأول. ﴿هَادُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿وَالصَّابِئُونَ﴾ مبتدأ. ﴿وَالنَّصَارَى﴾: معطوف عليه، والخبر محذوف تقديره: كائنان كهؤلاء المذكورين قبلهم، والجملة الإسمية معترضة لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين اسم (إن) وخبرها، أو بين البدل والمبدل منه. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب بدل من اسم ﴿إنَّ﴾ وما عطف عليه بدل بعض من كل، والرابط محذوف وتقديره: من آمن منهم. ﴿آمَنَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ والجملة صلة الموصول، ﴿بِاللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿آمَنَ﴾. ﴿وَالْيَوْمِ﴾: معطوف على الجلالة. ﴿الْآخِرِ﴾: صفة لـ ﴿وَالْيَوْمِ﴾. ﴿وَعَمِلَ﴾: معطوف على ﴿آمَنَ﴾. ﴿صَالِحًا﴾: مفعول به لـ ﴿وَعَمِلَ﴾ أو مفعول مطلق له. ﴿فَلَا خَوْفٌ﴾ (الفاء): رابطة لخبر إنَّ باسمها، لما في اسمها من العموم. (لا): نافية تعمل عمل ليس. ﴿خَوْفٌ﴾: اسمها مرفوع. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق
﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (٧٠)﴾.
﴿لَقَدْ﴾: (اللام): موطئة للقسم، (قد): حرف تحقيق. ﴿أَخَذْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. ﴿وَأَرْسَلْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿أَخَذْنَا﴾. ﴿إِلَيْهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿رُسُلًا﴾: مفعول (أرسلنا). ﴿كُلَّمَا﴾: اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بالجواب. ﴿جَاءَهُمْ رَسُولٌ﴾ فعل ومفعول وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿كُلَّمَا﴾ وجواب ﴿كُلَّمَا﴾ محذوف جوازًا دل عليه ما بعده تقديره: كلما جاءهم رسول منهم بما لا تهوى أنفسهم.. عصوه وعادوه، وجملة ﴿كُلَّمَا﴾ من فعل شرطها وجوابها في محل النصب صفة لـ ﴿رُسُلًا﴾ والرابط ضمير منهم الذي قدرناه. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿رَسُولٌ﴾ تقديره: رسول متلبس بما. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿تَهْوَى﴾ فعل مضارع. ﴿أَنْفُسُهُمْ﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما لا تهواه أنفسهم. ﴿فَرِيقًا﴾: مفعول مقدم جوازًا لـ ﴿كَذَّبُوا﴾. ﴿كَذَّبُوا﴾: فعل
﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (٧١)﴾.
﴿وَحَسِبُوا﴾ (الواو): استئنافية، (حسبوا): فعل وفاعل. ﴿أَلَّا﴾ (أن): مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن تقديره: وحسبوا أنَّه لا تكون فتنة، إنْ كان حسب بمعنى علم، أو مصدرية ناصبة للمضارع، إنْ كان حسب بمعنى ظن، (لا): نافية. ﴿تَكُونَ﴾: فعل مضارع تام بمعنى تقع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم على التقدير الأول، ومنصوب بأن المصدرية على التقدير الثاني. ﴿فِتْنَةٌ﴾: فاعل، وجملة (لا تكون) من الفعل والفاعل في محل الرفع خبر (إن) المخففة، وجملة (إنْ) المخففة في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي حسب على التقدير الأول؛ أي: وعلموا عدم. وقوع فتنة، وجملة (حسبوا) من الفعل والفاعل مستأنفة، وكذلك على التقدير الثاني تكون جملة (لا تكون فتنة) صلة
فائدة: وحاصل (١) استعمال (أن): أنها إن وقعت بعد مادة العلم وما في معناه كاليقين.. تعليق الرفع بعدها، وتعين أنها مخففة من الثقيلة، وإن وقعت بعد مادة غيره مما لا يحتمله كالشك والظن.. تعين النصب بعدها، وتعين أنها المصدرية، وإن وقعت بعد ما يحتمل العلم وغيره كالحسبان كما هنا.. جاز فيما بعدها الوجهان، فالرفع على جعل الحسبان بمعنى العلم، والنصب على جعله بمعنى الظن. وعبارة السمين هنا: والحاصل: أنَّه متى وقعت أن بعد علم.. وجب أن تكون المخففة، وإذا وقعت بعد ما ليس بعلم ولا شك.. وجب أن تكون الناصبة، وإن وقعت بعد فعل يحتمل اليقين والشك.. جاز فيه وجهان باعتبارين، إن جعلناه يقينًا.. جعلناها المخففة ورفعنا ما بعدها، وإنْ جعلناه شكًّا.. جعلناها الناصبة ونصبنا ما بعدها. والآية الكريمة من هذا الباب، وأن مع صلتها على كلا التقديرين المخففة الناصبة سادة مسد المفعولين عند جمهور البصريين، وسادة مسد الأول فقط عند أبي الحسن. والثاني محذوف والتقدير: حسبوا عدم الفتنة كائنًا أو حاصلًا. وحكى بعض النحويين أنَّه ينبغي لمن رفع أن يفصل أن من لا في الكتابة، لأن هناك الضمير فاصلة في المعنى، ومن نصب لم يفصل لعدم الحائل بينهما. ﴿فَعَمُوا﴾ الفاء: حرف عطف وتعقيب. ﴿عَمُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جمله (حسبوا). ﴿وَصَمُّوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿عَمُوا﴾. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ، وعطف بثم الدالة على التراخي دلالة على أنهم تمادوا في الضلال إلى وقت التوبة. ﴿تَابَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿عَمُوا﴾ ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخي ﴿عَمُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ ﴿وَصَمُّوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿عَمُوا﴾. ﴿كَثِيرٌ﴾: بدل من الواو في ﴿عَمُوا وَصَمُّوا﴾ بدل بعض من كل. ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿كَثِير﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ اليد مؤنثة أصله يَدْيٌ حذفت لامه اعتباطًا؛ أي: من غير صلة تصريفية طلبًا للتخفيف بدليل جمعه على الأيدى. ﴿مَغْلُولَةٌ﴾: اسم مفعول غله يغله، من باب شد إذا وضع في يده أو عنقه الغلّ، والغل بضم الغين طوق من حديد أو جامد يجعل في اليد أو في العنق، يجمع على أغلال وغلول، وكونها مغلولة كناية عن كونها محبوسة مقبوضة ممسوكة عن البذل والرزق والعطاء، فنسبوا إلى الله البخل والقبض تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، فمراد اليهود لعنة الله عليهم بقولهم: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾: أن الله تعالى بخيل، فأجابهم بقوله: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾: دعاء عليهم بالبخل؛ أي: أمسكت وانقبضت عن العطاء ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ يقال: بسط اليد يبسط بسطًا، من باب نصر إذا مدها، وبسط السيف إذا سله، وبسط الثوب نشره، ويده بسط بضم أوله وسكون ثانيه وبسط بضمهما ويد مبسوطة؛ أي: مفتوحة مطلقة، وبسط اليد هنا كناية عن كثرة العطاء والبذل والإحسان.
﴿طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾ والطغيان مصدر طغا الكافر يطغى، من باب سعى يسعى، أو طغي يطغى، من باب رضي يرضى إذا غلا في الكفر. والطغيان الغلو والتمرد في الكفر والغي والضلال، والعامة تقول طغاه الشيطان، أي: صرفه عن طريق الخير، وطغا الرجل إذا أسرف في الظلم والمعاصي. ويقال: كفر الرجل بالخلق يكفر من باب نصر، كَفْرًا كُفْرًا وكُفورًا وكُفرانًا إذا نفاه وعطَّله، وكفر نعم الله وبنعم الله إذا جحدها وتناساها، وذلك ضد الشكر فعطف الكفر على الطغيان من عطف العام على الخاص، لأن الطغيان الغلو في الكفر.
﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ﴾: والمقتصدة المعتدلة في أمر الدين، فلا تغلوا بالإفراط، ولا تهملوا بالتقصير. وفي "الفتوحات" قوله: مقتصدة؛ أي: عادلة لا غالية ولا مقصرة، فالاقتصاد في الشيء هو الاعتدال فيه، وقوله: ﴿مُقْتَصِدَةٌ﴾ اسم فاعل من اقتصد الخماسي، يقال: اقتصد في الأمر ضد أفرط، وفي النفقة توسط بين الإفراط والتقتير، واقتصد في أمره استقام ﴿فَلَا تَأسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ يقال: أسى يأسى أسًا من باب رضي يرضى إذا حزن، فهو آس وأسيان، وهي آسية وأسيانة ﴿وَالصَّابِئُونَ﴾ جمع صابىء يقال: صبؤ يصبؤ من باب فعل المضموم، صبأ وصبؤًا إذا خرج عن دين إلى دين آخر، أو تدين بدين الصابئين فهو صابىء، يجمع على صائبين وصابئة.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿مَغْلُولَةٌ﴾ لأنه استعار الغل للبخل، فاشتق من الغل بمعنى البخل مغلولة بمعنى بخيلة على طريقة الاستعارة
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾. و ﴿يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾، لأن اليد لما كانت آلة لكل الأعمال لا سيما لدفع المال وإنفاقه وإمساكه.. أسندوا البخل والجود إليها مجازًا، إسنادًا للشيء إلى سببه.
وقال أبو حيان (١): والذي يظهر أن قولهم ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ استعارة عن إمساك الإحسان الصادر عن المقهور، على الإمساك، ولذلك جاؤوا بلفظ مغلولة، ولا يغل إلا المقهور فجاء قوله: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾ دعاء بغل الأيدي، فهم في كل بلد مع كل أمة مقهورون مغلوبون لا يستطيع أحد منهم أن يستطيل ولا أن يستعلي، فهي استعارة عن ذلهم وقهرهم، وأن أيديهم لا تنبسط إلى دفع ضرر ينزل بهم.
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿غُلَّتْ﴾ فإنَّه في مقابلة ما تضمنه قولهم: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾. وليست هذه المقابلة بدعا منهم فقد قالوا: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ لعائن الله عليهم وعلى سائر الكفرة.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾ لأنَّ الإلقاء حقيقة في الأجسام، وفي قوله: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ﴾، استعير فيه إيقاد النار الحسية لاختلاط الحرب، لأن الحرب لا نار لها، وإنَّما شبهت بالنار؛ لأنَّها تأكل أهلها كما تأكل النار حطبها، وفي قوله: ﴿أَطْفَأَهَا اللَّهُ﴾. لأنَّه استعارة لإلقاء الرعب في قلوبهم.
وقال الجمهور: هو استعارة، وإيقاد النار عبارة عن إظهار الحقد والكيد والمكر بالمؤمنين، والاغتيال والقتال، وإطفاؤها صرف الله عنهم ذلك، وتفرق
ومنها: التعميم بعد التخصيص في قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ﴾. ليعم سائر الكتب الإلهية.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ لأنه (١) استعارة عن سبوغ النعم عليهم، وتوسعة الرزق عليهم، كما يقال: قد عمه الرزق من فرقه إلى قدمه، ولا فوق ولا تحت، حكاه الطبري والزجاج.
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ﴾ لأنَّ المراد بالأمة الجماعة القليلة للمقابلة لها بقوله: ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾.
ومنها: التشريف في قوله: ﴿يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ﴾: لأنَّه ناداه بالصفة الشريفة التي هي أشرف أوصاف الجنس الإنساني.
ومنها: التحقير في قوله: ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ﴾ لأنَّ في هذا التعبير من التحقير والتصغير ما لا غاية وراءه.
ومنها: التلطف في قوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ لأنَّه أضاف الاسم الجليل إليهم تلطفًا معهم في الدعوة.
ومنها: الإجمال الذي يقصد به التفصيل في قوله حتى ﴿حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ﴾. إلخ لأنه جمع في الضمير، والمقصود منه التفصيل؛ أي: حتى يقيم أهل التوراة، وأهل الإنجيل.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٨١)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّه سبحانه وتعالى لما ذكر أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل، وبعث فيهم رسلًا، وبين عتوهم وشدة تمردهم وما كان من سوء معاملتهم مع أنبيائهم، وعدد قبائح اليهود ومخازيهم.. شرع يفصل قبائح النصارى ويبطل أقوالهم الفاسدة، وآرائهم الزائفة، ثم ذكر أن المسيح يكذبهم في ذلك فحكى عنه، ثمَّ رد عليهم ما قالوه بلا روية ولا فكر ولا بصيرة حيث قال: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾. ثمَّ توعدهم على مقالة التثليث حيث قال: ﴿وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآية. ثم تعجب من إصرارهم
قوله تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أنَّه سبحانه وتعالى لمَّا بين غلوهم وضلالهم وإضلالهم.. ذكر أسباب ذلك، وأرشد إلى ما أخذهم به، ثم بين سبحانه أسباب استمرارهم على العصيان وتعدي الحدود حيث قال: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾.
قوله تعالى: ﴿تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا...﴾. الآية، مناسبتها لما قبلها: أنَّه سبحانه وتعالى لما ذكر لنبيه أحوال أسلافهم.. ذكر له هنا أحوال حاضريهم مما يدل على رسوخ تلك الملكات فيهم.
التفسير وأوجه القراءة
٧٢ - ولما حكى الله سبحانه وتعالى عن اليهود ما حكاه من نقضهم الميثاق، وقتلهم للأنبياء، وتكذيبهم الرسل، وغير ذلك.. شرع في الإخبار عن كفر النصارى وما هم عليه من فساد الاعتقاد، فقال تعالى: وعزتي وجلالي ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا﴾ واعتقدوا ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ والمسيح هو الله، وهذا قول اليعقوبية والملكانية من النصارى، لأنَّهم يقولون: إن مريم ولدت إلهًا، ولأنهم يقولون: إن الإله جل وعلا حلَّ في ذات عيسى واتحد بذات عيسى، فصار عيسى إلهًا، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا: لقد كفروا وضلوا ضلالًا بعيدًا؛ إذا هم في إطرائه ومدحه غلوا أشد من غُلُوّ اليهود في الكفر به وتحقيره وقولهم عليه وعلى أمه الصديقة بهتانًا عظيمًا، وقد صارت هذه المقالة أعني مقالة الاتحاد هي المقالة الشائعة عندهم، ومن عدل عنها عد مارقًا من الدين.
وبعد أن أمرهم عليه السلام بالتوحيد الخالص، أتبعه بالتحذير من الشرك والوعيد عليه فقال: ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إنَّ الشأن والحال ﴿مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ﴾ ويمت عليه؛ أي: إنَّ كل من يشرك باللهِ شيئًا من المخلوق من ملك أو بشر أو كوكب أو حجر أو نحو ذلك، فيجعله ندًّا له أو متحدًا به أو يدعوه لجلب نفع أو دفع ضرر، أو يزعم أنه يقربه إليه زلفى، فيتخذه شفيعًا ليؤثر في إرادته تعالى وعلمه، ويحمله على شيء غير ما سبق به علمه وخصصته إرادته في الأزل ﴿فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ﴾؛ أي: فإن الله سبحانه وتعالى قد أوجب له النار، وحرم عليه دخول الجنة في سابق علمه، وبمقتضى شرعه الذي أوحاه إلى جميع رسله ﴿وَمَأوَاهُ﴾ ومسكنه في الآخرة ﴿النَّارُ﴾ الهائلة أعاذنا الله تعالى منها؛ أي: فلا مأوى له إلا النار التي هي دار العذاب والذل والهوان.
والظاهر (١): أن هذه الجملة من كلام المسيح، فهو داخل تحت القول، وفيه أعظم ردع منه عن عبادته، إذ أخبر أنَّه من عبد غير الله منعه دار من أفرده بالعبادة، وجعل مأواه النار ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ وقيل: هي من كلام الله تعالى مستأنف أخبر بذلك على سبيل الوعيد والتهديد. وفي الحديث الصحيح من حديث عتبان بن مالك عن رسول الله - ﷺ -: "إن الله حرم على النار من قال:
٧٣ - ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾؛ أي: إنَّ الله سبحانه وتعالى أحد آلهة ثلاثة، وهذا قول المرقوسية والنسطورية من النصاوى. وفي تفسير قولهم هذا طريقان:
أحدهما: وهو قول أكثر المفسرين: أنهم أرادوا بهذه المقالة أن الله تعالى ومريم وعيسى آلهة ثلاثة، وأن الألوهية مشتركة بينهم، وأن كل واحد منهم إله. ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى للمسيح: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ قال تعالى: ﴿مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا﴾ ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ﴾ ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ﴾. ففي قوله: ﴿ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾: حذف تقديره: إن الله أحد آلهة ثلاثة، أو واحد من ثلاثة آلهة، قال الواحدي: ولا يكفر من قال: إن الله ثالث ثلاثة، ولم يرد به أنه ثالث آلهة ثلاثة، لأنه ما من اثنين إلا والله ثالثهما بالعلم، ويدل عليه قوله تعالى في سورة
والطريق الثاني: ما حكاه المتكلمون عن النصارى: أنَّهم يقولون: إنَّ الإله جوهر واحد مركب من ثلاثة أقانيم - أجزاء - أب وابن وروح قدس. وهذه الثلاثة إله واحد، كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة، وعنوا بالأب الذات، وبالابن الكلمة، وبالروح الحياة، وقالوا: إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء باللبن واختلاط الماء بالخمر، وزعموا أن الأب إله، والابن إله، والروح إله، والكل إله واحد، وهذا الكلام معلوم البطلان ببديهة العقل، فإن الثلاثة لا تكون واحدًا، والواحد لا يكون ثلاثة، ولا ترى في الدنيا مقالة أشد فسادًا ولا أظهر بطلانًا ولا أقبح لفظًا من مقالة النصارى: الله ثالث ثلاثة، عليهم لعائن الله تعالى، ولا يجوز في العربية في ثالث ثلاثة إلا الإضافة، ولا يجوز النصب، لأنك لا تقول ثلثت الثلاثة.
واعلم: أن النصارى أخذت عقيدة التثليث من قدماء الوثنيين، ليست في أصل دينهم، ثم رد الله سبحانه وتعالى عليهم ما قالوه بلا روية ولا فكر ولا بصيرة فقال: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ﴾؛ أي: وما من إله في الوجود ﴿إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾؛ أي: إلا إله موصوف بالوحدانية في ذاته وصفاته وأفعاله، وهو الله سبحانه وتعالى عما يقولون علوًّا كبيرًا، يعني: إنَّه ليس في الوجود إله واحد موصوف بالوحدانية - لا ثاني له، ولا شريك له، ولا والد له، ولا صاحبة له - إلا الله سبحانه وتعالى، فهو الإله الذي لا تركيب في ذاته ولا في صفاته، فليس ثم تعدد ذوات وأعيان، ولا تعدد أجناس وأنواع، ولا تعدد جزئيات وأجزاء، وهذه الجملة حالية، والمعنى: قالوا تلك المقالة والحال أنه لا إله موجود إلا الله.
ثم توعدهم على هذه المقالة فقال: ﴿وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا﴾؛ أي: لم ينته النصارى ﴿عَمَّا يَقُولُونَ﴾؛ أي: عن هذه المقالة الخبيثة، يعني مقالة التثليث، ويتركوه ويعتصموا بعروة التوحيد، ويعتقدوه، وعزتي وجلالي {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ
٧٤ - ثم تعجب من حالهم بإصرارهم على التثليث بعد أن ظهرت لهم البينات، وقامت عليهم الحجج المبطلة له، والنذر بالعذاب المرتب عليه، وندب سائرهم إلى التوبة من هذه المقالة الخبيثة فقال: ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ﴾ والاستفهام فيه استفهام تعجيب وتوبيخ، والهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيسمعون هذه الشهادات المكررة، والتشديدات المقررة، ويثبتون على الكفر، فلا يتوبون ويرجعون إلى توحيد الله وطاعاته، ويستغفرونه عما وقع لهم من تلك العقائد الزائغة، والأقاويل الباطلة ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾؛ أي: والحال أن الله سبحانه وتعالى غفور لمن تاب وآمن، رحيم لمن مات على التوبة.
والمعنى (٢): أيسمعون ما ذكر من التفنيد لآرائهم والوعيد عليها، ثم لا يحملهم ذلك على التوبة والرجوع إلى التوحيد، واستغفار الله عما فرط منهم، والحال أن ربهم واسع الرحمة، عظيم المغفرة، يقبل التوبة من عباده، ويغفر لهم ما فرط من الزلات إذا هم آمنوا وأحسنوا واتقوا وعملوا الصالحات.
٧٥ - ثم ذكر أن المسيح رسول كغيره من الرسل وأقام الدليل على ذلك فقال: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ
(٢) المراغي.
﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾؛ أي. وما أمه إلا صديقة؛ أي: تلازم الصدق أو تصدق الأنبياء وتبالغ في بعدها عن المعاصي، وفي إقامة مراسم العبودية، فما هى إلا كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق أو التصديق، ويبالغن في الاتصاف به، فما رتبه عيسى إلا رتبة نبي وما رتبة أمه إلا رتبة صحابي، فمن أين لكم أن تصفوهما بما لا يوصف به سائر الأنبياء وخواص الناس، فإن أعظم صفات عيسي عليه السلام الرسالة، وأكمل صفات أمه الصديقية، وذلك لا يستلزم لهما الألوهية، أما حقيقتهما النوعية والجنسية.. فهي مساوية لحقيقة غيرهما من أفراد نوعهما وجنسهما فهما ﴿كَانَا يَأكُلَانِ الطَّعَامَ﴾ ويشربان الشراب كسائر أفراد البشر، ليقيما بنيتهما، ويمدا حياتهما، لئلا ينحل بدنهما ويهلكا، وكذلك يعرض لهما ما يستلزمه أكل الطعام من الحاجة إلى دفع الفضلات من البول والغائط، فلا يمكن أن يكون كل منهما
(٢) المراح.
وبعد أن بين حالهما بيانًا لا يحوم حوله شائبة من الريب.. تعجب من حال من يدعى لهما الربوبية، ولا يرعوي عن غيه وضلاله، ولا يتأمل فيما هو عليه من أفن - ضعيف - الرأي والخطأ فقال: ﴿اْنظُرْ﴾ يا محمد متعجبًا أو أيها السامع نظرة عقل أو فكر ﴿كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ﴾؛ أي: كيف نبين لهؤلاء النصارى (الآيات)؛ أي: الدلائل والبراهين البالغة أقصى الغايات في الوضوح على بطلان ما يدعون في أمر المسيح وأمه ﴿ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾: أي: ثمّ انظر بعد النظر الأول كيف يصرفون عن تلك الآيات، ويعرضون عنها، وكيف لا ينتقلون من مقدماتها إلى نتائجها، ومن مباديها إلى غاياتها، فكأنهم فقدوا عقولهم، وصارت أفئدتهم هواءًا؛ أي: كيف يصرفون عن استماع الآيات وعن التأمل فيها، فالله بين لهم الآيات بيانًا عجبًا، وإعراضهم عنها أعجب منها. والاستفهام في الموضعين للتعجب، وفي تكرير (٢) الأمر بقوله: ﴿انْظُرْ﴾، ﴿ثُمَّ انْظُرْ﴾. دلالة على الاهتمام بالنظر، وأيضًا فقد اختلف متعلق النظرين، فإن الأول أمر بالنظر في كيفية إيضاح الله تعالى لهم الآيات وبياناها بحيث إنَّه لا شك فيها ولا ريب، والأمر الثاني بالنظر في كونهم صرفوا عن تدبرها والإيمان بها، أو بكونهم قلبوا عما أريد بهم.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى التراخي في قوله: ﴿ثُمَّ انْظُرْ﴾؟
قلت: معناه ما بين التعجبين، يعني أنَّه من باب التراخي في الترتب؛ لا في الأزمنة ونحوها.
٧٦ - ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أمر له - ﷺ - بإلزامهم وتبكيتهم بعد
(٢) الفتوحات.
(٢) النسفي.
(٣) المراغي.
(٤) النسفي.
أي: قل لهم يا محمد: يا معشر اليهود والنصارى لا تتجاوزوا في دينكم واعتقادكم في عيسى عليه السلام الحد الذي حده الله فيه، ولا تخرجوه عن القدر الذي أعطاه الله إياه، وهو كونه عبد الله ورسوله تجاوزًا باطلًا غير الحق بالإفراط والتفريط فيه ﴿وَ﴾ قل يا محمد أيضًا لليهود والنصارى المعاصرين لك ﴿لَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ﴾؛ أي: لا تقتفوا مذاهب قوم من رؤساء أسلافكم ﴿قَدْ ضَلُّوا﴾ عن التوراة والإنجيل ﴿مِن قَبْلِ﴾؛ أي: من قبلكم، أو من قبل مبعث محمد - ﷺ -، يعني أسلافهم وأئمتهم الذين قد ضلوا عن شريعتهم قبل مبعث محمد - ﷺ - ﴿وَأَضَلُّوا كَثِيرًا﴾ من سفلتهم الذين تابعوهم على بدعهم وضلالهم ﴿وَضَلُّوا﴾ بعد مبعث محمد - ﷺ - ﴿عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾؛ أي: عن قصد الطريق قويمه الذي هو الإِسلام حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه، فالمراد بالضلال الأول ضلالهم عن التوراة والإنجيل، وبالثاني: ضلالهم عن القرآن. قال القرطبي: وتكرير ضلوا
كل أولئك قد ضلوا به وأضلوا كثيرًا ممن اتبعهم فيه، وسيكون لسبب شقائهم وعذابهم في الآخرة إنْ لم يرجعوا عنه، وينيبوا إلى الله منه.
٧٨ - وبعد أن بين الله ضلالهم وإضلالهم ذكر أسباب ذلك وأرشد إلى ما أخذهم به فقال: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾؛ أي: لعن الله تعالى اليهود في الزبور والنصارى في الإنجيل ﴿عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ بأن دعوا عليهم، فاليهود (٢) لعنوا على لسان داود، والنصارى لعنوا على لسان عيسى، والفريقان من بني إسرائيل، وهم أصحاب السبت وأصحاب المائدة. أمَّا أصحاب السبت فهم قوم داود، وذلك أن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت بأخذ الحيتان.. دعا عليهم داود عليه السلام وقال: اللهم العنهم واجعلهم آية، فمسخهم الله قردة. أما أصحاب المائدة، فإنَّهم لما أكلوا من المائدة وادخروا، ولم يؤمنوا.. قال عيسى عليه السلام: اللهم عذب من كفر بعدما أكل من المائدة عذابًا لم تعذبه أحدًا من العالمين، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت، فمسخوا خنازير وكانوا خمسة آلاف ليس فيهم امرأة ولا صبي، وستأتي قصتهم إن شاء الله تعالى ﴿ذَلِكَ﴾ اللعن
(٢) المراح.
٧٩ - ثم فسر الاعتداء والمعصية فقال تعالى: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ﴾؛ أي: كان بنوا إسرائيل لا ينهى بعضهم بعضًا ﴿عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾؛ أي: أرادوا فعله، وقيل: معناه لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه، ولا عن الإصرار عليه، والمعنى (١) أي: كانوا لا يمتنعون عن معاودة منكر فعلوه، ولا يتركونه، ولا يصدر من بعضهم نهي لبعض عن منكر أرادوا فعله. روى ابن مسعود عن النبي - ﷺ - أنه قال: "من رضي عمل قوم.. فهو منهم، ومن كثر سواد قوم.. فهو منهم". وفي أبي السعود: وليس (٢) المراد بالتناهي أن ينهى كل واحد منهم الآخر عما يفعله من المنكر، كما هو المعنى المشهور لصيغة التفاعل، بل المراد مجرد صدور النهي من أشخاص متعددة، من غير اعتبار أنْ يكون كل واحد منهم ناهيًا ومنهيًّا، كما في تراؤوا الهلال. انتهى. وعزتي وجلالي ﴿لَبِئْسَ﴾ وقبح ﴿مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ من ارتكاب المعاصي والعدوان، والمخصوص بالذم فعلهم هذا، وهو الإصرار على منكر فعلوه وترك النهي عنه.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إن أول ما دخل النقص علي بني إسرائيل أن كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض" ثم قال: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ إلى قوله: ﴿فَاسِقُونَ﴾ ثم قال: "كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ثم لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه - لتعطفنه وتردنه - على الحق أطرًا - عطفًا وردًّا - ولتقسرنه على الحق قسرا". زاد في رواية: "أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم". أخرجه أبو داود. والقسر: القهر والإجبار. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم القواعد الإِسلامية،
(٢) أبو السعود.
وأخرج الخطيب من طريق أبي سلمة عن أبيه أن النبي - ﷺ - قال: "والذي نفس محمد بيده ليخرجن ناسٌ من أمتي من قبورهم في صورة القردة والخنازير بما داهنوا أهل المعاصي وكفوا عن نهيهم وهم يستطيعون".
والآثار في هذا الباب كثيرة، وفيها وعيد عظيم على ترك التناهي ﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ وإلى متى نعرض عن أوامر ديننا ولا نرعوي عن غيّنا، ولا نتبع أوامر شرعنا.
٨٠ - وبعد أن ذكر الله تعالى لنبيه أحوال أسلافهم، ذكر له أحوال حاضريهم مما يدل على رسوخ تلك الملكات فيهم فقال: ﴿تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ﴾؛ أي: تبصر يا محمد كثيرًا من أهل الكتاب، ككعب بن الأشرف وأصحابه ﴿يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: يوالون ويصادقون كفار أهل مكة، أبا سفيان وأصحابه، بغضًا لرسول الله - ﷺ - وللمؤمنين؛ أي: فإن كعبًا وأضرابه خرجوا إلى مشركي مكة ليتفقوا على محاربة النبي - ﷺ -.
والمعنى: ترى أيها الرسول الكريم كثيرًا من بني إسرائيل يتولون الذين كفروا من مشركي قومك، ويحالفونهم عليك ويحرضونهم على قتالك، وأنت
وقد روي أن كعب بن الأشرف وأصحابه ذهبوا إلى مكة واستجاشوا المشركين على الرسول - ﷺ -، ولكن لم يتم لهم ما أرادوا إذ لم يلبوا لهم دعوة، ولا استجابوا لهم كلمة.
﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لبئس وقبح العمل الذي قدمته أنفسهم الخبيثة زادًا لآخرتهم من موالاتهم لعبدة الأوثان، والمخصوص بالذم ﴿أَنْ سَخِطَ اللَّهُ﴾ وغضب ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: موجب سخط الله عليهم، وهو العمل الذي هو موالاة عبدة الأوثان ﴿وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ﴾؛ أي: وخلودهم أبد الآبدين في عذاب جهنم، وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها، فهي من جملة المخصوص بالذم، فالقدير: سخط الله عليهم وخلودهم في العذاب. والمعنى؛ أي: بئس شيئًا قدموه لأنفسهم في آخرتهم الأعمال التي أوجبت سخط الله وعظيم غضبه، وسيجزون بها شر الجزاء، إذ سيحيط بهم العذاب ولا يجدون عنه مصرفًا ويخلدون في النار أبدًا، فالنجاة منه إنَّما تكون برضا الله عن عبده، وهم لم يعملوا إلا ما يوجب سخطه، وشديد غضبه.
٨١ - ﴿وَلَوْ كَانُوا﴾؛ أي: ولو كان أهل الكتاب الذين يوالون المشركين ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ﴾؛ أي: نبيهم الذي أرسل إليهم وهو موسى عليه السلام ﴿وما أُنزِلَ إليهم﴾ من التوراة كما يدعون ﴿مَا اتَّخَذُوهُمْ﴾؛ أي: ما اتخذ اليهود المشركين عبدة الأوثان ﴿أَوْلِيَاءَ﴾ وأصدقاء؛ لأن تحريم اتخاذ المشركين أولياء متأكد في التوراة في شرع موسى عليه السلام، فلما فعلوا ذلك.. ظهر أنه ليس مرادهم تقرير دين موسى واتباعه، بل مرادهم الرياسة والجاه، فيسعون في تحصيلها بأي طريق قدروا عليها. قال أبو السعود: وبيان الملازمة أن الإيمان بما ذكر وازع عن توليهم قطعًا. والمعنى؛ أي ولو كان أولئك اليهود الذين يتولون
والخلاصة: أن هذه الولاية بين اليهود والمشركين لم يكن لها من سبب إلا اتفاق الفريقين على الكفر بالله ورسوله، والتعاون على حربه وإبطال دعوته، والتنكيل بمن آمن به.
ويروى عن مجاهد أن المراد بالذين كفروا المنافقون؛ أي: إن أولئك المنافقين كفار، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي محمَّد - ﷺ - وما أنزل إليه من القرآن كما يدعون ما اتخذهم اليهود أولياء لهم، فتوليهم إياهم من أعظم الأدلة على أنهم يسترون الكفر ويظهرون الإيمان نفاقًا، وكان اليهود يتولون المشركين والمنافقين جميعًا لاشتراكهم في عداوة النبي - ﷺ - والمؤمنين.
وقد بين أسباب هذه الإلفة والعلة الجامعة بينهم فقال: ﴿وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ﴾؛ أي: ولكن كثيرًا من إليه ﴿فَاسِقُونَ﴾ أي خارجون عن الدين والإيمان بالله ونبيهم وكتابهم أما القليل منهم فقد آمن وإنما قال كثيرًا لأنه علم أن منهم من سيؤمن من مثل عبد الله بن سلام وأصحابه. والمعنى؛ أي: ولكن كثيرًا منهم متمردون في النفاق، خارجون عن حظيرة الدين، لا يريدون إلا الرياسة والجاه، ويسعون إلى تحصيلها من أي طريق قدروا عليه، ومتى سار الكثير من الأمة على طريق تبعه الباقون، إذ لا عبرة بالقليل في سيرة الأمة وأعمالها.
الإعراب
﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾.
﴿لَقَدْ﴾: (اللام): موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿كَفَرَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {إِنَّ اللَّهَ هُوَ
﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾.
﴿وَقَالَ﴾ (الواو): عاطفة أو استئنافية. ﴿قَالَ الْمَسِيحُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة أو معطوفة على جملة قوله: ﴿لَقَدْ كَفَرَ﴾. ﴿بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ منادى مضاف، وجمله النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿رَبِّي﴾: بدل من الجلالة. ﴿وَرَبَّكُمْ﴾: معطوف عليه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿إِنَّهُ﴾ إن حرف نصب. والهاء في محل النصب اسمها. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ والخبر جملة الجواب، أو الشرط أو هما. ﴿يُشْرِكْ﴾: فعل شرط مجزوم بمن وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿بِاللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُشْرِكْ﴾. ﴿فَقَدْ﴾ (الفاء): رابطة لجواب الشرط وجوبًا لاقترانه بـ (قد). ﴿قَدْ﴾. حرف تحقيق. ﴿حَرَّمَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونها جوابًا لها. ﴿عَلَيْهِ﴾. جار ومجرور متعلق بـ ﴿حَرَّمَ﴾ ـ ﴿الْجَنَّةَ﴾ مفعول به. ﴿وَمَأْوَاهُ النَّار﴾. مبتدأ وخبر، والجملة في محل الجزم معطوفة على جملة ﴿الْجَنَّةَ﴾ على كونها جوابًا لـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول القول، مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾: الواو: عاطفة أو استئنافية. ما حجازية أو تميمية. ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿ما﴾ أو للمبتدأ. ﴿مِنْ﴾ زائدة ﴿أَنْصَارٍ﴾: اسم ما مؤخر أو مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب معطوفة على ما قبلها على كونها مقولًا لـ ﴿قَالَ﴾ إنْ قلنا
الإعراب
﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾.
﴿لَقَدْ﴾: (اللام): موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿كَفَرَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب لقسم محذوف لا محل لها من الإعراب. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالُوا﴾ وَإنْ شئت قلت ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾ اسمها. ﴿ثَالِثُ﴾: خبرها. ﴿ثَلَاثَةٍ﴾ مضاف إليه، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿وَمَا﴾: (الواو): استئنافية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿إِلَهٍ﴾: مبتدأ، وخبر المبتدأ محذوف وجوبًا تقديره: وما إله كائن للخلق. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء. ﴿إِلَهٌ﴾ بدل من ﴿إِلَهٍ﴾ تابع لمحله. ﴿وَاحِدٌ﴾: صفة لـ ﴿إِلَهٌ﴾. وأجاز الكسائي اتباعه على اللفظ بالجر في غير القرآن، والجملة مستأنفة.
﴿وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
﴿وَإِنْ﴾ (الواو): استئنافية. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم. ﴿يَنْتَهُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونها فعل شرط لها ﴿عَمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَنْتَهُوا﴾. ﴿يَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: عما يقولونه ﴿لَيَمَسَّنَّ﴾ (اللام): موطئة لقسم محذوف. ﴿يمسن﴾: فعل مضارع في محل الرفع، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور في موضع الحال إمَّا ﴿من﴾ الذين أو من ضمير الفاعل في ﴿كَفَرُوا﴾ وجرى الزمخشري على أنها بيانية. ﴿عَذَابٌ﴾: فاعل ﴿أَلِيمٌ﴾ صفة لـ ﴿عَذَابٌ﴾ والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم، والقدير: والله إن لم ينتهوا ليمسن الذين كفروا يمسهم عذاب أليم، وجاء هذا على القاعدة المقررة عندهم، وهي: إنَّه إذا اجتمع
وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ | جَوَابَ مَا أَخَّرْتَ فَهُوَ مُلْتَزَمْ |
وِإنْ تَوَالَيَا وَقَبْلُ ذُوْ خَبَرْ | فَالشَّرْطَ رَجِّحْ مُطْلَقًا بِلا حَذَرْ |
وَرُبَّمَا رُجِّحَ بَعْدَ قَسَمِ | شَرْطٌ بِلا ذِيْ خَبَرٍ مُقَدَّمِ |
قلت: إنَّه لو قصد تأخر القسم في التقدير لأجيب الشرط، فلما أجيب القسم.. علم أنَّه مقدر التقديم.
﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤)﴾.
﴿أَفَلَا﴾: (الهمزة): للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف تقديره: ألا ينتهون عن تلك العقائد الباطلة. (والفاء): عاطفة على ذلك المحذوف. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَتُوبُونَ﴾: فعل وفاعل مرفوع بالنون، والجملة المحذوفة مع ما عطف عليها جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. ﴿إِلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَتُوبُونَ﴾. ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿وَاللَّهُ﴾: (الواو): واو الحال. ﴿اللهُ﴾: مبتدأ. ﴿غَفُورٌ﴾: خبر أول. ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان، والجملة في محل النصب حال من مفعول ﴿يَسْتَغْفِرُونَهُ﴾.
﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأكُلَانِ الطَّعَامَ﴾.
﴿مَا﴾: نافية. ﴿الْمَسِيحُ﴾: مبتدأ. ﴿ابنُ﴾: صفة لـ ﴿المسيح﴾. ﴿مَرْيَمَ﴾: مضاف إليه. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿رَسُولٌ﴾: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة مسوقة لتحقيق الحق الذي لا محيد عنه، وبيان حقيقة حاله عليه السلام وحال أمه. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿خَلَتْ﴾: فعل ماضٍ. ﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿خَلَتْ﴾. ﴿الرُّسُلُ﴾: فاعل، والجملة في محل الرفع صفة لـ ﴿رَسُولٌ﴾، ولكنها سببية. ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾: مبتدأ وخبر،
﴿انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)﴾.
﴿انْظُر﴾ فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد أو على أي مخاطب، والجملة مستأنفة ﴿كَيْفَ﴾ للاستفهام التعجبي في محل النصب على التشبيه بالمفعول به، والعامل فيه ﴿نُبَيِّنُ﴾، ولا يجوز أن يكون معمولًا لما قبله؛ لأنَّ له صدر الكلام ﴿نُبَيِّنُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾. ﴿لَهُمُ﴾: جار ومجرور متعلق به ﴿الْآيَاتِ﴾ مفعول به، وهذه الجملة الاستفهامية في محل النصب مفعول لـ ﴿انْظُرْ﴾، و ﴿كَيْفَ﴾ معلقة له عن العمل في لفظه. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿انْظُر﴾: فعل وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة ﴿انْظُر﴾ الأولى، ورتب بينهما بـ ﴿ثُمَّ﴾ لتراخي ما بين العجبين، وكأنه (١) أثبت العجب من توضيح الآيات، وتبيينها ثم ينظر إلى حال من بينت له، فيرى إعراضهم عن الآيات أعجب من توضيحها؛ لأنَّه يلزم من تبيينها تبينها لهم، والرجوع إليها، فكونهم أفكوا عنها أعجب. ﴿أَنَّى﴾: اسم استفهام بمعنى كيف في محل النصب على التشبيه بالمفعول به، والعامل فيه ما بعده. ﴿يُؤْفَكُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مفعول به لـ ﴿انْظُرْ﴾ معلقة عنها باسم الاستفهام.
﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد والجملة مستأنفة.
﴿أَتَعْبُدُونَ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: (الهمزة): للاستفهام
﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (٧٧)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد والجملة مستأنفة ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾ وإن شئت قلت ﴿يا﴾: حرف نداء. ﴿أَهْلَ الْكِتَابِ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿لَا﴾: ناهية. ﴿تَغْلُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية. ﴿فِي دِينِكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَغْلُوا﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول القول على كونها جواب النداء ﴿غَيْرَ الْحَقّ﴾ صفة لمصدر
﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨)﴾.
﴿لُعِنَ الَّذِينَ﴾: فعل ونائب فاعل والجملة مستأنفة. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، في محل النصب حال من ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أو من ضمير الفاعل في ﴿كَفَرُوا﴾. ﴿عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿لُعِنَ﴾. ﴿وَعِيسَى﴾ معطوف على ﴿دَاوُودَ﴾. ﴿ابْنِ مَرْيَمَ﴾: صفة لـ ﴿عيسى﴾. ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿بِمَا﴾: ﴿الباء﴾): حرف جر وسبب. و ﴿مَا﴾: مصدرية. ﴿عَصَوْا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة (ما) المصدرية. ﴿مَا﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: بعصيانهم، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ تقديره: ذلك اللعن المذكور كائن بسبب عصيانهم، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿وَكَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يعتدون﴾: في محل النصب خبر كان
﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩)﴾.
﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿لَا يَتَنَاهَوْنَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب خبر كان، وجملة كان مستأنفة. ﴿عَنْ مُنْكَرٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَتَنَاهَوْنَ﴾. ﴿فَعَلُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر صفة لـ ﴿مُنْكَرٍ﴾. ﴿لَبِئْسَ﴾ (اللام): موطئة للقسم. ﴿بِئْسَ﴾: فعل ماض من أفعال الذم. ﴿مَا﴾: موصولة في محل الرفع فاعل. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. وجملة ﴿يَفْعَلُونَ﴾ خبر ﴿كَانُوا﴾ وجملة ﴿كَانُوا﴾ صلة لما الموصولة، وجملة ﴿بِئْسَ﴾ جواب القسم لا محل لها من الإعراب، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: فعلهم هذا الذي هو ترك النهي عن المنكر.
﴿تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
﴿تَرَى كَثِيرًا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، وهي بصرية تتعدى إلى مفعول واحد. ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور صفة ﴿كَثِيرًا﴾ والجملة الفعلية مستأنفة ﴿يَتَوَلَّوْنَ﴾ فعل وفاعل ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول للجمع المذكر في محل النصب مفعول به، وجملة ﴿يَتَوَلَّوْنَ﴾ في محل النصب حال من ﴿كَثِيرًا﴾ لتخصصه بالصفة، أو في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿تَرَى﴾ إن قلنا إنَّها علمية، والأول أنسب ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول.
﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ﴾.
﴿لَبِئْسَ﴾: (اللام): موطئة للقسم. ﴿بِئْسَ﴾: فعل ماض من أفعال الذم. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع فاعل. ﴿قَدَّمَتْ﴾ فعل ماض. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به. ﴿أَنْفُسُهُمْ﴾: فاعل قدم، وجملة قدم صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: ما قدمته لهم أنفسهم، وجملة بئس جواب القسم لا محل لها من
﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٨١)﴾.
﴿وَلَوْ﴾: (الواو): استئنافية. ﴿لو﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿يُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل مرفوع بالنون. ﴿بِاللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿وَالنَّبِيِّ﴾: معطوف على الجلالة. ﴿وَمَا﴾ ما موصولة أو موصوفة في محل الجر، معطوفة على الجلالة أيضًا. ﴿أُنْزِلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾. ﴿إِلَيْهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أُنْزِلَ﴾ وجملة ﴿أُنْزِلَ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، وجملة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ من الفعل والفاعل في محل النصب خبر كان، وجملة ﴿كان﴾: فعل شرط لـ ﴿لو﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿مَا اتخذوهُم﴾ ﴿مَا﴾: نافية. ﴿اتَّخَذُوهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿أَوْلِيَاءَ﴾: مفعول ثان وجملة ﴿اتخذ﴾: جواب (لو) لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لو﴾ مستأنفة. ﴿وَلَكِنَّ﴾ (الواو): استئنافية. ﴿لكن﴾: حرف نصب. ﴿كَثِيرًا﴾: اسمها. ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿كَثِيرًا﴾. ﴿فَاسِقُونَ﴾: خبر ﴿لكن﴾ وجملة ﴿لكن﴾ مستأنفة استدراكية لا محل لها من الإعراب.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَمَأوَاهُ النَّارُ﴾ المأوى اسم مكان من أوى الرجل البيت، يأوي من باب رمى، إواء ومأوى بالفتح على القياس إذا نزل فيه؛ لأنّه معتل اللام فقياس
﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ والأنصار جمع ناصر، والنسبة إليه أنصاري، والناصر المعين لك على دفع ضد، أو عدوّ ﴿إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ والراد بثالث ثلاثة واحد من ثلاثة، ولهذا يضاف إلى ما بعده ولا يجوز فيه التنوين كما قاله الزجاج وغيره، وإنَّما ينون وينصب ما بعده إذا كان ما بعده دونه بمرتبة نحو: ثالث اثنين، ورابع ثلاثة؛ أي: جاعل اثنين ثلاثة، وجاعل ثلاثة أربعةً.
﴿لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يقال: مسه الشيطان بنصب أو عذاب يمسه ومسيسًا ومسيسي إذا أصابه به، فهو من المضاعف المعدى، فقياسه ضم عين مضارعه، ولكن فتح هنا لأن ما قبل نون التوكيد لا ينون إلا مفتوحًا. ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ يقال: خلا الشيء يخلو خلوًا وخلاء، إذا مضى، يقال: فعلته لخمس خلون من الشهر؛ أي: مضين. ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾؛ أي: وما (١) أمه إلا صادقة فيما تقوله أو مصدقة لما جاء به ولدها من الرسالة، وذلك لا يستلزم الإلهية لها. قال أبو حيان (٢): هذا البناء من أبنية المبالغة، والأظهر أنَّه من الثلاثي المجرد، إذ بناء هذا التركيب منه كسكيت وسكير وشريب وطبيخ، من سكت وسكر وشرب وطبخ، ولا يعمل ما كان مبنيًّا من الثلاثي المتعدي كما يعمل فعول وفعال ومفعال، فلا يقال: زيد شريب الماء، كما تقول: ضراب زيدًا، والمعنى: الإخبار عنها بكثرة الصدق. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون من التصديق، وبه سمي أبو بكر الصديق، ولم يذكر الزمخشري غير أنه من التصديق، وهذا القول خلاف الظاهر من هذا البناء انتهى.
﴿ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ يقال: أفك الرجل يؤفك، إذا ضعف عقله الأفيك والمأفوك عاجز الرأي. قال أبو (٣) حيان: الأفك بفتح الهمزة مصدر أفكه يأفكه إذا قلبه وصرفه ومنه: ﴿أَجِئْتَنَا لِتَأفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا﴾. ويقال: يؤفك عنه من
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
إِنْ كُنْتُ عَنْ أحْسَنِ الْمُرُوْءَةِ مَأْ | فُوْكًا فَفِيْ آخَريْنَ قَدْ أُفِكُوْا |
﴿وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ﴾ والأهواء (١) جمع هوى، وهو ما تدعو شهوة النفس إليه. قال الشعبي: ما ذكر الله تعالى الهوى في القرآن إلا وذمه. وقال أبو عبيدة لم نجد الهوى يوضع إلا موضع الشر؛ لأنه يقال: فلان يهوى الخير، إلا أنه يقال: فلان يحب الخير ويريده. فالأهواء: الآراء التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة ﴿سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ السواء في الأصل الوسط، ولكن المراد به هنا الدين الحق، والسواء أيضًا المثل، يقال في المثنى: هما في هذا الأمر سواء، وإن شت قلت: سواءان، وفي الجمع هم سواء، أو هم أسواء، ويقال أيضًا في الجمع على غير قياس: هم سواس وسواسية وسواسوة؛ أي: متساويان ومستاوون.
﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ واللعن: الحرمان من لطف الله وعنايته، والمراد باللسان (٢) الجارحة لا اللغة كذا قاله الشيخ، يعني: إن الناطق بلعن هؤلاء لسان هذين النبيين وجاء قوله: ﴿عَلَى لِسَانِ﴾ بالإفراد دون التثنية والجمع، فلم يقل على لساني بالتثنية لقاعدة كلية وهي أن كل جزئين مفردين من صاحبيهما إذا أضيفا إلى كليهما من غير تفريق.. جاز
(٢) الفتوحات.
﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا﴾ أصله عصيوا، تحركت الياء وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفًا فالتقى ساكنان، ثم حذفت الألف، فصار عصوا لأنّه من عصى سيده يعصى من باب رمى عصيًا، ومعصية إذا خرج في طاعته، وخالف أمره وعانده فهو عاص. ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ ظاهره (١) أن التفاعل بمعنى الاشتراك، أي: لا ينهى بعضهم بعضًا، وذلك أنهم جمعوا بين فعل المنكر والتجاهر به، وعدم النهي عنه، والمعصية إذا فعلت وقدرت على العبد.. ينبغي أن يستتر بها وفي الحديث من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر، فإذا فعلت جهارًا وتواطئوا على عدم الإنكار.. كان ذلك تحريضًا على فعلها"، ومسببًا مثيرًا لإفشائها وكثرتها. وقيل: التفاعل هنا بمعنى الافتعال، يقال: انتهى عن الأمر وتناهى عنه إذا كف، والمعنى كانوا لا يمتنعون عن منكر.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ﴾. لأنَّ التحريم هنا مستعمل في المنع مجازًا، لانقطاع التكليف في دار الاخرة. وفيه أيضًا إظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتهويل الأمر وتربية المهابة.
ومنها: الإظهار أيضًا في مقام الإضمار في قوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ
ومنها: التكرار في قوله: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا﴾ لتكرير الشهادة عليهم بالكفر، وللإعلام بأنهم كانوا بمكان من الكفر.
ومنها: الإظهار أيضًا في مقام الإضمار في قوله: ﴿لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إذ الأصل أن يقال: ليمسنهم أظهره لتكرير الشهادة عليهم بالكفر.
ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ﴾ استدعاء لهم إلى التنصل من تلك المقالة الشنعاء بعد أن كرر عليهم الشهادة بالكفر.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾.
ومنها: القصر في قوله: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ﴾. ﴿ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾. قال أبو السعود: تكرير الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب ولفظ: ثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت؛ أي: إن بيانًا للآيات أمر بديع بالغ أقصى الغايات من الوضوح والتحقيق، وإعراضم عنها أعجب وأبدع.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾.
ومنها: التفصيل في النهي في قوله: ﴿لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ﴾.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿قَوْمٍ﴾ تحقيرًا لهم.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا﴾.
ومتها: التعجيب في قوله: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ فإن فيه تعجيبًا من سوء فعلهم مؤكدًا ذلك بالقسم.
ومنها: الحذف في عدة مواضع.
* * *
ولقد أجاد من قال هذا البيت:
وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيْلَةٌ | وَلَكنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِيْ الْمَسَاوِيَا |
أَيُّها الْمُبْتَلَى بِكَشْفِ الْعَوْرَاتِ | فَإِنَّ لَكَ عَوْرَةٌ أسْوَأُ الْعَوْرَاتِ |
لا تَنْظُرْ كِتَابَتِيْ بِعَيْنِ التَّنْقِيْصِ | فَإِنَّهَا غَالِيَةٌ عَنِ التَّرْخِيْصِ |
وكان الفراغ من مسودة هذا المجلد السابع في الليلة الحادية والعشرين منتصف الليل، من شهر الله المبارك الجمادى الأخيرة، من شهور سنة تسع وأربع مئة وألف من الهجرة النبوية بحارة الرشد من المسفلة من مكة المكرمة زادها الله تعالى شرفًا، وختم عمرنا فيها - ﷺ - من لا نبي من بعده سيدنا محمد وآله وصحبه وجنده والحمد لله رب العالمين. آمين.
تمّ بعون الله تعالى المجلد السابع من تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، ويليه المجلد الثامن وأوله قوله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢)﴾ آية رقم: ٨٢ من آيات سورة المائدة.
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
إشراف ومراجعة
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
«المجلد الثامن»
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
[٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
جَنَى اللهُ خَيْرًا تَأَمَّلَ صَنْعَتِيْ | وَقَابَلَ مَا فِيْهَا مِنَ السَّهْوِ بِالْعَفْوِ |
وَأَصْلَحَ مَا أَخْطَأتُ فِيْهِ بِفَضْلِهِ | وَفِطنَتِهِ أَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْ سَهْوِيْ |
نَسْأَلُكَ يَا مُسَبِّبَ الأَسْبَابِ | تَيْسِيْرَ الأمُوْرِ يَا رَب الأرْبَابِ |
في تَفْسِيْرِنا أَفْضَلَ الْكِتَابِ | كِتَابَكَ يَا فَاتِحَ ألأَبْوَابِ |
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، والصلاة والسلام على الرسول الكريم المرتضى، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه نجوم الهدى، وعلى التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الفصل والقضا.أما بعد: فإني لما فرغت من تفسير الجزء السادس من القرآن.. قصدت أن أشرع في تفسير الجزء السابع منه مستعينًا بعون الملك الجواد، مستمدًا منه التوفيق والسداد لأقوم الطريق والرشاد فقلت:
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (٨٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)﴾.
قوله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى (١) لما حاج أهل الكتاب، وذكر من مخازيهم أنهم اتخذوا الدين الإِسلامي هزوًا ولعبًا، وأن اليهود منهم قالوا: يد الله مغلولة، وأنهم قتلوا رسلهم تارة، وكذبوهم أخرى، وأن النصارى منهم اعتقدوا عقائد زائفة، فمنهم من قال: المسيح ابن الله، ومنهم من قال: إن الله ثالث ثلاثة، وقد عابهم على ذلك، وكرَّ عليهم بالحجة إثر الحجة لتنفيذ ما كانوا يعتقدون.. ذكر هنا أحوالهم في عداوتهم للمؤمنين، ومحبتهم لهم، ومقدار تلك المحبة والعداوة، وبين حال المشركين مع المؤمنين بالتبع.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ...﴾ الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أن الله سبحانه وتعالى لما (٢) مدح النصارى بأنهم أقرب الناس مودة للمؤمنين، وذكر من أسباب ذلك أن منهم قسيسين ورهبانًا.. ظن المؤمنون أن في هذا ترغيبًا في الرهبانية، وظن الميالون للتقشف والزهد أنها منزلة تقربهم إلى الله، ولن تتحقق إلا بترك التمتع بالطيبات من الطعام واللباس والنساء، إما دائمًا كامتناع من الزواج، وإما في أوقات معينة، كأنواع الصيام التي ابتدعوها، فأزال الله هذا الظن، وقطع عرق هذا الوهم بذلك النهي الصريح.
وقال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها هي (٣): أنه تعالى لما مدح النصارى بأن منهم قسيسين ورهبانًا، وعادتهم الاحتراز عن طيبات الدنيا ومستلذاتها وأوهم ذلك ترغيب المسلمين في مثل ذلك التقشف والتبتل.. بيّن تعالى أن الإِسلام لا رهبانية فيه.
وقال رسول الله - ﷺ -: "أمّا أنا فأقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، وأنال الطيب، فمَن رغب عن سنتي فليس مني" وأكل - ﷺ - الدجاج والفالوذج،
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
قوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما نهى عن تحريم الطيبات، وعن الإعداء فيها، وتجاوز الحدود؛ لأن قومًا من المسلمين تنسكوا وحرموا على أنفسهم اللحم والنساء وغيرها من الطيبات تقربًا إلى الله تعالى.. سألوا عما يصنعون بأيمانهم التي حلفوا عليها، فأنزل الله تعالى هذه الآية جوابًا لهم عما سألوا.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (١) ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وعروة بن الزبير قالوا: بعث رسول الله - ﷺ - عمرو بن أمية الضمري، وكتب معه كتابًا إلى النجاشي، فقدم على النجاشي، فقرأ كتاب رسول الله - ﷺ -، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين، ثم أمر جعفر بن أبي طالب، فقرأ عليهم سورة مريم، فآمنوا بالقرآن، وفاضت أعينهم من الدمع، فهم الذين أنزل الله فيهم: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً﴾ إلى قوله: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾.
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: بعث النجاشي ثلاثين رجلًا من خيار أصحابه إلى رسول الله - ﷺ -، فقرأ عليهم سورة يس، فبكوا، فنزلت فيهم الآية.
وأخرج النسائي عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾ وروى الطبراني عن ابن عباس نحوه بأبسط منه.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا...﴾ الآية، روى الترمذي وغيره عن ابن عباس: أن رجلًا أتى النبي - ﷺ -، فقال: يا رسول الله، إني إذا أصبت
وأخرج ابن جرير (١)، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ قال: نزلت هذه الآية في رهط من الصحابة، قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان، فبلغ ذلك النبي - ﷺ -، فأرسل إليهم، فذكر لهم ذلك، فقالوا: نعم، فقال النبي - ﷺ -: "لكنى أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني".
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن عكرمة: أن عثمان بن مظعون، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، والمقداد بن الأسود، وسالمًا مولى أبي حذيفة، وقدامة تبتلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح (٢)، وحرموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهمُّوا بالاختصاء، وأجمعوا على القيام بالليل، وصيام النهار فنزلت الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ الآية. فلما نزلت.. بعث إليهم رسول الله - ﷺ -، فقال: "إن لأنفسكم حقًّا، وإن لأعينكم حقًّا، وإن لأهلكم حقًّا، فصلوا وناموا، وصوموا وأفطروا، فليس منا من ترك سنتنا"، فقالوا: اللهم صدقنا واتبعنا ما أنزلت مع الرسول.
وروى ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم: أن عبد الله بن رواحة أضافه ضيف من أهله، وهو عند النبي - ﷺ -، ثم رجع إلى أهله، فوجدهم لم يطعموا ضيفه انتظارًا، فقال لامرأته: حبست ضيفي من أجلي؟ هو حرام علي، فقالت امرأته: هو عليَّ حرام، فقال الضيف: هو عليَّ حرام، فلما رأى ذلك.. وضع يده وقال: كلوا بسم الله، ثم ذهب إلى النبي - ﷺ -، فذكر الذي كان منهم، ثم أنزل
(٢) المسوح - جمع مسح بكسر فسكون -: هو كساء من شعر يلبسه الرهبان.
قوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ...﴾ الآية، سبب (١) نزولها: أنه لما نزل قوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ...﴾ قال القوم الذين كانوا حرموا النساء واللحم: يا رسول الله، كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فنزلت هذه الآية. رواه العوفي عن ابن عباس.
التفسير وأوجه القراءة
٨٢ - وعزتي وجلالي ﴿لَتَجِدَنَّ﴾ يا محمد ﴿أَشَدَّ النَّاسِ﴾ وأكثرهم وأبلغهم، والناس هنا: الكفار؛ أي: ولتجدن أشد الكفار ﴿عَدَاوَةً﴾ وبُغضًا ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ بك واتبعوك وصدقوا بما جئتهم به ﴿الْيَهُودَ﴾ يعني: يهود بني قريظة والنضير وفدك وخيبر وغيرهم من سائر يهود الحجاز؛ لشدة شكيمتهم - إبائهم وأنفتهم من الحق - وتضاعف كفرهم، وانهماكهم في اتباع الهوى، وقربهم إلى التقليد، وبعدهم عن التحقيق.
وعن النبي - ﷺ - أنه قال: "ما خلا يهوديان بمسلم إلا همَّا بقتله". وقد قال بعضهم: مذهب اليهود: أنه يجب عليهم إيصال الشر إلى من خالفهم في الدين بأي طريق كان، فإن قدروا على القتل فذاك، وإلا فبغصب المال، أو بالسرقة، أو بنوع من الحيلة. وأما النصارى: فليس مذهبهم ذلك، بل الإيذاء حرام في دينهم.
وذكر الله تعالى فيما سيأتي آنفًا أن النصارى ألين عريكة - أسهل خلقًا - من اليهود، وأقرب إلى المسلمين منهم.
﴿وَ﴾ لتجدن أيضًا أشدهم عداوة للذين آمنوا ﴿الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾؛ أي: المشركين من أهل مكة عبدة الأوثان، الذين اتخذوها آلهة يعبدونها من دون الله، وأشد ما لاقى النبي - ﷺ - من العداوة والإيذاء كان من يهود الحجاز في المدينة وما حولها، ومن مشركي العرب ولا سيما مكة وما قرب منها، وقد كان اليهود والمشركون مشتركين في بعض الصفات والأخلاق التي اقتضت عداوتهم الشديدة
ولما أرسل النبي - ﷺ - كتبه إلى الملوك ورؤساء الشعوب.. كان النصارى منهم أحسنهم ردًّا، فهرقل ملك الروم في الشام حاول إقناع رعيته بقبول الإِسلام، فلم يستطع لجمودهم على التقليد، فاكتفى بالرد الحسن. والمقوقس عظيم القبط في مصر كان أحسن منه ردًّا - وإن لم يكن أكثر منه ميلًا إلى الإِسلام - وأرسل للنبي - ﷺ - هدية حسنة، ثم لما فتحت مصر والشام، وعرف أهلهما ما للإسلام من مزايا.. هرعوا إلى الدخول في الدين أفواجًا، وكان القبط أسرع إليه قبولًا.
والخلاصة: أن النبي - ﷺ - والمؤمنين به رأوا في عصره من مودة النصارى وقربهم من الإِسلام بقدر ما رأوا من عداوة اليهود والمشركين، وأن من توقف من ملوكهم عن الإِسلام، فما كان توقفه إلا ضنًّا بملكه، وأن النجاشي - أصحمة ملك الحبشة - قد أسلمت معه بطانته من رجال الدين والدنيا، ولكن الإِسلام لم ينتشر في الحبشة بعد موته، ولم يهتم المسلمون بإقامة دينهم في تلك البلاد كما فعلوا في مصر والشام.
وإنما أسند (١) تسميتهم نصارى إليهم دون تسمية اليهود؛ للإشعار بقرب مودتهم، حيث يدَّعون أنهم أنصار الله، وأَوِدَّاءُ أهل الحق، وإن لم يظهروا اعتقاد حقية الإِسلام، فتسميتهم نصارى ليست حقيقة، بخلاف تسمية اليهود يهودًا فإنها حقيقة، سواء سموا بذلك لكونهم أولاد ابن يعقوب: يهودا، أو لكونهم تابوا عن عبادة العجل، أو لترجيعهم في دراستهم إن قلنا: من تهود بمعنى: رجع ومطّط في الدراسة، ولكن ما رأينا في كتب اللغة: تهود بمعنى: تحرك في الدراسة، كما قاله أبو العلاء المعري.
فإن قلت: كافر (٢) النصارى أشد من كفر اليهود؛ لأن النصارى ينازعون في الألوهية، فيدعون لله ولدًا، واليهود إنما ينازعون في النبوة، فينكرون نبوة بعض الأنبياء، فلِمَ ذم اليهود ومدح النصارى؟
قلتُ: هذا مدح في مقابلة ذم، وليس مدحًا على الإطلاق، وأيضًا الكلام في عداوة المسلمين وقرب مودتهم، لا في شدة الكفر وضعفه، وقد قال بعضهم: مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر والأذى إلى من خالفهم في الدين، ومذهب النصارى أن الأذى حرام، فحصل الفرق بين اليهود والنصارى كما مر آنفًا.
وقيل: إن اليهود مخصوصون بالحرص الشديد، وطلب الرياسة، ومن كان كذلك.. كان شديد العداوة لغيره، وأما النصارى: فإن فيهم من هو معرض عن الدنيا ولذاتها، وترك طلب الرياسة، ومن كان كذلك.. فإنه لا يحسد أحدًا، ولا يعاديه، بل يكون ألين عريكة - أخلاقًا - في طلب الحق، فلهذا قال: ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: كونهم أقرب مودة للمؤمنين ﴿بِأَنَّ مِنْهُمْ﴾؛ أي: بسبب أن منهم ﴿قِسِّيسِين﴾؛ أي: علماء ﴿وَرُهْبَانًا﴾؛ أي: عبادًا، أصحاب صوامع {وَأَنَّهُمْ لَا
(٢) الفتوحات.
٨٣ - ﴿وَإِذَا سَمِعُوا﴾؛ أي: وإذا سمع أولئك الذين قالوا: إنا نصارى ﴿مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ﴾ محمد - ﷺ - الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وهو القرآن ﴿تَرَى أَعْيُنَهُمْ﴾؛ أي: تبصر أيها المخاطب الحاضر عندهم أعين أولئك السامعين ﴿تَفِيضُ﴾ وتسيل ﴿مِنَ الدَّمْعِ﴾ وهو ماء العين؛ أي: تمتلىء من الدمع حتى يسيل ويتدفق من جوانبها لكثرته.
وقرىء: ﴿تَرَى أَعْيُنَهُمْ﴾ بالبناء للمجهول. ﴿مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقّ﴾؛ أي: لأجل ما عرفوه من الحق الذي بينه لهم القران، ولم يمنعهم من قبوله ما يمنع غيرهم من عتو واستكبار، أو مما عرفوا في كتابهم من نعت محمد - ﷺ -. ثم ذكر سبحانه ما يكون منهم من القول إثر بيان ما كان من حالهم فقال: ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا﴾؛ أي: ترى أعينهم تفيض من الدمع حالة كونهم يقولون: ربنا ويا مالك
والمعنى (١): يقولون هذه المقالة قاصدين بها إنشاء الإيمان والتضرع إلى الله تعالى، والخضوع له بأن يتقبله منهم، ويكتبهم مع أمة محمد - ﷺ - الذين جعلهم الله تعالى شهداء على الناس؛ لأنهم كانوا يعلمون من كتبهم ومما يتناقلونه عن أسلافهم أن النبي الكريم الذي يكمل به الدين، ويتم به التشريع العام، يكون متبعوه شهداء على الناس، ويكونون حجة على المشركين والمبطلين، كما جاء في الآية الأخرى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾.
٨٤ - ثم زادوا كلامهم توكيدًا فقالوا: ﴿وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقّ﴾ والاستفهام فيه استفهام استبعاد وإنكار؛ أي: وأيُّ مانع يمنعنا من الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو، ويصدنا عن اتباع ما جاءنا من الحق على لسان هذا النبي الكريم بعد أن ظهر لنا أنه هو روح الحق الذي بشر به المسيح ﴿وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ﴾؛ أي: وإننا لنطمع ونرجو بذلك الإيمان أن يدخلنا ربنا ويكتبنا مَعَ القوم الذين صلحت أنفسهم بالعقائد الصحيحة، والفضائل والآداب الكاملة، وهم أتباع هذا النبي الكريم الذين استبان لنا أثر صلاحهم، وشاهدناه بأعيننا بعد ما كان منهم من فساد في الأرض، وعتو كبير في جاهليتهم.
والخلاصة: أنه لا مانع لنا من هذا الإيمان بعد أن تظاهرت أسبابه، وتحققت موجباته، فوجب علينا الجري على سننه واتباع نهجه وطريقه.
٨٥ - ثم بين سبحانه ما جازاهم به على ذلك فقال: ﴿فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ﴾؛ أي: فجزاهم الله وأعطاهم من الثواب ﴿بِمَا قَالُوا﴾؛ أي: بسبب ما قالوا ونطقت به ألسنتهم من
وقرأ الحسن (١): ﴿فآتاهم﴾ من الإيتاء بمعنى: الإعطاء، لا من الإثابة، والإثابة أبلغ من الإعطاء؛ لأنه يلزم أن يكون عن عمل، بخلاف الإعطاء فإنه لا يلزم أن يكون عن عمل، ولذلك جاء أخيرًا ﴿وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾ نبَّه على أن تلك الإثابة هي جزاء، والجزاء لا يكون إلا عن عمل. ﴿جَنَّاتٍ﴾ وحدائق في دار النعيم ﴿تَجْرِي﴾ وتسيل ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾؛ أي: من تحت أشجارها الوارفة الظلال، وفي قصورها الرفيعة ﴿الْأَنْهَارُ﴾ الأربعة: الماء واللبن والخمر والعسل ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾؛ أي: مقدرين الخلود فيها أبدًا، فلا يسلبها منهم أحد، ولا هم يرغبون عنها ﴿وَذَلِكَ﴾ الجزاء المذكور من الجنات الموصوفة ﴿جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾؛ أي: جزاء الذين أخلصوا عقائدهم، وأحسنوا أعمالهم، وعلينا أن نقف في وصف نعيم الآخرة على ما جاء به القران الكريم وصحت به السنة النبوية، ولا نعدوا ذلك إلى ما وراءه، فإن النعيم الروحاني والرضوان الإلهي لا يمكن أن يعبِّر عنه الكلام، ولا يحيط به الوصف، فنحن في عالم يخالف ذلك العالم في أوصافه وخواصه، مهما أكثرنا من الوصف فلا نصل إلى شيء مما أعده الله لهم هناك: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٧)﴾.
٨٦ - وبعد أن بيَّن سبحانه ما أعد لعباده المحسنين من عظيم الثواب جزاء صادق إيمانهم.. ذكر جزاء المسيئين إلى أنفسهم بالكفران والتكذيب؛ جريًا على سنة القرآن في الجمع بين الوعد والوعيد، قال: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وجحدوا توحيد الله، وأنكروا نبوة محمد - ﷺ - ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ القرانية ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾؛ أي: أصحاب النار الشديدة الحرارة وسكانها المقيمون فيها، لا يبرحون عنها أبد الآبدين، والجحيم والجاحم ما اشتد حره من النار.
فصل في ذكر قصة الهجرة الأولى، وسبب نزول هذه الآية
قال ابن عباس (١) - رضي الله عنهما - وغيره من المفسرين في قوله: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ إن قريشًا ائتمرت أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم، فوثبت كل قبيلة على من آمن منهم، فآذوهم وعذبوهم، فافتتن من افتتن، وعصم الله من شاء منهم، ومنع الله رسوله محمدًا - ﷺ - بعمه أبي طالب، فلما رأى رسول الله - ﷺ - ما نزل بأصحابه، ولم يقدر أن يمنعهم من المشركين، ولم يؤمر بعد بالجهاد.. أمر أصحابه بالخروج إلى أرض الحبشة، وقال: "إن بها ملكًا صالحًا لا يظلم، ولا يظلم عنه أحد، فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجًا، فخرج إليها أحد عشر رجلًا، وأربع نسوة سرًّا، وهم: عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله - ﷺ -، والزبير بن العوام، وعبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو حذيفة بن عقبة وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو، ومصعب بن عمير، وأبو سلمة بن عبد الأسد وزوجته أم سلمة بنت أمية، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة، وحاطب بن عمرو، وسهيل بن بيضاء، فخرجوا إلى البحر، وأخذوا سفينة بنصف دينار إلى أرض الحبشة، وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث النبي - ﷺ -، وهذه الهجرة الأولى.
ثم خرج بعدهم جعفر بن أبي طالب، وتتابع المسلمون، فكان جميع من هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلًا سوى النساء والصبيان، فلما علمت قريش بذلك.. وجهوا عمرو بن العاص وجماعة بهدايا إلى النجاشي وبطارقته؛ ليردوهم إليهم، فدخل إليه عمرو وقال له: أيها الملك، إنه قد خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها، وزعم أنه نبي، وإنه قد بعث إليك برهط من أصحابه ليفسدوا عليك قومك، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم، وأن قومهم يسألونك أن تردوهم إليهم، فقال: حتى نسألهم، فأمر بهم، فأحضروا، فلما أتوا
وكتب رسول الله - ﷺ - إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضميري أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت قد هاجرت مع زوجها ومات عنها، فأرسل النجاشي جارية - يقال لها: أبرهة - إلى أم حبيبة يخبرها أن رسول الله قد خطبها، فسُرَّت بذلك، وأعطت الجارية أوضاحًا (١) كانت لها، وأذنت لخالد بن سعيد في نكاحها، فأنكحها رسولَ الله - ﷺ - على صداق مبلغه أربع مئة دينار، وكان الخاطب لرسول الله - ﷺ - النجاشي، فأرسل إليها بجميع الصداق على يد جاريته أبرهة، فلما جاءَتها بالدنانير.. وهبتها منه خمسين دينارًا، فلم تأخذها، وقالت: إن الملك أمرني أن لا آخذ منك شيئًا، وقالت: أنا صاحبة دهن الملك وثيابه، وقد صدقت بمحمد - ﷺ -، وآمنت به، وحاجتي إليك أن تقرئيه منى
قالت أم حبيبة: فخرجنا إلى المدينة ورسول الله - ﷺ - يحاصر خيبر، فخرج من خرج إليه ممن قدم من الحبشة، وأقمت بالمدينة حتى قدم رسول الله - ﷺ -، فدخلت عليه، فكان يسألني عن النجاشي، وقرأت عليه السلام من أبرهة جارية الملك، فرد رسول الله - ﷺ - عليها السلام، وأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً﴾ يعني: أبا سفيان، وذلك بتزوج رسول الله - ﷺ - أم حبيبة، ولما بلغ أبا سفيان أن رسول الله - ﷺ - تزوج أم حبيبة.. قال: ذلك الفحل لا يجدع أنفه.
وبعث النجاشي بعد خروج جعفر وأصحابه إلى النبي - ﷺ - ابنه أزهى في ستين رجلًا من أصحابه، وكتب إليه: (يا رسول الله، إني أشهد أنك رسول الله صدقًا مصدقًا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك جعفرًا، وأسلمت لله رب العالمين، وقد بعثت إليك ابني أزهى، وإن شئت أن آتيك بنفسي فعلت، والسلام عليك يا رسول الله). فركبوا في سفينة في أثر جعفر حتى إذا كانوا في وسط البحر.. غرقوا، ووافى جعفر وأصحابه رسول الله - ﷺ - وهو بخيبر، ووافى مع جعفر سبعون رجلًا عليهم ثياب الصوف، منهم اثنان وستون رجلًا من الحبشة، وثمانية من الشام، فقرأ عليهم رسول الله - ﷺ - سورة يس إلى آخرها، فبكى القوم حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه السلام، فأنزل الله هذه الآية فيهم، وهي قوله: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ يعني: وقد النجاشي الذين قدموا مع جعفر، وهم السبعون، وكانوا من أصحاب الصوامع.
وقيل: نزلت في ثمانين رجلًا: أربعين من نصارى نجران من بني الحارث بن كعب، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية روميين من أهل الشام.
وقال قتادة: نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى عليه السلام، فلما بعث محمد - ﷺ -.. آمنوا به، وصدقوه، فأثنى الله
٨٧ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿لَا تُحَرِّمُوا﴾ على أنفسكم ﴿طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾؛ أي: مستلذات ما أحل الله لكم من المأكل والمشارب والملابس والمناكح، ولا تمنعوا أنفسكم من التمتع بالمستلذات كمنعها من الحرام، أو لا تقولوا: حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهدًا منكم وتقشفًا ﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾؛ أي: ولا تجاوزوا الحد في الانتفاع بالطيبات بالإسراف فيها، أو لا تجاوزا الطيبات إلى الخبائث المحرمة، والطيبات: الأشياء التي تستلذها النفوس، وتميل إليها القلوب؛ أي (١): لا تحرموا على أنفسكم ما أحل الله لكم من الطيبات، بأن تتركوا التمتع بها عمدًا تنسكًا وتقربًا إلى الله تعالى، ولا تعتدوا فيها وتتجاوزوا حد الاعتدال إلى الإسراف الضار بالجسد؛ بأن تزيدوا على الشبع والري، أو تجعلوا التمتع بها أكبر همكم في الحياة، أو تشغلكم عن الأمور النافعة من العلوم والأعمال المفيدة لكم، ولبني وطنكم، هذه الآية بمعنى قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾.
والخلاصة: أن الاعتداء يشمل أمرين: الاعتداء في الشيء نفسه بالإسراف فيه، والاعتداء بتجاوزه إلى غيره مما ليس من جنسه، وهو الخبائث.
وقيل المعنى (٢): لا تعتقدوا تحريم الطيبات المباحات، فإن من اعتقد تحريم شيء أحله الله.. فقد كفر، أما ترك لذات الدنيا وشهواتها، والانقطاع إلى الله، والتفرغ لعبادته من غير إضرار بالنفس ولا تفويت حق الغير.. ففضيلة لا منع منها، بل مأمور بها.
قال ابن جرير (٣) الطبري: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما
(٢) الفتوحات.
(٣) الشوكاني.
قال: فإن ظن ظانٌّ أن الفضل في غير الذي قلنا؛ لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس، وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة، فقد ظن خطأً، وذلك أنَّ الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها، ولا شيء أضر للجسم من المطاعم الردية؛ لأنها مفسدة لعقله، ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سببًا إلى طاعته.
قوله: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾؛ أي: لا تعتدوا على الله بتحريم طيبات ما أحل الله لكم، أو لا تعتدوا فتحلوا ما حرم الله عليكم؛ أي: لا تترخصوا فتحللوا حرامًا، كما نهيتم عن التشديد على أنفسكم بتحريم الحلال.
وقد ذهب جمهور العلماء إلى أنَّ من حرم على نفسه شيئًا مما أحله الله له.. فلا يحرم عليه ولا يلزمه كفارة.
ثم علل النهي عن الاعتداء بما ينفر منه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾؛ أي: لا يحب الله من يتجاوز حدود شرائعه بتحريم طيباته التي أحلها، سواء أكان التحريم من غير التزام بيمين أو نذر، أو بالتزام، وكل منهما غير جائز.
والالتزام (١) قد يكون لرياضة النفس وتهذيبها بالحرمان من الطيبات، وقد
وتحريم الطيبات والزينة وتعذيب النفس هو من العبادات المأثورة عند قدماء اليهود واليونان، قلَّدهم فيها أهل الكتاب خصوصًا النصارى، فإنهم قد شددوا على أنفسهم، وحرَّموا عليها ما لم تحرمه الكتب المقدسة على ما فيها من الشدة والصرامة والمبالغة في الزهد، ولما جاء الإِسلام وأرسل الله نبيه محمدًا - ﷺ - خير خاتم النبيين بما فيه السعادة التامة للبشر في دنياهم وآخرتهم.. أباح للبشر على لسانه الزينة والطيبات، وأرشدهم إلى إعطاء البدن حقه، والروح حقها، فالإنسان ما هو إلا روح وجسد، فيجب العدل بينهما، وبذا كانت الأمة الإِسلامية أمة وسطًا تشهد على جميع الأمم، وتكون حجة عليها يوم القيامة.
والحكمة في ذلك النهي: أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يستعمل عباده نعمه فيما خلقت لأجله، ويشكروه على ذلك، ويكره لهم أن يجنوا على الشريعة التي شرعها لهم، فيغلوا فيها بتحريم ما لم يحرمه، كما يكره لهم أن يفرطوا فيها بإباحة ما حرمه، أو ترك ما فرضه، وقد أشار إلى ذلك بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢)﴾ وورد في الأثر: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا".
٨٨ - ﴿وَكُلُوا﴾ أيها المؤمنون ﴿مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ تعالى وأعطاكم حالة كونه ﴿حَلَالًا﴾ في نفسه لا من المحرمات، كالميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير ونحو ذلك، وحالة كونه ﴿طَيِّبًا﴾ في كسبه وتناوله؛ بأن لا يكون رِبًا ولا سحتًا ولا سرقة ولا غصبًا مثلًا، مع كونه مستلذًا غير مستقذرٍ لذاته أو لطارئ يطرأ عليه من فساد أو تغير لطول مكث ونحوه. والأكل في الآية يراد به التمتع الشامل للشرب ونحوه، وإنما خص الأكل بالذكر؛ لأنه أغلب الانتفاع بالرزق من حلال غير
والخلاصة: (١) أنه ينبغي للمؤمن أن يتمتع بما تيسر له من الطيبات بلا تأثم ولا تحرج، ويحضر قلبه أنه عامل بشرع الله مقيم لسنة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، شاكرًا له بالاعتراف والحمد والثناء عليه، كما أن امتناعه عن الطيبات التي رزقه إياها مع الداعية الفطرية إلى الاستمتاع بها إثمٌ يجنيه على نفسه في الدنيا، ويستحق به عقاب الآخرة؛ لزيادته في دين الله قربات لم يأذن بها، ولإضاعة حقوق الله وحقوق عباده، كإضاعة حقوق امرأته وعياله.
والتحريم والتحليل تشريع، وهو من حقوق الله، فمن انتحله لنفسه كان مدعيًا الربوبية أو كالمدعي لها، وعن الحسن البصري: إن الله أدب عباده فأحسن أدبهم فقال: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ﴾ ما عاب الله قومًا وسع عليهم الدنيا، فتنعموا وأطاعوا، ولا عذر قومًا زواها عنهم فعصوه. وعنه أنه قيل له: فلان لا يأكل الفالوذج - حلواء تعمل من الدقيق والماء والعسل - ويقول: لا أؤدي شكره، قال: أفيشرب الماء البارد؟ قالوا: نعم، قال: إنه جاهل، إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثرُ من نعمته عليه في الفالوذج.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: وخافوا عقاب الله الذي آمنتم به في الأكل واللباس والنساء وغيرها، فلا تفتنتوا عليه في تحليل ولا تحريم، ولا تعتدوا حدوده فيما أحل وما حرم؛ إذ من جعل شهوة بطنه أكبر همه.. كان من المسرفين، ومن بالغ في الشبع وعرَّض معدته وأمعائه للتخمة.. كان من المسرفين، ومن أنفق في ذلك أكثر من طاقته، وعرض نفسه لذل الدَّين أو أكل أموال الناس بالباطل.. فهو من المسرفين، والله يقول: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ وقيل: المعنى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ أي: امتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه، فتقوى الله لا تتوقف على الرهبانية كما كان في الأمم السابقة.
والخلاصة: أن هدي القرآن في الطيبات هو ما تقتضيه الفطرة السليمة
واعلم: أن في قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾؛ تأكيدًا (١) للوصية بما أمر الله تعالى به وزاد التأكيد بقوله: ﴿الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾؛ لأن الإيمان به يوجب التقوى في الانتهاء إلى ما أمر الله به وعما نهى عنه، وفي الآية: دليل على أن الله عَزَّ وَجَلَّ قد تكفل برزق كل أحد من عباده، فإنه تعالى لو لم يتكفل بذلك.. لما قال: ﴿وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ﴾، وإذا تكفل برزق العبد.. وجب أن لا يبالغ في الطلب والحرص على الدنيا، وأن يعول على ما وعده الله تعالى وتكفل به، فإنه تعالى أكرم من أن يخلف الوعد.
٨٩ - قوله: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ هذا كلام (٢) مرتب على قوله: ﴿لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾؛ لأن بعض الصحابة حلف على الترهب لظنِّ أنه قربة، فلما نزلت هذه الآية - أعني: ﴿لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ - شكوا
(٢) الصاوي.
واللغو (١): اليمين الساقط الذي لا يتعلق به حكم، وهو أن يحلف على شيء يرى أنه كذلك وليس كما ظن، وكانوا حلفوا على تحريم الطيبات على ظن أنه قربة، فلما نزلت تلك الآية.. قالوا: فكيف أيماننا؟ فنزلت هذه الآية، وقال الشافعي: هي ما يجري على اللسان بلا قصد، وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة. وقد ذهب (٢) الجمهور من الصحابة ومن بعدهم إلى أنها قول الرجل: لا واللهِ، وبلى واللهِ في كلامه غير معتقد لليمين، وبه فسَّر الصحابة الآية، وهم أعرف بمعاني القرآن.
وفي الآية: دليل على أن أيمان اللغو لا يؤاخذ الله الحالف بها، ولا تجب فيها كفارة.
والخلاصة (٣): لا يؤاخذكم الله تعالى ولا يطالبكم في الدنيا ولا في الآخرة بالأيمان التي تحلفونها بلا قصد، كما يقول الرجل في كلامه بدون قصد: لا واللهِ، وبلى واللهِ، فلا مؤاخذة على مثل هذه بكفارة في الدنيا، ولا عقوبة في الآخرة ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ﴾ الله سبحانه وتعالى ويطالبكم؛ إما بالكفارة في الدنيا، أو بالعقوبة في الآخرة ﴿بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾؛ أي: بحنث ما تعمدتم وقصدتم به اليمين. وفي الآية حذف؛ إما من الأول كما قدرناه، أو من الآخر؛ تقديره: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان إذا حنثتم، فحذف وقت المؤاخذة؛ لأنه كان معلومًا عندهم.
فاليمين المعقدّة (٤): من عقد القلب وصممه، ليفعلن أو لا يفعلن في
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
(٤) الشوكاني.
وقرأ (١) نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم بتشديد القاف، قال أبو عمرو: معناها: وكدتم. وقرأ الكسائي وحمزة وأبو بكر عن عاصم بتخفيفها، قال ابن جرير: معناها: أوجبتموها على أنفسكم. وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر بألف بين العين والقاف. وقرأ الأعمش: ﴿بما عقدت الأيمان﴾ جعل الفعل للأيمان، فالتشديد؛ إما للتكثير بالنسبة إلى الجمع، وإما لكونه بمعنى المجرد نحو: قدَر وقدَّر، والتخفيف هو الأصل، وبالألف بمعنى المجرد نحو: جاوزت الشيء وجزته وقاطعته وقطعته؛ أي: هجرته. وعبارة أبو البقاء هنا: قوله: ﴿عقدتم﴾ يقرأ بتخفيف القاف، وهو الأصل، وعقد اليمين هو قصد الالتزام بها. ويقرأ بتشديدها، وذلك لتوكيد اليمين كقوله: واللهِ الذي لا إله إلا هو، ونحوه. وقيل: التشديد يدل على تأكيد العزم بالالتزام بها. وقيل: إنما شدد لكثرة الحالفين وكثرة الأيمان. وقيل: التشديد عوض من الألف في عاقد، ولا يجوز أن يكون التشديد لتكرير اليمين؛ لأن الكفارة تجب وإن لم تكرر. ويقرأ: ﴿عاقد﴾ بالألف وهي بمعنى: عقدتم، كقولك: قاطعته وقطعته من الهجران، انتهى.
١ - إما ﴿إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾، أو فقراء، لكل مسكين مدّ عند الشافعية، ونصف صاع عند الحنفية؛ أي: تمليك عشرة مساكين، ولا (١) يتعين كونهم من فقراء بلد الحالف، والمساكين أعم من أن يكونوا ذكورًا أو إناثًا أو من الصنفين. والظاهر اشتراط تعدد الأشخاص، فلو أطعم مسكينًا واحدًا كفارة عشرة أيام.. لم يجزه، وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة يجزئ. ﴿مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ﴾ أيها الناس ﴿أَهْلِيكُمْ﴾؛ أي: من أقصد ما تطعمونهم وأغلبه من غالب قوت بلد الحالف؛ أي: محل الحنث، لا من أعلاه ولا أدناه؛ أي: إطعام وجبة واحدة - الوجبة: الأكلة الواحدة في اليوم - لكل منهم من الطعام الغالب الذي يأكله أهلوكم في بيوتكم، لا من أردئه وأخسه الذي يتقشفون به تارة، ولا من أعلاه الذي يتوسعون به تارة أخرى؛ كطعام العيد ونحوه مما تكرم به الأضياف، فمن كان طعام أهله خبز البر، وأكثر إدامه اللحم بالخضر أو بدونها.. فلا يجزئ ما دون ذلك مما يأكلونه إذا قرفت أنفسهم من كثرة أكل الدسم؛ ليعود إليها نشاطها، والأعلى مجزىء على كل حال؛ لأنه من الوسط وزيادة، والثريد بالمرق، وقليل من اللحم أو الخبز مع الملوخية أو الرز أو العدس، من أوسط الطعام في مصر وكثير من الأقطار الشرقية الآن، وكان التمر أوسط طعام أهل المدينة في العصر الأول، وأجاز أبو حنيفة إطعام مسكين واحد عشرة أيام كما مر آنفًا.
٢ - ﴿أَوْ كِسْوَتُهُمْ﴾؛ أي: كسوة عشرة مساكين، قرأ الجمهور (٢): {أَوْ
(٢) البحر المحيط وزاد المسير.
والكسوة تختلف باختلاف البلاد والأزمنة كالطعام، فيجزىء في مصر القميص الطويل الذي يسمى بـ"الجلابية" مع السراويل أو بدونه، وهذا يساوي الإزار والرداء، أو العباءة في العصر الأول، ولا يجزئ ما يوضع على الرأس من طربوش أو عمامة، ولا ما يلبس في الرجلين من الأحذية والجوارب، ولا نحو منديل أو منشفة.
٣ - ﴿أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾؛ أي: أو إعتاق رقيق، وغلب استعمال الرقبة في المملوك والأسير، وقد يعبر عن ذلك بفك الرقبة كقوله تعالى: ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣)﴾، ولا يشترط أن تكون الرقبة مؤمنة، فيجزىء عتق الكافرة عند أبي حنيفة، واشترط الشافعي ومالك وأحمد إيمانها؛ حملًا للمطلق هنا على المقيد في كفارة القتل.
قال أبو حيان (١): وقد أجمع العلماء على أن الحانث مخيَّر بين الإطعام والكسوة والعتق، وهي مخالفة لسواد المصحف، وقدم (٢) الإطعام على غيره؛ لأنه أسهل؛ لكون الطعام أعم وجودًا، ولأن الإطعام أفضل عن الإعتاق على ما قيل؛ لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام، أما العبد: فإنه يجب على مولاه إطعامه وكسوته. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ واحدًا من هذه الخصال الثلاثة المتقدمة ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ﴾؛ أي: فعليه أن يصوم ثلاثة أيام متتابعات، فإن عجز عن ذلك لمرض
(٢) المراح.
والاستطاعة أن يجد ذلك القدر الذي يكفر به فاضلًا عن قوته وقوت عياله يومه وليلته، وعن كسوته بقدر ما يطعم أو يكسو. وقد روى ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت آية الكفارة.. قال حذيفة: يا رسول الله، نحن بالخيار؟ فقال - ﷺ -: "أنت بالخيار، إن شئت أعتقت، وإن شئت كسوت، وإن شئت أطعمت، فمن لم يجد... فصيام ثلاثة أيام متتابعات" فلو كان ماله في غير بلده، ووجد من يسلفه.. لم ينتقل إلى الصوم، أو لم يجد من يسلفه فقيل: لا يلزمه انتظار ماله من بلده ويصوم، وهو الظاهر؛ لأنه غير واجد الآن. وقيل: ينتظر، والظاهر أنه إذا كان عنده فضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقتهم يومه وليلته، وعن كسوتهم بقدر ما يطعم أو يكسو، فهو واجد، وبه قال أحمد وإسحاق والشافعي ومالك. وقال مالك: إلا أن يخاف الجوع، أو يكون في بلد لا يعطف عليه فيه، وقال أبو حنيفة: إذا لم يكن عنده نصاب.. فهو غير واجد. وقرأ (١) أُبي وعبد الله والنخعي: ﴿أيام متتابعات﴾، واتفقوا على أن العتق أفضل، ثم الكسوة، ثم الإطعام. وبدأ الله بالأيسر فالأيسر على الحال، وهذه الكفارة التي نص الله عليها لازمة للحر المسلم.
وإذا حنث العبد.. فقال سفيان وأبو حنيفة والشافعي: ليس عليه إلا الصوم، لا يجزئه غيره. وحكى ابن نافع عن مالك: لا يكفر بالعتق؛ لأنه لا يكون له ولاء، ولكن يكفر بالصدقة إن أذن له سيده، والصوم أصوب.
﴿ذَلِك﴾ المذكور من الخصال الأربعة من الإطعام أو الكسوة أو العتق أو الصوم عند العجز عن غيره ﴿كَفَّارَةُ﴾ إثم حنث ﴿أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ باللهِ أو بأحد أسمائه أو صفاته، وحنثتم أو أردتم الحنث باليمين؛ لأن الكفارة لا تجب بمجرد اليمين، إنما تجب بالحنث بعد اليمين. وفيه إشارة إلى أن تقديم الكفارة
﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾؛ أي: قللوا أيمانكم ولا تبذلوها في أتفه الأمور وأحقرها، ولا تكثروا من الأيمان الصادقة فضلًا عن الأيمان الكاذبة قال تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾، أو إذا حلفتم.. فلا تنسوا ما حلفتم عليه، أو لا تحنثوا فيها ما استطعتم إلا لضرورة تعرض أو مصلحة تجعل الحنث راجحًا أو بأن تكفروها إذا حنثتم ﴿كَذَلِك﴾؛ أي: كما بين لكم كفارة أيمانكم إذا حنثتم. ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿آيَاتِهِ﴾؛ أي: أعلام شريعته، وأحكام دينه، وجميع ما تحتاجون إليه في أمر دينكم ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ نعمه التي أنعم بها عليكم التي من أجلها: بيان آياته وأحكام شريعته.
وهنا فصلان مهمان:
الفصل الأول في بيان حكم الآية، وفيه مسائل
المسألة الأولى: في بيان الكفارة، وهي أربعة أنواع:
النوع الأول من الكفارة: الإطعام، فيجب إطعام عشرة مساكين، واختلفوا في قدر ما يطعم لكل مسكين. فذهب قوم إلى أنه يطعم لكل مسكين مد من الطعام بمد النبي - ﷺ -، وهو رطل وثلث بالبغدادي من غالب قوت البلد، وكذلك سائر الكفارات، وهذا قول ابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت، وبه قال سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وسليمان بن يسار، وعطاء، والحسن، وإليه ذهب مالك والشافعي.
ويروى عن عمر وعلي وعائشة: أنه يطعم لكل مسكين مدان من بر، وهو نصف صاع، وبه قال أهل العراق. وقال أبو حنيفة: إن أطعم من الحنطة فنصف صاع، وإن أطعم من غيرها فصاع، وهو قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير ومجاهد. وقال أحمد بن حنبل: يطعم لكل مسكين مد من البر، أو نصف صاع من غيرها؛ مثل التمر والشعير. ومن شرط الإطعام تمليك الطعام للمساكين، فلو عشاهم وغداهم.. لم يجزه. وقال أبو حنيفة: يجزيه ذلك، ولا يجوز إخراج القيمة في الكفارة كالدراهم والدنانير. وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك. ولا إخراج
النوع الثاني من الكفارات: الكسوة، واختلف العلماء في قدرها، فذهب قوم إلى أنه يكسو كل مسكين ثوبًا واحدًا مما يقع عليه اسم الكسوة، إزار أو رداء أو قميص أو عمامة أو سراويل أو كساء أو نحو ذلك، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما، والحسن ومجاهد وعطاء وطاووس، إليه ذهب الشافعي. وقال مالك: يجب أن يكسو كل مسكين ما تجوز به الصلاة، فيكسو الرجل ثوبًا، والمرأة ثوبين: درعًا وخمارًا. وقال أحمد: للرجل ثوبٌ، وللمرأة ثوبان: درع وخمارٌ، وهو أدنى ما يجزئ في الصلاة. وقال ابن عمر: يجب قميص وإزار ورداء. وقال أبو موسى الأشعري: يجب ثوبان، وهو قول سعيد بن المسيب وابن سيرين. وقال إبراهيم النخعي: يجب ثوب جامع كالملحفة.
النوع الثالث من الكفارات: العتق، فيجب إعتاق رقبة مؤمنة، وكذلك يجب في جميع الكفارات. وأجاز أبو حنيفة والثوري إعتاق الرقبة الكافرة في جميع الكفارات إلا كفارة القتل، فإن الله قيد الرقبة بالإيمان في كفارة القتل. ومذهب الشافعي أن المطلق يحمل على المقيد، ولا يجوز إعتاق المرتد بالإجماع، ويشترط أن تكون الرقبة سليمة الرق حتى لو أعتق في الكفارة مكاتبًا، أو أم ولد، أو عبدًا اشتراه بشرط العتق، أو اشترى قريبه الذي يعتق عليه، فكل هؤلاء لا يجزئ في إعتاق الكفارة، وجوز أصحاب الرأي عتق المكاتَب في الكفارة إذا لم يؤد من نجوم الكتابة شيئًا. وجوزوا عتق القريب في الكفارة، ويشترط أن تكون الرقبة سليمة من كل عيب يضر بالعمل، فلا يجزئ مقطوع اليد والرجل، ولا الأعمى، ولا الزَّمِن، ولا المجنون المطبق. ويجوز عتق الأعور والأصم ومقطوع الأذنين والأنف؛ لأن هذه العيوب كلها لا تضر بالعمل. وعند أبي حنيفة: كل عيب يفوت جنسًا من المنفعة يمنع الجواز، فيجوز عتق مقطوع إحدى اليدين، ولا يجوز عتق مقطوع الأذنين في الكفارة.
النوع الرابع من الكفارات: الصوم، وهو قوله تعالى: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ يعني
واختلفوا في وجوب التتابع في الصيام عن كفارة اليمين على قولين:
أحدهما: أنه يجب التتابع فيه قياسًا على كفارة الظهار والقتل، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، ومجاهد وطاووس وعطاء وقتادة، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، واحد قولي الشافعي.
والقول الثاني: لا يجب التتابع في كفارة اليمين، فإن شاء تابع، وإن شاء فرَق، والتتابع أفضل، وبه قال الحسن ومالك، وهذا القول الثاني للشافعي.
المسألة الثانية: كلمة: ﴿أو﴾ في الآية للتخيير بين الإطعام والكسوة والعتق، فإن شاء أطعم، وإن شاء كسا، وإن شاء أعتق، فبأيها أخذ المكفر.. فقد أصاب وخرج عن العهدة.
المسألة الثالثة: لا يجوز صرف شيء من الكفارات إلا إلى مسلم حر محتاج، فلو صرف إلى ذمي أو عبد أو غني.. لا يجزيه، وجوز أبو حنيفة صرفها إلى أهل الذمة، واتفقوا على أن صرف الزكاة إلى أهل الذمة لا يجوز.
المسألة الرابعة: اختلفوا في تقديم الكفارة على الحنث، فذهب قوم إلى جوازه؛ لما روي عن أبي هريرة: أن رسول الله - ﷺ - قال: "من حلف على يمين، فرأى خيرًا منها.. فليكفِّر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير" أخرجه الترمذي.
وعن عبد الرحمن بن سمرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: "يا
وهذا قول عمر وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - وعامة الفقهاء، وبه قال الحسن وابن سيرين، وإليه ذهب مالك والأوزاعي والشافعي إلا أن الشافعي قال: إن كَفَّر بالصوم قبل الحنث لا يجوز؛ لأنه بدني، إنما يجوز بالطعام أو الكسوة أو العتق. وقال أبو حنيفة: لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث، والله أعلم.
الفصل الثاني: في مسائل يجملك معرفتها تكملة لدينك
المسألة الأولى: لا يجوز الحلف بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته. قال - ﷺ -: "من كان حالفًا لا يحلف إلا بالله" رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر. ورويا أيضًا عنه أن النبي - ﷺ - سمع عمر وهو يحلف بأبيه، فقال: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا.. فليحلف بالله، أو ليصمت!. وروى البخاري وأحمد عن ابن عمر قال: "كان أكثر ما يحلف به النبي - ﷺ - لا ومقلب القلوب". والمحرم أن يحلف بغير الله حلفًا يلتزم به ما حلف عليه، والبر به فعلًا أو تركًا؛ لأن الشارع جعل هذا خاصًّا بالحلف بالله وأسمائه وصفاته، أما ما يجيء لتأكيد الكلام، ويجري على ألسنة الناس دون قصد لليمين.. فلا يدخل في باب النهي؛ نحو قوله - ﷺ - للأعرابي: "أفلح وأبيه إن صدق"، ويدخل في النهي: الحلف بالنبي والكعبة وسائر ما هو معظم شرعًا.
المسألة الثانية: يجوز الحنث لمصلحة راجحة مع التكفير قبله؛ لما رواه أحمد والشيخان في "الصحيحين": عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرًا منها.. فأت الذي هو خير، وكفِّر عن يمينك"، وفي لفظ عن أبي داود والنسائي: "فكفر عن يمينك، ثم ائتِ الذي هو خير"، ودلَّ اختلاف الرواية في تقديم الأمر بالكفارة، أو تأخيره
والحلف باعتبار المحلوف عليه ثلاثة أقسام:
١ - حلف على فعل واجب، أو ترك حرام، وهذا تأكيد لما كلف الله به، فيحرم الحنث، ويكون الإثم مضاعفًا.
٢ - حلف على ترك واجب أو فعل حرام، ويجب في هذا الحنث؛ لأن اليمين معصية، ومن ذلك الحلف على إيذاء الوالدين وعقوقهما، أو منع ذي حق حقه الواجب له، والحلف على ترك المباح؛ كالطيب من الطعام، فإن في ذلك تشريعًا بتحريم ما أحل الله، كما فعلت الجاهلية في تحريم بعض الطيبات.
٣ - حلف على فعل مندوب أو ترك مكروه، وهذا طاعة يندب له الوفاء به، ويكره الحنث، ومن ذلك الحلف على ترك طعام معين كالطعام الذي في هذه الصحفة (١) مثلًا، كما فعل عبد الله بن رواحة في تحريمه الطعام على نفسه، ثم أكله منه لأجل الضيف. فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم: أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف من أهله وهو عند النبي - ﷺ -، ثم رجع إلى أهله، فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارًا له، فقال لامرأته: حبست ضيفي من أجلي، هو عليَّ حرام، فقالت امرأته: هو عليَّ حرام، وقال الضيف: هو عليَّ حرام، فلما رأى ذلك.. وضع يده وقال: كلوا بسم الله، ثم ذهب إلى النبي - ﷺ -، فأخبره، فقال النبي - ﷺ -: "قد أصبت"، فأنزل الله: ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾.
المسألة الثالثة: الأيمان ثلاثة:
١ - ما ليس من أيمان المسلمين، كالحلف بالمخلوقات نحو الكعبة والملائكة والمشايخ والملوك والآباء وتربتهم، وهذه يمين غير منعقدة، ولا كفارة فيها، بل هي منهي عنها نهي تحريم لما تقدم من الأحاديث.
٣ - أيمان في معنى الحلف بالله؛ يريد بها الحالف تعظيم الخالق كالحلف بالنذر والحرام والطلاق والعتاق، كقوله: إن فعلت كذا.. فعليَّ صيام شهر، أو الحج إلى بيت الله، أو الحل علي حرام لا أفعل كذا، أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا، أو إن فعلته.. فنسائي طوالق، أو عبيدي أحرار، أو كل ما أملكه صدقة، أو نحو ذلك، والصحيح الموافق للأقوال الثابتة عن الصحابة - وعليه يدل الكتاب والسنة - أنه يجزئه كفارة اليمين في جميع ذلك كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾، وقال: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾، وثبت في "الصحيح" أن النبي - ﷺ - قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا.. فليأتِ الذي هو خير، وليكفِّر عن يمينه".
المسألة الرابعة: الأيمان مبنية على العرف والنية، لا على مدلولات اللغة واصطلاحات الشرع، فمن حلف لا يأكل لحمًا، فأكل سمكًا.. لا يحنث - وإن سماه الله لحمًا طريًّا - إلا إن نواه، أو كان يدخل في عموم اللحم في عرف قومه، كما أن من يحلف غيره يمينًا على شيء، فالعبرة بنية المحلِّف لا الحالف، فقد روى مسلم وابن ماجه: "اليمين على نية المستحلف". واليمين الغموس التي يهضم بها الحق، أو يقصد بها الخيانة والغش، لا يكفرها عتق ولا صدقة ولا صيام، بل لا بد من التوبة وأداء الحق والاستقامة، قال تعالى: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٩٤)﴾، وقال - ﷺ -: "من حلف على يمين صبرٍ، وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم.. لقي الله وهو عليه غضبان" رواه البخاري ومسلم.
الإعراب
﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾.
﴿لَتَجِدَنَّ﴾ اللام موطئة للقسم، ﴿تجدن﴾: فعل مضارع مبني على الفتح؛
﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾.
﴿وَلَتَجِدَنَّ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، اللام موطئة للقسم. ﴿تجدن﴾: فعل مضارع في محل الرفع، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة القسم الأول. ﴿أَقْرَبَهُمْ﴾: مفعول أول، ومضاف إليه. ﴿مَوَدَّةً﴾: تمييز، والعامل فيه اسم التفضيل. ﴿لِلَّذِينَ﴾: متعلق بـ ﴿مَوَدَّةً﴾، أو صفة لها، أو متعلق بـ ﴿أقرب﴾. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول ثانٍ لـ ﴿تجدن﴾. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿إِنَّا نَصَارَى﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالُوا﴾، وإن شئت قلت: إن: حرف نصب وتوكيد، نا: ضمير المتكلمين في محل النصب اسمها. ﴿نَصَارَى﴾: خبرها، وجملة إنَّ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿بِأَنَّ﴾ الباء حرف جر وسبب، ﴿أنَّ﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿مِنْهُمْ﴾ جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿أنَّ﴾ ﴿قِسِّيسِينَ﴾: اسمها مؤخر. ﴿وَرُهْبَانًا﴾: معطوف عليه، وجملة ﴿أنَّ﴾ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: بسبب كونهم قسيسين ورهبانًا، الجار والمجرور متعلق
﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ﴾.
﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾ هو استئنافية أو عاطفة. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿سَمِعُوا﴾: فعل وفاعل والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿سَمِعُوا﴾، وسمع هنا لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد باتفاق النحاة؛ لأنه دخل على ما يسمع. ﴿أُنْزِلَ﴾: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾، ﴿إِلَى الرَّسُولِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أُنْزِلَ﴾، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها.
﴿تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ﴾.
﴿تَرَى﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر يعود على: محمد، أو على المخاطب. ﴿أَعْيُنَهُمْ﴾: مفعول به لـ ﴿تَرَى﴾ هو، وهي بصرية تتعدى إلى مفعول واحد، وجملة ﴿تَرَى﴾ جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة لفظًا، وإن تعلق بما قبله في المعنى، ولذلك جعله (١) بعضهم أول الربع، أو في محل الرفع معطوفة على خبر ﴿أن﴾ الثانية تقديره: ذلك بسبب أنهم لا يستكبرون، وأن أعينهم تفيض من الدمع عند سماع القرآن. ﴿تَفِيضُ﴾: فعل مضارع وفاعل ضمير يعود على ﴿أَعْيُنَهُمْ﴾. ﴿مِنَ الدَّمْعِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَفِيضُ﴾، أو حال من فاعل ﴿تَفِيضُ﴾، والتقدير: حالة كونها مملوءة من الدمع.
﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾.
﴿يَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من ضمير الفاعل في ﴿عَرَفُوا﴾. ﴿رَبَّنَا آمَنَّا﴾ إلى قوله: ﴿مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ مقول محكي، وإنْ شئت قلت: ﴿رَبَّنَا﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول القول. ﴿آمَنَّا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول القول على كونها جواب النداء. ﴿فَاكْتُبْنَا﴾: الفاء حرف عطف وتفريع. ﴿اكتبنا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿آمَنَّا﴾ على كونها مقول القول. ﴿مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿اكتبنا﴾.
﴿وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤)﴾.
﴿وَمَا لَنَا﴾ الواو استئنافية. ﴿ما﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. ﴿لَنَا﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف وجوبًا لوقوعه خبرًا تقديره: وأي شيء مستقر لنا، والجملة مستأنفة على كونها مقول القول. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿نُؤْمِنُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين. ﴿بِاللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿نُؤْمِنُ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الضمير في ﴿لَنَا﴾، والعامل فيه الاستقرار الذي تعلق به الجار والمجرور في ﴿لَنَا﴾، والتقدير: أي شيء استقر لنا حالة كوننا غير مؤمنين. ﴿وَمَا﴾: الواو عاطفة. ﴿ما﴾: موصولة أو موصوفة في محل الجر معطوفة على الجلالة. ﴿جَاءَنَا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير الفاعل. ﴿مِنَ الْحَقِّ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿جَاءَنَا﴾. ﴿وَنَطْمَعُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير المتكلمين، والجملة في محل النصب معطوفة على ﴿نُؤْمِنُ﴾ على أنها منفية كنفي ﴿نُؤْمِنُ﴾، والتقدير: وما لنا لا نؤمن ولا نطمع،
﴿فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥)﴾.
﴿فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ﴾: الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت قولهم المذكور، وأردت بيان جزاء قولهم المذكور.. فأقول لك: أثابهم الله. ﴿أثابهم الله﴾: فعل ومفعول أول وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿بِمَا قَالُوا﴾ الباء حرف جر وسبب. ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أثاب﴾، والتقدير: فأثابهم الله بقولهم ذلك. ﴿جَنَّاتٍ﴾: مفعول ثان لـ ﴿أثاب﴾. ﴿تَجْرِي﴾: فعل مضارع. ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿تَجْرِي﴾. ﴿الْأَنْهَارُ﴾: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ ﴿جَنَّاتٍ﴾: ولكنها صفة سببية. ﴿خَالِدِينَ﴾؛ حال من ضمير ﴿أثابهم﴾. ﴿فِيهَا﴾ متعلق به. ﴿وَذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿جَزَاءُ﴾ وخبر ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾: مضاف إليه، والجملة مستأنفة.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (٨٦)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: مبتدأ أول. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يَا﴾: حرف نداء. أيُّ: منادى نكرة مقصودة، ها: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات أي من الإضافة، وجملة النداء مستأنفة. ﴿الذِينَ﴾: في محل الرفع صفة لأي. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تُحَرِّمُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿طَيِّبَاتِ﴾: مفعول به وهو مضاف. ﴿مَا﴾: مضاف إليه. ﴿أَحَلَّ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف والتقدير: طيبات ما أحله الله لكم. ﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة معطوفة على جملة ﴿لَا تُحَرِّمُوا﴾. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿اللهَ﴾: اسمها. ﴿لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ من اسمها وخبرها مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨)﴾.
﴿وَكُلُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿لَا تُحَرِّمُوا﴾ على كونها جواب النداء. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿كلوا﴾. ﴿رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول أول وفاعل، والمفعول الثاني محذوف تقديره: مما رزقكم الله إياه، وهو العائد على ﴿ما﴾، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿ما﴾ و، أو صفة لها. ﴿حَلَالًا﴾: مفعول ﴿كلوا﴾، أو صفة لمصدر محذوف؛ أي: كلوا أكلًا حلالًا. ﴿طَيِّبًا﴾: صفة لـ ﴿حَلَالًا﴾. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة
﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾.
﴿لَا﴾: نافية. ﴿يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿بِاللَّغْو﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يؤاخذ﴾. ﴿فِي أَيْمَانِكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه حال من ﴿اللغو﴾ تقديره: حالة كونه واقعًا في أيمانكم، أو متعلق (١) ﴿بِاللَّغْوِ﴾؛ لأنك تقول: لغا في يمينه، وهذا مصدر بالألف يعمل، ولكن معدى بحرف الجر، أو متعلق بـ ﴿يُؤَاخِذُكُمُ﴾. ﴿وَلَكِنْ﴾: الواو عاطفة. ﴿لكن﴾ حرف استدراك. ﴿يُؤَاخِذُكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ﴾. ﴿بِمَا﴾: الباء حرف جر ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة ﴿ما﴾ المصدرية تقديره: بتعقيدكم الأيمان أو بعقدكم الأيمان، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يُؤَاخِذُكُمْ﴾، أو ﴿ما﴾ موصول اسمي، والعائد محذوف تقديره: ولكن يؤاخذكم بالذي عقدتم عليه الأيمان إذا حنثتم.
﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾.
﴿فَكَفَّارَتُهُ﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن الله يؤاخذ بالأيمان المعقودة، وأردت بيان كفارتها.. فأقول لك ﴿كفارته﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿إِطْعَامُ عَشَرَةِ﴾: خبر ومضاف إليه وهو من إضافة المصدر إلى مفعوله؛ لأنه في تأويل حرف مصدري، وفعل مبني للفاعل؛ أي: فكفارته أن يطعم الحانث عشرة مساكين، ﴿عَشَرَةِ﴾: مضاف. ﴿مَسَاكِينَ﴾: مضاف إليه مجرور بالفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف؛ لأنه على صيغة منتهى
﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ﴾.
﴿فَمَن﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن الواجب في كفارته واحد من هذه الثلاثة المذكورة إذا وجدها كلًّا أو بعضًا، وأردت بيان حكم ما إذا لم يجد واحدًا منها.. فأقول لك: ﴿من لم يجد﴾. ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو
(٢) الجمل.
(٣) الفتوحات.
﴿ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ﴾: خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط في محل النصب على الظرفية الزمانية. ﴿حَلَفْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها تقديره: وقت حلفكم وحنثكم، والظرف متعلق بـ ﴿كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ﴾. ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿كَذَلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره بيانًا كائنًا كذلك؛ أي: مثل بيان كفارة الأيمان، وذلك المصدر المحذوف مفعول مطلق لـ ﴿يُبَيِّنُ﴾ منصوب به. ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به. ﴿آيَاتِهِ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: لعل حرف نصب وترج بمعنى كي التعليلية، والكاف اسمها. وجملة ﴿تَشْكُرُونَ﴾ في محل الرفع خبرها، وجملة لعل مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، والتقدير: يبين الله لكم آياته لكي تشكروا نعمه التي من أجلِّها بيان هذه الأحكام، والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَلَتَجِدَنَّ﴾: من وجد بمعنى: علم يتعدى إلى مفعولين، وهو من المثال
﴿أَشَدَّ النَّاسِ﴾: وهو اسم تفضيل من شدَّ الثلاثي أصله: أشدد نظير أفضل، وكذلك ﴿أَقْرَبَهُمْ﴾: اسم تفضيل من قرب ﴿عَدَاوَةً﴾: العداوة: البغضاء يظهر أثرها في القول والفعل ﴿مَوَدَّةً﴾: والمودة محبةٌ يظهر أثرها في القول والعمل ﴿النَّاسِ﴾: هم يهود الحجاز، ومشركو العرب، ونصارى الحبشة في عصر التنزيل ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا﴾: والقسيسين (١): جمع قسيس على وزن: فعيل، مثال مبالغة كصدّيق، وهو هنا رئيس النصارى وعالمهم، وأصله من: تقسس الشيء إذا تتبعه وتطلبه بالليل، يقال: تقسست أصواتهم؛ أي: تتبعتها بالليل، ويقال لرئيس النصارى: قس وقسيس، وللدليل بالليل: قسقاس وقسقس، قاله الراغب. وقال غيره: القس - بفتح القاف - تتبع الشيء، قال رؤبة:
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيْحَا | لأجْلِ كَوْنِ فَهمِهِ قَبِيْحَا |
أيُّهَا الْمُبْتَلَى بِكَشْفِ الْعَوْرَاتِ | فَإِنَّ لَكَ عَوْرَةٌ أَسْوَأُ اْلْعَوْرَاتِ |
لا تَنْظُرْ كِتَابَتِيْ بِعَيْنِ التَّنْقِيْصِ | فَإِنَّهَا غَالِيَةٌ عَنِ اْلتَّرْخِيْصِ |
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ صَافِيْ الْعَسَلْ | وَاخْتَارَ بِنَفْسِهِ شَوْيَ الْبَصَلْ |
لأَجْلِ مَرَضِهِ الْعُضَالِ | قَدْ أعْيَا الأطِبَّةَ الْفِضَالِ |
مِنْ حَسَدٍ وَكِبْرٍ وَعَجْبِ | وَغِلٍّ وحِقْدٍ أيَّ ذَنْبِ |
أَصْبَحْنَ عَنْ قِسِّ الأَذَى غَوَافِلاَ | يَمْشِيْنَ هَوْنًا حُرَّدًا بَهَالِلاَ |
وقال أبو حيان: القس: رئيس النصارى في الدين والعلم، وجمعه: قسوس، سمي بالمصدر لتتبعه العلم والدين، وكذلك القسيس فعّيل، كالشرّيب، وجمع القسيس بالواو والنون، وجمع أيضًا على قساوسة، قال أمية بن أبي الصلت:
لَوْ كَانَ مُنْقَلَبٌ كَانَتْ قَسَاوِسَةٌ | يُحْيِيْهِمُ اللهُ في أَيْدِيْهِمُ الزُّبُرُ |
قلتُ: وهذا يقوي قول ابن عطية، ولم ينقل أهل اللغة في هذا اللفظ القُس بضم القاف لا مصدرًا ولا وصفًا؛ فأما قس بن ساعدة الإيادي: فهو علم، فيجوز أن يكون مما غير عن طريق العلمية، ويكون أصله قس أو قس بالفتح أو بالكسر كما نقله ابن عطية. وقُس بن ساعدة كان أعلم أهل زمانه، وهو الذي قال فيه عليه السلام: "يُبعث أمةً واحدةً". اهـ "سمين".
﴿وَالرُّهْبَانِ﴾ واحدهم (٢): راهب، وهو المتبتل المنقطع في دير أو صومعة للعبادة، وحرمان النفس من التنعم بالزوج والولد، ولذات الطعام والزينة، وذكر القسيسين والرهبان للجمع بين العبَّاد والعلماء. وقال (٣) الشوكاني: والرهبان: جمع راهب، كركبان وراكب، والفعل: رَهِب الله يرهبه إذا خافه، والرهبانية والترهب: التعبد في الصوامع. قال أبو عبيد: وقد يكون رهبان للواحد والجمع. قال الفراء: ويجمع رهبان إذا كان للمفرد على رهابين كقربان وقرابين. وقد قال جرير في الجمع:
رُهْبَانُ مَدْيَنَ لَوْ رَأَوْكَ تَرَهَّبُوْا
وقال الشاعر في استعمال رهبان مفردًا:
لَوْ أَبْصَرَتْ رُهْبَانُ دَيْرٍ في الْجَبَل | لانْحَدَرَ الرُّهْبَانُ يَسْعَى وَنَزَل |
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
فَفَاضَتْ دُمُوْعُ العَيْنِ مِنِّي صَبَابَةً | عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِيَ مَحْمَلِي |
وَالْحَرْبُ لاَ تُبْقِيْ لِجَا | حِمِهَا التَّحَيُّلَ وَالمِزَاحْ |
وَلَسْتَ بِمَأخُوْذٍ بِلَغْوٍ تَقُوْلُهُ | إِذَا لَمْ تُعَمِّدْ عَاقِدَاتِ العَزَائِمِ |
قَوْمٌ إِذَا عَقَدُوْا عَقْدًا لِجَارِهِمُ | شَدُّوْا العِنَاجَ وَشَدُّوْا فَوْقَهُ الْكَرَبَا |
﴿مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ﴾: والأوسط: الأغلب من الطعام في البيوت، لا الدون الذي يتقشف به أحيانًا، ولا الأعلى الذي يتوسع به أحيانًا أخرى ﴿أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾؛ أي: إعتاق نسمة مملوكة، والتحرير: الإخراج من الرق، ويستعمل التحرير في فك الأسير وإعفاء المجهود بعمل عن عمله، وترك إنزال الضرر به، ومنه قول الفرزدق:
أَبَنِيْ غُدَانَةَ إِنَّنِي حَرَّرْتُكُمْ | فَوَهَبْتُكُمْ لِعَطِيَّةِ بْنِ جَعَالِ |
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التأكيد بالقسم ونون التوكيد في قوله: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ﴾.
ومنها: الطباق بين لفظي: ﴿عَدَاوَةً﴾ و ﴿مَوَدَّةً﴾، وهو من المحسنات البديعية.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾؛ أي: تمتلىء من الدمع، فاستعير الفيض الذي هو الانصباب للامتلاء مبالغة، ثم اشتق من الفيض بمعنى الامتلاء، تفيض بمعنى تمتلىء على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾؛ حيث أطلق الجزء وأراد الكل؛ أي: عتق إنسان. وخص الرقبة بالذكر من بين أجزاء الإنسان؛ لأن الرقبة غالبًا محل للتوثق والاستمساك.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾؛ لأن العقد نقيض الحل، حقيقة في الأجسام كالحبل، مجاز في المعاني.
ومنها: إطلاق الخاص وإرادة العام في قوله: ﴿وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا﴾؛ لأن المراد مطلق الانتفاع بالرزق أكلًا أو شربًا أو لبسًا أو غير ذلك، وإنما خص الأكل بالذكر من بين أنواع الانتفاعات؛ لأنه أغلب الانتفاع بالرزق.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أن الله سبحانه وتعالى لما نهى فيما سلف عن تحريم ما أحل الله من الطيبات، وأمر بأكل ما رزق الله من الحلال الطيب، وكان من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر.. بيّن هنا أنهما غير داخلين فيما يحل، بل هما مما يحرم.
أَخِيْ ثِقَةٍ لاَ تُتْلِفُ الخَمْرُ مَالَهُ | وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكِ الْمَالَ نَائِلُهْ |
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما نهى عن تحريم ما أحل من الطيبات، ثم استثنى الخمر والميسر.. استثنى هنا مما يحل الصيد في حال الإحرام، وأوجب جزاء على من قتله، وبيَّن أن صيد البحر وطعامه حلال، وقد نزلت هذه الآية عام الحديبية حين ابتلاهم الله تعالى بالصيد وهم محرمون، وكثر عندهم حتى كان يغشاهم في رحالهم، فيتمكنون من صيده أخذًا بأيديهم وطعنًا برماحهم.
وقال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها هي: أنه تعالى لما أمرهم أن لا يحرموا الطيبات، وأخرج من ذلك الخمر والميسر، وهما حرامان دائمًا.. أخرج بعده من الطيبات ما حرم في حال دون حال، وهو: الصيد، وكان الصيد مما تعيش به العرب وتتلذذ باقتناصه، ولهم فيه الأشعار والأوصاف الحسنة، انتهى.
قوله تعالى: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ...﴾ الآية، مناسبة (١)
قال أبو حيان (١): قوله تعالى: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة: وذلك أنه تعالى ذكر تعظيم الإحرام بالنهي عن قتل الوحش فيه بحيث شرع بقتله ما شرع، وذكر تعظيم الكعبة بقوله: ﴿هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ فذكر تعالى في هذه الآية أنه جعل الكعبة قيامًا للناس؛ أي: ركز في قلوبهم تعظيمها بحيث لا يقع فيها أذى أحد، وصارت وازعة لهم من الأذى، وهم في الجاهلية الجهلاء لا يرجون جنة، ولا يخافون نارًا؛ إذ لم يكن لهم ما يمنعهم من أذى بعضهم، فقامت لهم حرمة الكعبة مقام حرمة الملك، هذا مع تنافسهم وتحاسدهم ومعاداتهم وأخذهم بالثأر، ولذلك جعل الثلاثة المذكورة بعد الكعبة قيامًا للناس، فكانوا لا يهيجون أحدًا في الشهر الحرام، ولا من ساق الهدي؛ لأنه يعلم أنه لم يجىء لحرب، ولا من خرج يريد البيت بحج أو عمرة، فتقلد من لحى الشجر، ولا من قضى نسكه، فتقلد من شجر الحرم، ولما بعثت قريش زمن الحديبية إلى المؤمنين الحلس.. قال رسول الله - ﷺ -: "هذا رجل يعظم الحرمة فالقوه بالبدن مشعرة" فلما رآها الحلس عظم عليه ذلك، وقال: ما ينبغي أن يصد هؤلاء، ورجع عن رسالة قريش. انتهى.
قوله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨)﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أرشدنا إلى بعض آيات علمه في خلقه التي جعل بها البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد.. نبهنا في هذه الآية إلى أن العلم بكل شيء لا يمكن أن يترك الناس سدى، فهو لم يخلقهم عبثًا، ومن ثم لا يليق بحكمته وعدله أن يجعل الذين اجترحوا
قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما حذر عن المعصية، ورغب في التوبة بقوله: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ الآية وأتبعه في التكليف بقوله: ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾، ثم بالترغيب في الطاعة، والتنفير عن المعصية بقوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾.. أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة، والتنفير عن المعصية فقال: ﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ...﴾ الآية، أو يقال: لما بين أن عقابه شديد لمن عصى، وأنه غفور رحيم لمن أطاع.. بين أنه لا يستوي المطيع والعاصي، وإن كان من العصاة والكفار كثرة، فلا يمنعه كثرتهم من عقابهم، ذكره أبو حيان في "البحر".
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما رواه أحمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قدم رسول الله - ﷺ - المدينة، وهم يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله - ﷺ - عنهما: فأنزل الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِر...﴾ الآية، فقال الناس: ما حرم علينا، إنما قال: إثمٌ كبير، وكانوا يشربون الخمر، حتى كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين أمَّ أصحابه في المغرب، فخلط في قراءته، فأنزل الله آية أشد منها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾، ثم نزلت آية أشد من ذلك ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ إلى قوله ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾، قالوا: انتهينا ربنا، فقال الناس: يا رسول الله، ناس قتلوا في سبيل الله، وماتوا على سرفهم، وكانوا يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، وقد جعله رجسًا من عمل الشيطان، فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وروى النسائي والبيهقي عن ابن عباس قال: إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار، شربوا، فلما أن ثمل القوم.. عبث بعضهم ببعض، فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر في وجهه ورأسه ولحيته فيقول: صنع بي هذا أخي فلان، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فيقول: واللهِ لو كان بي رؤوفًا رحيمًا.. ما صنع بي هذا، حتى وقعت الضغائن في قلوبهم، فأنزل الله هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ...﴾ الآية. فقال ناس من المتكلفين: هي رجس، وهي في بطن فلان قُتل يوم بدر، وفي بطن فلان قُتل يوم أحد، فأنزل الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...﴾ الآية.
قوله تعالى (١): ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري عن أنس - رضي الله عنه - قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، وكان خمرهم يومئذ الفضيخ، فأمر رسول الله - ﷺ - مناديًا ينادي: ألا إن الخمر قد حُرِّمت قال: فقال لي أبو طلحة: أخرج فأهرقها، فجَرَت في سكك المدينة، فقال بعض القوم: قد قتل قوم وهي في بطونهم، فأنزل الله: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه الواحدي والأصبهاني في "الترغيب" عن جابر: أن النبي - ﷺ - ذكر تحريم الخمر، فقام أعرابي فقال: إني كنت رجلًا كانت هذه تجارتي فاعتبقت منها مالًا، فهل ينفع ذلك المال إن عملت بطاعة الله تعالى؟ فقال النبي - ﷺ -: إن الله لا يقبل إلا الطيب، فأنزل الله تعالى تصديقًا لرسوله - ﷺ -: ﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ...﴾ الآية.
وفي "مسند" أحمد، و"مسند" أبي داود والترمذي: أن عمر كان يدعو الله تعالى: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فلما نزلت آية البقرة.. قرأها عليه
وروي في سبب هذه الآيات: أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: فيَّ نزل تحريم الخمر، صنع رجل من الأنصار طعامًا، فدعانا، فأتاه ناس، فأكلوا وشربوا حتى انتشوا من الخمر - وذلك قبل تحريمها - فتفاخروا، فقالت الأنصار: الأنصار خير، وقالت قريش: قريش خير، فأهوى رجل بلحى جزور - فك رأس جزور - فضرب على أنس ففزره، قال: فأتيت النبي - ﷺ -، فذكرت له ذلك فنزلت.
والحكمة في تحريم الخمر بالتدريج: أن الناس كانوا مغرمين بحبها، كلفين بها، فلو حرمت في أول الإسلام.. لكان تحريمها صارفًا لكثير من المدمنين لها عن الإِسلام، ومن ثم جاء تحريمها أولًا في سورة البقرة على وجه فيه مجال للاجتهاد، فيتركها من لم تتمكن فتنتها من نفسه، ثم ذكرها في سورة النساء بما يقتضي تحريمها في الأوقات القريبة من وقت الصلاة؛ إذ نهى عن القرب من الصلاة في حال السكر، فلم يبقَ لمن يصر على شربها إلا الاغتباق بعد صلاة العشاء، وضرره قليل، والصبوح من بعد صلاة الصبح لمن لا عمل له، فلا يخشى أن يمتد سكره إلى وقت الظهر، ثم تركهم الله على هذه الحال زمنًا قويَ فيه الدين، وكثرت الوقائع التي ظهر لهم بها إثمها وضررها، فحرمها تحريمًا باتًا لا هوادة فيه.
روى ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت في البقرة ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ شربها قوم لقوله: ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾، وتركها قوم لقوله: ﴿إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾، منهم عثمان بن مظعون حتى نزلت الآية التي في النساء ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾، فتركها قوم، وشربها قوم يتركونها بالنهار حين الصلاة ويشربونها بالليل حتى نزلت الآية التي في المائدة ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ...﴾ هو الآية. قال عمر: أَقُرِنْتِ بالميسر والأنصاب
التفسير وأوجه القراءة
٩٠ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله وما أنزل إليه ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ﴾؛ أي: إن الخمر التي تشربونها ﴿وَالْمَيْسِر﴾ الذي تتياسرونه وتلعبون به ﴿وَالْأَنْصَابُ﴾ التي تذبحون عندها ﴿وَالْأَزْلَامُ﴾؛ أي: القداح التي تستقسمون بها ﴿رِجْسٌ﴾؛ أي: قذر تعاف منه العقول السليمة، وإثم سخطه الله وكرهه لكم، وهو ﴿مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ وتحسينه وتزيينه لكم، وقيل: هو الذي كان عمل هذه الأمور بنفسه، فاقتدى به بنو آدم، لا من الأعمال التي ندبكم إليها ربكم، ولا مما يرضاه لكم ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾؛ أي: فاتركوا هذا الرجس ولا تعملوه، وكونوا في جانب غير الجانب الذي هو فيه ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾؛ أي: رجاء أن تفلحوا وتفوزوا بما فرض عليكم من تزكية أنفسكم وسلامة أبدانكم والتواد فيما بينكم، فجملة الترجي علة لما قبلها؛ أي: فاجتنبوا هذا المذكور لكي تنجوا من العذاب، وتدركوا الفلاح إذا اجتنبتم هذه المحرمات التي هي رجس.
والخمر: عصير العنب إذا اختمر؛ أي: صار خمرًا. والمراد هنا: كل
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من شرب الخمر.. لم تقبل له صلاة أربعين صباحًا، فإن تاب.. تاب الله عليه، فإن عاد.. لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحًا، فإن تاب.. تاب الله عليه، فإن عاد.. لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحًا، فإن تاب.. تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة.. لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحًا، فإن تاب.. لم يتب الله عليه، وسقاه من نهر الخبال"، قالوا: يا أبا عبد الرحمن، وما نهر الخبال؟ قال: صديد أهل النار. أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن. وأخرجه النسائي.
وعنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه". أخرجه أبو داود.
والميسر: القمار، والقمار كل لعب يشترط فيه أن يأخذ الغالب من المغلوب شيئًا سواء كان بالورق، أو بغيره كالقداح. وسُمي القمار - أي: اللعب - ميسرًا؛ لأن فيه أخذ المال بيسر، ويطلق الميسر أيضًا على الجزور التي كانوا يتقامرون عليها، وذلك أنهم كانوا ينحرون الجزور ويقسمونها ثمانية وعشرين قسمًا أو عشرة أقسام، ثم يضربون بالقداح، وفيها الرابح والغفل، فمن خرج له قدح رابح.. فاز وأخذ نصيبه من الجزور، ومن خرج له الغفل.. غرم ثمنها.
والأنصاب: الحجارة التي كانوا يذبحون قرابينهم عندها ويعبدونها ويتقربون إليها، سُميت الأصنام بذلك؛ لأنها تنصب وترفع للعبادة. والأزلام: قداح؛ أي: قطع رقيقة من الخشب بهيئة السهام، كانوا يستقسمون بها في الجاهلية لأجل التفاؤل أو التشاؤم.
٩١ - وبعد أن أمر الله تعالى باجتناب الخمر والميسر.. ذكر أن فيهما مفسدتين:
فإن قلتَ (٢): لِمَ جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام في الآية الأولى، ثم أفرد الخمر والميسر في هذه الآية؟
قلتُ: لأن الخطاب مع المؤمنين بدليل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، والمقصود نهيهم عن شرب الخمر واللعب بالقمار، وإنما ضم الأنصاب والأزلام إلى الخمر والميسر في الآية الأولى؛ لتأكيد تحريم الخمر والميسر، فلما كان المقصود من الآية النهي عن شرب الخمر والميسر لا جرم.. أفردهما بالذكر في الآية الثانية، والله أعلم.
(٢) الخازن.
أما كون الخمر سببًا لوقوع العداوة والبغضاء بين الناس حتى الأصدقاء منهم: فلأن شارب الخمر يسكر، فيفقد العقل الذي يمنع من الأقوال والأعمال القبيحة التي تسوء الناس، كما يستولي عليه حب الفخر الكاذب، ويسرع إليه الغضب بالباطل، فكثيرًا ما يجتمع الشَرَبَة على مائدة الشراب، فيثير السكر كثيرًا من ألوان البغضاء بينهم، وقد ينشأ القتل والضرب، والسلب والفسق والفجور، وإفشاء الأسرار، وهتك الأستار، وخيانة الحكومات والأوطان.
وأما الميسر: فهو مثار العداوة والبغضاء بين المتقامرين، فإن تعداهم فإلى الشامتين والعائبين، ومن تضيع عليهم حقوقهم من الدائنين وغير الدائنين، وكثيرًا ما يفرط المقامر في حقوق الوالدين والزوج والأولاد حتى يوشك أن يمقته كل أحد، والميسر مع ما فيه من التوسعة على المحتاجين فيه إجحاف بأرباب الأموال؛ لأن من صار مغلوبًا في القمار مرة.. دعاه ذلك إلى اللجاج والتمادي فيه رجاء أن يغلب فيه مرة أخرى، وقد يتفق أن لا يحصل له ذلك إلى أن لا يبقى له شيء من المال، ولا شك أنه بعد ذلك سيصير فقيرًا مسكينًا، ويصير من أعدى الأعداء لأولئك الذين كانوا له غالبين.
وأما صدُّ الخمر والميسر عن ذكر الله وعن الصلاة، وهو مفسدتهما الدينية: فذلك أظهر من كونهما مثارًا للعداوة والبغضاء، وهما مفسدتهما الاجتماعية؛ لأن كل سكرة من سكرات الخمر، وكل مرة من لعب القمار، تصد السكران واللاعب وتصرفه عن ذكر الله تعالى الذي هو روح الدين، وعن الصلاة التي هي عماد
وقد دلت المشاهدة على أن القمار أكثر الأعمال التي تشغل القلب وتصرفه عن كل ما سواه، بل يحدث الحريق في دار المقامر، أو تحل المصائب بالأهل والولد، ويستغاث به فلا يغيث، بل يمضي في لعبه، والنوادر في ذلك كثيرة على أن المقامر إذا تذكر الصلاة وترك اللعب لأجلها، فإنه لا يؤدي منها إلا الحركات بدون أدنى تدبر أو خشوع، لكنه على كل حال يفضل السكران، إذ إنه لا يكاد يضبط أفعال الصلاة.
ولما بين الله سبحانه وتعالى علة تحريم الخمر والميسر وحكمته.. أكد ذلك التحريم فقال: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ ومنزجرون عن إتيانهما، والاستفهام فيه استفهام تهديدي بمعنى الأمر، وهو أبلغ من الأمر صريحًا، فكأنه قيل: قد بينت لكم ما في هذه الأمور من أنواع الصوارف والموانع والقبائح، فهل أنتم منتهون مع هذه الصوارف، أم أنتم على ما كنتم عليه كأنكم لم توعظوا ولم تزجروا؟
والخلاصة: قد بينتُ لكم مفاسد الخمر والميسر، فهل تنتهون عنهما، أم أنتم مقيمون عليهما كأنكم لم توعظوا بهذه المواعظ؟ وقد أكد (١) الله سبحانه وتعالى تحريم الخمر والميسر بوجوه من التأكيد:
منها: أنه سماهما رجسًا، والرجس كلمة تدل على منتهى ما يكون من القبح والخبث، ومن ثم قال - ﷺ -: "الخمر أمُّ الخبائث".
ومنها: أنه قرنهما بالأنصاب والأزلام التي هي من أعمال الوثنية وخرافات
ومنها: أنه جعلهما من عمل الشيطان؛ لما ينشأ عنهما من الشرور والطغيان وسخط الرحمن.
ومنها: جعل اجتنابهما سبيلًا للفلاح والفوز بالنجاة.
ومنها: أنه جعلهما مثارًا للعداوة والبغضاء، وهما من أقبح المفاسد الدنيوية التي تولد كثيرًا من المعاصي في الأموال والأعراض والأنفس.
ومنها: أنه جعلهما صادين عن ذكر الله وعن الصلاة، وهما روح الدين وعماده وزاده وعتاده.
وفي هذه الآية (١): دليل على تحريم الخمر لما تضمنه الأمر بالاجتناب من الوجوب، ولما تقرر في الشريعة من تحريم قربان الرجس فضلًا عن جعله شرابًا يشرب.
وقد أجمع المسلمون على ذلك إجماعًا لا شك فيه ولا شبهة، وأجمعوا أيضًا على تحريم بيعها والانتفاع بها ما دامت خمرًا. وكما دلت هذه الآية على تحريم الخمر.. دلت أيضًا على تحريم الميسر والأنصاب والأزلام،
٩٢ - ثم أكد الله سبحانه وتعالى هذا التحريم بقوله: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى أيها المؤمنون فيما أمركم به من اجتناب الخمر والميسر وغيرهما من سائر المحرمات؛ كالأنصاب والأزلام ونحوهما. ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ محمدًا - ﷺ - فيما بيَّنه لكم مما نزل عليكم من نحو قوله: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام". ﴿وَاحْذَرُوا﴾، عن مخالفتهما في التكاليف؛ أي: واحترزوا واجتنبوا مخالفة الله، ومخالفة رسوله - ﷺ - فيما أمركم به ونهاكم عنه، أو المعنى: واحذروا ما يصيبكم إذا أنتم خالفتم أمرهما من فتنة في الدينا، وعذاب في الآخرة، فإنه سبحانه لم يحرم عليكم إلا ما فيه ضرر لكم في دنياكم وآخرتكم، كما قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ وأعرضتم عن اتباع أمرهما ونهيهما ﴿فَاعْلَمُوا﴾ أن الحجة قد قامت عليكم، وانقطعت بكم الأعذار، واستوجبتم السخط، واستحققتم العقاب؛ لأنه ﴿أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا﴾ محمد - ﷺ - ﴿الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾؛ أي: التبليغ من الله إليكم البلاغ المبين؛ أي: الواضح بلغة تعلمونها، والرسول قد خرج من عهدة التبليغ كمال الخروج، وما بقي بعد ذلك إلا العقاب؛ أي: فاعلموا أنكم لم تضروا الرسول - ﷺ - بتوليكم، فإنما عليه البلاغ، وقد أدى ما عليه، وإنما ضررتم به أنفسكم، وفي هذا تهديد أكيد، ووعيد شديد لمن خالف أوامر الله وفعل نواهيه.
٩٣ - ولما قال ناس من الصحابة لرسول الله - ﷺ - حين حرمت الخمر والميسر: كيف حال إخواننا الذين ماتوا، وهم يشربون الخمر، ويلعبون بالميسر.. أنزل الله فيهم قوله: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله وبالقران ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾؛ أي: وعملوا الأعمال الصالحة فيما بينهم وبين ربهم؛ سواء كانوا من الأحياء أو الأموات ﴿جُنَاحٌ﴾؛ أي: إثم ومؤاخذة ﴿فِيمَا طَعِمُوا﴾؛ أي: فيما أكلوا من مال الميسر، أو شربوا من الخمر فيما مضى قبل تحريمهما وتحريم غيرهما مما لم يكن محرمًا أولًا ثم حُرِّم. ﴿إِذَا مَا اتَّقَوْا﴾؛ أي: إذا امتثلوا أوامر الله واجتنبوا نواهيه ﴿وَآمَنُوا﴾ بما كان قد نزل من الأحكام ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ التي كانت قد شرعت كالصلاة والصيام وغيرهما ﴿ثُمَّ اتَّقَوْا﴾ ما حرم عليهم بعد ذلك عند العلم به ﴿وَآمَنُوا﴾ بما نزل فيه وفي غيره ﴿ثُمَّ اتَّقَوْا﴾؛ أي: استمروا على التقوى بامتثال جميع المأمورات واجتناب جميع المنهيات ﴿وَأَحْسَنُوا﴾؛ صالح أعمالهم، فأتوا بها على وجه الكمال، وتمموا نقص فرائضها بنوافل الطاعات، وأخلصوها لله تعالى ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ لأعمالهم، والمخلصين لها لوجهه؛ أي: يثيبهم على إخلاصهم، فلا يبقى في قلوبهم أثر من الآثار السيئة التي وصف بها الخمر والميسر من الإيقاع في العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
والخلاصة: أن مَن صحَّ إيمانه، وصلح عمله، وعمل في كل حين نصوص
وقال الصاوي: والحاصل (١) أنه كرر سبحانه وتعالى قوله: ﴿اتَّقَوْا﴾ ثلاثًا، فقيل: الأول: محمول على مبدأ العمر، والثاني: على وسطه، والثالث: على آخره. وقيل: الأول: اتقوا المحرمات خوف الوقوع في الكفر، والثاني: الشبهات خوف الوقوع في المحرمات، والثالث: بعض المباحات خوف الوقوع في الشبهات. وقيل: الأول: تقوى العبد بينه وبين ربه، والثاني: تقوى العبد بينه وبين نفسه، والثالث: تقوى العبد بينه وبين الناس؛ لأن العبد لا يكمل إلا إذا كان طائعًا فيما بينه وبين ربه، مجاهدًا فيما بينه وبين نفسه، محافظًا على حقوق العباد. انتهى.
تتمة: اختلف (٢) العلماء في شرب الخمر والنجاسات عند الضرورة. وأصح الآراء في ذلك: أنه يجوز بشرط الاضطرار الذي يبيح المحرمات من طعام وشراب بدليل قوله تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ كمن غُص بلقمة فكاد يختنق، فلم يجد ما يسيغها به سوى الخمر، وكمن أصابته نوبة ألم في القلب كادت تقضي عليه، وقد أخبره الطبيب بأن لا سبيل لدفع الخطر سوى شرب مقدار من الخمر من النوع المعروف باسم: كونياك، فقد يرى الطبيب أنه يتعين في بعض الأحيان لعلاج ما يعرض من آلام القلب لدرء الخطر كما ثبت بالتجربة.
أما التداوي بالخمر لمن يظن نفعها ولو بإخبار الطبيب، كتقوية المعدة أو الدم أو نحو ذلك مما تسمعه من كثير من الناس: فذلك منهي عنه للحديث: "إنه ليس بدواء، ولكنه داء" رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
وكان سببه أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي - ﷺ - عن الخمر - وكان
(٢) المراغي بتصرف في بعض المواضع.
وقوله: "ولكنه داء" هذا هو رأي الأطباء؛ إذ أن المادة المسكرة من الخمر سمٌّ تتوالد منها أمراض كثيرة يموت بها في كل عام عدد لا يحصى من الناس في البلاد التي ابتليت بها، والذين يشربون الخمر ولو بقصد التداوي يؤثر سمها في أعصابهم بكثرة التعاطي، فتصير مطلوبة عندهم لذاتها، فيضرهم سُمُّها، فعلى المسلم الصادق الإيمان أن لا يغترَّ برأي بعض الأطباء الذين يصفونها للتداوي لمثل الأمراض التي يصفونها لها عادة. وقد دلت التجارب على أن الذين يبتلون بشربها لا يقدمون على ذلك إلا بإغراء المعاشرين من الأهل والأصحاب على استبشاعهم لها، واعتقادهم ضررها، ومخالفتهم أوامر دينهم، لكن الذي يسهل عليهم ذلك: ظنهم أن الضرر المتيقن إنما يكون بالإسراف والانهماك في الشراب، وأن القليل منها إن لم ينفع فلا يضر، فلا ينبغي تركه مع ما فيه من لذة النشوة، والذهول عن هموم الدنيا وآلامها، إلى ما في ذلك من مجاملة الإخوان، لكنهم مخدوعون؛ إذ هم لو سألوا من سبقهم إلى هذه البلوى وأسرف في السكر حتى فسدت صحته ومروءته، وضاعت ثروته، هل كنت حين بدأت تنوي الإسراف والإدمان؟ لأجابك بأنه ما كان يقصد إلا النزر القليل في فترات متطاولة من الزمن، وما كان يعلم أن القليل يجر إلى الكثير الذي يصيبه بالداء الدوي، ولا يجد إلى الخلاص منه سبيلًا. وقد يعرض لبعض من يؤمن بحرمة الخمر شبهاتٌ فيقول: إن الخمر المتخذة من العنب هي المحرمة لذاتها، وأن ما عداها لا يحرم منه إلا المقدار المسكر فعلًا، لكنهم واهمون فيما فهموا؛ إذ جاء في الحديث الصحيح قوله - ﷺ -: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" رواه مسلم من حديث ابن عمر.
وآخر تَعِلَّة (١) لهم: الغرور بكرم الله وعفوه، أو اعتمادهم على بعض الأعمال الصالحة، ولا سيما ما يسمونه بالمكفرات، أو على الشفاعات. وهذا
تَكَثَّرْ مَا اسْتَطَعْتَ مِنَ المَعَاصِي | فَإِنَّكَ وَاجِدٌ رَبًّا غَفُوْرًا |
وَرَجَوْتُ عَفْوَ اللهِ مُعْتَمِدًا علَى | خَيْرِ الأَنَامِ مُحَمَّدِ المَبْعُوْثِ |
وفي "الصحيحين" عن علي - رضي الله عنه -: ما كنت لأقيم على أحد حدًّا فيموت وأجد في نفس شيئًا إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات وَدَيته - أي: دفعت ديته - وذلك أن رسول الله - ﷺ - لم يسنّه. وفي "صحيح مسلم": أن عثمان أتى بالوليد، وقد صلى الصبح ركعتين، وقال: أزيدكم، وشهد عليه الشهود أنه شرب الخمر، فأمر بجلده، وعلي - رضي الله عنه - يعد حتى بلغ الأربعين، فقال: أمسك، ثم قال: جلد النبي - ﷺ - وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سنة، وهذا أحب إلي - يريد الأربعين -. وقوله: وكلٌّ سنة؛ أي: أنه جرى العمل به فعلًا، ولا يعارض ذلك قوله: أن النبي - ﷺ - لم يسن حد الخمر؛ لأن ضربه أربعين مرة واحدة لا يعد سنة محدودة له؛ لأنه قد خالف ذلك في بعض الأحيان، لكنه صار سنة بجري أبي بكر عليه.
والخلاصة: أن العقاب المشروع على شرب الخمر هو الضرب الذي يراد منه إهانة الشارب وزجره وتنفير الناس منه، وأن الضرب أربعين أو ثمانين كان اجتهادًا من الخلفاء، فاختار أبو بكر الأربعين، وعمر الثمانين بموافقته لاجتهاد
٩٤ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: وعزتي وجلالي لأختبرنكم في حال إحرامكم بالحج أو العمرة ﴿بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ﴾؛ أي: بإرسال شيء من الصيد البري المأكول عليكم ﴿تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ﴾؛ أي: يسهل عليكم أخذ صغاره بأيديكم؛ كالطيور، وطعن كباره برماحكم كالوحوش.
قال ابن عطية: والظاهر أن الله خص الأيدي بالذكر؛ لأنها أعظم تصرفًا في الاصطياد، وفيها تدخل الجوارح والحبالات وما عمل باليد من فخاخ وشباك، وخص الرماح بالذكر؛ لأنها أعظم ما يجرح به الصيد، وفيها يدخل السهم ونحوه. واحتج بعض الناس بهذه الآية على أن الصيد للآخذ لا للمثير؛ لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئًا. انتهى.
وقال الصاوي: وهذا الابتلاء نظير ابتلاء الله قوم موسى بتحريم صيد السمك يوم السبت، ولكن الله حفظ هذه الأمة المحمدية من الوقوع فيما يخالف أمر ربهم، فتم لها السعد والعزُّ في الدنيا والآخرة، وأما أُمة موسى، فتعدوا واصطادوا: فمسخوا قردة وخنازير. انتهى.
ووجه الابتلاء في ذلك (١): أن الصيد طعام لذيذ تشتد الحاجة إليه في الأسفار الطويلة؛ كالسفر إلى الجهات النائية، وأن سهولة تناوله تغري به؛ إذ ترك ما لا ينال إلا بمشقة لا يدل على التقوى والخوف من الله، كما يدل عليه ترك ما ينال بسهولة.
قال البيضاوي (٢): نزلت في عام الحديبية، ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بالصيد، وكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم بحيث يتمكنون من صيدها أخذًا بأيديهم وطعنًا برماحهم وهم محرمون، والتقليل والتحقير في ﴿بِشَيْءٍ﴾ للتنبيه على
(٢) البيضاوي.
وقرأ النخعي وابن وثاب: ﴿يناله﴾ بالياء التحتانية. والجملة من قوله: ﴿تَنَالُهُ﴾ في موضع الصفة لقوله: ﴿بِشَيْءٍ﴾، أو في موضع الحال منه؛ لأنه قد وصف.
﴿لِيَعْلَمَ اللَّهُ﴾؛ أي: يختبركم الله سبحانه وتعالى بالصيد في حال إحرامكم ليعلم الله تعالى علم ظهور للعباد ﴿مَنْ يَخَافُهُ﴾؛ أي؛ من يخاف الله تعالى، ولم يره ويمتثل أمره ونهيه؛ لقوة إيمانه حالة كونه ملتبسًا ﴿بِالْغَيْبِ﴾ عن الله تعالى؛ أي: غير راء له تعالى، أو المعنى: من يخاف الله تعالى حالة كونه ملابسًا بالغيب عن الناس غير مرئي لهم، ولا خائف من إنكارهم.. فيترك أخذ شيء من الصيد، ويختار خشن العيش على لذة اللحم خوفًا من الله تعالى، وطاعة له في خفيته، وعلى هذين المعنيين يكون الجار والمجرور في قوله: ﴿بِالْغَيْبِ﴾ حال من ضمير الفاعل في ﴿يخاف﴾، ويحتمل أن يكون حالًا من ضمير المفعول العائد على الله تعالى. والمعنى: ليعلم الله من يخافه حالة كون الله ملتبسًا بالغيب عنه؛ أي: غير مرئي له. وقال (١) أبو حيان: ومعنى ﴿لِيَعْلَمَ﴾؛ ليتميز من يخاف عقاب الله تعالى، وهو غائب منتظر في الآخرة، فيترك الصيد، ممن لا يخافه فيقدم عليه، قاله الزمخشري.
وقيل المعنى: ليعلموا أن الله يعلم من يخافه بالغيب؛ أي: في السر حيث لا يراه أحد من الناس، فالخائف لا يصيد، وغير الخائف يصيد. وقال ابن عطية: والظاهر أن المعنى: بالغيب من الناس؛ أي: في الخلوة، مَنْ خاف الله.. انتهى عن الصيد من ذات نفسه. وقال الطبري: معناه في الدنيا، حيث لا يرى العبد ربه، فهو غائب. والمعنى: يختبركم الله تعالى بالصيد ليظهر من يخافه لقوة إيمانه، ويميزه عمن لا يخافه لضعف قلبه وقلة إيمانه.
والخلاصة (٢): أنه تعالى يريد أن يعاملكم معاملة المختبر الذي يريد أن
(٢) المراغي.
﴿فَمَنِ اعْتَدَى﴾ بأخذ شيء من ذلك الصيد ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾ البيان الذي أخبركم الله تعالى به قبل حصوله ﴿فَلَهُ﴾؛ أي: فلذلك المعتدي بالاصطياد ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: مؤلم شديد في الآخرة؛ إذ هو لم يبال باختبار الله له، بل انتهك حرمة نواهيه، وأبان أنه لا يخافه بالغيب، بل يخاف لوم المؤمنين وتعزيرهم له إذا هو أخذ شيئًا من الصيد بمرأى منهم ومسمع، كما هو دأب المنافقين الذين يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلًا.
٩٥ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: صدقوا الله ورسوله ﴿لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾؛ أي: لا تقتلوه ولا تتعرضوا له بإتلاف ولا اصطياد، والحال أنكم محرمون بالحج أو العمرة، أو داخلون في الحرم المكي. نهاهم عن قتل الصيد في حال الإحرام. وفي معناه: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾، وهذا النهي شامل لكل أحد من ذكور المسلمين وإناثهم؛ لأنه يقال: رجل حرام، وامرأة حرام، والجمع: حُرُم، ويقال: أحرم الرجل إذا دخل في الحرم، وأحرم أيضًا إذا عقد الإحرام، فلا يجوز قتل الصيد للمحرم، ولا في الحرم. نزلت (١) هذه الآية في أبي اليسر، شد على حمار وحش فقتله وهو محرم، ثم صار هذا الحكم عامًّا، فلا يجوز قتل الصيد ولا التعرض له ما دام محرمًا، ولا في الحرم، ومقتول المحرم من الصيد ميتة، وإن ذبحه بقطع حلقومه ومريئه، وذلك لأن المحرم ممنوع من ذبحه لمعنى فيه؛ كذبح المجوسي. والمراد بالصيد: كل حيوان متوحش مأكول اللحم، وهذا قول الشافعي. وقال (٢) أبو حنيفة: هو كل حيوان
(٢) الخازن.
وعن عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - ﷺ - قال: "خمس من الدواب كلهن فواسق، يقتلن في الحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور" متفق عليه. ولمسلم "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم" وذكر نحوه. وفي رواية النسائي قال: "خمس يقتلهن المحرم: الحية، والعقرب، والفأرة، والغراب الأبقع، والكلب العقور" قال ابن عيينة: الكلب العقور: كل سبع ضارٍ يعقر، وقاس الشافعي عليها جميع ما لا يؤكل لحمه، قال: لأن الحديث يشتمل على أشياء بعضها سباع ضارية، وبعضها هوام قاتلة، وبعضها طير لا يدخل في معنى السباع ولا في معنى الهوام، وإنما هو حيوان مستخبث اللحم، وتحريم الأكل يجمع الكل، فاعتبره ورتب عليه الحكم. وذهب أصحاب الرأي إلى وجوب الجزاء في كل ما لا يؤكل لحمه إلا الأعيان المذكورة في الحديث، وقاسوا عليها الذئب، فلم يوجبوا فيه كفارة. وألحق (١) مالك بالكلب العقور: الذئب، والسبع، والنمر، والفهد؛ لأنها أشد منه ضررًا.
والظاهر أن المراد بالصيد الذي نهت عنه الآية: هو كل حيوان وحشي يؤكل لحمه، فلا جزاء في قتل الأهلي ولا ما لا يؤكل لحمه من السباع والحشرات، ومنها الفواسق المذكورة في الحديث.
﴿وَمَنْ قَتَلَهُ﴾؛ أي: ومن قتل الصيد أو أتلف جزءًا منه ﴿مِنْكُمْ﴾ أيها المؤمنون حالة كونه ﴿مُتَعَمِّدًا﴾؛ أي: قاصدًا (٢) لقتله، ذاكرًا لإحرامه، عالمًا أن ما يقتله مما يحرم قتله عليه، فإن قتله ناسيًا لإحرامه، أو رمى صيدًا وهو يظن أنه
(٢) النسفي.
﴿فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ﴾؛ أي: فعليه (١) ضمان شبه ما قتله من الصيد حالة كون ذلك المثل ﴿مِنَ النَّعَمِ﴾؛ أي: من الإبل والبقر والغنم؛ أي: ومن قتل شيئًا من الصيد وهو محرم قاصدًا قتله.. فعليه جزاءٌ من الأنعام مماثل لما قتله في هيئته وصورته وخلقته إن وجد ذلك المثل. فقد روى الدارقطني عن جابر عن النبي - ﷺ - قال: "في الضبع إذا أصابه المحرم كبشٌ، وفي الظبي شاةٌ، وفي الأرنب عناقٌ - الأنثى من ولد المعز قبل أن تبلغ سنة - وفي اليربوع جفرة - الأنثى من ولد الضأن التي بلغت أربعة أشهر - ". وأخرج ابن أبي شيبة عن جابر قال: قال رسول الله - ﷺ -: "الضبع صيد، فإذا أصابه المحرم.. ففيه جزاءٌ كبش مسن، وتؤكل".
وإن لم يوجد المماثل من النعم، فقيمته حيث صيد، أو في أقرب الأماكن إليه. قال القاضي أبو يعلى (٢): والصيد الذي يجب الجزاء بقتله ما كان مأكول اللحم؛ كالغزال وحمار الوحش والنعامة ونحو ذلك، أو كان متولدًا من حيوان يؤكل لحمه؛ كالسبع فإنه متولد من الضبع والذئب، وما عدا ذلك من السباع كلها فلا جزاء على قاتلها، سواء ابتدأَ قتلها، أو عَدَت عليه فقتلها دفعًا عن نفسه؛ لأن السبع لا مثل له صورة ولا قيمة، فلم يدخل تحت الآية، ولأن النبي - ﷺ - أجاز للمحرم قتل الحية والعقرب والفويسقة والغراب والحدأة والكلب العقور والسبع العادي. قال: والواجب بقتل الصيد فيما له مثل من الأنعام.. مثله، وفيما لا مثل له.. قيمته، وهو قول مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: الواجب فيه القيمة
(٢) زاد المسير.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي (٢): ﴿فَجَزَاءٌ﴾ بالتنوين ﴿مِثْلُ﴾ بالرفع، فارتفاع جزاء على أنه مبتدأ خبر محذوف تقديره: فعليه جزاء، ومثل صفة له؛ أي: فعليه جزاء مماثل ما قتل. وقرأ باقي السبعة: ﴿فَجَزَاءٌ مِثْلُ﴾ برفع جزاء وإضافته إلى مثل، فيكون ﴿مثل﴾ مقحمًا، والتقدير: فجزاء ما قتل. وقيل: من إضافة المصدر إلى المفعول، ويدل على هذا التقدير قراءة السلمي: ﴿فجزاءٌ﴾ بالرفع والتنوين ﴿مِثْلَ مَا قَتَلَ﴾ بالنصب.
وقرأ محمد بن مقاتل ﴿فجزاءً مثلَ ما قتل﴾ بنصب جزاء ومثل، والتقدير: فليُخرج جزاءً مثلَ ما قتل، و ﴿مثل﴾ صفة لـ ﴿جزاء﴾. وقرأ الحسن: ﴿من النعْم﴾ بسكون العين تخفيفًا.
فائدة: والظاهر من تقييد المنهيين عن القتل بقوله: ﴿وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ أنه لو صاد الحلال بالحل، ثم ذبحه في الحرم، فلا ضمان، وهو حلال، وبه قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: عليه الجزاء، ذكره أبو حيان في "البحر".
(٢) البحر المحيط.
قال ميمون بن مهران (١): جاء أعرابي إلى أبي بكر - رضي الله عنه -، فقال: إني أصبت من الصيد كذا وكذا، فسأل أبو بكر - رضي الله عنه - أُبي بن كعب، فقال الأعرابي: أتيتك أسألك، وأنت تسأل غيرك، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: وما أنكرت من ذلك، قال تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾، فشاورت صاحبي فإذا اتفقنا على شيء.. أمرناك به.
وعن قبيصة بن جابر: أنه حين كان محرمًا ضرب ظبيًا فمات، فسأل عمر بن الخطاب - وكان بجنبه عبد الرحمن بن عوف - فقال عمر لعبد الرحمن: ما ترى؟ قال: عليه شاة، قال: وأنا أرى ذلك، قال: فاذهب فأهدِ شاة، قال قبيصة: فخرجت إلى صاحبي، وقلت له: إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره، قال: ففاجأني عمر، وعلاني بالدرة، وقال: أتقتل في الحرم، وتسفِّه الحَكَم؟! قال الله تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ فأنا عمر، وهذا عبد الرحمن بن عوف.
وقرأ جعفر بن محمد (٢): ﴿يحكم به ذو عدل﴾ بالإفراد، والمراد به: الجنس كما تكون من محمولة على المعنى فتقديره على هذا: فريق ذو عدل، أو حاكم ذو عدل؛ لأن عدلًا هنا مصدر غير وصف، ذكره أبو البقاء. وقوله: ﴿هَدْيًا﴾ حال من ضمير ﴿بِهِ﴾ و ﴿بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ صفة لـ ﴿هَدْيًا﴾؛ أي: يحكم به؛ أي: بذلك المثل ذوا عدل منكم حالة كون ذلك المثل هديًا بالغ الكعبة؛ أي:
(٢) البحر المحيط والعكبري.
وسميت الكعبة كعبة لارتفاعها، والعرب تسمي كل بيت مرتفع كعبة، والمراد بالكعبة هنا: كل الحرم؛ لأن الذبح لا يقع في الكعبة وعندها ملاقيًا لها، وإنما يقع في الحرم، وهو المراد بالبلوغ، فيذبح المثل في الحرم كدم الهدي، ويتصدق به على مساكين الحرم عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: يتعين الذبح في الحرم، وأما التصدق به: فحيث شئتَ إذا وصل الهدي إلى الكعبة. والمعنى: إن ذلك الجزاء يكون هديًا يصل إلى الكعبة، ويذبح في جوارها، حيث تؤدى المناسك، ويفرق لحمه على مساكين الحرم. قال أبو حيان (١): والحرم كله منحر لهذا الهدي، فما وقف به بعرفة من هدي الجزاء ينحر بمنى، وما لم يوقف به فينحر بمكة وفي سائر بقاع الحرم بشرط أن يدخل به من الحل، ولا بد أن يجمع فيه بين حل وحرم حتى يكون بالغًا لكعبة. وقرأ الأعرج: ﴿هِديًّا﴾ بكسر الدال وتشديد الياء. انتهى.
وقوله: ﴿أَوْ كَفَّارَةٌ﴾ معطوف على ﴿جزاء﴾، وقوله: ﴿طَعَامُ﴾ - بالرفع - بدل من ﴿كَفَّارَةٌ﴾، أو عطف بيان لها، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي طعام. وقوله: ﴿أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ﴾؛ أي: قدر أمداد ذلك الطعام. ﴿عَدْلُ﴾: معطوف على ﴿طَعَامُ﴾، وقوله: ﴿صِيَامًا﴾ تمييز لـ ﴿عَدْلُ ذَلِكَ﴾، والمعنى: فمن قتل الصيد منكم متعمدًا، وهو محرم.. فعليه جزاء مماثل للمقتول هو من النعم، أو كفارة هي إطعام مساكين بقيمة ذلك المثل، لكل مسكين مدٌّ عند الشافعي، ونصف صاع عند أبي حنيفة من غالب قوت البلد، أو كفارة هي صيام أيام تعادل وتساوي عدد أمداد ذلك الطعام الذي هو قيمة المثل عند الشافعي، أو يصوم يومًا بدل نصف صاع عند أبي حنيفة، فيختار الجاني بين هذه الخصال الثلاثة.
فصل
ذهب الشافعي ومالك وأبو حنيفة إلى أن كلمة (١): ﴿أَوْ﴾ في هذه الآية للتخيير. وقال أحمد وزفر من أصحاب أبي حنيفة: إنها للترتيب، وهما روايتان عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. قال الشافعي: إذا قتل صيدًا له مِثْل.. فهو مخير بين ثلاثة أشياء: إن شاء ذبح المثل من النعم وتصدق به على مساكين الحرم، وإن شاء قَوَّم المثل دراهم، والدراهم طعامًا، ثم يتصدق به على مساكين الحرم، وإن شاء صام عن كل مد من الطعام يومًا، فأي ذلك فعل.. أجزأه موسرًا كان أو معسرًا، وهو قول الجمهور. وقال أبو حنيفة: يصوم عن كل نصف صاع يومًا. وعن أحمد روايتان كالقولين، وأصل هذه المسألة: أن الصوم مقدَّر بطعام اليوم، فعند الشافعي مقدر بالمد، وعند أبي حنيفة مقدر بنصف صاع، وله أن يصوم حيث شاء؛ لأنه لا نفع فيه للمساكين.
وذهب جمهور الفقهاء (٢): إلى أن الخيار في تعيين أحد هذه الثلاثة الأشياء إلى قاتل الصيد الذي وجب عليه الكفارة؛ لأن الله تعالى أوجب عليه أحد هذه الثلاثة على التخيير، فوجب أن يكون هو المخير بين أيها شاء. وقال محمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة: التخيير إلى الحكمين؛ لأن الله تعالى قال: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾، ومن قال: إن كلمة ﴿أَو﴾ للترتيب قال: إن لم يجد الهدي اشترى طعامًا وتصدق به، فإن كان معسرًا صام. وقال مالك: إن لم يخرج المثل من النعم.. يقوِّم الصيد، ثم يجعل القيمة طعامًا، فيتصدق به أو يصوم. وقال أبو حنيفة: لا يجب المثل من النعم، بل يقوَّم الصيد، فإن شاء صرف تلك القيمة إلى شيء من النعم، وإن شاء إلى الطعام، فيتصدق به، وإن شاء صام عن كل نصف صاع من بر أو صاع من غيره يومًا. واختلفوا في موضع التقويم، فقال جمهور الفقهاء: يقوَّم في المكان الذي قتل فيه الصيد. وقال الشعبي: يقوَّم بمكة بثمن مكة؛ لأنه يصرف بها.
(٢) الخازن.
وقرأ نافع وابن عامر (١): ﴿كفارة طعام مساكين﴾ بالإضافة، والإضافة تكون بأدنى ملابسة؛ إذ الكفارة تكون كفارة هدي، وكفارة طعام، وكفارة صيام. وقرأ باقي السبعة بالتنوين ورفع ﴿طعام﴾.
وقرأ كذلك الأعرج وعيسى بن عمر إلا أنهما أفردا ﴿مسكين﴾ على أنه اسم جنس. وقرأ الجمهور ﴿أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ﴾ بفتح العين، وقرأ ابن عباس وطلحة بن مصرف والجحدري بكسرها.
وقوله: ﴿لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ﴾ متعلق ب محذوف تقديره: أوجبنا عليه ذلك الجزاء بأقسامه الثلاثة ليذوق وبال أمره؛ أي: جزاء ذنبه الصادر منه، وعقوبة هتكه لحرمة الإحرام؛ إما بدفع الغرم، وإما بالعمل ببدنه بما يتعبه ويشق عليه، والوبال في الأصل: الشيء الثقيل الذي يخاف ضرره، وإنما سمَّى الله ذلك الجزاء وبالًا؛ لأن إخراج الجزاء ثقيل على النفس؛ لأن فيه تنقيصًا للمال، وهو ثقيل على النفس، وكذا الصوم أيضًا ثقيل على النفس؛ لأن فيه إنهاك البدن.
والمعنى (٢): أن الله سبحانه وتعالى أوجب على قاتل الصيد في الإحرام أو في الحرم أحد هذه الأشياء الثلاثة التي كل واحد منها ثقيل على النفس، حتى
(٢) المراح.
وقال ابن كثير (١): ثم الجمهور من السلف والخلف على أنه متى قتل المحرم الصيد.. وجب الجزاء، ولا فرق بين الأولى والثانية والثالثة، وإن تكرر ما تكرر سواء الخطأ في ذلك والعمد. وحكى علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: مَن قتل شيئًا من الصيد خطأً وهو محرم.. يحكم عليه فيه كلما قتله، وإن قتله عمدًا.. يحكم عليه فيه مرة واحدة، فإن عاد يقال له: ينتقم الله منك كما قال الله - عز وجل -. انتهى.
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَزِيزٌ﴾؛ أي: غالب على أمره فلا يغلبه العاصي ﴿ذُو انْتِقَامٍ﴾؛ أي: صاحب عقوبة شديدة لمن عصاه. وقال ابن جرير (٢): في قوله ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ يقول الله جلَّ ذكره: والله منيع في سلطانه لا يقهره قاهر، ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه، ولا من عقوبة من أراد عقوبته مانع؛ لأن الخلق خلقه والأمر أمره، له العزة والمنعة. وقوله: ﴿ذُو انْتِقَامٍ﴾ يعني: أنه ذو معاقبة لمن عصاه على معصيته إياه.
والآية صريحة (٣): في أنَّ الجزاء الدنيوي إنما يمنع عقاب الآخرة إذا لم يتكرر الذنب، فإن تكرر.. استحق صاحبه الجزاء في الدنيا، والعقاب في الآخرة.
(٢) الطبري.
(٣) المراغي.
قلتُ: إن المراد بالعفو هنا مجرد عدم المؤاخذة على ما سلف، فلا يرد السؤال المذكور، أفاده الكرخي،
٩٦ - والخطاب في قوله: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ﴾ إما لكل مسلم أو للمحرمين خاصة؛ أي: أحل لكم أيها الناس صيد جميع المياه العذبة والملحة بحرًا كان أو نهرًا أو غديرًا؛ أي: اصطياد صيد الماء والانتفاع به بأكله، واصطياده لأجل عظامه وأسنانه، وأحل لكم طعام البحر؛ أي: أكله، فالصيد هو ما صيد بالحيلة حال حياته ثم مات. والطعام ما يوجد مما لفظه البحر، أو نضب عنه الماء، ويحصل من غير معالجة في أخذه. والمعنى: وأحل لكم ما صيد من البحر ثم مات، وما قذفه البحر ميتًا، وروي هذا المعنى عن ابن عباس وابن عمر وقتادة.
والخلاصة: أن المراد بطعامه عندهم: ما لا عمل للإنسان فيه ولا كلفة في اصطياده؛ كالذي يطفو على وجهه، والذي يقذف به إلى الساحل، والذي ينحسر عنه الماء وقت الجزر، ولا فرق بين حيه وميته.
فصل في حيوان الماء
واعلم: أن (٢) جملة حيوان الماء على قسمين: سمك وغير سمك.
فأمَّا السمك: فجميعه حلال على اختلاف أجناسه وأنواعه. قال رسول الله - ﷺ - في البحر: "هو الطهور ماؤه، والحل ميتته" أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. ولا فرق بين أن يموت بسبب أو بغير سبب، فيحل أكله.
وقال أبو حنيفة: لا يحل إلا أن يموت بسبب.
وما عدا السمك فقسمان: قسم يعيش في البر والبحر؛ كالضفدع والسرطان والتمساح والسلحفاة، فلا يحل أكلها. وقال سفيان: أرجو أن لا يكون بالسرطان
(٢) الخازن والمراح.
وذهب جماعة إلى أن ما له نظير يؤكل من حيوان البر يؤكل مثل: بقر الماء ونحوه، ولا يؤكل ما لا يؤكل نظيره في البر مثل: كلب الماء وخنزيره. واختلفوا (١) في الجراد فقيل: هو من صيد البحر، فيحل أكله للمحرم. وذهب جمهور العلماء إلى أنه من صيد البر، وأنه لا يحل للمحرم أكله في حال الإحرام، فإن أصاب جرادة فعليه صدقة. قال عمر: في الجرادة تمرة، وعنه وعن ابن عباس رضي الله عنهم: قبضة من طعام. وكذلك طير الماء، فهو من صيد البر أيضًا.
﴿مَتَاعًا لَكُمْ﴾ أيها المقيمون ﴿وَلِلسَّيَّارَةِ﴾؛ أي: وللمسافرين منكم؛ أي: أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر وأكله متاعًا لكم؛ أي: تمتيعًا ومنفعة لمن كان منكم مقيمًا في بلده، يستمتع بأكله طريًّا، وينتفع به، ومنفعة ومتعة للسائرين والمسافرين منكم من أرض إلى أرض، يجعلونه قديدًا، ويتزودونه في سفرهم مليحًا للأكل، أو للبيع كما تزود موسى عليه السلام الحوت في مسيره إلى الخضر.
﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ أيها المحرمون ﴿صَيْدُ الْبَرِّ﴾؛ أي: أكل ما يصاد في البر، وهو كل ما لا يعيش إلا في البر ﴿مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾؛ أي: مدة كونكم محرمين بحج أو عمرة. وظاهره تحريم صيده على المحرم، ولو كان الصائد حلالًا، وإليه ذهب الجمهور إذا كان الصائد صاده للمحرم لا إذا لم يصده لأجله، وهو القول الراجح، وبه يجمع بين الأحاديث الآتية. وقيل: إنه يحل له مطلقًا، وإليه ذهب
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى تحريم الصيد على المحرم في ثلاثة مواضع من هذه السورة (١):
أحدها: في أول السورة، وهو قوله: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾.
والثاني: قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾.
والثالث: هذه الآية: ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾ كل ذلك لتأكيد تحريم قتل الصيد على المحرم.
وقرأ ابن عباس: ﴿وَحُرِّمَ﴾ مبنيًّا للفاعل و ﴿صَيْدُ﴾ بالنصب ﴿مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾ بفتح الحاء والراء. وقرأ يحيى: ﴿مَا دُمْتُمْ﴾ بكسر الدال، وهو لغة يقال: دام يدام كخاف يخاف.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ أي: خافوا الله ﴿الَّذِي إِلَيْهِ﴾ لا إلى غيره ﴿تُحْشَرُونَ﴾؛ أي: تجمعون وترجعون إليه للمجازاة، لا إلى غيره حتى يتوهم الخلاص من أخذه تعالى بالتجاء إلى ذلك الغير، فلا غير يلتجأ إليه، بل الأمر محصور فيه تعالى.
والمعنى (٢): واخشوا الله تعالى، واحذروا عقابه بطاعته فيما أمركم به من فرائضه، وفيما نهاكم عنه من جميع ما تقدم من الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وإصابة صيد البر وقتله في حال إحرامكم، وفي نحو ذلك، فإن إليه مصيركم ومرجعكم، فيعاقبكم بمعصيتكم، ويثيبكم على طاعتكم، ولا يخفى ما فيه من التشديد والمبالغة في التحذير من عقابه.
فصل
وقد اختلف العلماء: هل يجوز للمحرم أن يأكل من لحم صيد صاده غيره؟
(٢) المراغي.
وذهب جمهور العلماء: إلى أنه يجوز للمحرم أن يأكل لحم الصيد إذا لم يصده بنفسه، ولا صيد له، ولا دلَّ عليه بإشارته، ولا أعان عليه، وهذا قول عمر وعثمان وأبي هريرة - رضي الله عنهم -، وبه قال عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي، ويدل عليه: ما روي عن أبي قتادة الأنصاري قال: كنت جالسًا مع رجال من أصحاب النبي - ﷺ - في منزل في طريق مكة، ورسول الله - ﷺ - أمامنا، والقوم محرمون، وأنا غير محرم عام الحديبية، فأبصروا حمارًا وحشيًّا، وأنا مشغول أخصف نعلًا، فلم يؤذنوا لي، وأحبوا لو أني أبصرته، فالتفت فأبصرته، فقمت إلى الفرس فأسرجته، ثم ركبت ونسيت السوط والرمح، فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح، قالوا: لا والله، لا نعينك عليه، فغضبت ونزلت، فأخذتهما، ثم ركبت فشددت على الحمار فعقرته، ثم جئت به وقد مات، فوقعوا فيه يأكلون، ثم إنهم شكُّوا في أكلهم إياه وهم حرم، فَرُحْنَا وخبأت العضد، فأدركنا رسول الله - ﷺ -، فسألته عن ذلك فقال: "هل معكم منه شيء"؟ فقلت: نعم، فناولته العضد، فأكل منها، وهو محرم. وزاد في رواية: أن النبي - ﷺ - قال لهم: "إنما هي طعمة أطعمكموها الله"، وفي رواية: "هو حلال فكلوه"، وفي رواية: قال لهم رسول الله - ﷺ -: "هل منكم أحدٌ أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها، قالوا: لا، قال: كلوا ما بقي من لحمها" أخرجاه في "الصحيحين". وأجاب أصحاب هذا المذهب من حديث الصعب بن جثامة: بأنه إنما ردَّه النبي - ﷺ -؛ لأنه ظن أنه إنما صيد لأجله، والمحرم لا يأكل ما صيد لأجله، والله أعلم.
٩٧ - ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ وسميت الكعبة كعبة لتربيعها؛ أي: لكونها مربعة من التكعيب بمعنى: التربيع، وأكثر بيوت العرب مدورة لا مربعة.
و ﴿البيت الحرام﴾ بدل من ﴿الكعبة﴾ أو عطف بيان منه؛ أي: أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الكعبة التي هي بيت الله الحرام ﴿قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾؛ أي: أمنًا وسببًا لحصول مصالح الناس ومنافعهم في أمر دينهم ودنياهم وآخرتهم. أمَّا في أمر الدين: فإنه بها يقوم الحج وتتم المناسك، وضوعفت الحسنات فيها، وأما في أمر الدنيا: فإن مكة بلدة لا ضرع فيها، ولا زرع، وقلما يوجد فيها ما يحتاج إليه أهلها، فجعل الله الكعبة معظمة في قلوب الناس يرغب الناس جميعًا في زيارتها والسفر إليها من كل فج عميقٍ لأداء المناسك، وللتجارة، فصار ذلك سببًا في إسباغ النعم على أهل مكة إجابةً لدعوة إبراهيم عليه السلام، وكان العرب يتقاتلون ويغيرون إلا في الحرم حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم.. لم يتعرض له، ولو جنى أعظم الجنايات كما قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ فصار أهل مكة آمنين على أنفسهم وأموالهم، كما أنهم صاروا بسبب الكعبة أهل الله وخاصته، والسادة المعظمين إلى يوم القيامة. وأما في أمر آخرتهم: فإن البيت جُعل لقيام المناسك عنده، وجعلت تلك المناسك التي تقام عنده أسبابًا لعلو الدرجات، وتكفير الخطيئات، وزيادة الكرامات والمثوبات، فلما كانت الكعبة الشريفة سببًا لحصول هذه الأشياء.. كانت سببًا لقيام الناس.
وقرأ الجحدري: ﴿قيما﴾ - بفتح القاف وتشديد الياء المكسورة - وهو كسيد: اسم يدل على ثبوت الوصف من غير تقييد بزمان.
﴿وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾؛ أي: وكذلك جعل الله سبحانه وتعالى الأشهر الحرم قيامًا للناس، والمراد بالشهر الحرام: الجنس، فيشمل الأشهر الأربعة: ذا القعدة وذا الحجة والمحرم ورجب؛ أي: سببًا لحصول مصالحهم وأمنًا في معاشهم وحياتهم؛ لأن العرب كان يقتل بعضهم بعضًا، ويغير بعضهم على بعض في سائر الأشهر حتى إذا استهل الشهر الحرام.. زال الخوف، وقدروا على الأسفار والتجارات، وصاروا آمنين على أنفسهم وأموالهم، وكانوا يحصلون فيه من الأقوات ما يكفيهم طول العام، ولولاه لتفانوا من الجوع والشدة ﴿و﴾ كذلك جعل الله سبحانه وتعالى ﴿الهدي﴾ سببًا لقيام الناس ومصالحهم، وهو ما يهدى إلى الحرم ويذبح هناك، ويفرق لحمه على مساكينه، فيكون ذلك نسكًا للمُهدي وقوامًا لمعيشة الفقراء ﴿و﴾ كذلك جعل الله سبحانه وتعالى ﴿القلائد﴾ قيامًا للناس، وسببًا لمصالحهم، وهي ما يتخذ من لحاء شجر الحرم، فيعلق في عنق الإبل مثلًا؛ ليعلم أنه هدي للحرم، أو يعلّقه الشخص في عنقه؛ ليأمن من العدو؛ إذ أن من قصد البيت في الشهر الحرام.. لم يتعرض له أحد، ومن قصده في غير الشهر الحرام، ومعه هدي، وقلده، وقلد نفسه من لحاء شجر الحرم.. لم يتعرض له أحد؛ لأن الله تعالى أوقع في قلوبهم تعظيم البيت، فكل من قصده أو تقرب إليه.. صار آمنًا من جميع الآفات والمخاوف.
ولما (٢) كانت الكعبة موضعًا مخصوصًا لا يصل إليه كل خائف.. جعل الله الأشهر الحرم والهدي والقلائد قيامًا للناس كالكعبة ﴿ذَلَكَ﴾ الجعل المذكور
(٢) البحر المحيط.
والخلاصة (١): أن ذلك لم يكن إلا لحكمة بالغة صادرة عن علم بخفايا الأمور وغاياتها، فكان دليلًا على أنه سبحانه يعلم ما في السموات وما في الأرض من أسباب الرزق ونظام الخلق وغير ذلك، وأنه عليم بكل شيء فلا تخفى عليه خافية، وقد عجزت جميع الأمم في القديم والحديث عن تأمين الناس في قطر من الأقطار في زمنٍ معين من كل سنة بحيث لا يقع فيه قتل ولا قتال ولا عدوان.
٩٨ - ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾؛ أي: اعلموا أن ربكم الله الذي لا يخفى عليه شيء من سرائر أعمالكم وعلانيتها، وهو محصيها عليكم شديد العقاب والعذاب لمن دنس نفسه بالشرك والفسوق والعصيان. ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَفُورٌ﴾؛ أي: غفار لمن أناب إليه وتاب عن معاصيه ﴿رَحِيمٌ﴾ لمن أطاعه وحافظ على طاعته، فلا يؤاخذه بما فرط منه قبل الإيمان، ولا بما يعمله من السوء بجهالة إذا بادر إلى التوبة وأصلح عمله، بل يستر ذنبه ويمحوه، فلا يبقى له أثر مع إيمانه وعمله الصالح، كما يستر الماء القليل القذر بما يغمره من الماء النقي الكثير، وفي تقديم العقاب على المغفرة والرحمة إيماءٌ إلى أن العقاب قد ينتهي بالمغفرة والرحمة؛ لأن رحمته تعالى سبقت غضبه، كما ورد في صحيح الحديث، ومن ثم
٩٩ - وبعد أن أبان الله سبحانه وتعالى أن الجزاء بيد الله العليم بكل شيء.. ذكر وظيفة الرسول، وهو توصيل الأحكام إلى أمته فقال: ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ﴾ محمَّد - ﷺ -، وكذا سائر رسل الله تعالى صلوات الله عليهم أجمعين؛ أي: ليس على رسولنا الذي أرسلناه إليكم بالإنذار بالعقاب بين يدي عذاب شديد، والإعذار إليكم بما يقطع حججكم. ﴿إِلَّا الْبَلَاغُ﴾؛ أي: إلا أن يؤدي الرسالة إليكم ثم إلينا الثواب على الطاعة، وعلينا العقاب على المعصية، ولا يخفى علينا المطيع لأوامرنا، والعاصي التارك للعمل بها، كما قال: ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ﴾ وتظهرون من الأعمال الحسنة والسيئة ﴿وَمَا تَكْتُمُونَ﴾؛ أي: وما تخفون في قلوبكم من الإيمان والنفاق والشرك، فيجازيكم عليها؛ إذ لا يغيب عنه شيء من ضمائر الصدور، وظواهر أعمال النفوس، فخليق بكم أن تتقوني ولا تعصوا أمري، وفي هذه الجملة وعد ووعيد. وفي هذا وعيد شديد وتهديد لمن يخالف أوامر الله ويعصيه، كما أن فيه إبطالًا لما عليه أهل الشرك والضلال من الخوف من معبوداتهم الباطلة، والتماس الخلاص والنجاة من العذاب بشفاعتها.
والخلاصة (١): أن الرسول ليس عليه إلا البلاغ لدين الله وشرعه، وبعدئذ يكون المبلغون هم المسؤولون عند الله تعالى، والله الذي يعلم ما يبدون وما يكتمون من العقائد والأقوال والأفعال، وهو الذي يجازيهم بحسب علمه المحيط بكل ذرة في الأرض والسموات، ويكون جزاؤه حقًّا وعدلًا، ويزيد بعد ذلك من إحسانه عليهم وفضله، فاطلبوا سعادتكم من أنفسكم، وخافوا منها عليها.
وما ورد من الشفاعة في الآخرة فهو دعاء من النبي - ﷺ - يستجيبه الله، فيظهر عقبه ما سبق به علمه واقتضته حكمته بحسب ما جاء في كتابه دون أن يكون مؤثرًا في علم الله ولا في إرادته، فالحادث لا يؤثر في القديم.
١٠٠ - وبعد أن بين الله تعالى أن الجزاء منوط بالأعمال.. أراد أن يبين ما يتعلق
والمراد (١): نفي الاستواء في كل الأحوال ولو في حال كون الخبيث معجبًا للرائي للكثرة التي فيه، فإن هذه الكثرة مع الخبيث في حكم العدم؛ لأن خبث الشيء يبطل فائدته، ويمحق بركته، ويذهب بمنفعته. والواو إما للحال، أو للعطف على مقدَّر؛ أي: لا يستوي الخبيث والطيب لو لم تعجبك كثرة الخيث، ولو أعجبك كثرة الخبيث كقولك: أحسن إلى فلان، وإن أساء إليك؛ أي: أحسن إليه إن لم يسىء إليك، وإن أساء إليك. وجواب ﴿لو﴾ محذوف؛ أي: ولو أعجبك كثرة فلا يستويان.
الخلاصة: أنهما لا يستويان لا في أنفسهما، ولا عند الله، ولو فرض أن كثرة الخبيث أعجبتك وغرتك، فصرت بعيدًا عن إدراك تلك الحقيقة؛ وهي: أن القليل من الحلال خير من كثير من الحرام حسن عاقبة في الدنيا والآخرة، ألا ترى أن القليل الجيد من الغذاء أو المتاع خير من الكثير الرديء الذي لا يغني غناءه، ولا يفيد فائدته، بل ربما يضر ويؤذي صاحبه، فكذلك الحال بالنسبة إلى الناس، فالقليل الطيب منهم خير من الكثير الخبيث، فطائفة قليلة من شجعان المؤمنين تغلب الطائفة الكثيرة من الجبناء المتخاذلين، وجماعة قليلة من ذوي
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ أي: خافوا الله تعالى فيما أمركم به ونهاكم عنه، ولا تعدلوا من الطيب إلى الخبيث من الأعمال والأموال ظاهرًا وباطنًا ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾؛ أي: يا أصحاب العقول الكاملة السليمة الخالصة من الأمراض التي تدنسها ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾؛ أي: لكي تظفروا بالمطالب الدنيوية والدينية العاجلة والآجلة.
والمعنى: فاتقوا الله يا أرباب العقول الراجحة، واحذروا أن يستحوذ عليكم الشيطان، فتغتروا بكثرة المال الخبيث، وكثرة أهل الباطل والفساد من الخبيثين، فتقوى الله هي التي تجعلكم من الطيبين، وبها يرجى أن تكونوا من المفلحين الفائزين بخيري الدنيا والآخرة.
وخصَّ أولي الألباب بالاعتبار؛ لأنهم هم أهل الروية والبصر بعواقب الأمور التي ترشد إليها مقدماتها بعد التأمل في حقيقتها وصفاتها. أمَّا الأغرار الغافلون: فلا يفيدهم وعظ واعظ، ولا تذكير مذكر، فلا يعتبرون بما يرون بأعينهم، ولا بما يسمعون بآذانهم، كما يُشاهد ويرى من حال كثير من الأغنياء الذين ذهبت أموالهم الكثيرة التي جمعت من الحرام، وحال الدول التي ذهب ريحها بخلوها من فضيلتي العلم والخلق، وورثها من كانوا أقل منهم رجالًا ومالًا؛ إذ كانوا أفضل منهم أخلاقًا وأعمالًا.
الإعراب
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿أيّ﴾ منادى نكرة مقصودة، ﴿ها﴾: حرف تنبيه زائد، وجملة النداء مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع صفة لأيُّ. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر بمعنى ما النافية
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾.
﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر ﴿يُرِيدُ الشَّيْطَانُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿يُوقِعَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَن﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿الشَّيْطَانُ﴾. ﴿بَيْنَكُمُ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يُوقِعَ﴾. ﴿الْعَدَاوَةَ﴾: مفعول به. ﴿وَالْبَغْضَاءَ﴾: معطوف عليه. ﴿في﴾: حرف جر وسبب. ﴿الْخَمْرِ﴾: مجرور به. ﴿وَالْمَيْسِرِ﴾: معطوف عليه، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿يُوقِعَ﴾، وجملة يوقع صلة ﴿أَن﴾ المصدرية، ﴿وأَن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿يريد﴾ تقديره: إنما يريد الشيطان إيقاعه العداوة والبغضاء بينكم بسبب الخمر والميسر. ﴿وَيَصُدَّكُمْ﴾: فعل ومفعول معطوف على ﴿يُوقِعَ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿الشَّيْطَانُ﴾. ﴿عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يصدكم﴾. ﴿وَعَنِ الصَّلَاةِ﴾: جار ومجرور، معطوف على الجار والمجرور قبله. ﴿فَهَل﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أن الشيطان يريد أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء
﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾.
﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة الاستفهام من حيث ما تضمنته من الأمر، والتقدير: انتهوا عن الخمر والميسر، وأطيعوا الله بالانتهاء عنهما ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ﴾. ﴿وَاحْذَرُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ﴾، ومفعوله محذوف تقديره: واحذروا المعاصي كلها. ﴿فَإِن﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدَّر، تقديره: إذا عرفتم وجوب طاعة الله تعالى، وطاعة رسول الله - ﷺ -، وأردتم بيان حكم ما إذا خالفتم الله والرسول.. فأقول لكم: ﴿إن﴾: حرف شرط ﴿تَوَلَّيْتُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿فَاعْلَمُوا﴾: الفاء: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة طلبية. ﴿اعلموا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. وفي "الفتوحات": جواب الشرط محذوف تقديره: فجزائكم علينا، والمذكور دال على الجواب لا جواب. ﴿أَنَّمَا﴾: أن حرف نصب ومصدر. ما: كافة. ﴿عَلَى رَسُولِنَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه خبر مقدم. ﴿الْبَلَاغُ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿الْمُبِينُ﴾: صفة له، والجملة من المبتدأ والخبر صلة ﴿أن]، وجملة {أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿اعلموا﴾ تقديره: فاعلموا كون البلاغ المبين على رسولنا لا غير.
﴿لَيْسَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿عَلَى الَّذِينَ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿لَيْسَ﴾. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل والجملة صلة الموصول، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿آمَنُوا﴾. ﴿جُنَاحٌ﴾: اسم ﴿لَيسَ﴾ مؤخر، وجملة ﴿لَيْسَ﴾ مستأنفة. ﴿فِيمَا﴾: في حرف جر وسبب. ﴿ما﴾: موصولة، أو موصوفة في محل الجر بـ ﴿في﴾، الجار والمجرور صفة لـ ﴿جُنَاحٌ﴾، أو متعلق بـ ﴿جُنَاحٌ﴾ أو بـ ﴿لَيْسَ﴾، أو متعلق بما تعلق به الخبر. ﴿طَعِمُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لما أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: فيما طعموه من الخمر والميسر. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿مَا﴾: زائدة. ﴿اتَّقَوْا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها. ﴿وَآمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ معطوفة على جملة ﴿وَآمَنُوا﴾. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَآمَنُوا﴾ أيضًا، والظرف متعلق بالجواب المحذوف المعلوم من السياق تقديره: لا يأثمون ولا يؤاخذون وقت اتقائهم، وجملة ﴿إِذَا﴾ مستأنفة، ويجوز أن تكون ﴿إذَا﴾ ظرفًا مجردًا عن الشرط، وأن تكون شرطية وجوابها محذوف كما قدرنا آنفًا. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ. ﴿اتَّقَوْا﴾: فعل وفاعل معطوف على قوله: ﴿إِذَا مَا اتَّقَوْا﴾. ﴿وَآمَنُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿اتَّقَوْا﴾ الذي قبله. ﴿ثُمَّ اتَّقَوْا﴾: معطوف على قوله: ﴿ثُمَّ اتَّقَوْا﴾. ﴿وَأَحْسَنُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿اتَّقَوْا﴾ قبله. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ خبره، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿أيُّ﴾ منادى نكرة مقصودة، ﴿ها﴾ حرف تنبيه زائد، وجملة النداء مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع صفة
﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
﴿فَمَن﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ابتلاء الله لكم بالصيد ليعلم الله من يخافه بالغيب، وأردتم بيان حكم من اعتدى على الصيد بعد النهي المفهوم من هذا الابتلاء.. فأقول لكم: ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب، أو هما ﴿اعْتَدَى﴾: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء. ﴿أيُّ﴾: منادى نكرة مقصودة، ﴿ها﴾: حرف تنبيه. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع صفة لأي ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، وجملة النداء مستأنفة. ﴿لَا﴾: ناهية جازمة. ﴿لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ﴾: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿وَأَنْتُمْ﴾: مبتدأ. ﴿حُرُمٌ﴾: خبره، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿تَقْتُلُوا﴾.
﴿وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ﴾.
﴿وَمَن﴾ الواو: استئنافية. ﴿من﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب. ﴿قَتَلَهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿مِنكمُ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿قَتَلَهُ﴾؛ أي: كائنًا منكم، وقوله متعمدًا حال أيضًا من فاعل ﴿قَتَلَ﴾ فعلى رأي مَنْ يجوِّز تعدد الحال، يجوز ذلك هنا، ومن منع يقول: إن ﴿مِنكمُ﴾ للبيان متعلق بـ ﴿قَتَلَ﴾ حتى لا تتعدد الحال. ﴿فَجَزَاءٌ﴾ الفاء: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿جزاء﴾: مبتدأ وخبره محذوف تقديره: فعليه جزاء، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿مِثْلُ﴾ بالرفع صفة لـ ﴿جزاء﴾؛ لأنه بمعنى: مماثل، أو بدل منه. ويقرأ على المشهور بإضافة ﴿جزاء﴾ إلى المثل، وإعراب الجزاء يكون على ما تقدم، ﴿مِثْلُ﴾ في هذه القراءة
﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ﴾.
﴿يَحْكُمُ﴾: فعل مضارع. ﴿بِهِ﴾: متعلق به. ﴿ذَوَا﴾: فاعل مرفوع بالألف؛ لأنه من المثنى. ﴿عَدْلٍ﴾: مضاف إليه. ﴿مِنْكُمْ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿ذَوَا﴾؛ أي: كائنان منكم، وجملة ﴿يَحْكُمُ﴾ في محل الرفع صفة لـ ﴿جزاء﴾ إذا نونته، وأما على الإضافة فهو في موضع الحال، والعامل فيه معنى الاستقرار المقدَّر في الخبر المحذوف ﴿هَدْيًا﴾: حال من ﴿جزاء﴾ على كل من القراءتين، أو من ضمير به، أو منصوب على المصدرية؛ أي: يهديه هديًا، أو منصوب على التمييز. ﴿بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾: صفة لـ ﴿هَدْيًا﴾، وإن أضيف إلى ما بعده؛ لأن إضافته لفظية لا تفيد تعريفًا. ﴿أَوْ كَفَّارَةٌ﴾: معطوف على ﴿جزاء﴾؛ أي: أو عليه كفارة إذا لم يجد المثل. ﴿طَعَامُ﴾: بدل من ﴿كَفَّارَةٌ﴾، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي طعام، ويقرأ بالإضافة، والإضافة فيه لتبيين المضاف ﴿أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ﴾: معطوف على ﴿جزاء﴾؛ أي: أو عليه عدل ذلك ﴿صِيَامًا﴾: تمييز لـ ﴿عَدْلُ﴾ كقولهم على التمرة مثلها زبدًا؛ لأن المعنى: أو قدر ذلك صيامًا. ﴿لِيَذُوقَ﴾ اللام لام كي. ﴿يذوق﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على قاتل الصيد عمدًا. ﴿وَبَالَ أَمْرِهِ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام كي تقديره: لذوقه وبال أمره؛ أي: جزاء ذنبه، والجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: أوجبنا عليه ذلك الجزاء لذوقه وبال أمره.
﴿عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾.
﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾.
﴿أُحِلَّ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به. ﴿صَيْدُ الْبَحْرِ﴾: نائب فاعل، ومضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿وَطَعَامُهُ﴾: معطوف على ﴿صَيْدُ الْبَحْرِ﴾. ﴿مَتَاعًا﴾: مفعول لأجله؛ أي: أحل لكم صيد البحر وطعامه تمتيعًا لكم؛ أي: لأجل تمتعكم وانتفاعكم، وقيل: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف تقديره: متعكم الله بذلك تمتيعًا. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿مَتَاعًا﴾؛ لأنه اسم مصدر لمتَّعَ المضعف. ﴿وَلِلسَّيَّارَةِ﴾: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور قبله. ﴿وَحُرِّمَ﴾: فعل ماض مغيَّر الصيغة. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿صَيْدُ الْبَرِّ﴾: نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْر﴾. ﴿مَا﴾: مصدرية ظرفية. ﴿دُمْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿حُرُمًا﴾: خبره وجملة دام من اسمها وخبرها صلة ﴿مَا﴾ المصدرية، ﴿مَا﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف المقدر إليه تقديره: مدة دوامكم محرمين، والظرف المقدر متعلق بـ ﴿حرم﴾.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ
﴿اتَّقُوا اللهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل النصب صفة للجلالة. ﴿إِلَيْهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تُحْشَرُونَ﴾. ﴿تُحْشَرُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد ضمير إليه. ﴿جَعَلَ الله﴾: فعل وفاعل. ﴿الْكَعْبَةَ﴾: مفعول أول. ﴿الْبَيْتَ﴾: بدل من ﴿الْكَعْبَةَ﴾، أو عطف بيان منه. ﴿الْحَرَامَ﴾: صفة لـ ﴿الْبَيْتَ﴾. ﴿قِيَامًا﴾: مفعول ثان لـ ﴿جَعَلَ﴾ إن كان جعل بمعنى: صيّر، وإن كان جعل بمعنى: خلق.. فقيامًا حال من ﴿الْكَعْبَة﴾. ﴿لِلنَّاسِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قِيَامًا﴾. ﴿وَالشَّهْرَ﴾: معطوف على ﴿الْكَعْبَة﴾. ﴿الْحَرَامَ﴾: صفة لـ ﴿الشهر﴾ ﴿وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ﴾: معطوفان أيضًا على ﴿الْكَعْبَة﴾، فالمفعول الثاني، أو الحال محذوف لفهم المعنى؛ أي: جعل الله أيضًا الشهر الحرام والهدي والقلائد قيامًا. اهـ "سمين".
﴿ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿لِتَعْلَمُوا﴾: اللام: حرف جر وتعليل. ﴿تعلموا﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعل، والجملة الفعلية صلة ﴿أن﴾ المضمرة، ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ تقديره: ذلك كائن لعلمكم أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض، والجملة الإسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
وفي "السمين": ﴿ذَلِكَ﴾ فيه ثلاثة أوجه من الإعراب:
أحدها: أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: الحكم الذي حكمناه ذلك لا غير.
والثاني: أنه مبتدأ، وخبره محذوف؛ أي: ذلك الحكم هو الحق لا غيره.
﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨)﴾.
﴿اعْلَمُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَنَّ اللهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾: خبر ﴿أَنّ﴾، ومضاف إليه وجملة ﴿أَنّ﴾ في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿اعْلَمُوا﴾ تقديره: اعلموا كون الله شديد العقاب، وجملة قوله: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ في تأويل مصدر معطوف على مصدر منسبك من جملة ﴿أَنَّ﴾ الأولى تقديره: اعلموا كون الله شديد العقاب، وكونه غفورًا رحيمًا.
﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (٩٩)﴾.
﴿مَا﴾: نافية. ﴿عَلَى الرَّسُولِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿الْبَلَاغُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. وفي "الفتوحات": وفي رفعه وجهان:
أحدهما: أنه فاعل بالجار قبله لاعتماده على النفي؛ أي: ما استقر على الرسول الله البلاغ.
﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي لـ ﴿قُل﴾، وإنْ شئت قلتَ: ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَسْتَوِي الْخَبِيثُ﴾: فعل وفاعل. ﴿وَالطَّيِّبُ﴾: معطوف عليه، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿وَلَوْ﴾ الواو: عاطفة. ﴿لو﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿أَعْجَبَكَ﴾: فعل ومفعول. ﴿كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾: فاعل ومضاف إليه، وجواب ﴿لو﴾ محذوف معلوم مما قبلها تقديره: ولو أعجبك كثرة الخبيث لا يستوي الخبيث والطيب، وجملة ﴿لو﴾ معطوفة على جملة محذوفة تقديرها: لو لم يعجبك كثرة الخبيث ولو أعجبك، وكلتا الجملتين في موضع الحال من فاعل ﴿لَا يَسْتَوِي﴾ تقديره: قل لا يستوي الخبيث والطيب حالة كون كثرة الخبيث غير معجبة لك ومعجبة لك. ﴿فَاتَّقُوا﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم عدم استواء الخبيث والطيب - ولو كثر الخبيث - وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم.. فأقول لكم: اتقوا الله يا أولي الألباب. ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾: منادى مضاف منصوب بالياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: ﴿ولعل﴾: حرف ترج وتعليل، والكاف: اسمها، وجملة ﴿تُفْلِحُونَ﴾: خبرها، وجملة ﴿لعل﴾ مسوقة لتعليل ما قبلها في محل الجر بلام التعليل
التصريف ومفردات اللغة
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾: الخمر لغة: ما اتخذ من عصير العنب، وشرعًا: كل شراب مسكر وإن اتخذ من غير العنب، وسمي خمرًا؛ لأنه يخامر العقل؛ أي: يستره ويغطيه. والميسر لغة: القمار؛ أي: اللعب بالقداح؛ أي: بالملاهي؛ كالطاب والمنقلة والطاولة والعود، وشرعًا: كل لعب تردد بين غُنْم وغُرْم، سواء كان بالملاهي أو بغيرها. ﴿وَالْأَنْصَابُ﴾: جمع نَصَب بفتحتين؛ كجمل وأجمال، أو جمع نُصُب بضمتين؛ كعنق وأعناق، سميت الأصنام بذلك؛ لأنها تنصب للعبادة ﴿وَالْأَزْلَامُ﴾: جمع زلَم بضم الزاي وفتحها مع فتح اللام فيهما، وهي القداح؛ أي: قِطَع رقيقة من الخشب بهيئة السهام كانوا يستقسمون بها في الجاهلية لأجل التفاؤل أو التشاؤم كما مرَّ.
﴿رِجْسٌ﴾: قال الزجاج: الرجس اسم لكل ما استقذر من عمل قبيح، ويقال للعذرة والأقذار: رجس؛ لأنها قذارة ونجاسة. وفي "القاموس": رجس كفرح، ورَجُس ككرم إذا عمل عملًا قبيحًا، والرجس المستقذر حسًّا أو معنى، يقال: رجل رجس، ورجال أرجاس. والرجس على أوجه: إما من جهة الطبع، وإما من جهة العقل، وإما من جهة الشرع؛ كالخمر والميسر، وإما من كل ذلك كالميتة؛ لأنها تعاف طبعًا وعقلًا وشرعًا، وأصله من الرجس - بفتح الراء - وهو شدة صوت الرعد. وفرّق ابن دريد بين الرجس والرجز والركس، فجعل الرجس: الشر، والرجز: العذاب، والركس: العورة والنتن. اهـ.
﴿الْعَدَاوَةَ﴾: تجاوز الحق إلى الإيذاء ﴿فِيمَا طَعِمُوا﴾: يقال: طعم الشيء يطعمه - من باب علم - إذا أكله، ثم استعمل في ذوق طعم الشيء من طعام وشراب، ومن الأول قوله تعالى: ﴿فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا﴾؛ أي: أكلتم، ومن الثاني قوله: ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي﴾، أي: لم يذق طعم مائه. ﴿لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ﴾: من بَلاَ يبلو من باب غزا يغزوا فهو
صَيْدُ الْمُلُوْكِ أَرَانِبٌ وَثَعَالِبُ | وَإِذَا رَكِبْتُ فَصَيْدِيَ الأَبْطَالُ |
﴿وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾: جمع حرام، يطلق على الذكر والأنثى، يقال: هو رجل حرام وامرأة حرام؛ أي: محرمة بحج أو عمرة، ويقع أيضًا على المحرم وإن كان في الحل، وعلى من في الحرم وإن كان حلالًا، وهما سيان في النهي عن قتل الصيد. ﴿مِنَ النَّعَم﴾: والنعم: اسم جنس يجمع على أنعام، وهي في العرف الإبل والبقر والغنم ﴿أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ﴾: العدل بالفتح (١): المعادل للشيء والمساوي له مما يدرك بالعقل، وبالكسر: المساوي له مما يدرك بالحس ﴿لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ﴾: والوبال في اللغة (٢): الشيء الثقيل الذي يخاف ضرره، يقال: مرعى وبيل إذا كان فيه وخامة، وإنما سمى الله ذلك وبالًا؛ لأن إخراج الجزاء ثقيل على النفس لما فيه من تنقيص المال وثقل الصوم على النفس كما مر. وفي "السمين": وقال الراغب: الوابل المطر الثقيل القطر، ولمراعاة الثقل قيل للأمر الذي يخاف ضرره وبال، قال تعالى: ﴿لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾، ويقال: طعام وبيل، وكلأ وبيل يخاف وباله قال تعالى: ﴿فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا﴾. وقال غيره: والوبال في اللغة: ثقل الشيء في المكروه، يقال: مرعى وبيل إذا كان يستوخم، وماء وبيل إذا كان لا يستمرأ، واستوبلتُ الأرضَ؛ كرهتها خوفًا من وبالها.
(٢) الفتوحات.
﴿مَتَاعًا﴾ اسم مصدر لمتع المضعف، يقال: متَّع يمتع تمتيعًا ومتاعًا فهو بمعنى: التمتيع. والسيارة: جماعة المسافرين يتزودون منه، وهي مؤنث سيَّار، وهي القافلة، وأصلها: القوم يسيرون، تجمع على سيارات.
﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾: والكعبة لغة: كل بيت مربع، وسميت الكعبة كعبةً لذلك، وأصل اشتقاق ذلك من الكتب الذي هو أحد أعضاء الآدمي. قال الراغب: كعب الرجل الذي هو عند ملتقى الساق والقدم، والكعبة: كل بيت على هيئتها في التربيع، وبها سميت الكعبة، وذو الكعاب بيت كان في الجاهلية لبني ربيعة، وامرأة كاعب إذا تكعب ثدياها. ﴿قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾: والقيام مصدر كالصيام، ويقال: هذا قيام له وقوام له، وكأنهم ذهبوا في قيام إلى أنه ليس بمصدر، بل هو اسم كالسواك، فلذلك صحت الواو: قال الشاعر:
قِوَامُ دُنْيَا وَقِيَامُ دِيْنِ
وإذا لحقته تاء التأنيث.. لزمت الياء، قالوا: القيامة، ذكره أبو حيان في "البحر". وأصل قيامًا: قوامًا، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، فصار: قيامًا، ثم كسرت القاف لمناسبة الياء.
﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾: البلاغ اسم مصدر لبلغ تبليغًا قائم مقام المصدر. ويحتمل (١) أن يكون مصدر البلغ المشدد على حذف الزوائد، فمعنى البلاغ: التبليغ، وقيل: البلاغ والبلوغ مصدران لبلغ الثلاثي، وإذا كان مصدرًا لبلغ بمعنى: وصل فبلاغ الشرائع إلى المرسل إليهم؛ أي: وصولها إليها مستلزم لتبليغ من أرسل إليهم بها، فعبَّر باللازم عن الملزوم.
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التكرار في قوله: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾، وفي قوله: ﴿الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾، وفي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، وفي قوله: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾، وفي قوله: ﴿آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، وفي قوله: ﴿إِذَا مَا اتَّقَوْا﴾ و ﴿اتَّقَوْا﴾.
ومنها: جمع (١) مؤكدات كثيرة في تحريم الخمر: منها: تصدير الجملة بـ ﴿إنما﴾، ومنها: أنه قرنهما بعبادة الأصنام، ومنها: أنه جعلهما رجسًا كما قال: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾. ومنها: أنه جعلهما من عمل الشيطان، والشيطان لا يأتي منه إلا الشر البحت. ومنها: أنه أمر بالاجتناب. ومنها: أنه جعل الاجتناب من الفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحًا.. كان الارتكاب خيبة ومحقةً. ومنها: أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال وهو وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر والميسر، وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله، وعن مراعاة أوقات الصلوات.
ومنها: الاستفهام الذي أريد به الأمر في قوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾؛ لأن الاستفهام عقب ذكر هذه المعايب أبلغ من الأمر بتركها، كأنه قيل: قد بينت لكم المعايب، فهل تنتهون عنها مع هذا، أم أنتم مقيمون عليها كأنكم لم توعظوا؟
ومنها: عطف الخاص على العام في عطف ﴿وَالْقَلَائِدَ﴾ على ﴿الْهَدْيَ﴾ لإفادة أن الثواب فيها أكثر، وبهاء الحج بها أظهر.
ومنها: الطباق بين ﴿الْخَبِيثُ﴾ و ﴿الطَّيِّبُ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، وفي قوله: ﴿فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾، وهما من المحسنات البديعية.
ومنها: التعميم بعد التخصيص في قوله: {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ﴾؛ لأن الذوق حقيقة في المذوقات، واستعير هنا لما يؤثر من غرامة وإتعاب النفس بالصوم.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ من إسناد ما للفاعل إلى المفعول كعيشة راضية.
ومنها: بيان الواقع في قوله: ﴿مُتَعَمِّدًا﴾؛ لأنه قيد به لبيان الواقع وقت نزول الآية؛ لأنها نزلت في أبي اليسر؛ حيث قتل حمار وحش وهو محرم عمدًا، فالقيد فيه ليس لإخراج الخطأ؛ لأن الخطأ حكمه كحكم العمد في وجوب الجزاء.
ومنها: القصر في قوله: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾، وفي قوله: ﴿الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾؛ لأنه مجاز عن التبليغ، فعبر باللازم الذي هو البلاغ والوصول عن الملزوم الذي هو التبليغ والتوصيل.
ومنها: الحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (١٠٢) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (١٠٤) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (١٠٨)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ...﴾ الآية، مناسبة (١) هذه الآية لما قبلها: هو أنه تعالى لما قال: ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾.. صار كأنه قيل: ما بلغه الرسول فخذوه، وكونوا منقادين له، وما لم يبلغه فلا تسألوا عنه، ولا تخوضوا فيه، فربما جاءكم بسبب الخوض الفاسد تكاليف تشق عليكم، قاله أبو عبد الله الرازي.
وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (٢) وظيفة الرسول وأنها تبليغ الرسالة، وبيان شرع الله ودينه فحسب، وبذا تَبْرأُ
(٢) المراغي.
قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أنه تعالى لما نهى عن سؤال ما لم يأذن فيه ولا كلفهم إياه.. منع من التزام أمور ليست مشروعة من الله تعالى، ولما سأل قوم عن هذه الأحكام التي كانت في الجاهلية، هل تلحق بأحكام الكعبة.. بين تعالى أنه لم يشرع شيئًا منها، أو لما ذكر المحللات والمحرمات في الشرع.. عاد إلى الكلام في المحللات والمحرمات من غير شرع.
وقال المراغي: مناسبتها لما قبلها: لما (٢) نهى الله في الآية السابقة عن تحريم ما أحل الله بالنذر أو بالحلف باسم الله تنسكًا وتعبدًا مع اعتقاد إباحته في نفسه، وعن الاعتداء فيه، ونهى أن يكون المؤمن سببًا لتحريم شيء لم يكن الله قد حرمه، أو شرع حكم لم يكن الله قد شرعه؛ بأن يسأل الرسول - ﷺ - عن شيء مما سكت الله عنه عفوًا وفضلًا.. ناسب بعد هذا أن يبين ضلال أهل الجاهلية فيما حرموه على أنفسهم، وما شرعوه لها بغير إذن من ربهم، وما قلد فيه بعضهم بعضًا على جهلهم، كما بين بطلان التقليد ومنافاته للعلم والدين.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ...﴾ الآية، قال أبو حيان: ذكروا في مناسبة هذه الآية لما قبلها (٣): أنه لما بين أنواع التكاليف، ثم قيل: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ إلى قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا....﴾ الآية، كان المعنى: إنَّ هؤلاء الجهال - مع ما تقدم من المبالغة في الإعذار والإنذار، والترغيب والترهيب - لم ينتفعوا بشيء منه، بل بقوا مصرين على جهلهم، فلا
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها (١): أنه تعالى لما ذكر في الآية السالفة أن المرجع إليه بعد الموت، وأنه لا بد من الحساب والجزاء يوم القيامة.. أرشدنا إثر ذلك إلى الوصية قبل الموت، وأنه تجب العناية بالإشهاد عليها حتى لا تضيع على مستحقيها.
وقال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها (٢): أنه لما ذكر: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ كان في ذلك تنفير عن أهل الضلال، واستبعاد عن أن ينتفع بهم في شيء من أمور المؤمنين من شهادة أو غيرها، فأخبر تعالى بمشروعية شهادتهم، أو الإيصاء إليهم في السفر على ما سيأتي بيانه.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ الآية، سبب نزولها: ما روي عن أنس - رضي الله عنه - قال: خطب النبي - ﷺ - خطبة ما سمعت مثلها قط، قال: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا"، قال: فغطى أصحاب رسول الله - ﷺ - وجوههم، لهم حنين، فقال رجل - عبد الله بن حذافة -: مَنْ أبي؟ قال: فلان، فنزلت هذه الآية: ﴿لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾. أخرجه البخاري/ ج ٩ ص ٣٤٩/ الحديث أخرجه مسلم والترمذي وأحمد وابن جرير.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان قوم يسألون رسول الله - ﷺ - استهزاء، فيقول الرجل: مَن أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية. أخرجه البخاري/ ج ٩ ص ٣٥٢/ وابن أبي حاتم وابن جرير.
(٢) البحر المحيط.
وقال في/ ج ٩ ص ٣٥٢/: والحاصل أنها نزلت بسبب كثرة المسائل؛ إما على سبيل الاستهزاء والامتحان، وإما على سبيل التعنت عن الشيء الذي لو لم يسأل عنه لكان على الإباحة، لكن الأول - عبد الله بن حذافة - لم يسأل استهزاءً.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ﴾ إلى قوله: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ سبب نزولها: ما أخرجه البخاري/ ج ٦ ص ٣٣٩/ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدما بتركته.. فقدوا جامًا - الإناء - من فضة، مخوصًا من ذهب، فأحلفهما رسول الله - ﷺ -، ثم وجدوا الجام بمكة فقالوا: ابتعناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا: لشهادتنا أحق من شهادتهما، وإن الجام لصاحبهم، قال: وفيهم نزلت هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ الحديث أخرجه الترمذي/ ج ٤ ص ١٠١/ وقال: حديث حسن غريب، وأخرجه أبو داود/ ج ٣ ص ٣٣٧/، وابن جرير/ ج ٧ ص ١١٥/، والبيهقي/ ج ١٠ ص ١٦٥/.
التفسير وأوجه القراءة
١٠١ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله محمَّد - ﷺ - ﴿لَا تَسْأَلُوا﴾ ولا تبحثوا ﴿عَنْ﴾ أحكام ﴿أَشْيَاءَ﴾ من أمور الدين ودقائق تكاليفها، أو عن حقائق أشياء من
وعبارة الشوكاني هنا قوله: ﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾؛ أي (١): لا تسألوا عن أشياء لا حاجة لكم بالسؤال عنها، ولا هي مما يعنيكم في أمر دينكم فقوله: ﴿إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ في محل جر صفة لأشياء؛ أي: لا تسألوا عن أشياء متصفة بهذه الصفة من كونها إذا بدت لكم؛ أي: ظهرت وكلفتم بها.. ساءتكم؛ نهاهم الله عن كثرة مساءلتهم لرسول الله - ﷺ -، فإن السؤال عما لا يعني ولا تدعو إليه حاجة قد يكون سببًا لإيجابه على السائل وعلى غيره. وقوله: ﴿وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ﴾ هذه الجملة من جملة صفة أشياء، والمعنى: لا تسألوا عن أشياء إن تسألوا عنها حين ينزل القرآن، وذلك مع وجود الرسول - ﷺ - بين أظهركم، ونزول الوحي عليه ﴿تُبْدَ لَكُمْ﴾؛ أي: تظهر لكم بما يجيب به لكم النبي - ﷺ -، أو ينزل به الوحي، فيكون ذلك سببًا للتكاليف الشاقة، وإيجاب ما لم يكن واجبًا، وتحريم ما لم يكن محرمًا، بخلاف السؤال عنها بعد انقطاع الوحي بموت الرسول - ﷺ -، فإنه لا إيجاب ولا تحريم يتسبب عن السؤال. انتهت.
قال الحافظ ابن كثير (٢): أي لا تستأنفوا السؤال عنها، فلعله قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق، وقد ورد في الحديث: "أعظم المسلمين جرمًا من سأل
(٢) ابن كثير.
وخلاصة ذلك (١): تحريم السؤال عن الأشياء التي من شأن إبدائها أن يسوء السائلين إلا في حال واحدة، وهي: أن يكون قد نزل في شأنها شيء من القرآن فيه إجمال، وأردتم السؤال عن بيانه ليظهر لكم ظهورًا لا مراء فيه، كما في مسألة تحريم الخمر بعد نزول آية البقرة.
وقال الزمخشري (٢): أي لا تكثروا مسألة رسول الله - ﷺ - حتى تسألوه عن تكاليف شاقة عليكم إن أفتاكم بها وكلفكم إياها.. تغمكم وتشق عليكم، وتندموا على السؤال عنها. انتهى.
وقال ابن عباس في تفسير الآية (٣): لا تسألوا عن أشياء في ضمن الإخبار عنها مساءة لكم؛ إما لتكليف شرعي يلزمكم، وإما لخبر يسوءكم، مثل الذي قال: أين أبي؟ ولكن إذا نزل القرآن بشيء، وابتدأكم ربكم بأمر، فحينئذ إن سألتم عن بيانه بُيّن لكم وأُبدي. انتهى.
وعبارة "المراح" هنا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾؛ أي (٤): إن تظهر لكم تلك الأشياء.. تحزنكم، والمعنى: اتركوا الأمور على ظواهرها، ولا تسألوا عن أحوال مخفية إن تبد لكم تسؤكم، وما بلغه الرسول إليكم فكونوا منقادين له، وما لم يبلغه إليكم فلا تسألوا عنه، فإن خضتم فيما لا يكلف عليكم، فربما جاءكم بسبب ذلك الخوض ما يشق عليكم.
﴿وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ﴾؛ أي: وإن تسألوا عن أشياء مست حاجتكم إلى التفسير في زمن النبي - ﷺ -.. ينزل جبريل بالقرآن ويظهرها حينئذ، فالسؤال على قسمين: سؤال عن شيء لم يجر ذكره في الكتاب والسنة بوجه من الوجوه، فهذا السؤال منهي عنه بقوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ
(٢) الكشاف.
(٣) البحر المحيط.
(٤) المراح.
فائدة: قال الإِمام الشاطبي (١): الإكثار من الأسئلة مذموم، ولها مواضع نذكر منها عشرة:
أولها: السؤال عما لا ينفع في الدين؛ كسؤال بعضهم: مَنْ أبي؟
ثانيها: أن يسأل ما يزيد عن الحاجة؛ كسؤال الرجل عن الحج كل عام.
ثالثها: السؤال من غير احتياج إليه في وقت، ويدل عليه قوله - ﷺ -: "ذروني ما تركتكم".
رابعها: أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها، كما جاء في النهي عن الأغلوطات.
خامسها: أن يسأل عن علة الحكم في التعبدات؛ كالسؤال عن قضاء الصوم للحائض دون الصلاة.
سادسها: أن يبلغ بالسؤال حد التكلف والتعمق؛ كسؤال بني إسرائيل عن البقرة، وما هي، وما لونها؟
سابعها: أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي، ولذلك قال سعيد: أعراقيٌّ أنت؟
ثامنها: السؤال عن المتشابهات، ومن ذلك سؤال مالك عن الاستواء فقال: الاستواء معلوم... إلخ.
عاشرها: سؤال التعنت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام، ففي الحديث: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم".
وقرأ الجمهور (١): ﴿إِنْ تُبْدَ لَكُمْ﴾ بالتاء مبنيًّا للمفعول. وقرأ ابن عباس ومجاهد مبنيًّا للفاعل. وقرأ الشعبي بالياء مفتوحة من أسفل، وضم الدال ﴿يسؤكم﴾ بالياء فيهما مضمومة في الأول، ومفتوحة في الثاني. وقال ابن عطية: إن يبدها الله تعالى.
وقوله: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْهَا﴾؛ إما جملة مستأنفة مسوقة لبيان أن نهيهم عنها لم يكن لمجرد صيانتهم عن المسألة، بل لأنها معصية في نفسها، مستتبعة للمؤاخذة؛ لأنها تغضب الرسول - ﷺ -، والضمير في قوله: ﴿عَنْهَا﴾ راجع للمسائل، والمعنى: عما الله عن مسائلكم التي كانت قبل النهي التي لا ضرورة إليها، وتجاوز عن عقوبتكم عليها في الآخرة لسعة رحمته ومغفرته وعظيم حلمه، فلا تعودوا إليها، فتكون هذه الجملة كقوله في الآية الأخرى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ﴾، وقوله: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾، أو تكون في محل الجر صفة ثالثة لـ ﴿أَشْيَاءَ﴾، والضمير في ﴿عَنْهَا﴾ على هذا يعود على ﴿أَشْيَاءَ﴾، والمعنى: لا تسألوا عن أشياء قد عفا الله عنها؛ أي: تركها ولم يذكرها في كتابه بشيء من التكليف؛ فاسكتوا عنها كما سكت الله عنها، ولا تبحثوا عنها، ومما (٢) يؤيد هذا المعنى حديث أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وحرَّم أشياء فلا تقربوها، وترك أشياء من غير نسيان، فلا تبحثوا عنها"، وحديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - ﷺ - عن أشياء فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما قد عفا عنه، فلا تتكلفوا". هذان
(٢) المراغي.
١٠٢ - ﴿قَدْ سَأَلَهَا﴾؛ أي: قد سأل هذه المسائل؛ أي: عن أمثال هذه المسائل ﴿قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾؛ أي: قوم من الأمم الماضية أنبياءهم ﴿ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ﴾؛ أي: ثم صاروا بعد إبدائها وإعطائها كافرين وساترين لها، ومكذبين بها، وتاركين العمل بها، فأُهلكوا بسببها، فإن (١) من أكثر الأسئلة عن الأحكام الشرعية من الأمم السالفة.. لم يعملوا بما بين لهم منها، بل فسقوا عن أمر ربهم، وألقوا شرعهم ورائهم ظهريًّا استثقالًا للعمل به، وأدى ذلك؛ إما إلى استنكاره، وإما إلى جحود كونه من عند الله، وسواء أكان هذا أم ذاك، فهو كفران به. انظر إلى قوم صالح عليه السلام، سألوا الناقة ثم عقروها، فأصبحوا بها كافرين، فاستحقوا الهلاك في الدنيا قبل عذاب الآخرة، وإلى قوم موسى قالوا: أرنا الله جهرة، فكان هذا السؤال وبالًا عليهم، وإلى قوم عيسى عليه السلام سألوا نزول المائدة عليهم، ثم كذبوا بها، وقال مقاتل (٢): كان بنو إسرائيل يسألون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أخبروهم بها.. تركوا قولهم، ولم يصدقوهم، فأصبحوا بتلك الأشياء كافرين، كأنه تعالى يقول (٣): إن أولئك سألوا فلما أعطوا سؤلهم.. كفروا به، فلا تسألوا أنتم شيئًا فلعلكم إن أعطيتم سؤلكم ساءكم ذلك.
ولا بد (٤) من تقييد النهي في هذه الآية بما لا تدعو إليه حاجة كما قدمنا؛ لأن الأمر الذي تدعو إليه الحاجة في أمور الدين والدنيا.. قد أذن الله بالسؤال عنه فقال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، وقال - ﷺ -: "قاتلهم الله، ألا فاسألوا، فإنما شفاء العيِّ السؤال".
(٢) الخازن.
(٣) زاد المسير.
(٤) الشوكاني.
١٠٣ - ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ﴾ هذا كلام مستأنف يتضمن الرد على أهل الجاهلية فيما ابتدعوه، و ﴿من﴾: زائدة في المفعول؛ أي: ما بحر الله بحيرة، ولا شق أذنها ﴿وَلَا﴾ سيب الله ﴿سَائِبَةٍ﴾ ولا أعتقها لآلهتهم ﴿وَلَا﴾ وصل الله ﴿وَصِيلَةٍ﴾ ولا جعلها متروكة بلا ذبح ﴿وَلَا﴾ سيب الله ﴿حَامٍ﴾، ولا حفظ ظهره من الركوب، ولا من الحمل عليه؛ أي: ما شرع الله ذلك لهم، ولا أمر به، وما جعله دينًا لهم.
فالبحيرة: هي الناقة التي يبحرون أذنها؛ أي: يشقونها شقًّا واسعًا، وكانوا يفعلون بها ذلك إذا نتجت خمسة أبطن، وكان الخامس أنثى، كما روي عن ابن عباس، وقيل: هي الناقة التي تنتج خمسة أبطن في آخرها ذكَر، فتشق أذنها ولا تذبح ولا تركب ولا تحلب، ولا تطرد عن ماء ولا مرعى، ولا يجز لها وبر، ولا يحمل على ظهرها، بل تترك لآلهتهم.
والسائبة: هي الناقة تسيب وتنذر لآلهتهم، وكان الرجل إذا شفي من مرض، أو قدم من سفر.. سيَّب ناقة أو بعيرًا بنذرها لآلهتهم، فترعى حيث شاءت، ولا يحمل عليها شيء، ولا يجز وبرها، ولا يحلب لبنها إلا لضيف، وتكون كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها.
والوصيلة: الشاة التي تصل أخاها، فقد كانوا إذا ولدت الشاة ذكرًا.. كان لآلهتهم، وإذا ولدت أنثى.. كانت لهم، وإن ولدت ذكرًا وأنثى.. قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم، فيترك مع أخته، فلا يذبحان حتى يموتا، فإذا ماتا.. اشترك في أكلهما الرجال والنساء.
﴿وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي: إن رؤساءهم كعمرو بن لحي وأصحابه ﴿يَفْتَرُونَ﴾ ويختلقون ﴿عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ وينسبونه إليه، ويقولون: أمرنا الله بهذا.
وأول من سن لأهل الشرك تلك السنن الرديئة، وغيَّر دين الله - دين الحق دين إبراهيم وإسماعيل، وأضاف إلى الله أنه هو الذي حرم ما حرموا، وأحل ما أحلوا افتراءً على الله الكذب واختلافًا عليه - هو عمرو بن لحي الخزاعي، فهو الذي غير دين إبراهيم، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، وحمى الحامي، ونصب الأوثان لأهل مكة.
وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول لأكتم بن الجون: "يا أكتم، عرضت عليَّ النار، فرأيت فيها عمرو بن لحي بن قمعة بن خندق يجرُّ قصبه في النار - القصب: المِعَى وجمعه الأقصاب - فما رأيت رجلًا أشبه برجل منك به، ولا به منك، فقال أكتم: أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله، فقال رسول الله - ﷺ -: "لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غير دين الله دين إبراهيم وإسماعيل". ﴿وَأَكْثَرُهُمْ﴾ وهم الأتباع ﴿لَا يَعْقِلُونَ﴾ أن ذلك افتراء باطل افتراه رؤساءهم على الله كذبًا، وأن ذلك من أعمال الكفر، بل يظنون أنهم يتقربون به إلى الله ولو بالوساطة؛ لأن آلهتهم التي يسيبون باسمها السوائب، ويتركون لها ما حرموه على أنفسهم ليست إلا وسطاء بينهم وبين الله بزعمهم، تشفع لهم عنده، وتقربهم إليه زلفى.
١٠٤ - ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾؛ أي: للذين كفروا أو لأكثرهم الذين هم الأتباع ﴿تَعَالَوْا﴾؛ أي: هلموا وأقبلوا ﴿إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ في القرآن من الأحكام المؤيدة بالحجج والبراهين ﴿وَإِلَى الرَّسُولِ﴾ محمَّد - ﷺ - المبلِّغ لها، والمبيِّن لمجملها فاتبعوهما فيها ﴿قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾؛ أي: أجابوا من يدعوهم إلى ما أنزل الله وإلى الرسول بقولهم: حسبنا وكافينا عن ذلك ما وجدنا عليه آبائنا
١٠٥ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله - ﷺ - ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾؛ أي: الزموا أنفسكم واحفظوها من ملابسة الضلال والمعاصي والإصرار على الذنوب، وانظروا فيما يقربها من ربها ويخلعها من عقابه ﴿لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلّ﴾؛ أي: لا يضركم ضلال من ضل من أهل الكتاب والمشركين وسائر الكفار والفساق ﴿إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ للحق أنتم في أنفسكم، وفي حق غيركم؛ بأن يعظ بعضكم بعضًا، ويرغب بعضكم بعضًا في الخيرات، وينفره من القبائح والسيئات.
وهذه الآية أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال الشوكاني (١): وليس في الآية ما يدل على سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن من تركه مع كونه من أعظم الفروض الدينية.. فليس بمهتدٍ، وقد قال الله تعالى: ﴿إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ وقد دلت الآيات القرآنية والأحاديث المتكاثرة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوبًا مضيقًا متحتمًا، فتحمل هذه الآية على من لا يقدر على القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن
فصل في ذكر نبذة مما يتعلق بالآية
فإن قلت (١): هل يدل ظاهر هذه الآية على جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
قلتُ: لا يدل على ذلك، والذي عليه أكثر الناس أن المطيع لربه عَزَّ وَجَلَّ لا يكون مؤاخذًا بذنوب أصحاب المعاصي، فأمَّا وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فثابت بدليل الكتاب والسنة.
عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾. ولا تضعونها موضعها، ولا تدرون ما هي، وإني سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "إن الناس إذا رأوا ظالمًا، فلم يأخذوا على يديه.. أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه" أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وأخرجه أبو داود، وزاد فيه: "ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيِّروا إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب". وقال قوم في معنى الآية: عليكم أنفسكم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يقبل منكم. وقال ابن مسعود: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قبل منكم، فإن رُدَّ عليكم فعليكم أنفسكم.
وعن أبي أمية الشيباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ قال: آية آية؟ قلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾، قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرًا، سألت عنها رسول الله - ﷺ - فقال: "ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا، وهوى
وقيل في معنى الآية: إن العبد إذا عمل بطاعة الله واجتنب نواهيه.. لا يضره من ضل، وقيل في معنى الآية: لا يضركم من كفر بالله وحاد عن قصد السبيل من أهل الكتاب إذا اهتديتم أنتم، وقال الحسن: لم يكن مؤمن فيما مضى، ولا مؤمن فيما بقي إلا وإلى جنبه منافق يكره عمله.
وقال الطبري: وأولى هذه الأقوال وأصح التأويلات عندنا في هذه الآية ما روي عن أبي بكر الصديق، وهو العمل بطاعة الله، وأداء ما لزم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد الظالم؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ ومن التعاون على البر والتقوى، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد الظالم حتى يرجع عن ظلمه.
واعلم: أن كلًّا من الآمر والمأمور يجب عليه اتباع الحق المأمور به، وقد دلت السنة الصحيحة على أن من يأمر بالمعروف ولا يفعله، وينهى عن المنكر ويفعله، أنه حمار من حمر جهنم يجر أمعاءه فيها.
ولقد أجاد من قال:
يَا أيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلّمُ غَيْرَهُ | هَلَّا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيْمُ |
لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأتِيَ مِثْلَهُ | عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيْمُ |
أَتَنْهَى النَّاسَ وَلاَ تَنْتَهِي | مَتَى تَلْحَقُ الْقَوْمَ يَا أَكْوَعُ |
فَيَا حَجَر الشَّحْذِ حَتَّى مَتَى | تَسُنُّ الْحَدِيْدَ وَلاَ تَقْطَعُ |
وَغَيْرُ تَقَيٍّ يَأمُرُ النَّاسَ بالتُّقَى | طَبِيْبٌ يُدَاوِيْ النَّاسَ وَهْوَ مَرِيْضُ |
فَإِنَّكَ إِذْ مَا تَأْتِ مَا أَنْتَ آمِرُ | بِهِ تُلْفِ مَنْ إِيَّاهُ تَأمُرُ آتِيَا |
والخلاصة: أن العلماء من السلف متفقون على أن المؤمن لا يكون مهتديًا إذا أصلح نفسه ولم يهتم بإصلاح غيره؛ بأن يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، وأن ذلك فرض لا هوادة فيه، ولكن هذه الفريضة تسقط إذا فسد الزمان فسادًا لا يرجى معه تأثير الوعظ والإرشاد، أو فسادًا يؤدي إلى إيذاء الواعظ المرشد؛ بأن يعلم أو يظن ظنًّا قويًّا بأن لا فائدة من نصحه، أو بأنه سيؤذى إذا هو أمر بمعروف أو نهى عن منكر، ويحرم عليه ذلك إذا أدَّى إلى الوقوع في التهلكة.
وحكى الزمخشري عن نافع أنه قرأ (١): ﴿عليكم أنفسُكم﴾ بالرفع، وهي قراءة شاذة تخرَّج على وجهين:
أحدهما: يرتفع على أنه مبتدأ، و ﴿عليكم﴾ في موضع الخبر، والمعنى: على الإغراء.
والوجه الثاني: أن يكون توكيدًا للضمير المستكن في ﴿عَليْكُمْ﴾، ولم يؤكد بمضمر متصل؛ إذ قد جاء ذلك قليلًا، ويكون مفعول عليكم محذوفًا لدلالة
وقرأ الجمهور: ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ بضم الضاد والراء وتشديدها، قال الزمخشري: وفيه وجهان: أن يكون خبرًا مرفوعًا، وأن يكون جوابًا للأمر الذي دل عليه اسم الفعل مجزومًا، وإنما ضُمت الراء؛ إتباعًا لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة، والأصل: لا يضرركم، ويجوز أن يكون نهيًا. انتهى.
وقرأ الحسن: بضم الضاد وسكون الراء من ضار يضور، وقرأ النخعي بكسر الضاد وسكون الراء من ضار يضير، وهي لغات.
﴿إِلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى وحده لا إلى غيره ﴿مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾؛ أي: رجوعكم ورجوع من ضلَّ عما اهتديتم إليه يوم القيامة، وغلب الخطاب على الغيبة كما تقول: أنت وزيد تقومان. ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ﴾؛ أي: يخبركم عند الحساب ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ في الدنيا من الخير والشر، فيجازيكم عليه، وفي هذه الجملة تذكير بالحشر وتهديد بالمجازاة.
١٠٦ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: صدقوا الله ورسوله وما أنزل عليه ﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ لما بين الله سبحانه وتعالى ما يتعلق بمصالح الدين.. شرع يبين ما يتعلق بمصالح الدنيا إشارة إلى أن الإنسان ينبغي له أن يضبط مصالح دينه ودنياه؛ لأنه مكلف بحفظهما؛ أي: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، شهادة بينكم؛ أي: الشهادة المشروعة لكم إذا حضر أحدكم الموت؛ أي: قارب أحدكم على الموت بأن ظهرت عليه أمارات وقوع الموت، وأراد أن يوصي، وأراد أن يُشهد ﴿حِينَ الْوَصِيَّةِ﴾ على وصيته ﴿اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾؛ أي: هي شهادة اثنين من رجالكم أيها المؤمنون من ذوي العدل والاستقامة يشهدهما الموصي على وصيته، سواء كان في حضر أو سفر، وقوله: ﴿مِنْكُمْ﴾؛ أي: من المؤمنين ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: أو شهادة اثنين آخرين من غير المسلمين إن كنتم مسافرين ﴿فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ﴾؛ أي: فنزلت بكم مقدمات الموت وعلاماته، وأردتم الإيصاء، علم الله سبحانه وتعالى أن من الناس من يسافر، فيصحبه في سفره أهل الكتاب دون المسلمين، ويحضره
وعبارة "الخطيب": المعنى: إن المحتضر إذا أراد الوصية.. ينبغي له أن يشهد على وصيته عدلين من أهل دينه إن وجدا، فإن لم يجدهما.. فليشهد آخرين من غيرهم.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا الشهادة المشروعة بينكم إذا حضر أحدكم أمارات الموت، وأراد الوصية والإشهاد عليها، هي شهادة عدلين منكم مطلقًا؛ أي: سواء كان في حضر أو سفر، وجد غير المسلمين أم لا، أو شهادة اثنين من غير أهل دينكم إن كنتم مسافرين فأصابتكم أمارات الموت، ولم يكن عند المحتضر واحد من المسلمين.
وعبارة "القرطبي" هنا: قوله تعالى: ﴿إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ في الكلام حذف تقديره: إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت فأوصيتم إلى اثنين عدلين في ظنكم ودفعتم إليهما ما معكم من المال، ثم متم، وذهب الاثنان إلى ورثتكم بالتركة، فارتابوا في أمرهما، وادعوا عليهما خيانة، فالحكم أن تحبسوهما من بعد الصلاة؛ أي: تستوثقوا منهما. انتهت.
وقرأ الجمهور: ﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ بالرفع وإضافة شهادة إلى ﴿بَيْنِكُمْ﴾، وقرأ الشعبي والحسن والأعرج: ﴿شهادة بينكم﴾ برفع شهادة وتنوينه، وقرأ السلمي والحسن أيضًا: ﴿شهادةً﴾ بالنصب والتنوين، وروي هذا عن الأعرج وأبي حيوة و ﴿بَيْنِكُمْ﴾ على هاتين القراءتين منصوب على الظرف.
وقوله: ﴿تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ﴾ صفة لـ ﴿آخَرَانِ﴾، وجملة قوله: ﴿إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ﴾ معترضة بين الصفة والموصوف؛ أي: أو شهادة آخرين من غير المسلمين توقفونهما من بعد صلاة العصر في المسجد الجامع عند المنبر؛ أي: توقفون أيها الحكام الشاهدين من غير المسلمين من بعد
﴿فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ﴾؛ أي: فيحلف الشاهدان من غير المسلمين باسم الله؛ أي: فتستحلفونهما أيها الحكام على أنهما ما كذبا في شهادتهما ولا خانا في الوصية. ﴿إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾؛ أي: شككتم أيها الورثة أعني: ورثة الموصي الميت في السفر في صدقهما، واتهمتموهما بالخيانة في الوصية، ورفعتموهما إلى الحكام، أما الأمين: فيصدق بلا يمين. ويقولان في حلفهما والله: ﴿لَا نَشْتَرِي بِهِ﴾؛ أي: بالقسم بالله ﴿ثَمَنًا﴾؛ أي: عوضًا يسيرًا من الدنيا ﴿وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾؛ أي: ولو كان المقسم له أو المشهود له صاحب قرابة لنا، فإنا نؤثر الحق والصدق، ولا نؤثر العَرَض الدنيوي، ولا القرابة، ونظير هذه الآية قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾.
والخلاصة: أنه يقول الحالف: إنه يشهد لله بالقسط، ولا يصده عن ذلك ثمن يبتغيه لنفسه، ولا مراعاة قريب له إن فرض أنَّ في إقراره وقسمه نفعًا له؛ أي: ولو اجتمعت هاتان الفائدتان.
﴿وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ﴾؛ أي: ويقولان في يمينهما أيضًا: ولا نكتم الشهادة التي أوجبها الله، وأمران تقام له كما قال: ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ﴾.
وقرأ علي ونعيم بن ميسرة والشعبي بخلاف عنه: ﴿شهادةً اللهَ﴾ بنصبهما وتنوين شهادة، وانتصبا بـ ﴿نَكْتُمُ﴾ والتقدير: ولا نكتم الله شهادة. وعبارة "زاد المسير": وقرأ سعيد بن جبير: ﴿ولا نكتم شهادةً﴾ بالتنوين. ﴿الله﴾ بقطع الهمزة وقصرها وكسر الهاء ساكنة النون في الوصل. وقرأ سعيد بن المسيب وعكرمة:
﴿إِنَّا إِذًا﴾؛ أي: إنا إذا فعلنا ذلك الكذب، واشترينا بالقسم ثمنًا من الدنيا، أو راعينا به قريبًا؛ بأن كذبنا فيه لمنفعة لأنفسنا، أو لذوي قرابتنا، أو كتمنا شهادة الله كلًّا أو بعضًا. ﴿لَّمِنَ اَلأَثِمِينَ﴾؛ أي: لَكُنَّا من المتحملين للإثم المستحقين للجزاء عليه.
وقرأ الأعمش وابن محيصن: ﴿لملاثمين﴾ بإدغام نون ﴿من﴾ في لام ﴿الآثمين﴾ بعد حذف الهمزة، ونقل حركتها إلى اللام.
١٠٧ - ﴿فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا﴾؛ أي: فإن اطلع بعد التحليف؛ أي: عشر أهل الميت أو من يلي أمره على أن الشاهدين من غير المسلمين الحالفين استحقا إثمًا؛ أي: استوجبا إثمًا؛ إما بكذب في الشهادة، أو اليمين، أو بكتمان شيء من التركة في حال ائتمانهما عليها، أو كتمانٍ في الشهادة ﴿فَآخَرَانِ﴾؛ أي: فالواجب أن ترد اليمين إلى الورثة بأن يقوم رجلان آخران ﴿يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا﴾؛ أي: مقام الشاهدين الكاذبين في حلفهما ﴿مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ﴾؛ أي: حالة كونهما من الورثة الذين استحق لهم المال، فعليهم بمعنى: لهم اللذان هما ﴿الْأَوْلَيَانِ﴾؛ أي: الأقربان إلى الميت الأحقان بإرثه؛ أي: فرجلان آخران من الورثة المستحقين للتركة يقومان مقام الشاهدين الخائنين، وليكونا من أولى من يستحق الميراث؛ أي: هذان الرجلان الوارثان القائمان مقام الخائنين ينبغي أن يكونا هما الأولَيَيْنِ بالميت؛ أي: الأقربين الأحقين بإرثه إن لم يمنع من ذلك مانع، وهذا المعنى على قراءة ﴿استُحق﴾ بالبناء للمفعول، فعلى هذه القراءة يكون ﴿الْأَوْلَيَانِ﴾ خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هما الأوليان كأنه قيل: من هما؟ فقيل: هما الأوليان. وقيل: هو بدل من الضمير في يقومان أو من ﴿آخران﴾، ويحتمل كون على في ﴿عَلَيْهِمُ﴾ على بابها، فتكون نائب فاعل لـ ﴿اسْتَحَقَّ﴾؛ أي: من الورثة الذين استحق
وقرأ الجمهور: ﴿اسْتَحَقَّ﴾ بالبناء للفاعل ﴿الْأَوْلَيَانِ﴾: فاعل مرفوع تثنية الأوْلى.
وقرأ حمزة وأبو بكر: ﴿اسْتُحِقَّ﴾ مبنيًّا للمفعول؛ وقرأ الحسن: ﴿استحق﴾ مبنيًّا للفاعل، ﴿الأولان﴾: مرفوع تثنية أوَّل، وقرأ بان سيرين: ﴿الأوليان﴾ تثنية الأوْلى.
قوله: ﴿فيقسمان بالله﴾ عطف على ﴿يقومان﴾؛ أي: فيحلفان بالله ﴿لَشَهَادَتُنَا﴾؛ أي: ليميننا، فالمرد بالشهادة هنا اليمين كما في قوله تعالى: ﴿فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ﴾؛ أي: فيحلفان بالله بقولهما: والله لأيماننا على أنهما كاذبان خائنان في وصية ميتنا ﴿أَحَقُّ﴾ وأصدق ﴿مِنْ شَهَادَتِهِمَا﴾؛ أي: أيمانهما على أنهما صادقان فيما ادعيا ﴿وَمَا اعْتَدَيْنَا﴾ عليهما بتهمة باطلة؛ أي: ما تجاوزنا الحق في أيماننا ﴿إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: ويقولان في يمينهما: إنا إذا اعتدينا الحق فحلفنا مبطلين كاذبين.. لنكونن من الظالمين لأنفسهم بتعريضها لسخط الله وانتقامه. وعبارة (٢) "المراح": ﴿فَيُقْسِمَانِ﴾؛ أي: هذان الآخران ﴿بِاللَّهِ﴾ بقولهما ﴿لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا﴾؛ أي: والله ليمين المسلمين أصدق وأحق بالقبول من يمين النصرانيين ﴿وَمَا اعْتَدَيْنَا﴾؛ أي: ما تجاوزنا الحق فيما ادعيا، وفي طلب المال، وفي نسبتهما إلى الخيانة ﴿إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: إنا اعتدينا في ذلك.. كنا من الظاليمن أنفسهم بإقبالها لسخط تعالى وعذابه.
(٢) المراح.
١٠٨ - ﴿ذَلِكَ﴾ الحكم الذي بيناه وشرعناه في هذه القصة من تكليف المؤتمن على الوصية أن يقوم على مرأى من الناس، ويشهد بعد الصلاة، ويقسم الأيمان المغلظة ﴿أَدْنَى﴾؛ أي: أدنى الطرق وأقربها إلى ﴿أَنْ يَأتُوا﴾؛ أي: إلى أن يؤدي الشهود المتحملون للشهادة على الوصية ﴿بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا﴾؛ أي: على الوجه الذي تحملوها عليه من غير تحريف ولا تبديل ولا خيانة فيها خوفًا من العذاب الأخروي، والأنسب بالمقام في قوله: ﴿أَنْ يَأتُوا﴾ وبقوله الآتي: ﴿أَوْ يَخَافُوا﴾ تثنية
وفي "الخازن": أن يأتي الوصيان وسائر الناس. وقوله: ﴿أَوْ يَخَافُوا﴾ معطوف في المعنى على محذوف تقديره: ذلك أدنى وأقرب إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها لأجل أن يخافوا من عذاب الآخرة بسبب الكذب والخيانة فيها ﴿أَوْ﴾ لأجل أن ﴿يَخَافُوا﴾ الافتضاح على رؤوس الأشهاد بإبطال أيمانهم والعمل بأيمان الورثة، فينزجروا عن الخيانة المؤدية إلى ذلك إن لم يخافوا من عذاب الآخرة، وذلك بـ ﴿أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ﴾ على الورثة ﴿بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾؛ أي: بعد أيمان الشهود الخائنين في الوصية، فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم، فيفتضحوا، فأي الخوفين وقع حصل المقصود الذي هو الإتيان بالشهادة على وجهها.
والغرض من هذا الكلام (١): بيان المنفعة والفائدة في هذا الحكم الذي شرعه الله في هذا الموضع من كتابه. والمعنى: ذلك (٢) الذي شرعناه من تكليف المؤتمن على الوصية أن يقوم على مرأى من الناس، ويشهد بعد الصلاة، ويقسم الأيمان المغلظة أدنى الطرق وأقربها إلى أن يؤدي الشهداء الشهادة على وجهها بلا تبديل ولا تغيير تعظيمًا لله، ورهبة من عذابه، ورغبة في ثوابه، أو خوفًا من الفضيحة التي تعقب استحقاقهما الإثم في الشهادة برد أيمان الورثة بعد أيمانهم، فتكون مبطلة لها؛ إذ من لم يمنعه خوف الله وتعظيمه أن يكذب لضعف دينه.. يمنعه خوف الخزي والفضيحة بين الناس.
والحاصل (٣): أن الشاهدين أو الوصيين، إذا علما أنهما إن لم يصدقا.. يتوجه اليمين على الورثة، فيحلفون، فينتزعون من الشاهدين ما أخذاه، ويفتضحان بظهور كذبهما.. حملهما ذلك على أحد أمرين: إما الصدق في الشهادة، والحلف من أول الأمر، وإما ترك الحلف الكاذب، فيظهر كذبهم ونكولهم، فبأحد الأمرين يحصل المقصود؛ لأنهم إذا صدقوا ولم يخونوا..
(٢) المراغي.
(٣) الفتوحات.
وعبارة ابن الجوزي (١) هنا: قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى﴾؛ أي: ذلك الذي حكمنا به من ردّ اليمين أقرب إلى إتيان أهل الذمة بالشهادة على وجهها؛ أي: على ما كانت، وأقرب أن يخافوا أن ترد أيمان أولياء الميت وتكرر بعد أيمانهم، فيحلفون على خيانتهم فيفتضحوا ويغرموا، فلا يحلفون كاذبين إذا خافوا ذلك. انتهت.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ وراقبوه في أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبة وأن تخونوا مَنْ ائتمنكم ﴿وَاسْمَعُوا﴾ ما يقال لكم وما توعظون به سمعَ إجابة وقبول لهذه الأحكام وغيرها. ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾؛ أي: فإن لم تتقوا ولم تسمعوا.. كنتم قومًا فاسقين خارجين عن أمر الله وطاعته، مطرودين من هدايته، مستحقين لعقابه؛ لأن الله تعالى لا يرشد القوم العاصين الكافرين الكاذبين إلى دينه وحجته، أو إلى طريق الجنة.
فائدة: وقد استنبط (٢) العلماء من هاتين الآيتين فوائد وأحكامًا نذكر أهمها فيما يلي:
١ - الحث على الوصية وعدم التهاون في أمرها في سفر أو حضر.
٢ - الإشهاد عليها لتثبيت أمرها والرجاء في تنفيذها.
٣ - بيان أن الأصل في الشاهدين عليها أن يكونا مسلمين موثوقًا بعدالتهما.
٤ - بيان أن إشهاد غير المسلمين على الوصية جائز مشروع؛ لأن مقصد الشارع منه إذا لم يمكن أداؤه على وجه الكمال أن لا يترك ألبتة.
٥ - شرعية اختيار الأوقات التي تؤثِّر في قلوب الشهود ومقسمي الأيمان رجاء أن يصدقوا ويبروا فيها.
٦ - التغليظ على الحالف بصيغة اليمين، بأن يقول فيه ما يرجى أن يكون
(٢) المراغي.
٧ - أن الأصل في أخبار الناس وشهاداتهم أن تكون مصدَّقة مقبولة، ومن ثَمَّ شرط في تحليف الشاهدين الارتياب في خبرهما.
٨ - شرعية تحليف الشهود إذا ارتاب الحكَّام والخصوم في شهادتهم، وهو الذي عليه العمل الآن في أكثر الأمم، وقد حتمته القوانين الوضعية الآن؛ لكثرة ما يقع من شهادة الزور.
٩ - شرعية ردِّ اليمين إلى من قام الدليل على ضياع حق له بيمين صار حالفها خصمًا له.
١٠ - إذا احتيج إلى قيام بعض الورثة في أمر يتعلق بالتركة.. فأولاهم بذلك أقربُهم إليه.
الإعراب
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: حرف نداء. ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة، ﴿ها﴾: حرف تنبيه زائد، وجملة النداء مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع صفة لأيُّ. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿لَا﴾: ناهية جازمة. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿عَنْ أَشْيَاءَ﴾: جار ومجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه اسم لا ينصرف، والمانع له من الصرف علة واحدة تقوم مقام علتين ترجع إحداهما إلى اللفظ، والأخرى إلى المعنى، وهي ألف التأنيث الممدودة، فلزومها لبناء ما هي فيه بمنزلة علة ترجع إلى اللفظ، ودلالتها على التأنيث بمنزلة علة ترجع إلى المعنى، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تَسْأَلُوا﴾. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط جازم. ﴿تُبْدَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة مجزوم بحذف حرف العلة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿أَشْيَاءَ﴾. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تُبْدَ﴾. ﴿تَسُؤْكُمْ﴾: فعل ومفعول مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها، وفاعله
﴿وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾.
﴿وَإِنْ تَسْأَلُوا﴾ الواو: عاطفة. ﴿إِنْ تَسْأَلُوا﴾: جازم وفعل وفاعل، وعلامة جزمه حذف النون. ﴿عنهَا﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿حِينَ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بـ ﴿تَسْأَلُوا﴾. ﴿يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿حِينَ﴾. ﴿تُبْدَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة مجزوم بـ ﴿إِن﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿أَشيَاءَ﴾. ﴿لَكُمْ﴾ جار ومجرور متعلق به، وجملة ﴿وإن﴾ الشرطية من فعل شرطها وجوابها في محل الجر معطوفة على جملة ﴿وإن﴾ الأولى على كونها صفة لـ ﴿أَشْيَاءَ﴾. ﴿عَفَا اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الجر صفة لـ ﴿أَشْيَاءَ﴾. ﴿عَنْهَا﴾: متعلق به. ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ ﴿غَفُورٌ﴾: خبر أول. ﴿حَلِيمٌ﴾: خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة.
﴿قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (١٠٢)﴾.
﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿سَأَلَهَا﴾: فعل ومفعول. ﴿قَوْمٌ﴾: فاعل، والجملة مستأنفة ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿سأل﴾. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون صفة لـ ﴿قَوْمٍ﴾، ولا حالًا منه؛ لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة ولا حالًا منها، ولا خبرًا عنها. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿أَصْبَحُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿بِهَا﴾: الباء حرف جر وسبب، الهاء ضمير المؤنثة في محل الجر بالباء، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَصْبَحُوا﴾، أو بـ ﴿كَافِرِينَ﴾. ﴿كَافِرِينَ﴾: خبر ﴿أَصْبَحُوا﴾، وجملة ﴿أَصْبَحُوا﴾ معطوفة على جملة قوله: ﴿قَدْ سَأَلَهَا﴾.
﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾.
﴿مَا﴾: نافية. ﴿جَعَلَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة وجعل هنا
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾.
﴿وَإِذَا﴾ الواو: استئنافية. ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿قِيلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿تَعَالَوْا﴾: وما بعده إلى قوله: ﴿قَالُوا﴾ نائب فاعل محكي لـ ﴿قِيلَ﴾، وجملة ﴿قِيلَ﴾ في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾ على كونها فعل شرط لها، وإن شئت قلتَ: ﴿تَعَالَوْا﴾: فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قِيلَ﴾. ﴿إِلَى مَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَعَالَوْا﴾. ﴿أَنْزَلَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: إلى ما أنزله الله. ﴿وَإِلَى الرَّسُولِ﴾: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور قبله. ﴿قَالُوا﴾:
أحدهما: هي متعلقة بالفعل، معدية له؛ كما تتعدى ضربت زيدًا بالسوط.
والثاني: أو تكون حالًا أو الآباء، ذكره أبي البقاء، وجملة (وَجَدْنَا) صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير (عَليهِ).
﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾.
﴿أَوَلَوْ﴾: الهمزة للاستفهام الإنكاري والتعجبي، داخلة على محذوف تقديره: أحَسْبُهُم ذلك؛ أي: كافيهم ذلك. حسبهم مبتدأ، ذلك خبره، والجملة الإسمية جملة إنشائية لا محل لها أو الإعراب. (ولو) الواو: حالية. (لو): حرف شرط غير جازم. (كاَنَءَابَآؤُهُم): فعل ناقص واسمه، وجملة (لَا يَعلَمُونَ شَيْئًا) في محل النصب خبر (كاَنَ). وجملة (وَلَا يهتَدُونَ) معطوفة على جملة (لَا يعلَمُونَ)، وجملة (كاَنَ) من اسمها وخبرها فعل شرط لـ (لو) لا محل لها من الإعراب، وجواب (لو) محذوف دل عليه ما قبلها تقديره: ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئًا ولا يهتدون، يقولون: حسبنا ما وجدنا عليه آبائنا. وجملة (لو) الشرطية في محل النصب حال من (ءَابَآؤُهُم) المقدر، والتقدير: أيقولون حسبنا ما وجدنا عليه آبائنا حالة كون آبائهم جهلةً ضالين، لا يعلمون شيئًا ولا يهتدون؟ وعبارة أبي السعود (٢) قوله: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ قيل: الواو للحال دخلت عليها الهمزة للإنكار والتعجيب؛ أي: أحسبهم ذلك ولو كان
(٢) أبو السعود.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يَا﴾: حرف نداء ﴿أي﴾ منادى نكرة مقصودة، ﴿ها﴾: حرف تنبيه زائد. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول للجمع المذكر في محل الرفع صفة لـ ﴿أي﴾، وجملة النداء مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: اسم فعل أمر بمعنى: الزموا مبني على السكون وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا تقديره: أنتم. ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾: مفعول به لاسم الفعل، ومضاف إليه، وجملة اسم الفعل جواب النداء لا محل لها من الإعراب. و ﴿عَلَيْكُمْ﴾ اسم فعل أمر منقول أو الجار والمجرور قال على الإغراء، كما قال ابن مالك:
وَالْفِعْلُ مِنْ أَسْمَائِهِ عَلَيْكَا | وَهكَذَا دُوْنَكَ مَعْ إِلَيكَا |
وَلاَ تُجِزْ حَالًا مِنَ الْمُضَافِ لَهْ | إِلَّا إِذَا اقْتَضَى الْمُضَافُ عَمَلَهْ |
أَوْ كَانَ جُزْءَ مَا لَهُ أُضِيْفَا | أَوْ مِثْلَ جُزْئِهِ فَلا تَحِيْفَا |
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾: سبق إعرابه غير ما مرةٍ. ﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط ﴿حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾، والظرف متعلق بـ ﴿شَهَادَةُ﴾. ﴿حِينَ الْوَصِيَّةِ﴾: ظرف ومضاف إليه، والظرف بدل من ﴿إِذَا﴾ بدل كل من كل ﴿اثْنَانِ﴾: خبر المبتدأ، ولكنه على حذف مضاف تقديره: شهادة بينكم حين الوصية شهادة اثنين منكم؛ لتحصل المطابقة بين المبتدأ والخبر، وذلك لأن الشهادة لا تكون هي الاثنان؛ إذ الجنة لا تكون خبرًا عن المصادر، فأضمر مصدر يكون خبرًا عن مصدر. ﴿ذَوَا عَدْلٍ﴾: صفة أولى لـ ﴿اثْنَانِ﴾، ومضاف إليه مرفوع بالألف. ﴿مِنْكُمْ﴾: جار ومجرور صفة ثانية لـ ﴿اثْنَانِ﴾. ﴿أَوْ آخَرَانِ﴾: معطوف على ﴿اثْنَانِ﴾. ﴿مِنْ غَيْرِكُمْ﴾: جار ومجرور صفة أولى لـ ﴿آخَرَانِ﴾، والجملة من المبتدأ والخبر جواب النداء لا محل لها من الإعراب.
{إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ
﴿إِنْ﴾: حرف شرط جازم. ﴿أَنْتُمْ﴾: فاعل بفعل محذوف وجوبًا يفسره ما بعده تقديره: إن ضربتم، فلما حذف الفعل.. انفصل الضمير. فقوله: ﴿ضَرَبْتُمْ﴾ جملة مفسرة للمحذوف لا محل لها من الإعراب. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: جار ومجرور متعلق بفعل الشرط المحذوف. ﴿فَأَصَابَتْكُمْ﴾: الفاء: عاطفة. ﴿أصابتكم﴾: فعل ومفعول في محل الجزم معطوف على ﴿ضَرَبْتُمْ﴾ المحذوف على كونه فعل شرط، لـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية. ﴿مُصِيبَةُ الْمَوْتِ﴾: فاعل ومضاف إليه، وجواب الشرط محذوف جوازًا لدلالة ما قبله عليه، والتقدير: إن سافرتم في الأرض فقاربكم الأجل حينئذ، وما معكم أحد من أهل الإِسلام.. فليشهد آخران من غيركم، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية جملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين الموصوف وهو ﴿آخَرَانِ﴾، وبين صفته وهي قوله ﴿تَحْبِسُونَهُمَا﴾. ﴿تَحْبِسُونَهُمَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به ﴿مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿تَحْبِسُونَهُمَا﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع صفة ثانية لـ ﴿آخَرَانِ﴾، ولكنها صفة سببية. ﴿فَيُقْسِمَانِ﴾: الفاء: عاطفة. ﴿يقسمان﴾: فعل وفاعل. ﴿بِاللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يقسمان﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة قوله: ﴿تَحْبِسُونَهُمَا﴾ على كونها صفة ثانية لـ ﴿آخَرَانِ﴾.
﴿إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ﴾.
﴿إِنِ﴾: حرف شرط. ﴿ارْتَبْتُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إِنِ﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه تقديره: إن ارتابهما الوارث منكم بخيانة أو أخذ شيء من التركة.. فاحبسوهما، وحلفوهما من بعد الصلاة، وهذا الشرط وجوابه المحذوف جملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين القسم وهو قوله: ﴿فَيُقْسِمَانِ﴾؛ لأنه قائم مقام القسم، وبين جوابه وهو قوله: ﴿لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا﴾. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿نَشْتَرِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿آخَرَانِ﴾. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق
﴿فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ﴾.
﴿فَإِنْ عُثِرَ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿عُثِرَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿عَلَى﴾: حرف جر. ﴿أَنَّهُمَا﴾: ﴿أنَّ﴾: حرف نصب ومصدر، والهاء: ضمير المثنى الغائب في محل النصب اسمها. ﴿اسْتَحَقَّا﴾: فعل وفاعل. ﴿إِثْمًا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أنّ﴾ تقديره: على أنهما مستحقان إثمًا، وجملة ﴿أنّ﴾ في تأويل مصدر مجرور بعلى تقديره: فإن عثر على استحقاقهما إثمًا، الجار والمجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿عُثِرَ﴾. ﴿فَآخَرَانِ﴾: الفاء: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة
﴿فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧)﴾.
﴿فَيُقْسِمَانِ﴾: الفاء: عاطفة. ﴿يقسمان﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿يَقُومَانِ﴾ على كونها خبر المبتدأ. ﴿بِاللهِ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿لَشَهَادَتُنَا﴾: اللام: موطئة للقسم. ﴿شهادتنا﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿أَحَقُّ﴾: خبر المبتدأ. ﴿مِنْ شَهَادَتِهِمَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَحَقُّ﴾، والجملة الإسمية جواب القسم لا محل لها من الإعراب. ﴿وَمَا﴾: الواو: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿اعْتَدَيْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الإسمية على كونها جواب القسم لا محل لها من الإعراب. ﴿إِنَّا﴾: ﴿إن﴾: حرف نصب، ﴿نا﴾: ضمير المتكلمين في محل النصب اسمها.
﴿لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾: اللام: حرف ابتداء. ﴿من الظالمين﴾: جار ومجرور خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة.
﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (١٠٨)﴾.
﴿ذَلِكَ أَدْنَى﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر ﴿يَأتُوا﴾ فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية، وعلامة نصبه حذف النون، والجملة الفعلية صلة ﴿أَن﴾ المصدرية. ﴿أَن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: ذلك أدنى وأقرب إلى إتيانهم بالشهادة على وجهها. ﴿بِالشَّهَادَةِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَأتُوا﴾. ﴿عَلَى وَجْهِهَا﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من الشهادة. ﴿أَوْ يَخَافُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يَأتُوا﴾. ﴿أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ﴾: ناصب وفعل مغيَّر ونائب فاعل، وجملة ﴿أَن﴾ المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: أو يخافوا ردَّ أيمان. ﴿بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾: ظرف ومضاف إليه متلعق بـ ﴿تُرَدَّ﴾، أو صفة لـ ﴿أَيْمَانٌ﴾. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿وَاسْمَعُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَاتَّقُوا﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَهْدِي﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾. ﴿الْقَوْمَ﴾: مفعول به. ﴿الْفَاسِقِينَ﴾ صفة، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة.
وقال بعضهم: هذه الآيات الثلاث في قراءتها وإعرابها وتفسيرها ومعانيها وأحكامها، من أصعب آي القرآن وأشكلها. وقال السخاوي: ولم أرَ أحدًا من العلماء تخلَّص كلامه فيها من أولها إلى آخرها، ونحن نريد إن شاء الله تعالى أن نضع عليها رسالة صغيرة في بيان معانيها وإعرابها وقراءتها بأوضح ما يمكن في بيانها، بعد ما فرغنا من هذا الشرح إن شاء الله سبحانه وتعالى، ولذلك اختصرنا الكلام هنا في بيان ما يتعلق بها، وبالله التوفيق والهداية إلى أقوم الطريق.
﴿لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ﴾: الأصل (١) في أشياء على مذهب الخليل وسيبويه: شيئاء بوزن: لفعاء بهمزتين بينهما ألف، وهي فعلاء من لفظ شَيء، وهمزتها الثانية للتأنيث، وهي اسم جمع، كطرفاء وحلفاء، ولأجل همزة التأنيث لم تنصرف، ثم إن الهمزة الأولى التي هي لام الكلمة قدمت، فجعلت قبل الشين كراهية الهمزتين بينهما ألف، خصوصًا بعد الياء، فصار وزنها لفعاء، وهذا قول صحيح لا يرد عليه إشكال. ومذهب غيرهما: أنها جمع، واختلفوا فقال الكسائي وأبو حاتم: هو جمع شيء من غير تغيير؛ كبيت وأبيات، وهو غلط؛ لأن مثل هذا الجمع الذي كان على وزن أفعال ينصرف، وأشياء لا تنصرف لأجل ألف التأنيث، ولو كان وزنه أفعالًا لانصرفَ، ولم يسمع أشياء منصرفة ألبتة. وقال الكسائي: لم تنصرف أشياء لشبه آخرها بآخر حمراء، ولكثرة استعمالها، والعرب تقول: أشياوان كما تقول: حمراوان. وذهب الفراء والأخفش إلى أنها جمع على وزن أفعلاء، قال الفراء: شيء مخفف من شيء كما قالوا: أهوناء في جمع هين مخفف من هين. وقال الأخفش: ليس مخففًا من شيء، بل هو فعل جمع على أفعلاء، فاجتمع في هذين القولين همزتان: لام الكلمة وهمزة التأنيث، فقلبت الهمزة التي هي لام الكلمة ياء؛ لانكسار ما قبلها، ثم حذفت الياء التي هي عين الكلمة استخفافًا. وذهب قوم إلى أنَّ وزن شيء في الأصل شييىء، كصديق وأصدقاء، ثم حذفت الهمزة الأولى، وفتحت ياء المد؛ لكون ما بعدها ألفًا. قال: ووزنها في هذا القول: أفياء، وفي القول الذي قبله: أفلاء، وتقرير هذه المذاهب صحة وإبطالًا مذكور في علم التصريف.
﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ﴾: البحيرة فعلية بمعنى: مفعولة، فدخول تاء التأنيث عليها لا يقاس، ولكن لما جرت مجرى الأسماء الجوامد.. أنثت، واشتقاقها من البحر، والبحر: السعة، ومنه: بحر الماء لسعته.
أحدهما: أنها اسم فاعل على بابه من ساب الماء يسيب - كباع يبيع - إذا جرى على وجه الأرض، يقال: ساب الماء، وسابت الحية، وهو مطاوع سيبته، يقال: سيبته فساب وانساب.
والثاني: أنها اسم فاعل بمعنى مفعول نحو قولهم: عيشة راضية؛ أي: مرضية، ومجىء فاعل بمعنى مفعول قليل جدًّا، نحو: ماء دافق اهـ "سمين".
﴿وَلَا وَصِيلَةٍ﴾: الوصيلة فعلية بمعنى: فاعلة؛ لأنها إذا كانت من الإبل.. هي الناقة تبكر فتلد أنثى، ثم تثنّي بولادة أنثى أخرى ليس بينهما ذَكَر، فيتركونها لآلهتهم، ويقولون: قد وصلت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر.
﴿وَلَا حَامٍ﴾: والحامي اسم فاعل من حمى يحمي، كرمى يرمي، فهو حام؛ لأنه حمى ظهره من الركوب والحمل. وقال بعضهم: هو الفحل يولد من صلبه عشرة أبطن فيقولون: قد حمى ظهره فيتركونه كالسائبة.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾: ﴿تَعَالَوْا﴾: فعل أمر بمعنى أقبلوا، مبني على حذف النون، وأصله: تعالوون، تحركت الواو الأولى، وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، فصار: تعالاون، فالتقى ساكنان: الألف والواو، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين، وحذفت النون للبناء؛ لأن فعل الأمر مبني على ما يجزم به مضارعه، وهو بفتح اللام لكل مخاطب، ولو كان أنثى قال تعالى: ﴿فَتَعَالَيْنَ﴾.
﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾: الشهادة مصدر: شهد يشهد شهادة من باب علم، والشهادة قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة.
﴿إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ﴾ يقال: ضرب في الأرض إذا سافر فيها ﴿تَحْبِسُونَهُمَا﴾؛ أي: تمسكونهما وتمنعونهما من الانطلاق والهرب، والحبس مصدر حبس يحبس حبسًا من باب ضرب، والحبس: المنع من التصرف، يقال: حبست أحبس وأحبست فرسًا في سبيل الله، فهو محبس وحبيس إذا وقفته للغزو. ﴿إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾؛ أي: شككتم في صدقهما فيما يقران به ﴿فَإِنْ عُثِر﴾؛ أي: اطلع، يقال: عثر على الرجل يعثر عثورًا من باب دخل ونصر، والعثور على الشيء: الاطلاع عليه من
﴿الْأَوْلَيَانِ﴾: تثنية أولى بمعنى: أقرب، فقلبت الألف ياءً على حد قول ابن مالك:
آخِرَ مَقْصُوْرٍ تُثَنِّي اجْعَلْهُ يَا | إِنْ كَانَ عَنْ ثَلاَثَةٍ مُرْتَقِيَا |
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التكرار في قوله: ﴿لَا تَسْأَلُوا﴾ ﴿وَإِنْ تَسْأَلُوا﴾، وفي: ﴿تُبْدَ لَكُمْ﴾.
ومنها: الاستخدام في قوله: ﴿وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا﴾ وهو ذكر الشيء بمعنى وإعادة الضمير إليه بمعنى آخر، وهو من المحسنات البديعية؛ لأن الضمير في قوله: ﴿وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا﴾ عائد إلى الأشياء التي مست الحاجة إلى السؤال عنها، والمراد بالأشياء المنهي عن السؤال عنها: الأشياء التي لم يكن لهم حاجة إلى السؤال عنها؛ كقول بعضهم: من أبي؟ أين ضالتي؟
ومنها: التفنن في قوله: ﴿حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ حيث قال هنا: ﴿مَا وَجَدْنَا﴾، وفي البقرة: ﴿مَا أَلْفَيْنَا﴾، وقال هنا: ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾، وهناك ﴿لَا يَعْقِلُونَ﴾؛ للتفنن: وهو ذكر نوعين من الكلام؛ لثقل تكرار أحدهما على اللسان، وهو من المحسنات البديعية أيضًا.
ومنها: إطلاق الجملة الخبرية مرادًا بها معنى الطلبية في قوله: ﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ﴾؛ لأنها بمعنى: فليشهد اثنان منكم.
ومنها: التجوز بإضافة ﴿شَهَادَةُ﴾ إلى ﴿بَيْنِكُمْ﴾؛ لأن حق الشهادة أن تضاف إلى المشهود به، كأن يقال: شهادة الحقوق؛ أي: الشهادة بها، فاتسع فيها، وأضيفت إلى البين؛ إما باعتبار جريانها بينهم، أو باعتبار تعلقها بما يجري بينهم من الخصومات.
ومنها: الاعتراض بـ ﴿إِذَا حَضَرَ﴾ بين المبتدأ والخبر.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾؛ لأنه مجاز عن حضور أسبابه ومقدماته.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ من الغيبة إلى الخطاب؛ لأنه لو جرى على لفظ: إذا حضر أحدكم الموت.. لكان الترتيب هكذا: إن هو ضرب في الأرض.. فأصابته.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ﴾.
ومنها: التجوز بالجمع عن المثنى في قوله: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا﴾؛ لأن المقام لتثنية الضمير، وإنما جمع؛ لأن المراد ما يعمُّ الشاهدين المذكورين وغيرهما من بقية الناس كما مر.
ومنها: الزيادة والحذف في مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (١١٥)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ...﴾ هو مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أن الله سبحانه وتعالى لما أخبر بالحكم في شاهدي الوصية، وأمر بتقوى الله والسمع والطاعة.. ذكَّر بهذا اليوم المهول المخوف، وهو يوم القيامة، فجمع بذلك بين فضيحة الدنيا وعقوبة الآخرة لمن حرّف الشهادة، ولمن لم يتقِ الله ولم يسمع.
التفسير وأوجه القراءة
١٠٩ - ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ﴾؛ أي: واذكر يا محمَّد لأمتك قصة يومٍ يجمعُ الله سبحانه وتعالى المرلسلين والمرسل إليهم في صعيد واحد، وهو يوم القيامة. ﴿فَيَقُولُ﴾ الله سبحانه وتعالى للرسل؛ مشيرًا إلى خروجهم من عهدة الرسالة
وقرأ ابن عباس وأبو حيوة (١): ﴿ماذا أجبتم﴾ مبنيًّا للفاعل. وقرأ: ﴿عَلَّامُ﴾ بالنصب على أن الكلام قد تم بقوله: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ﴾ بتقدير الخبر لـ ﴿إنَّ﴾؛ أي: إنك أنت الموصوف بصفاتك المعروفة من العلم وغيره، ونصب ﴿عَلَّامُ﴾؛ إما على الاختصاص، أو على النداء. وقرأ حمزة وأبو بكر: ﴿الغيوب﴾ بكسر الغين حيث وقع، كأن من قال ذلك من العرب.. قد استثقل توالي ضمتين مع الياء، ففر إلى حركة مغايرة للضمة، مناسبة لمجاورة الياء وهي الكسرة.
١١٠ - و ﴿إِذْ﴾ في قوله: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ بدل من ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ﴾، وهو
وعبارة (٣) "البيضاوي" هنا: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ﴾ بدل من ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ﴾، والماضي بمعنى الآتي على حد، ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ في أن الماضي أقيم مقام المضارع، وفي أن إذ واقعة موقع إذا التي للمستقبل لتحقق الوقوع، فكأنه واقع، أو نصب بإضمار اذكر. انتهت؛ أي: اذكر يا محمد لأمتك قصة إذ يقول الله سبحانه وتعالى لعيسى ابن مريم يوم القيامة ﴿اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ﴾؛ أي: تذكر إنعامي عليك بما سيأتي ﴿و﴾ إنعامي ﴿عَلَى وَالِدَتِكَ﴾ وأمك مريم إذ أنبتها نباتًا حسنًا، وطهرتها واصطفيتها على نساء العالمين، ورزقتها من حيث لا تحتسب. ذكَّره (٤) سبحانه وتعالى نعمتهُ عليه وعلى أمه مع كونه ذاكرًا لها عالمًا بتفضل الله سبحانه بها؛ لقصد تعريف الأمم بما خصهما الله تعالى به من الكرامة، وميزهما به من علو المقام، أو لتأكيد الحجة وتبكيت الجاحد بأن منزلتهما عند الله هذه المنزلة، وتوبيخ من اتخذهما إلهين ببيان أن ذلك الإنعام عليهما كله من عند الله تعالى، وأنهما عبدان من جملة عباده منعم عليهما بنعم الله سبحانه، ليس لهما من الأمر شيء، وليس المراد بأمره بالذكر يومئذ - أي: يوم القيامة - تكليفه شكرها، والقيام بواجبها؛ إذ ليس هناك تكليف، بل المراد توبيخ الكفرة المختلفين في شأنه وشأن أمه إفراطًا وتفريطًا. انتهى "أبو السعود".
وقوله: ﴿إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾: ظرف للنعمة؛ لأنها بمعنى المصدر؛ أي: اذكر إنعامي عليك وقت تأييدي إياك بروح القدس؛ أي: بجبريل الأمين؛ أي: إذ قويتك وأعنتك بروح القدس؛ أي: بجبريل المطهر من أوصام الآثام حين لقنك وأعانك في تكليم الناس في المهد، وثبتك في إقامة الحجة عليهم في
(٢) الجمل.
(٣) البيضاوي.
(٤) الشوكاني.
وعبارة "الخازن" هنا: ﴿إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ يعني: بجبريل عليه السلام؛ لأن القدس هو الله تعالى؛ لأنه مصدر بمعنى: المقدس؛ أي: المطهر عن النقائص، وأضافه إليه على سبيل التشريف والتعظيم، كإضافة بيت الله وناقة الله. وقيل: أراد بروح القدس الروح المطهرة؛ لأن الأرواح تختلف باختلاف الماهية، فمنها روح طاهرة مقدسة نورانية، ومنها روح خبيثة كدرة ظلمانية، فخصَّ الله عيسى بالروح المقدسة الطاهرة النورانية المشرقة، وقد عدد عليه من النعم سبعًا: إذ أيدتك، وإذ علمتك، وإذ تخلق، وإذ تبرىء، وإذ تخرج الموتى، وإذ كففت، وإذ أوحيت.
وقرأ الجمهور: ﴿أَيَّدْتُكَ﴾ بتشديد الياء من باب فعَّل المضعف. وقرأ مجاهد وابن محيصن: ﴿آيدتك﴾ فوزن هذه القراءة يحتاج في معرفته إلى نقل مضارعه من كلام العرب، فإن كان يؤايد.. فوزنه: فاعل، وإن كان يؤيد.. فهو أفعل، وجملة قوله: ﴿تُكَلِّمُ النَّاسَ﴾ مبينة لمعنى التأييد، و ﴿فِي الْمَهْدِ﴾ في محل النصب على الحال؛ أي: تكلم الناس حالة كونك طفلًا صغيرًا في الحجر والسرير بقولك: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾، الآية ﴿و﴾ حالة كونك ﴿كَهْلًا﴾؛ أي: في زمن الكهولة؛ الزمن بين الثلاثين والأربعين؛ أي: تكلم الناس حال كونك صبيًّا وكهلًا، لا يتفاوت كلامك في الحالتين، مع أن غيرك يتفاوت كلامه فيهما تفاوتًا بينًا، وهذه معجزة عظيمة، وخاصة شريفة ليست لأحد قبله.
قال ابن عباس رضي الله عنهما (١): أرسل الله عيسى عليه السلام وهو ابن ثلاثين سنة، فمكث في رسالته ثلاثين شهرًا، ثم رفعه الله إليه، فذكر تكليمه في حال الكهولة لبيان أن كلامه في تينك الحالين كان على نسق واحد بديع، صادر عن كمال العقل والتدبير، ذكره "أبو السعود". والمعنى: اذكر يا محمد لأمتك
وفائدة هذا القصص: تنبيه النصارى الذين كانوا عمر التنزيل إلى قبح مقالتهم، وسوء معتقدهم؛ لأن طعن سائر الأمم كان مقصورًا على الأنبياء، وطعن هؤلاء تعدى إلى جلال الله وكبريائه؛ إذ وصفوه بما لا يليق به من اتخاذ الزوجة والولد.
وقوله: ﴿وَإِذْ عَلَّمْتُكَ﴾ معطوف على قوله: ﴿إِذْ أَيَّدْتُكَ﴾؛ أي: واذكر نعمتي عليك وقت تعليمي إياك ﴿الْكِتَابَ﴾؛ أي: الكتابة والخط، أو المراد (٢): جنس الكتاب، فيكون ذكر التوراة والإنجيل من ذكر الخاص بعد العام، وتخصيصهما بالذكر؛ لمزيد اختصاصه بهما، أما التوراة: فقد كان يحتج بها على اليهود في غالب ما يدور بينه وبينهم من الجدال، كما هو مصرَّح بذلك في الإنجيل، وأما الإنجيل: فلكونه نازلًا عليه من عند الله سبحانه وتعالى ﴿و﴾ علمتك ﴿الْحِكْمَةَ﴾؛ أي: الفهم والاطلاع على أسرار العلوم النظرية والعملية ﴿و﴾ علمتك ﴿التَّوْرَاةَ﴾ التي أنزلتها على موسى ﴿وَالْإِنْجِيلَ﴾ الذي أنزلته عليك.
وذِكر الكِتابين (٣)؛ إشارة إلى الأسرار التي لا يطلع عليها أحد إلا أكابر الأنبياء عليهم السلام، فإن الاطلاع على أسرار الكتب الإلهية لا يحصل إلا لمن صار ربانيًّا في أصناف العلوم الشرعية والعقلية الظاهرة التي يبحث عنها العلماء.
﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي﴾؛ أي: واذكر نعمتي عليك؛ إذ
(٢) الشوكاني.
(٣) المراح.
وقرأ ابن عباس (٢): ﴿فتنفخها فتكون﴾، وقرأ الجمهور: ﴿فَتكُونُ﴾ بالتاء من فوق، وقرأ عيسى ابن عمر: ﴿فيها فيكون﴾ بالياء من تحت. وقرأ (٣) نافع ويعقوب: ﴿طائرًا﴾، ويحتمل الإفراد والجمع كالباقر.
﴿و﴾ اذكر نعمتي عليك إذ ﴿تُبْرِئُ﴾ وتشفي ﴿الْأَكْمَهَ﴾، أي: الأعمى المطموس البصر الذي ولد كذلك ﴿و﴾ تبرىء ﴿الْأَبْرَصَ﴾؛ أي: صاحب البرص، وهو داء معروف يبيض منه الجلد. ﴿بِإِذْنِي﴾ لك، وتسهيله عليك، وتيسيره لك ﴿وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى﴾ من قبورهم أحياء ﴿بِإِذْنِي﴾؛ أي: بفعلي ذلك عند دعائك وقولك للميت: أخرج بإذن الله من قبرك، فيكون ذلك آية لك عظيمة.
وتكرير ﴿بِإِذْنِي﴾ في المواضع الأربعة؛ للاعتناء بأن ذلك كله من جهة الله،
(٢) البحر المحيط.
(٣) البيضاوي.
وقوله: ﴿وَإِذْ كَفَفْتُ﴾ معطوف على ﴿وَإِذْ تُخْرِجُ﴾؛ أي: واذكر نعمتي عليك حين كففت ودفعت وصرفت ﴿بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ﴾؛ أي: اليهود حين أرادوا قتلك، فلم يتمكنوا منه، وقوله: ﴿إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ ظرف لـ ﴿كَفَفْتُ﴾؛ أي: إذ جئتهم بالمعجزات الواضحات الدالة على صدقك؛ أي: بما ذكر هنا، وما لم يذكر؛ كالإخبار بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، وغير ذلك من معجزاته، فـ (ال) فيه للجنس، وذلك أن عيسى عليه السلام لما أتى بهذه المعجزات العجيبة الباهرة.. قصد اليهود قتله، فخلصه منهم ورفعه إلى السماء. ﴿فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: فقال الذين استمروا على كفرهم من اليهود، ولم يؤمنوا بهذه المعجزات: ﴿إِنْ هَذَا﴾؛ أي: ما هذا الذي جاء به عيسى من المعجزات ﴿إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾؛ أي: بين واضح.
وقرأ حمزة والكسائي هنا، وفي هود، والصف، ويونس (٢): ﴿ساحر﴾ بالألف، والإشارة حينئذ إلى عيسى؛ أي: ما هذا الرجل وهو عيسى عليه السلام إلا ساحر ظاهر.
وقرأ ابن عامر وعاصم في يونس فقط بالألف. وقرأ باقي السبعة: ﴿سِحْر﴾ بكسر السين وسكون الحاء؛ أي: ما هذا الذي جاء به عيسى من الخوارق إلا سحر مبين، أو ما هذا؛ أي: عيسى إلا سحر مبين، وهذا على سبيل المبالغة؛ أو على حذف مضاف.
والخلاصة (٣): أنهم لا يعتدون بما جاء على يديه من الآيات وخوارق
(٢) المراح والبحر المحيط.
(٣) المراغي.
١١١ - وقوله: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ﴾ معطوف على ما قبله؛ أي: واذكر نعمتي عليك حين أوحيت إلى الحواريين وألهمتهم، وقذفت في قلوبهم، وقد كذبك جمهور بني إسرائيل، وجعلتهم أنصارًا لك يؤيدون دعوتك وينشرون شريعتك. فالوحي بمعنى الإلهام، وقيل: أمرتهم على ألسنة الرسل من قبلك ﴿أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي﴾؛ أي: أن صدقوا بوحدانيتي في الألوهية، وصدقوا برسالة رسولي عيسى عليه السلام، والحواريون: هم أصحاب عيسى وخواصه ﴿قَالُوا آمَنَّا﴾: جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كأنه قيل: ماذا قالوا؟ فقال: قالوا آمنا؛ أي: قال الحواريون للرب جل جلاله، أو لعيسى: آمنا وصدقنا بوحدانيته تعالى، وبرسالة رسوله عيسى عليه السلام ﴿وَاشْهَدْ﴾ أنت يا رب أو يا عيسى ﴿بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾؛ أي: مخلصون في إيماننا، فأشهدوا الله على أنفسهم أنهم مسلمون؛ أي: مخلصون في إيمانهم، مذعنون لأوامره وتاركون لنواهيه، وإنما قدم (١) ذكر الإيمان على الإِسلام؛ لأن الإيمان من أعمال القلوب، والإِسلام والانقياد والخضوع في الظاهر، والمعنى: أنهم آمنوا بقلوبهم وانقادوا بظواهرهم.
قال أبو حيان في "البحر": وتقدم نظير هذه الجملة في آل عمران إلا أنه هناك قال: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾؛ لأنه تقدم ذكر الله فقط في قوله: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ﴾ وهنا قال: ﴿آمَنَّا﴾، فلم يقيد بلفظ الجلالة؛ إذ قد تقدم ﴿أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي﴾ وقال هناك: ﴿وَاشْهَدْ بِأَنَّا﴾، وهنا قال: ﴿وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا﴾، وهذا هو الأصل؛ إذ ﴿أن﴾ محذوف منه النون لاجتماع الأمثال انتهى.
١١٢ - ثم ذكر الله سبحانه وتعالى كلامًا منقطعًا عما قبله؛ ليبين ما جرى بينه عليه السلام وبين قومه عقب حكاية ما صدر من الحواريين من المقالة المعدودة من
قرأ الجمهور: ﴿يَسْتَطِيعُ﴾ بالياء على الغيبة، ورفع ﴿رَبُّكَ﴾؛ أي: هل يفعل ربك ذلك إن سألته لنا أو سألناه نحن؟ قال ابن الأنباري: ولا (١) يجوز لأحد أن يتوهم أن الحواريين شكُّوا في قدرة الله، وإنما هذا كما يقول الإنسان لصاحبه: هل تستطيع أن تقوم معي؟ وهو يعلم أنه مستطيع، ولكنه يريد: هل يسهل عليك ذلك؟ وقال أبو علي: المعنى: هل يفعل ذلك بمسألتك إياه، وزعم بعضهم أنهم قالوا ذلك قبل استحكام إيمانهم ومعرفتهم، فرد عليهم عيسى بقوله: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ أن تنسبوه إلى عجز، والأول أصح. وفسر (٢) بعضهم الاستطاعة بمعنى: القدرة، وقالوا: إن هذا السؤال لا يصدر عن مؤمن صحيح الإيمان، وأجابوا عن ذلك بعدة أجوبة:
الأول: أن هذا السؤال لأجل اطمئنان القلب بإيمان العيان، لا للشك في قدرة الله على ذلك؛ كما سأل إبراهيم عليه السلام رؤية كيفية إحياء الموتى ليطمئن قلبه بإيمان الشهادة والمعاينة مع إقراره بإيمانه بذلك الغيب.
الثاني: أنه سؤال عن الاستطاعة بحسب الحكمة الإلهية؛ أي: هل ينافي الحكمة الإلهية أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ فإن ما ينافي الحكمة لا يقع، وإن كان مما تتعلق به القدرة؛ كعقاب المحسن على إحسانه، وإثابة الظالم على ظلمه.
الثالث: أن المراد: هل تستطيع سؤال ربك؟
وقرأ الكسائي (٣): ﴿تستطيع﴾ بتاء الخطاب لعيسى، و ﴿رَبُّكَ﴾ بالنصب على التعظيم، بإدغام اللام في التاء، وبه قرأ علي وابن عباس، وسعيد بن جبير،
(٢) المراغي.
(٣) المراح.
﴿قَالَ﴾ لهم عيسى ابن مريم ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ أن تسألوه شيئًا لم تسأله الأمم من قبلكم، وقيل: المعنى: خافوا عقاب الله في أن تقترحوا عليه أمثال هذه المقترحات التي كان سلفكم يقترحها على موسى؛ لئلا تكود فتنة لكم، فإنَّ من شأن المؤمن الصادق أن لا يجرب ربه باقتراح الآيات. وقيل: المعنى: اتقوا الله، وقوموا بما يوجبه الإيمان من العمل والتوكل عليه تعالى عسى أن يوفقكم إلى ذلك. وقيل: المعنى: اتقوا الله في اقتراح معجزة لم يسبق لها مثال بعد تقدم معجزات كثيرة ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ بكمال قدرته تعالى، وبصحة نبوتي، أو إن صدقتم في ادعاء الإيمان والإِسلام.. فإن ذلك مما يوجب التقوى والاجتناب عن أمثال هذه الاقتراحات. وقيل: أمرهم بالتقوى؛ ليصير ذلك ذريعة لحصول المسؤول، كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ انتهى "أبو السعود".
١١٣ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال الحواريون ﴿نُرِيدُ أَنْ نَأكُلَ مِنْهَا﴾ هذا بيان للمسبب الحامل لهم على السؤال؛ أي: لسنا نريد بسؤال المائدة إزالة شبهتنا في قدرته تعالى على تنزيلها، أو في صحة نبوتك حتى يقدح ذلك في الإيمان والتقوى، بل سبب سؤالنا أنا نريد أن نأكل من تلك المائدة أكل تبرك. وقيل: أكل حاجة وتمتع. ﴿وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا﴾؛ أي: تسكن قلوبنا، وتستيقن بكمال قدرة الله تعالى؛ لأنا - وإن علمنا قدرة الله بالدليل - إذا شاهدنا نزول المائدة.. ازداد اليقين، وقويت الطمأنينة بأنك مرسل إلينا من عنده تعالى، أو بأن الله قد أجابنا إلى ما سألناه. وقال (١) ابن عباس: قال لهم عيسى: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يومًا، ثم لا تسألونه شيئًا إلا أعطاكم إياه، فصاموا، ثم سألوا المائدة. ﴿وَنَعْلَمَ﴾ علمًا يقينيًّا ﴿أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا﴾؛ أي: نعلم أنك قد صدقتنا في دعوى النبوة، وفي أن الله يجيب دعوتنا، وفي قولك (٢): أنا إذا صمنا ثلاثين يومًا.. لا نسأل الله
(٢) المراح.
والحاصل: أنهم قالوا: نطلبها لفوائد:
١ - أننا نريد أن نأكل منها؛ لأننا محتاجون إلى الطعام، فإن الجوع قد غلبنا، ولا نجد طعامًا آخر.
٢ - أننا إذا شاهدنا نزولها.. ازداد اليقين وقويت الطمأنينة؛ إذ ينضم علم المشاهدة باللمس والذوق والشم إلى علم السمع منك، وعلم النظر والاستدلال.
٣ - أن نكون من الشاهدين على هذه الآية عند بني إسرائيل الذين لم يحضروها، أو من الشاهدين لله بكمال القدرة، ولك بالرسالة، وبذا يؤمن المستعد للإيمان، ويزداد الذين آمنوا إيمانًا.
وقرأ ابن جبير (١): ﴿وَنَعْلَمَ﴾ بضم النون مبنيًّا للمفعول، وهكذا في كتاب "التحرير والتحبير"، وفي كتاب "ابن عطية" وقرأ سعيد بن جبير: ﴿ويُعلَم﴾ بالياء المضمومة، والضمير عائد على القلوب، وفي كتاب الزمخشري: ﴿ويعلم﴾ بالياء على البناء للمفعول. وقرأ الأعمش: ﴿وتعلم﴾ بالتاء؛ أي: وتعلمه قلوبنا. وقرأ الجمهور ﴿وَنَكُونَ﴾ بالنون، وفي كتاب "التحرير والتحبير" وقرأ سنان وعيسى: ﴿وتكون عليها﴾ بالتاء الفوقانية.
١١٤ - ﴿قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾؛ أي: لما رأى عيسى ابن مريم أن لهم غرضًا صحيحًا في ذلك السؤال.. قام واغتسل ولبس المسح (٢) وصلى ركعتين، فطأطأ رأسه
(٢) المسح - بكسر الميم وسكون السين -: البلاسي بكسر الباء، يجمع على أمساح، والبلاس: ثوب من الشعر غليظ اهـ "تاج العروس".
وقرأ الجمهور (٢): ﴿تَكُونُ لَنَا﴾ على أن الجملة صفة لـ ﴿مَائِدَةً﴾. وقرأ عبد الله والأعمش: ﴿يكن﴾ بالجزم على جواب الأمر، والمعنى: يكن يوم نزولها عيدًا وهو يوم الأحد، ومن أجل ذلك اتخذه النصارى عيدًا كما مرَّ. وقيل: العيد: السرور والفرح، ولذلك يقال: يوم عيد، فالمعنى: يكون لنا سرورًا وفرحًا. وقرأ زيد بن ثابت وابن محيصن والجحدري: ﴿لأُولانا وأُخرانا﴾ أنَّثوا
(٢) البحر المحيط.
١١٥ - فأجاب الله سبحانه وتعالى دعاء عيسى عليه السلام فـ ﴿قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا﴾؛ أي: المائدة المطلوبة لكم ﴿عَلَيْكُمْ﴾ أيها الحواريون، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم: ﴿مُنَزِّلُهَا﴾ مشددأ، وقرأ باقي السبعة مخففًا، والأعمش وطلحة بن مصرف: ﴿إني سأنزلها﴾ بسين الاستقبال؛ أي: وعد الله تعالى عيسى عليه السلام بإنزال المائدة مرة أو مرارًا، لكنه رتب شرطًا على هذا الوعد فقال: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ﴾؛ أي: بعد نزولها ﴿مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا﴾؛ أي: تعذيبًا، كالسلام بمعنى التسليم، والضمير (١) في ﴿لَا أُعَذِّبُهُ﴾، للمصدر، ولو أريد بالعذاب ما يعذب به.. لم يكن بد من الباء؛ أي: إني أعذب من يكفر تعذيبًا لا أعذب مثل ذلك التعذيب ﴿أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: من عالمي زمانهم، أو العالمين مطلقًا، فجحدوا وكفروا بعد نزول المائدة، فمسخوا خنازير، فلم يعذب بمثل ذلك غيرهم، وفي هذا من التهديد والترهيب ما لا يقادر قدره.
والخلاصة (٢): أن من يكفر منكم بعد نزول هذه الآية التي اقترحتموها، وجاءت بطريق لا لبس فيه ولا شك.. فإني أعذبه عذابًا شديدًا لا أعذب مثله أحدًا من سائر كفار العالمين؛ لأن عقاب المخطىء أو الكافر يكون بقدر تأثير الخطيئة أو الكفر في نفسه، والبعد فيه عن الشبهة والعذر، وأيُّ شبهة أو عذر لمن يرى الآيات من رسوله تترى، ثم يقترح آية خاصة تشترك في العلم بها حواسه جميعًا ويتنفع بها في دنياه قبل آخرته، فيعطى ما طلب، ثم ينكص بعد ذلك كله على عقبيه، ويكون من الكافرين؟!
وللعلماء في الطعام الذي نزل في المائدة آراء، فقيل: هو خبز وسمك، وقيل: خبز ولحم، وقيل: كان ينزل عليهم طعامًا أينما ذهبوا؛ كما كان ينزل المن على بني إسرائيل، كما رواه ابن جرير عن ابن عباس.
(٢) المراغي.
الإعراب
﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١٠٩)﴾.
﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ﴾.
﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان، ولكن بمعنى إذا التي للاستقبال متعلق بمحذوف تقديره: اذكر. ﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ بمعنى المضارع؛ لأن هذا القول
وَنَحْوِ زَيْدٍ ضُمَّ وَافْتَحَنَّ مِنْ | نَحْوِ أَزَيْدُ بْنَ سَعِيْدٍ لاَتَهِنْ |
يَا حَكَمُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُوْدْ | أَنْتَ الْجَوادَ بْنُ الْجَوَادِ بْنِ الْجُوْد |
﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ ﴿نِعْمَتِي﴾. ﴿أَيَّدْتُكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الجر بإضافة ﴿إِذْ﴾ إليها. ﴿بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿أَيَّدْتُكَ﴾. ﴿تُكَلِّمُ النَّاسَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿عِيسَى﴾، والجملة في محل النصب حال من الكاف في ﴿أَيَّدْتُكَ﴾. ﴿فِي الْمَهْدِ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿تُكَلِّمُ﴾. ﴿وَكَهْلًا﴾: الواو: عاطفة. ﴿كَهْلًا﴾: معطوف على محل الجار والمجرور قبله على كونه حالًا من فاعل ﴿تُكَلِّمُ﴾، والتقدير: تكلم الناس حالة كونك صغيرًا في زمن المهد، وكبيرًا في زمن الكهولة. ﴿وَإِذْ﴾: والظرف معطوف على الظرف في قوله: ﴿إِذْ أَيَّدْتُكَ﴾ هو على كونه متعلقًا بـ ﴿نِعْمَتِي﴾. ﴿عَلَّمْتُكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول ﴿الْكِتَابَ﴾: مفعول ثان لـ ﴿عَلَّمْتُكَ﴾. ﴿وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾: معطوفات على ﴿الْكِتَابَ﴾، والجملة الفعلية في محل الجر بإضافة ﴿إذ﴾ إليها.
﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو: عاطفة. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى معطوف على ﴿إِذْ أَيَّدْتُكَ﴾. ﴿تَخْلُقُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿عِيسَى﴾، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذ﴾. ﴿مِنَ الطِّينِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَخْلُقُ﴾، أو حال من هيئة الطير على قول من أجاز تقديم حال المجرور عليه، كما ذكره أبو البقاء. ﴿كَهَيْئَةِ﴾: الكاف: اسم بمعنى مثل في محل النصب مفعول ﴿تَخْلُقُ﴾ مبني على الفتح، وهو مضاف. ﴿هيئة﴾: مضاف إليه، وهو مضاف. ﴿الطَّيْرِ﴾: مضاف إليه. ﴿بِإِذْنِي﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَخْلُقُ﴾.
﴿فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي﴾.
﴿فَتَنْفُخُ﴾ هو الفاء: عاطفة. ﴿تنفخ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على
﴿وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو: عاطفة. ﴿إذ﴾: ظرف لما مضى معطوف على قوله: ﴿إِذْ أَيَّدْتُكَ﴾. ﴿كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: فعل وفاعل ومفعول في محل الجر مضاف إليه. لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿عَنْكَ﴾: متعلق بـ ﴿كَفَفْتُ﴾. ﴿إذ﴾: ظرف لما مضى متعلق بـ ﴿كَفَفْتُ﴾. ﴿جِئْتَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾: متعلق بـ ﴿جِئْتَهُمْ﴾. ﴿فَقَالَ﴾: الفاء: عاطفة ﴿قال الذين﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الجر معطوفة على جملة قوله: ﴿جِئْتَهُمْ﴾. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿كَفَرُوا﴾. ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ مقول محكي لـ ﴿قالوا﴾ وإن شئت قلت: ﴿إِن﴾ نافية تعمل عمل ليس، ولكن بطل عملها لانتقاض نفيها بـ ﴿إِلَّا﴾. ﴿هَذَا﴾: مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿سِحْرٌ﴾: خبر. ﴿مُبِينٌ﴾: صفة له، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لـ ﴿قالوا﴾.
﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾.
﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾.
﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى متعلق باذكر المحذوف، والجملة المحذوفة مستأنفة استئنافًا نحويًّا. ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿يَا عِيسَى﴾ إلى آخره مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلتَ: ﴿يَا عِيسَى﴾: منادى مفرد علم. ﴿ابْنَ﴾: صفة له، أو عطف بيان، أو بدل منه. ﴿مَرْيَمَ﴾ مضاف إليه لـ ﴿ابْنَ﴾، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿هَلْ﴾ للاستفهام الاستخباري. ﴿يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة الاستفهامية جواب النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَن﴾: حرف نصب. ﴿يُنَزِّلَ﴾: منصوب به، وفاعله ضمير يعود على الرب. ﴿عَلَيْنَا﴾: متعلق به. ﴿مَائِدَةً﴾: مفعول به. ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ صفة لها، أو متعلق بـ ﴿يُنَزِّلَ﴾، وجملة
﴿قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل، وفاعله ضمير يعود على ﴿عِيسَى﴾، والجملة مستأنفة. ﴿اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلتَ: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿مُؤْمِنِينَ﴾: خبر ﴿كان﴾، وجواب ﴿إِنْ﴾ معلوم مما قبلها تقديره: إن كنتم مؤمنين.. فاتقوا الله، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، ﴿نُرِيدُ أَنْ نَأكُلَ﴾ إلى قوله: ﴿مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالُوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿نُرِيدُ﴾ فعل، والفاعل ضمير مستتر يعود على الحواريين ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر ﴿نَأكُلَ﴾ فعل مضارع منصوب بها، وفاعله ضمير يعود على الحواريين، وجملة ﴿أَنْ﴾ المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: نريد أكلنا منها، وجملة ﴿نُرِيدُ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿مِنْهَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿نَأكُلَ﴾. ﴿وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿نَأكُلَ مِنْهَا﴾. ﴿وَنَعْلَمَ﴾ معطوف أيضًا على ﴿نَأكُلَ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْحَوَارِيُّونَ﴾ ﴿أَن﴾: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن تقديره: أنه. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿صَدَقْتَنَا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لـ ﴿أن﴾ المخففة، وجملة ﴿أَنْ﴾ المخففة في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم؛ تقديره: ونعلم صدقك إيانا حقًّا.
فائدة: وإذا ولي أن المخففة من الثقيلة فعل متصرف؛ فإن كان ماضيًا.. فصل بينهما بـ ﴿قَدْ﴾ نحو قوله تعالى: ﴿وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا﴾، وإن كان
﴿قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾.
﴿قَالَ عِيسَى﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿ابْنُ مَرْيَمَ﴾ صفة لـ ﴿عِيسَى﴾، أو عطف بيان ﴿اللَّهُمَّ رَبَّنَا...﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿اللَّهُمَّ﴾: منادى مفرد علم في محل النصب على النداء مبني على الضم لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا لتضمنه معنى حرف الخطاب، وإنما حرك؛ ليعلم أن له أصلًا في الإعراب، وكانت الحركة ضمة جبرًا لما فاته من الإعراب، والميم المشددة عوض عن حرف النداء مبني على الفتح، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿رَبَّنَا﴾ نداء ثانٍ. ﴿أَنْزِلْ﴾: فعل دعاء سلوكًا مسلك الأدب، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾. ﴿عَلَيْنَا﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿مَائِدَةً﴾: مفعول به. ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: صفة أولى لـ ﴿مَائِدَةً﴾، أو متعلق بـ ﴿أَنْزِلْ﴾، وجملة ﴿أَنْزِلْ﴾ من الفعل والفاعل جواب النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿تَكُونُ﴾: فعل مضارع ناقص، واسمها ضمير يعود على ﴿مَائِدَةً﴾. ﴿لَنَا﴾: جار ومجرور حال من ﴿عِيدًا﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿عِيدًا﴾: خبر ﴿تَكُونُ﴾. ﴿لِأَوَّلِنَا﴾: جار ومجرور بدل من ﴿لَنَا﴾ بدل تفصيل من مجمل. ﴿وَآخِرِنَا﴾ معطوف على ﴿أولنا﴾، وجملة ﴿تَكُونُ﴾ من اسمها وخبرها، في محل النصب صفة ثانية لـ ﴿مَائِدَةً﴾. ﴿وآيةً﴾: معطوف على ﴿عِيدًا﴾. ﴿مِنْكَ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿آية﴾. ﴿وَارْزُقْنَا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَنْزِلْ﴾ على كونها جواب النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَأَنتَ﴾: مبتدأ ﴿خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ خبر مضاف إليه، والجملة الإسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
{قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا
﴿قَالَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا لا محل لها من الإعراب. ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿إنّ﴾ حرف نصب، والياء ضمير المتكلم في محل النصب اسمها. ﴿مُنَزِّلُهَا﴾ خبر ﴿إنّ﴾ ومضاف إليه. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق به، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَمَنْ﴾: الفاء: عاطفة. ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب، أو جملة الشرط، أو هما. ﴿يَكْفُرْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿من﴾، وفاعله ضمير يعود ﴿من﴾. ﴿بَعْدُ﴾: ظرف زمان في محل النصب على الظرفية مبني على الضم لشبهه بالحرف شبهًا افتقاريًّا؛ لافتقاره إلى المضاف إليه المحذوف تقديره: بعد تنزيلها، وإنما حرك؛ ليعلم أن له أصلًا في الإعراب، وكانت الحركة ضمة ﴿مِنْكُمْ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿يَكْفُرْ﴾. ﴿فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ﴾: الفاء: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿إن﴾: حرف نصب، والياء اسمها. ﴿أُعَذِّبُهُ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿عَذَابًا﴾: منصوب على المفعولية المطلقة، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة إن في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قَالَ﴾. ﴿لَا أُعَذِّبُهُ﴾: ﴿لَا﴾: نافية. ﴿أُعَذِّبُهُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللهُ﴾، والهاء: ضمير عائد على المصدر في محل النصب على المفعولية المطلقة. ﴿أَحَدًا﴾: مفعول به. ﴿مِنَ الْعَالَمِينَ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿أَحَدًا﴾، وجملة: ﴿لَا أُعَذِّبُهُ﴾ في محل النصب صفة لـ ﴿عَذَابًا﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ قال الخطابي (١): العلَّام بمنزلة العلم، وبناء فعَّال بناء التكثير. فأما الغيوب: فجمع غيب: وهو ما غاب عنك.
﴿فِي الْمَهْدِ﴾: والمهد: الموضع يهيأ ويوطأ للصبي، يجمع على مهود كفلس وفلوس، ومعنى: ﴿تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ﴾؛ أي: صغيرًا في المهد ﴿وَكَهْلًا﴾؛ أي: كبيرًا في زمن الكهولة. وحكى (١) ثابت بن أبي ثابت: أن الكهل ابن أربعين إلى الخمسين، وقال غيره: ابن ثلاث وثلاثين.
﴿كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ الطير: اسم جنس لطائر، وقال الخليل: الأكمهُ الذي يولد أعمى، وقد يقال لمن تذهب عينه بعد ما كان يبصر.
﴿يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ تقدم (٢) الكلام في اشتقاق هذه المفردات ومعانيها، وابن: صفة لعيسى، نصب لأنه مضاف، وهنا قاعدة كلية مفيدة؛ وذلك أن المنادى المفرد المعرفة الظاهر الضمة إذا وصف بابن أو ابنة، ووقع الابن أو الابنة بين علمين، أو اسمين متفقين في اللفظ، ولم يفصل بين الابن وبين موصوفه بشيء.. تثبت له أحكام، منها: أنه يجوز إتباع المنادى المضموم لحركة نون ابن، فيفتح نحو: يا زيد ابن عمر، ويا هندَ ابنة بكر. بفتح الدال من: زيد وهند، وضمها، فلو كانت الضمة مقدرة مثل ما نحن فيه.. فإن الضمة مقدرة على ألف عيسى، فهل يقدر بنائها على الفتح إتباعًا كما في الضمة الظاهرة؟ فيه خلاف، والجمهور على عدم جوازه؛ إذ لا فائدة في ذلك، فإنه إنما كان للإتباع، وهذا المعنى مفقود في الضمة المقتدرة، وأجاز الفراء ذلك؛ إجراءً للمقدر مجرى
(٢) الفتوحات.
﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ﴾ الوحي في اللغة: الإشارة السريعة الخفية، والإعلام بالشيء بسرعة وخفاء، والمراد به (١) هنا: ما يلقيه الله في نفوس الأحياء من الإلهام، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا﴾، وقوله: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى﴾، وهكذا ألقى الله في قلوب الحواريين الإيمان به وبرسوله عيسى عليه السلام.
﴿مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ المائدة (٢): الخوان عليه طعام، فإن لم يكن عليه طعام.. فليس بمائدة، هذا هو المشهور، إلا أن الراكب قال: المائدة: الطبق الذي عليه الطعام، وتقال أيضًا للطعام، إلا أن هذا مخالف لما عليه المعظم، وهذه المسألة لها نظائر في اللغة، لا يقال للخوان مائدة إلا وعليه الطعام، وإلا فهو خوان، ولا يقال: جراب إلا وهو مدبوغ، وإلا فهو إهاب، ولا يقال: قلم إلا وهو مبري، وإلا فهو أنبوب.
واختلف اللغويون في اشتقاقها، فقال الزجاج: هو من ماد يميد - من باب باع - إذا تحرك، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾، ومنه: ميد البحر، وهو ما يصيب راكبه، فكأنها تميد بما عليها من طعام، قال: وهي فاعلة على الأصل.
وقال أبو عبيد: هي فاعلة بمعنى مفعولة، مشتقة من ماده بمعنى: أعطاه، وامتاده بمعنى: استعطاه، فهي بمعنى: مفعولة كعيشة راضية، وأصلها أنها ميد بها صاحبها؛ أي: أعطيها. والعرب تقول: مادني فلان يميدني: أحسن إلي وأعطاني، وقال أبو بكر الأنباري: سميت مائدة؛ لأنها غياث وعطاء، من قول العرب: ماد فلان فلانًا إذا أحسن إليه اهـ "سمين".
(٢) الفتوحات.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿مَاذَا أُجِبْتُمْ﴾؛ لأن فيه توبيخًا للكفار.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾.
ومنها: التجوز في التعبير عما في المستقبل بلفظ الماضي في قوله: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ﴾؛ لأن هذا القول يقع يوم القيامة إشعارًا بتحقق الوقوع، فأقام الماضي مقام المضارع، و ﴿إذ﴾ مقام إذا التي للمستقبل، فأصل العبارة: إذ يقول الله.
ومنها: التخصيص في قوله: ﴿يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ بعد التعميم في قوله: ﴿فيقول مَاذَا أُجِبْتُمْ﴾ فتخصيص عيسى من بين الرسل لاختلاف طائفتي اليهود
(٢) الجمل.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾، وفي قوله: ﴿فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ﴾، وقوله: ﴿وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾.
ومنها: التفصيل بعد الإجمال في قوله: ﴿إِذْ أَيَّدْتُكَ﴾، وما عطف عليه؛ لأنه تفصيل لقوله: ﴿اذْكُرْ نِعْمَتِي﴾، وفي قوله: ﴿لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا﴾؛ لأنه تفصيل لقوله: ﴿لَنَا﴾.
ومنها: عطف الخاص على العام في قوله: ﴿وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ إشعارًا بمزيد اختصاصه بهما.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ﴾؛ لأنه بمعنى تصور، وفي قوله: ﴿وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى﴾؛ لأنه بمعنى تحيي.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿بِإِذْنِي﴾؛ حيث كرره في أربعة مواضع للإشعار بأن ذلك كله من جهة الله تعالى ليس لعيسى عليه السلام فيه فعل إلا مجرد امتثاله لأمر الله تعالى.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ﴾؛ لأن حق المقام أن يقول: إذ قالوا، لتقدم المرجع.
ومنها: الحذف في مواضع.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿بِإِذْنِي﴾؛ لأنه جاء به أربع مرات عقيب أربع جمل؛ لأن المقام مقام ذكر النعمة والامتنان بها، فناسبه الإسهاب، بخلاف ما مرَّ في آل عمران؛ لأن ما هناك موضع إخبار لبني إسرائيل، فناسبه الإيجاز.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١١٦) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠).
المناسبة
مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه كان الكلام (١) قبل هذه الآيات في تعداد النعم التي أنعم الله بها سبحانه على عيسى، وفي إلهامه للحواريين الإيمان به وبرسوله، وفي طلب الحواريين من عيسى إنزال مائدة من السماء، ثم طلب عيسى من ربه إجابة مطلبهم، وإخبار الله تعالى بأنه أجابهم، ثم لم يزل الكلام في هذه الآيات مع عيسى أيضًا، ففيها سؤال من الله على مرأى من قومه توبيخًا وتقريعًا لهم على افترائهم، وإجابة من عيسى عن ذلك فيها تنصل من ذلك الذنب العظيم الذي اقترفوه بعده، وهو القول بالتثليث، ثم إخبار من الله تعالى بما ينجي الإنسان من عذاب يوم القيامة مع بيان أن ما في السموات والأرض كله مملوك له، وفي قبضته يتصرف فيه بعدله وحكمته، وهو القادر على كل شيء لا شريك له يمنعه إن أعطى، أو يلزمه بالإعطاء إن منع.
التفسير وأوجه القراءة
١١٦ - {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ﴾: معطوف على قوله: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ﴾ عطف قصة على قصة، ﴿وَإِذْ﴾ هو بمعنى: إذا التي للمستقبل؛ لأن ﴿إِذْ﴾ قد تجيء بمعنى: إذا، كقوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا﴾ يعني: إذا فزعوا، وقول أبي النجم:
ثُمَّ جَزَاكَ اللهُ عَنِّي إِذْ جَزَى | جَنَّاتِ عَدْنٍ في السَّمَوَاتِ الْعُلَى |
فإن قلتَ (١): إذا كان عيسى عليه السلام لم يقلها، فما وجه هذا السؤال مع علم الله بأنه لم يقله؟
قلتُ: وجه هذا السؤال: إثبات الحجة على قومه، وإكذاب لهم في ادعائهم ذلك عليه، وأنه أمرهم به، فهو كما يقول القائل لآخر: أفعلت كذا، وهو يعلم أنه لم يفعله، وإنما أراد تعظيم ذلك الفعل، فنفى عيسى عليه السلام عن نفسه هذه المقالة، وقال: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾، فاعترف بالعبودية، وأنه ليس بإله كما زعمت وادعت النصارى فيه.
فإن قلتَ: إن النصارى لم يقولوا بإلهيَّة مريم، فكيف يقول اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟
قلت: إن النصارى لما ادعت في عيسى عليه السلام أنه إله، ورأوا أن مريم ولدته.. لزمهم بهذه المقالة على سبيل التبعية.
ومعنى قوله (٢): ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾؛ أي: متجاوزين بذلك توحيد الله وإفراده بالعبادة، وذلك يكون؛ إما باتخاذ إله أو أكثر مع الله تعالى، وهو الشرك؛ إذ
(٢) المراغي.
وقَلَّ أن يوجد من المشركين من يتخذ إلهًا غير الله متجاوزًا بعبادته الإيمان بالله الذي هو خالق الكون ومدبره، فالإيمان الفطري الذي غرس في نفوس البشر يرشد إلى أن تدبير الكون كله صادر عن قوة غيبية لا يدرك كنهها أحد، فالموحدون أتباع الأنبياء يتوجهون بعباداتهم إلى رب هذه السلطة الغيبية وحده اعتقادًا منهم أنه هو الفاعل الكامل التصرف، وإن نسب الفعل إلى غيره.. فبإقدار الله إياه، وتسخيره له بمقتضى سننه في خلقه، والمشركون يتوجهون إليه تارة وإلى بعض ما يعظمون من خلقه تارة أخرى؛ كالشمس والنجوم والملائكة وبعض مخلوقات أخرى، ويتوجهون أحيانًا إليهما معًا، فيجعلون تلك المخلوقات المعظمة وسيلة إلى خالق الأكوان ومدبر الكائنات.
والخلاصة: أن اتخاذ إله من دون الله يراد به عبادة غيره، سواء أكانت خالصة لذلك الغير، أو شركة بينه وبين غيره، وقد نعى الله تعالى عليهم اتخاذ المسيح إلهًا في مواضع عديدة من هذه السورة، وعبادة أمه كانت معروفة في الكنائس الشرقية والغربية، أنكرت عبادتها فرقة إصلاح المسيحية التي جاءت بعد الإِسلام بزمن طويل. وهذه العبادة منها ما هو صلاة ذات دعاء وثناء على المعبود، ومنها ما هو استغاثة واستشفاع، ومنها ما هو صيام ينسب إليها ويسمى بصيام العذراء، وكل أولئك يقترن بخشوع وخضوع لذكرها ولصورها وتماثيلها واعتقاد السلطة الغيبية لها وأنها تنفع وتضر في الدنيا والآخرة؛ إما بنفسها أو بواسطة ابنها، ويسمونها: والدة الإله.
﴿قَالَ﴾ عيسى عليه السلام، وقد ارتعدت مفاصله، وارتعش جسمه من سماع هذا الخطاب؛ أعني قوله: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾؛ أي: قال مجيبًا لله سبحانه وتعالى هذا الخطاب ﴿سُبْحَانَكَ﴾ من أن يكون لك شريك؛ أي: تنزيهًا لك عن النقائص وبراءة لك من العيوب؛ إذ لا شبهة في ألوهيتك وأنت منزه عن الشرك فضلًا أن يتخذ إلهان دونك، والمعنى: أنزهك يا إلهي تنزيهًا لائقًا بك عن أن يكون معك إله آخر، فضلًا عن أن أقول ذلك، وبهذا أثبت له التنزيه عن المشاركة في الذات والصفات.
ثم انتقل من هذا إلى تبرئة نفسه العالمة بالحق عن قول ما ليس بحق، فقال: ﴿مَا يَكُونُ لِي﴾؛ أي: ما ينبغي لي ﴿أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾؛ أي: أن أقول قولًا لا يحق لي أن أقوله؛ أي: كيف أقول هذا الكلام ولست بأهل له، ولست أستحق العبادة حتى أدعو الناس إليها؛ أي: ليس من شأني ولا مما يصح أن يقع مني أن أقول قولًا لا حق لي أن أقوله؛ لأنك أيدتني بالعصمة عن مثل هذا القول الباطل. وهو بتنزيهه الله أولًا أثبت أن ذلك القول الذي نُسب إليه قول لا شائبة فيه من الحق، وليس من شأنه ولا مما يقع من مثله، وقد أكد هذا النفي مرة أخرى بحجة أخرى ارتقى فيها من برهان راجع إلى نفسه - وهو عصمته عليه السلام - إلى برهان أعلى راجع إلى ربه علام الغيوب فقال: ﴿إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ﴾؛ أي: إن صح أني قلته لهم فيما مضى ﴿فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾ وهذا مبالغة في الأدب في إظهار الذل في حضرة ذي الجلال، وتفويض الأمور بالكلية إلى الكبير المتعالي. والمعنى: إني لا أحتاج إلى الاعتذار؛ لأنك تعلم أني لم أقله، ولو قلته.. لعلمته لأنك ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي﴾؛ أي: ذاتي ﴿وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾؛ أي: ذاتك، فنفس (١) الشيء: ذاته وهويته، والمعنى: تعلم معلومي ولا أعلم معلومك، وقيل: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي﴾؛ أي: ما كان مني لهم من الأمر والنهي {وَلَا أَعْلَمُ مَا
واعلم: أنهم اختلفوا في إطلاق النفس على الله تعالى، فقيل: لا يجوز إطلاقها عليه إلا في مقام المشاكلة، والحق أنه يجوز إطلاق النفس على الله من غير مشاكلة؛ إذ ورد إطلاقها في غير المشاكلة قال تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ ذكره الصاوي.
والمعنى: أن ذلك القول إن كان قد صدر مني.. فقد علمته؛ إذ علمك واسع محيط بكل شيء، فأنت تعلم ما أسره وأخفيه في نفسي، فكيف لا تعلم ما أظهرته ودعوت إليه وعلمه مني غيري، كما أني لا أعلم ما تخفيه من علومك الذاتية التي لم ترشدني إليها بالكسب والاستدلال، لكني أعلم ما تظهره لي بالوحي بواسطة ملائكتك المقربين إليك ﴿إِنَّكَ﴾ يا إلهي ﴿أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾؛ أي: إنك أنت العالم بالخفايا عن العباد؛ لأنك أنت المحيط بالعلوم الغيبية وحدك، ما كان منها وما سيكون وما هو كائن، وعلم غيرك مستمد من فيضك لا من ذاته، فهو إما أن يناله بواسطة المشاعر والحواس أو العقل، وإما أن يتلقاه هبة منك بالوحي والإلهام. فقوله: ﴿عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ (١) يدل بمنطوقه على أنه تعالى يعلم الغيب، فيكون مقررًا لقوله: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي﴾، ويدل بمفهومه على أنه لا يعلم الغيب غيره، فيكون مقررًا لقوله: ﴿وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ ودل بتصدير الجملة بـ ﴿إنّ﴾، وتوسط ضمير الفصل، وبناء المبالغة، والجمع المعرف باللام أن شيئًا لا يعزب عن علمه ألبتة كما هو مقرر في محله.
١١٧ - وبعد تنزيه ربه وتبرئة نفسه وإقامة البراهين على ذلك.. بيَّن حقيقة ما قاله لقومه؛ إذ الشهادة عليهم لا تكون تامة كاملة إلا بإثبات ما يجب أن يكونوا عليه من أمر التوحيد بعد نفي ضده، فقال: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ﴾؛ أي: ما قلت لهم إلا قولًا أمرتني به. وقوله: ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ عطف (٢) بيان للضمير في ﴿بِهِ﴾، أو بدل منه، وليس من شرط البدل جواز طرح المبدل
(٢) البيضاوي.
والخلاصة: أني ما قلت لهم في شأن الإيمان وأساس الدين إلا ما أمرتني بالتزامه اعتقادًا وتبليغًا لهم بأنك ربي وربهم، وأنني عبد من عبادك مثلهم إلا أنك خصصتني بالرسالة إليهم.
﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾؛ أي: وكنت قائمًا عليهم مراقبًا لهم أراقبهم وأمنعهم أن يقولوا ذلك ويعتقدوه، أو مشاهدًا لأحوالهم من كفر وإيمان، أشهد على ما يقولون وما يفعلون، فأُقر الحق وأُنكر الباطل ﴿مَا دُمْتُ فِيهِمْ﴾؛ أي: مدة دوامي ووجودي بينهم ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي﴾؛ أي: رفعتني من بينهم إلى السماء، فالمراد: وفاة الرفع لا وفاة الموت، وقال الحسن: الوفاة: وفاة الموت، ووفاة النوم، ووفاة الرفع. ﴿كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: كنت أنت الحفيظ عليهم المراقب لأعمالهم وأحوالهم ﴿وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ دوني؛ لأني إنما شهدت من أعمالهم ما عملوه وأنا بين أظهرهم، وأنت تشهد على كل شيء؛ إذ لا يخفى عليك شيء، فالرقيب: الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء، والشهيد: العالم الذي لا يعزب عن علمه شيء، وفي هذا إيماء إلى أن الله سبحانه وتعالى إنما عرّفه بقوله: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ﴾ أفعال القوم ومقالتهم بعد ما قبضه إليه. وقد تقدَّم في هذه السورة ما يثبت براءة عيسى عليه السلام من مثل هذه المقالة، وذلك قوله: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (٧٢)﴾.
١١٨ - ثم فوَّض عليه السلام أمر الجزاء إليه تعالى فقال: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ﴾؛ أي: إن
قيل: قاله على وجه الاستعطاف كما يُستطعف السيد لعبده، ولهذا لم يقل: إن تعذبهم فإنهم عصوك، وقيل: قاله على وجه التسليم لأمر الله والانقياد له، ولهذا عدل عن الغفور الرحيم إلى العزيز الحكيم، ذكره "الشوكاني".
والمعنى: إن تعذب من أرسلتني إليهم فبلغتُهم ما أمرتني به من توحيدك وعبادتك، فضلَّ منهم من ضل، وقالوا ما لم أقله، واهتدى منهم من اهتدى فلم يعبدوا معك سواك.. فإنهم عبادك وأنت الرحيم بهم، ولست أنا ولا غيري من الخلق بأرحم بهم منك، وإنما تجزيهم بحسب علمك بما يظهرون وما يبطنون، فأنت العلم بالمؤمن المخلص في إيمانه، وبمن أشرك بك غيرك، أو بمن أطاعك وبمن عصاك، وأنت عالم الغيب والشهادة تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، وإن تغفر.. فإنما تغفر لمن يستحق المغفرة، وإنك أنت العزيز الغالب على أمره، الحكيم في تصرفه وصنعه، فيضع كل جزاء وكل فعل في موضعه.
وخلاصة المعنى: أنك إن تعذب.. فإنما تعذب من يستحق التعذيب، وإن تغفر.. فإنما تغفر لمن هو أهل لذلك، ومهما توقعه فيهم من عذاب.. فلا دافع له من دونك، ومهما تمنحهم من مغفرة.. فلا يستطيع أحد حرمانهم منها بحوله وقوته؛ لأنك أنت العزيز الذي يغلب ولا يغلب، ويمنع من شاء ما شاء ولا يُمنع، وأنت الحكيم الذي يضع كل شيء موضعه، فلا يمكن أحدًا غيرك أن يرجعك عنه.
ومن هذا تعلم أن كلام عيسى عليه السلام لا يتضمن شيئًا من الشفاعة
وما رواه البخاري عن ابن عباس أن النبي - ﷺ - قال: "ألا وإنه يجاء برجال من أمتي يوم القيامة، فيؤخذ بهم ذات اليمين وذات الشمال، فأقول: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿الْحَكِيمُ﴾ قال: فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم".
وما رواه أحمد والنسائي وابن مردويه: أنه - ﷺ - قام بهذه الآية: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ...﴾ الآية، حتى أصبح، يركع بها ويسجد، فسأله أبو ذر عن ذلك فقال: "إني سألت ربي الشفاعة فأعطانيها، وهي نائلة إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئًا".
فهذه الأحاديث صريحة في أن الشفاعة لا ينالها أحد يشرك بالله شيئًا.
١١٩ - قوله: ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ...﴾ كلام مستأنف ختم به حكاية ما حكى مما يقع يوم يسأل الله الرسل عليهم السلام؛ أي: قال الله سبحانه وتعالى: هذا اليوم - يعني: يوم القيامة - هو ﴿يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾؛ أي: إن هذا اليوم هو اليوم الذي ينفع فيه الصادقين صدقهم في الدنيا في إيمانهم، وفي شهاداتهم وفي سائر أقوالهم وأحوالهم. والمعنى: إن صدقهم في الدنيا ينفعهم في الآخرة؛ لأنه يوم الإثابة والجزاء، وما تقدم من صدقهم في الدنيا يتبين نفعه يوم القيامة، والمراد بالصادقين: النبيون والمؤمنون؛ لأن الكفار لا ينفعهم صدقهم يوم القيامة.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿هَذَا يَوْمُ﴾ بالرفع على أن ﴿هَذَا﴾ مبتدأ و ﴿يَوْمُ﴾ خبره، والجملة محكية بـ ﴿قال﴾، وهي في موضع المفعول به لـ ﴿قال﴾. وقرأ نافع: ﴿هذا يومَ﴾ - بفتح الميم - وخرجه الكوفيون على أنه مبني خبر لـ ﴿هذا﴾، وبني لإضافته إلى الجملة الفعلية، وهم لا يشترطون كون الفعل مبنيًّا في بناء الظرف المضاف إلى الجملة، فعلى قولهم تتحد القراءتان في المعنى. وعند البصريين هو معرب لا مبني، منصوب على أنه ظرف لـ ﴿قال﴾. وقرأ الأعمش: ﴿يومًا ينفع﴾ - بالتنوين - كقوله: ﴿واتقوا يوما لا تجزئ﴾. وقرأ الحسن بن عياش الشامي: ﴿هذا يومٌ﴾ بالرفع والتنوين. وقرأ الجمهور ﴿صدقُهم﴾ بالرفع فاعل ينفع وقرىء بالنصب وخرج على أنه مفعول له أي لصدقهم، ثم بين الله تعالى ذلك النفع بذكر ما لهم من الثواب على صدقهم فقال: ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: للصادقين في الآخرة على صدقهم في الدنيا ﴿جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾؛ أي: بساتين تسيل من تحت أشجارها الأنهار الأربعة ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾؛ أي: حالة كونهم مقدرين الخلود والمكث الطويل في تلك الجنات ﴿أبدًا﴾؛ أي: مدة لا نهاية لها ولا انقضاء، وتقدم لك الفرق بين الخلود والأبد فلا عود ولا إعادة. ﴿رَضِيَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَنْهُمْ﴾؛ أي: عن الصادقين في الآخرة بما عملوه في الدنيا من الطاعات الخالصة، ومعنى رضا الرب سبحانه عن عبده: قبول عمله منه وإثابته عليه. ﴿وَرَضُوا عَنْهُ﴾؛ أي: ورضي الصادقون عن الله سبحانه وتعالى بما جازاهم به مما لا يخطر لهم على بال، ولا تتصوره عقولهم، والرضا منه سبحانه هو أرفع درجات النعيم، وأعلى منازل الكرامة، وهذا المذكور هو غاية السعادة الأبدية؛
(٢) البحر المحيط.
والإشارة بـ ﴿ذَلِكَ﴾ في قوله: ﴿ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ إلى نيل ما نالوه من دخول الجنة والخلود فيها أبدًا ورضوان الله عنهم والفوز والظفر بالمطلوب على أتم الأحوال. وقيل (١): الإشارة إلى رضوان الله؛ أي: ذلك الرضوان هو الفوز العظيم، فالجنة بما فيها بالنسبة إلى رضوان الله كالعدم بالنسبة إلى الوجود، وكيف لا، والجنة مرغوب الشهوة، والرضوان صفة الحق، وأيُّ مناسبة بينهما؟ والمعنى: ذلك الفوز العظيم؛ أي: ذلك (٢) الذي ذكر من النعيمين الجسماني والروحاني اللذين يحصلون عليهما بعد النجاة من أهوال يوم القيامة هو الفوز البالغ النهاية؛ لأن الفوز هو الظفر بالمطلوب مع النجاة من ضده أو مما يحول دونه، كما قال تعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾.
١٢٠ - وبعد أن بيَّن ما لأهل الصدق عنده من الجزاء الحق في مقعد الصدق.. بيَّن عقبه سعة ملكه وعموم قدرته الدالين على كون ذلك الجزاء لا يقدر عليه غيره تعالى فقال: ﴿لِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى لا لغيره ﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: سلطنة السموات السبع والأرضين السبعة ﴿وَمَا فِيهِنَّ﴾؛ أي: وسلطنة ما في السموات والأرض فاحمدوا الذي خلق السموات والأرض ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ شاءه ﴿قَدِيرٌ﴾؛ أي: قادر؛ أي: أن كل ما سوى الله تعالى من الكائنات والأجساد والأرواح ممكن لذاته، موجود بإيجاده تعالى، وإذا كان الله موجودًا.. كان مالكًا له، وإذا كان مالكًا له.. كان له تعالى أن يتصرف في الكل بالأمر والنهي والثواب والعقاب كيف أراد، فصح التكليف على أي وجه أراده تعالى، وكان الله مالك الملك، فله بحكم المالكية أن ينسخ شرع موسى ويضع موضعه شرع محمد - ﷺ -، فبطل قول اليهود بعدم نسخ شرع موسى، ثم إن مريم وعيسى داخلان فيما سوى الله، فهما كائنان بتكوين الله تعالى، فثبت كونهما
(٢) المراغي.
وعبارة "الفتوحات" هنا: قوله ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...﴾ الآية، هذا (١) تحقيق للحق وتنبيه على كذب النصارى وفساد ما زعموا في حق المسيح وأمه؛ أي: له تعالى خاصة ملك السموات والأرض وما فيهما من العقلاء وغيرهم، يتصرف فيها كيف يشاء إيجادًا وإعدامًا وإحياءً وإماتةً وأمرًا ونهيًا من غير أن يكون لشيء من الأشياء مدخل في ذلك. اهـ "أبو السعود". وأتى (٢) بـ ﴿ما﴾ دون ﴿من﴾ تغليبًا لغير العقلاء على العقلاء؛ لأن غير العقلاء هم الأكثر المناسب لمقام إظهار العظمة والكبرياء، وكون الكل في ملكوته وتحت قدرته لا يصلح شيء منها للألوهية سواه، فيكون تنبيهًا على قصورهم عن رتبة الربوبية انتهى "كرخي".
والحاصل (٣): أن الملك كله والقدرة كلها لله وحده، وفي قوله: ﴿وَمَا فِيهِنَّ﴾ تعريض بأن المسيح وأمه اللذين عبدا من دون الله داخلان تحت قبضته تعالى، إذ الملك والقدرة له وحده، فلا ينبغي لأحد أن يتكل على شفاعتهما. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾، وغاية ما أعطاهم الكرامة لديه، والمنزلة الرفيعة من بين عباده. ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩)﴾.
خاتمة: في بيان بعض ما تضمنته هذه السورة من التشريع والأحكام الاعتقادية والعملية:
(٢) الفتوحات.
(٣) المراغي.
١ - بيان أن الله أكمل لعباده هذا الدين الذي ارتضى لهم، وأن دين الله واحد وإن اختلفت شرائع الأنبياء ومناهجهم، وأن هذا الدين مبني على العلم اليقيني في الاعتقاد، والهداية في الأخلاق والأعمال، وأن التقليد فيه باطل لا يقبله الله، وأن أصول الدين الإلهي على ألسنة الرسل كلهم هي الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، فمن أقامها كما أمرت الرسل من أيِّ ملة كاليهود والنصارى، والصابئين، فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
٢ - بيان عموم بعثة النبي - ﷺ -، وأمره بالتبليغ العام، وأنه لا يكلف إلا التبليغ فقط، ومن حجج رسالته أنه بيَّن لأهل الكتاب كثيرًا مما كانوا يخفون من كتبهم مما ضاع قبل بعثة النبي - ﷺ -، ومما كانوا يكتمونه من الأحكام اتباعًا لأهوائهم، وأن هذا الرسول قد عصمه الله وحفظه من أن يضره أحذ أو يصده عن تبليغ رسالة ربه، وأننا نهينا عن سؤاله عن أشياء من شأنها أن تسوء المؤمنين إذا أبديت لهم لما فيها من زيادة التكاليف.
٣ - بيان أن الله أوجب على المؤمنين إصلاح أنفسهم أفرادًا وجماعات، وأنه لا يضرهم من ضل إذا هم استقاموا على صراط الهداية، فهو لا يضرهم لا في دنيا ولا دين، ومن ذلك الوفاء بالعقود التي يتعاقدون عليها في جميع المعاملات الدنيوية، وتحريم الاعتداء على قوم بسبب بغضهم وعداوتهم، والتعاون على البر والتقوى كتأليف الجماعات العلمية والخيرية، وتحريم التعاون على الإثم والعدوان، وتحريم موالاة المؤمنين للكافرين، وبيان أن ذلك من آيات النفاق.
٤ - تفصيل أحكام الطعام حلالِه وحرامه، وبيان أن التحريم منه؛ إما ذاتي كالميتة وما في معناها، وإما لسبب ديني كالذي يذبح للأصنام، وبيان أن الضرورات تبيح المحظورات.
٥ - تحريم الخمر وكل مسكر، والميسر وهو القمار وما في حكمه؛
٦ - وجوب الشهادة بالقسط، والحكم بالعدل، والمساواة بين غير المسلمين والمسلمين ولو للأعداء على الأصدقاء، وتأكيد وجوب ذلك في سائر الأحكام.
٧ - بيان تفويض أمر الجزاء في الآخرة إلى الله وحده، وأن النافع في ذلك اليوم هو الصدق، وكان مسك ختامها ذكر الجزاء في الآخرة بما يناسب أحكامها كلها.
وقد روى أحمد والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي عن جبير بن نفير قال: حججت، فدخلت على عائشة فقالت: يا جبير تقرأ المائدة، قلت: نعم، فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه. وروى أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن عبد الله بن عمر قال: آخر سورة نزلت سورة المائدة والفتح.
الإعراب
﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو: عاطفة، أو استئنافية. ﴿إذ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره: اذكره، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ﴾، أو مستأنفة. ﴿قَالَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾. ﴿يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ إلى قوله: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قال﴾، وإن شئت قلت: ﴿يَا عِيسَى﴾: منادى مفرد العلم. ﴿ابْنَ﴾: صفة له. ﴿مَرْيَمَ﴾: مضاف إليه، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَأَنْتَ﴾: الهمزة للاستفهام التوبيخي. ﴿أنت﴾: مبتدأ. ﴿قُلْتَ﴾: فعل وفاعل. ﴿لِلنَّاسِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل
﴿قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿عيسى﴾، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿سُبْحَانَكَ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿سُبْحَانَكَ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا تقديره: أسبحك سبحانًا، والجملة المحذوفة في محل النصب مفعول ﴿قَالَ﴾. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿يَكُونُ﴾: فعل مضارع ناقص. ﴿لِي﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿يَكُونُ﴾. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿أَقُولَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أن﴾، وفاعله ضمير يعود على عيسى، وجملة ﴿أَقُولَ﴾ صلة ﴿أَنْ﴾ المصدرية، ﴿أَنْ﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم ﴿يَكُونُ﴾ تقديره: ما يكون قول ما ليس لي بحق كائنًا لي، وجملة ﴿يَكُونُ﴾ من اسمها وخبرها في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿أَقُولَ﴾؛ لأنه بمعنى: اذكر. ﴿لَيْسَ﴾: فعل ماضٍ ناقص واسمها ضمير يعود على ﴿مَا﴾ ﴿لِي﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف تقديره: أي، فاللام فيه للتبيين كـ (لام): سَقْيًا لك. ﴿بِحَقٍّ﴾: جار ومجرور خبر ﴿لَيْسَ﴾، والتقدير: ما ليس كائنًا بحق لي؛ أي: بلائق بي، وجملة ﴿لَيْسَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ هو، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير ﴿لَيْسَ﴾. وقال أبو البقاء (١): اسم ﴿لَيْسَ﴾ ضمير مستتر فيها، وخبرها ﴿لِي﴾ وهو ﴿بِحَقٍّ﴾ في موضع الحال من الضمير في الجار، ويجوز أن يكون ﴿بِحَقٍّ﴾ مفعولًا به تقديره: ما ليس يثبت لي بسبب
﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾.
﴿تَعْلَمُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول أول لـ ﴿تَعْلَمُ﴾، والثاني محذوف تقديره: منطويًا وثابتًا. ﴿فِي نَفْسِي﴾: جار ومجرور صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها. ﴿وَلَا﴾: الواو: عاطفة. ﴿لَا﴾: نافية ﴿أَعْلَمُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿عيسى﴾، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿تَعْلَمُ﴾. ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول به لـ ﴿أَعْلَمُ﴾؛ لأن علم هنا بمعنى: عرف ﴿فِي نَفْسِكَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها. ﴿إِنَّكَ﴾ ﴿إن﴾؛ حرف نصب، والكاف: اسمها. و ﴿أَنْتَ﴾: تأكيد. ﴿عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾: خبرها ومضاف إليه، وجملة
(٢) الصاوي بتصرف.
﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ﴾.
﴿مَا﴾: نافية. ﴿قُلْتُ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور متعلق به ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به لـ ﴿قُلْتُ﴾؛ لأنه بمعنى: ذكرت. ﴿أَمَرْتَنِي﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أمر﴾، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير ﴿بِهِ﴾.
فائدة: حيث (١) وقعت ما قبل ليس، أو لم، أو: لا، أو: بعد إلا، فهي موصولة نحو: ﴿مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾، ﴿مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾، ﴿مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، ﴿إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾، وحيث وقعت بعد كاف التشبيه فهي مصدرية نحو: قل كما قال زيد، وحيث وقعت بعد الباء. فإنها تحتملهما نحو: ﴿بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ﴾، وحيث وقعت بين فعلين سابقهما علم أو دراية أو نظر.. احتملت الموصولية والاستفهامية نحو: ﴿مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾، ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾، ﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾، وحيث وقعت في القرآن قبل إلا.. فهي نافية، إلا في ثلاثة عشر موضعًا: ﴿مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأتِينَ﴾، ﴿مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾، ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾، ﴿وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا﴾، ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ إلا موضعي هود من قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾ فهي فيهما مصدرية ﴿فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأكُلُونَ﴾، ﴿يَأكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ﴾، ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾، ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾، حيث كان قاله في "الإتقان" اهـ "كرخي".
﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾.
﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾.
﴿وَكُنْتُ﴾: فعل ناقص واسمه ﴿عَلَيْهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿شَهِيدًا﴾. ﴿شَهِيدًا﴾: خبر ﴿كان﴾، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ﴾ على كونها مقول القول، أو في محل النصب حال من فاعل ﴿قُلْتُ﴾. ﴿مَا﴾: مصدرية ظرفية. ﴿دُمْتُ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿فِيهِمْ﴾: جار ومجرور خبر دام، وجملة دام صلة ﴿مَا﴾ المصدرية، ﴿مَا﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف المقدر إليه تقديره: مدة دوامي فيهم، والظرف المقدر متعلق بـ ﴿كان﴾. ﴿فَلَمَّا﴾: الفاء: عاطفة. ﴿مَّا﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿تَوَفَّيْتَنِي﴾: فعل وفاعل ونون وقاية ومفعول، والجملة الفعلية فعل شرط ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿كُنْتَ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿أَنْتَ﴾: تأكيد لاسم ﴿كان﴾. ﴿الرَّقِيبَ﴾: خبر ﴿كان﴾. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿الرَّقِيبَ﴾، وجملة ﴿كان﴾ جواب ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لما﴾ معطوفة على جملة قوله: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قال﴾. ﴿وَأَنْتَ﴾: مبتدأ. ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿شَهِيدٌ﴾. ﴿شَهِيدٌ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب حال من تاء ﴿كُنْتَ﴾.
﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)﴾.
﴿إِنْ﴾: حرف شرط. ﴿تُعَذِّبْهُمْ﴾: فعل ومفعول مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية،
﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾.
﴿قَالَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ﴾ إلى قوله: ﴿ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿هَذَا﴾: مبتدأ. ﴿يَوْمُ﴾: خبر مرفوع؛ لأنه مضاف إلى معرب فبقي على حقه من الإعراب. ويقرأ بالنصب، ويقال في إعرابه: ﴿يومَ﴾: منصوب على الظرفية، والظرف متعلق بمحذوف خبر المبتدأ تقديره: هذا واقع يوم ينفع هذا على مذهب البصريين وعند الكوفيين ﴿يومَ﴾ في محل النصب على الظرفية مبني على الفتح لشبهه بالحرف شبهًا افتقاريًّا؛ لافتقاره إلى الجملة المضاف إليها، وعندهم يجوز بناؤه، وإن أضيف إلى فعل معرب، وأما عند البصريين فلا يبنى إلا إذا أضيف إلى فعل مبني. ﴿يَنْفَعُ﴾ فعل مضارع. ﴿الصَّادِقِينَ﴾: مفعول به. ﴿صِدْقُهُمْ﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يوم﴾، والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾.
﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.
﴿رَضِيَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل. ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَرَضُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَنْهُ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿رَضِيَ﴾. ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿الْفَوْزُ﴾: خبر. ﴿الْعَظِيمُ﴾: صفة لـ ﴿فوز﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)﴾.
﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ﴾: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿وَمَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل الجر معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ وهو مبتدأ ﴿فِيهِنَّ﴾: جار ومجرور متعلقان بخبر محذوف تقديره: كائن ﴿وَهُوَ﴾: مبتدأ. ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿قَدِيرٌ﴾. ﴿قَدِيرٌ﴾: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة، والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ﴾: اتخذ (١) من باب افتعل ثلاثيه: تُخِذ يتخذ من باب علم يعلم بمعنى: أخذ، فأدغمت إحدى التائين في الأخرى. قال ابن الأثير: وليس من الأخذ في شيء، فإن الافتعال من الأخذ ائتخذ؛ لأن فاءه همزة، والهمزة لا تدغم في التاء خلافًا لقول الجوهري: الاتخاذ افتعال من الأخذ إلا
﴿قَالَ سُبْحَانَكَ﴾ وسبحان مصدر لسبح سبحانًا كغفر غفرانًا، ولا يكاد يستعمل إلا مضافًا منصوبًا بإضمار فعله كمعاذ الله، وتصدير الكلام به اعتذار عما نسبت النصارى إليه، والمعنى: تنزيهًا لك عن أن يكون معك إله سواك.
﴿مَا دُمْتُ فِيهِمْ﴾: دمت بوزن قلت؛ لأنه من دام يدوم، فهو أجوف واوي كقال، أصله: دوم من باب فعل المفتوح تحركت (١) الواو وانفتح ما قبلها فقلت ألفًا، فصار: دام كقال، فلما اتصل بتاء الضمير.. سكن آخر الفعل، فالتقى ساكنان؛ وهما الألف المنقلبة عن عين الكلمة وآخر الفعل، فحذفت الألف للتخلص من التقاء الساكنين، فصار: دمت، فجهل وزنه هل هو من باب فعل المفتوح أو المكسور أو المضموم؟ وجهل عينه هل هي واو أو ياء قبل انقلابها ألفًا؟ فروعي جانب التنبيه على العين المحذوفة، فأعطي حركة مجانسة لعينه، فصار: دمت بضم الدال، فعرف أن عينه واو من هذا الضم؛ لأنه حركة مجانسة للواو ويعرف كونه من باب فعل المفتوح من مصدره واسم فاعله؛ لأنه يقال فيه: دوام ودائم كما قال ابن مالك في لامية الأفعال:
وَانْقُلْ لِفَاءِ الثلاَثِيِّ شَكْلَ عَيْنٍ إِذَا اعـ | ـتلَّتْ وَكَانَ بِتَا الإِضْمَارِ مُتَّصِلًا |
أَوْ نُوْنِهِ وإِذَا فَتْحًا يَكُوْنُ فَعَنْـ | ـهُ اعْتَضْ مُجَانِسَ تِلْكَ الْعَيْنِ مُنْتَقِلاَ |
﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي﴾ توفي من باب تفعل الخماسي، ويستعمل التوفي في أخذ الشيء وافيًا؛ أي: كاملًا، والموت نوع منه قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ وليس المراد هنا الموت، بل المراد الرفع إلى السماء.
﴿كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ﴾ والرقيب فعيل بمعنى فاعل؛ أي: المراقب الحافظ
﴿فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ هما (١) فعيل بمعنى فاعل، وفيهما من المبالغة ما ليس فيه، والحكمة لغة: الإتقان والمنع من الخروج عن الإرادة، ومنه: حكمة الدابة، والحكيم: صفة ذات إن فسر بذي الحكمة، وصفة فعل إن فسر بأنه المحكم لصنعته اهـ "سمين".
﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾: ﴿رَضِيَ﴾ من باب فعل المكسور رضًا بكسر أوله مصدر سماعي له، والقياس فتح أوله، ولكنه لم يسمع كما قال ابن مالك في خلاصته:
وَمَا أَتَى مُخَالِفًا لِمَا مَضَى | فَبَابُهُ النَّقْلُ كَسُخْطٍ وَرِضَا |
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التجوز في استعمال: ﴿إذ﴾ بمعنى: إذا، والماضي بعده بمعنى المستقبل في قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ﴾؛ لأن هذا القول إنما يقع في يوم القيامة.
ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ﴾؛ لأنه توبيخ لقومه وتبكيت لهم على رؤس الأشهاد.
ومنها: المشاكلة والمقابلة في قوله: ﴿وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾؛ لأنه أتى بقوله: ﴿مَا فِي نَفْسِكَ﴾ على جهة المقابلة والمشاكلة لقوله: ﴿مَا فِي نَفْسِي﴾ فهو كقوله: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ وكقوله: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾.
ومنها: جمع المؤكَّدات في قوله: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾؛ لأنه أكد هذه
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾، وفي قوله: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾. وفي قوله: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ﴾، وقوله: ﴿وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ﴾، وفي قوله: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾.
ومنها: المجاز اللغوي في قوله: ﴿يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾ لما فيه من الإسناد إلى السبب.
ومنها: الحذف في عدة مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
وكان الفراغ من مسودة هذه السورة في تاريخ: ١٩/ ٨/ ١٤٠٩ من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية يوم الأحد قبيل الظهر، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
سورة الأنعام مكية إلا ست آيات أو ثماني آيات أو تسع آيات، فإنها مدنيات: ٢٠/ ٢٣/ ٩١/ ٩٣/ ١١٤/ ١٤١/ ١٥١/ ١٥٢/ ١٥٣/، وهي وقوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ إلى آخر الثلاث آيات. وقوله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾، وقوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ﴾ إلى آخر الآيتين، وذكر مقاتل نحو هذا، وزاد آيتين وهما: قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ الآية، فجملتها ثمان آيات. وقد روى كثير من المحدثين من غير واحد من الصحابة والتابعين أن هذه السورة نزلت جملة واحدة إلا هذه الآيات.
وهي مئة وخمس وستون آية: (١٦٥)، وعدد كلماتها ثلاثة آلاف واثنتان وخمسون كلمة: (٣٠٥٢)، وعدد حروفها اثنا عشر ألفًا وأربع مئة واثنان وعشرون حرفًا: (١٢٤٢٢). وقال القرطبي: هي مكية إلا آيتين هما ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف اليهوديين، وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ﴾ نزلت في ثابت بن قيس بن شماس.
مناسبة هذه السورة لما قبلها: الناظر (١) في ترتيب السور كلها في المصحف يرى أنه قد روعي في ترتيبها الطول والتوسط والقصر في الجملة؛ ليكون ذلك أعون على التلاوة، وأسهل في الحفظ، فالناس يبدؤون بقراءته من أوله، فيكون الانتقال من السبع الطوال إلى المئتين، فالمثاني، فالمفصل أنفى للمَلَل، وأدعى للنشاط، ويبدؤون بحفظه من آخره؛ لأنه أسهل على الأطفال، ولأنه قد روعي
ووجه مناسبتها لآخر سورة المائدة من وجوه عدة:
١ - أن معظم سورة المائدة في محاجة أهل الكتاب، ومعظم سورة الأنعام في محاجة المشركين والملحدة.
٢ - أن سورة الأنعام قد ذكرت فيها أحكام الأطعمة المحرمة والذبائح بالإجمال، وذكرت في المائدة بالتفصيل وهي قد نزلت أخيرًا.
٣ - أن هذه افتتحت بالحمد، وتلك اختتمت بفصل القضاء، وبينهما تلازم كما قال: ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
التسمية: وسميت سورة الأنعام؛ لورود ذكر الأنعام فيها: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا﴾، ولأن أكثر أحكامها الموضحة لجهالات المشركين تقربًا بها إلى أصنامهم مذكورة فيها.
ومن خصائصها: ما أخرجه (١) أبو عبيد وابن المنذر والطبري وابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت سورة الأنعام بمكة ليلًا جملة، وحولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح، وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفًا من الملائكة. وأخرج ابن مردويه عن أسماء: نزلت سورة الأنعام على النبي - ﷺ - وهو في مسير في زجل من الملائكة وقد نظموا ما بين السماء والأرض. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله - ﷺ -: "أنزلت عليَّ سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك، لهم زجل بالتسبيح والتحميد".
وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو الشيخ والبيهقي في "الشعب" عن أنس قال: قال رسول الله - ﷺ -: "نزلت سورة الأنعام ومعها موكب من الملائكة يسد ما
وأخرج الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، والإسماعيلي في "معجمه" والبيهقي عن جابر قال: لما نزلت سورة الأنعام.. سبح رسول الله - ﷺ - ثم قال: لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق.
وأخرج البيهقي وضعفه والخطيب في "تاريخه" عن علي بن أبي طالب قال: أنزل القرآن خمسًا خمسًا، ومن حفظه خمسًا خمسًا لم ينسه إلا سورة الأنعام فإنها نزلت جملة يشيعها من كل سماء سبعون ملكًا حتى أدوها إلى النبي - ﷺ -، ما قرئت على عليل إلا شفاه الله.
وأخرج السلفي بسند واهٍ عن ابن عباس مرفوعًا: من قرأ إذا صلى الغداة ثلاث آيات من أول سورة الأنعام إلى قوله: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾.. نزل إليه أربعون ألف ملك يكتب له مثل أعمالهم، ونزل إليه ملك من فوق سبع سموات ومعه مرزبة من حديد، فإن أوحى الشيطان في قلبه شيئًا من الشر.. ضربه ضربة حتى يكون بينه وبينه سبعون حجابًا، فإذا كان يوم القيامة.. قال الله تعالى: "أنا ربك وأنت عبدي، امش في ظلي، واشرب من الكوثر، واغتسل من السلسلبيل، وادخل الجنة بغير حساب ولا عذاب".
وأخرج الديلمي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من صلى الفجر في جماعة وقعد في مصلاه وقرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام.. وكل الله به سبعين ملكًا يسبحون الله ويستغفرون له إلى يوم القيامة".
وفي فضائل هذه السورة: روايات عن جماعة من التابعين مرفوعة وغير مرفوعة:
قال القرطبي: قال العلماء: هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين، ومن كذب بالبعث والنشور، وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة؛ لأنها في معنى واحد من الحجة، وإن تصرّف ذلك بوجوه كثيرة، وعليها بنى
تنبيه (١): قال بعض العلماء: اختصت هذه السورة بنوعين من الفضيلة:
أحدهما: أنها نزلت دفعة واحدة.
والثاني: أنه شيعها سبعون ألفًا من الملائكة، والسبب في ذلك: أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين.
الناسخ والمنسوخ: قال أبو عبد الله محمد بن حزم رحمه الله تعالى في كتابه "الناسخ والمنسوخ من القرآن": سورة الأنعام تحتوي على أربع عشرة آية منسوخة:
أولاهن: قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥)﴾ الآية (١٥) مكية فهي منسوخة، وناسخها قوله تعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ الآية (٢) مدنية من سورة الفتح.
والثانية والثالثة: قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ الآية (٦٨/ ٨٩) مكية نسخت بقوله تعالى في سورة النساء: ﴿فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ الآية (١٤٠) مدنية.
والرابعة: قوله تعالى: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا﴾ الآية (٧٠) مكية يعني به اليهود والنصارى، نسخت بقوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ الآية (٢٩) من سورة التوبة.
والخامسة: قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ الآية (٩١) مكية نسخت بآية السيف.
والسادسة: قوله تعالى: {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ
والسابعة: قوله تعالى: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ الآية (١٠٦) مكية نسخت بآية السيف.
والثامنة: قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ الآية (١٠٧) مكية، نسخت بآية السيف.
والتاسعة: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ الآية (١٠٨) مكية، نسخت بآية السيف.
والعاشرة والحادية عشرة: قوله تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ الآية (١١٢/ ١٣٧) مكية، نسخت بآية السيف.
والثانية عشرة: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ﴾ الآية (١٢١) مكية، نسخت بقوله تعالى في سورة المائدة: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ يعني: الذبائح آية (٥).
والثالثة عشرة: قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾ آية (١٣٥) مكية نسخت بآية السيف.
والرابعة عشرة: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا﴾ آية (١٥٩) مكية نسخت بآية السيف.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (٣) وَمَا تَأتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١)﴾.المناسبة
مناسبة افتتاح هذه السورة لآخر المائدة (١): أنه تعالى لما ذكر ما قالته النصارى في عيسى وأمه من كونهما إلهين من دون الله، وجرت تلك المحاورة، وذكر ثواب ما للصادقين، وأعقب ذلك بأن له ملك السموات والأرض وما فيهن، وأنه قادر على كل شيء.. ذكر بأن الحمد المستغرق جميع المحامد له، فلا يمكن أن يوجد معه شريك في الإلهية فيحمد، ثم نبه على العلة المقتضية لجميع المحامد والمقتضية كون ملك السموات والأرض وما فيهن له بوصف خلق السموات والأرض؛ لأن الموجد للشيء المنفرد باختراعه له الاستيلاء والسلطنة عليه، ولما قدم قولهم في عيسى وكفرهم بذلك، وذَكَر الصادقين وجزاءهم.. أعقب خلق السموات والأرض بجعل الظلمات والنور، فكان ذلك مناسبًا للكافر والصادق.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (٢): أن الله سبحانه وتعالى لما أرشد في الآيات المتقدمة إلى ما دعا إليه الرسول - ﷺ - من التوحيد والبعث، ثم ذكر بعدها الأسباب التي دعت قريشًا إلى التكذيب، وأنذرهم عاقبة هذا التكذيب بما يحل بهم من عذاب الله في الدنيا والآخرة، وأنه لا يحول دونه ما هم فيه من قوة وضعف الرسول - ﷺ -، وتمكنهم في مكة وهي أم القرى، وأهلها القدوة والسادة بين العرب.. ذكر هنا شبهات أولئك الجاحدين المعاندين على الوحي وبعثة الرسول، وبها تم بيان أسباب جحودهم وإنكارهم لأصول الدين الثلاثة: التوحيد، والبعث، ونبوة محمد - ﷺ -.
وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (٣): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر فيما سلف مقترحاتهم على النبي - ﷺ -، وأنهم تارة يطلبون إنزال ملك مع الرسول - ﷺ -، وأخرى يطلبون إنزال ملك بالرسالة، وكان مبنى هذه المقالة الاستهزاء، وكان قلب الرسول يضيق بها ذرعًا
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.