تفسير سورة المائدة

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

سُوْرَةُ المَائِدَةِ
مدنيةٌ، ورُويَ أنها نزلَتْ مُنْصَرَفَ رسولِ اللهِ - ﷺ - من الحُدَيبيةِ، وآيُها مئةٌ وعشرونَ آيةً، وحروفُها أحدَ عشرَ ألفًا وسبعُ مئةٍ وثلاثةٌ وثلاثون حرفًا، وكَلِمُها ألفانِ وثماني مئةٍ وأربعُ كلمات. وعن رسولِ اللهِ - ﷺ - أنه قال: "سُورَةُ المَائِدَةِ تُدْعى فِي مَلَكُوتِ اللهِ: المُنْقِذَةَ؛ تُنْقِذُ صَاحِبَهَا مِنْ أَيْدِي مَلاَئِكَةِ الْعَذَابِ" (١).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (١)﴾.
[١] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ أي: العهودِ المحكمةِ، ويقال: وَفَى وأَوْفى بمعنىً واحدٍ، وهذا عامٌّ في كل واجبٍ من أمرٍ ونهيٍ وحفظِ وديعةٍ؛ أي: احفظوا شريعتَهُ (٢)، ولفظُ المؤمنين يعمُّ مؤمني أهلِ الكتابِ بينَهم وبينَ اللهِ عقدٌ في أداءِ الأمانةِ فيما في كتبهم من أمرِ
(١) ذكره القرطبي في "تفسيره" (٦/ ٣٠) دون عزو.
(٢) "أي: احفظوا شريعته" زيادة من "ظ".
242
محمدٍ - ﷺ -، ثم خاطبَ كلَّ من التزمَ الإيمانَ على وَجْهِهِ وكمالِهِ، فقال:
﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ وهي الإبلُ والبقرُ والغنمُ، [وأرادَ تحليلَ ما حرمَ أهلُ الجاهليةِ على أنفسِهم من الأنعامِ] (١)، وسميتْ بهيمةً؛ لإبهامِها من جهة نقصِ نطقِها وفهمها، وعدمِ مَيْزِها (٢) وعقلها، وقال ابنُ عباسٍ، وعبدُ اللهِ بنُ عمرَ: "بهيمةُ الأنعامِ الأَجِنَّةُ في البطنِ إذا ذُبِحَتْ أُمهاتُها" (٣)، قال القرطبيُّ (٤): وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قالَ: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ وليسَ في الأجنةِ ما يُستثنى.
واختلفَ الأئمةُ في الجنينِ الذي يوجَدُ في بطنِ أُمه مَيْتًا إذا ذُكِّيَتْ، هل تكونُ ذكاتُها ذكاةً لجنينِها، ويحلُّ أكلهُ؟ فقالَ أبو حنيفةَ: لا يحلُّ أكلُه، وقالَ صاحباه: إذا تمَّ خلقُه، حَلَّ أكلُه، وقال مالكٌ: إذا لمَّ خلقُهُ، ونبتَ شعرُه، أُكِلَ، وإلا فلا، وقالَ الشافعيُّ وأحمدُ: يحلُّ أكلُه، سواءٌ نبتَ شعرُه أو لم ينبتْ، واستحبَّ أحمدُ ذبحَهُ، فإنْ خرجَ وفيه حياةٌ مستقرَّة، لم يُبحْ إلا بذبْحه، بالاتفاق.
﴿إِلَّا مَا يُتْلَى﴾ أي: يُقْرَأُ.
﴿عَلَيْكُمْ﴾ تحريمُهُ في قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ [المائدة: ٣] استثناءً من بهيمةِ الأنعامِ.
﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ ومعنى الآية: أُحلَّتْ لكمُ الأنعامُ كلُّها إلا ما كانَ
(١) ما بين معكوفتين سقط من "ت".
(٢) في "ن": "تميزها".
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٦٣٠)، و"تفسير القرطبي" (٦/ ٣٤).
(٤) انظر: "تفسير القرطبي" (٦/ ٣٤).
243
وحشيًّا؛ فإنه صيدٌ لا يحلُّ لكم في حالِ الإحرامِ، فذلكَ قولُه:
﴿وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ أي: ما كانَ صيدًا، فهو حلالٌ في الإحلالِ دونَ الإحرام، وما لم يكنْ صيدًا، فهو حلالٌ في الحالينِ.
﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ من تحليلٍ وتحريمٍ، لا دافعَ لمرادِهِ.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢)﴾.
[٢] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ﴾ جمعُ شَعيرةٍ، وهي العلامةُ، والمرادُ: مناسكُ الحجِّ، وكان المشركون يحجُّون ويُهْدون، فأرادَ المسلمونَ أن يُغيروا عليهم، فنهاهمُ اللهُ عن ذلك.
واختلفَ العلماءُ في إشعارِ الهَدْيِ، فقال الشافعيُّ وأحمدُ: يُسَنُّ إشعارُه بشَقِّ صفحةِ سنامِه اليُمْنى، أو موضعِه ممَّا لا سنامَ لهُ من إبلٍ وبقرٍ حتى يسيلَ الدمُ، وقالَ مالكٌ: في الجانبِ الأيسرِ من السنامِ في الإبلِ، وكذلك في البقرِ إنْ كان لها أسنمةٌ، فإن لم تكنْ لها أسنمةٌ، لم تشعَرْ، ومنعَ من هذا كلِّه أبو حنيفةَ، وقالَ: إنه تعذيبٌ للحيوان.
﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ اسمٌ مفردٌ يدلُّ على الجنسِ في الأشهُرِ الحرم، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرَّمُ، ورجَبٌ؛ أي: لا تُحِلُّوا القتالَ فيها.
244
﴿وَلَا الْهَدْيَ﴾ بنحرِه قبلَ محلِّهِ، وهو كلُّ ما يُهدى إلى الحرمِ من نَعَمٍ وغيرِها.
﴿وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ أي: ذواتَ (١) القلائدِ من الهَدْيِ، جمعُ قِلادة، وهي ما قُلِّدَ بالهَدْيِ من نعلٍ (٢) أو غيرِه؛ كآذانِ القُرَبِ والحبلِ ونحوِ ذلك؛ ليعلمَ به (٣) أنَّه هديٌ، فلا يُتَعَرَّضُ له.
واختلفَ الأئمةُ في تقليدِ الغنمِ، فقال الشافعيُّ وأحمدُ: تُقَلَّدُ، ومنعَ الشافعيُّ من تقليدِها بالنعلِ، وأباحَهُ أحمدُ، وقالَ أبو حنيفةَ ومالكٌ: لا تُقَلَّدُ الغنمُ، واتفقوا على تقليدِ ما عدا الغنمِ بالنعلِ (٤) وغيرِه.
﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ أي: قاصديهِ.
﴿يَبْتَغُونَ﴾ يطلبونَ.
﴿فَضْلًا﴾ رزقًا بالتجارةِ.
﴿مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ بزعمِهم؛ لأن الكافرَ لا نصيبَ له في الرضوان، فلا تتعرضوا إليهم. قرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ: (ورُضْوانًا) بضمِّ الراء، والباقون: بالكسر (٥)، وكلُّ ما في هذهِ الآيةِ من نهيٍ عن مُشركٍ، أو مراعاةِ حرمةٍ (٦) له بقلادةٍ، أو أمِّ البيتِ الحرامِ ونحوه، فكلُّه منسوخٌ بآية السيف بقوله:
(١) في "ت": "ذات".
(٢) في "ن": "فعلِ".
(٣) "به" ساقطة من "ت".
(٤) في "ن": "بالفعل".
(٥) تقدمت عند تفسير الآية (١٥) من آل عمران.
(٦) "حرمة" ساقطة من "ن".
245
﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥]، وبقوله: ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: ٢٨].
﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ﴾ من إحرامكم.
﴿فَاصْطَادُوا﴾ أمرُ إباحةٍ (١)؛ كقوله: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ [الجمعة: ١٠].
﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ يَحْمِلَنَّكمْ.
﴿شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ بُغْضُهُم. قرأ ابنُ عامرٍ، وأبو بكرٍ، وأبو جعفرٍ بخلافٍ عنهُ: (شَنْآنُ) بإسكانِ النونِ الأولى، وهما لغتانِ، والفتحُ أجودُ، وبه قرأ الباقون (٢).
﴿أَنْ صَدُّوكُمْ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو: بكسر الهمزةِ شرطًا، فيكون (صَدُّوكُمْ) مستقبلًا معنًى؛ لأنَّ الشرطَ حقُّه الاستقبالُ، والصدُّ كانَ عامَ الحديبيةِ سنةَ ستٍّ، ونزلت الآية عامَ الفتحِ سنةَ ثمانٍ من الهجرةِ، فتقديرُه: إن يقعْ منهم صدُّكم (٣) فيما يُستقبل مثلما مضى منهم، فلا تعتدوا عليهم، وقرأ الباقون: بفتح الهمزة (٤)؛ أي: لأجل صدِّهِمْ إياكُمْ.
﴿عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ واختارَ ابنُ عطيةَ، وتبعَهُ القرطبيُّ أن القراءةَ
(١) في "ت": "بإباحة".
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٢)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٨)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٣٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٣ - ٢٥٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٩٠ - ١٩١).
(٣) في "ن": "صد".
(٤) انظر: المصادر السابقة.
246
بالفتحِ أمكنُ في المعنى؛ لأن الآيةَ نزلتْ بعدَ الصدِّ (١).
﴿أَنْ تَعْتَدُوا﴾ عليهم بالقتلِ وأخذِ الأموالِ.
﴿وَتَعَاوَنُوا﴾ أي: لِيُعِنْ بعضُكم بعضًا.
﴿عَلَى الْبِرِّ﴾ اتِّباعِ الأمرِ.
﴿وَالتَّقْوَى﴾ اجتنابِ النهيِ.
﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ﴾ الكفرِ.
﴿وَالْعُدْوَانِ﴾ الظلمِ.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ فانتقامُه أشدُّ. قرأ البزيُّ عن ابنِ كثيرٍ: (وَلاَ تَّعَاوَنُوا) بتشديد التاء حالةَ الوصلِ (٢). ثم قالَ تعالى محرِّمًا ما كانوا يُحلُّونه وهو بيان قوله: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾.
﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)﴾.
(١) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٢/ ١٥٠)، و"تفسير القرطبي" (٦/ ٤٦).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٨٣)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٠٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٩١).
247
[٣] ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ وهي ما فارقه الرُّوحُ من غيرِ تذكيةٍ. قرأ أبو جعفرٍ: (الْمَيِّتَةُ) بالتشديد، والباقون: بالتخفيفِ، والكسائيُّ يُميل التاءَ حيثُ وقفَ على هاء التأنيث (١).
﴿وَالدَّمُ﴾ أي: المسفوحُ، وكان أهلُ الجاهلية يصبونه في الأمعاء، ويشوونها.
﴿وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ أي: ما ذُكر على ذبحِهِ اسمُ غيرِ اللهِ سبحانه؛ كقولِ: باسمِ اللَّاتِ والعُزَّى.
﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ التي تُخْنَقُ. ورُويَ عن أبي جعفرٍ: (وَالْمُنخَنِقَةُ) بإخفاءِ النونِ عند الخاء، ورُوي عنهُ الإظهارُ كبقية القراءِ، وهو أشهرُ (٢)، وتقدَّم ذكرُ مذهبِه في ذلك مستوفًى في سورةِ النساءِ عندَ تفسيرِ قولِه تعالى: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا﴾ [النساء: ١٣٥].
﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾ المقتولةُ بالخشبِ. قرأ الكسائيُّ: (وَالْمَوْقُوذَةُ) بإمالةِ الذالِ حيثُ وقفَ على هاءِ التأنيث (٣).
﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾ الساقطةُ من عُلُو فتموتُ.
﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾ التي تنطَحُها أُخرى فتموتُ.
(١) كما تقدم عنهم مرارًا.
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٩٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٩١).
(٣) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٩٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٩٢).
248
﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾ أي: بعضَه.
﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ إلا ما أدركتُم ذَكاتَه وفيه حياةٌ مستقرَّةٌ.
﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ وهي حجارةٌ كانتْ منصوبةً حولَ البيتِ يعبدُها الجاهليةُ، ويذبحون عندَها، ويعدُّونَ ذلكَ قربةً.
﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا﴾ تطلبوا القسمَ والحكمَ.
﴿بِالْأَزْلَامِ﴾ جمعُ زَلَمٍ بضمِّ الزاي وفتحِها، وهي القِداحُ التي لا ريشَ لها ولا نصلَ، وذلكَ أنهم إذا قصدوا فعلًا، ضربوا ثلاثةَ قداحٍ مكتوب على أحدِها: أَمَرني ربي، وعلى الآخر: نهاني، والثالثُ: غُفْلٌ، فإن خرجَ الآمرُ، مَضَوا على ذلك، وإن خرجَ الناهي، تجنبوا عنه، وإن خرج الغفلُ، أجالوها ثانيًا، فمعنى الاستقسام: طلبُ معرفةِ ما قُسِمَ لهم دونَ ما لم يقسمْ بالأزلام.
﴿ذَلِكُمْ﴾ أي: المحرَّماتُ في الآية، أو الاستقسامُ.
﴿فِسْقٌ﴾ قال - ﷺ -: "مَنْ تَكَهَّنَّ أَوِ اسْتَقْسَمَ، أَوْ تَطَيَّرَ طيرَةً يَرُدُّهُ عَنْ سَفَرِهِ، لَمْ يَنْظُرْ إِلَى الدَّرَجَاتِ العُلاَ مِنَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ" (١).
﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ﴾ أي: من إبطالِه ورجوعِكم عنه.
﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ﴾ أن يظهروا عليكم.
(١) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (٢٦٦٣)، وفي "مسند الشاميين" (٢١٠٣)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (٥/ ١٧٤)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (٥/ ٢٠١)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (١١٧٧)، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه-.
249
﴿وَاخْشَوْنِ﴾ أَخْلِصوا الخشيةَ لي. قرأ يعقوبُ: (وَاخْشَوْنِي) بإثباتِ الياءِ حالةَ الوقفِ (١).
﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ بإتمامِ عِزِّهِ وظُهورِه ونصرِه: نزلتْ يومَ الجمعةِ يومَ عرفةَ بعدَ العصرِ في حجَّةِ الوداعِ، والنبيُّ - ﷺ - واقفٌ بعرفاتٍ على ناقتِهِ العَضْباءِ، فكادَتْ عَضُدُ الناقةِ تَندقُّ مِنْ ثِقَلِها (٢)، فبركَتْ، قال ابنُ عباسٍ: "لَمْ ينزلْ بعدَ هذهِ الآيةِ حلالٌ ولا حرامٌ" (٣).
﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ بالهدايةِ والتوفيقِ، وبدخولِ مكةَ آمنينَ، ومنعِ المشركينَ من دخولِ الحَرمِ بعدَ العام.
﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ﴾ اخترتُه لكم.
﴿دِينًا﴾ من بينِ الأديانِ، وهو الدينُ عندَ اللهِ لا غيرُ، قال ابنُ عباسٍ: "كانَ ذلكَ اليومَ خمسةُ أعيادٍ: جمعةٌ، وعرفةُ، وعيدُ اليهودِ، والنصارى، والمجوسِ، ولم تجتمعْ أعيادُ أهلِ (٤) المللِ في يوم قبلَه ولا بعدَه" (٥).
ولما نزلتْ هذه الآيةُ، بكى عمرُ رضي الله عنه، فقال له (٦) النبيُّ - ﷺ -: "مَا يُبْكِيكَ؟ " فقال: "كُنَّا في زيادةٍ من دينِنا، وأَمَّا إذا كَمُلَ؛ فإنَّه لا يكمُل
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٩٨) و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٩٣).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٦٣٦).
(٣) رواه الطبري في "تفسيره" (٦/ ٧٩)، عن السدي.
(٤) "أهل" ساقطة من "ن".
(٥) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٦٣٦).
(٦) "له" ساقطة من "ت".
250
شيءٌ إلا نَقَصَ" فقال: "صَدَقْتَ" (١)، وعاشَ بعدَها - ﷺ - أحدًا وثمانين يومًا، وتُوفي يومَ الاثنين بعدَما زاغتِ الشمسُ لليلتين خَلَتا من ربيعٍ الأولِ (٢)، وقال ابنُ الجوزيِّ: لاثنتي عشرةَ ليلةً خلَتْ منه سنة إحدى عشرةَ من الهجرةِ (٣).
﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ متصلٌ بذكرِ المحرَّمات، وما بينهما اعتراضٌ مؤكِّدٌ معنى التحريم. قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (فَمَنُ اضْطُرَّ) بضم النون، وأبو جعفرٍ: بكسر الطاء (٤)، والمعنى: فمن اضطرَّ إلى تناولِ شيء من هذهِ المحرمات.
﴿فِي مَخْمَصَةٍ﴾ مجاعةٍ.
﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ﴾ مائلٍ.
﴿لِإِثْمٍ﴾ وهو الأكلُ فوقَ الشبع.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ لهُ ما أتى عندَ اضطراره.
﴿رَحِيمٌ﴾ لا يؤاخذُه بأكلِه. وتقدَّمَ اختلافُ الأئمةِ الأربعةِ في جوازِ أكلِ الميتةِ عندَ الضرورةِ، وقدرِ ما يجوز أكلُه في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ قولِه تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ
(١) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (٣٤٤٠٨)، والطبري في "تفسيره" (٦/ ٨٠)، والخطيب في "موضح أوهام الجمع والتفريق" (٢/ ٥٣٣).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٦٣٧).
(٣) انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (٢/ ٢٨٧).
(٤) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٠٠)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٩٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٩٣).
251
اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الآية: ١٧٣].
﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٤)﴾.
[٤] ولما تلا عليهم ما حُرِّمَ عليهم، سألَ عديُّ بنُ حاتمٍ وزيدُ بنُ مهلهِلٍ وهو زيدُ الخيلِ الذي سماهُ رسولُ الله - ﷺ - زيدَ الخير، قالا: "يا رسولَ الله! إنا قومٌ نصيدُ بالكلابِ والبُزاةِ، وإنَّ الكلابَ تأخذُ البقرَ والحمرُ والظباء، فمنه ما ندركُ ذَكاتَهُ، ومنه ما تقتلُه، فلا ندركُ ذَكاتَهُ، وقد حرَّمَ اللهُ الميتةَ فماذا يحلُّ لنا منها" (١) فنزل قولُه تعالى:
﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا﴾ مبتدأ ﴿أُحِلَّ لَهُمْ﴾ خبرُه.
﴿قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾ هي الذبائحُ على اسمِ اللهِ تعالى.
﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ﴾ أي: أُحِلَّ لكم صيدُ الذي علَّمْتُم.
﴿مِنَ الْجَوَارِحِ﴾ الصوائدِ من سباعِ البهائمِ والطيرِ؛ كالكلبِ، والفهدِ، والنَّمِرِ، والبازيِّ، والصَّقْر، والشاهينِ، والعُقابِ.
﴿مُكَلِّبِينَ﴾ مُرْسِلي الكلابِ على الصيدِ، والمُكَلِّبُ: مؤدِّبُ الجوارحِ ومُضْرِيها بالصيدِ.
(١) رواه الإمام أحمد في "المسند" (٤/ ٢٥٧). وانظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٠٥).
252
﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ﴾ أي: تؤدِّبونَ الكلابَ.
﴿مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾ من تأديبِ الكلابِ للصيدِ.
﴿فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ المعنى: إن الجارحةَ إذا خرجَتْ بإرسالِ صاحِبها، فقتلتِ الصيدَ، كانَ حلالًا إذا كانتْ معلَّمَةً، والمعلَّمَةُ: هي التي إذا أُرسلت، استرسلَتْ، وإذا زُجرت، انزجرتْ، وإذا أمسكَتْ، لم تأكلْ، فإذا وُجدَ ذلكَ منها، فهي معلَّمَةٌ، وبه قالَ أبو حنيفةَ والشافعيُّ وأحمدُ، وقال مالكٌ: لا يُشترط تركُ الأكل إذا كانَ معلَّمًا، فيحلُّ أكلُ ما صادَهُ، وإن أكلَ منهُ الكلبُ والبازي.
واختلفَ مشترطو تركِ الأكلِ في حدِّ التعليم، فقالَ أبو حنيفةَ: لا تأقيتَ فيه، فمتى قالَ أهلُ الخبرة: هذا معلَّمٌ، حَكَمْنا بكونه معلَّمًا، وقال الشافعيُّ: إذا تكررَ ذلكَ منها مرارًا؛ بحيث يظَنُّ تأدُّبُ الجارحةِ، كانت معلَّمَةً، وقال أحمدُ: لا يُشترطُ التكرار، فإذا أمسكَ ولم يأكلْ، صارَ معلَّمًا. واختلفوا في جوازِ الاصطيادِ بالكلبِ الأسودِ البهيمِ، وهو ما لا بياضَ فيه، فمنع منه أحمدُ؛ لقوله - ﷺ -: "الْكَلْبُ الأَسْوَدُ شَيْطَانٌ" (١)،
وأجازه الثلاثةُ، وأباحوا أكلَ ما قَتَل.
واختلف أيضًا مشترطو تركِ الأكلِ في ذي المخلبِ؛ كالبازي والصقرِ ونحوهما، هل يُشترطُ فيها تركُ الأكل كالكلبِ والفهدِ؟ فقال الشافعيُّ: يُشترطُ، وقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: لا يُشترطُ.
واختلفوا في اشتراطِ الجرحِ في الصيدِ، فقال الثلاثةُ: لا بدَّ أن يجرح،
(١) رواه مسلم (٥١٠)، كتاب: الصلاة، باب: قدر ما يستر المصلي، عن أبي ذر -رضي الله عنه-.
253
فإن قتلتْهُ الجارحةُ بصدمته أو خنقِه، لم يُبَحْ، وقال الشافعيُّ: إذا تحاملَتْ عليه فقتلَتْه بثقلِها، حَلَّ.
﴿وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ أي: سَمُّوا عليه عندَ إرساله.
واختلفَ الأئمةُ في التسميةِ عندَ إرسالِ الكلبِ، أو الرميِ بالسهمِ، فقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: إنْ تركَ التسميةَ عندَ إرسالِه أو رميِه على الصيدِ عامدًا، لم يجزْ أكلُه، وإن تركَها ناسيًا، جازَ، وكذا الحكمُ عندَهما في التسمية عندَ الذبح، وقال الشافعيُّ: يحلُّ الأكلُ، سواءٌ تركَها عامدًا أو ناسيًا في الصيدِ والذبحِ؛ لأن التسميةَ عندَه سُنَّةٌ، وقال أحمدُ: إنْ تركَ التسميةَ في الصيدِ عمدًا أو سهوًا، لم يُبَحْ، والحكمُ عندَه في الذبحِ كأبي حنيفةَ ومالكٍ.
ويُشترطُ في الذابحِ والصائدِ أن يكونَ مسلِمًا أو كتابيًّا، فلا يحلُّ صيدُ مجوسيٍّ، ولا وثنيٍّ، ولا مرتدٍّ، ولا ذبائحُهم، بالاتفاق، والشافعيُّ يشترطُ أن يكونَ الكتابيُّ ممن تحلُّ مناكحَتُهُ، وهو أن يُعْلَمَ دخولُ قومِه في دينِ اليهوديةِ أو النصرانيةِ قبلَ نسخِه وتحريفِه.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ في محرَّماتِهِ.
﴿إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ وهو أخذُكُم بما جَلَّ ودَقَّ.
﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٥)﴾.
254
[٥] ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾ أعادَهُ تأكيدًا؛ أي: الطيباتُ التي سألتُم عنها.
﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ همُ اليهودُ والنصارى، ومن دخلَ في دينهم قبلَ مبعثِ النبيِّ - ﷺ -.
﴿حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ﴾ أي: يحلُّ لكم طعامُهم وإطعامُهم.
﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ، تقديره: حِلٌّ لكمْ.
﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ وإن كُنَّ حربياتٍ، فيباحُ نكاحُ حرائرِ أهلِ الكتابِ بالاتفاق، والشافعيُّ على أصلِه كما تقدَّم قريبًا في حكمِ الصيد والذبحِ من الاشتراطِ في الكتابيِّ.
﴿إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ مهورَهُنَّ.
﴿مُحْصِنِينَ﴾ أَعِفَّاءَ (١).
﴿غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ مُجاهِرينَ بالزنا.
﴿وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾ جمعُ خِدْنٍ، وهو الصديقُ، يطلق على الذكر والأنثى؛ أي: ولا مُسِرِّينَ بالزنا، وتقدمَ في سورةِ النساءِ اختلافُ الأئمةِ في نكاحِ الأمةِ الكتابيةِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: ﴿فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ [الآية: ٢٥].
﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ﴾ أي: يُنكرْ شرائعَ الإسلامِ.
﴿فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ إن ماتْ عليه.
﴿وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ للثوابِ.
(١) "أعفاء" ساقطة من "ن".
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)﴾.
[٦] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ﴾ أي: أردتم القيامَ.
﴿إِلَى الصَّلَاةِ﴾ كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ [النحل: ٩٨]؛ أي: إذا أردتَ القراءةَ، وظاهرُ الآيةِ يوجبُ الوضوءَ على كُلِّ قائم إلى الصلاةِ، وإن لم يكنْ مُحْدِثًا، والإجماعُ على خلافِه، لأن المرادَ: إذاَ قمتُم إلى الصلاةِ وأنتم على غيرِ طهر (١)؛ بدليلِ أَنَّ النبيَّ - ﷺ - صلَّى الخمسَ صلواتٍ بوضوءٍ واحدٍ يومَ الفتحِ (٢).
﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ وحدُّ الوجهِ من مَنابِتِ (٣) شعرِ الرأسِ إلى ما انحدَرَ من اللَّحْيَيْنِ؛ والذَّقَنِ طولًا، ومن الأذنِ إلى الأذنِ عرضًا، فيجبُ غسلُ جميعِه بالاتفاق، فإن كان فيه شعرٌ خفيفٌ يصفُ البشرةَ، وجبَ غسلُها معه، وإن كان يسترُها، أجزأَهُ غسلُ ظاهرها، ويستحبُّ تخليلُهُ.
(١) في "ظ": "وضوء".
(٢) رواه مسلم (٢٧٧)، كتاب: الطهارة، باب: جواز الصلوات كلها بوضوء واحد، عن بريدة -رضي الله عنه-.
(٣) في "ظ": "منبت".
256
﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ وتدخلُ المرافقُ في الغَسْل بالاتفاق؛ لورودِ السُّنةِ بذلك.
﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ الباءُ مزيدةٌ. واختلفَ الأئمةُ رضي الله عنهم في قدرِ الواجبِ من مسحِ الرأسِ، فقال أبو حنيفةَ: ربعُه، وقال مالكٌ وأحمدُ: جميعُه، وقال الشافعيُّ: قدرُ ما يُطلقُ عليه اسمُ المسح، وأجاز أحمدُ المسحَ على العِمامة إذا كانَ منها شيءٌ (١) تحتَ الحَنَكِ، وعلى خُمُرِ النساءِ المدارَةِ تحتَ حلوقهنَّ؛ خلافًا للثلاثة.
﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ وهما العظمانِ الناتئانِ من جانبِ القدمين، وهما مجتمعُ مفصلِ الساقِ والقدمِ، فيجبُ غسلُهما مع القدمين بالاتفاق. قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، والكسائيُّ، ويعقوبُ، وحفصٌ: (وَأَرْجُلَكُمْ) بنصبِ اللامِ عطفًا على الأيدي، وقرأ الباقون: بالخفضِ عطفًا على الرؤوس (٢)، وإن كانت غيرَ ممسوحةٍ حثًّا على الاقتصادِ في صَبِّ الماءِ على الرِّجْلينِ؛ لأنهما مَظِنَّةُ الإسرافِ في صبِّ الماء.
واختلفوا في الترتيبِ كما ذكرَهُ اللهُ تعالى، فقال الشافعيُّ وأحمدُ بوجوبه، وقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: هو سنة.
واختلفوا في الموالاة، وهي ألَّا يُؤَخَّرَ غسلُ عضوٍ حتى ينشفَ الذي
(١) في "ظ": "شيء منها".
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٢)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٨)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٤٤ - ٦٤٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٩٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٩٤ - ١٩٥).
257
قبلَه، فقال مالكٌ وأحمدُ: هي واجبةٌ، وقال أبو حنيفةَ والشافعيُّ: هي مسنونةٌ.
واختلفوا في التسميةِ، فقال الثلاثة: هي سُنَّةٌ، وقال أحمدُ: هي واجبةٌ، لكنْ تسقطُ سهوًا.
واختلفوا في المضمضةِ والاستنشاقِ، فقال أحمدُ: هما واجبان، ولا يسقطانِ سهوًا، وقال الثلاثة: هما سنَّةٌ.
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾ فاغتسلوا.
واختلفوا في المضمضةِ والاستنشاقِ في الغُسْلِ، فقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: هما فرضٌ، وقال مالكٌ والشافعيُّ: هما سنة كما في الوضوءِ.
واختلفوا في الدلكِ في الوضوءِ والغُسْلِ، فعند مالكٍ: هو شرطٌ، وعند الثلاثةِ: لا يُشترط إذا عَمَّ جسدَه بالماء.
واختلفوا في النيَّةِ في الوضوءِ والغُسلِ، فقال أبو حنيفةَ: هي مستحبَّةٌ، وقال الثلاثةُ: هي واجبةٌ، واختلافُهم في التسميةِ عندَ الغسلِ كاختلافِهم فيها عندَ الوضوء كما تقدم قريبًا (١).
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ﴾ أي: من الصعيدِ، وتقدَّم في سورةِ النساء تفسيرُ نظيرِ هذهِ الآيةِ، واختلافُ القراء فيها، واختلافُ الأئمة في حكمِها مستوفًى.
﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ﴾ بالأمرِ بالطهارةِ للصلاةِ أو الأمرِ بالتيممِ.
(١) "كما تقدم قريبًا" سقط من "ظ".
258
﴿لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾ ضِيقٍ.
﴿وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ منَ الأحداثِ والذنوبِ.
﴿وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ بالترخُّصِ عندَ المرضِ والسفرِ.
﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي: لتشكروا نعمتَهُ فَتُقْبِلوا على طاعته.
ودلتِ الآيةُ على المسحِ على الخفينِ، وهو جائزٌ بالاتفاق، فعندَ الثلاثةِ: يمسحُ المقيمُ يومًا وليلةً، والمسافرُ ثلاثةَ أيامٍ بلياليها، أولُها من الحدثِ بعدَ اللبس، وعند مالكٍ: لا توقيتَ فيه لمقيمٍ ولا لمسافرٍ، وشرطُه أن يُلْبَسَ بعدَ كمالِ الطهارةِ بالاتفاق.
واتفقوا على أن المسحَ يخصُّ ما حاذى ظاهرَ القدمين، ثم اختلفوا هل يُسَنُّ، مسحُ محاذي باطنِ القدمين؟ فقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: لا يسنُّ، وقال مالكٌ والشافعيُّ: يُسَنُّ، و (١) اختلفوا في قدرِ الإجزاءِ من المسحِ على الخفينِ، فقال أبو حنيفة: مقدارُ ثلاثةِ أصابعَ من اليدِ، وقال مالكٌ: يستوعبُ محلَّ الفرضِ، وقال الشافعي: ما يقعُ عليهِ اسمُ المسح، وقال أحمدُ: يجبُ مسحُ أكثرِ أعلاه.
﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٧)﴾.
[٧] ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ بالإسلام.
﴿وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ﴾ أي: عهدَه الذي عهدَ إليكم.
(١) في "ظ": "ثم".
﴿إِذْ قُلْتُمْ﴾ للنبيِّ - ﷺ -.
﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ وذلك حين بايعوا رسولَ الله عليه الصلاة والسلام على السمعِ والطاعةِ فيما أَحَبُّوا وكَرِهوا.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ في نقضِ ميثاقِه.
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ بخفيَّاتها.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٨)﴾.
[٨] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ﴾ لأجلِ ثوابِ اللهِ.
﴿شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾ أي: كونوا قائمينَ بالعدلِ قَوَّالينَ بالقسطِ.
﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ يحملَنَّكمْ.
﴿شَنَآنُ﴾ بغضُ.
﴿قَوْمٍ﴾ يعني: المشركين. قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وأبو بكرٍ، بخلافٍ عن الأول (شَنْآنُ) بإسكان النون، والباقون: بالتحريك (١).
﴿عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ فيهم؛ لعداوتكم إياهم، بل (٢) ﴿اعْدِلُوا﴾ في أوليائِكُم وأعدائِكُم ﴿هُوَ﴾ أي: العدلُ.
(١) تقدمت عند تفسير الآية (٢) من هذه السورة.
(٢) "بل" زيادة من "ظ".
﴿أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ وإذا كانَ هذا العدلُ معَ الكفارِ، فما ظَنُّكَ بالعدلِ معَ المؤمنين؟
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ فَيُجازيكم به.
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩)﴾.
[٩] ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ هذا موضعُ النصب؛ لأن فعلَ الوعدِ واقعٌ على المغفرةِ، ورفعُها على تقديرِ: أيْ: وعدَهُمْ وقالَ لهم مغفرةٌ وأجرٌ عظيمٌ.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ نزلَتْ في بني النَّضِيرِ، وقيلَ: في جميعِ الكفارِ.
ونزل لما أريدَ الفتكُ برسولِ الله - ﷺ -، فلم يُمَكِّنِ اللهُ منه، وذلكَ أنه عليه الصلاة والسلام جاءَ إلى قومٍ من اليهود، وهم كعبُ بنُ الأشرفِ وبنو النضير يستقرضُهم ديةَ مسلِمَيْنِ قتلَهما عَمْرُو بنُ أميةَ الضَّمْرِيُّ خطأً يحسبُهما مُشرِكَينِ، فقالوا: نعم، وهَمُّوا بقتله، فمنعه الله منهم:
***
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)﴾.
[١١] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ (١) بالدَّفع عنكم، و (نعمت) رُسمت بالتاء في أحدَ عشرَ موضعًا، وقفَ عليها بالهاءِ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ، والكسائيُّ.
﴿إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ﴾ بالقتلِ، يقال: بسطَ إليهِ يدَهُ: إذا بطشَ بهِ، وبسطَ إليهِ لسانَهُ: إذا شَتَمَهُ.
﴿فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ﴾ منعَها ﴿عَنْكُمْ﴾ أن تُمَدَّ إليكم.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ فإنَّه الكافي لإيصالِ الخيرِ ودفعِ الشرِّ.
{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
(١) انظر: "تفسير الطبري" (٦/ ١٤٤)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٠٦)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٤٩).
الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}.
[١٢] ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ من كلِّ سبطٍ نقيبًا، والنقيبُ: الضَّمينُ والأمين، وهو الذي ينقبُ عن الأمور، ويتعرَّفُها.
رُوي أن بني إسرائيل لما فرغوا من أمرِ فرعونَ، واستقرُّوا بمصرَ، أمرَ اللهُ موسى وقومَه بالخروجِ إلى أريحا من أرضِ الشامِ، وكان يسكنُها الكنعانيون الجبارون ومنهم (١) عوجُ بنُ عنق وأصحابُه، ونسبته لأم عناقَ بنتِ آدمَ عليه الصلاة والسلام، وكان طولُه ثلاثةَ آلافٍ وثلاثَ مئةٍ وثلاثةً وثلاثينَ وثلثَ ذِراع، وكان يَحْتَجِزُ بالسحابِ، ويشربُ منه، ويتناولُ الحوتَ من قَرارِ البحرِ فيشويهِ بعينِ الشمسِ يرفعُه إليها، ثم يأكلُه، وعاشَ ثلاثةَ آلافِ سنةٍ حتى أهلكَه الله على يدِ موسى عليه الصلاة والسلام، وذلك أنه قطع صخرةً على قدرِ عسكرِ موسى ليطرحَها عليهم، وكان العسكرُ فرسخًا في فرسخ، فبعثَ اللهُ الهدهدَ، فقوَّرَ الصخرةَ بمنقاره، فوقعتْ في عنقِه، فصرعَتْهُ، فوثب موسى عليه الصلاة والسلام، وكانت وثبتُهُ عشرةَ أذرعٍ، وطولُه مثلُ ذلك، وطولُ عصاته مثلُ ذلك، ولم يلحقْ إلا عرقوبَه، فضربَهُ فقتله، وتُركَ بموضعِه، وأردمَ عليه بالصخر والرمل (٢)، فكانَ كالجبلِ العظيمِ في صحراءِ مصرَ، ولما أمرَ اللهُ بني إسرائيلَ بالخروج إلى أريحا، قال لهم: إنِّي كتبتُها لكم دارَ قرارٍ، فاخرجوا إليها، وجاهدوا
(١) "ومنهم" زيادة من "ظ".
(٢) في "ظ": "بالرمل والصخر".
263
مَنْ فيها؛ فإني ناصرُكم عليهم (١)، واتخذَ موسى من قومِهِ اثني عشرَ نقيبًا، فعاهدَهُم أن يكفلوا بقومِهم، ولا يحدِّثوهم بما يرونَ من الجبارين، فلما رأوهم وما هم عليه من عِظَمِ الأجسادِ، نقضوا العهدَ، وحدثوهم، إلا كالبَ بنَ يوقنا من سبطِ يَهوذا ختنَ موسى على أختِهِ مريمَ بنتِ عمران، ويوشعَ بنَ نون من سبطِ أَفراييمَ بنِ يوسفَ فتى موسى، وأما أسماءُ العشرةِ الذين نقضوا العهدَ من النقباء، فهم شموعُ بنُ زكور من سبطِ روبين (٢)، وشافاطُ (٣) بن حوري من سبطِ شمعون، ويغال بنُ يوسفَ من سبطِ يساخر، وبلطي بن رافوا من سبطِ بنيامين، وكدي بن سودي من سبطِ زبولون، وكدي بن سوسي من سبط منشا بنِ يوسفَ، وعميال بن كملي من سبط دان، وستورُ بن ميخائيل من سبطِ آشر، ونحبى بنُ وقسي من سبط نفتالي، وكوئيلُ بنُ ماخي من سبطِ كاد، فهؤلاء الذين دعا موسى عليهم، فهلكوا مسخوطًا عليهم (٤).
﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ﴾ ناصرُكم على عدوِّكم.
﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾ عَظَّمتموهم.
﴿وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ بالإِنفاقِ في سبيل الخيرِ.
﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ﴾ أي: لأمحوَنَّ عنكمُ.
(١) "عليهم" زيادة من "ظ".
(٢) في "ظ": "روبيل".
(٣) في "ش": "شافط".
(٤) انظر: "تفسير الطبري" (٦/ ١٧٤)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٥٠)، و"تفسير ابن كثير" (٢/ ٣٩).
264
﴿سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ أخطأَ طريقَ الحق.
...
﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾ أي: فبنقضِهم، و (ما) صلةٌ.
﴿مِيثَاقَهُمْ﴾ بتكذيبِ الرسلِ بعد موسى، وقتلِ الأنبياءِ، ونبذِ كتابِ الله، وتضييعِ فرائضِهِ.
﴿لَعَنَّاهُمْ﴾ طردْناهم من رحمتِنا.
﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ يابسةً لشوبهم الإيمانَ بموسى والتوراةِ بكفرِهم بمحمدٍ والقرآن. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ: (قَسِيَّةً) بتشديد الياء من غير ألف، وهما لغتان، مثل زاكِية وزَكِيَّة (١).
﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ﴾ أي: يُبدلون نعتَ محمدٍ - ﷺ -.
﴿عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ في كتبِهم؛ لأنَّ من قسا قلبُه، يقدمُ على فعلِ (٢) ما لا يجوزُ.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٣)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٩)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٥٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٩٧).
(٢) "فعل" زيادة من "ظ".
﴿وَنَسُوا حَظًّا﴾ تركوا نصيبًا وافِيًا.
﴿مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ من الإيمانِ بمحمدٍ - ﷺ -، والقرآنِ.
﴿وَلَا تَزَالُ﴾ يا محمدُ.
﴿تَطَّلِعُ﴾ تظهرُ.
﴿عَلَى خَائِنَةٍ﴾ أي: خيانة.
﴿مِنْهُمْ﴾ أي: نقضِهم العهدَ، ومظاهرتهم المشركينَ في حَرْبِكَ.
﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ هم الذين آمنوا منهم.
﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ﴾ اتركْهم لا تتعرَّضْ لهم، ونُسخت بآية السيفِ.
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.
...
﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (١٤)﴾.
[١٤] ونزل في النصارى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ سَمَّوا أنفسَهم بذلكَ ادِّعاءً لنُصرةِ اللهِ.
﴿أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ﴾ أي: وأخَذْنا من النصارى ميثاقَهم على التوحيدِ والإيمانِ بالأنبياءِ مثلَ الميثاقِ المأخوذِ قديمًا على اليهود.
﴿فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ فنقضوا الميثاقَ.
﴿فَأَغْرَيْنَا﴾ هَيَّجْنا.
﴿بَيْنَهُمُ﴾ أي: بينَ فرقِ النصارى المختلفَةِ.
﴿الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ بالأهواءِ المختلفةِ؛ كاليعقوبيةِ، والملكائيةِ، والنسطورية، وغيرِهم (١)، فكل فرقة تكفِّرُ الأخرى، وتقدَّم اختلافُ القراءِ في حكم الهمزتينِ من كلمتينِ في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ قولِه تعالى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ﴾ [البقرة: ١٣٣]، وكذلك اختلافهم في قولِه: ﴿وَالْبَغْضَاءَ إِلَى﴾.
﴿وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ بالعقاب والجزاء (٢).
...
﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (١٥)﴾.
[١٥] ثم قال مخاطبًا اليهود والنصارى: ﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ﴾ وحدَّ الكتاب؛ لأنه للجنسِ.
﴿قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا﴾ محمد - ﷺ -.
﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ كنعتِ محمدٍ - ﷺ -، وآيةِ الرجمِ في التوراةِ، وبِشارةِ عيسى بأحمدَ في الإنجيلِ.
﴿وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ ممَّا تُخفونه، فلا يؤاخذُكم به.
﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ﴾ هو محمدٌ - ﷺ -.
(١) "وغيرهم" زيادة من "ظ".
(٢) في "ظ": "بالجزاء وبالعقاب".
﴿وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾ القرآنُ؛ فإنَّه يبيِّنُ الأحكامَ.
...
﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ﴾ أي: بالقرآنِ العظيمِ، وبمحمدٍ النبيِّ - ﷺ -، وَحَّدَ الضميرَ، لأنَّ المرادَ بهما واحدٌ.
﴿مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ﴾ أي: ما رضيَهُ الله. قرأ أبو بكرٍ: (رُضْوان) و (رُضْوَانًا) بضمِّ الراء حيثُ وقعَ سوى هذا الحرفِ، ونُبِّهَ عليه في سورة آل عمران (١).
﴿سُبُلَ السَّلَامِ﴾ طرقَ السلامةِ الموصلةَ إلى الجنةِ.
﴿وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ﴾ من أنواعِ الكفرِ.
﴿إِلَى النُّورِ﴾ إِلى الإيمان.
﴿بِإِذْنِهِ﴾ بإرادتِه.
﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ طريقٍ هو أقربُ الطرقِ إلى اللهِ تعالى.
...
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ
(١) انظر: تفسير الآية (١٥) من سورة آل عمران.
وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)}.
[١٧] ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ وهم اليعقوبيةُ والملكائيةُ من النصارى، يقولون: المسيح هو الله.
﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ أي: فمن يمنعُ من قدرته شيئًا.
﴿إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ أعلمَ اللهُ سبحانه وتعالى أَنَّ المسيحَ بنَ مريمَ لو كانَ إلهًا، لقدرَ على دفعِ ما ينزلُ به أو بغيرِه، وقد أمات الله أُمَّه ولم يتمكَّنْ من دفع الموتِ عنها، فلو أهلكَهُ هو أيضًا، فمَنْ يدفعه عن ذلك؟
﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ والمسيحُ وأُمُّهُ بينَهما مخلوقانِ محدودانِ، وما أحاطَ به الحدُّ والنهايةُ، لا يصحُّ للإلهيةِ (١) وقال: ﴿وَمَا بَيْنَهُمَا﴾، ولم يقل: بينهنَّ؛ لأنه أرادَ النوعينِ.
﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ من ذكرٍ وأنثى، ومن أمٍّ بلا أبٍ؛ كعيسى، ومن أبٍ بلا أم؛ كحواء (٢)، ومن غير أبي ولا (٣) أم؛ كآدمَ عليه السلام، لا اعتراض عليه عزَّ وجلَّ في خلقِه، ولا في ملكِه.
﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
...
(١) في "ظ": "للألوهية".
(٢) "ومن أن بلا أم كحواء" زيادة من "ظ".
(٣) "لا" زيادة من "ظ".
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ قيل: أرادوا أنَّ اللهَ لهمْ كالأبِ في الشفقةِ والرحمةِ، وهم كالأبناءِ له في المنزلةِ عندَه، والقربِ منه - عزَّ وجلَّ -، فأمر سبحانه وتعالى نبيَّه محمدًا - ﷺ - أن يقولَ لهم مُنْكِرًا عليهم ما قالوا (١).
﴿قُلْ﴾ إنْ صحَّ ما زعمتُم.
﴿فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ﴾ لأنَّ الحبيبَ لا يعذِّبُ حبيبَه، والوالدُ لا يعذبُ ولده، وقد عُذِّبْتُم بالمسخِ قديمًا، واعترفتم أنه سيعذِّبُكم بالنارِ أيامًا معدودةً.
﴿بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾ من بني آدمَ.
﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ وهم المؤمنونَ.
﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ وهم الكفار (٢).
﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ فلا شريكَ يعارِضُه فيهما (٣).
﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ أي: يَؤولُ أمرُ العبادِ إليه في الآخرةِ.
...
(١) "ما قالوا" زيادة من "ظ".
(٢) في "ظ": "الكافرون".
(٣) "فيهما" زيادة من "ظ".
﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)﴾.
[١٩] ﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا﴾ محمد - ﷺ -.
﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ﴾ شرائعَ الإسلامِ.
﴿عَلَى فَتْرَةٍ﴾ انقطاعِ وجودِ أحدٍ (١).
﴿مِنَ الرُّسُلِ﴾ وكانتِ الفترةُ بينَ محمدٍ وعيسى -عليهما الصلاة والسلام- خمسَ مئةٍ ونحوَ تسعين سنةً، وقيلَ غيرُ ذلك، فكانت الرسلُ تَتْرى من (٢) موسى إلى عيسى -عليهما الصلاةُ السلام-، ولم يكن بعدَ عيسى عليه السلام سوى نبيِّنا محمدٍ - ﷺ -.
﴿أَنْ تَقُولُوا﴾ لَئِلَّا تقولوا معتذرينَ:
﴿مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ﴾ أي: مبشرٍ ومنذرٍ، والفاءُ بعدَها متعلقةٌ بمحذوفٍ تقديرُه: لا تعتذروا.
﴿فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ﴾ نزلَتْ لما قالتِ اليهودُ: ما أنزلَ اللهُ من كتابٍ بعدَ موسى، ولا أرسلَ بعدَه من بشيرٍ ولا نذيرٍ.
﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فيقدرُ على إرسال مَنْ شاءَ من خلقِهِ.
...
(١) "وجود أحد" زيادة من "ظ".
(٢) في "ن": "بين".
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ﴾ فأرشدَكُم بهم، ولم يبعث في أُمَّةٍ ما بعثَ في بني إسرائيلَ من الأنبياءِ.
﴿وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا﴾ أصحابَ حَشَمٍ وخَدَمٍ.
﴿وَآتَاكُمْ﴾ من الثمن والسَّلْوى وتظليلِ الغَمامِ وفَلْقِ البحرِ وغيرِ ذلكَ من النِّعَمِ.
﴿مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ يعني عالَمي زمانِكم، تبيينٌ من اللهِ تعالى أَنَّ أسلافَهم تمرَّدوا على موسى -عليه الصلاة والسلام-، وعصَوْه، فكذلكَ هؤلاءِ مع محمدٍ - ﷺ -، وهو تسليةٌ - ﷺ -.
...
﴿يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ﴾ هي أرضُ بيتِ المقدسِ أو أَريحا. قرأ الكسائيُّ: (الْمُقَدَّسَةَ) بإمالةِ السينِ حيثُ وقفَ على هاءِ التأنيثِ. المعنى: اسكنوا الأرضَ الطاهرةَ.
﴿الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ في اللوحِ المحفوظِ قبلَ خلقِكم أَنَّكم تقتسمونها،
272
وتسكنونَها بعدَ أعدائكم ﴿وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ﴾ لا ترجِعوا على أعقابِكم منهزمينَ خوفَ العدوِّ.
﴿فَتَنْقَلِبُوا﴾ بالخيبة ﴿خَاسِرِينَ﴾ ثوابَ الدارَيْنِ.
وأما حدودُ الأرضِ المقدسةِ، فمنَ القِبْلَةِ أرضُ الحجازِ الشريفِ، يفصلُ بينَهُما جبالُ الشورى، وهي جبالٌ منيعةٌ بينَها وبينَ أيلةَ نحوُ مرحلةٍ، وسطحُ أيلةَ هو أولُ حدِّ الحجازِ من جهةِ الشامِ، وهي من تيهِ بني إسرائيلَ، وبينَها وبينَ بيتِ المقدسِ نحوُ ثمانيةِ أيامٍ سير الأثقال، ومن الشرقي من بعدِ دومةِ الجندلِ بريةُ السَّماوَةِ، وهي كبيرةٌ ممتدةٌ إِلى العراقِ، ينزلُها عربُ الشام، ومسافتُها عن بيتِ المقدس نحوُ مسافةَ أيلةَ، ومنَ الشَّمالِ مما يلي الشرقَ نهرُ الفراتِ، ومسافتُه عن بيتِ المقدسِ نحوُ عشرين يومًا سير (١) الأثقالِ، فيدخلُ في هذا الحدِّ المملكةُ الشاميةُ بكمالِها، ومن الغربِ بحرُ الرومِ، وهو البحرُ المالحُ ومسافتُه عن بيتِ المقدسِ من جهةِ رَمْلَةِ فلسطينَ نحوُ يومينِ، ومن الجنوبِ رمل مصرَ والعريشُ، ومسافتُه عن بيتِ المقدسِ نحوُ خمسةِ أيامٍ سير الأثقالِ، ثم يليهِ تيهُ بني إسرائيلَ وطورُ سيناءَ، ويمتدُّ من تلكَ الجهةِ إلى تبوكَ، ثم دومةُ الجندلِ المتصلةُ بالحدِّ الشرقيِّ، ويأتي ذكرُ حدِّ حرمِ مكةَ في سورةِ التوبة، وحرمِ المدينةِ في سورةِ الأحزابِ إن شاء الله تعالى.
...
﴿قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (٢٢)﴾.
(١) في "ن": "بسير".
273
[٢٢] ولما علمَ بنو إسرائيلَ بإخبارِ نُقبائِهم أحوالَ الجبابرةِ (١)، وما هم عليه من الشدةِ والمنعَةِ وعِظَمِ الأجسادِ، جَبنُوا عن لقائِهم ودخولِ أرضِهم.
﴿قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ﴾ متغلِّبينَ، والجبارُ: هو الذي يُجبر الناسَ على ما يُريد، وكانوا من العمالقةِ وبقيةِ قومِ عادٍ. قرأ الدوريُّ عن الكسائيِّ، وورشٌ بخلافٍ عن الثاني (جَبَّارِينَ) بالإمالة (٢).
﴿وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ إذْ لا طاقةَ لنا بهم.
...
﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿قَالَ رَجُلَانِ﴾ من النُّقباء هما (٣) كالبُ ويوشعُ.
﴿مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ﴾ اللهَ ويتقونَهُ.
﴿أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا﴾ بالإيمانِ والتثبيتِ.
﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ﴾ بابَ مدينتِهم.
﴿فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ﴾ لتعسُّرِ الكرِّ عليهم في المضائقِ من عظمِ
(١) في "ظ": "الجبارين".
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٠٢)، و"إتحاف فضلاء البشر، للدمياطي (ص: ١٩٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٠١).
(٣) في "ت": "هم" وهي ساقطة من "ن".
أجسامهم (١)؛ لأنهم أجسامٌ لا قلوبَ فيها، فلا يهولَنَّكمْ منظرُهم، وعَلِما ذلكَ لأنَّ موسى عليه الصلاة والسلام أعلمهما أنَّ الغلبةَ لبني إسرائيل.
﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ بهِ، ومصدِّقينَ لوعدِه.
...
﴿قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا﴾ نَفَوا دخولَهم على التأكيدِ والتأبيدِ.
﴿مَا دَامُوا فِيهَا﴾ ثم إنَّهم لجهلِهم واستخفافِهم بموسى عليه الصلاة والسلام قالوا له: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ جَهِلوا صفةَ الربِّ سبحانَهُ، ووصفوهُ بالذهابِ والانتقالِ، وهو مُتَعالٍ عن ذلكَ، وهذا يدلُّ على أنهم كانوا مُشَبِّهَةً.
...
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٢٥)﴾.
[٢٥] ولما رأى موسى عليه الصلاة والسلام مخالفةَ بني إسرائيلَ وتمرُّدَهم.
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي﴾ لا يملكُ إِلا نفسه.
(١) في "ظ": "أجسادهم".
﴿فَافْرُقْ﴾ فافْصِلْ.
﴿بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ بأنْ تحكمَ لنا بما نستحقُّهُ، وتحكمَ عليهم بما يستحقُّونَ، قالَه شَكْوى بَثِّهِ وحزنِهِ إلى اللهِ تعالى لما خالفَهُ قومُه، ولم يبقَ مَعُه مرافقٌ له (١) غيرُ أخيهِ هارونَ عليه الصلاة والسلام، والرجلانِ المذكورانِ.
...
﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿قَالَ﴾ اللهُ تعالى.
﴿فَإِنَّهَا﴾ أي: الأرضَ المقدسةَ.
﴿مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ ممنوعةٌ منهم (٢) لا يدخلونَها بسببِ عصيانِهم.
﴿أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ يتردَّدون فيها متحيِّرينَ.
﴿فَلَا تَأْسَ﴾ تحزنْ.
﴿عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ خاطبَ بهِ موسى عليه الصلاة والسلام لما ندمَ على الدُّعاء عليهم، فلبثوا أربعينَ سنةً في ستةِ فراسخَ يسيرونَ كلَّ يومٍ جادِّينَ، فإذا أَمْسَوْا، كانوا في الموضِعِ الذي ارتحلُوا عنهُ، وكانوا ستَّ مئةِ ألفِ مقاتلٍ. والتيهُ: أرضٌ بالقربِ من أيلةَ التي هي حدُّ أرضِ (٣) الحجازِ من
(١) "له" زيادة من "ظ".
(٢) "منهم" زيادة من "ظ".
(٣) "أرض" زيادة من "ظ".
276
جهةِ الشامِ، وطولُ أرضِ (١) التيهِ نحوٌ من ستةِ أيام، والصحيحُ أنَّ موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام كانا في التيه، ولم يكنْ عقوبةً لهما، بل كانَ راحةً ورحمةً؛ كإبراهيمَ عليه الصلاة والسلام حين أُلقيَ في النار، وماتَ هارونُ عليه السلام في التيه، كما تقدَّم في أواخرِ سورةِ النساءِ، ولم يحضر بنو إسرائيلَ موتَه، فاتهموا موسى بقتلِه، فقالَ لهم: يا سفهاءَ بني إسرائيلَ! ماذا لقيتُ منكم؟ أقتلُ أخي وشقيقي وعَضُدي؟! ثم دعا اللهَ تعالى أن يبرئَهُ عندَهم من ذلك (٢)، فأمر اللهُ الملائكةَ أن يحملوا سريرَ هارون الذي وُضعَ عليهِ بداخلِ الكهفِ الذي دُفنَ فيه، فحملوه في الهواء بينَ السماءِ والأرض، ونادتِ الملائكةُ: يا بني إسرائيلَ! لا تتَّهِموا موسى بقتلِ أخيهِ هارونَ (٣)، فهذا سريرُه قد قبضَهُ اللهُ تعالى، فحزنَ بنو إسرائيلَ على موته؛ لأنه كانَ محبوبًا عندَهم، ولم يدخلِ الأرضَ المقدسةَ أحدٌ مِمَّنْ قالَ: ﴿إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا﴾، فلما انقرضوا على رأسِ أربعينَ سنةً، سارَ موسى بالمؤمنينَ نحوَ القريةِ إلى بابِ حِطَّةَ، ومكتوبٌ عليه اسمُ اللهِ الأعظمُ، وأقبلَ المؤمنون فسجَدُوا عندَ الباب، ودخلَ أولادُ الفاسقينَ، وبدَّلوا قولًا غيرَ الذي قِيلَ لهم كما تقدَّم في سورةِ البقرةِ، وغلبَ موسى على مدينةِ أَريحا، ثم تُوفي موسى بعدَ وفاةِ هارونَ بأحدَ عشرَ شهرًا.
وفي "الصحيح" من حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النبيِّ - ﷺ - أنه قال: "أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى، فَلَمَّا جَاءَهُ، صَكَّهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ عز
(١) "أرض" زيادة من "ظ".
(٢) "من ذلك" زيادة من "ظ".
(٣) "هارون" زيادة من "ظ".
277
وجل، فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لاَ يُرِيدُ الْمَوْتَ! قَالَ (١): فَرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ارْجعْ وَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُل مَا غَطَّتْ بهِ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَة، قَالَ: أَيْ رَبّ! ثُمَّ ماذا؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ، قَالَ: فَالآنَ، فَسَأَلَ اللهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: فَلَوْ كُنْتُ ثَمَ، لأَرَيْتكمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثيبِ الأَحْمَرِ" (٢)، وتقدَّمَ في سورةِ البقرةِ قَدْرُ عمرِه، وتاريخُ وفاتِه، ومحلُّ قبرِهِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ [البقرة: ٥١].
ولما تُوفي موسى عليه السلام، قامَ بعدَ وفاتِه بتدبيرِ بني إسرائيلَ يوشعُ بنُ نون، بعثَه اللهُ نبيًّا، وأمرَهُ بقتلِ الجبارين، فتوجَّهَ ببني إسرائيلَ إلى أَريحا، وأحاطَ بها ستةَ أشهرٍ، فلما كانَ الشهر (٣) السابعُ، نفخوا في القرونِ، وضجَّ الشعبُ ضجةً واحدةً، فسقطَ السورُ، ودخلوا، فقاتلوهم، وهجموا على الجبارينَ فهزموهم وقتلوهم، وكان ذلكَ في (٤) يومِ الجمعةِ، وقد بقيتْ منهم بقيةٌ، وكادتِ الشمسُ تغرُبُ وتدخلُ ليلةُ السبتِ، فدعا يوشعُ وقال: اللهمَّ ارْدُدِ الشمسَ عليَّ، وسألَ الشمسَ أن تقفَ، والقمرَ أن يقيمَ (٥) حتى ينتقمَ من أعداءِ اللهِ قبلَ دخولِ السبتِ (٦)، فوقفتِ الشمسُ،
(١) "قال" ساقطة من "ظ".
(٢) رواه البخاري (١٢٧٤)، كتاب: الجنائز، باب: من أحب الدفن في الأرض المقدسة أو نحوها، ومسلم (٢٣٧٢)، كتاب: الفضائل، باب: من فضائل موسى عليه السلام.
(٣) "الشهر" زيادة من "ظ".
(٤) "ذلك في" زيادة من "ظ".
(٥) في "ظ": "يقتمر".
(٦) "قبل دخول السبت" ساقطة من "ظ".
278
وزِيدَ في النهارِ ساعة حتى قتلَهم أجمعينَ، وتتَبَّعَ ملوكَ الشامِ واستباحَهم، وملكَ الشامَ، وفَرَّقَ فيها عمالَه، واستمرَّ يدبِّرُ بني إسرائيلَ ثماني وعشرينَ سنةً، ثم تُوفي وله مئةٌ وعشرُ سنينَ، ودُفن في كفل حارس: قريةٍ من أعمالِ نابُلُسَ، وقيل: إنه مدفونٌ في المعرَّةِ، وفي القصةِ اختلافٌ بين المفسرينَ والمؤرخين، واللهُ أعلمُ (١).
...
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧)﴾.
[٢٧] ثم أمرَ اللهُ سبحانه وتعالى نبيه (٢) محمدًا - ﷺ - أن يقصَّ على حاسديهِ ما جرى بسببِ الحسدِ؛ ليتركوهُ ويؤمنوا، فقال:
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ﴾ هابيلَ وقابيلَ.
﴿بِالْحَقِّ﴾ خبرهما مُتَلَبِّسًا بالصدق. قرأ السوسيُّ عن أبي عَمْرٍو (آدَمْ بِالْحَقِّ) وشبهَهُ بإسكانِ الميمِ عندَ الباء، وتقدَّم الكلامُ عليه في سورةِ البقرةِ.
﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا﴾ وكان سببُ قربانهما أنَّ حواءَ كانتْ تحمل (٣) في كلِّ بطنٍ غلامًا وجاريةً، وجميعُ أولادِها أربعونَ ولدًا في عشرينَ بطنًا، إِلَّا شيثًا عليه السلام وُلِدَ منفردًا، وكان آدم عليه السلام (٤) يزوِّجُ أنثى هذا البطنِ بغيرِ ذكرِه، فقالَ لقابيلَ: إن الله تعالى أمرني أن أُنكح أختكَ إقليميا بهابيلَ،
(١) انظر: "تفسير الطبري" (١/ ٤٤١)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٦١).
(٢) "نبيه" زيادة من "ظ".
(٣) في "ظ": "تلد".
(٤) في "ظ" زيادة: "فإنه".
279
وأُنكحك أختَه ليودا (١)، فقبلَ هابيلُ، وأبى (٢) قابيلُ، وكانت أختُ قابيلَ أحسنَ من أختِ هابيلَ، فقالَ له أبوه: إنها لا تحلُّ لكَ، فأبى أن يقبلَ ذلك، وقالَ: إن الله لم يأمرْهُ بهذا، وإنما هو من رأيِه، فقال لهما آدمُ عليه الصلاة والسلام: قَرِّبا قربانًا، فأيُّكما قُبِلَ قربانُه، فهوَ أحقُّ بإقليميا، وكانتِ القرابين إذا قُبلت، نزلَتْ نارٌ من السماءِ بيضاءُ فأكلَتْها، وإذا لم تكنْ مقبولةً، لم تنزلِ النارُ إِليها (٣) وتأكلُها الطيورُ والسباعُ، فخرجا ليقربا القربانَ، وكان قابيلُ صاحبَ زَرْعٍ، فقرَّبَ صُبْرَة من طعامٍ من أردأ زرعِه، وأضمرَ في نفسِه، وقالَ (٤): ما أُبالي أَتقبلُ مني أم لا، لا يتزوَّجُ أختي أبدًا، وكان هابيلُ صاحبَ غَنَمٍ، فعمَدَ إلى أحسنِ كبشٍ في غنمِه، فقرب به (٥)، وأضمرَ في نفسِه رِضا اللهِ -عز وجل-، فوضَعا قربانَهما على الجبل، ثم دعا آدمُ عليه السلام، فنزلت نارٌ من السماءِ فأكلَتْ قربانَ هابيل، ولم تأكلْ قربانَ قابيل، ورُفع قربانُ هابيل، فبقيَ في الجنةِ يرعى حتى فُدِي به إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ -عليهما الصلاة والسلام-، فذلك قوله تعالى:
﴿فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا﴾ (٦) يعني: هابيلَ.
﴿وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ﴾ يعني: قابيل، فازداد حَنَقًا في هابيلَ وتهدَّدَهُ.
﴿قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ﴾ قال: لِمَ؟ قالَ: لأنَّ اللهَ قبلَ قربانَكَ ولم يَقبلْ قُرباني،
(١) في "ظ": "بيودا".
(٢) في "ظ": "ولم يقبل".
(٣) "إليها" زيادة من "ظ".
(٤) "وقال" زيادة من "ظ".
(٥) في "ظ": "فقربه".
(٦) انظر: "تفسير الطبري" (٦/ ١٨٨)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٦٢ - ٦٦٣).
280
وتنكحُ أختي الحسناءَ، وأنكحُ أختكَ الذميمةَ، فيتحدَّثُ الناسُ أَنَّك خيرٌ مني.
﴿قَالَ﴾ له هابيل: لا ذنبَ لي.
﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ وأنتَ غيرُ متقٍ.
...
﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (٢٨)﴾.
[٢٨] وكان هابيلُ أقوى وأبطشَ من أخيهِ قابيلَ (١)، ولكنْ كانَ في شريعتِهم أنَّ الرجلَ إذا أرادَ قتلَه رجلٌ آخرُ، لا يمتنعُ عليه، فلذلك قال له:
﴿لَئِنْ بَسَطْتَ﴾ مددت (٢).
﴿إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ﴾ أي (٣): بمادٍّ.
﴿يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾. قرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ، وخلفٌ، ويعقوبُ: (يَدِي إِلَيْكَ) بإسكانِ الياء، والباقون: بفتحها (٤)، وقرأ حمزةُ، وعاصمٌ، والكسائيُّ،
(١) "قابيل" زيادة من "ظ".
(٢) "مددت" زيادة من "ظ".
(٣) "أي" ساقطة من "ظ".
(٤) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٠١)، و"الكشف" لمكي (١/ ٤٢٤)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٠٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٠٣).
وخلفٌ، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (إِنِّي أَخَافُ) بإسكانِ الياء، والباقونَ: بفتحها (١).
...
﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩)﴾.
[٢٩] ولما صمَّمَ قابيل (٢) على قتلِ أخيه ومخالفةِ اللهِ تعالى، وأبيه، قال له هابيلُ:
﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ﴾ ترجع. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (إِنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٣).
﴿بِإِثْمِي﴾ بإثم قتلي إذا قتلتني.
﴿وَإِثْمِكَ﴾ بإثم معاصيك.
﴿فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ﴾ بقتلي.
﴿وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾ وهذا دليل على أنهم كانوا في ذلك الوقت مكلَّفين قد لحقهم الوعد والوعيد.
...
﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ﴾ شَجَّعَتْهُ وَزيَّنَتْ له.
(١) انظر: المصادر السابقة.
(٢) "قابيل" زيادة من "ظ".
(٣) انظر: المصادر السابقة.
﴿قَتْلَ أَخِيهِ﴾ فَجَأَةً اغتيالًا وهو نائم عندَ جبلِ ثورٍ بمكةَ، وقيلَ غيرُه.
﴿فَقَتَلَهُ﴾ والمقتولُ ابنُ عشرين سنةً.
﴿فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ دِينًا ودُنيا، وبقي مدةَ عمرِه مطرودًا محزونًا.
...
﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)﴾.
[٣١] فلما قتلَه، تركَه بالعراء، ولم يدرِ ما يصنعُ به؛ لأنه كانَ أولَ ميتٍ على وجهِ الأرضِ من بني آدمَ، وقصدَهُ السِّباعُ لتأكلَه (١)، فحمله في جِرابٍ على ظهرِه أربعينَ يومًا حتى أَرْوَحَ وأَنْتَنَ (٢).
﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا﴾ أي: غرابين تقاتلا (٣) فقتل أحدُهما الآخرَ، فجعلَ.
﴿يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ﴾ أي: يحفرُ فيها (٤) حُفيرةً، فوارى فيها الغرابَ المقتولَ، وفعلَ ذلك.
﴿لِيُرِيَهُ﴾ أي: ليريَ قابيلَ.
﴿كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ﴾ أي: جيفته، فَثَمَّ قال:
(١) "لتأكله" زيادة من "ظ".
(٢) "وأنتن" زيادة من "ظ".
(٣) "تقاتلا" زيادة من "ظ".
(٤) "أي: يحفر فيها" زيادة من "ظ".
283
﴿قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾ على حملِه، لا على قتلِه. قرأ الدوريُّ عن الكسائيِّ بخلافٍ عنه: (يُوَارِي) (فَأُوَارِي) بالإمالةِ، ووقفَ رويسٌ بخلافٍ عنهُ: (يَا وَيْلَتَاه) (يَا أَسَفَاه) (يَا حَسْرَتَاه) بزيادةِ هاءٍ (١).
قالَ ابنُ عباس رضي الله عنهما: لما قُتِلَ ولدُ آدمَ عليه السلام وهو بمكةَ، اشتاكَ الشجرُ، وتغيرتِ الأطعمةُ، وحَمِضَتِ الفواكهُ، واغبرَّتِ الأرضُ، فقالَ آدمُ: قد حدثَ في الأرضِ حدثٌ، فكانَ قتلُ ولدِه (٢).
وقال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما أيضًا (٣): مَنْ قالَ: إنَّ آدمَ قالَ شعرًا، فقد كذبَ؛ إنَّ محمدًا والأنبياءَ في النهي عن الشعر سَواءٌ، بل رثىَ ولدَه بالسريانية، فأخذها يعربُ بنُ قحطانَ، وكان يتكلَّمُ بالعربيةِ والسريانيةِ، وهو أولُ مَنْ خَطَّ بالعربية، وكانَ يقولُ الشعرَ، فرتَّبَها ووزنَها شعرًا، وهي:
تغيَّرَتِ الْبِلاَدُ وَمَنْ عَلَيْهَا فَوَجْهُ الأَرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيحُ
تغيَّرَ كُلُّ ذِي طَعْمٍ وَلَوْنِ وَقَلَّ بَشَاشَةُ الْوَجْهِ الصبِيحِ
وزيدَ فيه أبياتٌ منها:
وَمَا لِي لاَ أَزِيدُ بِسَكْبِ دَمْعٍ وَهَابِيلٌ تَضَمَّنَهُ الضَّرِيحُ
أَرَى طُولَ الْحَيَاةِ عَلَيَّ غَمًّا فهَلْ أَنَا مِنْ حَيَاتِي مُسْتَرِيحُ
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٦٩، ١٩٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٠٤ - ٢٠٥).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٦٦٥)، و"تفسير القرطبي" (٦/ ١٣٩).
(٣) "أيضًا" زيادة من "ظ".
284
وبعدَ قتلِ هابيلَ بخمسِ سنينَ، ولدتْ حواءُ شيثًا، وتفسيرُه: هِبَةُ الله، يعني: أنه خلفٌ من (١) هابيلَ، وأُنزل عليه خمسونَ صحيفةً، وصار وصيَّ آدمَ ووليَّ عهدِه، وبقي نسلُه، وأما قابيلُ فإِنه (٢) هربَ بأختِهِ إقليميا، وعبدَ النارَ، واتخذَ أولادُه آلاتِ اللهو، وانهمكوا في اللهو (٣) وشربِ الخمورِ والزنا والفواحش، وعبادةِ النار، حتى غَرَّقهم الله تعالى بالطوفان أيام نوح عليه السلام (٤).
﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)﴾.
[٣٢] قال - ﷺ -: "لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ (٥) الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ" (٦).
﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ﴾ أي: بسببِ ذلكَ القتلِ. قرأ أبو جعفرٍ: (مِنِ اجْلِ ذَلِكَ)
(١) في "ظ": "عن".
(٢) "فإنه" زيادة من "ظ".
(٣) في "ظ": "الملاهي".
(٤) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٦٦٥)، و"تفسير القرطبي" (٦/ ١٤٠).
(٥) "آدم" سقطت من "ظ".
(٦) رواه البخاري (٣١٥٧)، كتاب: الأنبياء، باب: خلق آدم صلوات الله عليه وذريته، ومسلم (١٦٧٧)، كتاب: القسامة، باب: بيان إثم من سن القتل، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-.
285
بكسر النونِ وحذفِ الهمزة ونَقْلِ حركتِها إلى نون (مِن)، وهي لغة، وقراءة العامة: بجزم النونِ وفتح الهمزة مقطوعًا (١).
﴿كَتَبْنَا﴾ قضينا.
﴿عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ وخُصَّ بنو إسرائيل بالذكر؛ لأن قتل النفس فيهم كان محظورًا؛ لأنهم أولُ أمةٍ نزلَ الوعيدُ عليهم في قتلِ الأنفس بحسبِ طغيانِهم وسفكِهم الدماءَ.
﴿أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ﴾ قتل.
﴿نَفْسٍ﴾ أي: لم يقتلها قصاصًا.
﴿أَوْ﴾ بغير.
﴿فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ﴾ من كفرٍ وزِنًا أو قطعِ طريقٍ ونحوِ ذلك.
﴿فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ من حيثُ إن قتلَ الواحد والجميع سواءٌ في استجلابِ غضبِ الله، والعذابِ العظيمِ.
﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا﴾ أي: استنقذها من هلكة.
﴿فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ أي: يجبُ على الكلِّ شكرُه.
﴿وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالآيات الواضحة تأكيدًا للأمر. قرأ أبو عمرٍو (رُسْلُنَا) بجزم السين، والباقون: برفعها، وكذلك (رسلهم) و (رسلكم) حيثُ وقعَ (٢).
(١) انظر: "المحتسب" لابن جني (١/ ٢٠٩)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٦٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٠٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٠٦).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٨٥)، و"الكشف" لمكي (١/ ٤٠٨)، و"الغيث" =
286
﴿ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ﴾ أي: المكتوبِ عليهم.
﴿فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾ بالقتلِ وانتهاكِ المحارمِ، والإسرافُ: التباعدُ عن حدِّ الاعتدالِ في الأمر.
...
﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٣٣)﴾.
[٣٣] وعن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله تعالى عنه: "أَنَّ قَوْمًا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ - ﷺ -، [فَأَسْلَمُوا، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَرِضُوا، وَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -] (١) بِلِقَاحِ مِنْ الصَّدَقَةِ، وأمرهم أَنْ يشربوا من أبوالِها وأَلبانِها، فانطلقوا، وفعلوا ذلك، فلما صَحُّوا، قَتلوا الراعيَ، وساقوا النَّعَمَ، فبلغَ ذلكَ (٢) النبيَّ - ﷺ - خبرهم (٣) من أولِ النهارِ، فأرسلَ في إثرِهم، فما ارتفعَ النهارُ حتى جِيءَ بهم إليه، فأمر بهم فَقُطعت أَيديِهم وأرجلُهم، وسمر (٤) أعينهُم، وأُلقوا في الحَرَّةِ يَسْتسقونَ فلا يُسْقَوْنَ".
= للصفاقسي (ص: ٢٠٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢٠٧).
(١) ما بين معكوفتين سقطت من "ش".
(٢) "ذلك" زيادة من "ظ".
(٣) "خبرهم" ساقطة من "ظ".
(٤) في "ظ": "سملت".
287
وحكى أهلُ التاريخِ أنهم قطعوا أيدي الراعي ورجليه، وغرزوا الشوكَ في عينيه حتى ماتَ، وأُدخلَ المدينةَ ميتًا، وكان اسمه يسارًا، وكان نُوبِيًّا رحمه الله، وكانَ هذا الفعل من هؤلاء (١) المرتدين سنةَ ستٍّ من الهجرةِ الشريفة (٢).
قال أبو قلابةَ: فهؤلاء قومٌ سرقوا وقَتَلوا وكفروا بعدَ إيمانهم، وحاربوا اللهَ ورسولَه (٣). قال (٤): فأنزلَ الله في ذلكَ:
﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ﴾ أي: أولياءه.
﴿وَرَسُولَهُ﴾ ومحاربةُ المسلمينَ في حكمِ محاربةِ رسوله.
﴿وَيَسْعَوْنَ﴾ أي: وَسَعوا ﴿فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾ أي: مفسدين.
﴿أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ﴾ الذي ذكرت من الحدِّ.
﴿لَهُمْ خِزْيٌ﴾ ذل وفضيحةٌ.
﴿فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ لِعِظَمِ ذنوبهم.
...
(١) "هؤلاء" زيادة من "ظ".
(٢) "الشريفة" زيادة من "ظ".
(٣) رواه البخاري (٦٤١٩)، كتاب: المحاربين من أهل الكفر والردة، باب: لم يسق المرتدون المحاربون حتى ماتوا، ومسلم (١٦٧١)، كتاب القسامة، باب: حكم المحاربين والمرتدين.
(٤) "قال" ساقطة من "ظ".
288
﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ أي: فإن جاؤوا قبلَ القدرةِ عليهم تائبينَ، استثناءٌ مخصوصٌ بما هو حقُّ الله تعالى، يدلُّ عليه قوله عز وجل: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
اتفقَ الأئمةُ رضي الله عنهم على أن حكمَ هذه الآيةِ مرتَّبٌ (١) في المحارِبين، وهم قطاعُ الطريقِ من أهلِ الإسلامِ، وإن كانتْ نزلتْ في المرتدِّين، وقد ثبتَ في "صحيح مسلم"، و"كتاب النسائي"، وغيرِهما: أن النبيَّ - ﷺ - إنَّما سَمَلَ أعينَ أولئكَ؛ لأنهم سملوا أعينَ الرعاء (٢)، فكان هذا (٣) قصاصًا منه.
واختلفوا فيمن يستحقُّ اسمَ المحاربة، فقال أبو حنيفةَ رحمه الله: لا تكونُ المحاربةُ في المِصْرِ، إنما تكون خارجًا من المصر، وخالفه أبو يوسفَ فقال: لو كانَ في المصر ليلًا، أو بينهم وبين المصر أقلُّ من مسيرة سفر، فهم قطاعُ الطريق، وعليه الفتوى؛ نظرًا لمصلحةِ الناسِ، وقال مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ رحمهم الله تعالى: حكمُهم في المصرِ والصحراءِ واحدٌ.
(١) في "ت": "مترتب".
(٢) رواه مسلم (١٦٧١)، (٣/ ١٢٩٨)، كتاب: القسامة، باب: حكم المحاربين والمرتدين، والنسائي (٤٠٤٣)، كتاب: تحريم الدم، باب: ذكر اختلاف طلحة بن مصرف ومعاوية بن صالح على يحيى بن سعيد في هذا الحديث.
(٣) في "ظ": "ذلك".
289
واختلفوا في حكمِ المحاربِ، فقال أبو حنيفةَ رحمه الله: إذا قتلَ ولم يأخذْ مالًا، قُتِلَ، وإن لم يكنِ المقتولُ مكافِئًا له، وإن أخذَ المالَ ولم يَقتلْ، قُطعت يدُه ورجلُه من خلافٍ، وإذا أخذَ المالَ وقَتَل، فالسلطانُ مخيَّرٌ فيه، إن شاءَ قطع يدَه ورجلَه، وإن شاء لم يقطعْ، وقتلَه وصلَبَهُ، ولا يُصْلَبُ أكثرَ من ثلاثةِ أيام.
وقال مالكٌ: الإمامُ مخيرٌ في الحكم على المحاربين، يحكمُ عليهم بما شاءَ من الأحكامِ التي أوجبها الله تعالى؛ من القتلِ، أو الصلبِ، أو القطعِ، أو النفي، وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالًا، على ما (١) يراهُ فيهم ردعًا لهم، ولا يُشترط أن يكونَ المقتولُ مكافئًا له يقول أبي حنيفة رحمه الله.
وقال الشافعيُّ رحمه الله تعالى: إذا أخذَ المالَ، قُطعتْ يدُه اليمنى ورجلُه اليسرى، فإن عادَ، فَيُسراه ويُمناه، وإذا قتلَ مَنْ يكافئه، قُتل حتمًا، وإذا أخذَ المالَ وقتلَ، قُتِلَ، ثم صُلِبَ ثلاثًا.
وقال أحمد رحمه الله: إذا قتلَ مَنْ يكافئه أولا؛ كولدِه وعبدٍ، وذمّيٍّ، وأخذَ المالَ، قُتِلَ حتمًا، ثم صُلِبَ المكافئُ دونَ غيرِه، وصلبُه حتى يشتهرَ، ومن قتلَ ولم يأخذِ المال، قُتل حتمًا، فلا أثرَ لعفو وليٍّ، ولم يصلبْ، ومن أخذَ المالَ ولم يقتلْ، قُطعت يدُه اليمنى ورجلُه اليسرى في مقامٍ واحدٍ، وحُسِمَتا، وخُلِّيَ، فإنْ كانتْ يمينُه مقطوعةً، أو مستحقَّةً في قصاصٍ، أو شَلَّاءَ، قطعتْ رجلُه اليسرى فقط، فإذا أخافَ السبيلَ ولم يأخذِ المالَ ولم يَقْتُلْ؛ نُفي بالاتفاق. واختلفوا في معنى النفي.
فقال أبو حنيفةَ رحمه الله: نفيُه سجنُه، فينفى من سَعَةِ الدنيا إلى
(١) في "ظ": "حكم بما".
290
ضِيقِها، وقال مالكٌ: هو أن يُطلب أبدًا (١) بالخيلِ والرَّجلِ حتى يوجد (٢) فيقامَ عليه حدُّ اللهِ تعالى، أو يَخْرُجَ من دارِ الإسلام هَرَبًا ممن يطلبُه.
وقال الشافعي -رحمه الله-: يُخرجُ من بلد إلى بلدٍ، ويُطلب لتقامَ عليه الحدودُ.
وقال أحمدُ: يُشَرَّدُ، فلا يُترك يأوي إلى بلد ولو عبدًا حتى تظهرَ توبتُه، وإن كانوا جماعةً نُفوا متفرقين.
وهل يُعتبر النصابُ في المالِ الذي يأخذُه المحارِبُ كما يُعتبر في السارق؟ فقال مالك: لا يُعتبرُ، وقال الثلاثةُ: يُعتبرُ، ويأتي ذكرُ النصابِ قريبًا عندَ تفسيرِ آيةِ السرقة.
واتفقوا على أن للرجلِ أن يقاتلَ عن نفسِه وأهلِه وماله، فإن كَفَّ المحارب، تركَهُ، وإن لم يكفَّ وقتلَه، فدمه هدرٌ، فإن تاب المحارِبون، وجاؤوا تائبين قبلَ القدرةِ عليهم، سقطَ عنهم ما كان حدًّا (٣) لله تعالى، وأُخِذوا بحقوقِ الآدميين من نفسٍ وجراحٍ ومالٍ، باتفاق.
...
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ القربة.
(١) "أبدًا" سقطت من "ظ".
(٢) في "ظ": "يؤخذ".
(٣) في "ظ": "حقًّا".
وأصلُ الوسيلةِ: التوصُّلُ إلى الشيء رغبةً فيه.
﴿وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ بالوصولِ إليه، والفوزِ بكرامته.
...
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٣٦)﴾.
[٣٦] ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ﴾ من صنوف الأموال.
﴿جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ﴾ ليجعلوهُ فديةً لأنفسِهم.
﴿مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ﴾ ذلكَ الفداءُ ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ تصريحٌ، المقصودُ منهُ:
...
﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٣٧)﴾.
[٣٧] ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا﴾ أي: يتمنونَ الخروجَ.
﴿مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ دائمٌ لا يزولُ.
...
﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾ مبتدأٌ، خبرهُ:
292
﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ أي: أيمانهما، وكذلك هو في مصحفِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، والمرادُ بأيديهما: يَدَيهما، وُضِعَ الجمعُ موضعَ الاثنين لئلا يجمعَ في كلمةٍ واحدةٍ بينَ تثنيتين نحو: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: ٤]. والسرقةُ: أخذُ مالِ الغير في خُفيةٍ.
واتفقَ الأئمةُ على أن من سرقَ نِصابًا من المالِ من حرزٍ لا شُبهةَ له فيه، تُقْطَعُ يدُه اليمنى من الكوعِ، وتُحْسَمُ، ولا يجبُ القطعُ بسرقةِ ما دونَ النصابِ بالاتفاق.
واختلفوا في قَدْرِ النِّصابِ.
فقال أبو حنيفة: هو دينارٌ، أو عشرةُ دراهمَ مضروبةٍ من النُّقْرَةِ، أو ما قيمتُه عشرةُ دراهمَ.
وقالَ مالكٌ وأحمدُ: ربعُ دينارٌ من الذهبِ، أو ثلاثةُ دراهمَ من الوَرِقِ، أو عرضٌ يساوي أحدَهما.
وقال الشافعيُّ: ربعُ دينارٍ خالصًا، أو قيمتُه من دراهمَ وغيرِها.
ثم إذا سرقَ ثانيًا، تُقطعُ رجلُه اليسرى من مفصِلِ القدمِ بالاتفاق، فإن سرقَ ثالثًا ورابعًا، فقالَ أبو حنيفةَ وأحمدُ: يُحبسُ حتى يتوبَ، ولا يقطع أكثرُ من يدٍ ورجل، وقال مالكٌ والشافعيُّ: يُقطعُ في الثالثة يدُه اليسرى، وفي الرابعةِ رجلُه اليمنى، ثم إذا سرقَ بعدَه، يُعَزَّرُ ويُحبسُ حتى تظهرَ توبتُه.
واختلفوا في ثبوتِ حدِّ السرقةِ بالإقرار، فقالَ الثلاثةُ: يثبتُ بإقرارِ السارقِ مَرَّةً، وقالَ أحمدُ: لا يثبتُ إلا بإقرارٍ (١) مَرَّتينِ، وهو قولُ
(١) في "ن": "بإقراره".
293
أبي يوسفَ وزُفَرَ، فإن رجعَ عن الإقرارِ، قُبِلَ رجوعُهُ، وسقطَ القطعُ عندَ الثلاثِة، وعندَ مالكٍ: إن رجعَ إلى شُبْهَةٍ، سقطَ عنه القطعُ، وإن رجعَ إلى غيرِ شبهةٍ، فعنه روايتان، وأما المالُ، فلا يسقطُ بالاتفاق. ولا قطعَ على المنتهِبِ والمختلسِ والغاصبِ والخائنِ بالاتفاق.
﴿جَزَاءً بِمَا كَسَبَا﴾ نصبٌ على الحالِ، ومثلُه.
﴿نَكَالًا﴾ أي: عقوبةً ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ يقالُ: نكلْتُ به: إذا فعلتُ به ما يجبُ أن ينكلَ به عن ذلكَ الفعلِ.
﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ فيما يفعله.
...
﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩)﴾.
[٣٩] ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ﴾ رجعَ عن ارتكابِ السرقة. قرأ أبو عمرٍو: (مِنْ بَعْد ظلْمِهِ) بإدغامِ الدالِ في الظاء.
﴿وَأَصْلَحَ﴾ العملَ.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يقبلُ توبتَه، فلا يعذِّبُه في الآخر.
فأما القطعُ، فلا يسقطُ عنه بالتوبةِ عندَ أبي حنيفةَ ومالكٍ، وفي الأظهر من مذهبِ الشافعيِّ، وعندَ أحمدَ إذا تابَ قبلَ ثبُوته، سقطَ بمجرَّدِ التوبةِ قبلَ إصلاحِ العملِ.
وإذا قُطع السارقُ وكانَ المسروقُ قد تلفَ، فقال أبو حنيفةَ: لا يجبُ عليه ما سرقَ؛ لأنه لا يجتمعُ عندَه قطعٌ وضمانٌ، وقال الثلاثةُ: يجتمعُ، إلا عندَ مالكٍ إذا كانَ السارقُ مُعْسِرًا، وأما إذا كانَ المسروقُ قائمًا عندَه، يُستردُّ لمالكِهِ بالاتفاق؛ لأنَّ القطعَ حَقُّ الله، والغُرْمَ حَقُّ العبدِ، فلا يمنعُ أحدُهما الآخَر.
...
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الخطابُ مع النبيِّ - ﷺ -، والمرادُ بهِ الجميعُ.
﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ على الصغيرةِ.
﴿وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ الكبيرةَ.
﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
...
{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ
الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٤١)}.
[٤١] ونزل تسليةً للنبيِّ - ﷺ -: ﴿يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ﴾. قرأ نافعٌ: بضمِّ الياءِ وكسرِ الزايِ، والباقونَ: بفتح الياءِ وضمِّ الزاي (١).
﴿الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ أي: يبادرونَ إلى موالاةِ الكفار.
تلخيصه: لا تهتمَّ بمسارعةِ المنافقينَ في موالاةِ الكفار؛ فإنّي ناصرُك عليهم. قرأ الدوريُّ عن الكسائيِّ: (يُسَارِعُونَ) بالإمالةِ (٢).
﴿مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾ وهم المنافقونَ ﴿وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ يعني: اليهودَ.
﴿سَمَّاعُونَ﴾ أي: قوم سَمَّاعونَ ﴿لِلْكَذِبِ﴾ أي: قابلونَ لما يختلقُه أَحبارُهم من الكذبِ على اللهِ ورسوله؛ كقولِه: سمعَ اللهُ لَمِنْ حَمِدَهُ؛ أي: قَبِلَ.
﴿سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ﴾ أي: لأجل قوم.
﴿آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ﴾ المعنى: هؤلاءِ الجماعةُ الذين جاؤوك من اليهودِ هم جواسيسُ لطائفةٍ أخرى منهم لم تَجِئْكَ؛ لأنه كانَ قد زنى يهوديٌّ بيهوديَّةٍ، وكانا مُحْصَنَيْنِ شَريفين عندَ أهلِ خيبر، وكان حدُّهما الرجمَ،
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٠٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٠٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٠٩).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٠٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٠٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٠٩).
296
فكرهوا رَجْمَهما، فأرسلوا بهما مع جماعةٍ من قريظةَ والنضيرِ ليسألوا النبيَّ - ﷺ - عن حدِّهما عندهَ، وقالوا: إنْ أَمَرَكُم محمدٌ بالجَلْدِ، فاقبلوا، وإن أمرَكُم بالرَّجْم، فاحْذَروا، فعلَى هَذا (سَمَّاعونَ) الأولى لأهلِ خيبر، والثانيةُ قريظةُ والنضيرُ، فحكمَ - ﷺ - بالرجم، فَرُجِما عندَ باب المسجد بعدَ إنكارِهم ذلكَ، وبعد أن أراهم عبدُ اللهِ بنُ سلامٍ ذلكَ الحكمَ في التوراة، فكان الزاني بالمرأة حالةَ الرجم يَحْنَى على المرأةِ يَقيها الحجارةَ، وقالَ - ﷺ -: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ" (١).
﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ أي: يميلونه عن مواضعِهِ التي وُضع عليها من الصحةِ ﴿يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا﴾ أي: الحكمَ المغيَّرَ، وهو الجلدُ ﴿فَخُذُوهُ﴾.
﴿وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا﴾ محمدًا وحكمَهُ ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ﴾ إضلالَه وعذابَه.
﴿فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ لن تقدَر على دفعِه عنه.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ من الكفرِ، فيه رَدٌّ على من يُنْكِرُ القَدَر.
﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ﴾ هَوانٌ بالجزيةِ، ورؤيتُهم من محمدٍ - ﷺ - وأصحابِه ما يكرهون ﴿وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ الخلودُ في النار.
...
(١) رواه مسلم (١٧٠٠)، كتاب: الحدود، باب: رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، عن البراء بن عازب -رضي الله عنه-.
297
﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢)﴾.
[٤٢] ونزلَ في كعبِ بنِ الأشرفِ وفيمَنْ كانَ مثلَه يقبلُ شهادةَ الزورِ، ويحكم ويرتشي:
﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ، والكسائيُّ: (السُّحُتِ) بضمِّ الحاء، والباقون: بسكونها (١)، وهو الحرامُ الذي يلزم صاحبَه العارُ، من سحَتَهَ: إذا استأصَلَهُ؛ لأنه مسحوتُ البركة، وسُمِّيَتِ الرِّشوةُ سُحْتًا؛ لسحتِها المروءةَ والدينَ، والرشوةُ في الحكمِ: إذا رشوتَهُ ليحقَّ لكَ باطِلًا، أو يبطلَ عنكَ حَقًّا.
ولا خلافَ بينَ الأئمةِ أَنَّ أخذَ الرشوةِ على إبطالِ حقٍّ أو ما لا يجوزُ سحتٌ حرامٌ، ولا ينفذُ القضاءُ بالرشوة بالاتفاق، قالَ - ﷺ -: "لَعَنَ اللهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتشَيَ" (٢)، وفي روايةٍ: "وَالرَّائِشَ"، وهو الماشي بينهما (٣)،
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٣)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٩)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٧٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٤٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢١٠).
(٢) رواه أبو داود (٣٥٨٠)، كتاب: الأقضية، باب: في كراهية الرشوة، والترمذي (١٣٣٧)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (٢٣١٣)، كتاب الأحكام، باب: التغليظ في الحيف والرشوة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-.
(٣) رواه الإمام أحمد في "المسند" (٥/ ٢٧٩)، والطبراني في "المعجم الكبير" =
298
وأما إذا لم يكن للقاضي رزقٌ في بيتِ المال، فأخذَ جُعْلًا من الخصمِ، جازَ إذا قضى بالحقِّ، وهو مذهبُ الشافعيِّ وأحمدَ، وعنَد أبي حنيفةَ إذا أرادَ القاضي أن يكتبَ السجلَّ، ويأخذَ على ذلك أجرًا، يأخذ منه مقدارَ ما يجوزُ أخذهُ لغيرِه، وكذا لو تولَّى القسمةَ بنفسِه بأجرٍ، وعندَ مالكٍ لا ينبغي أن يأخذَ رزقَه إلَّا من الحبسِ، أو من الجزيةِ، أو من عُشورِ أهلِ الذمَّة.
﴿فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ خَيَّرَ اللهُ رسولَه - ﷺ - في الحكمِ بينَهم إن شاء، وإن شاءَ تركَ.
واختلفوا في حكم الآيةِ اليومَ هل للحاكمِ الخيارُ في الحكمِ بينَ أهلِ الذمَّةِ إذا تحاكموا؟ فقالَ أكثرُ أهلِ العلم: هو حكم ثابتٌ، وليسَ في سورةِ المائدةِ منسوخٌ، وحكامُ المسلمينَ بالخيارِ في الحكمِ (١) بينَ أهلِ الكتابِ، إنْ شاؤوا حكموا، وإن شاؤوا لم يحكموا، وهو قولُ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ، وقالَ قومٌ: حكمُ الآيةِ منسوخٌ بقوله تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ [المائدة: ٤٩]، فيجبُ على حاكم المسلمينَ الحكمُ بينهم، وهو قولُ أبي حنيفةَ وأصحابِه، فأما إذا كانتِ الخصومةُ بينَ مسلمٍ وذميٍّ، فيجبُ الحكم بينَهما بالاتفاق؛ لأنه لا يجوزُ لمسلمٍ الانقيادُ لحكمِ أهل الذمة.
﴿وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ أي: عن الحكم بينهم.
﴿فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا﴾ نصبٌ؛ لقيامِه مقامَ المصدرِ؛ أي: ضررًا.
﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ أي: بالعدل.
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ العادلين.
= (١٤١٥)، والحاكم في "المستدرك" (٧٠٦٨)، عن ثوبان -رضي الله عنه-.
(١) "في الحكم" ساقطة من "ن".
299
﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣)﴾.
[٤٣] ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ﴾ هذا تعجُّبٌ للنبي - ﷺ -؛ أي: وكيفَ يجعلونك حَكَمًا بينَهم.
﴿وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ﴾ وهو الرجمُ.
﴿ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ الحكمِ.
﴿وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ بالمصدِّقينَ لك في الحكم.
...
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾ يكشفُ ما استُبْهِمَ من الأحكام.
﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ﴾ يعني: أنبياءَ بني إسرائيلَ ﴿الَّذِينَ أَسْلَمُوا﴾ وانقادوا لأمرِ اللهِ.
﴿لِلَّذِينَ هَادُوا﴾ أي: يحكمون بها في تحاكُمِهم.
﴿وَالرَّبَّانِيُّونَ﴾ من ولدِ هارونَ الذينَ التزموا طريقةَ النبيين، وجانَبوا دينَ اليهودِ.
300
﴿وَالْأَحْبَارُ﴾ العلماءُ، واحدُهم (حِبَرْ) بكسرِ الحاءِ وفتحِها، وهو العالمُ المُحْكِمُ.
﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا﴾ أي: استُودِعوا.
﴿مِنْ كِتَابِ اللَّهِ﴾ وأُمروا بحفظِه من التضييع والتحريف.
﴿وَكَانُوا عَلَيْهِ﴾ أي: على ما فيه من الأحكامِ.
﴿شُهَدَاءَ﴾ رقباءَ؛ لئلَّا يبدل.
﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ﴾ في إظهارِ نعتِ محمدٍ - ﷺ -، وآيةِ الرجمِ، والحكمِ بالحقِّ خوفَ الظَّلَمَةِ.
﴿وَاخْشَوْنِ﴾ في تركِ أحكامي. أثبتَ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ الياءَ في (وَاخْشوْنِي) حالةَ الوصل، وأثبتَها يعقوبُ وَصْلًا ووَقْفًا، وأسقطها الباقونَ في الحالين (١). قالَ البيضاويُّ: نهيٌ للحكَّامِ أن يخشوا غيرَ اللهِ في حكوماتِهم، ويُداهنوا فيها خشية ظالمٍ، أو مراقبةِ كبيرٍ (٢).
﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي﴾ ولا تستبدلوا بأحكامي التي أنزلتُها.
﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ هو الرشوةُ والجاهُ.
﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ مُستهينًا به، منكِرًا لهُ.
﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ لاستهانتِهم به، وتمرُّدِهم بأنْ حكموا
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٠٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢١١).
(٢) انظر: "تفسير البيضاوي" (٢/ ٣٢٨).
301
بغيره، ولذلكَ وصفَهم بقولهِ: [(الكافرون) (١)] (الظالمون) و (الفاسقون) فكفرُهم لإنكارِه، وفسقُهم بالخروج عنه، وظلمُهم بالحكمِ على خلافِه، ويجوزُ أن تكونَ كلُّ واحدةٍ من الصفاتِ الثلاثِ باعتبار حالٍ انضمَّت إلى الامتناعِ عن الحكم به ملائمةٍ لها، أو لطائفةٍ؛ كما قيل: هذهِ في المسلمين؛ لاتصالها بخطابهم، والظالمونَ في اليهود، والفاسقونَ في النصارى، انتهى تفسير البيضاوي.
وقال ابنُ عباس: "وليسَ بكفرٍ ينقلُ عن الملَّةِ، بلْ إذا فعلَ ذلكَ، فهو به كافرٌ، وليسَ كمَنْ كفرَ باللهِ واليوم الآخر" (٢).
وعنه: "الكافرونَ والظالمونَ والفاسقونَ كلُّها في الكافرين" (٣).
...
﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ﴾ فَرَضْنا على اليهودِ.
﴿فِيهَا﴾ في التوراةِ ﴿أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ أي: نفسَ القاتلِ بنفسِ المقتول.
﴿وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ﴾ تُفْقَأُ بها ﴿وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ﴾ يُجْدَعُ به.
(١) لم ترد هذه الكلمة في جميع النسخ، والسياق يقتضيها.
(٢) رواه الطبري في "تفسيره" (٦/ ٢٥٦).
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٦٨٠).
302
﴿وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ﴾ تُقطعُ بها.
﴿وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ﴾ تُقلعُ بها، وسائر الجوارح قياسٌ عليها في القصاص.
﴿وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ أي: ذاتُ قصاص، فبهذا تعميمٌ بعد تخصيصٍ.
قرأ الكسائيُّ: (والعينُ) (والأنفُ) (والأذنُ) (والسنُّ) (والجروحُ) بالرفع على القطع مما قبلَها، والاستئنافِ بها، وافقه في (والجروح) خاصَّةً ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وقرأ الباقون الخمسةَ: بالنصب على العطف، وقرأ نافع (والأُذْنَ بِالأُذْنِ) بإسكانِ الذال فيهما، والباقون: بالرفع (١).
﴿فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ﴾ أي: القصاصِ.
﴿فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ﴾ للمتصدِّقِ بأن يكفِّرَ اللهُ عنه من سيئاته، قال - ﷺ -: "مَنْ تَصَدَّقَ مِنْ جَسَدِهِ بِشَيْءٍ، كَفَّرَ اللهُ عَنْهُ بِقَدْرِهِ مِنْ ذُنُوبِهِ" (٢).
وتقدَّمَ حكمُ القتلِ العمدِ والخطأ، وقدرُ الدِّيَةِ، وحكمُ الكفارة، واختلافُ الأئمةِ في ذلكَ مستوفًى في سورة النساء بعدَ تفسيرِ قولِه تعالى: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ [الآية: ٩٢]، وتقدمَ اختلافُ الأئمةِ في القِصاص بينَ المسلمِ والكافرِ، والحرِّ والعبدِ في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٤)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٩)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٨٢)، و"المحتسب" لابن جني (٢/ ١٩٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٤٢، ٢٠٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢١٢ - ٢١٣).
(٢) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (١١١٤٦)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (٨/ ٢٩٩)، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- بهذا اللفظ.
303
قوله تعالى: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ [البقرة: ١٧٨].
﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ وصفٌ لهم بالعتوِّ
في كفرِهم حينَ ظلموا آياتِ اللهِ بالاستهانةِ، وتمرَّدوا بأنْ حكموا بغيرها.
...
﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦)﴾.
[٤٦] ﴿وَقَفَّيْنَا﴾ وأَتْبَعْنا.
﴿عَلَى آثَارِهِمْ﴾ أي: آثار النبيين المتقدِّمي الذِّكْرِ.
﴿بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا﴾ حالٌ من (عيسى).
﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ لما تقدَّمَهُ.
﴿مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا﴾ يعني الإنجيل.
﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾.
...
﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤٧)﴾.
[٤٧] ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ﴾ قرأ حمزة: (وَلِيَحْكُمَ) بكسر اللام ونصب الميم؛ أي: لكي يحكمَ، وقرأ الباقونَ: بسكون اللامِ وجزمِ الميمِ على الأمرِ (١).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٤)، و "التيسير" للداني (ص: ٩٩)، =
﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ الخارجونَ عن أمرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، والآيةُ تدلُّ على أن الإنجيلَ مشتملٌ على الأحكام، وأن اليهوديةَ منسوخةٌ ببعثةِ عيسى عليه السلام، وأنه كانَ مستقلًا بالشرعِ، وحملُها على: ولْيَحْكُموا بما أنزلَ الله وفيهِ؛ من إيجابِ العملِ بأحكامِ التوراةِ خلافُ الظاهرِ.
...
﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨)﴾.
[٤٨] ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾ يا محمدُ.
﴿الْكِتَابَ﴾ القرآنَ.
﴿بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ﴾ أي: من الكتب المنزلة من قبل.
﴿وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ أي: رقيبًا وشاهدًا لها بالصحة، قال حَسَّانُ:
إِنَّ الْكِتَابَ مُهَيْمِنٌ لِنَبِينا وَالْحَقُّ يَعْرِفُهُ ذَوُو الأَلْبَابِ
= و"تفسير البغوي" (١/ ٦٨٣)، و"الكشف" لمكي (٢/ ٢٥٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٠٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢١٤).
305
﴿فَاحْكُمْ﴾ يا محمدُ.
﴿بَيْنَهُمْ﴾ أي: بينَ أهلِ الكتابِ إذا ترافَعُوا إليكَ.
﴿بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ أي: بالقرآنِ.
﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ عادلًا.
﴿عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾ في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، تقديرهُ: ولا تُعْرِضْ عَمَّا جاءكَ من الحقِّ متبعًا أهواءَهُم.
﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ سَبيلًا واضِحًا وسُنَّةً، وأرادَ بهذا: أن الشرائعَ مختلفةٌ، ولكلِّ أهلِ مِلَّةٍ شريعةٌ، قال قتادةُ: الخطابُ للأممِ الثلاثِ: أمةِ موسى، وعيسى، وأمةِ محمدٍ صلواتُ الله عليهم أجمعين: التوراةُ شريعةٌ، والإنجيلُ شريعةٌ، والقرآنُ شريعةٌ، والدينُ واحدٌ، وهو التوحيدُ.
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ على دينٍ واحدٍ.
﴿وَلَكِنْ﴾ فَرَّقَكم فِرَقًا.
﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ ليختبرَكُم.
﴿فِي مَا آتَاكُمْ﴾ من الكتبِ والشرائعِ المختلفةِ ليظهرَ لكم أَيُّكم الطائعُ من العاصي.
﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ فابتدِرُوا إلى العملِ بالطاعات، وأصلُ السَّبْقِ: التقدُّمُ في السير.
306
﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾ استئنافٌ فيه تعليلُ الأمرِ بالاستباق (١)، ووعدٌ ووَعيدٌ للمبادِرينَ والمقصِّرينَ.
﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ بالجزاءِ الفاصلِ بينَ المحقِّ والمبطلِ، والعاملِ والمقصِّرِ.
...
﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (٤٩)﴾.
[٤٩] ﴿وَأَنِ احْكُمْ﴾ التقديرُ: وأمرنا أَنِ احكُمْ.
﴿بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ﴾ أي: واحذرْ فتنتَهُمْ.
﴿عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ أن يضلُّوكَ ويصرفوكَ عنه. رُوي أنَّ أحبارَ اليهودِ قالوا: اذهبوا بنا إلى محمدٍ نَفْتِنُهُ عن دينه، فقالوا: يا محمدُ! قد عرفتَ أنَّا أحبارُ اليهود، وإنا إن اتبعناكَ، اتبعَنا اليهودُ كلُّهم، وإنَّ بيننا وبينَ قومنا خصومةً، فنتحاكمُ إليكَ، فاقضِ لنا عليهم، ونحن نؤمنُ بك ونصدِّقُكَ، فأبى ذلكَ رسولُ الله - ﷺ -، فنزلت:
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ (٢) عن الحكمِ المنزَلِ، وأرادوا غيرَهُ.
(١) في "ن": "بالاستئناف".
(٢) انظر: "تفسير الطبري" (٦/ ٢٧٣)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (٤/ ١١٥٤١)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٠٩).
﴿فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ بأنْ يعجِّلَ لهم العقوبةَ في الدنيا ببعضِ عمَلهم.
﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ يعني: اليهودَ.
﴿لَفَاسِقُونَ﴾ متمرِّدُونَ في الكفر، مُعْتَدُونَ فيه.
...
﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)﴾.
[٥٠] ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾ يطلبونَ. قرأ ابنُ عامرٍ: (تبْغُونَ) بالخطاب، والباقونَ: بالغيبِ (١).
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ خطابٌ للموقنين؛ فإنهم الذين يتبينون أنْ لا أحدَ أحسنُ حكمًا من الله.
...
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١)﴾.
[٥١] ونزلَ نهيًا عن موالاةِ الأعداءِ في الدينِ:
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ﴾ فلا تعتمدوا عليهم، ولا تعاشروهم معاشرةَ الأحبابِ.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٤)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٩)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٨٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٠١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢١٦).
﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ في العونِ والنُّصرةِ؛ فإنهم متفقونَ على خلافِكم ومضادَّتِكم.
﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ﴾ فيعينهُمْ.
﴿فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ من جملتِهم.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ الذين ظلموا أنفسَهُمْ بموالاةِ الكافرينَ.
...
﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (٥٢)﴾.
[٥٢] ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ شكٌ ونفِاقٌ، وهم عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ وأصحابُه منَ المنافقينَ.
﴿يُسَارِعُونَ فِيهِمْ﴾ أي: في موالاتِهم ومعونَتِهم.
﴿يَقُولُونَ﴾ اعتِذارًا:
﴿نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾ بأنْ يدورَ الدهرُ علينا من جَدْبٍ وغَلَبَةٍ وغيرِهما، ولا يتمُّ أمرُ محمدٍ، فنزلَ توبيخًا لهم، وإيماءً إلى تتمةِ أمرهِ - ﷺ -:
﴿فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ﴾ بنصرِ محمدٍ - ﷺ -، وإظهارِ في دينِه.
﴿أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ﴾ هو (١) إجلاءُ اليهودِ من ديارِهم.
(١) في "ت": "من".
﴿فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ من موالاةِ الكفارِ.
﴿نَادِمِينَ﴾ فضلًا عَمَّا أظهروهُ مما أشعر على نفاقهم.
...
﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (٥٣)﴾.
[٥٣] ﴿وَيَقُولُ﴾ أي: وحينئذٍ يقولُ.
﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قرأ أبو عمرٍو، ويعقوبُ: (ويقولَ) بالواوِ ونصبِ اللام عطفًا على (أَنْ يَأْتِيَ)؛ أي: وعسى أن يقولَ الذين آمنوا، وقرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَيَقُولُ) بالواوِ ورفعِ اللامِ على الاستئناف، وقرأ الباقون، وهم ابنُ كثيرٍ، ونافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: بغير واو، ورفعِ اللام، وكذلك هو في مصحفِ أهل العاليةِ (١)، واستُغني عن حرفِ العطفِ لمناسبةِ هذه الآية بما قبلَها؛ يعني: يقولُ الذينَ آمنوا في وقتِ إظهارِ اللهِ نفاقَ المنافقين:
﴿أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ أي: حلفوا بأغلظِ الأيمانِ.
﴿إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ﴾ مؤمنينَ مثلَكم؟ ثم قالَ المؤمنونَ داعينَ متعجِّبينَ من صنيع المنافقين.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٤)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٩)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٨٦ - ٦٨٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٠١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢١٧، ٢١٨).
﴿حَبِطَتْ﴾ بَطَلَتْ.
﴿أَعْمَالُهُمْ﴾ الصالحةُ.
﴿فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ﴾ الدُّنيا بافتضاحِهم، والآخرةَ بالعذابِ.
...
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤)﴾.
[٥٤] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ﴾ أي: يرجعْ.
﴿مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ كافرًا بعدَ موتِ النبيِّ - ﷺ -. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (يَرْتَدِدْ) بدالين مظهرَتين على الأصل، الثانيةُ مجزومة بـ (مَنْ)، وقرأ الباقونَ: (يَرْتَدَّ) بدالٍ واحدةٍ مشدَّدَةٍ مفتوحةٍ لالتقاء الساكنين (١).
﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ﴾ غيرهم مكانَهم.
﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ والمرادُ بالقومِ: أبو بكرٍ وأصحابُه الذين قاتلوا أهلَ الردَّةِ ومانعي الزكاةِ، ورُوي أنهم قومُ أبي موسى الأشعري، وقيل: هم أحياءٌ من اليمنِ جاهدُوا يومَ القادسية أيامَ عمرَ (٢).
﴿أَذِلَّةٍ﴾ أرقَاءَ رحماءَ.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٥)، و"الكشف" لمكي (١/ ٤١٢)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٨٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢١٨).
(٢) انظر: "تفسير الطبري" (٦/ ٢٨٢)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٨٧).
﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: هم لَيِّنُونَ متواضعون لهم.
﴿أَعِزَّةٍ﴾ أشداء غلظاء.
﴿عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ كالسَّبُعِ على فريستِه.
﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾ المعنى: إنهم الجامعونَ بينَ المجاهدةِ في سبيلِ الله، والتصلُّبِ في دينه؛ بخلافِ المنافقينَ؛ فإنهم يَخرجون في جيش المسلمين خائفينَ ملامةَ أوليائِهم من اليهودِ، فلا يعملون شيئًا يلحقُهم فيه لومٌ من جهتِهم، واللَّوْمَةُ: المَرَّةُ من اللَّومِ.
﴿ذَلِكَ﴾ أي: ما وُصِفَ به القومُ من لينِ جانبِهم للمؤمنين، وشدَّتِهم على الكافرين، وعدمِ خوفِهِم.
﴿فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ يمنحُه ويوفِّقُ له.
﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ﴾ كثيرُ الفضل.
﴿عَلِيمٌ﴾ من هو أهلٌ.
...
﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾.
[٥٥] ولما نَهى عن موالاةِ الكَفَرة، ذَكَرَ عَقِبَهُ مَنْ هو حقيقٌ بها، فقالَ:
﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ وإنما قال: وَلِيُّكُمْ ولم يقلْ: أَوْلياؤكم للتنبيه على أن الولايةَ لله على الأصالةِ، ولرسولِه والمؤمنينَ على التبع، رُوي أن عبدَ اللهِ بنَ سلامٍ جاءَ للنبيِّ - ﷺ - وقالَ: إنَّ قومَنا قُريظَةَ والنضيرَ قد أقسموا إنهم لا يُجالسُونا، فنزلت هذه الآيةُ، فقرأها عليه رسولُ الله - ﷺ -
فقالَ: "رَضينا باللهِ وبرسولِه والمؤمنينَ أولياءَ" (١).
﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ مُتَخَشِّعونَ في صلِاتهم وزكاتهم، وقيل: نزلَتْ في عليٍّ رضي الله عنه حينَ سألَه سائلٌ وهو راكعٌ في صلاتِه، فطرحَ له خاتمَهُ (٢)، واستدلَّ بها الشيعةُ على إمامتِه زاعمينَ أن المرادَ بالوليِّ: المتولِّي للأمورِ، والمستحقُّ للتصرُّفِ فيها.
...
﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (٥٦)﴾.
[٥٦] ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ ومَنْ يَتَّخِهذُهم أولياءَ.
﴿فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ﴾ أنصارَ دينِ اللهِ.
﴿هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ لأنه تعالى ناصرهم.
...
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧)﴾.
[٥٧] ونزلَ في رفاعةَ بنِ زيدٍ وسُويدِ بنِ الحارثِ، أظهرا الإسلام، ثم نافقا، وكان رجالٌ من المسلمينَ يوادُّونهما:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
(١) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١١٠).
(٢) رواه الطبري في "تفسيره" (٦/ ٢٨٨). وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (١/ ٤٠٩)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٣/ ١٠٦).
قَبْلِكُمْ} (١) هم اليهودُ؛ لأنهم كانوا يستهزئون بالدِّينِ.
﴿وَالْكُفَّارَ﴾ أي: لا تتخذوا المستهزئينَ والكفارَ.
﴿أَوْلِيَاءَ﴾ قرأ أبو عمرٍو، ويعقوبُ، والكسائيُّ: (وَالْكُفَّارِ) (٢) بخفضِ الراء؛ يعني: من الكفارِ، وقرأ الباقونَ: بالنصب؛ أي: لا تتخذوا الكفارَ أولياءَ (٣).
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ بتركِ المناهي.
﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ لأن الإيمانَ حقًّا يقتضي ذلكَ.
...
﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (٥٨)﴾.
[٥٨] ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا﴾ أي: الصلاةَ أو المناداةَ.
﴿هُزُوًا وَلَعِبًا﴾ لأن اليهودَ كانوا يقولونَ للمسلمينَ عندَ قيامِهم إلى الصلاة: قامُوا لا قاموا، صَلَّوا لا صلَّوا، وقالَ نصرانيٌّ من أهلِ نجرانَ لما سمعَ المؤذِّنَ يقولُ: أشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ الله: أَحرقَ اللهُ الكاذبَ، فدخلَ خادمُه ذاتَ ليلةٍ بنارٍ، وأهلهُ نيامٌ، فطارتْ شرارةٌ فأحرقَتْهُ معَ بيتِه وأهلِه.
(١) انظر: "تفسير الطبري" (٦/ ٢٩٠)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (٤/ ١٦٣)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: ١١٠).
(٢) "والكفار" سقطت من "ت".
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٦)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٠)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٩١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٢٠).
﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ، خبرُه:
﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾ فإن السَّفَهَ يؤدِّي إلى الجهلِ بالحقِّ والهزءِ به، والعقلُ يمنعُ منهُ.
...
﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (٥٩)﴾.
[٥٩] ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا﴾ أي: هل تنُكرونَ منا وتَعيبونَ إلَّا إيماننا.
﴿بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ﴾ من الكتبِ المنزلَةِ.
﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ تلخيُصه: وما تنُكرون إلا مخالفَتَنا إياكم؛ حيثُ دخلْنا الإيمانَ وأنتم خارجونَ منه. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وهشامٌ: (هَل تنْقِمُون) بإدغامِ اللام في التاء، والباقون: بالإظهارِ (١)، والآية خطابٌ لليهودِ حينَ سألوا رسولَ الله - ﷺ - عمَّن يؤمنُ به، فقالَ: " ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ إِلى قولِه: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٦] "، فلما ذكرَ عيسى، جَحَدوا نبوَّتَهُ، وقالوا: لا نعلمُ دينًا شَرًّا من دينِكم (٢).
...
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٠٤)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٩٢)، و"إملاء ما منَّ به الرحمن" للعكبري (١/ ١٢٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٢٠).
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١١١)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (١/ ٤١٢).
﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (٦٠)﴾.
[٦٠] ﴿قُلْ﴾ يا محمدُ:
﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ﴾ أُخبرُكم.
﴿بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ﴾ الذي ذكرتمُ (١)؛ يعني قولهم: لا نعلَمُ دينًا شَرًّا من دينكم.
﴿مَثُوبَةً﴾ ثوابًا وجزاءً.
﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ والمثوبةُ به (٢) مختصةٌ بالخيرِ، كالعقوبة بالشرّ، فَوُضعت هاهنا موضعَها توسُّعًا، ونصبُها على التمييزِ.
﴿مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ﴾ أبعدَه من رحمتِه.
﴿وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾ يعني: اليهودَ، سخطَ عليهم بكفرِهم، وانهماكِهم في المعاصي بعدَ وضوحِ الآيات.
﴿وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ﴾ وهم أصحابُ السبت.
﴿وَالْخَنَازِيرَ﴾ وهم كفارُ أهلِ مائدةِ عيسى، وعن ابنِ عباس: "أَنَّ المسخينِ كلاهما من أصحابِ السبتِ، مُسخِتْ شبابُهم قردةً، ومشايخُهم خنازيرَ" (٣).
(١) في "ن": "ذكرتموه".
(٢) "به": زيادة من "ن".
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٦٩٣).
﴿وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ﴾ أطاعَ الشيطانَ. قرأ حمزةُ: (وعَبُدَ) بضمِّ الباءِ وجرِّ (الطَّاغُوتِ) إضافةً، جعلَه اسمًا على فعلٍ؛ كَعَضُدٍ، فهو بناءٌ للمبالغةِ والكثرةِ، وقرأ الباقونَ: بفتح الباءِ والتاءِ، جعلوهُ فعلًا ماضيًا، وعطفُه على فعلٍ ماضٍ وهو (غَضِبَ) و (لَعَنَ) (١)، والمعنى عندهم: ومَنْ عبدَ الطاغوتَ.
﴿أُولَئِكَ﴾ أي: الملعونونَ.
﴿شَرٌّ مَكَانًا﴾ لأن مكانَهم النارُ.
﴿وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ أي: عن طريقِ الحقِّ، ولما نزلتْ هذه الآيةُ، قالَ المسلمونَ لهم: يا إخوةَ القردةِ والخنازيرِ! فنكسوا رؤوسَهم افْتِضاحًا.
...
﴿وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (٦١)﴾.
[٦١] ونزلَ فيمَنْ كان يدخلُ على النبيِّ - ﷺ - ويُظهر الإيمانَ نفاقًا:
﴿وَإِذَا جَاءُوكُمْ﴾ يعني: هؤلاءِ المنافقينَ.
﴿قَالُوا آمَنَّا﴾ بكَ وصدَّقناك.
﴿وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ﴾ أي: دخلوا وخرجوا كافرينَ.
﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ﴾ من النفاقِ.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٦)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٠)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٩٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٢٢).
﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢)﴾.
[٦٢] ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ﴾ يعني: اليهودَ.
﴿يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ﴾ أي: الشركِ.
﴿وَالْعُدْوَانِ﴾ الظلمِ.
﴿وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ﴾ الرُشَا. قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، وعاصمٌ، وحمزةُ، وخلفٌ: (السُّحْتَ) في الحرفين بجزم الحاءِ، والباقون: بالرفع (١).
﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ لبئسَ شيئًا عملوهُ.
...
﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣)﴾.
[٦٣] ﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ﴾ يعني: العلماءَ.
﴿عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ﴾ ثم وبَّخَ علماءهم في تركِهم نهيَهُمْ، فقال:
﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ ودلَّتِ الآية على أن تارك النهيِ (٢) عن المنكَرِ كمرتكبِ المنكَرِ، فالآيةُ توبيخٌ للعلماءِ في تركِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ.
(١) تقدمت عند تفسير الآية (٤٢) من هذه السورة.
(٢) "النهي" ساقطة من "ن".
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤)﴾.
[٦٤] قال ابنُ عباسٍ: إنَّ اللهَ قدْ بسطَ على اليهودِ حتَّى كانوا من أكثرِ الناسِ مالًا، فلمَّا عَصَوُا اللهَ في أمرِ محمدٍ - ﷺ -، كَفَّ عنهم ما بَسَطَ عليهِم من السَّعةِ، فقال فنخاصُ بنُ عازوراءَ: يدُ اللهِ مغلولَةٌ، ولم ينكرِ اليهودُ عليه مقالتَهُ، وأشركوا معه، فنزلَ:
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ (١) أي: محبوسَةٌ عن إدرارِ الرزقِ علينا، نسبوه إلى البخلِ.
﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾ أُمْسِكَتْ ومُنِعَتْ عن فعلِ الخير، وأجابهم تعالى: أنا الجوادُ وهمُ البخلاء، وأيديهم هي المغلولةُ.
﴿وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا﴾ أي: أُبْعِدوا وعُذِّبوا بسببِ قولهم.
﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ وليسَ المرادُ حقيقةَ الجارحةِ المتركِّبَةِ؛ لأنه تعالى منزَّهٌ عن التركيبِ، وإنَّما هي صفةٌ من صفاتِ ذاتِه؛ كالسمعِ والبصرِ، قالَ جلَّ ذكرُه: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥]، وقال - ﷺ -: "كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ" (٢)، واللهُ أعلمُ بصفاته، فعلى العبادِ فيها الإيمانُ والتسليمُ، وأَنْ يُمِرُّوها كما جاءتْ بلا كيفٍ؟
(١) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٦٩٣ - ٦٩٤).
(٢) رواه مسلم (١٨٢٧)، كتاب: الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-.
﴿يُنْفِقُ﴾ أي: يرزقُ.
﴿كَيْفَ يَشَاءُ﴾ من التوسيعِ والتضييقِ، لا اعتراضَ عليه. قرأ أبو عمرٍو: (يَنْفِق كيْفَ) بإدغام القاف في الكاف.
﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ﴾ أي: اليهودَ.
﴿مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ أي: القرآنُ.
﴿طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾ أي: كلَّما نزلَتْ آيةٌ، كفروا بها؛ لحسدِهم.
﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ﴾ أي: بينَ اليهودِ والنصارى، أو بينَ طوائفِ اليهودِ.
﴿الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ جعلَهم مختلفين في دينِهم، مُتباغِضين، وتقدَّمَ اختلافُ القراء في حكمِ الهمزتين من كلمتينِ في سورة البقرة عندَ تفسيرِ قوله تعالى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ﴾ [البقرة: ١٣٣]، وكذلك اختلافُهم في قوله ﴿وَالْبَغْضَاءَ إِلَى﴾.
﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ﴾ أي: لحربِ النبيِّ - ﷺ - بإفسادِ أمرهِ.
﴿أَطْفَأَهَا اللَّهُ﴾ بقهرِهم ونصر نبيِّه؛ أي: كلَّما حارَبوا، غُلِبوا.
﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾ بكفرِهم وإضلالِ غيرِهم.
﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ فلا يجازيهم إلا شَرًّا.
...
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥)﴾.
[٦٥] ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا﴾ بمحمدٍ وما (١) جاءَ بهِ.
(١) في "ت": "وبما".
﴿وَاتَّقَوْا﴾ الكفرَ ﴿لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ التي فعلوها.
﴿وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ ولجعلناهُمْ من الدَّاخلين فيها، فيه تنبيهٌ أن الإسلامَ يَجُبُّ ما قبلَه، وأن الكتابيَّ لا يدخلُ الجنةَ ما لم يُسْلِمْ.
...
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (٦٦)﴾.
[٦٦] ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ عَمِلُوا بما فيهما.
﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ يعني: القرآنَ وجميعَ الكتب.
﴿لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ بقطرِ السماءِ.
﴿وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ بالنباتِ، والمرادُ: سَعَةُ الرزقِ.
﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ﴾ عادلةٌ، كعبدِ اللهِ بنِ سلامٍ وأصحابِه.
﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾ كعبُ بنُ الأشرفِ وأصحابُه.
﴿سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ بئسَ شيئًا عملُهم.
...
﴿يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٦٧)﴾.
[٦٧] ﴿يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ أي: جميعَ المنزلِ إليك.
321
﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ ولا تخفْ إلا اللهَ، ومن خصائصِهِ - ﷺ - وبِرِّ اللهِ تعالى به أَنَّ اللهَ تعالى خاطبَ جميعَ الأنبياءِ بأسمِائهم، فقال: (يا آدمُ) (يا نوحُ) (يا إبراهيمُ) (يا داودُ) (يا عيسى) (يا زكريا) (يا يحيى)، ولم يخاطَبْ هو إلا (يا أيُّها الرسولُ) (يا أيها النَّبيُّ) (يا أيُّها المزمِّلُ) (يا أيها المدثِّرُ).
﴿وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ﴾ أي: إن لم تبلغْ مجموعَهُ.
﴿فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ فما أَدَّيتَ شيئًا منها؛ لأن كتمانَ بعضِها يضيِّعُ ما أُدِّي منها؛ كتركِ بعض أركانِ الصلاة. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وأبو بكرٍ، ويعقوبُ: (رِسَالاَتِهِ) على الجمع، والباقون: على التوحيد (١)، ثم قالَ مشجِّعًا له:
﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ﴾ أي: يحفظُكَ.
﴿مِنَ النَّاسِ﴾ فلا يَصِلونَ إليك بقتلٍ ولا غيرِه، ونزلت بعدَما شُجَّ وجهُه، وكُسرت رَباعِيَتُهُ، والمرادُ بالناسِ: الكفارُ؛ لقولِه بعدُ (٢):
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾.
عن عائشةَ رضي الله عنها: كانَ النبيُّ - ﷺ - يُحْرَسُ حتى نزلتْ هذهِ الآيةُ، فأخرجَ رسولُ اللهِ - ﷺ - رأسَهُ من القُبّةِ وقالَ لهم: "يَا أَيُهَا النَّاسُ! انْصَرِفُوا؛ فَقَدْ عَصَمَنِي اللهُ" (٣).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٦)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٠)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٩٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٥)، و "معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٨٨).
(٢) في "ت": "بعده".
(٣) رواه الترمذي (٣٠٤٦)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة المائدة، وقال: =
322
﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٦٨)﴾.
[٦٨] ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ﴾ من الدِّينِ وما أنتم عليهِ لا اعتدادَ به، فهو كلا شيءٍ.
﴿حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ ومِنْ إقامتِها الإيمانُ بمحمدٍ - ﷺ -؛ فإنَّ جميعَ الكتبِ ناطقةٌ بوجوبِ الطاعةِ لهُ.
﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ﴾ فلا تحزنْ.
﴿عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ ففي المؤمنين كفايةٌ عنهم.
...
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩)﴾.
[٦٩] ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ على الحقيقةِ.
﴿وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى﴾ تقدَّم تفسيرُه، واختلافُ القراءِ فيه في سورةِ البقرةِ.
﴿مَنْ آمَنَ﴾ أي: ثبتَ على الإيمان.
= غريب، والحاكم في "المستدرك" (٣٢٢١)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (٩/ ٨).
﴿بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ وفي الكلامِ تقديم وتأخيرٌ تقديرهٌ: إنَّ الذين آمنوا، والذين هادوا، مَنْ آمنَ باللهِ واليومِ الآخرِ.
﴿وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ والصابئون والنصارى كذلك. قرأ يعقوبُ: (فَلاَ خَوْفَ) بفتحِ الفاءِ وعدمِ التنوين، والباقونَ: بالرفع والتنوين (١).
...
﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (٧٠)﴾.
[٧٠] ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ في التوحيدِ والنبوَّةِ.
﴿وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا﴾ ليبينوا لهم أمرَ دينِهم.
﴿كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ﴾ مما يخالفُ أهواءَهُمْ.
﴿فَرِيقًا كَذَّبُوا﴾ كمحمدٍ وعيسى.
﴿وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾ يعني: قَتَلوا؛ كزكريا ويحيى.
...
﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (٧١)﴾.
[٧١] ﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ ظَنُّوا أنهم لا يُعَذَّبونَ بذنوبهم. قرأ أبو عمرٍو، ويعقوبُ، وحمزةُ، والكسائيُّ: (تَكُونُ) برفعِ النونِ على معنى:
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٣٤، ٢٠٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٣٠).
أنه لا تكونُ، وقرأ الباقون: بالنصبِ (١)، كما لو لم تكنْ قبلَه (لا).
﴿فَعَمُوا وَصَمُّوا﴾ عن الحقِّ بعبادةِ العجلِ.
﴿ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ قَبِلَ توبتَهم حينَ تابوا.
﴿ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا﴾ بسؤالِ الرؤيةِ، المعنى: رَماهُم اللهُ بالعمى والصَّمَمِ.
﴿كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ فمُجازيهم (٢) وَفْقَ أعمالِهم.
...
﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (٧٢)﴾.
[٧٢] ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ يعني: الملكائيةَ واليعقوبيةَ منهم.
﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ أي: إني عبدٌ مربوبٌ مثلُكم.
﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ﴾ في عبادتِه.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٠)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٩٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٥)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٠٢)، و "معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٣١).
(٢) في "ن": "فيجازيهم".
﴿فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ﴾ يُمْنَعُ من دخولها.
﴿وَمَأْوَاهُ النَّارُ﴾ فإنها المعدَّةُ للمشركين.
﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ يَنصرونهم من النارِ.
...
﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣)﴾.
[٧٣] ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ﴾ أي: أحدُ.
﴿ثَلَاثَةٍ﴾ يعني: المرقوسيةَ؛ لأنهم يقولون: الإلهيةُ مشتركةٌ بينَ اللهِ ومريمَ وعيسى، وكلُّ واحدٍ من هؤلاء إلهٌ، فهم ثلاثةٌ، ومن قالَ: إن الله ثالثُ ثلاثةٍ، ولم يردِ الآلهةَ (١)، لم يكفرْ؛ لقولي تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: ٧]، ولقولِه - ﷺ - لأَبي بكرٍ: "مَا ظَنُّكَ بِاثنيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا؟ " (٢)، ثم قالَ ردًّا عليهم:
﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ وما في الموجوداتِ إلَّا إلهٌ واحدٌ متعالٍ عن الشركَةِ، و (مِنْ) مزيدةٌ للاستغراقِ.
﴿وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ﴾ ولم يوحِّدوا.
(١) في "ن": "الإلهية".
(٢) رواه البخاري (٣٤٥٣)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم، ومسلم (٢٣٨١)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، عن أبي بكر -رضي الله عنه-.
﴿لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣)﴾ أي: ليمسَّنَّ الذين بَقُوا منهم على الكفرِ.
...
﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤)﴾
[٧٤] ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ﴾ أي: ألا يتوبونَ بالانتهاءِ عن تلكَ العقائدِ، ويستغفرونَ بالتوحيدِ والتنزيهِ.
﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يغفرُ لهم إنْ تابوا.
...
﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)﴾.
[٧٥] ثم نَفَى عن عيسى الألوهيةَ، وأثبت لهُ ولأمهِ البشريةَ بقولِه:
﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ﴾ مضتْ.
﴿مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ فهو رسولٌ من جنسِ الرسلِ الماضين، يموتُ ويمضي، ولو كانَ إلهًا، لكانَ دائمًا.
﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ كثيرةُ الصِّدْقِ.
﴿كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾ أي: يحتاجان إليه كالآدميينَ، ومَنْ هذهِ صفتهُ، كيفَ يكونُ إلهًا؟! ثم عجبَ من كفرِهم معَ قيامِ البرهانِ على بشريَّتِهما فقالَ:
﴿انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ﴾ أي: الدَّلالاتِ على ذلك، ثم عجبَ ثانيًا من تركِهمُ الإيمانَ معَ وضوحِ الدليلِ، فجاءَ بـ (ثم) للتراخي بينَ العجبينِ فقال:
﴿ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ كيفَ يُصْرَفون عن الحقِّ، وتقدَّم في سورةِ آلِ عمران أنَّ (ثُمَّ) للترتيبِ بمهلَةٍ.
...
﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦)﴾.
[٧٦] ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾ هو عيسى وكلّ معبودٍ غيرِ اللهِ.
﴿وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ يملكُ الضرَّ والنفعَ، فهو الإلهُ على الحقيقةِ.
...
﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (٧٧)﴾.
[٧٧] ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ تتجاوَزُوا.
﴿غَيْرَ الْحَقِّ﴾ والغلوُّ والتقصيرُ كلٌّ منهما مذمومٌ في الدين.
﴿وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ﴾ والأهواءُ جمع الهوى، وهو ما تدعو إليه شهوةُ النفسِ.
﴿قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ﴾ يعني: أسلافَهم وأئمتَهم الذين ضَلُّوا قبلَ مبعثِ محمدٍ - ﷺ - في شريعتِهم، والخطابُ للدَّين كانوا في عصرِ النبيِّ - ﷺ -.
﴿وَأَضَلُّوا كَثِيرًا﴾ من أصحابِهم.
﴿وَضَلُّوا﴾ ثانيًا لما بُعِثَ النبيُّ - ﷺ -.
﴿عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ أي: عن قصدِ طريقِ محمدٍ - ﷺ -.
...
﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨)﴾.
[٧٨] ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ﴾ يعني: أهلَ أيلةَ، لعنَهم داودُ، فَمُسخوا قردةً، وتقدَّمَ ذكرُ قصتِهم في البقرةِ.
﴿وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ أي: وعلى لسانِ عيسى؛ يعني: كفارَ أصحابِ المائدةِ، لعنَهم عيسى، فَمُسخوا خَنازير، ويأتي ذكرُ قصتِهم أواخرَ السورة.
﴿ذَلِكَ﴾ المسخُ.
﴿بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ أي: بسببِ اعتدائِهم بما حرَّمَ اللهُ.
...
﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩)﴾.
[٧٩] ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ أي: لا ينهى بعضُهم بعضًا.
﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ ذَمٌّ لتركِهم النهيَ.
...
﴿تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (٨٠)﴾.
[٨٠] ﴿تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ﴾ من اليهودِ: كعبِ بنِ الأشرفِ وأتباعِه.
﴿يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ مشركي مكةَ يستمدُّونَهم على النبيِّ - ﷺ -.
﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ أي: لبئس شيئًا قدَّموه لمعادِهِم.
﴿أَنْ سَخِطَ﴾ أي: غضبَ.
﴿اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ ابتداءٌ وخبرٌ.
...
﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٨١)﴾.
[٨١] ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ﴾ محمدٍ - ﷺ -.
﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ﴾ يعني: القرآنَ.
﴿مَا اتَّخَذُوهُمْ﴾ يعني: الكفارَ.
﴿أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ خارجونَ عن أمرِ الله تعالى.
...
﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢)﴾.
[٨٢] ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ يعني: مشركي العرب؛ لشدةِ شَكيمتِهم وتضاعُفِ كفرِهم.
﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ لِلِينِ جانبِهم، وقلَّةِ حرصِهم على الدنيا، وليسَ المرادُ جميعَ النصارى، بلْ مَنْ أسلمَ؛ كالنجاشيِّ وأصحابِه لما قدمَ عليهم المسلمونَ في الهجرةِ الأولى في السُّنةِ الخامسةِ من مبعَثِ رسولِ الله - ﷺ -، واسمُ النجاشيِّ أَصْحَمَةُ، ومعناهُ بالعربيِّ عَطِيَّةُ، وإنما النجاشي اسمُ الملكِ؛ كقولهم: قيصرَ، وكسرى.
﴿ذَلِكَ﴾ أي: قربُ المودة.
﴿بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ﴾ علماءَ.
﴿وَرُهْبَانًا﴾ عُبَّادًا.
﴿وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ لا يتعظَّمون عن الإيمان.
...
﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣)﴾.
[٨٣] ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ﴾ محمدٍ - ﷺ -.
﴿تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ﴾ والمرادُ: وفدُ النجاشيِّ إلى النبيِّ - ﷺ -، لما سمعوا القرآنَ، رَقَّتْ قلوبُهم، وفاضَتْ عيونُهم بالدمعِ.
﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ المقرِّينَ بنبوَّةِ محمدٍ - ﷺ -.
***
﴿وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤)﴾.
[٨٤] ولما عَيَّرهم اليهودُ بالإيمانِ، قالوا منكِرينَ على أنفسِهم تركَ الإيمانِ بعدَ (١) قيامِ البرهانِ:
﴿وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ وحدَهُ.
﴿وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ﴾ أي: في أمةِ محمدٍ - ﷺ -.
...
﴿فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥)﴾.
[٨٥] ﴿فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥)﴾ الذين أحسنوا النظرَ والعملَ.
...
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (٨٦)﴾.
[٨٦] ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ وهي النارُ الشديدةُ الاتِّقادِ.
...
(١) في "ن": "مع".
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧)﴾ [٨٧] ونزلَ نهيًا لجماعةٍ من الصحابةِ -رضي الله عنهم أجمعين- حينَ حلفوا أن يترَهَّبُوا، ويَلْبَسوا المُسُوحَ، ويقوموا الليلَ، ويصوموا النهارَ، ويَجُبُّوا مذاكيرَهم، وهم: أبو بكرٍ الصدّيقُ، وعليُّ بنُ أبي طالبٍ، وعبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ، وعبدُ اللهِ بنُ عمرَ، وأبو ذَرٍّ الغفاريُّ، وسالمٌ مولَى [أبي] (١) حذيفةَ، والمقدادُ بنُ الأسودِ، وسلمانُ الفارسيُّ، ومعقلُ بنُ مقرنٍ، وعثمانُ بنُ مظعونٍ:
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ (٢) من اللذاتِ التي تشتهيها النفوسُ مما أحلَّ اللهُ.
﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾ لا تتجاوزوا الحلالَ إلى الحرامِ.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾.
قالَ - ﷺ -: "إِنَّ خِصَاءَ أُمَّتي الصِّيَامُ، وَإِنَّ سِيَاحَتَهُمُ الْجِهَادُ فِي سَبيلِ اللهِ، وَإِنَّ رَهْبَانِيَّتَهُمُ الْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ" (٣).
...
(١) لم ترد في جميع النسخ، والصواب إثباتها.
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١١٣)، و"تفسير البغوي" (١/ ٧٠٤ - ٧٠٥).
(٣) رواه ابن المبارك في "الزهد" (ص: ٢٩٠)، ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" (٢/ ٣٧٠)، وفي "تفسيره" (١/ ٧٠٥)، وابن عبد البر في "التمهيد" (٢١/ ٢٢٦)، عن عثمان بن مظعون -رضي الله عنه-.
﴿وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨)﴾.
[٨٨] ﴿وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ حثٌّ على استعمالِ الحلالِ.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ عن عائشةَ -رضي الله عنها- قالَتْ: "كان النبي - ﷺ - يُحِبَّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ" (١).
...
﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)﴾.
[٨٩] ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ﴾ كائِنًا.
﴿فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ تقدَّمَ تفسيرُه واختلافُ الأئمةِ فيه في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ نظيرِ هذهِ الآيةِ.
(١) رواه البخاري (٥١١٥)، كتاب: الأطعمة، باب: الحلواء والعسل، ومسلم (١٤٧٤)، كتاب: الطلاق، باب: وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينوِ الطلاق. وانظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٠)، و"تفسير البغوي" (١/ ٧٠٧)، و"إملاء ما منَّ به الرحمن" للعكبري (١/ ١٣٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٣٤).
334
﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وأبو بكرٍ: (عَقَدْتُمْ) بالقصرِ والتخفيفِ، ورواهُ ابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ كذلك، إلا أنه بألفٍ بعدَ العين، وقرأ الباقونَ: بالتشديد من غير ألفٍ، وعقدُ اليمينِ: توثيقُها باللَّفظِ معَ العزمِ عليها. المعنى: إنَّما يؤاخِذُكم بيمينِكم إذا حنثتُمْ فيها.
﴿فَكَفَّارَتُهُ﴾ أي: سترُ الحنثِ.
﴿إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾.
واختلفوا في قدرِ الكفارة وحكمِها:
فقال أبو حنيفةَ: نصفُ صاعِ بُرٍّ لكلِّ مسكينٍ، أو صاع من شعيرٍ أو تمرٍ أو زبيبٍ، أو قيمةُ ذلكَ، والصاعُ ثمانيةُ أرطالٍ بالعراقيِّ.
وقال أبو يوسف: خمسةُ أرطالٍ وثلثٌ، أو يُغَدِّيهم ويُعَشِّيهم، ولا بدَّ من شِبَعِهم (١) في الأكلتينِ، ويجوزُ عنلَه صرفُها إلى العبدِ والذميِّ، ولا يجوزُ عندَه التكفيرُ قبلَ الحنثِ.
وقال مالكٌ: لكلِّ مسكينٍ مُدٌّ من حنطَةٍ أو غيرِها مِمَّا هو قوتٌ لهم بالمدِّ الأصغرِ بمدِّ النبيِّ - ﷺ - إذا أخرجَ الكفارةَ بالمدينة، وفي بقيةِ الأمصارِ وسطٌ منَ الشبع، وهو رِطْلانِ بالبغداديِّ من الخبز، وشيءٌ من الإدامِ.
وقالَ الشافعيُّ: لكلِّ مسكينٍ مُدُّ حَبٍّ من غالبِ قوتِ بلدِه.
وقالَ أحمدُ: لكلِّ مسكينٍ مُدٌّ من بُرٍّ، أو مُدَّانِ من شعيرٍ أو تمرٍ أو
(١) "ولا بد من شبعهم" ساقطة من "ن".
335
زببيبٍ (١)، وقدرُ المدِّ رطلٌ وثلثٌ عراقيٌّ، ورطلٌ وسبعُ رطلٍ وثلثُ سبعِ رطلٍ مصريٍّ، وثلاثُ أواقٍ وثلاثةُ أسباعِ أوقيةٍ دمشقيةٍ، وأوقيتانِ وستةُ أسباعِ أوقيةٍ حلبيةٍ، وأوقيتانِ وأربعةُ أسباعِ أوقيةٍ قدسيةٍ، ومئةٌ وواحدٌ وسبعونَ درهمًا وثلاثةُ أسباعِ درهمٍ ومئةٌ وعشرونَ مثقالًا، ويأتي ذكرُ الصاعِ في سورةِ التوبةِ عندَ ذكرِ الزكاة إن شاء الله تعالى.
واتفق مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ على عدمِ جوازِ صرفها إلى رقيقٍ وذميٍّ، وعلى عدمِ جوازِ إخراجِ القيمةِ وغداء المساكينَ وعشائهم، وعلى أنه يجوز التكفيرُ قبلَ الحنثِ وبعدَه.
﴿مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾ خيرِ قوتِ عيالِكم.
﴿أَوْ كِسْوَتُهُمْ﴾ فعندَ أبي حنيفةَ المقصودُ منها ردُّ العُرْيِ، فكلُّ ثوبٍ يصيرُ به مُكْتَسِيًا يسمَّى كسوةً، وعندَ مالكٍ إن كانوا رجالًا، ثوبًا ثوبًا، وإن كُنَّ نساءً، فثوبين ثوبين، درعًا وخمارًا لكلِّ امرأةٍ منهنَّ، وعندَ الشافعيِّ ما يُسَمَّى كسوةً؛ كقميصٍ، أو عِمامةٍ، أو إزارِ، وعندَ أحمدَ للرجلِ ثوبٌ يجزئُه أن يصلِّيَ فيه، وللمرأةِ درعٌ وخمارٌ.
واختلفوا فيما إذا أطعمَ خمسةً وكسا خمسةً، فقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: يجزئُه، وقال مالكٌ والشافعيُّ: لا يجزئُه.
وكذلكَ اختلافُهم فيما إذا أطعمَ من جنسينِ، فأطعمَ خمسةً بُرًّا، وخمسةً تمرًا، أو خمسةً برًّا، وخمسة شعيرًا.
﴿أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ سليمةٍ من كلِّ عيبٍ يَضُرُّ بالعملِ ضررًا بَيِّنًا بالاتفاق،
(١) من قوله: "القربة وأصل الوسيلة... " في الآية (٣٥) من هذه السورة، (ص: ٢٩١) إلى هنا سقط من (ش)، وهو بمقدار (٨) لوحات من النسخ الخطية الأخرى.
336
والأئمةُ الثلاثةُ يشترطونَ الإيمانَ في عتقِ الرقبةِ قياسًا على كفارةِ القتلِ، وأبو حنيفةَ جَوَّزَ عتقَ الرقبةِ الكافرةِ في جميعِ الكفاراتِ سوى كفارةِ القتلِ، فالحانثُ مخيَّرٌ بينَ الإطعامِ والكسوةِ والتحريرِ بالاتفاق إنْ وجدَ ما يفضُلُ عن قوته وقوتِ عيالِه.
﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ واحدًا منها.
﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ﴾ متتابعاتٍ عندَ أبي حنيفةَ وأحمدَ، وقالَ مالكٌ والشافعيُّ في الأظهر: لا يجبُ التتابعُ.
﴿ذَلِكَ﴾ المذكورُ.
﴿كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ وحَنِثْتُمْ.
﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ فلا تنكُثوها إن لم تكن على تركِ مندوبٍ أو فعلِ مكروهٍ، فإن كانتْ على شيءٍ منها، فالأولى الحنثُ، قال - ﷺ - لعبدِ الرحمنِ بنِ سَمُرَةَ: "لا تَسْأَلِ الإِمَارَةَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ أُوتيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ، وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلةٍ، أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ" (١).
وقالَ - ﷺ -: "إِنِّي وَاللهِ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَتيتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا، وَتَحَلَّلْتهَا" (٢)، وقولُه: "تَحَلَّلْتُهَا" من التحلُّلِ، وهو
(١) رواه البخاري (٦٢٤٨)، في أول كتاب: الأيمان والنذور، ومسلم (١٦٥٢)، كتاب: الإيمان، باب:
ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها ، عن عبد الرحمن بن سمرة -رضي الله عنه-.
(٢) رواه البخاري (٢٩٦٤)، كتاب: أبواب الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، ومسلم (١٦٤٩)، كتاب: الأيمان، باب: ندب من =
337
التخلُّصُ من عُهْدةِ اليمينِ، والخروجُ من حرمتِها إلى ما يحلُّ منها بالكفارةِ.
﴿كَذَلِكَ﴾ أي: مثلَ ذلكَ البيانِ.
﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ﴾ أعلامَ شرائِعِه.
﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ نعمةَ التعليم.
...
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠)﴾.
[٩٠] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ﴾ جمعُ نُصُبٍ.
﴿وَالْأَزْلَامُ﴾ تقدَّمَ تفسيرُ الخمرِ والميسرِ في سورةِ البقرةِ، وتقدَّمَ في صدرِ هذهِ السورةِ تفسيرُ الأنصابِ والأزلامِ.
﴿رِجْسٌ﴾ خبيثٌ.
﴿مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ من تَزْيينِهِ.
﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ الضميرُ للرِّجْسِ.
﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ لكي تُفْلِحوا بالاجتنابِ عنه.
...
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١)﴾.
[٩١] ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ أي: بسببِهما، أمَّا العداوةُ في الخمرِ لأنَّ الشارِبينَ إذا سَكِروا، عَرْبَدُوا وتَشاجَرُوا كما فعلَ الأنصاريُّ الذي شجَّ رأسَ سعدِ بنِ أبي وقاصٍ، وتقدَّمَ ذكرُ قصتِه في سورةِ البقرةِ، وأما العداوةُ في الميسرِ، قالَ قَتادةُ: كانَ الرجلُ يُقامِرُ على الأهلِ والمالِ، ثمَّ يبقى حزينًا مسلوبَ الأهلِ والمالِ.
﴿وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ﴾ واختصاصُ الصلاةِ من بينِ الذكر، كأنه قيلَ: وعن الصلاةِ خصوصًا.
﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ استفهامٌ، ومعناهُ الأمرُ.
...
﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٩٢)﴾.
[٩٢] ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا﴾ المحارمَ.
﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ في تحريمِ ما أمرَ بتحريمِه، وعلى المرسِلِ أن يعاقبَ ويُثيبَ بحسبِ ما يُعْصى ويُطاع، قال - ﷺ -: "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، حُرِمَهَا فِي الآخِرَةِ" (١).
...
(١) رواه البخاري (٥٣٥٣)، في أول كتاب: الأشربة، ومسلم (٢٠٠٣)، كتاب: الأشربة، باب: عقوبة من شرب الخمر إذا لم يتب منها بمنعه إياها في الآخرة، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.
﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣)﴾.
[٩٣] ونزلَ فيمن استعملَ شيئًا من الخمرِ والميسرِ من المؤمنينَ قبلَ التحريمِ:
﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا﴾ أكلوا من مالِ القمارِ، وشربوا من الخمرِ قبلَ التحريم. قرأ أبو عمرٍو: (الصَّالِحَات جنَاحٌ) بإدغامِ التاءِ في الجيمِ (١).
﴿إِذَا مَا اتَّقَوْا﴾ الشركَ ﴿وَآمَنُوا﴾ ثبتوا على الإيمانِ.
﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا﴾ الخمرَ والميسرَ بعدَ التحريمِ.
﴿وَآمَنُوا﴾ ازدادوا إيمانًا.
﴿ثُمَّ اتَّقَوْا﴾ محارمَ اللهِ تعالى، وكررَ الاتقاءَ تأكيدًا.
﴿وَأَحْسَنُوا﴾ طاعةَ اللهِ تعالى.
﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ فلا يؤاخذُهم بشيء.
...
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٩٤)﴾.
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٠٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٣٦).
[٩٤] ولما كانوا محرِمينَ عامَ الحُدَيبيةِ، ابتلاهُمُ اللهُ بالصيدِ، وكانتِ الوحوشُ تَغْشاهم في رحالِهم بحيثُ تمكَّنُوا من صيدِها أَخْذًا بأَيديهِم، وطَعْنًا برماحِهم وهُم مُحْرِمونَ، فنزلَتْ:
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ﴾ (١) ليختبرنَّكُمْ ليظهرَ المطيعُ من العاصي.
﴿بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ﴾ إنما خصَّ فقالَ: ﴿بِشَيْءٍ﴾ لأنهُ ابتلاهمُ اللهُ بصيدِ البرِّ خاصَّةٍ.
﴿تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ﴾ يعني: الفرخَ والبيضَ وما لا يقدرُ أن يفرَّ. قرأ أبو عمرٍو: (مِنَ الصَّيْد تنَالُهُ) بإدغامِ الدالِ في التاء (٢).
﴿وَرِمَاحُكُمْ﴾ تنالُ كبارَهُ.
﴿لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾ ليتميزَ الخائفُ من عقابِه باجتنابِ الصيدِ ممَّنْ لا يخافُهُ؛ لضعفِ قلبِه، وقلةِ إيمانِه.
﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ﴾ بصيدِه بعدَ التحريم.
﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فالوعيدُ لاحقٌ بهِ.
...
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ
(١) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٧١١).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٠٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٣٦).
مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٩٥)}.
[٩٥] ونزلَ في رجل يُقالُ له: أبو اليَسَرِ شدَّ على حمارٍ وحشيٍّ وهو محرِمٌ فقتلَه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ (١) جمعُ حَرامٍ؛ أي: محرِمونَ بالحجِّ وبالعمرةِ.
﴿وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا﴾ والمتعمدُ: القاصدُ للشيءِ مع العلمِ بالإحرامِ، والمخطيءُ: هو الذي يقصدُ شيئًا فيصيبُ صيدًا، والناسي: هو الذي يتعمَّدُ الصيدَ ولا يذكرُ إحرامَهُ، فيجبُ الجزاءُ في العمدِ والخطأِ والنسيانِ بالاتفاق، وعن أحمدَ روايةٌ: لا شيءَ على المخطئ والناسي؛ لأن اللهَ سبحانه لما خَصَّ المتعمِّدَ بالذكرِ، دلَّ على أنَّ غيرَه يخالفُه، قالَ: والأصلُ براءةُ الذِّمَّةِ، فمنِ ادَّعى شغلَها، فعليهِ الدليلُ، والصحيحُ من مذهبه: وجُوبُ الجزاءِ.
﴿فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ﴾ قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، ويعقوبُ: (فَجَزَاءٌ) منوَّن (مِثْلُ) رَفْعٌ على البدل من الجزاء، وقرأ الباقون بالإضافة (٢)؛ أي: يجبُ عليه ما يقرُبُ من الصيدِ المقتولِ شَبَهًا بهِ من حيثُ الخلقةُ، والذي يُجزئ من الصيدِ شيئانِ: دوابٌ، وطيرٌ، فيجزئ ما كانَ
(١) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٧١٢).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٠)، و"تفسير البغوي" (١/ ٧١٢ - ٧١٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٥)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٥٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٣٧).
342
من الدوابِّ بنظيرِه في الخِلْقةِ والصورةِ عندَ الثلاثةِ، وقالَ أبو حنيفةَ: إنما يعتبرُ بالمثلِ في القيمةِ دونَ الخِلْقَةِ، فَيُقَوَّمُ الصيدُ بدراهمَ في المكانِ الذي قتلَه، وفي أقربِ موضعٍ إليه إنْ كانَ لا يباعُ الصيدُ في موضعِ قُتِلَ، فيشتري بتلكَ القيمةِ هَدْيًا يذبُحه إن شاءَ، أو يشتري بها طعامًا، ويُطعم للمساكينِ، كُلُّ مسكينٍ نصفَ صاعٍ من بُرٍّ، أو صاعًا من شعيرٍ أو تمرٍ، وإن شاءَ صامَ عن كلِّ نصفِ صاعٍ يومًا.
وقال مالكٍ: في النَّعامَةِ بَدَنةٌ، وفي بقرِ الوحشِ وحمارِه بقرةٌ، وفي الضَّبُعِ والثعلبِ شاةٌ، وفي نحوِ الضَّبِّ والأرنبِ القيمةُ طعامًا، وفي الحمامِ كُلِّه قيمتُه، إلا حمامَ مكةَ، فإنَّ فيه شاةً اتباعًا للسلف في ذلكَ.
وقالَ الشافعيُّ: في النَّعامةِ وبقرِ الوحشِ وحمارِه كقولِ مالكٍ، وفي الغزالِ عَنْزٌ، وفي الأرنبِ عَناقٌ، واليربوعِ جَفْرَةٌ، وما لا نقلَ فيه يحكمُ بمثلِه عَدْلان، وفيما لا مثلَ لهُ القيمةُ.
وقال أحمدُ في النعامة كقولِ مالكٍ والشافعيِّ، وفي حمارِ الوحشِ وبقرِه والأَيَّلِ والثَّيْتَلِ والوعِلِ بقرةٌ، وفي الضبع كبشٌ، وفي الغزالِ شاةٌ، وفي الوَبْرِ والضَّبِّ جَدْيٌ، وفي اليربوعِ جفرةٌ لها أربعةُ أشهرٍ، وفي الأرنبِ عناقٌ، وفي الحمامِ شاةٌ، وفيما لا مثلَ له وهي سائرُ الطير قيمتُه. واتفق مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ على أنه مخيَّرٌ في الصيدِ المِثْلِيِّ بينَ ذبحِ مثلِه، والصدقةِ به على مساكينِ الحرمِ، أو بينَ أن يقوَّمَ المثلُ ويَشتري به طعامًا، فيطعمَ كلَّ مسكينٍ مُدًّا، أو يصومَ عن كلِّ مدٍّ يومًا.
واختلفوا في المحرِمِ إذا دلَّ حلالًا على صيدٍ فقتلَهُ الحلالُ، فقال مالكٌ والشافعيُّ: لا شيءَ عليه، وقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: عليه الجزاءُ.
343
﴿يَحْكُمُ بِهِ﴾ أي: بالجزاءِ.
﴿ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ أي: عدلانِ من المسلمينَ، فينظرانِ أشبهَ الأشياءِ إلى المقتولِ، فيحكمان به، ويجوزُ أن يكونَ القاتلُ أحدَ العدلينِ عندَ الشافعيِّ وأحمدَ، وقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: لا يجوز.
﴿هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ أي: يبلغُ بالهديِ الحرمَ، فَيُنْحَرُ فيه، ويُتصدُّقُ به على مساكينِه عندَ الشافعيِّ وأحمدَ، وعندَ أبي حنيفةَ يُذبحُ بالحرمِ، ويُتصدَّقُ به حيثُ شاءَ، والاختيارُ عندَ مالكٍ أن يطعمَ القاتلُ حيثُ وجبَ الجزاءُ عليه، فإِن أطعمَ في مكانٍ غيرِه، أجزأَ عنه.
﴿أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ﴾ أي: هي طعام. قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، وأبو جعفرٍ: (كَفَّارَةُ) بغير تنوين (طَعَامٍ) بالخفضِ على الإضافة، والباقون: بالتنوين، ورفعِ (طعام) (١).
﴿أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا﴾ أو ما ساواه من الصوم، والعَدْل بالفتح: المثلُ من غيرِ جنسِه، والمراد: أن الجانيَ مخيرٌ في جزاءِ الصيدِ بينَ ذبحِ المثلِ من النَّعَمِ، والتصدُّقِ بلحمه، وبينَ أن يقوَّمَ المثلُ دراهمَ يشتري بها طعامًا، فيتصدقُ به، أو يصومُ كما تقدَّمَ ذكرُه قريبًا في فقهِ الآيةِ، وله أن يصومَ حيثُ شاءَ بالاتفاق؛ لأنه لا نفعَ فيه للمساكين.
﴿لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ﴾ جزاءَ معصيته، وأصلُ الوبالِ: الثقلُ.
﴿عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ﴾ قبلَ تحريمِ الصيدِ.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٥)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٠٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٣٨).
344
﴿وَمَنْ عَادَ﴾ إلى ما نُهي عنه.
﴿فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ﴾ في الآخرةِ.
﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ مِمَّنْ أصرَّ على عصيانِه.
...
﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦)﴾.
[٩٦] ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ﴾ كلُّ ما صِيدَ منه، والمراد بالبحرِ، جميعُ المياهِ.
﴿وَطَعَامُهُ﴾ المأكولُ منهُ.
﴿مَتَاعًا﴾ أي: تمتيعًا.
﴿لَكُمْ﴾ بأنْ تأكلوه طَرِيًّا.
﴿وَلِلسَّيَّارَةِ﴾ المارَّةِ؛ بأنْ يتزوَّدوهُ لأسفارِهِمْ، فكلُّ ما صِيدَ من البحرِ مما لا يعيشُ إلا في الماءِ حلالٌ عندَ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ؛ لقولِ النبيِّ - ﷺ - في البحرِ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ" (١)، ويحرمُ عندَ الشافعيِّ ما يعيشُ في برٍّ وبحرٍ؛ كضِفْدِعٍ، وسَرَطانٍ، وحيَّةٍ، ويحرمُ عندَ أحمدَ الضفدعُ، والحيَّةُ، والتمساحُ، ومالكٌ أباحَ جميعَهُ سواءٌ كانَ مِما له شبهٌ في
(١) رواه أبو داود (٨٣)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء بماء البحر، والنسائي (٥٩)، كتاب: الطهارة، باب: ماء البحر، والترمذي (٦٩)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في ماء البحر أنه طهور، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (٣٨٦)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء بماء البحر، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
البرِّ، أو مما لا شبهَ لهُ، من غيرِ احتياجٍ إلى ذَكاةٍ، وسواءٌ تلفَ بنفسِه، أو بسبٍ، وتَوَقَّفَ في خنزيرِ الماءِ فقط، وقالَ أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يحلُّ مما في البحرِ إلَّا السمكُ.
﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾ صيدُ البحرِ حلالٌ للمحرِم كغيرِه بالاتفاق، وأما صيدُ البرِّ، فحرامٌ على المحرِمِ، ويحرُمُ في الحرَمِ مطلَقًا بالاتفاق، والصيدُ: هو الحيوانُ الوحشيُّ الذي يحلُّ أكلُه، فلا يجوزُ للمحرِمِ أن يأكلَ مما صادَهُ، بالاتفاقِ، واختلفوا فيما اصطادَهُ الحلالُ لأجلِه، فقالَ الثلاثةُ: لا يجوزُ للمحرِم أكلُه، سواءٌ صِيدَ بعلمِهِ، أو بغيرِ علمِه، وقالَ أبو حنيفةَ: يجوزُ لهُ أكلُ ما صِيدَ له إِذا لم يكنْ قَدْ دَلَّ عليهِ، وأما إذا لم يُصَدْ لهُ، ولا من أجلِه، فيجوزُ أكلُه، بالاتفاقِ.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ تشديدٌ وتنبيهٌ عقبَ هذا التحليلِ والتحريمِ.
...
﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧)﴾.
[٩٧] ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ سميت كعبةً؛ لتربيِعها، والعربُ تسمِّي كلَّ بيتٍ مربعٍ كعبةٍ. قرأ الكسائيُّ: (الكَعْبَةَ) بإمالة الباء حيثُ وقفَ على هاءِ التأنيث.
﴿قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ قرأ ابنُ عامرٍ: (قِيَمًا) بغيرِ ألفٍ بعدَ الياء، والباقون:
بالألف؛ أي: قوامًا لهم في أمرِ دينهِم ودنياهم (١).
﴿وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ أي: الأشهرَ الحرمَ، وهي: ذو القعدةِ، وذو الحجَّةِ والمحرَّمُ، ورجبٌ.
﴿وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ﴾ تقدَّم تفسيرُهما في أولِ السورةِ.
﴿ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ قرأ أبو عمرٍو: (وَالْقَلاَئِد ذَّلِكَ) بإدغامِ الدالِ في الذال في هذا الحرفِ لا غيرُ.
﴿وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من مصالِحِكم، وجميعِ الوجودِ.
﴿عَلِيمٌ﴾ فتتقونَهُ.
...
﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨)﴾.
[٩٨] ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ لمن عَصاهُ.
﴿وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لمن أَطاعَهُ.
...
﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (٩٩)﴾.
[٩٩] ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ التبليغُ، ليسَ له الهدايةُ والتوفيقُ.
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ﴾ أي: تظهرونَهُ.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٠)، و"تفسير البغوي" (١/ ٧١٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٣٩).
﴿وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ أي: تسُرُّونَ وتُخفونَ من كفرٍ ونفاقٍ.
...
﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)﴾.
[١٠٠] ونزل نهيًا للمسلمين عن الإيقاعِ بحجاجِ المشركينَ، وتقدمتِ القصةُ في أولِ السورةِ:
﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ﴾ أي: الحرامُ والحلالُ.
﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾ فإنَّ المحمودَ القليلَ خيرٌ من المذمومِ الكثيرِ.
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ ولا تتعرَّضُوا للحجَّاجِ، وإنْ كانوا مشركينَ.
﴿يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ راجينَ أن تبلُغوا الفلاحَ.
...
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١)﴾.
[١٠١] ونزلَ تأديبًا للمؤمنينَ لما أكثروا على النبيِّ - ﷺ - السؤالَ:
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ﴾ أي: تظهرْ لكم، وتقدَّمَ التنبيهُ على اختلافِ القرَّاء في حكمِ الهمزتين من كلمتينِ عندَ قولِه: (وَالْبَغْضَاءَ إِلى)، وكذلكَ اختلافهم في (أَشْيَاءَ إِنْ).
﴿تَسُؤْكُمْ﴾ إن أُمِرْتُم بالعملِ بها.
﴿وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا﴾ أي: التكاليفِ الضيقةِ.
﴿حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ﴾ أي: زمنَ الوحيِ.
﴿تُبْدَ لَكُمْ﴾ أي: تلكَ التكاليفُ التي تسؤكم، وتُؤْمروا بتحمُّلها.
﴿عَفَا اللَّهُ عَنْهَا﴾ أي: ما سَلَفَ من مسائِلِكم.
﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ لا يُعاجِلُكُم بعقوبةِ ما يفرطُ منكُم.
...
﴿قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (١٠٢)﴾.
[١٠٢] ﴿قَدْ سَأَلَهَا﴾ الضميرُ للمسألة التي دلَّ عليها: (تسألوا).
﴿قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ كما سألَتْ ثمودُ صالحًا الناقةَ، وسألَ قومُ عيسى المائدة.
﴿ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ﴾ فأُهلكوا. قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وهشامٌ: (قَد سأَلهَا) بإدغام الدالِ في السين، والباقون: بالإظهار (١).
...
﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (١٠٣)﴾.
[١٠٣] ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ﴾ أي: ما شَرَعَ.
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٠٥)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٠٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٤٠).
﴿مِنْ بَحِيرَةٍ﴾ كانَ في الجاهليةِ إذا ولدَتِ الناقةُ خمسةَ أَبْطُنٍ، بَحَرُوا أُذُنَها؛ أي: شَقُّوها، وترُكَتْ، فلا تُركبُ، ولا تُحلبُ.
﴿وَلَا سَائِبَةٍ﴾ البعيرِ يُسَيَّبُ بِنَذْرٍ يكونُ على الرجلِ، فيكونُ بمنزلةِ البَحيرةِ.
﴿وَلَا وَصِيلَةٍ﴾ الشاةُ إذا ولدَتْ ذكرًا، كانَ لآلهتِهم، وإن ولدَتْ أنثى، فهي لهم، فإن ولدَتْ ذكرًا وأنثى، قالوا: وَصَلَتْ أَخاها، فلم تُذْبح للآلهة.
﴿وَلَا حَامٍ﴾ هو من رُكِبَ ولدُ ولدِه منَ البعيرِ، يقال: حَمَى ظهرَهُ، فلا يُركبُ. فمعنى الآية: الردُّ والإِنكار لما ابتدعَهُ أهلُ الجاهلية. رُوِيَ عن قنبلٍ، ويعقوبَ: الوقفُ بالياءِ على (حَامِي) (١).
﴿وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بتحريمِهم ما حَرَّموا.
﴿يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ بنسبةِ ذلكَ إليهِ.
﴿وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ الحلالَ من الحرامِ، لكنَّهم يقلِّدونَ كبارَهم.
...
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (١٠٤)﴾.
[١٠٤] ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ﴾ في تحليلِ الحرثِ والأنعامِ، وبيانِ الشرائعِ والأحكامِ.
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٠٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٤١).
﴿قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ المعنى: إذا دُعِيَ الكفارُ إلى الإيمانِ، قالوا: كافِينا دينُ آبائِنا.
﴿أَوَلَوْ﴾ واوُ الحالِ دخلَتْ عليها همزةُ الإنكارِ، وتقديرُه: أَحَسْبُهُمْ دينُ آبائِهِمْ ولو.
﴿كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ من التوحيد.
﴿وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ إليه. المعنى: لا يجوزُ الاقتداء إلا بالعالمِ المهتدي.
...
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)﴾.
[١٠٥] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي: الزموا صلاحَ أنفسِكم.
﴿لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ وليسَتْ هذهِ الآيةُ نازلةً في تركِ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكَرِ؛ لما رُوي أن أبا بكرٍ الصديقَ رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ - ﷺ - يقولُ: "إِنَّ النَاسَ إِذَا رَأَوْا مُنْكَرًا فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ، يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعَذَابِهِ" (١)، وعنِ ابنِ مسعودِ في هذهِ الآية: "مُرُوا بالْمَعْرُوفِ، وَانْهَوْا عَنِ المُنْكَرِ مَا قُبِلَ مِنْكُمْ، فَإِنْ رُدَّ عَلَيْكُمْ، فَعَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ" (٢).
(١) رواه أبو داود (٤٣٣٨)، كتاب: الملاحم، باب: الأمر والنهي، والترمذي (٢١٦٨)، كتاب: الفتن، باب: ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر، وقال: صحيح، وابن ماجه (٤٠٠٥)، كتاب: الفتن، باب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(٢) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (٤/ ١٢٢٧)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (٧٥٥٢).
﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ جميعًا، الضالُّ والمهتدي.
﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ وعدٌ ووعيدٌ للفريقين، وتنبيهٌ على أن أحدًا لا يؤاخَذُ بذنبِ غيرِه.
...
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦)﴾.
[١٠٦] ولما سافرَ تميمُ بنُ أوسٍ الداريُّ، وعَدِيُّ بنُ بَدَّاءَ إلى الشامِ، وهما نصرانيانِ، ومعهما بُدَيْلٌ مولى عمرِو بنِ العاصِ، وكانَ مسلِمًا، فلما قَدِموا الشامَ، مرضَ بديلٌ، فكتبَ كتابًا فيه جميعُ ما معه، وألقاه في متاعِه، ولم يخبرْ صاحبيهِ، فلما اشتدَّ وجعُه، أمرَهما أن يدفَعا متاعَه إذا رجَعا إلى أهلِهِ، وماتَ بديلٌ، ففتشا متاعَه، فأخذا منهُ إناءً من فِضَّةٍ منقوشًا بالذهبِ فيه ثلاثُ مئةِ مثقالٍ فضةً، فَغَيَّباهُ، ثم قَضيا حاجَتَهما، وانصرَفا إلى المدينةِ، فدفعا المتاعَ إلى أهلِ الميت، ففتشوا، وأصابوا الصحيفةَ فيها تسميةُ ما كانَ معه، فجاؤوا تميمًا وعديًّا، فقالوا: هل باعَ صاحبُنا شيئًا من متاعِه؟ قالا: لا، قالوا: فهل اتَّجَرَ تِجارةً؟ قالا: لا، قالوا: فهل طالَ مرضُه فأنفقَ على نفسِه؟ قالا: لا، قالوا: إنا وجدْنا في متاعِه صحيفةً فيها تسميةُ ما معه، وإِنا فقدنا منها إناءً من فضةٍ مموهًا بالذهب، فيه ثلاثُ مئةِ مثقالٍ فضةً، فجحدا، فاختصموا إلى النبي - ﷺ -، فأصرَّا على الإنكار، فأنزل الله تعالى:
352
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ (١) أي: فيما أُمرتم شهادةُ بينِكم،
والمرادُ بالشهادة: الإشهادُ.
﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ﴾ وإذا شارَفَهُ فظهَرَتْ أمارتُهُ.
﴿الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ﴾ أي: ليشهدِ اثنانِ على الوصية.
﴿ذَوَا عَدْلٍ﴾ أي: أمانةٍ وعقلٍ.
﴿مِنْكُمْ﴾ أي: من أهلِ دينِكم يا معشرَ المؤمنين.
﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ أو من غيرِ دينِكم ومِلَّتِكُمْ.
﴿إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ سافرتُم فيها.
﴿فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ﴾ أي: قاربتم الأجلَ.
﴿تَحْبِسُونَهُمَا﴾ أي: تستَوقفونهما.
﴿مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ﴾ أي: صلاةِ العصرِ؛ لأنَّ جميعَ أهلِ الأديانِ يعظِّمونَ ذلك الوقتَ، ويتجنبونَ فيه الحلفَ الكاذبَ.
﴿فَيُقْسِمَانِ﴾ يَحْلِفانِ.
﴿بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾ أي: شَكَكْتُم، ووقعتَ لكم الريبةُ في قولِ الشاهدينِ وصدِقهما اللَّذينِ ليسا من أهلِ ملَّتِكم، فإن كانا مسلمينِ، فلا يمينَ عليهما بالاتفاق.
(١) رواه البخاري (٢٦٢٨)، كتاب: الوصايا، باب: قول الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ..﴾، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. وانظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١١٧).
353
﴿لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا﴾ لا نحلفُ باللهِ كاذبينِ على عوضٍ نأخذُه، أو مالِ نذهبُ به، أو حقٍّ نجحدُه.
﴿وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ ولو كانَ المشهودُ له ذا قرابةٍ مِنَّا.
﴿وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ﴾ وأضيفتِ الشهادةُ إلى اللهِ تعالى لأمرِه بها. وقرأ يعقوبُ: (شَهَادَةً) بالتنوين (آللهِ) ممدودٌ، جُعل الاستفهامُ عوضًا عن حرفِ القسمِ، ورُويَ عن أبي جعفرٍ: (شَهَادَةً) منونة (أَللهِ) بقطعِ الألفِ وكسر الهاءِ من غيرِ استفهامٍ على ابتداءِ اليمين؛ أي: واللهِ (١).
﴿إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ﴾ إنْ كتمناها، فلما نزلَتْ هذه الآيةُ، صلَّى رسولُ الله - ﷺ - العصرَ، ودَعا تميمًا وعَدِيًّا، فاستحْلَفَهُما عندَ المنبرِ باللهِ الذي لا إلهَ إلَّا هوَ أنهما لم يختانا شيئًا مما دُفِعَ إليهِما، فحلَفا على ذلك، وخلَّى رسولُ اللهِ - ﷺ - سبيلَهما.
...
﴿فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧)﴾.
[١٠٧] ثم ظهرَ الإناءُ، واختلفوا في كيفيةِ ظهورِه، فرُوي عن ابنِ عباسٍ: "أنه وُجدَ بمكةَ، فقالوا: اشتريناهُ من تميمٍ وعَدِيٍّ"، وقال آخرونَ: لما طالتِ المدةُ، أظهراهُ، فبلغَ ذلكَ بني سهم، فأتوهما في ذلك، فقالا: إنا كنا قد اشترينا منهُ هذا، فقالوا: ألم تزعما أنَّ صاحبَنا لم يبعْ شيئًا من
(١) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٧٢٧).
354
متاعِه؟! قالا: لم يكنْ عندَنا بينةٌ، وكرهنا أن نقرَّ لكم به، فكتمْنا ذلك، فرفعوهما إلى رسولِ الله - ﷺ -، فأنزل الله عز وجل:
﴿فَإِنْ عُثِرَ﴾ (١) اطُلِعَ، وأصلُ العَثْرَةِ: الوقوعُ على الشيءِ.
﴿عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا﴾ أي: فَعَلا ما أوجبَ إِثمًا بخيانتِهما وبأيمانِهما الكاذِبة.
﴿فَآخَرَانِ﴾ من أولياءِ الميتِ.
﴿يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا﴾ أي: مقامَ اللَّذَيْنِ خانا.
﴿مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ﴾ أي: استحقَّ فيهم ولأجلهم الإثمُ، وهم ورثةُ الميتِ، استحق الحالفانِ بسببهما الإثمَ، و (على) بمعنى (في). قرأ حفصٌ: (اسْتَحَقَّ) بفتح التاء والحاء، وقراءة العامة: بضمِّ التاءِ على المجهولِ و (الأَوْلَيَانِ) تثنيةُ الأَوْلى، والأَوْلى هو الأقربُ؛ أي: الأحقُّ بالشهادةِ؛ لقرابتِه ومعرفتِه، وقرأ حمزةُ، وخلفٌ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ، ويعقوبُ (الأَوَّلِينَ) بالجمعِ، فيكونُ بدلًا من (الذين) (٢)، والمرادُ منهم: أولياءُ الميتِ، ومعنى الآيةِ على القراءاتِ كلِّها: إذا ظهرتْ خيانةُ الحالِفَيْنِ يقومُ اثنانِ آخرانِ من أقاربِ الميتِ.
﴿فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا﴾ أي: يمينُنا أحقُّ من
(١) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٧٢٨)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٣/ ٢٢١ - ٢٢٢).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٠)، و"تفسير البغوي" (١/ ٧٢٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٠٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٤٣ - ٢٤٤).
355
يمينِهما؛ كقوله: ﴿فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ﴾ [النور: ٦]؛ أي: يمينُه.
﴿وَمَا اعْتَدَيْنَا﴾ في قولنا: إنَّ شهادتَنا أحقُّ من شهادتِهما.
﴿إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ إنْ كُنَّا حلفْنا على باطلٍ، وأخذنا ما ليسَ لنا، فلما نزلَتِ الآيةُ، قام عمرُو بنُ العاصِ، والمطَّلِبُ بنُ أبي وداعةَ السَّهميانِ، فحلفا باللهِ بعدَ صلاةِ العصرِ، ودُفِعَ الإناءُ إليهِما وإلى أولياءَ الميتِ، فكانَ تميمٌ الداريُّ بعدما أسلمَ يقولُ: صدقَ اللهُ ورسولُه، أنا أخذتُ الإناءِ، فأتوبُ إلى اللهِ وأستغفرُه.
...
﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (١٠٨)﴾.
[١٠٨] ﴿ذَلِكَ﴾ الحكمُ الذي تقدَّمَ.
﴿أَدْنَى﴾ أقربُ.
﴿أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا﴾ على نحوِ ما تحمَّلُوها من غيرِ تحريفٍ وخيانة فيها.
﴿أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ أن تردَّ اليمينُ على المدَّعِينَ بعدَ أيمانِهم فيفضَحُوا بظهورِ الخيانةِ، واليمينِ، وإنَّما جُمعَ الضميرُ؛ لأنه حكمٌ يَعُمُّ الشهودَ كلَّهم.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا﴾ سماعَ قَبولٍ.
﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ إلى طريقِ الجنةِ.
واختلِفَ في حكمِ الآية، فقالَ قومٌ: هو منسوخٌ، ولا تُقبلُ شهادةُ الذميِّ
على مسلمٍ، وإِنما جازتْ أولَ الإسلامِ؛ لقلةِ المسلمينَ، ثم نُسختْ بقوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [الطلاق: ٢]، وإليه ذهبَ أبو حنيفةَ ومالكٌ والشافعيُّ رضي الله عنهم، وقالَ قومٌ: حكمُها ثابتٌ، وقضى به أبو موسى الأشعريُّ بالكوفةِ بعدَ وفاةِ النبيِّ - ﷺ -، وعملَ بهِ القاضي شُرَيْحٌ، وإليه ذهبَ الإمامُ أحمدُ رضي الله عنه، واستدلَّ بالآيةِ على جوازِ قبولِ شهادةِ أهلِ الكتابِ الرجالِ في الوصيةِ في السفرِ إذا لم يوجَدْ غيرُهم، وحضرَ الموصيَ الموتُ، مسلمًا كانَ أو كافرًا، ويحلِّفُهما الحاكمُ بعدَ العصرِ وُجوبًا: ﴿لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ﴾ وإِنها لوصيةُ الرجلِ، فإنِ اطُّلِعَ على خيانتِهما، قامَ آخرَانِ من أولياءِ الموصي، فحلَفا باللهِ: ﴿لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا﴾ ولقدْ خانا وكَتَما، ويقضى لهم، والله أعلمُ.
...
﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١٠٩)﴾.
[١٠٩] ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ﴾ هو يومُ القيامةِ ظرفًا ليهدي؛ أي: لا يَهْديهم إلى الجنةِ يومئذٍ.
﴿فَيَقُولُ﴾ لهم.
﴿مَاذَا أُجِبْتُمْ﴾ أي: ما الذي أجابَتكم به أمَمُكم حينَ دعوتموهم إلى توحيدي وطاعتي؟ وهذا السؤالُ للأنبياءِ الرُسلِ إنما هو لتقومَ الحجَّةُ على الأمم.
﴿قَالُوا﴾ أي: فيقولون.
﴿لَا عِلْمَ لَنَا﴾ قال ابن عباس: "معناه: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا﴾ إلا علم أنتَ أعلمُ بهِ مِنَّا" (١).
﴿إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ فتعلمُ ما نعلمُ مما أجابونا وأظهروا لنا، وما لم نعلمْ مما أضمَرُوا في قلوبِهم. قرأ حمزةُ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ (الْغِيُوبِ) بكسر الغين حيثُ وقعَ، وضَمَّها الباقون (٢).
...
﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠)﴾.
[١١٠] ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ﴾ هذا من صفةِ يومِ القيامة؛ كأنه قالَ: اذكرْ يومَ يجمعُ اللهُ الرسلَ، وإذْ يقولُ اللهُ لعيسى، وذكرُ النعمةِ: شكرُها، والمرادُ: النعمُ، لفظُه واحدٌ، ومعناه جمعٌ.
(١) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (٤/ ١٢٣٦).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٠١)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٠٥)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٥٥، ٢٠٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٤٥).
358
﴿وَعَلَى وَالِدَتِكَ﴾ مريمَ، ثم ذكرَ النعمَ فقال:
﴿إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ يعني: جبريلَ عليه السلام.
﴿تُكَلِّمُ﴾ يعني: وتكلِّمُ.
﴿النَّاسَ فِي الْمَهْدِ﴾ صَبِيًّا.
﴿وَكَهْلًا﴾ نَبِيًّا، قالَ ابنُ عباسٍ: "أرسلَه اللهُ وهو ابنُ ثلاثينَ سنةً، فمكثَ في رسالتِه ثلاثينَ شهرًا، ثم رفعَهُ اللهُ إليه" (١).
﴿وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ﴾ يعني: الخَطَّ.
﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ يعني: العلمَ.
﴿وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ﴾ كصورةِ.
﴿الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا﴾ حَيًّا يطيرُ.
﴿بِإِذْنِي﴾ وتقدَّمَ اختلافُ القراءِ في (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) و (طَيْرًا) في سورةِ آلِ عمرانَ عندَ تفسيرِ قولِه تعالى: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ وكذلكَ اختلافُهم هاهنا.
﴿وَأُبْرِئُ﴾ تُصَحِّحُ.
﴿الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي﴾ من قبورِهِمْ أحياءً.
﴿بِإِذْنِي﴾ وتقدَّم تفسيرُه في سورةِ آل عمران.
﴿وَإِذْ كَفَفْتُ﴾ منعتُ.
﴿بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ يعني: اليهودَ.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٧٣٠).
359
﴿عَنْكَ﴾ حينَ هَمُّوا بقتلِك.
﴿إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ الدَّلالاتِ المعجزاتِ، وهي التي ذكرنا.
﴿فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا﴾ يعني: ما جاءكُم به من البيناتِ.
﴿إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: سَاحِرٌ بعد السينِ، فيكونُ راجعا إلى عيسى عليه السلام (١).
...
﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (١١١)﴾.
[١١١] ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ﴾ أي: ألْهَمْتُهُم، وهم (٢) خواصُّ أصحابِ عيسى عليه السلام، وتقدَّمَ ذكرُهم في سورةِ آلِ عمرانَ. قرأ ابنُ ذكوانَ عنِ ابنِ عامرٍ بخلافٍ عنه: (الْحَوَارِيِّينَ) بالإمالة.
﴿أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي﴾ عيسى.
﴿قَالُوا آمَنَّا﴾ حينَ وَفَّقْتُهم.
﴿وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ مخلِصونَ.
...
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠١)، و"تفسير البغوي" (١/ ٧٣٠ - ٧٣١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٦٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٤٧).
(٢) في "ن" و"ت": "وهو".
﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢)﴾.
[١١٢] ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ والمائدةُ: الخوانُ الذي عليه الطَّعامُ. قرأ الكسائيُّ: (هَل تَّسْتَطِيعُ) بالتاء وإدغام لام (هَلْ) (رَبَّكَ) بنصبِ الباء؛ أي: هل تستطيعُ أن تدعُوَ وتسألَ ربَّكَ، وقرأ الباقون: (يَسْتَطِيعُ) بالياء (رَبُّكَ) برفعِ الباء (١)، ولم يقولوه شاكِّينَ في قدرةِ الله تعالى، ولكن معناهُ: هل يُنْزِلُ أم لا؟
﴿قَالَ﴾ لهم عيسى:
﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ في أمثالِ هَذَا السؤالِ.
﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ بكمالِ قدرته، وصِحَّةِ نبوَّتي.
...
﴿قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣)﴾.
[١١٣] ﴿قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا﴾ أكلَ تبرُّكٍ لا أكلَ حاجةٍ.
﴿وَتَطْمَئِنَّ﴾ تسكنَ.
﴿قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا﴾ أي: نزدادَ إيمانًا ويقينًا بأنَّكَ رسولُ الله.
﴿وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ للهِ بالوحدانيةِ والقدرةِ، ولكَ بالنبوةِ والرسالةِ.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠١)، و"تفسير البغوي" (١/ ٧٣١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٤٧).
﴿قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤)﴾.
[١١٤] ﴿قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا﴾ أي: يكونُ يومُ نزولِها عيدًا نُعَظِّمُهُ.
﴿لِأَوَّلِنَا﴾ لمن في زمانِنا.
﴿وَآخِرِنَا﴾ لمن يأتي بعدَنا، قالوا: نزلَتْ يومَ الأحدِ، فلذلكَ اتَّخَذَهُ النصارى عيدًا.
﴿وَآيَةً مِنْكَ﴾ دلالةً وحجَّةُ.
﴿وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ أي: خيرُ مَنْ أَعْطى ورَزَقَ.
...
﴿قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (١١٥)﴾.
[١١٥] ﴿قَالَ اللَّهُ﴾ مُجيبًا لعيسى:
﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ﴾ يعني: المائدة. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وعاصمٌ: (مُنَزِّلُهَا) بالتشديد؛ لأنَّها نزلَتْ مراتٍ، والتَّفعيلُ يدلُّ على التدبيرِ مرةً بعدَ أخرى، وقرأ الباقون: بالتخفيف؛ لقوله: ﴿أَنْزِلْ عَلَيْنَا﴾ (١).
﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ﴾ أي: بعدَ نزولِها.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٥٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠١)، و"تفسير البغوي" (١/ ٧٣٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٤٩).
362
﴿فَإِنِّي﴾ قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (فَإِنِّي) بفتحِ الياء، والباقون: بإسكانها (١).
﴿أُعَذِّبُهُ عَذَابًا﴾ أي: جنسَ عذابٍ.
﴿لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ يعني عالَمي زمانِهم، والصحيحُ أنها نزلَتْ، رُوي أن عيسى عليه السلام لما سألوه نزولَ المائدةِ، لبسَ صوفًا وتضرَّعَ وبكى، وقالَ: ﴿اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً﴾ الآية، فنزلَتْ سفرةٌ حمراءُ بينَ غَمامتينِ من فوقِها وتحتِها، وهم ينظرونَ، وهي تهوي مُنْقَضَّةً حتى سقطَتْ بينَ أيديهم، فبكى عيسى، وقالَ: اللهمَّ اجعلْني منَ الشاكرين، اللهمَّ اجعلْها رحمةً، ولا تجعلْها عقوبة، فقالَ عيسى: لِيَقُمْ أحسنكم عملًا فَلْيَكْشِفْ عنها، ويذكرِ اسمَ اللهِ تعالى، فقالَ شمعونُ رأسُ الحواريين: أنتَ أولى بذلك، فقامَ عيسى فصلَّى وبكى طويلًا، ثم كشفَ المنديلَ عنها، وقال: باسمِ اللهِ خيرِ الرازقينَ، فإذا هو بسمكةٍ ليسَ عليها فُلوسُها، تسيلُ دسمًا، عندَ رأسِها ملحٌ، وعندَ ذَنَبِها خَلٌّ، وحولَها من جميعِ ألوانِ البقولِ ما خلا الكُرَّاثَ، وخمسةُ أرغفةٍ على واحدٍ زيتونٌ، وواحد عسلٌ، وواحد سمنٌ، وواحد جبنٌ، وواحد قديدٌ، فقالَ شمعونُ: أمن طعامٍ الدُّنيا أمْ منْ طعامِ الآخرة؟ فقال عيسى: ليسَ منهُما، ولكنه شيءٌ افتعلهُ اللهُ بالقدرةِ الغالبةِ، كلوا مما سألتُم يُمْدِدْكم ربكم، فقالوا: كنْ أولَ
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٥٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠١)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٢٥٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٠٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٤٩).
363
آكلٍ منها، فقال: معاذَ اللهِ أن آكلَ، لكنْ يأكلُ منها مَنْ سألها، فخافوا فلم يأكلوا، فأطعمَها أهلَ الفاقةِ، وكانوا أكثرَ من ألفٍ، فيهم المرضى والفقراءُ، فأكلوا حتى شبعوا، وإِذا هي كهيئتها حينَ نزلَتْ، ثم طارتْ وما أكل منها فقيرٌ إلا استغنى، ولا مريضٌ إلا عوفيَ، [وكانتْ تنزلُ ضحًى، فيأكلُ منها الأغنياءُ والفقراءُ، فإذا فاءَ الفيءُ، طارتْ] (١)، وكانت تنزلُ يومًا وتغيبُ يومًا كناقةِ ثمودَ، ترعى يومًا، وتَرِدُ يومًا، فلبثت كذلكَ أربعينَ صباحًا، وأوحى الله إليه أنِ اجعلْ رزقي في الفقراءِ دونَ الأغنياءِ، ففعلَ، فعظُمَ على الأغنياءِ، وأذاعوا القبيحَ حتى شَكُّوا وشَكَّكوا فيهِ الناسَ، فوقعتْ فيه الفتنةُ في قلوبِ المرتدِّينَ، ثم أوحى الله إلى عيسى أني آخِذٌ بشرطي من المكذِّبينَ، قد اشترطتُ عليهم أَنّي معذبُ من كفرَ منهم عذابًا لا أُعذِّبُه أحدًا من العالمينَ بعدَ نزولِها، فقال عيسى: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ فَمُسخ منهم ثلاثُ مئةٍ وثلاثونَ رجلًا، باتوا من ليلتِهم على فُرُشِهم معَ نسائِهم، فأصبحوا خنازيرَ يسعَوْنَ في الطرقاتِ، ويأكلونَ العَذِراتِ، فلما رأى الناسُ ذلكَ، فزعوا إلى عيسى، وبَكَوا، فلما أبصرتِ الخنازيرُ عيسى، بكَتْ وجعلَتْ تُطيف بعيسى، وجعلَ عيسى يدعوهُم بأسمائِهم، فيشيرونَ برؤوسِهم ويبكونَ، ولا يقدرونَ على الكلام، قال الله تعالى لمحمدٍ - ﷺ -: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ﴾ [الرعد: ٦]، وقال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ [المائدة: ٧٨]، فسألَ
(١) من قوله: "وكانت تنزل ضحىً... " إلى قوله: "طارت" ساقط من "ن".
364
عيسى ربَّهُ أَنْ يُميتهُم، فأماتهم بعدَ ثلاثةِ أيام، فما رأى أحدٌ من الناسِ منهم جيفةً في الأرضِ (١).
...
﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١١٦)﴾.
[١١٦] ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي﴾ أي: صَيِّروني.
﴿وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ والصحيحُ أنَّ هذا القولَ إنَّما يُقالُ له يومَ القيامةِ، بدليلِ قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ﴾ [المائدة: ١٠٩]؛ لأن هذا استفهامُ توبيخٍ وإثباتِ الحجةِ على قوم عيسى؛ لأنه تعالى عالم أَنَّ عيسى لم يقلْ ذلكَ، وتقدَّمَ اختلافُ القُرَّاءِ في حكمِ الهمزتينِ من كلمةٍ في سورةِ البقرةِ عندَ قوله تعالى: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾، وكذلك اختلافُهم في (أَأَنْتَ). قرأ ابنُ كثيرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ، وخلفٌ، ويعقوبُ: (وَأُمِّي) بإسكانِ الياء، والباقون: بفتحها (٢)، قالوا: فإذا سمعَ عيسى هذا
(١) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٧٣٤).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٥٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٦)، و "معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٥٠).
الخطابَ، أرعدَتْ مفاصلُهُ، وانفجرت من أصلِ كلِّ شعرةٍ عينُ دمٍ، ثم ﴿قَالَ﴾ منزِّهًا مبرهنًا عن نفسِه:
﴿سُبْحَانَكَ﴾ تنزيهًا لك عن الشريك.
﴿مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾ أي: ما ينبغي لي قولُ ما لم يثبتْ لي قولُه. قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (لِي) بإسكانِ الياءِ: والباقون: بفتحها (١).
﴿إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ أي: تعلمُ معلومي، ولا أعلمُ معلومَك.
﴿إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ ما كانَ وما يكون.
...
﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧)﴾.
[١١٧] ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ﴾ ثم فَسَّرَ ما أُمِرَ بهِ فقالَ:
﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ وَحِّدُوهُ، ولا تشركوا بهِ شيئًا.
﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ رَقيبًا أَمنعُهم من الكفرِ.
﴿مَا دُمْتُ فِيهِمْ﴾ أي: وقتَ دوامي فيهم.
﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي﴾ قَبَضْتَني إليكَ.
(١) انظر: المصادر السابقة.
﴿كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾ تحفظُ أعمالَهم.
﴿وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ من مقالَتي ومقالَتِهم.
...
﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)﴾.
[١١٨] ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾ لا اعتراضَ عليكَ، وفيه تنبيهٌ على أنهم استحقُّوا التعذيبَ.
﴿وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ أي: للمؤمنين منهم.
﴿فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ﴾ في الملكِ.
﴿الْحَكِيمُ﴾ في القضاءِ، معناه: إن تعذِّبْ، فعدلٌ، وإن تغفرْ، ففضلٌ.
...
﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩)﴾.
[١١٩] ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ﴾ قرأ الجميعُ سوى نافعٍ: (يَوْمٌ) برفعِ الميم على خبرِ (هذا)، وقرأ نافع: بنصبِ الميم ظرفًا لخبر (هَذا) (١)، وهو محذوفٌ تقديرُه: هذا المذكورُ من كلامِ عيسى يقعُ يومَ.
﴿يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ﴾ في الدنيا.
﴿صِدْقُهُمْ﴾ في الآخرةِ.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٥٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠١) و"تفسير البغوي" (١/ ٧٣٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢١٦).
﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا﴾ أي: من تحت غرفِها وأشجارِها.
﴿الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ﴾ أي: الظَّفَرُ.
﴿الْعَظِيمُ﴾ الذي عَظُمَ خيرُه وكَثُرَ.
...
﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)﴾.
[١٢٠] ثم عَظَّمَ نفسَه تعالى فقالَ:
﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ تنبيهٌ على كذبِ النصارى، وفسادِ دعواهُم في المسيح أنَّه إلهٌ، فأخبرَ تعالى أنَّ ملكَ السمواتِ والأرضِ له دون عيسى، ودونَ سائرِ المخلوقين، والله أعلم.
***
368
سُوْرَةُ الأَنْعَامِ
مكيةٌ، وآيُها مئةٌ وخمسٌ وستونَ آيةً، وحروفُها اثنا عشرَ ألفًا وأربعُ مئةٍ واثنانِ وعشرونَ حرفًا، وكَلِمُها ثلاثةُ آلافٍ واثنتانِ وخمسونَ كلمةً، نزلتْ ليلًا جملةً، حولها سبعونَ ألفَ مَلَكٍ يُسَبِّحون، فقال النبيُّ - ﷺ -: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ، وخرَّ ساجدًا" (١).
وعنه - ﷺ -: "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الأَنْعَامِ لَمْ يَقْطَعْهَا بِكَلاَمٍ، غَفَرَ اللهُ لَهُ ما سَلَفَ مِنْ عَمَلٍ" (٢).
وعنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنه: "نزلَتْ سورةُ الأنعامِ بمكَّةَ، إلا قولَه: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ إلى آخرِ ثلاثِ آياتٍ، وقولَه تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ فهذه الستُّ آياتٍ مدنياتٌ" (٣).
(١) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (٦٤٤٧)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (٢٤٣٣)، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-. وفي الباب: عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (١/ ٤٥٠)، و"الفتح السماوي" للمناوي (٢/ ٦٢٨).
(٢) ذكره العيني في "عمدة القاري" (١٨/ ٢١٨)، وعزاه إلى أبي القاسم عبد المحسن القيسي في كتاب "الفائق في اللفظ الرائق".
(٣) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (٢/ ٢٤٤).
369
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
= حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها ، عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-.