ﰡ
مَا يَمْنَعُكَ؟ قَالَ: قَدِ اسْوَدَّ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ مِنَ الْكَتَائِبِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللَّهِ لَوْ تَحَرَّكَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» : حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قَالُوا:
نَعَمْ، قَالَ: فَقَالَ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يُصَلِّي كَذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، وَلَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ: فَمَا فَجَأَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكِصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ، قَالَ فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدَقًا مِنْ نَارٍ، وَهَوْلًا وَأَجْنِحَةً قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا» قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ لَا أَدْرِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَمْ لَا كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى إِلَى آخِرِ السُّورَةِ «٢»، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ به.
وقوله تعالى: كَلَّا لَا تُطِعْهُ يَعْنِي يَا مُحَمَّدُ لَا تُطِعْهُ فِيمَا يَنْهَاكَ عَنْهُ مِنَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَكَثْرَتِهَا، وَصَلِّ حَيْثُ شِئْتَ، وَلَا تُبَالِهِ فَإِنَّ اللَّهَ حَافِظُكَ وَنَاصِرُكَ وَهُوَ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ» «٣» وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْجُدُ فِي إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ اقرأ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ الْقَدْرِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القدر (٩٧) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤)سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥)
(٢) أخرجه مسلم في المنافقين حديث ٣٨، وأحمد في المسند ٢/ ٣٧٠.
(٣) أخرجه مسلم في الصلاة حديث ٢١٥.
قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ «١» عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيُّ عَنْ يُوسُفَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَعْدَ مَا بَايَعَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: سَوَّدْتَ وُجُوهَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ يَا مُسَوِّدَ وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ:
لَا تُؤَنِّبْنِي رَحِمَكَ اللَّهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى مِنْبَرِهِ فَسَاءَهُ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الْكَوْثَرَ: ١] يَا مُحَمَّدُ، يَعْنِي نَهْرًا فِي الْجَنَّةِ وَنَزَلَتْ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ يَمْلِكُهَا بَعْدَكَ بَنُو أُمَيَّةَ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ الْقَاسِمُ: فَعَدَدْنَا فَإِذَا هِيَ ألف شهر لا تزيد يوما ولا تنقص يَوْمًا. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ حديث القاسم بن الفضل، وقد قيل عن الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَازِنَ والقاسم بن الفضل الحداني هو ثقة وثقه يحيى القطان وعبد الرّحمن بن مَهْدِيٍّ قَالَ: وَشَيْخُهُ يُوسُفُ بْنُ سَعْدٍ، وَيُقَالُ يوسف بن مازن رجل مجهول ولا يعرف هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَازِنَ بِهِ، وَقَوْلُ التِّرْمِذِيِّ: إِنَّ يُوسُفَ هَذَا مَجْهُولٌ فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ قَدْ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ حَمَّادُ بْنُ سلمة وخالد الحذاء يونس بْنُ عُبَيْدٍ، وَقَالَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: هُوَ مَشْهُورٌ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ قَالَ: هُوَ ثِقَةٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَازِنَ كَذَا قَالَ وَهَذَا يَقْتَضِي اضْطِرَابًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مُنْكَرٌ جِدًّا، قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْحَافِظُ الْحُجَّةُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ: هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ.
(قُلْتُ) وَقَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيِّ إِنَّهُ حَسَبَ مُدَّةَ بَنِي أُمَيَّةَ فَوَجَدَهَا ألف شهر لا تزيد يوما ولا تنقص لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَقَلَّ بِالْمُلْكِ حِينَ سَلَّمَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْإِمْرَةَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَاجْتَمَعَتِ الْبَيْعَةُ لِمُعَاوِيَةَ وَسُمِّيَ ذَلِكَ عَامَ الْجَمَاعَةِ ثُمَّ اسْتَمَرُّوا فِيهَا مُتَتَابِعِينَ بِالشَّامِ وَغَيْرِهَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْهُمْ إِلَّا مُدَّةَ دَوْلَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي الْحَرَمَيْنِ، وَالْأَهْوَازِ وَبَعْضِ الْبِلَادِ قَرِيبًا مِنْ تِسْعِ سِنِينَ، لَكِنْ لَمْ تَزُلْ يدهم عن الإمرة بالكلية،
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ سِيقَ لِذَمِّ دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَلَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِهَذَا السِّيَاقِ، فَإِنَّ تَفْضِيلَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى أَيَّامِهِمْ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ أَيَّامِهِمْ، فَإِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ شَرِيفَةٌ جِدًّا وَالسُّورَةُ الْكَرِيمَةُ إِنَّمَا جَاءَتْ لِمَدْحِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَكَيْفَ تُمْدَحُ بِتَفْضِيلِهَا عَلَى أَيَّامِ بَنِي أُمَيَّةَ الَّتِي هِيَ مَذْمُومَةٌ بِمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ السَّيْفَ يَنْقُصُ قَدْرُهُ | إِذَا قِيلَ إِنَّ السَّيْفَ أَمْضَى مِنَ الْعَصَا |
إِذَا أَنْتَ فَضَّلْتَ امْرَأً ذَا بَرَاعَةٍ | عَلَى نَاقِصٍ كَانَ الْمَدِيحُ مِنَ النَّقْصِ |
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا حكام بن مسلم عَنِ الْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَاحِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى يُصْبِحَ ثُمَّ يُجَاهِدُ الْعَدُوَّ بِالنَّهَارِ حَتَّى يُمْسِيَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَلْفَ شَهْرٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ قِيَامُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي مَسْلَمَةُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوما أَرْبَعَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَبَدُوا اللَّهَ ثَمَانِينَ عَامًا، لَمْ يَعْصَوْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَذَكَرَ أَيُّوبَ وزكريا وحزقيل ابن الْعَجُوزِ وَيُوشَعَ بْنَ نُونٍ، قَالَ: فَعَجِبَ أَصْحَابُ رسول الله ﷺ من ذَلِكَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ عَجِبَتْ أُمَّتُكَ مِنْ عِبَادَةِ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ ثَمَانِينَ سَنَةً لَمْ يَعْصُوْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَقَدَ أَنْزَلَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: بَلَغَنِي عَنْ مُجَاهِدٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ قَالَ: عَمَلُهَا وصيامها وَقِيَامُهَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِي تِلْكَ الشُّهُورِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَهَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ: عَمَلٌ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَلْفِ شَهْرٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهَا أفضل من عبادة ألف شهر ليس فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَهُوَ الصَّوَابُ لَا مَا عَدَاهُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رِبَاطُ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ لَيْلَةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَنَازِلِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ «١» وَكَمَا جَاءَ فِي قَاصِدِ الْجُمُعَةِ بِهَيْئَةٍ حَسَنَةٍ، وَنِيَّةٍ صَالِحَةٍ أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ عَمَلُ سَنَةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الْمُشَابِهَةِ لِذَلِكَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا حَضَرَ رَمَضَانُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ جَاءَكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ شَهَرٌ مُبَارَكٌ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ بِهِ. وَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ تَعْدِلُ عِبَادَتُهَا عِبَادَةَ أَلْفِ شَهْرٍ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» «٣».
وقوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ أَيْ يَكْثُرُ تَنَزُّلُ الْمَلَائِكَةِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لِكَثْرَةِ بَرَكَتِهَا، وَالْمَلَائِكَةُ يَتَنَزَّلُونَ مَعَ تَنَزُّلِ الْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ كَمَا يَتَنَزَّلُونَ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَيُحِيطُونَ بِحِلَقِ الذِّكْرِ، وَيَضَعُونَ أَجْنِحَتَهُمْ لِطَالِبِ الْعِلْمِ بِصِدْقٍ تَعْظِيمًا لَهُ، وَأَمَّا الرُّوحُ فَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَقِيلَ هُمْ ضَرْبٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سورة النبأ والله أعلم.
وقوله تعالى: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ قَالَ مُجَاهِدٌ: سَلَامُ هِيَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ:
حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: سَلامٌ هِيَ قَالَ: هِيَ سَالِمَةٌ لَا يَسْتَطِيعُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا سُوءًا أَوْ يَعْمَلَ فِيهَا أَذًى، وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: تُقْضَى فِيهَا الْأُمُورُ وَتُقَدَّرُ الْآجَالُ وَالْأَرْزَاقُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان: ٤].
(٢) المسند ٢/ ٢٣٠، ٣٨٥، ٤٢٥.
(٣) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٢٥، ٢٧، والصوم باب ٦، ومسلم في المسافرين حديث ١٧٣ ١٧٦.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ يَعْنِي الْقَطَّانَ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال في ليلة القدر: «إنها ليلة سابعة أو تَاسِعَةٍ وَعِشْرِينَ وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى». وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنِ الْمِنْهَالِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى فِي قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ قَالَ: لَا يَحْدُثُ فِيهَا أَمْرٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ:
سَلامٌ هِيَ يَعْنِي هِيَ خَيْرٌ كُلُّهَا لَيْسَ فِيهَا شَرٌّ إِلَى مطلع الفجر.
ويؤيد هذا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» : حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، حَدَّثَنِي بَحِيرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْبَوَاقِي، مَنْ قَامَهُنَّ ابْتِغَاءَ حِسْبَتِهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَهِيَ لَيْلَةٌ وِتْرٍ:
تِسْعٍ أَوْ سَبْعٍ أَوْ خَامِسَةٍ أَوْ ثَالِثَةٍ أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ».
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أَمَارَةَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَنَّهَا صَافِيَةٌ بَلْجَةٌ كَأَنَّ فيها قمرا ساطعا ساكنة ساجية لَا بَرْدَ فِيهَا وَلَا حَرَّ، وَلَا يَحِلُّ لِكَوْكَبٍ يُرْمَى بِهِ فِيهَا حَتَّى تُصْبِحَ، وَأَنَّ أَمَارَتَهَا أَنَّ الشَّمْسَ صَبِيحَتَهَا تَخْرُجُ مُسْتَوِيَةً لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ مِثْلَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَلَا يَحِلُّ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا يَوْمَئِذٍ» وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ، وَفِي الْمَتْنِ غَرَابَةٌ وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ نَكَارَةٌ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا زَمْعَةُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «ليلة سمحة طلقة بلجة لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ وَتُصْبِحُ شَمْسُ صَبِيحَتِهَا ضَعِيفَةً حَمْرَاءَ» وَرَوَى ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِّي رَأَيْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَأُنْسِيتُهَا وَهِيَ فِي العشر الأواخر من لياليها وهي طَلْقَةٌ بِلُجَةٌ لَا حَارَةً وَلَا بَارِدَةٌ كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا لَا يَخْرُجُ شَيْطَانُهَا حَتَّى يُضِيءَ فَجْرُهَا».
[فَصْلٌ] اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ كَانَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ أَوْ هِيَ مِنْ خصائص هذه
(٢) المسند ٥/ ٣٢٤.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ «١» : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي أَبُو زُمَيْلٍ سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي مَرْثَدٌ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا ذَرٍّ قُلْتُ: كَيْفَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ؟ قَالَ: أَنَا كُنْتُ أَسْأَلُ النَّاسَ عَنْهَا قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَفِي رَمَضَانَ هِيَ أَوْ فِي غَيْرِهِ؟ قَالَ: «بَلْ هِيَ فِي رَمَضَانَ» قُلْتُ: تَكُونُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ مَا كَانُوا فَإِذَا قُبِضُوا رُفِعَتْ أَمْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: «بَلْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» قُلْتُ:
فِي أَيِّ رَمَضَانَ هِيَ؟ قال: «التمسوها في العشر الأول والعشر الآخر» ثُمَّ حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَحَدَّثَ ثُمَّ اهْتَبَلْتُ غَفْلَتَهُ قُلْتُ: فِي أَيَّ الْعَشْرَيْنِ هِيَ؟ قَالَ: «ابْتَغَوْهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، لَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا».
ثُمَّ حدث رسول الله ثُمَّ اهْتَبَلْتُ غَفْلَتَهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِحَقِّي عَلَيْكَ لَمَا أَخْبَرْتَنِي فِي أَيِّ الْعَشْرِ هِيَ؟ فَغَضِبَ عَلَيَّ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ مِثْلَهُ مُنْذُ صَحِبْتُهُ وَقَالَ: «الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، لَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنِ الْفَلَّاسِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ بِهِ، فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَّرْنَاهُ وَفِيهِ أَنَّهَا تَكُونُ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي كُلِّ سَنَةٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ طَوَائِفِ الشِّيعَةِ مَنْ رَفْعِهَا بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى مَا فَهِمُوهُ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي سَنُورِدُهُ بَعْدُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ» لِأَنَّ الْمُرَادَ رُفِعُ عِلْمُ وَقْتِهَا عينا. وفيه دلالة على أن لَيْلَةُ الْقَدْرِ يَخْتَصُّ وُقُوعُهَا بِشَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الشُّهُورِ، لَا كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ أَنَّهَا تُوجَدُ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ وترتجي فِي جَمِيعِ الشُّهُورِ عَلَى السَّوَاءِ.
وَقَدْ تَرْجَمَ أَبُو دَاوُدَ «٢» فِي سُنَنِهِ عَلَى هَذَا فَقَالَ: «بَابُ بَيَانِ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي كُلِّ رَمَضَانَ» حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ النَّسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَسْمَعُ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَالَ: «هِيَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ»، وَهَذَا إِسْنَادٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ،
(٢) كتاب رمضان باب ٧.
رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةٌ أَنَّهَا ترتجى في كل شَهْرِ رَمَضَانَ وَهُوَ وَجْهٌ حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ وَاسْتَغْرَبَهُ الرَّافِعِيُّ جِدًّا.
[فَصْلٌ] ثُمَّ قَدْ قِيلَ إِنَّهَا تكون فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، يُحْكَى هَذَا عَنْ أَبِي رَزِينٍ، وَقِيلَ إِنَّهَا تَقَعُ لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَرَوَى فِيهِ أَبُو دَاوُدَ حَدِيثًا مَرْفُوعًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَعَلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَهُوَ قَوْلٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ وَيُحْكَى عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّهَا لَيْلَةُ بَدْرٍ وَكَانَتْ لَيْلَةُ جُمُعَةٍ هِيَ السابعة عشرة مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَفِي صَبِيحَتِهَا كَانَتْ وَقْعَةُ بدر وهي الْيَوْمُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: يَوْمَ الْفُرْقانِ. وَقِيلَ لَيْلَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ يُحْكَى عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقِيلَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ رَمَضَانَ وَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ، فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ فَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ، فَأَتَاهُ جبريل فقال: الذي تطلب أمامك ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطيبا صبيحة عشرين من رمضان قال: «مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَرْجِعْ فَإِنِّي رَأَيْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَإِنِّي أُنْسِيتُهَا وَإِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأواخر في وِتْرٍ وَإِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي أَسْجُدُ فِي طِينٍ وَمَاءٍ». وَكَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ جَرِيدًا مِنَ النَّخْلِ وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ شَيْئًا، فَجَاءَتْ قَزَعَةٌ فَمُطِرْنَا، فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ وَالْمَاءِ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصْدِيقَ رُؤْيَاهُ، وَفِي لَفْظٍ فِي صُبْحِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ «١»، أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ، وَقِيلَ لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ قَرِيبُ السِّيَاقِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقِيلَ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ» إِسْنَادُهُ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
وَقَالَ أَحْمَدُ «٢» : حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنِ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ بِلَالٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ» ابْنُ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ، وَقَدْ خَالَفَهُ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَصْبَغَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عن أبي عبد الله الصنابحي قال: قَالَ أَخْبَرَنِي بِلَالٌ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا أَوَّلُ السَّبْعِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَهَذَا الْمَوْقُوفُ أَصَحُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَالْحُسْنِ وَقَتَادَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ أنها ليلة
(٢) المسند ٦/ ١٢.
وقال الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ سَمِعْتُ عَبْدَةَ وَعَاصِمًا عَنْ زِرٍّ سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قُلْتُ أَبَا الْمُنْذِرِ إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ مَنْ يُقِمِ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، قَالَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ لَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ حَلَفَ، قُلْتُ وَكَيْفَ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ قَالَ بِالْعَلَامَةِ أَوْ بِالْآيَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا بِهَا، تَطْلُعُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لا شعاع لها يعني الشَّمْسَ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَشُعْبَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَبْدَةَ عَنْ زِرٍّ عَنْ أَبِي فَذَكَرَهُ وَفِيهِ فَقَالَ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّهَا لَفِي رمضان يحلف ما يستثني، وو الله إِنِّي لَأَعْلَمُ أَيَّ لَيْلَةِ الْقَدْرِ هِيَ الَّتِي أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِيَامِهَا هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَأَمَارَتُهَا أَنْ تطلع الشمس في صبيحتها بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا.
وَفِي الْبَابِ عَنْ مُعَاوِيَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ السلف وهو الجادة من مذهب الإمام أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ حَاوَلَ اسْتِخْرَاجَ كَوْنِهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: هِيَ لأنها الكلمة السابعة والعشرون من السورة فالله أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّبَرِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ وَعَاصِمٍ أَنَّهُمَا سَمِعَا عِكْرِمَةَ يَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ دَعَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لِعُمَرَ إِنِّي لَأَعْلَمُ- أَوْ إِنِّي لَأَظُنُّ- أَيَّ لَيْلَةِ الْقَدْرِ هِيَ فَقَالَ عُمَرُ:
وأي لَيْلَةٍ هِيَ؟ فَقُلْتُ سَابِعَةٌ تَمْضِي- أَوْ سَابِعَةٌ تبقى- من العشر الأواخر فقال عمر: من أَيْنَ عَلِمْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَسَبْعَ أَرْضِينَ وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَإِنَّ الشَّهْرَ يَدُورُ عَلَى سَبْعٍ وَخَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ سَبْعٍ، وَيَأْكُلُ مِنْ سَبْعٍ وَيَسْجُدُ عَلَى سَبْعٍ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ سَبْعٌ وَرَمْيُ الْجِمَارِ سَبْعٌ لِأَشْيَاءَ ذَكَرَهَا، فَقَالَ عُمَرُ لَقَدْ فَطِنْتَ لِأَمْرٍ مَا فَطِنَّا لَهُ، وَكَانَ قَتَادَةُ يَزِيدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَيَأْكُلُ مِنْ سَبْعٍ، قَالَ هُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً [عبس: ٢٧] الآية. وهذا إسناد جيد قوي ومتن غريب جدا فالله أعلم.
«فِي رَمَضَانَ التمسوها فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَإِنَّهَا فِي وَتْرِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ أَوْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ أَوْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ أَوْ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ».
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ وَهُوَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ الْقَطَّانُ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي لَيْلَةِ القدر: «إنها في ليلة سابعة أو تاسعة وعشرين وإن الملائكة تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَقِيلَ إِنَّهَا تَكُونُ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ آنِفًا، وَلِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُيَيْنَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ: «فِي تِسْعٍ يَبْقَيْنَ أَوْ سَبْعٍ يَبْقَيْنَ أو خمس يبقين أو ثلاث يبقين أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ يَعْنِي الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ» «٣» وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةِ القدر «إنها آخر ليلة».
[فصل] قال الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ: صَدَرَتْ مِنَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم جوابا للسائل إذا قيل له أنلتمس لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي اللَّيْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ؟ يَقُولُ «نَعَمْ» وإنما ليلة القدر مُعَيَّنَةٌ لَا تَنْتَقِلُ. نَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ بِمَعْنَاهُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ تَنْتَقِلُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْهُ وَهُوَ الْأَشْبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ يُسْتَأْنَسُ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السبع الأواخر» «٤» وفيهما أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ قال: «تَحَرُّوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ.
وَيُحْتَجُّ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَا تَنْتَقِلُ وَأَنَّهَا مُعَيَّنَةٌ مِنَ الشَّهْرِ بما رواه البخاري «٥» في صحيحه عن
(٢) المسند ٢/ ٥١٩.
(٣) أخرجه الترمذي الصوم باب ٧٢.
(٤) أخرجه البخاري في القدر باب ٢، ٣، ومسلم في الصيام حديث ٢٠٥، ٢٠٦.
(٥) كتاب القدر باب ٤.
فَقَالَ: «خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ» وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مُعَيَّنَةً مُسْتَمِرَّةَ التَّعْيِينِ لَمَا حَصَلَ لهم العلم بعينها في كل سنة، إذ لو كانت تنتقل لما علموا تعيينها إِلَّا ذَلِكَ الْعَامِ فَقَطْ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ إِنَّمَا خَرَجَ لِيُعْلِمَهُمْ بِهَا تِلْكَ السَّنَةَ فَقَطْ وَقَوْلُهُ: «فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ» فِيهِ اسْتِئْنَاسٌ لِمَا يُقَالُ إِنَّ الْمُمَارَاةَ تَقْطَعُ الفائدة والعلم النافع كما جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» «١» وَقَوْلُهُ «فَرُفِعَتْ» أَيْ رُفِعَ عِلْمُ تعيينها لَكُمْ لَا أَنَّهَا رُفِعَتْ بِالْكُلِّيَّةِ مِنَ الْوُجُودِ كَمَا يَقُولُهُ جَهَلَةُ الشِّيعَةِ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ بَعْدَ هَذَا: «فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ».
وَقَوْلُهُ: «وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ» يَعْنِي عَدَمُ تَعْيِينِهَا لَكُمْ فَإِنَّهَا إِذَا كَانَتْ مُبْهَمَةً اجْتَهَدْ طُلَّابُهَا فِي ابْتِغَائِهَا فِي جَمِيعِ مَحَالِّ رَجَائِهَا، فَكَانَ أَكْثَرَ لِلْعِبَادَةِ بِخِلَافِ مَا إِذَا عَلِمُوا عَيْنَهَا فَإِنَّهَا كَانَتِ الْهِمَمُ تَتَقَاصَرُ عَلَى قِيَامِهَا فَقَطْ، وَإِنَّمَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِبْهَامَهَا لِتَعُمَّ الْعِبَادَةُ جَمِيعَ الشَّهْرِ فِي ابْتِغَائِهَا، وَيَكُونُ الِاجْتِهَادُ في العشر الأخير أَكْثَرَ، وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ «٢»، أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ. وَلَهُمَا عَنِ ابْنُ عُمَرَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ «٣» أَخْرَجَاهُ، وَلِمُسْلِمٍ عَنْهَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهَا وَشَدَّ الْمِئْزَرَ: وَقِيلَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ اعْتِزَالُ النِّسَاءِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الْأَمْرَيْنِ لِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٤» : حَدَّثَنَا سُرَيْجٌ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَقِيَ عَشْرٌ مِنْ رَمَضَانَ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَاعْتَزَلَ نِسَاءَهُ انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ في جميع ليالي العشر تَطَلُّبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى السَّوَاءِ لَا يَتَرَجَّحُ مِنْهَا لَيْلَةٌ عَلَى أُخْرَى رَأَيْتُهُ فِي شَرْحِ الرَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالْمُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَكْثَرُ، وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْهُ ثُمَّ فِي أَوْتَارِهِ أَكْثَرُ وَالْمُسْتَحَبُّ أَنَّ يُكْثِرَ مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي.
لِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٥» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ هُوَ ابْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ إياس
(٢) أخرجه البخاري في الاعتكاف باب ١، ومسلم في الاعتكاف حديث ٤.
(٣) أخرجه البخاري في القدر باب ٥، ومسلم في الاعتكاف حديث ٧.
(٤) المسند ٦/ ٦٦، ٦٧.
(٥) المسند ٦/ ١٨٢.
«قُولِي اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» «١» وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ كَهْمَسِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أرأيت إن علمت أي ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال «قولي اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» وَهَذَا لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ ثُمَّ قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرِكِهِ وَقَالَ هَذَا صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنِ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: «قُولِي اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي».
[ذُكِرَ أَثَرٌ غَرِيبٌ وَنَبَأٌ عَجِيبٌ يَتَعَلَّقُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ] رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ الْقَطْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا سَيَّارُ بْنُ حَاتِمٍ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ سَعِيدٍ يَعْنِي الرَّاسِبِيَّ عن هلال بن أَبِي جَبَلَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى عَلَى حَدِّ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ مِمَّا يَلِي الْجَنَّةَ فَهِيَ عَلَى حَدِّ هَوَاءِ الدُّنْيَا وَهَوَاءِ الْآخِرَةِ، عُلُوُّهَا فِي الْجَنَّةِ وَعُرُوقُهَا وَأَغْصَانُهَا مِنْ تَحْتِ الْكُرْسِيِّ، فِيهَا مَلَائِكَةٌ لَا يَعْلَمُ عِدَّتَهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، يَعْبُدُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَغْصَانِهَا فِي كُلِّ مَوْضِعِ شَعْرَةٍ مِنْهَا مَلَكٌ وَمَقَامُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي وَسَطِهَا فَيُنَادِي اللَّهُ جِبْرِيلَ أَنْ يَنْزِلَ فِي كل ليلة القدر مَعَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى وَلَيْسَ فِيهِمْ مَلَكٌ إِلَّا قَدْ أُعْطِيَ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ للمؤمنين.
فينزلون مع جِبْرِيلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ، فَلَا تَبْقَى بُقْعَةٌ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَّا وَعَلَيْهَا مَلَكٌ إِمَّا سَاجِدٌ وَإِمَّا قَائِمٌ يَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ كَنِيسَةٌ أَوْ بَيْعَةٌ أَوْ بَيْتُ نَارٍ أَوْ وَثَنٍ أَوْ بَعْضُ أَمَاكِنِكُمُ الَّتِي تَطْرَحُونَ فِيهَا الْخَبَثَ، أَوْ بَيْتٌ فِيهِ سَكْرَانٌ أَوْ بَيْتٌ فِيهِ مُسْكِرٌ أَوْ بَيْتٌ فِيهِ وَثَنٌ مَنْصُوبٌ، أَوْ بَيْتٌ فِيهِ جَرَسٌ مُعَلَّقٌ أَوْ مَبْوَلَةٌ أَوْ مَكَانٌ فِيهِ كَسَاحَةِ الْبَيْتِ، فَلَا يَزَالُونَ لَيْلَتَهُمْ تِلْكَ يَدْعُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَجِبْرِيلُ لَا يَدَعُ أَحَدًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا صَافَحَهُ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ مَنِ اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ وَرَقَّ قَلْبُهُ وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ فَإِنَّ ذلك من مصافحة جبريل.
وذكر كعب أن مَنْ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ بواحدة ونجاه مِنَ النَّارِ بِوَاحِدَةٍ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِوَاحِدَةٍ، فَقُلْنَا لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ يَا أَبَا إِسْحَاقَ صَادِقًا، فَقَالَ كعب الأحبار: وَهَلْ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَّا كُلُّ صَادِقٍ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَتَثْقُلُ عَلَى الْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ حَتَّى كَأَنَّهَا عَلَى ظَهْرِهِ جَبَلٌ، فَلَا تَزَالُ الْمَلَائِكَةُ هَكَذَا حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ، فَأَوَّلُ مَنْ يَصْعَدُ جِبْرِيلُ حَتَّى يَكُونَ فِي وَجْهِ الْأُفُقِ الْأَعْلَى مِنَ الشَّمْسِ فَيَبْسُطُ جَنَاحَيْهِ وَلَهُ جَنَاحَانِ أَخْضَرَانِ لَا يَنْشُرُهُمَا إِلَّا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، فَتَصِيرُ الشَّمْسُ لَا شُعَاعَ لَهَا ثُمَّ يدعو ملكا
فَيَقُولُونَ: وَجَدْنَا فُلَانًا عَامَ أَوَّلَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ مُتَعَبِّدًا، وَوَجَدْنَاهُ الْعَامَ مُبْتَدِعًا، وَوَجَدْنَا فُلَانًا مُبْتَدِعًا وَوَجَدْنَاهُ الْعَامَ عَابِدًا، قَالَ: فَيَكُفُّونَ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِذَلِكَ وَيَقْبَلُونَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لِهَذَا، وَيَقُولُونَ: وَجَدْنَا فُلَانًا وَفُلَانًا يَذْكُرَانِ اللَّهَ وَوَجَدْنَا فُلَانًا رَاكِعًا وَفُلَانًا سَاجِدًا، وَوَجَدْنَاهُ تَالِيًا لِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَهُمْ كَذَلِكَ يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ حَتَّى يَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَفِي كُلِّ سَمَاءٍ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ حَتَّى يَنْتَهُوا مَكَانَهُمْ مِنْ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى: فَتَقُولُ لَهُمْ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، يَا سُكَّانِي حَدِّثُونِي عَنِ النَّاسِ وَسَمُّوهُمْ لِي، فَإِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقًّا، وَإِنِّي أُحِبُّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ، فَذَكَرَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ أَنَّهُمْ يَعُدُّونَ لَهَا وَيَحْكُونَ لَهَا الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ، ثُمَّ تُقْبِلُ الْجَنَّةُ عَلَى السِّدْرَةِ فَتَقُولُ: أَخْبِرِينِي بِمَا أَخْبَرَكِ سُكَّانُكِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَتُخْبِرُهَا.
قَالَ: فَتَقُولُ الْجَنَّةُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانٍ وَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانَةٍ، اللَّهُمَّ عَجِّلْهُمْ إِلَيَّ فَيَبْلُغُ جِبْرِيلُ مَكَانَهَ قَبْلَهُمْ، فَيُلْهِمُهُ اللَّهُ فَيَقُولُ: وَجَدْتُ فُلَانًا سَاجِدًا فَاغْفِرْ لَهُ، فَيَغْفِرُ لَهُ، فَيَسْمَعُ جِبْرِيلُ جَمِيعَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ فَيَقُولُونَ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانٍ وَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانَةٍ وَمَغْفِرَتُهُ لِفُلَانٍ، وَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُ عَبْدَكَ فُلَانًا الَّذِي وَجَدْتُهُ عَامَ أَوَّلَ عَلَى السُّنَّةِ وَالْعِبَادَةِ، وَوَجَدْتُهُ الْعَامَ قَدْ أَحْدَثَ حَدَثًا وَتَوَلَّى عَمَّا أُمِرَ بِهِ فَيَقُولُ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ إِنْ تَابَ فَأَعْتَبَنِي قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِثَلَاثِ سَاعَاتٍ غَفَرْتُ لَهُ. فَيَقُولُ جِبْرِيلُ لَكَ الْحَمْدُ إِلَهِي أَنْتَ أَرْحَمُ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ بِعِبَادِكَ مِنْ عِبَادِكَ بِأَنْفُسِهِمْ، قال: فيرتج العرش وما حوله والحجب والسموات وَمِنْ فِيهِنَّ تَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الرَّحِيمِ. قَالَ وَذَكَرَ كَعْبٌ أَنَّهُ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ إِذَا أَفْطَرَ بعد رمضان أن لا يَعْصِيَ اللَّهَ، دَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا حِسَابٍ، آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَلِلَّهِ الحمد والمنة.
تفسير
سورة البينة
مَدَنِيَّةٌ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ هو ابْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا عَلِيٌّ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عن
لَمَّا نَزَلَتْ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَى آخِرِهَا قَالَ جِبْرِيلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَهَا أُبَيًّا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي «إِنَّ جِبْرِيلَ أَمَرَنِي أَنْ أُقْرِئَكَ هَذِهِ السُّورَةَ» قَالَ أُبَيٌّ:
وَقَدْ ذُكِرْتُ ثَمَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ «نَعَمْ» قَالَ: فَبَكَى أُبَيٌّ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سمعت قتادة يحدث أن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ قَالَ: وَسَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ «نَعَمْ» فَبَكَى «٢» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٣» : حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَسْلَمُ الْمُنْقِرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ سُورَةَ كَذَا وَكَذَا» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ ذُكِرْتُ هُنَاكَ؟ قَالَ «نَعَمْ» فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ فَفَرِحْتُ بِذَلِكَ. قَالَ: وَمَا يَمْنَعُنِي وَاللَّهُ يَقُولُ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يُونُسَ: ٥٨] قَالَ مُؤَمَّلٌ: قُلْتُ لِسُفْيَانَ الْقِرَاءَةُ فِي الْحَدِيثِ؟
قَالَ: نَعَمْ. تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ أَحْمَدُ «٤» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَحَجَّاجٌ قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِي: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ- قَالَ فَقَرَأَ- لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ- قَالَ فَقَرَأَ فِيهَا- وَلَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ سَأَلَ وَادِيًا مِنْ مَالٍ فَأُعْطِيَهُ لَسَأَلَ ثَانِيًا، وَلَوْ سَأَلَ ثَانِيًا فَأُعْطِيَهُ لَسَأَلَ ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ. وَإِنَّ ذَلِكَ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ غَيْرُ الْمُشْرِكَةِ وَلَا الْيَهُودِيَّةِ وَلَا النَّصْرَانِيَّةِ وَمَنْ يَفْعَلُ خَيْرًا فَلَنْ يُكْفَرَهُ» «٥» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ شُعْبَةَ بِهِ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ خُلَيْدٍ الْحَلَبِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الطَّبَّاعُ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكَ القرآن» قال:
(٢) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب ١٦، وتفسير سورة ٩٨، في الترجمة، باب ١، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ١٢٢، والترمذي في المناقب باب ٣٢، ٦٤.
(٣) المسند ٥/ ١٢٣.
(٤) المسند ٥/ ١٣١، ١٣٢.
(٥) أخرجه الترمذي في المناقب باب ٣٢- ٦٤.
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَذُكِرْتُ هُنَاكَ؟ قَالَ: «نَعَمْ بِاسْمِكَ وَنَسَبِكَ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى» قَالَ: فَاقْرَأْ إِذًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا غَرِيبُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَالثَّابِتُ مَا تَقَدَّمَ وَإِنَّمَا قَرَأَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ السُّورَةَ تَثْبِيتًا لَهُ وَزِيَادَةً لِإِيمَانِهِ، فَإِنَّهُ كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ عَنْهُ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ عَنْهُ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَفَّانَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْهُ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْهُ- كَانَ قَدْ أَنْكَرَ عَلَى إِنْسَانٍ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قِرَاءَةَ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى خِلَافِ مَا أَقْرَأَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَقْرَأَهُمَا وَقَالَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا «أَصَبْتَ» قَالَ أُبَيُّ: فَأَخَذَنِي مِنَ الشَّكِّ وَلَا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِهِ، قَالَ أُبَيُّ: فَفِضْتُ عَرَقًا وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ فَرَقًا، وَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَ أُمَّتَكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ. فَقُلْتُ: أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ فَقَالَ: عَلَى حَرْفَيْنِ» فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَ أُمَّتَكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ»، كَمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَ هذا الحديث بطرقه ولفظه فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ وفيها رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [البينة: ٣] قَرَأَهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِرَاءَةَ إِبْلَاغٍ وَتَثْبِيتٍ وَإِنْذَارٍ، لَا قِرَاءَةَ تَعَلُّمٍ وَاسْتِذْكَارٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا كَمَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةَ عَنْ تلك الأسئلة وكان فيما قال أو لم تَكُنْ تُخْبِرُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ، قَالَ: «بَلَى أَفَأَخْبَرْتُكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ عَامَكَ هَذَا» قَالَ: لَا. قَالَ: «فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ» فَلَمَّا رَجَعُوا مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ الْفَتْحِ دعا عمر بن الخطاب فقرأها عَلَيْهِ وَفِيهَا قَوْلُهُ: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الْفَتْحِ: ٢٧] الآية كَمَا تَقَدَّمَ.
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِهِ أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْجَعْفَرِيِّ الْمَدَنِيِّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ بْنُ أَسْلَمَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ الْمَدَنِيِّ، حَدَّثَنِي فُضَيْلٌ: سمعت رسول الله ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا فيقول أبشر عبدي فوعزتي لأمكنن لَكَ فِي الْجَنَّةِ حَتَّى تَرْضَى» حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ وَابْنُ الْأَثِيرِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ عَنْ نَظِيرٍ الْمُزَنِيِّ- أَوْ الْمَدَنِيِّ- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَيَقُولُ أَبْشِرْ عَبْدِي، فَوَعِزَّتِي لَا أَنْسَاكَ عَلَى حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَأُمَكِّنَنَّ لَكَ فِي الْجَنَّةِ حَتَّى تَرْضَى».