تفسير سورة الفلق

التفسير القيم
تفسير سورة سورة الفلق من كتاب التفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ
﴿ قل أعوذ برب الفلق ﴾
روى مسلم في «صحيحه » من حديث بن [ أبي ] حازم، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط :﴿ [ قل ] أعوذ برب الفلق ﴾، [ و﴿ قل ] أعوذ برب الناس ﴾ ».
وفي لفظ آخر من رواية محمد بن إبراهيم التيمي، عن عقبة رضي الله عنه، أن رسول الله قال له :«ألا أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوذون ؟ »، قلت : بلى. قال :«﴿ قل أعوذ برب الفلق ﴾، و﴿ قل أعوذ برب الناس ﴾ ».
وفي الترمذي : حدثنا قتيبة بن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال :«أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذتين في دبر كل صلاة »، وقال : هذا حديث غريب.
وفي الترمذي والنسائي وسنن أبي داود عن عبد الله بن حبيب رضي الله عنه قال :«خرجنا في ليلة مطر وظلمة، نطلب النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي لنا، فأدركناه، فقال :«قل ». فلم أقل شيئا. ثم قال :«قل ». فلم أقل شيئا، ثم قال :«قل ». قلت : يا رسول الله، ما أقول ؟ قال :«قل هو الله أحد، والمعوذتين، حين تمسي وحين تصبح، ثلاث مرات تكفيك من كل شيء ». قال الترمذي : حديث حسن صحيح.
وفي الترمذي أيضا : من حديث الجريري عن أبي هريرة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان، وعين الإنسان، حتى نزلت المعوذتان. فلما نزلتا أخذها وترك ما سواهما » قال : وفي الباب عن أنس. وهذا حديث غريب.
وفي «الصحيحين » عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا آوى إلى فراشه نفث في كفيه ب :«قل هو الله أحد والمعوذتين جميعا، ثم يسمح بهما وجهه، وما بلغت يداه من جسده »، قالت عائشة رضي الله عنها :«فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به ».
قلت : هكذا رواه يونس عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، ذكره البخاري.
ورواه مالك عن الزهري، عن عروة عنها :«أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات، وينفث. فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح عليه بيده، رجاء بركتها ».
وكذلك قال معمر عن الزهري، عن عروة عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في مرضه الذي قبض فيه بالمعوذات، فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن، وأمسح بيده نفسه لبركتها ». فسألت ابن شهاب : كيف كان ينفث ؟ قال ينفث على يديه، ثم يمسح بهما وجهه. ذكره البخاري أيضا.
وهذا هو الصواب : أن عائشة رضي الله عنها كانت تفعل ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرها ولم يمنعها من ذلك. وأما أن يكون استرقى، وطلب منها أن ترقيه فلا، ولعل بعض الرواة رواه بالمعنى، فظن أنها لما فعلت ذلك وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يأمرها، وفرق بين الأمرين. ولا يلزم من كون النبي صلى الله عليه وسلم قد أقرها على رقيته أي يكون هو مسترقيا، فليس أحدهما بمعنى الآخر. ولعل الذي كان يأمرها به : إنما هو المسح على نفسه بيده، فيكون هو الراقي لنفسه
ويده لما ضعفت عن التنقل على سائر بدنه، أمرها أن تنقلها على بدنه. ويكون هذا غير قراءتها هي عليه، ومسحها على بدنه، فكانت تفعل هذا وهذا، والذي أمرها به إنما هو تنقل يده لا رقيته. والله أعلم.
والمقصود : الكلام على هاتين السورتين، وبيان عظيم منفعتهما، وشدة الحاجة ؛ بل
الضرورة إليهما. وأنه لا يستغني عنهما أحد قط. وأن لهما تأثيرا خاصا في دفع السحر والعين، وسائر الشرور، وأن حاجة العبد إلى الاستعاذة بهاتين السورتين أعظم من حاجته إلى النفس والطعام والشراب واللباس، فنقول والله المستعان :
قد اشتملت السورتان على ثلاثة أصول، وهي أصول الاستعاذة.
أحدها : نفس الاستعاذة.
والثانية : المستعاذ به.
والثالثة : المستعاذ منه.
فبمعرفة ذلك تعرف شدة الحاجة والضرورة إلى هاتين السورتين.
فنعقد لهما ثلاثة فصول : الفصل الأول : في الاستعاذة، والثاني : في المستعاذ به، والثالث : في المستعاذ منه.

الفصل الأول
اعلم أن لفظة «عاذ » وما تصرف منها يدل على التحرز والتحصن والنجاة، وحقيقة معناها : الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه. ولهذا يسمى المستعاذ به : معاذا، كما يسمى : ملجأ ووزرا.
وفي الحديث :«أن ابنة الجون لما أدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليها، قالت : أعوذ بالله منك. فقال لها :«لقد عذت بمعاذ، الحقي بأهلك ».
فمعنى «أعوذ » ألتجئ وأعتصم وأتحرز. وفي أصله قولان :
أحدهما : أنه مأخوذ من الستر.
والثاني : أنه مأخوذ من لزوم المجاورة.
فأما من قال : إنه من الستر، فقال : العرب تقول للبيت الذي في أصل الشجرة التي قد استتر بها :«عوَّذ » بضم العين وتشديد الواو وفتحها، فكأنه لما عاذ بالشجرة واستتر بأصلها وظلها : سموه عُوَّذا ؛ لأنه اعتصم به، واستمسك به. فكذلك العائد قد استمسك بالمستعاذ به، واعتصم به، ولزمه.
ومن قال : هو لزوم المجاورة قال : العرب تقول للحم إذا لصق بالعظم فلم يتخلص منه «عُوَّذ » ؛ لأنه اعتصم به، واستمسك به. فكذلك العائذ قد استمسك بالمستعاذ به، واعتصم به، ولزمه.
والقولان حق. والاستعاذة تنتظمهما معا. فإن المستعيذ مستتر بمعاذه، متمسك به، معتصم به. قد استمسك قلبه به ولزمه، كما يلزم الولد أباه إذا أشهر عليه عدوه سيفا وقصده به، فهرب منه فعرض له أبوه في طريق هربه، فإنه يلقي نفسه عليه، ويستمسك به أعظم استمساك. فكذلك العائذ قد هرب من عدوه الذي يبغي هلاكه إلى ربه ومالكه، وفر إليه، وألقى نفسه بين يديه، واعتصم به، والتجأ إليه.
وبعد : فمعنى الاستعاذة القائم بقلبه وراء هذه العبارات، وإنما هي تمثيل وإشارة وتفهيم، وإلا فما يقوم بالقلب حينئذ من الالتجاء والاعتصام، والانطراح بين يدي الرب، والافتقار إليه، والتذلل بين يديه : أمر لا تحيط به العبارة.
ونظير هذا : التعبير عن معنى محبته وخشيته، وإجلاله ومهابته، فإن العبارة تقصر عن وصف ذلك، ولا تدرك إلا بالاتصاف بذلك، لا بمجرد الصفة والخبر، كما أنك إذا وصفت لذة الوقاع لعنِّين لم تخلق له شهوة أصلا، فلو قربتها وشبهتها بما عساك أن تشبهها به لم تحصل حقيقة معرفتها في قلبه. فإذا وصفتها لمن خلقت فيه وركبت فيه عرفها بالوجود والذوق.
وأصل هذا الفعل :«أعوذ » بتسكين العين وضم الواو، ثم أعل بنقل حركة الواو إلى العين وتسكين الواو. فقالوا : أعوذ على أصل هذا الباب، ثم طردوا إعلاله، فقالوا في اسم الفاعل : عائذ. وأصله : عاوذ. فوقعت الواو بعد ألف فاعل، فقلبوها همزة كما قالوا : قائم، وخائف، وقالوا في المصدر : عياذا بالله، وأصله : عواذًا كلواذ، فقلبوا الواو ياء لكسرة ما قبلها، ولم تحصنها حركتها ؛ لأنها قد ضعفت بإعلالها في الفعل، وقال : مستعيذ، وأصله : مستعوذ، كمستخرج، فنقلوا كسرة الواو إلى العين قبلها، فلما كسرت العين قلبت قبلها كسرة، فقلبت ياء على أصل الباب.
فإن قلت : فلم دخلت السين والتاء في الأمر من هذا الفعل، كقوله :﴿ فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ﴾ [ النحل : ٩٨ ]، ولم تدخل في الماضي والمضارع ؛ بل الأكثر أن يقال أعوذ بالله، وتعوذت، دون أستعيذ، واستعذت ؟
قلت : السين والتاء دالة على الطلب، فقوله : أستعيذ بالله، أي أطلب العياذ به. كما إذا قلت :«أستخير الله » أي أطلب خيرته، و«أستغفره » أي أطلب مغفرته، و«أستقيله » أي أطلب إقالته. فدخلت في الفعل إيذانا بطلب هذا المعنى من المعاذ، فإذا قال المأمور : أعوذ بالله. فقد امتثل ما طلب منه ؛ لأنه طلب منه الالتجاء والاعتصام، وفرق بين نفس الالتجاء والاعتصام، وبين طلب ذلك، فلما كان المستعيذ هاربا ملتجئا معتصما بالله، أتى بالفعل الدال على ذلك دون الفعل الدال على طلب ذلك فتأمله.
وهذا بخلاف ما إذا قيل :«أستغفر الله ». فقال : أستغفر الله. فإنه طلب منه أن يطلب المغفرة من الله. فإذا قال : أستغفر الله، كان ممتثلا ؛ لأن المعنى : أطلب من الله تعالى أن يغفر لي.
وحيث أراد هذا المعنى في الاستعاذة فلا ضير أن يأتي بالسين والتاء، فيقول : أستعيذ بالله. أي أطلب منه أن يعيذني. ولكن هذا معنى غير نفس الاعتصام والالتجاء والهرب إليه.
فالأول : يخبر عن حاله وعياذه بربه، وخبره يتضمن سؤاله وطلبه أن يعيذه.
والثاني : طالب سائل من ربه أن يعيذه، كأنه يقول : أطلب منك أن تعيذني.
فحال الأول أكمل، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في امتثال هذا الأمر :«أعوذ بالله من الشيطان الرجيم »، و«أعوذ بكلمات الله التامات »، و«أعوذ بعزة الله وقدرته » دون : أستعيذ ؛ بل الذي علمه الله إياه أن يقول :﴿ أعوذ برب الفلق ﴾، و«أعوذ برب الناس »، دون أستعيذ، فتأمل هذه الحكمة البديعة.
فإن قلت : فكيف جاء امتثال هذا الأمر بلفظ الأمر والمأمور به، فقال ﴿ قل أعوذ برب الفلق ﴾ و﴿ قل أعوذ برب الناس ﴾ [ الناس : ١ ] ومعلوم أنه إذا قيل : قل الحمد لله، وقل : سبحان الله، فإن امتثاله أن يقول : الحمد لله، وسبحان الله، ولا يقول : قل سبحان الله.
قلت : هذا هو السؤال الذي أورده أبي بن كعب رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم بعينه، وأجابه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد قال البخاري في «صحيحه » : حدثنا قتيبة، حدثنا سفيان، عن عاصم وعبده، عن زر بن حبيش قال :«سألت أبي بن كعب عن المعوذتين ؟ فقال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" قيل لي، فقلت "، فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم » ثم قال : حدثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، حدثنا عبدة بن أبي لبابة، عن زر بن حبيش، وحدثنا عاصم، عن زر قال :«سألت أبي بن كعب رضي الله عنه قلت : أبا المنذر، إن أخاك ابن مسعود رضي الله عنه يقول كذا وكذا، فقال : إني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال :«قيل لي، فقلت ». قل : فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ».
قلت : مفعول القول محذوف، وتقديره : قيل لي قل، أو قيل لي هذا اللفظ. فقلت كما قيل لي.
وتحت هذا السر : أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له في القرآن إلا إبلاغه، لا أنه هو أنشأه من قبل نفسه ؛ بل هو المبلغ له عن الله، وقد قال الله له ﴿ قل أعوذ برب الفلق ﴾، فكان يقتضي البلاغ التام أن يقول :﴿ قل أعوذ برب الفلق ﴾ كما قال الله.
وهذا هو المعنى الذي أشار النبي صلى الله عليه وسلم إليه بقوله :«قيل لي، فقلت » أي إني لست ؛ بل أنا مبلغ، أقول كما يقال لي، وأبلغ كلام ربي كما أنزله إليّ.
فصلوات الله وسلامه عليه، لقد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وقال كما قيل له، فكفانا من المعتزلة والجهمية وإخوانهم ممن يقول :«هذا القرآن العربي، وهذا النظم كلامه، ابتدأ هو به »، ففي هذا الحديث أبين الرد لهذا القول، وأنه صلى الله عليه وسلم بلغ القول الذي أمر بتبليغه على وجهه ولفظه، حتى إنه لما قيل له :«قل » قال هو :«قل » ؛ لأنه مبلغ محض، وما على الرسول إلا البلاغ.
الفصل الثاني
في المستعاذ : وهو الله وحده، رب الفلق، ورب الناس، ملك الناس، إله الناس، الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا به، ولا يستعاذ بأحد من خلقه ؛ بل هو الذي يعيذ المستعيذين، ويعصمهم ويمنعهم من شر ما استعاذوا من شره، وقد أخبر الله تعالى في كتابه عمن استعاذ بخلقه : أن استعاذته زادته طغيانا ورهقا، فقال حكاية عن مؤمني الجن :﴿ وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ﴾ [ الجن : ٦ ]، جاء في التفسير : أنه «كان الرجل من العرب في الجاهلية إذا سافر فأمسى في أرض قفر » قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من شر قومه، فيبيت في أمن وجوار منهم، حتى يصبح »، أي فزاد الإنس الجن باستعاذتهم بسادتهم رهقا، أي طغيانا وإثما وشرا، يقولون : سدنا الإنس والجن.
و«الرهق » في كلام العرب : الإثم وغشيان المحارم، فزادوهم بهذه الاستعاذة غشيانا لما كان محظورا من الكبر والتعاظم، فظنوا أنهم سادوا الإنس والجن.
واحتج أهل السنة على المعتزلة، في أن كلمات الله غير مخلوقة : بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بقوله :«أعوذ بكلمات الله التامات »، وهو صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ بمخلوق أبدا.
ونظير ذلك : قوله صلى الله عليه وسلم :«أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك »، فدل على أن رضاه وعفوه من صفاته، وأنه غير مخلوق.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم :«أعوذ بعزة الله وقدرته »، وقوله صلى الله عليه وسلم :«أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات »، وما استعاذ به النبي صلى الله عليه وسلم غير مخلوق، فإنه لا يستعيذ إلا بالله، أو صفة من صفاته.
وجاءت الاستعاذة في هاتين السورتين باسم الرب، والملك، والإله.
وجاءت الربوبية فيهما مضافة إلى الفلق، وإلى الناس، ولا بد من أن يكون ما وصف به نفسه في هاتين السورتين يناسب الاستعاذة المطلوبة، ويقتضي دفع الشر المستعاذ منه أعظم مناسبة وأبينها.
وقد قررنا في مواضع متعددة : أن الله سبحانه يدعى بأسمائه الحسنى، فيسأل لكل مطلوب باسم يناسبه باسم ويقتضيه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هاتين السورتين :«إنه ما تعوذ المتعوذون بمثلها » فلا بد أن يكون الاسم المستعاذ به مقتضيا للمطلوب. وهو دفع الشر المستعاذ منه أو رفعه.
وإنما يتقرر هذا بالكلام في الفصل الثالث، وهو الشيء المستعاذ منه، فتتبين المناسبة المذكورة فنقول :
الفصل الثالث
في أنواع الشرور المستعاذ منها في هاتين السورتين
الشر الذي يصيب العبد لا يخلو من قسمين :
إما ذنوب وقعت منه يعاقب عليها، فيكون وقوع ذلك بفعله وقصده وسعيه، ويكون هذا الشر هو الذنوب وموجباتها، وهو أعظم الشرين وأدومهما، وأشدهما اتصالا بصاحبه.
وإما شر واقع به من غيره، وذلك الغير إما مكلف أو غير مكلف، والمكلف إما نظيره، وهو الإنسان، أو ليس نظيره، وهو الجني، وغير المكلف : مثل الهوام وذوات الحمة وغيرها.
فتضمنت هاتان السورتان الاستعاذة من هذه الشرور كلها بأوجز لفظ وأجمعه، وأدله على المراد، وأعمه استعاذة، بحيث لم يبق شر من الشرور إلا دخل تحت الشر المستعاذ منه فيهما.
فإن سورة الفلق تضمنت الاستعاذة من أمور أربعة :
أحدها : شر المخلوقات التي لها شر عموما.
الثاني : شر الغاسق إذا وقب.
الثالث : شر النفاثات في العقد.
الرابع : شر الحاسد إذا حسد.
فنتكلم على هذه الشرور الأربعة، ومواقعها واتصالها بالعبد، والتحرز منها قبل وقوعها، وبماذا تدفع بعد وقوعها ؟
[ بيان ماهية الشر ]
وقبل الكلام في ذلك لا بد من بيان الشر : ما هو ؟ وما حقيقته ؟
فنقول : الشر يقال على شيئين : على الألم، وعلى ما يفضي إليه، وليس له مسمى سوى ذلك، فالشرور : هي الآلام وأسبابها، فالمعاصي والكفر والشرك وأنواع الظلم هي شرور، وإن كان لصاحبها فيها نوع غرض ولذة، لكنها شرور ؛ لأنها أسباب للآلام ومفضية إليها كإفضاء سائر الأسباب إلى مسبباتها.
فترتب الألم عليها كترتب الموت على تناول السموم القاتلة، وعلى الذبح والإحراق بالنار، والخنق بالحبل

فصل


فإذا عرف هذا فلنتكلم على الشرور المستعاذ منها في هاتين السورتين :
الشر الأول : العام في قوله :﴿ من شر ما خلق ﴾.
و«ما » هاهنا موصولة ليس إلا، والشر مسند في الآية إلى المخلوق المفعول، لا إلى خلق الرب تعالى الذي هو فعله وتكوينه، فإنه لا شر فيه بوجه ما، فإن الشر لا يدخل في شيء من صفاته، ولا في أفعاله، كما لا يلحق ذاته تبارك وتعالى، فإن ذاته لها الكمال المطلق، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وأوصافه كذلك لها الكمال المطلق والجلال التام، ولا عيب فيها ولا نقص بوجه ما، وكذلك أفعاله كلها خيرات محضة، لا شر فيها أصلا، ولو فعل الشر سبحانه لاشتق له منه اسم، ولم تكن أسماؤه كلها حسنى، ولعاد إليه منه حكم، تعالى ربنا وتقدس عن ذلك.
وما يفعله من العدل بعباده، وعقوبة من يستحق العقوبة منهم : هو خير محض ؛ إذ هو محض العدل والحكمة، وإنما يكون شرا بالنسبة إليهم، فالشر وقع في تعلقه بهم، وقيامه بهم، لا في فعله القائم به تعالى، ونحن لا ننكر أن الشر يكون في مفعولاته المنفصلة، فإنه خالق الخير والشر.
ولكن هنا أمران ينبغي أن يكونا منك على بال :
أحدهما : أن ما هو شر، أو متضمن للشر، فإنه لا يكون إلا مفعولا منفصلا لا يكون وصفا له، ولا فعلا من أفعاله.
الثاني : أن كونه شرا هو أمر نسبي إضافي، فهو خير من جهة تعلق فعل الرب وتكوينه به، وشر من جهة نسبته إلى من هو شر في حقه، فله وجهان هو من أحدهما خير، وهو الوجه الذي نسب منه إلى الخالق سبحانه وتعالى خلقا وتكوينا ومشيئة، لما فيه من الحكم البالغة التي استأثر بعلمها، وأطلع من شاء من خلقه على ما شاء منها، وأكثر الناس تضيق عقولهم عن مبادئ معرفتها، فضلا عن حقيقتها، فيكفيهم الإيمان المجمل بأن الله سبحانه هو الغني الحميد، وفاعل الشر لا يفعله لحاجته المنافية لغناه، أو لنقصه وعيبه المنافي لحمده، فيستحيل صدور الشر من الغني الحميد فعلا، وإن كان هو الخالق للخير والشر.
فقد عرفت أن كونه شرا هو أمر إضافي، وهو في نفسه خير من جهة نسبته إلى خالقه ومبدعه، فلا تغفل عن هذا الموضع ؛ فإنه يفتح لك بابا عظيما من معرفة الرب ومحبته. ويزيل عنك شبهات حارت فيها عقول أكثر الفضلاء.
وقد بسطت هذا في كتاب «التحفة المكية »، وكتاب «الفتح القدسي »، وغيرهما، وإذا أشكل عليك هذا فأنا أوضحه لك بأمثلة :
أحدها : أن السارق إذا قطعت يده فقطعها شر بالنسبة إليه، وخير محض بالنسبة إلى عموم الناس، لما فيه من حفظ أموالهم، ودفع الضرر عنهم، وخير بالنسبة إلى متولي القطع أمرا وحكما، لما في ذلك من الإحسان إلى عبيده عموما بإتلاف هذا العضو المؤذي لهم، المضر بهم، فهو محمود على حكمه بذلك، وأمره به مشكور عليه، يستحق عليه الحمد من عباده، والثناء عليه والمحبة له.
وكذلك الحكم بقتل من يصول عليهم في دمائهم وحرماتهم، وجلد من يصول عليهم في أعراضهم فإذا كان هذا عقوبة من يصول عليهم في دنياهم، فكيف عقوبة من يصول على أديانهم، ويحول بينهم وبين الهدى الذي بعث الله به رسله، وجعل سعادة العباد في معاشهم ومعادهم منوطة به ؟ أفليس في عقوبة هذا الصائل خير محض، وحكمة وعدل، وإحسان إلى العبيد ؟ وهي شر بالنسبة إلى الصائل الباغي.
فالشر : ما قام به من تلك العقوبة، وأما ما نسب إلى الرب منها من المشيئة والإرادة والفعل فهو عين الخير والحكمة.
فلا يغلظ حجابك عن فهم هذا النبأ العظيم، والسر الذي يطلعك على مسألة القدر، ويفتح لك الطريق إلى الله، ومعرفة حكمته ورحمته، وإحسانه إلى خلقه، وأنه سبحانه : كما أنه البر الرحيم الودود المحسن، فهو الحكيم الملك العدل، فلا تناقض حكمته رحمته ؛ بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه، ويضع عقوبته وعدله وانتقامه وبأسه موضعه، وكلاهما مقتضى عزته وحكمته وهو العزيز الحكيم، فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه ورحمته موضع العقوبة والغضب، ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته.
ولا يلتفت إلى قول من غلظ حجابه عن الله تعالى : أن الأمرين بالنسبة إليه على حد سواء، ولا فرق أصلا، وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة.
وتأمل القرآن من أوله إلى آخره كيف تجده كفيلا بالرد على هذه المقالة، وإنكارها أشد الإنكار، وتنزيه نفسه عنها، كقوله تعالى :﴿ أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون ﴾ [ القلم : ٣٦. ٣٥ ]، وقوله :﴿ أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ﴾[ الجاثية : ٢١ ]، وقوله :﴿ أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ﴾ [ ص : ٢٨ ] فأنكر سبحانه على من ظن هذا الظن السيء، ونزه نفسه عنه.
فدل على أنه مستقر في الفطر والعقول السليمة : أن هذا لا يكون ولا يليق بحكمته وعزته وإلهيته، لا إله هو، تعالى عما يقول الجاهلون علوا كبيرا.
وقد فطر الله عقول عباده على استقباح وضع العقوبة والانتقام في موضع الرحمة والإحسان، ومكافأة الصنع الجميل بمثله وزيادة. فإذا وضع العقوبة موضع ذلك استنكرته فطرهم وعقولهم أشد الاستنكار، واستهجنته أعظم الاستهجان.
وكذلك وضع الإحسان والرحمة والإكرام في موضع العقوبة والانتقام، كما إذا جاء إلى من يسيء إلى العالم بأنواع الإساءة في كل شيء، من أموالهم وحريمهم ودمائهم، فأكرمه غاية الإكرام، ورفعه وكرمه، فإن الفطر والعقول تأبى استحسان هذا، وتشهد على سفه من فعله، هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها.
فما للعقول والفطر لا تشهد حكمته البالغة، وعزته وعدله في وضع عقوبته في أولى المحال بها، وأحقها بالعقوبة ؟ وأنها لو أوليت النعم لم تحسن بها، ولم تلق، ولظهرت مناقضة الحكمة، كما قال الشاعر :
نعمة الله لا تعاب، ولكن ربما استقبحت على أقوام
فهكذا نعم الله لا تليق ولا تحسن ولا تجمل بأعدائه الصادين عن سبيله، الساعين في خلاف مرضاته، الذين يرضون إذا غضب، ويغضبون إذا رضي، ويعطلون ما حكم به، ويسعون في أن تكون الدعوة لغيره، والحكم لغيره، والطاعة لغيره، فهم مضادون في كل ما يريد، يحبون ما يبغضه ويدعون إليه، ويبغضون ما يحبه، وينفرون عنه، ويوالون أعداءه، وأبغض الخلق إليه، ويظاهرونهم عليه، وعلى رسوله : كما قال تعالى :﴿ وكان الكافر على ربه ظهيرا ﴾ [ الفرقان : ٥٥ ]، وقال :﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو ﴾ [ الكهف : ٥٠ ]، فتأمل ما تحت هذا الخطاب الذي يسلب الأرواح حلاوة وعقابا وجلالة وتهديدا كيف صدره بإخبارنا أنه أمر إبليس بالسجود لأبينا فأبى ذلك، فطرده ولعنه، وعاداه من أجل إبائه عن السجود لأبينا، ثم أنتم توالونه من دوني، وقد لعنته وطردته، إذ لم يسجد لأبيكم، وجعلته عدوا لكم ولأبيكم، فواليتموه وتركتموني، فليس هذا من أعظم الغبن، وأشد الحسرة عليكم ؟ ويوم القيامة يقول تعالى :«أليس عدلا مني أن أولي كل رجل منكم ما كان يتولى في دار الدنيا ؟ ».
فليعلمن أولياء الشيطان : كيف حالهم يوم القيامة : إذا ذهبوا مع أوليائهم، وبقي أولياء الرحمن لم يذهبوا مع أحد، فيتجلى لهم ويقول :«ألا تذهبون حيث ذهب الناس ؟ فيقولون : فارقنا الناس أحوج ما كنا إليهم، وإنما ننتظر ربنا الذي كنا نتولاه ونعبده، فيقول : هي بينكم وبينه علامة تعرفونه بها ؟ فيقولون : نعم، إنه لا مثل له، فيتجلى لهم ويكشف عن ساق، فيخرون له سجدا ».
فيا قرة عيون أوليائه بتلك الموالاة، ويا فرحهم إذا ذهب الناس مع أوليائهم، وبقوا مع مولاهم الحق، فسيعلم المشركون به الصادون عن سبيله أنهم ما كانوا أولياءه :﴿ إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ [ الأنفال : ٣٤ ].
ولا تستطل هذا البساط فما أحوج القلوب إلى معرفته وتعقله، ونزولها منه منازلها في الدنيا لتنزل في جوار ربها في الآخرة، الذين أنعم الله تعالى عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.

فصل


إذا عرفت هذا عرف معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح :«لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك »، وإن معناه أجل وأعظم من قول من قال : والشر لا يتقرب به إليك، وقول من قال : والشر لا يصعد إليك، وأن هذا الذي قالوه - وإن تضمن تنزيهه عن صعود الشر إليه، والتقرب به إليه - فلا يتضمن تنزيهه في ذاته وصفاته وأفعاله عن الشر، بخلاف لفظ المعصوم الصادق المصدق، فإنه يتضمن تنزيهه في ذاته تبارك وتعالى عن نسبة الشر إليه بوجه ما، لا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا في أسمائه، وإن دخل في مخلوقاته كقوله :﴿ قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق ﴾.
وتأمل طريقة القرآن في إضافة الشر تارة إلى سببه ومن قام به، كقوله :﴿ والكافرون هم الظالمون ﴾ [ البقرة : ٢٥٤ ]، وقوله :﴿ والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾ [ المائدة : ١٠٨ ]، وقوله :﴿ فبظلم من الذين هادوا ﴾ [ النساء : ١٦٠ ]، وقوله :﴿ ذلك جزيناهم ببغيهم ﴾ [ الأنعام : ١٤٦ ]، وقوله :﴿ وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ﴾ [ الزخرف : ٧٦ ]، وهو في القرآن أكثر من أن يذكر هاهنا عشر معشاره، وإنما المقصود التمثيل.
وتارة بحذف فاعله، كقوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن :﴿ وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ﴾ [ الجن : ١٠ ]، فحذفوا فاعل الشر ومريده، وصرحوا بمريد الرشد.
ونظيره في الفاتحة :﴿ صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ﴾ [ الفاتحة : ٧ ]، فذكر النعمة مضافة إليه سبحانه، والضلال منسوبا إلى من قام به، والغضب محذوفا فاعله.
ومثله قول الخضر في السفينة :﴿ فأردت أن أعيبها ﴾ [ الكهف : ٧٩ ]، وفي الغلامين :﴿ فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك ﴾ [ الكهف : ٨٢ ]، ومثله قوله :﴿ ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ﴾ [ الحجرات : ٧ ]، فنسب هذا التزيين المحبوب إليه، وقال :﴿ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين ﴾ [ آل عمران : ١٤ ]، فحذف الفاعل المزين، ومثله قول الخليل صلى الله عليه وسلم :﴿ الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين * والذي يميتني ثم يحيين * والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ﴾ [ الشعراء : ٧٨. ٨٢ ]، فنسب إلى ربه كل كمال من هذه الأفعال، ونسب إلى نفسه النقص منها، وهو المرض والخطيئة.
وهذا كثير في القرآن الكريم، ذكرنا منه أمثلة كثيرة في كتاب «الفوائد المكية »، وبينا هناك السر في مجيء :﴿ الذين آتيناهم الكتاب ﴾ [ البقرة : ١٢١ ]، و ﴿ الذين أوتوا الكتاب ﴾ [ البقرة : ١٠١ ]، والفرق بين الموضعين، وأنه حيث ذكر الفاعل كان من آتاه الكتاب واقعا في سياق المدح. وحيث حذفه كان من أوتيه واقعا في سياق الذم أو منقسما. وذلك من أسرار القرآن الكريم.
ومثله :﴿ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ﴾ [ فاطر : ٣٢ ]، وقال :﴿ وإن الذين أوتوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب ﴾ [ الشورى : ١٤ ]،

فصل


الشر الثاني :﴿ شر غاسق إذا وقب ﴾.
فهذا خاص بعد عام، وقد قال أكثر المفسرين : أنه الليل.
قال ابن عباس رضي الله عنه : الليل إذا أقبل بظلمته من الشرق، ودخل في كل شيء، وأظلم، والغسق : الظلمة، يقال : غسق الليل، وأغسق : إذا أظلم.
ومنه قوله تعالى :﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل ﴾ [ الإسراء : ٧٨ ]، وكذلك قال الحسن ومجاهد : الغاسق إذا وقب : الليل إذا أقبل ودخل، والوقوب : الدخول، وهو دخول الليل بغروب الشمس، وقال مقاتل : يعني ظلمة الليل إذا دخل سواده في ضوء النهار.
وفي تسمية الليل غاسقا قول آخر : إنه من البرد، والليل أبرد من النهار، والغسق : البرد، وعليه حمل ابن عباس رضي الله عنه قوله تعالى :﴿ فليذوقوه حميم وغساق ﴾ [ ص : ٧٥ ]، وقوله :﴿ لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا * إلا حميما وغساقا ﴾ [ النبأ : ٢٤. ٢٥ ]. قال : هو الزمهرير يحرقهم ببرده، كما تحرقهم النار بحرها. وكذلك قال مجاهد ومقاتل : هو الذي انتهى برده.
ولا تنافي بين القولين، فإن الليل بارد مظلم، فمن ذكر برده فقط، أو ظلمته فقط : اقتصر على أحد وصفيه.
والظلمة في الآية أنسب لمكان الاستعاذة، فإن الشر الذي يناسب الظلمة أولى بالاستعاذة من البرد الذي في الليل، ولهذا استعاذ برب الفلق -الذي هو الصبح والنور- من شر الغاسق، الذي هو الظلمة، فناسب الوصف المستعاذ به للمعنى المطلوب بالاستعاذة كما سنزيده تقريرا عن قريب إن شاء الله.
فإن قيل : فما تقولون فيما رواه الترمذي من حديث ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها قالت :«أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي، فنظر إلى القمر، فقال :«يا عائشة، استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب »، قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.
وهذا أولى من كل تفسير، فيتعين المصير إليه ؟
قيل : هذا التفسير حق، ولا يناقض التفسير الأول ؛ بل يوافقه، ويشهد لصحته، فإن الله تعالى قال :﴿ وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ﴾ [ الإسراء : ١٢ ]، فالقمر هو آية الليل، وسلطانه فيه، فهو أيضا غاسق إذا وقب، كما غاسق إذا وقب، والنبي صلى الله عليه سلم أخبر عن القمر بأنه غاسق إذا وقب، وهذا خبر صدق، وهو أصدق الخبر، ولم ينف عن الليل اسم الغاسق إذا وقب، وتخصيص النبي صلى الله عليه سلم له بالذكر لا ينفي شمول الاسم لغيره.
ونظير هذا : قوله في المسجد الذي أسس على التقوى - وقد سئل عنه – قال :«هو مسجدي هذا »، ومعلوم أن هذا لا ينفي كون مسجد قباء مؤسسا على التقوى مثل ذاك.
ونظيره أيضا : قوله في علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين :«اللهم هؤلاء أهل بيتي »، فإن هذا لا ينفي دخول غيرهم من أهل بيته في لفظ أهل البيت، ولكن هؤلاء أحق من دخل في لفظ أهل بيته.
ونظير هذا : قوله صلى الله عليه سلم «ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس شيئا، ولا يفطن له فيتصدق عليه »، وهذا لا ينفي اسم المسكنة عن الطواف ؛ بل ينفي اختصاص الاسم به، وتناول المسكين لغير السائل أولى من تناوله له.
ونظير هذا : قوله :«ليس الشديد بالصرعة، ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب »، فإنه لا يقتضي نفي الاسم عن الذي يصرع الرجال، ولكن يقتضي أن ثبوته للذي يملك نفسه عند الغضب أولى.
ونظيره : الغسق، والوقوب، وأمثال ذلك.
فكذلك قوله في القمر :«هذا هو الغاسق إذا وقب »، لا ينفي أن يكون الليل غاسقا ؛ بل كلاهما غاسق.
فإن قيل : فما تقولون في القول الذي ذهب إليه بعضهم : أن المراد به القمر إذا خسف واسود، وقوله ﴿ وقب ﴾ أي دخل في الخسوف، أو غاب خاسفا ؟
قيل : هذا القول ضعيف، ولا نعلم به سلفا. والنبي صلى الله عليه سلم لما أشار إلى القمر، وقال :«هذا الغاسق إذا وقب » لم يكن خاسفا إذ ذاك. وإنما كان وهو مستنيرا، ولو كان خاسفا لذكرته عائشة، وإنما قالت «نظر إلى القمر »، وقال :«هذا هو الغاسق »، ولو كان خاسفا لم يصح أن يحذف ذلك الوصف منه، فإن ما أطلق عليه اسم الغاسق باعتبار صفة لا يجوز أن يطلق عليه بدونها، لما فيه من التلبيس.
وأيضا : فإن اللغة لا تساعد على هذا، فلا نعلم أحدا قال : الغاسق : القمر في حال خسوفه.
وأيضا : فإن الوقوب لا يقول أحد من أهل اللغة : إنه الخسوف، وإنما هو الدخول، من قولهم :«وقبت العين » : إذا غارت، و«رُكية وَقْباء » : غار ماؤها. فدخل في أعماق التراب. ومنه «الوَقْب » للثقب الذي يدخل فيه المحور. وتقول العرب :«وَقب يَقب وُقوبا » : إذا دخل.
فإن قيل : فما تقولون في القول الذي ذهب إليه بعضهم : أن الغاسق هو الثريا إذا سقطت، فإن الأسقام تكثر عند سقوطها وغروبها، وترتفع عند طلوعها ؟
قيل : إن أراد صاحب هذا القول اختصاص الغاسق بالنجم إذا غرب فباطل. وإن أراد : أن اسم الغاسق يتناول ذلك بوجه ما، فهذا يحتمل أن يدل اللفظ عليه بفحواه ومقصوده وتنبيهه. وأما أن يختص اللفظ به فباطل.

فصل


والسبب الذي لأجله أمر الله بالاستعاذة من شر الليل وشر القمر إذا وقب هو أن الليل إذا أقبل فهو محل سلطان الأرواح الشريرة الخبيثة، وفيه تنتشر الشياطين.
وفي «الصحيح » أن النبي صلى الله عليه وسلم «أخبر أن الشمس إذا غربت انتشرت الشياطين »، ولهذا قال :«فاكتفوا صبيانكم، واحبسوا مواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء »، وفي حديث آخر :«فإن الله يبث من خلقه ما يشاء ».
والليل هو محل الظلام، وفيه تتسلط شياطين الإنس والجن ما لا تتسلط بالنهار، فإن النهار نور، والشياطين إنما سلطانهم في الظلمات والمواضع المظلمة، وعلى أهل الظلمة.
وروي أن سائلا سأل مسيلمة : كيف يأتيك الذي يأتيك ؟ فقال : في ظلماء حِنْدِس. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم :«كيف يأتيك ؟ فقال :«في مثل ضوء النهار »، فاستدل بهذا على نبوته، وأن الذي يأتيه ملك من عند الله، وأن الذي يأتي مسيلمة شيطان.
ولهذا كان سلطان السحر وعظم تأثيره إنما هو بالليل دون النهار، فالسحر الليلي عندهم : هو السحر القوي التأثير، ولهذا كانت القلوب المظلمة هي محال الشياطين وبيوتهم ومأواهم، والشياطين تجول فيها، وتتحكم كما يتحكم ساكن البيت فيه. وكلما كان القلب أظلم كان للشيطان أطوع، وهو فيه أثبت وأمكن.

فصل


ومن هاهنا : تعلم السر في الاستعاذة برب الفلق في هذا الموضع.
فإن «الفلق » : هو الصبح الذي هو مبدأ ظهور النور، وهو الذي يطرد جيش الظلام، وعسكر المفسدين في الليل، فيأوي كل خبيث، وكل مفسد، وكل لص، وكل قاطع طريق، إلى سرب أو كن أو غار، وتأوي الهوام إلى أحجرتها، والشياطين التي انتشرت بالليل إلى أمكنتها ومحالها، فأمر الله تعالى عباده أن يستعيذوا برب النور الذي يقهر الظلمة ويزيلها، ويقهر عسكرها وجيشها، ولهذا ذكر سبحانه في كل كتاب : أنه يخرج عباده من الظلمات إلى النور، ويدع الكفار في ظلمات كفرهم، قال تعالى :﴿ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ﴾ [ البقرة : ٢٥٧ ]، وقال تعالى :﴿ أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ﴾ [ الأنعام : ١٢٢ ]، وقال في أعمال الكفار :﴿ أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ﴾ [ النور : ٤٠ ]، وقد قال قبل ذلك في صفات أهل الإيمان ونورهم :﴿ الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ﴾ [ النور : ٣٥ ].
فالإيمان كله نور، ومآله إلى نور، ومستقره في القلب المضيء المستنير، والمقترن بأهله الأرواح المستنيرة المضيئة المشرقة، والكفر والشرك كله ظلمة، ومآله إلى الظلمات ومستقره في القلوب المظلمة، والمقترن بها الأرواح المظلمة.
فتأمل الاستعاذة برب الفلق من شر الظلمة، ومن شر ما يحدث فيها، ونزول هذا المعنى على الواقع يشهد بأن القرآن ؛ بل هاتان السورتان من أعظم أعلام النبوة، وبراهين صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ومضادة لما جاء به الشياطين من كل وجه، وأن ما جاء به ما تنزلت به الشياطين، وما ينبغي لهم وما يستطيعون، فما فعلوه، ولا يليق بهم، ولا يتأتى منهم، ولا يقدرون عليه.
وفي هذا أبين جواب وأشفاه لما يورده أعداء الرسول عليه من الأسئلة الباطلة التي قصر المتكلمون غاية التقصير في دفعها، وما شفوا في جوابها. وإنما الله سبحانه هو الذي شفى وكفى في جوابها، فلم يحوجنا إلى متكلم، ولا إلى أصولي، ولا إلى نظَّار، فله الحمد والمنة، لا نحصي ثناء عليه.

فصل


واعلم أن الخلق كله فلق، وذلك أن «فلقا » فعل بمعنى مفعول، كقبض وسلب، وقنص : بمعنى مقبوض ومسلوب ومقنوص. والله عز وجل :﴿ فالق الإصباح ﴾، و﴿ فالق الحب والنوى ﴾ [ الأنعام : ٩٥ ]، وفالق الأرض عن النبات، والجبال عن العيون، والسحاب عن المطر، والأرحام عن الأجنة، والظلام عن الإصباح، ويسمى الصبح المتصدع عن الظلمة : فلقا وفرقا. يقال : هو أبيض من فرق الصبح وفلقه.
وكما أن في خلقه فلقا وفرقا، فكذلك أمره كله فرقان، يفرق بين الحق والباطل. فيفرق ظلام الباطل بالحق، كما يفرق ظلام الليل بالإصباح، ولهذا سمى كتابه «الفرقان »، ونصره فرقانا، لتضمنه الفرق بين أوليائه وأعدائه، ومنه فلقة البحر لموسى عليه السلام، وسماه فلقا.
فظهرت حكمة الاستعاذة برب الفلق في هذه المواضع، وظهر بهذا إعجاز القرآن وعظمته وجلالته، وأن العباد لا يقدرون قدره، وإنه :﴿ تنزيل من حكيم حميد ﴾ [ فصلت : ٤٢ ].
الشر الثالث :﴿ شر النفاثات في العقد ﴾.
وهذا الشر هو شر السحر، فإن النفاثات في العقد : هن السواحر اللاتي يعقدن الخيوط، وينفثن على كل عقدة، حتى ينعقد ما يردن من السحر.
والنفث : هو النفخ مع ريق، وهو دون التَّفْل، وهو مرتبة بينهما.
والنفث : فعل الساحر. فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور، ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة، نفخ في تلك العقد نفخا معه ريق، فيخرج من نفسه الخبيثة نفس ممازج للشر والأذى، مقترن بالريق الممازج لذلك، وقد تساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور، فيقع فيه السحر بإذن الله الكوني القدري، لا الأمر الشرعي.
فإن قيل : فالسحر يكون من الذكور والإناث، فلم خص الاستعاذة من الإناث دون الذكور ؟
قيل في جوابه : إن هذا خرج على السبب الواقع، وهو أن بنات لبيد بن الأعصم سحرن النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا جواب أبي عبيدة وغيره، وليس هذا بسديد، فإن الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم هو لبيد بن الأعصم، كما جاء في «الصحيح ».
والجواب المحقق : إن النفاثات هنا هن الأرواح والأنفس النفاثات، لا النساء النفاثات.
لأن تأثير السحر إنما هو من جهة الأنفس الخبيثة، والأرواح الشريرة، وسلطانه إنما يظهر منها. فلهذا ذكرت النفاثات هنا بلفظ التأنيث، دون التذكير، والله أعلم.
ففي «الصحيح » عن هاشم بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم طب، حتى إنه ليُخيَّل إليه أنه صنع شيئا وما صنعه، وأنه دعا ربه، ثم قال :«أشعرت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه ؟ فقالت عائشة : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال :«جاءني رجلان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل ؟ قال الآخر : مطبوب. قال : من طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم. قال : فيماذا ؟ قال : في مشط ومشاطة، وجف طلع ذكر، قال : فأين هو ؟ قال : في ذروان » - بئر في بني زريق - قالت عائشة رضي الله عنها : فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى عائشة رضي الله عنها فقال :«والله لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رءوس الشياطين، قالت : فقلت له : يا رسول الله، هلا أخرجته ؟ قال :«أما أنا فقد شفاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شرا ». فأمر بها، فدفنت ».
قال البخاري : وقال الليث وابن عيينة عن هشام :«في مشط ومشاقة ».
ويقال : إن المشاطة : ما يخرج من الشعر إذا مُشِطَ، والمشاقة : من مشاقة الكتان.
قلت : هكذا في هذه الرواية إنه لم يخرجه، اكتفاء بمعافاة الله له، وشفائه إياه.
وقد روى البخاري من حديث سفيان بن عيينة قال :«أول من حدثنا به ابن جريج يقول : حدثني آل عروة ( عن عروة )، فسألت هشاما عنه ؟ فحدثنا عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر، حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن. قال سفيان : وهذا أشد ما يكون من السحر، إذا كان كذا، فقال صلى الله عليه وسلم :" يا عائشة، أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه ؟ أتاني رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي. فقال الذي عند رأسي للآخر : ما بال الرجل ؟ قال : مطبوب قال : ومن طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم - رجل من بني زريق حليف ليهود. وكان منافقا – قال : وفيم ؟ قال : في مشط ومشاطة، قال : وأين ؟ قال : في جف طلعة ذكر، تحت راعوفَة في بئر ذَروان ». قال : فأتى النبي صلى الله عليه وسلم البئر حتى استخرجه، فقال صلى الله عليه وسلم :«هذه البئر التي أريتها، وكأن ماءها نقاعة الحناء، وكأن نخلها رءوس الشياطين ». قال : فاستخرج. قالت : فقلت : أفلا – أي انتشرت - ؟ قال :«أما الله فقد شفاني، وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا ».
ففي هذا الحديث : أنه استخرجه، وترجم البخاري عليه :( باب هل يستخرج السحر ؟ ).
وقال قتادة : قلت لسعيد بن المسيب : رجل به طب، ويؤخذ عن امرأته، أيُحَلَّ عنه ويُنْشَر ؟ قال : لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع الناس فلم ينه عنه.
فهذان الحديثان قد يظن في الظاهر تعارضهما، فإن حديث عيسى عن هشام عن أبيه : الأول فيه : أنه لم يستخرجه، وحديث ابن جريج عن هشام فيه «أنه استخرجه »، ولا تنافي بينهما، فإنه استخرجه من البئر حتى رآه وعلمه، ثم دفنه بعد أن شفي.
وقول عائشة رضي الله عنها :«هلا استخرجته ؟ » أي : هلا أخرجته للناس حتى يروه ويعاينوه ؟ فأخبرها بالمانع له من ذلك، وهو أن المسلمين لم يكونوا ليسكتوا عن ذلك، فيقع الإنكار، ويغضب للساحر قومه، فيحدث الشر، وقد حصل المقصود بالشفاء والمعافاة، فأمر بها فدفنت، ولم يستخرجها للناس، فالاستخراج الواقع غير الذي سألت عنه عائشة رضي الله عنه.
والذي يدل عليه : أنه رضي الله عنه إنما جاء إلى البئر ليستخرجها منه، ولم يجيء لينظر إليها ثم ينصرف، إذ لا غرض له في ذلك، والله أعلم.
وهذا الحديث ثابت عند أهل العلم بالحديث، متلقى بالقبول بينهم، لا يختلفون في صحته، وقد اعتاض على كثير من أهل الكلام وغيرهم، وأنكروه أشد الإنكار، وقابلوه بالتكذيب، وصنف بعضهم فيه مصنفا مفردا، حمل فيه على هشام. وكان غاية ما أحسن القول فيه : أن قال : غلط، واشتبه عليه الأمر، ولم يكن من هذا شيء، قال : لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يسحر، فإنه يكون تصديقا لقول الكفار :﴿ إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ﴾ [ الإسراء : ٤٧ ]، ﴿ إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ﴾ [ الفرقان : ٧ ].
قالوا : وهذا كما قال فرعون لموسى :﴿ إني لأظنك يا موسى مسحورا ﴾ [ الإسراء : ١٠١ ]، وكما قال قوم صالح له :﴿ إنما أنت من المسحرين ﴾ [ الشعراء : ١٥٣ ]، وكما قال قوم شعيب له :﴿ إنما أنت من المسحرين ﴾ [ الشعراء : ١٧٥ ].
قالوا : فالأنبياء لا يجوز عليهم أن يسحروا. فإن ذلك ينافي حماية الله لهم، وعصمتهم من الشياطين.
وهذا الذي قاله هؤلاء مردود عند أهل العلم، فإن هشاما من أوثق الناس وأعلمهم، ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بما يوجب رد حديثه، فما للمتكلمين وما لهذا الشأن ؟ وقد رواه غير هشام عن عائشة، وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيح هذا الحديث، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة، والقصة مشهورة عند أهل التفسير والسنن والحديث والتاريخ والفقهاء، وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيامه من المتكلمين.
قال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن يزيد بن حيان عن زيد بن الأرقم رضي الله عنه قال :«سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود، فاشتكى لذلك أياما. قال : فأتاه جبريل، فقال : إن رجلا من اليهود سحرك، وعقد لذلك عقدا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فاستخرجها، فجاء بها، فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال. فما ذكر ذلك لليهودي، ولا رآه في وجهه قط ».
وقال ابن عباس وعائشة رضي الله عنها «كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدنت إليه اليهود، فلم يزالوا حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم، وعدة أسنان من مشطه فأعطاها اليهود، فسحروه فيها، وتولى ذلك لبيد بن الأعصم- رجل من اليهود- فنزلت هاتان السورتان فيه ».
قال البغوي : وقيل :«كانت مغروزة بالأبر، فأنزل الله عز وجل هاتين السورتين، وهما إحدى عشرة آية : سورة الفلق خمس آيات، وسورة الناس ست آيات، فكلما قرأ آية انحلت عقدة، حتى انحلت العقد كلها، فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما أنشط من عقال ». قال : وروي أنه لبث فيه ستة أشهر، واشتد عليه ثلاثة أيام، فنزلت المعوذتان.
قالوا : والسحر الذي أصابه كان مرضا من الأمراض عارضا شفاه الله منه، ولا نقص في ذلك، ولا عيب بوجه ما، فإن المرض يجوز على الأنبياء، وكذلك الإغماء، فقد أغمي عليه صلى الله عليه وسلم في مرضه، ووقع حين انفكت قدمه، وجُحِش شِقَّه، وهذا من البلاء الذي يزيده الله به رفعة في درجاته، ونيل كرامته، وأشد الناس بلاء الأنبياء، فابتلوا من أممهم بما ابتلوا به : من القتل، والضرب، والشتم، والحبس، فليس ببدع أن يبتلى النبي صلى الله عليه وسلم من بعض أعدائه بنوع من السحر، كما ابتلي بالذي رماه فشجَّه، وابتلي بالذي ألقى على ظهره السَّلا وهو ساجد، وغير ذلك، فلا نقص عليهم، ولا عار في ذلك ؛ بل هذا من كمالهم، وعلو درجاتهم عند الله.
قالوا : وقد ثبت في «الصحيح » عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :«يا محمد اشتكيت ؟ فقال : نعم، فقال : باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس، أو عين حاسد، الله يشفيك، بسم الله أرقيك »، فعوذه جبريل من شر كل نفس وعين حاسد، لما اشتكى، فدل على أن هذا التعويذ مزيل لشكايته صلى الله عليه وسلم، وإلا فلا يعوذه من شيء وشكايته من غيره.
قالوا : وأما الآيات التي استدللتم بها لا حجة لكم فيها.
أما قوله تعالى عن الكفار : إنهم قالوا :﴿ إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ﴾ [ الإسراء : ٤٧ ]، وقول قوم صالح وشعيب لهما :﴿ إنما أنت من المسحرين ﴾، فقيل : المراد به من له سحر، وهي الرئة، أي أنه بشر مثلهم، يأكل ويشرب، ليس بملك، ليس المراد به السحر.
وهذا جواب غير مرض، وهو في غاية البعد، فإن الكفار لم يكونوا يعبرون عن البشر بمسحور، ولا يعرف هذا في لغة من اللغات، وحيث أرادوا هذا المعنى أتوا بصريح لفظ البشر، فقالوا :﴿ ما أنتم إلا بشر مثلنا ﴾ [ يس : ١٥ ]، و ﴿ أنؤمن لبشرين مثلنا ﴾ [ المؤمنون : ٤٧ ]، و ﴿ أبعث الله بشرا رسولا ﴾ [ الإسراء : ٩٤ ]، وأما المسحور فلم يريدوا به ذا السحر، وهي الرئة، وأي مناسبة لذكر الرئة في هذا الموضع ؟
ثم كيف يقول فرعون لموسى :﴿ إني لأظنك يا موسى مسحورا ﴾ [ الإسراء : ١٠١ ]، أفتراه ما علم أنه له سحر، وأنه بشر ؟
ثم كيف يجيبه موسى عليه السلام بقوله :﴿ إني لأظنك يا فرعون مثبورا ﴾ [ الإسراء : ١٠٢ ]، ولو أراد بالمسحور أنه بشر لصدقه موسى، وقال : نعم، أنا بشر أرسلني الله إليك، كما قالت الرسل لقومهم لما قالوا لهم :﴿ إن أنتم إلا بشرا مثلنا ﴾ [ إبراهيم : ١٠ ]، فقالوا :﴿ إن نحن إلا بشرا مثلكم ﴾ [ إبراهيم : ١١ ]، ولم ينكروا ذلك.
فهذا الجواب في غاية الضعف.
وأجابت طائفة - منهم ابن جرير وغيره - : بأن المسحور هنا هو معلَّم السحر الذي قد علمه إياه غيره. فالمسحور عنده : بمعنى ساحر، أي عالم بالسحر.
وهذا جيد إن ساعدت عليه اللغة، وهو أن من عُلَّم السحر يقال له مسحور، ولا يكاد هذا يعرف في الاستعمال، ولا في اللغة، وإنما المسحور من سَحَره غيره، كالمطبوب والمضروب والمقتول وبابه. وأما من علم السحر، فإنه يقال له : ساحر، بمعنى أنه عالم بالسحر، وإن لم يسحره غيره، كما قال قوم فرعون لموسى :﴿ إن هذا لساحر عليم ﴾ [ الشعراء : ٣٤ ]، ففرعون قذفه بكونه مسحورا، وقومه قذفوه بكونه ساحرا.
فالصواب : هو الجواب الثالث، وهو جواب صاحب «الكشاف » وغيره : إن «المسحور » على بابه، وهو من سحر حتى جن، فق

فصل


الشر الرابع :﴿ شر الحاسد إذا حسد ﴾
وقد دل القرآن والسنة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود، فنفس حسده شر يتصل بالمحسود من نفسه وعينه، وإن لم يؤذه بيده ولا لسانه، فإن الله تعالى قال :﴿ ومن شر حاسد إذا حسد ﴾ فحقق الشر منه عند صدور الحسد، والقرآن ليس فيه لفظة مهملة.
ومعلوم أن الحاسد لا يسمى حاسدا إلا إذا قام به الحسد، كالضارب، والشاتم، والقاتل، ونحو ذلك، ولكن قد يكون الرجل في طبعه - وهو غافل عن المحسود، لاه عنه - فإن خطر على ذكره وقلبه انبعثت نار الحسد من قلبه إليه، وتوجهت إليه سهام الحسد من قبله، فيتأذى المحسود بمجرد ذلك. فإن لم يستعذ بالله ويتحصن به، ويكون له أوراد من الأذكار والدعوات والتوجه إلى الله والإقبال عليه، بحيث يدفع عنه من شره بمقدار توجهه وإقباله على الله، وإلا ناله شر الحاسد ولا بد.
فقوله تعالى :﴿ إذا حسد ﴾ بيان ؛ لأن شره إنما يتحقق إذا حصل منه الحسد بالفعل.
وقد تقدم في حديث أبي سعيد رضي الله عنه الصحيح رقية جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها «بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس، أو عين حاسد، الله يشفيك »، فهذا فيه الاستعاذة من شر عين الحاسد.
ومعلوم أن عينه لا تؤثر بمجردها ؛ إذ لو نظر إليه نظر لاه ساه عنه، كما ينظر إلى الأرض والجبل وغيره، لم يؤثر فيه شيئا، وإنما إذا نظر إليه نظر من قد تكيفت نفسه الخبيثة واتسمت، واحتدت فصارت نفسا غضبية خبيثة حاسدة أثرت بها تلك النظرة فأثرت في المحسود تأثيرا بحسب صفة ضعفه، وقوة نفس الحاسد، فربما أعطيه وأهلكه، بمنزلة من فوق سهما نحو رجل عريان فأصاب منه مقتلا، وربما صرعه وأمرضه، والتجارب عند الخاصة والعامة بهذا أكثر من أن تذكر.
وهذه العين إنما تأثيرها بواسطة النفس الخبيثة، وهي في ذلك بمنزلة الحية التي إنما يؤثر سمها إذا عضت واحتدت، فإنها تتكيف بكيفية الغضب والخبث، فتحدث فيها تلك الكيفية السم، فتؤثر في اللديغ، وربما قويت تلك الكيفية واشتدت في نوع منها حتى تؤثر بمجرد نظرة، فتطمس البصر، وتسقط الحبل، كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الأبتر، وذي الطُّفيتين منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«اقتلوهما، فإنهما يطمسان البصر، ويسقطان الحبل ».
فإذا كان هذا في الحيات، فما الظن في النفوس الشريرة الغضبية الحاسدة، إذا تكيفت بكيفيتها الغضبية، واتسمت وتوجهت إلى المحسود بكيفيتها ؟ فلله كم من قتيل ؟ وكم من سليب ؟ وكم من معافى عاد مضنى على فراشه، يقول طبيبه : لا أعلم داءه ما هو ؟ فصدق. ليس هذا الداء من علم الطبائع. هذا من علم الأرواح وصفاتها وكيفياتها ومعرفة تأثيراتها في الأجسام والطبائع، وانفعال الأجسام عنها.
وهذا علم لا يعرفه إلا خواص الناس، والمحجوبون منكرون له، ولا يعلم تأثير ذلك وارتباطه بالطبيعة وانفعالها عنه إلا من له نصيب من ذوقه، وهل الأجسام إلا كالخشب الملقى ؟ وهل الانفعال والتأثر وحدوث ما يحدث عنها من الأفعال العجيبة، والآثار الغريبة إلا من الأرواح، والأجسام آلتها بمنزلة الصانع ؟ فالصنعة في الحقيقة له، والآلات وسائط في وصول أثره إلى الصنع.
ومن له أدنى فطنة وتأمل لأحوال العالم وقد لطفت روحه، وشاهدت أحوال الأرواح وتأثيراتها، وتحريكها الأجسام وانفعالها عنها، وكل ذلك بتقدير العزيز العليم، خالق الأسباب والمسببات رأى عجائب في الكون، وآيات دالة على وحدانية الله وعظمته وربوبيته، وإن ثم عالما تجري عليه أحكام أخر، تشهد آثارها، وأسبابها غيب عن الأبصار.
فتبارك الله رب العالمين، وأحسن الخالقين، الذي أتقن ما صنع، وأحسن كل شيء خلقه.
ولا نسبة لعالم الأجسام إلى عالم الأرواح ؛ بل هو أعظم وأوسع، وعجائبه أبهر، وآياته أعجب.
وتأمل هذا الهيكل الإنساني إذا فارقته الروح، كيف يصير بمنزلة الخشبة أو القطعة من اللحم ؟ فأين ذهبت تلك العلوم والمعارف والعقل ؟ وتلك الصنائع الغريبة، وتلك الأفعال العجيبة، وتلك الأفكار والتدبيرات ؟ كيف ذهبت كلها مع الروح، وبقي الهيكل سواء هو والتراب ؟ وهل يخاطبك من الإنسان أو يراك أو يحبك أو يواليك، أو يعاديك، ويخف عليك ويثقل، ويؤنسك ويوحشك، إلا ذلك الأمر الذي وراء الهيكل المشاهد بالبصر ؟
فرب رجل عظيم الهيولي كبير الجثة، خفيف على قلبك، حلو عندك، وآخر لطيف الخلقة، صغير الجثة، أثقل على قلبك من جبل، وما ذاك إلا للطافة روح ذاك، وخفتها وحلاوتها، وكثافة هذا، وغلظ روحه ومرارتها.
وبالجملة : فالعُلَق والوُصَل التي بين الأشخاص، والمنافرات والبعد، إنما هي للأرواح أصلا، والأشباح تبعا.

فصل


والعاين والحاسد يشتركان في شيء، ويفترقان في شيء :
فيشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه، وتتوجه نحو من يريد أذاه.
فالعائن : تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته.
والحاسد : يحصل له ذلك عند غيب المحسود وحضوره أيضا.
ويفترقان في أن العائن قد يصيب من لا يحسده، من جماد أو حيوان، أو زرع أو مال، وإن كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه، وربما أصابت عينه نفسه، فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق، مع تكيف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في المعين.
وقد قال غير واحد من المفسرين في قوله تعالى :﴿ وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ﴾ [ القلم : ٥١ ] : إنه الإصابة بالعين، فأرادوا أن يصيبوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنظر إليه قوم من العائنين، وقالوا : ما رأينا مثله ولا مثل حجته، وكان طائفة منهم تمر به الناقة والبقرة السمينة فيعينها، ثم يقول الخادمة : خذ المكتل والدرهم وائتنا بشيء من لحمها، فما تبرح حتى تقع، فتنحر.
وقال الكلبي : كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل، ثم يرفع جانب خبائة، فتمر به الإبل، فيقول : لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه، فما تذهب إلا قليلا حتى يسقط منها طائفة، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين، ويفعل به كفعله في غيره، فعصم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وحفظه. وأنزل عليه :﴿ وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ﴾ هذا قول طائفة.
وقالت طائفة أخرى، منهم ابن قتيبة : ليس المراد أنهم يصيبونك بالعين، كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه، وإنما أراد : أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن الكريم نظرا شديدا بالعداوة والبغضاء، يكاد يسقطك. قال الزجاج : يعني من شدة العداوة يكادون بنظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك. وهذا مستعمل في الكلام، يقول القائل : نظر إلي نظرا قد كان يصرعني.
قال : ويدل على صحة هذا المعنى أنه قرن هذا النظر بسماع القرآن، وهم كانوا يكرهون ذلك أشد الكراهبة، فيحدون إليه النظر بالبغضاء.
قلت : النظر الذي يؤثر في المنظور : قد يكون بسببه شده العداوة والحسد، فيؤثر نظره فيه، كما تؤثر نفسه بالحسد، ويقوى تأثير النفس عند المقابلة، فإن العدو إذا غاب عن عدوه قد يشغل نفسه عنه، فإذا عاينه قبلا اجتمعت الهمة عليه، وتوجهت النفس بكليتها إليه، فيتأثر بنظره، حتى إن من الناس من يسقط، ومنهم من يحم، ومنهم من يحمل إلى بيته، وقد شاهد الناس من ذلك كثيرا.
وقد يكون سببه الإعجاب، وهو الذي يسمونه بإصابة العين، وهو أن الناظر يرى الشيء رؤية إعجاب به أو استعظام، فتتكيف روحه بكيفية خاصة تؤثر في المعين، وهذا هو الذي يعرفه الناس من رؤية المعين، فإنهم يستحسنون الشيء ويعجبون منه، فيصاب بذلك.
قال عبد الرزاق : عن معمر، عن هشام بن قتيبة قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«العين حق. ونهى عن الوشم ».
وروى سفيان عن عمرو بن دينار، عن عروة، عن عامر، عن عبيد بن رفاعة «أن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت :«يا رسول الله، إن ابني جعفر تصيبهم العين، أفنسترقي لهم ؟ قال :«نعم. فلو كان شيء يسبق القضاء لسبقته العين ».
فالكفار كانوا ينظرون إليه نظر حاسد شديد العدواة، فهو نظر يكاد يزلقه لولا حفظ الله وعصمته. فهذا أشد من نظر العائن ؛ بل هو جنس من نظر العائن، فمن قال : إنه من الإصابة بالعين أراد هذا المعنى، ومن قال : ليس به، أراد : أن نظرهم لم يكن نظر استحسان وإعجاب، فالقرآن الكريم حق.
وقد روى الترمذي من حديث أبي سعيد رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من عين الإنسان »، فلولا أن العين شر لم يتعوذ منها.
وفي الترمذي من حديث علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، حدثني حابس بن حية التميمي، حدثني أبي، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«لا شيء في الهام، والعين حق ».
وفيه أيضا : من حديث وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا اسْتُغْسِلْتُم فاغسلوا ».
وفي الباب عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وهذا حديث صحيح.
والمقصود : أن العائن حاسد خاص. وهو أضر من الحاسد، ولهذا - والله أعلم - إنما جاء في السورة ذكر الحاسد دون العائن ؛ لأنه أعم. فكل عائن حاسد ولا بد، وليس كل حاسد عائنا، فإذا استعاذ من شر الحسد دخل فيه العائن، وهذا من شمول القرآن الكريم وإعجازه وبلاغته.
وأصل الحسد : هو بغض نعمة الله على المحسود، وتمني زوالها.
فالحاسد عدو النعم، وهذا الشر هو من نفس الحاسد وطبعها، ليس هو شيئا اكتسبه من غيرها ؛ بل هو من خبثها وشرها، بخلاف السحر، فإنه إنما يكون باكتساب أمور أخرى، واستعانة بالأرواح الشيطانية، فلهذا - والله أعلم - قرن في السورة بين شر الحاسد وشر الساحر ؛ لأن الاستعاذة من شر هذين تعم كل شر يأتي من شياطين الإنس والجن. فالحسد من شياطين الإنس والجن، والسحر من النوعين.
وبقي قسم ينفرد به شياطين الجن، وهو الوسوسة في القلب، فذكره في السورة الأخرى، كما سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى.
فالحاسد والساحر يؤذيان المحسود والمسحور بلا عمل منه ؛ بل هو أذى من أمر خارج عنه، ففرق بينهما في الذكر في سورة الفلق.
والوسواس إنما يؤذي العبد من داخله بواسطة مساكنته له، وقبوله منه، ولهذا يعاقب العبد على الشر الذي يؤذيه به الشيطان من الوساوس التي تقترن بها الأفعال، والعزم الجازم ؛ لأن ذلك بسعيه وإرادته، بخلاف شر الحاسد والساحر فإنه لا يعاقب عليه ؛ إذ لا يضاف إلى كسبه ولا إرادته، فلهذا أفرد شر الشيطان في سورة، وقرن بين شر الساحر والحاسد في سورة، وكثيرا ما يجتمع في القرآن الحسد والسحر للمناسبة.
ولهذا اليهود أسحر الناس وأحسدهم، فإنهم لشدة خبثهم : فيهم من السحر والحسد ما ليس في غيرهم. وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بهذا وهذا، فقال :{ واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان م
Icon