تفسير سورة سورة المائدة من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
.
لمؤلفه
ابن عجيبة
.
المتوفي سنة 1224 هـ
ﰡ
[المجلد الثاني]
سورة المائدةمدنية. وهى مائة وعشرون آية، وألفان وثمان مائة وأربع كلمات، وقرأها النبي صلى الله عليه وسلّم فى حجة الوداع، وقال:
«يا أيها الناسُ، إِن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها» «١». وقال ابن عمر: (أنزلت سورة المائدة والنبي صلّى الله عليه وسلّم على راحلته، فلم تستطع أن تحمله حتى نزل). وهى مكملة لما تضمنته سورة النساء من عقود الأحكام الستة، ولذلك افتتحها بالتوصية على الوفاء بها، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١)أي: بالعهود التي عَهِدْتُ إليكم أن تحفظوها، وهي حفظ الأموال، وحفظ الأنساب، وحفظ الأديان، وحفظ الأبدان، وحفظ اللسان، وحفظ الأيمان، ثم مرَّ معها على الترتيب، فما ذكره هناك مُستوفَى، لم يُعِدْ منه هنا إلا أصله، وما بقي هناك في أصل من الأصول الستّة كمّلهُ هنا، ولمّا ذكر فيما تقدم في أول السورة حُكْم الأموال باعتبار المِلك، ولم يتكلم على ما يحلّ منها وما يحرم، تكلم هنا على ذلك، فقال: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ...
قلت: إضافة (بهيمة الأنعام) : للبيان، كثوب خزّ، إي: البهيمة من الإنعام، و (غير مُحِلِّي الصيد) : حال، قال الأخفش: من فاعل «أوفوا»، وفيه معنى النّهي، وقال الكسائي: من ضمير (لكم) كما تقول: أُحِلّ لكم الطعام غير مُفسِدين فيه، فإن قُلتَ: الحال قيد لعامِلها، والحِلِّيَّة غير خاصّة بوقت حُرمَة الصيد؟ قلت: لمّا كانت الحاجة إليها في ذلك الوقت أكثر، خصّ الحِلِّيَّة به ليكون أدعى للشكر، ويؤخَذ عموم الحِلِّيَّة من سورة الحج «٢».
يقول الحق جلّ جلاله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ أي: الأنعام كلها، وهي الإبل والبقر والغنم، إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ بعدُ في قوله:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ | الآية «٣»، حال كونكم غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ |
(١) أخرجه الحاكم فى المستدرك (التفسير ٢/ ٣١١) موقوفا على (أم المؤمنين عائشة) رضى الله عنها. وصححه ووافقه الذهبي.
وفى الفتح السماوي (٢/ ٥٥٢) نقلا عن الحافظ ابن حجر: لم نقف عليه مرفوعا.
(٢) فى قول الله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ.. الآية/ ٣٠.
(٣) الآية الثالثة من السورة نفسها.
وفى الفتح السماوي (٢/ ٥٥٢) نقلا عن الحافظ ابن حجر: لم نقف عليه مرفوعا.
(٢) فى قول الله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ.. الآية/ ٣٠.
(٣) الآية الثالثة من السورة نفسها.
في حال الإحرام، ومعنى الآية في الجملة: أُحِلَّت الأنعام كلها إِلاَّ مَا يُتلى عَلَيْكُمْ من الميتة وأخواتها، لكن الصيد في حال الإحرام حرام عليكم، إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ من تحليل أو تحريم.
الإشارة: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود التي عقدتموها على نفوسكم في حال سيركم إلى حضرة ربَكم، من مجاهدة ومُكابَدة، فمَن عقد عقدة مع ربّه فلا يحلّها، فإن النفس إذا استأنست بحلّ العقود لم ترتبط بحال، ولعبت بصاحبها كيف شاءت، وأوفوا بالعقود التي عقدتموها مع أشياخكمْ بالاستماع والاتّباع إلى مماتكم، وأوفوا بالعقود التي عقدها عليكم الحق تعالى، من القيام بوظائف العبودية، ودوام مشاهدة عظمة الربوبية، فإن أوفيتم بذلك، فقد أُحِلَّت لكم الأشياء كلها تتصرّفون فيها بهِمّتكم لأنكم إذا كنتم مع المُكَوِّنِ كانت الأكوان معكم. إِلاَّ مَا يُتلَى عَلَيْكُمْ مما ليس من مقدوركم مما أحاطت به أسوار الأقدار، «فإن سوابق الهِمَم لا تخرق أسوار الأقدار»، غير مُتَعَرِّضين لشهود السّوى وأنتم في حرم حضرة المولى. والله تعالى أعلم.
ولما نهى عن التعرض للصيد فى الحرم، نهى عن تغيير المناسك والتعرض للحجّاج لأنه من تعظيم حرمة الحرم، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)
قلت: الشعائر: جمع شَعيرة، وهي اسم ما أشعر، أي: جعل علامة على مناسك الحج ومواقفة، و (لا يجرمنّكم) أي: يحملنّكم، أو يكسبنّكم، يُقال: جرم فلان فلانًا هذا الأمر، إذا أكسبه إيّاه وحمله عليه. والشنآن: هو البغض والحقد، يقال: بفتح النون وإسكانها، و (أن صدّوكم) مفعول من أجله، و (أن تعتدوا) مفعول ثانٍ ليجرمنكم. ومَن قرأ: (إن صدّوكم)، بالكسر فشرط، أغنى عن جوابه: (لا بجرمنكم).
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ أي: لا تستحلّوا شيئًا من ترك المناسك، وذلك أن الأنصار كانوا لا يسعون بين الصفا والعروة، وكان أهل مكة لا يخرجون إلى عرفات، وكان أهل اليمن يرجعون من عرفات، فأمرهم الله ألاّ يتركوا شيئًا من المناسك، أي: لا تحلّوا ترك شعائر الله وَلَا تحلّوا
الإشارة: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود التي عقدتموها على نفوسكم في حال سيركم إلى حضرة ربَكم، من مجاهدة ومُكابَدة، فمَن عقد عقدة مع ربّه فلا يحلّها، فإن النفس إذا استأنست بحلّ العقود لم ترتبط بحال، ولعبت بصاحبها كيف شاءت، وأوفوا بالعقود التي عقدتموها مع أشياخكمْ بالاستماع والاتّباع إلى مماتكم، وأوفوا بالعقود التي عقدها عليكم الحق تعالى، من القيام بوظائف العبودية، ودوام مشاهدة عظمة الربوبية، فإن أوفيتم بذلك، فقد أُحِلَّت لكم الأشياء كلها تتصرّفون فيها بهِمّتكم لأنكم إذا كنتم مع المُكَوِّنِ كانت الأكوان معكم. إِلاَّ مَا يُتلَى عَلَيْكُمْ مما ليس من مقدوركم مما أحاطت به أسوار الأقدار، «فإن سوابق الهِمَم لا تخرق أسوار الأقدار»، غير مُتَعَرِّضين لشهود السّوى وأنتم في حرم حضرة المولى. والله تعالى أعلم.
ولما نهى عن التعرض للصيد فى الحرم، نهى عن تغيير المناسك والتعرض للحجّاج لأنه من تعظيم حرمة الحرم، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)
قلت: الشعائر: جمع شَعيرة، وهي اسم ما أشعر، أي: جعل علامة على مناسك الحج ومواقفة، و (لا يجرمنّكم) أي: يحملنّكم، أو يكسبنّكم، يُقال: جرم فلان فلانًا هذا الأمر، إذا أكسبه إيّاه وحمله عليه. والشنآن: هو البغض والحقد، يقال: بفتح النون وإسكانها، و (أن صدّوكم) مفعول من أجله، و (أن تعتدوا) مفعول ثانٍ ليجرمنكم. ومَن قرأ: (إن صدّوكم)، بالكسر فشرط، أغنى عن جوابه: (لا بجرمنكم).
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ أي: لا تستحلّوا شيئًا من ترك المناسك، وذلك أن الأنصار كانوا لا يسعون بين الصفا والعروة، وكان أهل مكة لا يخرجون إلى عرفات، وكان أهل اليمن يرجعون من عرفات، فأمرهم الله ألاّ يتركوا شيئًا من المناسك، أي: لا تحلّوا ترك شعائر الله وَلَا تحلّوا
4
الشَّهْرَ الْحَرامَ بالقتال أو السَّبْي، وهذا قبل النسخ، وَلَا تحلّوا الْهَدْيَ، أي: ما أُهْدِيَ إلى الكعبة، فلا تتعرّضوا له ولو من كافر، وَلَا تحلّوا الْقَلائِدَ أي: ذوات القلائد، وهي الهَدْي المقلّدة، وعطفها على الهَدْي للاختصاص فإنها أشرف الهَدْي، أي: لا تتعرضوا للهَدْي مطلقًا. والقلائد جمع قِلادة، وهي: ما قُلِّدَ به الهَدْي من نَعْل أو لِحاء الشجر، أو غيرهما، ليُعلَم به أنه هَدْي فلا يُتَعَرَّض له، وَلَا تحلّوا آمِّينَ أي: قاصِدين البيت الحرام، أي: قاصدين لزيارته، يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً أي: يطلبون رزقًا بالتجارة التي قصدوها، ورضوانًا بزعمهم لأنهم كانوا كُفّارًا.
وذلك، أن الآية نزلت في الحُطَم بن ضُبَيْعة، وذلك أنه أتى المدينة، فخلَّف خَيْلَه خَارجَ المدِينةَ، ودخل وحده إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: إلامَ تدعُو النَّاس إليه؟ فقال له: «إلى شَهادة أنْ لا إله إلا اللهُ وإقَام الصَّلاةِ وإيتَاءِ الزَّكاة».
فقال: حَسَنٌ، إلاّ أن لي أُمَرَاءَ لا أقطعُ أمْرًا دُونَهُمْ، ولَعَلَّي أُسْلِم، فخرج وغار على سَرْحِ المدينة فاسْتَاقَهُ، فلما كان في العام المقبل خرج حاجًا مع أهل اليمامة، ومعه تجارة عظيمة، وقد قلّد الهَدْيَ، فقال المسلمون للنبى صلّى الله عليه وسلّم: هذا الحُطَمُ قد خرج حاجًا فخَلِّ بيننا وبينه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنه قلّد الهَدْيَ»، فقالوا يا رسول الله: هذا شيء كنّا نفعله في الجاهلية- أي: تقيه-، فأبى عليهم النبي صلى الله عليه وسلّم، فنزلت الآية «١».
وقال ابنُ عباس: كان المشركون يحجّون ويهدون، فأرادَ المسلمون أن يُغِيرُوا عليهم، فنهاهم الله تعالى بالآية.
وَإِذا حَلَلْتُمْ من الحج والعمرة فَاصْطادُوا، أمْر إباحة لأنه وقع بعد الحَظْر، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ أي:
لا يحملنّكم، أو لا يكسبنّكم شَنَآنُ قَوْمٍ أي: شدّة بغضكم لهم لأجل أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ عام الحديبية أَنْ تَعْتَدُوا بالانتقام منهم بأن تحلّوا هداياهم وتتعرّضوا لهم في الحرم. قال ابن جزيّ: نزلت عام الفتح حين ظفر المسلمون بأهل مكة، فأرادوا أن يستأصلوهم بالقتل لأنهم كانوا قد صدّوهم عن المسجد الحرام عام الحديبية، فنهاهم الله عن قتلهم لأن الله عَلِمَ أنهم يؤمنون. هـ. ثم نسخ ذلك بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. «٢»
ثم قال تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى كالعفو، والإغضاء، ومتابعة الأمر، ومُجانَبة الهوى. وقال ابن جزيّ: وصية عامّة، والفرق بين البرّ والتقوى أن البرّ عامّ في الواجبات والمندوبات، فالبرّ أعمّ من التقوى هـ.
وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ كالتشفّي والانتقام. قال ابن جُزَيّ: الإثم: كل ذنب بين الله وعبده، والعدوان: على الناس. هـ. وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فانتقامه أشد.
الإشارة: قد أمر الحق- جل جلاله- بتعظيم عباده، وحِفظ حُرمتهم كيفما كانوا، «فالخلق كلّهم عِيال اللَّهِ، وَأَحَبُّ الخَلْقِِِ إلى اللهِ أنفعُهُمْ لِعِياله»، فيجب على العبد كفّ أذاه عنهم وحمل الجفا منهم، وألاَّ ينتقم لنفسه ممَّن آذاه
وذلك، أن الآية نزلت في الحُطَم بن ضُبَيْعة، وذلك أنه أتى المدينة، فخلَّف خَيْلَه خَارجَ المدِينةَ، ودخل وحده إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: إلامَ تدعُو النَّاس إليه؟ فقال له: «إلى شَهادة أنْ لا إله إلا اللهُ وإقَام الصَّلاةِ وإيتَاءِ الزَّكاة».
فقال: حَسَنٌ، إلاّ أن لي أُمَرَاءَ لا أقطعُ أمْرًا دُونَهُمْ، ولَعَلَّي أُسْلِم، فخرج وغار على سَرْحِ المدينة فاسْتَاقَهُ، فلما كان في العام المقبل خرج حاجًا مع أهل اليمامة، ومعه تجارة عظيمة، وقد قلّد الهَدْيَ، فقال المسلمون للنبى صلّى الله عليه وسلّم: هذا الحُطَمُ قد خرج حاجًا فخَلِّ بيننا وبينه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنه قلّد الهَدْيَ»، فقالوا يا رسول الله: هذا شيء كنّا نفعله في الجاهلية- أي: تقيه-، فأبى عليهم النبي صلى الله عليه وسلّم، فنزلت الآية «١».
وقال ابنُ عباس: كان المشركون يحجّون ويهدون، فأرادَ المسلمون أن يُغِيرُوا عليهم، فنهاهم الله تعالى بالآية.
وَإِذا حَلَلْتُمْ من الحج والعمرة فَاصْطادُوا، أمْر إباحة لأنه وقع بعد الحَظْر، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ أي:
لا يحملنّكم، أو لا يكسبنّكم شَنَآنُ قَوْمٍ أي: شدّة بغضكم لهم لأجل أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ عام الحديبية أَنْ تَعْتَدُوا بالانتقام منهم بأن تحلّوا هداياهم وتتعرّضوا لهم في الحرم. قال ابن جزيّ: نزلت عام الفتح حين ظفر المسلمون بأهل مكة، فأرادوا أن يستأصلوهم بالقتل لأنهم كانوا قد صدّوهم عن المسجد الحرام عام الحديبية، فنهاهم الله عن قتلهم لأن الله عَلِمَ أنهم يؤمنون. هـ. ثم نسخ ذلك بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. «٢»
ثم قال تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى كالعفو، والإغضاء، ومتابعة الأمر، ومُجانَبة الهوى. وقال ابن جزيّ: وصية عامّة، والفرق بين البرّ والتقوى أن البرّ عامّ في الواجبات والمندوبات، فالبرّ أعمّ من التقوى هـ.
وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ كالتشفّي والانتقام. قال ابن جُزَيّ: الإثم: كل ذنب بين الله وعبده، والعدوان: على الناس. هـ. وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فانتقامه أشد.
الإشارة: قد أمر الحق- جل جلاله- بتعظيم عباده، وحِفظ حُرمتهم كيفما كانوا، «فالخلق كلّهم عِيال اللَّهِ، وَأَحَبُّ الخَلْقِِِ إلى اللهِ أنفعُهُمْ لِعِياله»، فيجب على العبد كفّ أذاه عنهم وحمل الجفا منهم، وألاَّ ينتقم لنفسه ممَّن آذاه
(١) أخرجه ابن جرير عن عكرمة. وذكره الواحدي فى الأسباب، عن ابن عباس.
(٢) من الآية ٥ من سورة التوبة.
(٢) من الآية ٥ من سورة التوبة.
5
منهم، ولا يحمله ما أصابه منهم على أن يعتدي عليهم ولو بالدعاء، بل إن وسَع الله صدره بالمعرفة قابلهم بالإحسان، ودعا لعدوّه بصلاح حاله حتى يأخذ الله بيده، وهذا مقام الصّديقيَة العظمى والولاية الكبرى، وهذا غاية البرّ والتقوى الذي أمر الله- تعالى- بالتعاون عليه، والاجتماع إليه، دون الاجتماع على الإثم والعدوان، وهو الانتصار للنفس والانتقام من الأعداء، فإن هذا من شأن العوامّ، الذين هم في طرف مقام الإسلام. والله تعالى أعلم.
ثم بيّن ما وعد به في قوله: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)
يقول الحق جلّ جلاله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ أي: ما ماتت حَتْفَ أنفها بلا ذكاه، وَالدَّمُ المسفوح، أي: المهروق، وكانت الجاهلية يصبّونه في الأمعاء، ويشوونها، ورُخِّصَ في الباقي في العروق بعد التذكية، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ، وكذا شحمه وسائر أجزائه المتصلة، بخلاف الشعر المجزوّ، وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي: رفع الصوت عليه عند ذبحه بغير الله، كقولهم: باسم اللاّت والعزّى، وكذا ما تُرِكَ عليه اسم الله عَمْدًا، عند مالك وَالْمُنْخَنِقَةُ بحبل وشبهه حتى ماتت، وَالْمَوْقُوذَةُ أي: المضروبة بعصا أو بحجر أو شبهه، من: وقذته وقذًا:
ضربته، وَالْمُتَرَدِّيَةُ أي: الساقطة من جبل أو في بئر وشبهه فماتت، وَالنَّطِيحَةُ التي نطحتها أخرى فماتت، فإن لم تمت فإن كان في العصران الأعلى فكذلك، لا في الأسفل أو الكرش.
وَما أَكَلَ السَّبُعُ أي: أكل بعضه وأنفذ مقتله، والسبّع: كل حيوان مفترس كالذئب والأسد والنّمر والثعلب والنّمس والعُقاب والنّسر إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أي: إلا ما أدركتم ذكاته وفيه حياة مستقرة من ذلك. قاله البيضاوي.
وقال ابن جزي: قيل: إنه استثناء منقطع، وذلك إذا أُريد بالمنخنقة وأخواتها: مامات من ذلك بالخنق وما بعده، أي: حُرِّمَت عليكم هذه الأشياء، لكن ما ذكَّيتم من غيرها فهو حلال، وهذا ضعيف، وقيل: إنه استثناء متصل، وذلك إن أُريد بالمنخنقة وأخواتها ما أصابته تلك الأسباب وأدركت حياته. والمعنى: إلا ما أدركتم حياته من هذه الأشياء، فهو حلال، واختلف أهل هذا القول هل يُشتَرَط أن يكون لم تنفذ مقاتله، أم لا؟ فالأئمة كلهم على عدم الاشتراط إلا مالكًا- رحمه الله-، وأما مَن لم تُشرِف على الموت من هذه الأسباب، فذكاتها جائزة باتفاق. هـ.
وَحرم عليكم أيضًا: ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، وهي أحجار كانت منصوبة حول البيت، يذبحون عليها ويعدُّون ذلك قُرْبَة، وليست بالأصنام لأن الأصنام مُصَوّرة، والنُّصُب غير مُصَوَّرة، وقيل: (على) بمعنى اللام، أي: وما ذُبِحَ للنُّصُب، والمراد: كلّ ما ذُبحَ لغير الله.
ثم بيّن ما وعد به في قوله: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)
يقول الحق جلّ جلاله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ أي: ما ماتت حَتْفَ أنفها بلا ذكاه، وَالدَّمُ المسفوح، أي: المهروق، وكانت الجاهلية يصبّونه في الأمعاء، ويشوونها، ورُخِّصَ في الباقي في العروق بعد التذكية، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ، وكذا شحمه وسائر أجزائه المتصلة، بخلاف الشعر المجزوّ، وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي: رفع الصوت عليه عند ذبحه بغير الله، كقولهم: باسم اللاّت والعزّى، وكذا ما تُرِكَ عليه اسم الله عَمْدًا، عند مالك وَالْمُنْخَنِقَةُ بحبل وشبهه حتى ماتت، وَالْمَوْقُوذَةُ أي: المضروبة بعصا أو بحجر أو شبهه، من: وقذته وقذًا:
ضربته، وَالْمُتَرَدِّيَةُ أي: الساقطة من جبل أو في بئر وشبهه فماتت، وَالنَّطِيحَةُ التي نطحتها أخرى فماتت، فإن لم تمت فإن كان في العصران الأعلى فكذلك، لا في الأسفل أو الكرش.
وَما أَكَلَ السَّبُعُ أي: أكل بعضه وأنفذ مقتله، والسبّع: كل حيوان مفترس كالذئب والأسد والنّمر والثعلب والنّمس والعُقاب والنّسر إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أي: إلا ما أدركتم ذكاته وفيه حياة مستقرة من ذلك. قاله البيضاوي.
وقال ابن جزي: قيل: إنه استثناء منقطع، وذلك إذا أُريد بالمنخنقة وأخواتها: مامات من ذلك بالخنق وما بعده، أي: حُرِّمَت عليكم هذه الأشياء، لكن ما ذكَّيتم من غيرها فهو حلال، وهذا ضعيف، وقيل: إنه استثناء متصل، وذلك إن أُريد بالمنخنقة وأخواتها ما أصابته تلك الأسباب وأدركت حياته. والمعنى: إلا ما أدركتم حياته من هذه الأشياء، فهو حلال، واختلف أهل هذا القول هل يُشتَرَط أن يكون لم تنفذ مقاتله، أم لا؟ فالأئمة كلهم على عدم الاشتراط إلا مالكًا- رحمه الله-، وأما مَن لم تُشرِف على الموت من هذه الأسباب، فذكاتها جائزة باتفاق. هـ.
وَحرم عليكم أيضًا: ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، وهي أحجار كانت منصوبة حول البيت، يذبحون عليها ويعدُّون ذلك قُرْبَة، وليست بالأصنام لأن الأصنام مُصَوّرة، والنُّصُب غير مُصَوَّرة، وقيل: (على) بمعنى اللام، أي: وما ذُبِحَ للنُّصُب، والمراد: كلّ ما ذُبحَ لغير الله.
6
وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ أي: تطلبوا ما قسم لكم في الأزل من المقادير بالأزلام، جمع زلم- بضم الزاي وفتحها- وهي الأقداح على قدر السهام. وكانت في الجاهلية ثلاثة، قد كُتب على أحدها: افعل، وعلى الآخر:
لا تفعل، وعلى الثالث: مهمل، فإذا أراد الإنسان أن يعمل أمرًا جعلها في خريطة، وأدخل يده وأخرج أحدها، فإن خرج له الذي فيه «افعل» فعل ما أراد، وإن خرج الذي فيه «لا تفعل»، تركه، وإن خرج المهمل أعاد الضرب، ويقاس عليه كل ما يدخل في علم الغيب، كالقريعة والحظ والنصبة والكهانة، وشبهها.
ذلِكُمْ فِسْقٌ، الإشارة إلى المحرمات المذكورة، أو إلى الاستقسام بالأزلام، وإنما كان فسقًا لأنه دخول في علم الغيب الذي انفرد الله به، وفيه تجسس على سر الملك، وهو حرام، ولا يعارض ما ثبت جوازه من القرعة، في أمور مخصوصة كتمييز الأنصبة في القسمة، «وقد كان- عليه الصلاة والسلام- يقترع بين نسائه»، وغير ذلك مما تفيد تطييب القلوب، دون الاطلاع على علم الغيوب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: حرمت عليكم يا معشر المريدين طلب الحظوظ والشهوات، وما تموت به قلوبكم من الانهماك في الغفلات، وتناول ما أعطِيكم لغير وجه الله، وقبضتموه من غير يد الله، بأن نظرتم حين قبضه إلى الواسطة، وغفلتم عن المعطي حقيقة، فمقتضى شريعة الخواص: إخراجه عن الملك، وحرمان النفس من الانتفاع به، كما وقع لبعض الأولياء، ولا تتناولوا من الطعام إلاّ ما ذكيتموه بأن شهدتم فيه المنعم دون الوقوف مع النعمة، ونزلتم إليه بالإذن، دون قصد الشهوة والمتعة، وهذا يحتاج إلى تيقظ كبير ومراقبة قوية. والله يتجاوز عن أمثالنا بحلمه وكرمه. آمين.
ولمَا حرم الله تعالى هذه الاشياء حصل للمشركين الإياس من موافقة المسلمين لهم في دينهم، فلذلك ذكره الحق تعالى بإثر تحريمها، فقال:
... الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً...
يقول الحق جلّ جلاله: الْيَوْمَ الذي أنتم فيه، وهو يوم الجمعة، ويوم عرفة في حجة الوداع، يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ أن يبطلوه، أو يظهروا عليه بحصول المباينة لهم في أمورهم كلها، ولظهور الإسلام فيه وكثرة المسلمين، قيل: إنه وقف معه صلّى الله عليه وسلّم في هذه الحجة: مائة ألف وأربعة عشر ألفًا، ويحتمل أن يريد باليوم الزمان الحاضر، وما يتصل به من الأزمنة الآتية، فَلا تَخْشَوْهُمْ أن يظهروا عليكم، وَاخْشَوْنِ وحدي فأمرهم بيدي.
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بالنصر والإظهار على الأديان كلها، أو بالتنصيص على قواعد العقائد، والتوقيف على أحوال الشرائع وقوانين الاجتهاد، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بالهداية والتوفيق، أو بإكمال الدين، وبالفتح والتمكين، بهدم منار الكفر، ومحو علل الملحدين، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً أي: اخترته لكم من بين الأديان، الذي لا نرتضي غيره ولا نقبل سواه.
لا تفعل، وعلى الثالث: مهمل، فإذا أراد الإنسان أن يعمل أمرًا جعلها في خريطة، وأدخل يده وأخرج أحدها، فإن خرج له الذي فيه «افعل» فعل ما أراد، وإن خرج الذي فيه «لا تفعل»، تركه، وإن خرج المهمل أعاد الضرب، ويقاس عليه كل ما يدخل في علم الغيب، كالقريعة والحظ والنصبة والكهانة، وشبهها.
ذلِكُمْ فِسْقٌ، الإشارة إلى المحرمات المذكورة، أو إلى الاستقسام بالأزلام، وإنما كان فسقًا لأنه دخول في علم الغيب الذي انفرد الله به، وفيه تجسس على سر الملك، وهو حرام، ولا يعارض ما ثبت جوازه من القرعة، في أمور مخصوصة كتمييز الأنصبة في القسمة، «وقد كان- عليه الصلاة والسلام- يقترع بين نسائه»، وغير ذلك مما تفيد تطييب القلوب، دون الاطلاع على علم الغيوب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: حرمت عليكم يا معشر المريدين طلب الحظوظ والشهوات، وما تموت به قلوبكم من الانهماك في الغفلات، وتناول ما أعطِيكم لغير وجه الله، وقبضتموه من غير يد الله، بأن نظرتم حين قبضه إلى الواسطة، وغفلتم عن المعطي حقيقة، فمقتضى شريعة الخواص: إخراجه عن الملك، وحرمان النفس من الانتفاع به، كما وقع لبعض الأولياء، ولا تتناولوا من الطعام إلاّ ما ذكيتموه بأن شهدتم فيه المنعم دون الوقوف مع النعمة، ونزلتم إليه بالإذن، دون قصد الشهوة والمتعة، وهذا يحتاج إلى تيقظ كبير ومراقبة قوية. والله يتجاوز عن أمثالنا بحلمه وكرمه. آمين.
ولمَا حرم الله تعالى هذه الاشياء حصل للمشركين الإياس من موافقة المسلمين لهم في دينهم، فلذلك ذكره الحق تعالى بإثر تحريمها، فقال:
... الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً...
يقول الحق جلّ جلاله: الْيَوْمَ الذي أنتم فيه، وهو يوم الجمعة، ويوم عرفة في حجة الوداع، يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ أن يبطلوه، أو يظهروا عليه بحصول المباينة لهم في أمورهم كلها، ولظهور الإسلام فيه وكثرة المسلمين، قيل: إنه وقف معه صلّى الله عليه وسلّم في هذه الحجة: مائة ألف وأربعة عشر ألفًا، ويحتمل أن يريد باليوم الزمان الحاضر، وما يتصل به من الأزمنة الآتية، فَلا تَخْشَوْهُمْ أن يظهروا عليكم، وَاخْشَوْنِ وحدي فأمرهم بيدي.
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بالنصر والإظهار على الأديان كلها، أو بالتنصيص على قواعد العقائد، والتوقيف على أحوال الشرائع وقوانين الاجتهاد، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بالهداية والتوفيق، أو بإكمال الدين، وبالفتح والتمكين، بهدم منار الكفر، ومحو علل الملحدين، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً أي: اخترته لكم من بين الأديان، الذي لا نرتضي غيره ولا نقبل سواه.
7
الإشارة: إذا حصل المريد على أسرار التوحيد، وخاض بحار التفريد، وذاق حلاوة أسرار المعاني، وغاب عن شهود حس الأواني، وحصل له الرسوخ والتمكين في ذلك، أيِسَ منه الشيطان وسائر القواطع، فلا يخشى أحدًا إلا الله، ولا يركن إلى شيء سواه، وأمِنَ من الرجوع في الغالب، إلا لأمر غالب، وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ. ولذلك قال بعضهم: (والله ما رجع مَن رجع إلا من الطريق، وأما من وصل فلا يرجع).
والوصول هو التمكين فيما ذكرنا، فإذا حصل على كمال المعرفة، ووقف على عرفة المعارف، فقد كمل دينه واستقام أمره، وظهرت أنواره، وتحققت أسراره، وما بقي إلا الترقي في الأسرار أبدًا سرمدًا، والسير في المقامات كسير الشمس في المنازل، ينتقل فيها من مقام إلى مقام، بحسب ما يبرز من عنصر القدرة، فتارة يبرز معه ما يوجب الخوف، وتارة ما يوجب الرجاء، وتارة ما يوجب الرضا والتسليم، وتارة ما يوجب التوكل، وهكذا يتلون مع كل مقام ويقوم بحقة، ولا يقف مع مقام ولا مع حال، لأنه خليفة الله في أرضه، وقد قال تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ «١»، وهذا هو التلوين بعد التمكين. والله تعالى أعلم.
ثم استثنى من تلك المحرمات حالة المضطر، فقال:
... فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال البيضاوي: هو متصل بذكر المحرمات، وما بينهما اعتراض مما يوجب التجنب عنها، وهو أن تناولها فسوق، وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المرضي. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: فَمَنِ اضْطُرَّ إلى تناول شيء من هذه المحرمات فِي مَخْمَصَةٍ أي: مجاعة، حال كونه غَيْرَ مُتَجانِفٍ أي: مائل للإثم وقاصد له، بأن يأكلها تلذذًا أو متجاوزًا حد الرخصة، قيل: هو سد الرمق، وقال ابن أبي زيد: يأكل منها ويتزود، فإن استغنى عنها طرحها. هـ. فإن تناولها للضرورة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ له رَحِيمٌ به حيث أباحها له في تلك الحالة.
الإشارة: قال بعض الحكماء: الدنيا كلها كالميتة، لا يحل منها للذاكر إلا قدر الضرورة أكلاً وشربًا، وملبسًا ومركبًا، حتى يتحقق له الوصول، فما بقي لأحد حينئٍذ ما يقول، وعلامة الوصول: هو الاكتفاء بالله دون الاحتياج لشيء سواه، إن افتقر اغتنى في فقره، وإن ذل عز في ذله، وإن فقد وجد في فقده، وهكذا في تقلبات الأحوال لا يتضعضع ولا يتزلزل، ولو سقطت السماء على الأرض. والله تعالى أعلم.
ولما ذكر ما حرّم عليهم ذكر ما أحل لهم، فقال:
والوصول هو التمكين فيما ذكرنا، فإذا حصل على كمال المعرفة، ووقف على عرفة المعارف، فقد كمل دينه واستقام أمره، وظهرت أنواره، وتحققت أسراره، وما بقي إلا الترقي في الأسرار أبدًا سرمدًا، والسير في المقامات كسير الشمس في المنازل، ينتقل فيها من مقام إلى مقام، بحسب ما يبرز من عنصر القدرة، فتارة يبرز معه ما يوجب الخوف، وتارة ما يوجب الرجاء، وتارة ما يوجب الرضا والتسليم، وتارة ما يوجب التوكل، وهكذا يتلون مع كل مقام ويقوم بحقة، ولا يقف مع مقام ولا مع حال، لأنه خليفة الله في أرضه، وقد قال تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ «١»، وهذا هو التلوين بعد التمكين. والله تعالى أعلم.
ثم استثنى من تلك المحرمات حالة المضطر، فقال:
... فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال البيضاوي: هو متصل بذكر المحرمات، وما بينهما اعتراض مما يوجب التجنب عنها، وهو أن تناولها فسوق، وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المرضي. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: فَمَنِ اضْطُرَّ إلى تناول شيء من هذه المحرمات فِي مَخْمَصَةٍ أي: مجاعة، حال كونه غَيْرَ مُتَجانِفٍ أي: مائل للإثم وقاصد له، بأن يأكلها تلذذًا أو متجاوزًا حد الرخصة، قيل: هو سد الرمق، وقال ابن أبي زيد: يأكل منها ويتزود، فإن استغنى عنها طرحها. هـ. فإن تناولها للضرورة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ له رَحِيمٌ به حيث أباحها له في تلك الحالة.
الإشارة: قال بعض الحكماء: الدنيا كلها كالميتة، لا يحل منها للذاكر إلا قدر الضرورة أكلاً وشربًا، وملبسًا ومركبًا، حتى يتحقق له الوصول، فما بقي لأحد حينئٍذ ما يقول، وعلامة الوصول: هو الاكتفاء بالله دون الاحتياج لشيء سواه، إن افتقر اغتنى في فقره، وإن ذل عز في ذله، وإن فقد وجد في فقده، وهكذا في تقلبات الأحوال لا يتضعضع ولا يتزلزل، ولو سقطت السماء على الأرض. والله تعالى أعلم.
ولما ذكر ما حرّم عليهم ذكر ما أحل لهم، فقال:
(١) من الآية/ ٢٩ من سورة الرحمن.
8
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤ الى ٥]
يَسْئَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)قلت: لم يقل ماذا أحل لنا لأن «يسألونك» بلفظ الغيبة، وكلا الوجهين شائع في أمثاله. قاله البيضاوي.
يقول الحق جلّ جلاله: يَسْئَلُونَكَ يا محمد عن الذي أُحِلَّ لَهُمْ من المآكل، بعد الذي حرم عليهم من الخبائث، فقل لهم. أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وهو عند مالك: ما لم يدل دليل على تحريمه من كتاب ولا سنة، وعند الشافعي: ما يستلذه الطبع السليم ولم يفّر عنه، فحرم الخنافس وشبهها، وَأحل لكم صيد ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ أي: الكواسب، وهي الكلاب ونحوها، مما يصطاد به ويكسب الصيد على أهله، من سباع وذوات أربع، وطير، ونحوها، حال كونكم مُكَلِّبِينَ أي: معلمين لها الاصطياد، أي: مؤدبين لها، تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من الحيل وصدق التأديب، فإن العلم بها إلهام من الله، أو مكتسب بالعقل الذي هو منحة من الله لابن آدم.
وحد التعليم عند ابن القاسم: أن يفهم الجارح الإشلاء والزجر، وقيل: الإشلاء أي: التسلط- فقط، وقيل: الزجر فقط، وقيل: أن يجيب إذا دُعي.
فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ولم يأكل منه، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «وإن أكَلَ، فلاَ تَأكُل فَإنَّما أمسكَ عَلَى نَفسِه» «١».
وهو مذهب الشافعي، وقال مالك: يؤكل مطلقًا لما في بعض الأحاديث: «وإن أكلَ فكُل» «٢»، وقال بعضهم: لا يشترط ذلك في سَباع الطير لأن تأديبها إلى هذا الحد متعذر.
وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أي: على ما علمتم عند إرساله، ولو لم ير المرسل عليه، وكذا عند الرمي بالمحدد ونحوه، فإن سمي على شيء مُعين ووجد غيره لم يؤكل، أو التبس مع غيره، وإن سمي على ما وجد أكل الجميع، ولا بد من نية الذكاة عند الإرسال أو الرمي، واختلف في حكم التسمية، فقال الظاهرية: أنها واجبة مطلقًا، فإن تركت عمدًا أو سهوًا لم تؤكل عندهم، وقال الشافعي: مستحبة، حملاً للأمر على الندب، فإن تركت عمدًا أو سهوًا أكلت عنده.
(١) بعض حديث أخرجه البخاري في (الذبائح والصيد، باب إذا أكل الكلب) ومسلم فى (الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة) من حديث عدى بن حاتم.
(٢) أخرجه ابو داود فى (الصيد، باب فى الصيد) عن أبى ثعلبه الخشني.
وفى التوفيق بين الحديثين قال الخطابي فى معالم السنن: يجعل حديث أبى ثعلبه أصلا فى الإباحة، وأن يكون النهى فى حديث عدى على معنى التنزيه دون التحريم. ويحتمل أن يكون الأصل فى ذلك: حديث عدى بن حاتم، ويكون النهى على التحريم البات، ويكون المراد بقوله: وإن أكل، فيما مضى من الزمان وتقدم منه، لا فى هذه الحال، فكأنه قال: كل منه وإن كان قد أكل فيما تقدم، إذا لم يكن قد أكل فى هذه الحالة. انظر معالم السنن على هامش سنن أبى داود ٣/ ٢٧٢، وانظر أيضا: فتح الباري ٩/ ٤٩٤.
(٢) أخرجه ابو داود فى (الصيد، باب فى الصيد) عن أبى ثعلبه الخشني.
وفى التوفيق بين الحديثين قال الخطابي فى معالم السنن: يجعل حديث أبى ثعلبه أصلا فى الإباحة، وأن يكون النهى فى حديث عدى على معنى التنزيه دون التحريم. ويحتمل أن يكون الأصل فى ذلك: حديث عدى بن حاتم، ويكون النهى على التحريم البات، ويكون المراد بقوله: وإن أكل، فيما مضى من الزمان وتقدم منه، لا فى هذه الحال، فكأنه قال: كل منه وإن كان قد أكل فيما تقدم، إذا لم يكن قد أكل فى هذه الحالة. انظر معالم السنن على هامش سنن أبى داود ٣/ ٢٧٢، وانظر أيضا: فتح الباري ٩/ ٤٩٤.
9
وجعل بعضُهم الضمير في عَلَيْهِ، عائدًا على الأكل، فليس فيها على هذا أمر بالتسمية على الصيد، ومذهب مالك: أنه إن تركت التسمية عمدًا لم تؤكل، وإن تركت سهوًا أكلت، فهي عنده واجبة بالذكر ساقطة بالنسيان، وهذا الخلاف جار في الذكاة كلها.
وَاتَّقُوا اللَّهَ في اجتناب محرماته، إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ، فيؤاخذكم على ما جلّ ودق.
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ فيتناول الذبائح وغيرها، ويعم أهل الكتاب اليهود والنصارى، واستثنى عليٌّ- كرم الله وجهه- نصارى بني تغلب، وقال: (ليسوا على النصرانية، ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر). ولا يلحق بهم المجوس في ذلك، وإن ألحقوا بهم فى الجزية، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «سنوا بهم سنة أهل الكِتاب، غير ألا تنكحوا نساءهم، ولا تأكلوا ذبائحهم» «١» وكذلك المرتد مطلقًا لا تؤكل ذكاته.
قال ابن جزي: وأمَّا الطعام، فهو على ثلاثة أقسام: أحدها: الذبائح، وقد اتفق العلماء على أنها مرادة في الآية، فأجازوا أكل ذبائح اليهود والنصارى، واختلفوا فيما هو محرم عليهم في دينهم، على ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع، والكراهة، وهو مبني على: هل هو من طعامهم أم لا؟ فإن أريد بطعامهم ما ذبحوه، جازت، وإن أريد ما يحل لهم، مُنع، والكراهة توسط بين القولين. الثاني: ما لا محاولة لهم فيه، كالقمح والفاكهة، فهو جائز لنا اتفاقًا. والثالث: ما فيه محاولة كالخبز وتعصير الزيت وعقد الجبن، وشبه ذلك مما يمكن استعمال النجاسة فيه، فمنعه ابن عباس لأنه رأى أن طعامهم هو الذبائح خاصة، وأجازه الجمهور، لأنه رأوه داخلاً في طعامهم، وهذا إذا كان استعمال النجاسة فيه محتملاً، أما إذا تحققنا استعمال النجاسة فيه كالخمر والخنزير والميتة، فلا يجوز أصلاً، وقد صنف الطرطوشي في تحريم جبن النصارى، وقال: إنه يُنجس البائع والمشتري والآلة لأنهم يعقدونه على أنفحه الميتة. هـ.
وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ، فلا بأس أن تُطعموهم من طعامكم، وتبيعوه لهم، وأما ما حرم عليهم، فلا يجوز بيعه منهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يسألونك أيها العارف الرباني ماذا أحل للفقراء من الأعمال والأحوال، قل لهم: أحل لكم الطيبات، أي: الخالص من الأعمال، والصافي من الأحوال، والتلذذ بحلاوة المشاهدة والمكالمة، وما اصطادت لكم أنفسكم من العلوم اللدنية والأسرار القدسية، بقدر تزكيتها وتربيتها، فكلوا مما أمسكن عليكم، أي: تمتعوا بما أتت به لكم من
وَاتَّقُوا اللَّهَ في اجتناب محرماته، إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ، فيؤاخذكم على ما جلّ ودق.
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ فيتناول الذبائح وغيرها، ويعم أهل الكتاب اليهود والنصارى، واستثنى عليٌّ- كرم الله وجهه- نصارى بني تغلب، وقال: (ليسوا على النصرانية، ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر). ولا يلحق بهم المجوس في ذلك، وإن ألحقوا بهم فى الجزية، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «سنوا بهم سنة أهل الكِتاب، غير ألا تنكحوا نساءهم، ولا تأكلوا ذبائحهم» «١» وكذلك المرتد مطلقًا لا تؤكل ذكاته.
قال ابن جزي: وأمَّا الطعام، فهو على ثلاثة أقسام: أحدها: الذبائح، وقد اتفق العلماء على أنها مرادة في الآية، فأجازوا أكل ذبائح اليهود والنصارى، واختلفوا فيما هو محرم عليهم في دينهم، على ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع، والكراهة، وهو مبني على: هل هو من طعامهم أم لا؟ فإن أريد بطعامهم ما ذبحوه، جازت، وإن أريد ما يحل لهم، مُنع، والكراهة توسط بين القولين. الثاني: ما لا محاولة لهم فيه، كالقمح والفاكهة، فهو جائز لنا اتفاقًا. والثالث: ما فيه محاولة كالخبز وتعصير الزيت وعقد الجبن، وشبه ذلك مما يمكن استعمال النجاسة فيه، فمنعه ابن عباس لأنه رأى أن طعامهم هو الذبائح خاصة، وأجازه الجمهور، لأنه رأوه داخلاً في طعامهم، وهذا إذا كان استعمال النجاسة فيه محتملاً، أما إذا تحققنا استعمال النجاسة فيه كالخمر والخنزير والميتة، فلا يجوز أصلاً، وقد صنف الطرطوشي في تحريم جبن النصارى، وقال: إنه يُنجس البائع والمشتري والآلة لأنهم يعقدونه على أنفحه الميتة. هـ.
وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ، فلا بأس أن تُطعموهم من طعامكم، وتبيعوه لهم، وأما ما حرم عليهم، فلا يجوز بيعه منهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يسألونك أيها العارف الرباني ماذا أحل للفقراء من الأعمال والأحوال، قل لهم: أحل لكم الطيبات، أي: الخالص من الأعمال، والصافي من الأحوال، والتلذذ بحلاوة المشاهدة والمكالمة، وما اصطادت لكم أنفسكم من العلوم اللدنية والأسرار القدسية، بقدر تزكيتها وتربيتها، فكلوا مما أمسكن عليكم، أي: تمتعوا بما أتت به لكم من
(١) أخرجه مالك فى الموطأ (الزكاة، باب جزية أهل الكتاب والمجوس) من حديث عبد الرحمن بن عوف، بدون ذكر: (غير ألا تنكحوا نساءهم ولا تأكلوا ذبائحهم) وجاءت هذه العبارة بنحوها فى حديث أخرجه عبد الرزاق فى المصنف (٦/ ٦٩ ح ١٠٠٢٨) والبيهقي فى الكبرى (٩/ ١٩٢) عن الحسن بن محمد بن على قال: (كتب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام، فمن أسلم قبل، ومن أصر ضربت عليهم الجزية، على أن لا تؤكل لهم ذبيحة، ولا ينكح لهم امرأة).
10
أبكار الحِكَم وعرائس الحقائق، فإن أتت بشىء من علوم الحس، فاذكروا اسم الله عليه ينقلب معاني، واتقوا الله أن تقفوا مع شيء سواه، (إن الله سريع الحساب) فيحاسبكم على الخواطر والطوارق إن لم تعرفوا فيها. اليوم أحل لكم الطيبات، أي: حين دخلتم بلاد المعاني ورسختم فيها، أحل لكم التمتع بالمشاهدات والمناجاة، وطعام العلوم الظاهرة حِلٌّ لكم تتوسعون بها، وطعامكم حل لهم، أي: وتذكيركم بما يقدرون عليه حِلٌّ لهم لأن العارف الكامل يُسير كل واحد على سيره، ويتلون معه بلونه، يُقره في بلده ويحوشه إلى ربه. نفعنا الله بذكره. آمين.
ثم تكلم على ما بقي من حفظ الأنساب، وهو جواز نكاح الكتابية إذ لم يتكلم عليه في سورة النساء، فقال:
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ يقول الحق جلّ جلاله: وأحل لكم الْمُحْصَناتُ أي: الحرائر مِنَ الْمُؤْمِناتِ دون الإماء، إلا لخوف العنت، أو العفيفات دون البغايا، فإن نكاحها مكروه، وَأحل لكم الْمُحْصَناتُ أي: الحرائر مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، فأحل الله نكاح اليهودية والنصرانية الحُرتين دون إمائهم، إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ
أي:
أعطيتموهن مهورهن. فلا يجوز نكاح الكتابية إلا بصداق شرعي. حال كونكم مُحْصِنِينَ، أي: متعففين عن الزنى بنكاحها، غَيْرَ مُسافِحِينَ أي: مجاهرين بالزنى، وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ أي: أصحاب تُسرون معهن بالزنى، والخدن: الصاحب، يقع على الذكر والأنثى. والمعنى: أحللنا لكم نكاح الكتابيات، توسعة عليكم لتتعففوا عن الزنى سرًّا وجهرًا.
ولما نزل إباحة الكتابيات قال بعض الناس: كيف أتزوج من ليس على ديني؟ فأنزل الله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أي: بشرائع الإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ، ومن الكفر به إنكاره والامتناع منه.
الإشارة: قد تقدم أن علوم الحقائق أبكار، لأنها عرائس مخدّرة، مهرها النفوس، وما سواها من العلوم ثيبات وإماء لرخص مهرها، فإذا اتصل العارف بعلوم الحقائق ورسخ فيها أحل له أن ينكح المحصنات من علوم الطريقة- وهى مبادئ التصوف، أي: التفنن فيها مع أهلها على وجه التركيز أو التعليم، والمحصنات من علوم الشريعة إذا أعطاها مهرها من الإخلاص وقصد التوسع بها وتعليمها لأهلها، وهذه العلوم كلها مشروعة، والمشتغل بها متوجه إلى الله تعالى، قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ، فمن كفر بها فقد حبط عمله، وهو عند الله من الخاسرين.
ثم تكلم على ما بقي من حفظ الأنساب، وهو جواز نكاح الكتابية إذ لم يتكلم عليه في سورة النساء، فقال:
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ يقول الحق جلّ جلاله: وأحل لكم الْمُحْصَناتُ أي: الحرائر مِنَ الْمُؤْمِناتِ دون الإماء، إلا لخوف العنت، أو العفيفات دون البغايا، فإن نكاحها مكروه، وَأحل لكم الْمُحْصَناتُ أي: الحرائر مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، فأحل الله نكاح اليهودية والنصرانية الحُرتين دون إمائهم، إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ
أي:
أعطيتموهن مهورهن. فلا يجوز نكاح الكتابية إلا بصداق شرعي. حال كونكم مُحْصِنِينَ، أي: متعففين عن الزنى بنكاحها، غَيْرَ مُسافِحِينَ أي: مجاهرين بالزنى، وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ أي: أصحاب تُسرون معهن بالزنى، والخدن: الصاحب، يقع على الذكر والأنثى. والمعنى: أحللنا لكم نكاح الكتابيات، توسعة عليكم لتتعففوا عن الزنى سرًّا وجهرًا.
ولما نزل إباحة الكتابيات قال بعض الناس: كيف أتزوج من ليس على ديني؟ فأنزل الله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أي: بشرائع الإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ، ومن الكفر به إنكاره والامتناع منه.
الإشارة: قد تقدم أن علوم الحقائق أبكار، لأنها عرائس مخدّرة، مهرها النفوس، وما سواها من العلوم ثيبات وإماء لرخص مهرها، فإذا اتصل العارف بعلوم الحقائق ورسخ فيها أحل له أن ينكح المحصنات من علوم الطريقة- وهى مبادئ التصوف، أي: التفنن فيها مع أهلها على وجه التركيز أو التعليم، والمحصنات من علوم الشريعة إذا أعطاها مهرها من الإخلاص وقصد التوسع بها وتعليمها لأهلها، وهذه العلوم كلها مشروعة، والمشتغل بها متوجه إلى الله تعالى، قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ، فمن كفر بها فقد حبط عمله، وهو عند الله من الخاسرين.
11
ثم تكلم على ما بقي من حفظ الأديان، وهو الوضوء إذ لم يتكلم عليه فى النساء، فقال:
[سورة المائدة (٥) : آية ٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)
قلت: إِذا قُمْتُمْ: أردتم القيام، كقوله: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ «١»، حذف الإرادة للإيجاز، وللتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها، بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة، وقوله: بِرُؤُسِكُمْ الباء للإلصاق، تقول: أمسكتُ بثوب زيد، أي: ألصقت يدي به، أي: ألصقوا المسح برؤوسكم، أو للتبعيض، وهذا سبب الخلاف في مسحه كله أو بعضه، فقال مالك: واجب كله، وقال الشافعي: أقل ما يقع عليه اسم الرأس، ولو قلّ. وقال أبو حنيفة: الربع.
وَأَرْجُلَكُمْ، مَن نَصَبَ عطف على الوجه، ومن خفض فعلى الجوار، وفائدته: التنبيه على قلة صبَّ الماء، حتى يكون غسلاً يقرب من المسح. قاله البيضاوي. ورده في المُغني فقال: الجوار يكون في النعت قليلاً، وفي التوكيد نادرًا، ولا يكون في النسق لأن العاطف يمنع من التجاور، وقال الزمخشري: لمّا كانت الأرجل بين الأعضاء الثلاثة مغسولات، تغسل بصب الماء عليها، كان مظنة الإسراف المذموم شرعًا، فعطف على الممسوح لا لتمسح، ولكن لينبه على وجوب الاقتصار في صب الماء عليها، وجيء فيهما بالغاية إماطة لظن من يظن أنها ممسوحة لأن المسح لم يضرب له غاية في الشريعة. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا أردتم القيام إِلَى الصَّلاةِ، وأنتم محدثون فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ من منابت شعر الرأس المعتاد إلى الذقن، ومن الأذن إلى الأذن، وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ أي: معها، وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ أي: جميعها أو بعضها على الخلاف، وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ العظمين الناتئين في مفصلي الساقين، فهذه أربعة فرائض، وبقيت النية لقوله: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ «٢»، ولقوله
[سورة المائدة (٥) : آية ٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)
قلت: إِذا قُمْتُمْ: أردتم القيام، كقوله: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ «١»، حذف الإرادة للإيجاز، وللتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها، بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة، وقوله: بِرُؤُسِكُمْ الباء للإلصاق، تقول: أمسكتُ بثوب زيد، أي: ألصقت يدي به، أي: ألصقوا المسح برؤوسكم، أو للتبعيض، وهذا سبب الخلاف في مسحه كله أو بعضه، فقال مالك: واجب كله، وقال الشافعي: أقل ما يقع عليه اسم الرأس، ولو قلّ. وقال أبو حنيفة: الربع.
وَأَرْجُلَكُمْ، مَن نَصَبَ عطف على الوجه، ومن خفض فعلى الجوار، وفائدته: التنبيه على قلة صبَّ الماء، حتى يكون غسلاً يقرب من المسح. قاله البيضاوي. ورده في المُغني فقال: الجوار يكون في النعت قليلاً، وفي التوكيد نادرًا، ولا يكون في النسق لأن العاطف يمنع من التجاور، وقال الزمخشري: لمّا كانت الأرجل بين الأعضاء الثلاثة مغسولات، تغسل بصب الماء عليها، كان مظنة الإسراف المذموم شرعًا، فعطف على الممسوح لا لتمسح، ولكن لينبه على وجوب الاقتصار في صب الماء عليها، وجيء فيهما بالغاية إماطة لظن من يظن أنها ممسوحة لأن المسح لم يضرب له غاية في الشريعة. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا أردتم القيام إِلَى الصَّلاةِ، وأنتم محدثون فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ من منابت شعر الرأس المعتاد إلى الذقن، ومن الأذن إلى الأذن، وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ أي: معها، وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ أي: جميعها أو بعضها على الخلاف، وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ العظمين الناتئين في مفصلي الساقين، فهذه أربعة فرائض، وبقيت النية لقوله: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ «٢»، ولقوله
(١) من الآية: ٩٨ من سورة النحل.
(٢) من الآية: ٥ من سورة البينة. [.....]
(٢) من الآية: ٥ من سورة البينة. [.....]
12
عليه الصلاة السّلام-: «إنما الأعمال بالنيات». والدلك إذًا لا يسمى غسلاً إلا به، وإلا كان غمسًا، والفور لأن العبادة إذا لم تتصل كانت عبثًا. ولمّا عطفت بالواو، وهي لا ترتب، علمنا أن الترتيب سنة.
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى لم تقدروا على الماء أَوْ عَلى سَفَرٍ ولم تجدوه، أو فى الحضر وجاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ بالجماع أو غيره فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ أي: جميعه وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ، وقيد الحضر بفقد الماء دون السفر لأن السفر مظنة إعوازه، فالآية نص في تيمم الحاضر الصحيح للصلوات كلها. قال البيضاوي: وإنما كرره، - يعني مع ما في النساء- ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة. هـ.
ثم قال تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ حتى يكلفكم بالطهارة في المرض أو الفقد من غير انتقال للتيمم، وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ أي: ينظفكم بالماء أو بدله، أو يطهركم من الذنوب، فإن الذنوب تذهب مع صب الماء في كل عضو، كما في الحديث، وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بشرعه، ما هو مَطهَرَةٌ لأبدانكم، ومكفرة لذنوبكم، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمه فيزيدكم من فضله.
الإشارة: كما أمر الحق جلّ جلاله بتطهير الظاهر لدخول حضرة الصلاة، التي هل محل المناجاة ومعدن المصافاة، أمر أيضًا بتطهير الباطن من لوث السهو والغفلات، فمن طهر ظاهره من الأوساخ والنجاسات، ولوّث باطنه بالوساوس والغفلات، كان بعيدًا من حضرة الصلاة إذ لا عبرة بحركة الأبدان، وإنما المطلوب حضور الجنان.
قال القشيري: وكما أن للظاهر طهارةً فللسرائر طهارة، فطهارة الظاهر بماء السماء، أي: المطر، وطهارة القلوب بماء الندم والخجل، ثم بماء الحياء والوجل، ويجب غسلُ الوجه عند القيام إلى الصلاة، ويجب- في بيان الإشارة- صيانة الوجه عن التبذل للأشكال عند طلب خسائس الأغراض، وكما يجب مسحُ الرأس، يجب صونه عن التواضع لكل أحد- أي: في طلب الحظوظ والأغراض- وكما يجب غسل الرجلين في الطهارة الظاهرة، يجب صونها- في الطهارة الباطنة- عن التنقل فيما لا يجوز هـ.
وقال عند قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا: وكما يجب طهارة الأعلى، أي: الظاهر، فيقتضي غسل جميع البدن، فقد يقع للمريد فترة- توجب عليه الاستقصاء في الطهارة الباطنية- فذلك تجديد عقد وتأكيد عهد، وكما أنه إذا لم يجد المتطهر الماء ففرضه التيمم، فكذلك إذا لم يجد المريد مَن يفيض عليه صَوبَ همته، ويغسله ببركات إشارته، اشتغل بما يُنشر له من اقتفاء آثارهم، والاسترواح إلى ما يجد من سالف سيرتهم، ومأثور حكايتهم. هـ.
قلت: محصل كلامه أن من سقط على شيخ التربية، كان كمن وجد الماء فاستعمل الطهارة الأصلية الحقيقية، ومن لم يسقط على شيخ التربية، كان كالمستعمل للطهارة الفرعية المجازية وهي التيمم، وإلى ذلك أشار الغزالي، لما سقط على الشيخ، ولامه ابن العربي الفقيه على التجريد، فقال:
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى لم تقدروا على الماء أَوْ عَلى سَفَرٍ ولم تجدوه، أو فى الحضر وجاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ بالجماع أو غيره فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ أي: جميعه وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ، وقيد الحضر بفقد الماء دون السفر لأن السفر مظنة إعوازه، فالآية نص في تيمم الحاضر الصحيح للصلوات كلها. قال البيضاوي: وإنما كرره، - يعني مع ما في النساء- ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة. هـ.
ثم قال تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ حتى يكلفكم بالطهارة في المرض أو الفقد من غير انتقال للتيمم، وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ أي: ينظفكم بالماء أو بدله، أو يطهركم من الذنوب، فإن الذنوب تذهب مع صب الماء في كل عضو، كما في الحديث، وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بشرعه، ما هو مَطهَرَةٌ لأبدانكم، ومكفرة لذنوبكم، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمه فيزيدكم من فضله.
الإشارة: كما أمر الحق جلّ جلاله بتطهير الظاهر لدخول حضرة الصلاة، التي هل محل المناجاة ومعدن المصافاة، أمر أيضًا بتطهير الباطن من لوث السهو والغفلات، فمن طهر ظاهره من الأوساخ والنجاسات، ولوّث باطنه بالوساوس والغفلات، كان بعيدًا من حضرة الصلاة إذ لا عبرة بحركة الأبدان، وإنما المطلوب حضور الجنان.
قال القشيري: وكما أن للظاهر طهارةً فللسرائر طهارة، فطهارة الظاهر بماء السماء، أي: المطر، وطهارة القلوب بماء الندم والخجل، ثم بماء الحياء والوجل، ويجب غسلُ الوجه عند القيام إلى الصلاة، ويجب- في بيان الإشارة- صيانة الوجه عن التبذل للأشكال عند طلب خسائس الأغراض، وكما يجب مسحُ الرأس، يجب صونه عن التواضع لكل أحد- أي: في طلب الحظوظ والأغراض- وكما يجب غسل الرجلين في الطهارة الظاهرة، يجب صونها- في الطهارة الباطنة- عن التنقل فيما لا يجوز هـ.
وقال عند قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا: وكما يجب طهارة الأعلى، أي: الظاهر، فيقتضي غسل جميع البدن، فقد يقع للمريد فترة- توجب عليه الاستقصاء في الطهارة الباطنية- فذلك تجديد عقد وتأكيد عهد، وكما أنه إذا لم يجد المتطهر الماء ففرضه التيمم، فكذلك إذا لم يجد المريد مَن يفيض عليه صَوبَ همته، ويغسله ببركات إشارته، اشتغل بما يُنشر له من اقتفاء آثارهم، والاسترواح إلى ما يجد من سالف سيرتهم، ومأثور حكايتهم. هـ.
قلت: محصل كلامه أن من سقط على شيخ التربية، كان كمن وجد الماء فاستعمل الطهارة الأصلية الحقيقية، ومن لم يسقط على شيخ التربية، كان كالمستعمل للطهارة الفرعية المجازية وهي التيمم، وإلى ذلك أشار الغزالي، لما سقط على الشيخ، ولامه ابن العربي الفقيه على التجريد، فقال: