﴿ الحمد للَّهِ ﴾ : الحمد هو الثناء بالجميل على جهة التعظيم والتبجيل.
قال القرطبي : الحمد في كلام العرب معناه : الثناء الكامل، والألف واللام لاستغراق الجنس، فهو - سبحانه - يستحق الحمد بأجمعه، والثناء المطلق. والحمد نقيض الذم. وهو أعم من الشكر، لأن الشكر يكون مقابل النعمة بخلاف الحمد، تقول : حمدت الرجل على شجاعته، وعلى علمه، وتقول : شكرته على إحسانه. والحمد يكون باللسان، وأمّا الشكر فيكون بالقلب، واللسان، والجوارح. قال الشاعر :
أفادتكم النعماء منّي ثلاثة... يدي ولساني والضمير المحجبّا
وذهب الطبري : إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد سواء، لأنك تقول : الحمد لله شكراً.
قال القرطبي : وما ذهب إليه الطبري ليس بمرضي، لأن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان، والشكرُ ثناءٌ على الممدوح بما أولى من الإحسان، وعلى هذا يكون ﴿ الحمد ﴾ أعمّ من الشكر.
﴿ رَبِّ العالمين ﴾ : الربّ في اللغة : مصد بمعنى التربية، وهي إصلاح شؤون الغير، ورعاية أمره، قال الهروي : يقال لمن أقام بإصلاح شيء وإتمامه : قد ربّه، ومنه سميّ ( الربانيون ) لقيامهم بالكتب.
وفي « الصحّاح » : ربّ فلانٌ ولده يربّه تربية أي ربّاه، والمربون : جمع المربّي.
والرّب : مشتقٌ من التربية، فهو سبحانه وتعالى مدبّر لخلقه ومربيّهم، ويطلق الربّ على معان وهي :( المَالك، والمصلح، والمعبود، والسيّد المطاع ) تقول : هذا ربّ الإبل، وربّ الدار، أي مالكها، ولا يقال في غير الله إلا بالإضافة، ففي الحديث الشريف :« لا يقل أحدُكم : أطعمْ ربّك، وضّيْء ربّك، ولا يقل أحدكم ربيّ، وليقل سيّديّ ومولاي ».
والربّ : المعبود، ومنه قول الشاعر :
أربّ يبول الثّعلبان برأسه... لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب
والربّ : السيّد المطاع، ومنه قوله تعالى :﴿ فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً ﴾ [ يوسف : ٤١ ] أي سيّده.
والربّ : المصلح، ومنه قول الشاعر :
يربّ الذي يأتي من الخير إنّه... إذا سئل المعروف زاد وتممّاً
﴿ العالمين ﴾ : جمع عالَم، والعالم : اسم جنس لا واحد له من لفظه كالرهط والأنام.
قال أبو السعود : العالَم : اسم لما يعلم به كالخاتم والقالب، غلب فيما يعلم به الصانع تبارك وتعالى من المصنوعات.
قال ابن الجوزي : العالم عند أهل العربية : اسم للخلق من مبدئهم إلى منتهاهم، فأمّا أهل النظر، فالعالَم عندهم : اسمٌ يقع على الكون الكلّي المُحْدَث من فلَك، وسماءٍ، وأرضٍ وما بين ذلك وفي اشتقاق العالَم قولان :
أحدهما : أنه من العلم، وهو يقوّي قول أهل اللغة.
والثاني : أنه من العلامة، وهو يقوّي قول أهل النظر.
فكلُ ما في هذا الكون دالّ على وجود الصانع، المدبّر، الحكيم كما قال الشاعر :
فيا عجباً كيف يُعْصى الإله... أم كيف يَجْحده الجاحد؟
ولله في كل تحريكة... وتسكينةٍ أبداً شاهد
وفي كل شيء له آية... تدلّ على أنّه واحد
قال ابن عباس :( ربّ العالمين أي ربّ الإنس، والجنّ، والملائكة ).
وقال بعض العلماء : كلّ صنف من أصناف الخلائق عالمٌ، فالإنس عالم، والجنّ عالم، والملائكة عالم، والطير عالم، والنبات عالم، والجماد عالم.. الخ فقيل : ربّ العالمين ليشمل جميع هذه الأصناف من العوالم.
﴿ الرحمن الرحيم ﴾ : اسمان من أسمائه تعالى مشتقان من الرحمة، ومعنى ﴿ الرحمن ﴾ : المنعم بجلائل النعم، ومعنى ﴿ الرحيم ﴾ : المنعم بدقائقها.
ولفظ ﴿ الرحمن ﴾ مبنيّ على المبالغة، ومعناه : ذو الرحمة التي لا نظير له فيها، لأن بناء ( فعلان ) في كلامهم للمبالغة، فإنهم يقولون للشديد الامتلاء : ملآن، وللشديد الشبَع : شبعان.
قال الخطّابي : ف ﴿ الرحمن ﴾ ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم، وعمّت المؤمن والكافر.
و ﴿ الرحيم ﴾ خاص للمؤمنين كما قال تعالى :﴿ وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً ﴾ [ الأحزاب : ٤٣ ].
ولا يجوز إطلاق اسم ( الرحمن ) على غير الله تعالى لأنه مختص به جلّ وعلا، بخلاف الرحيم فإنه يطلق على المخلوق أيضاً قال تعالى :﴿ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ] قال القرطبي :« وأكثرُ العلماء على أن الرحمن مختصّ بالله تعالى، لا يجوز أن يسمّى به غيره، ألا تراه قال :﴿ قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن ﴾ [ الإسراء : ١١٠ ] فعادَل الاسم الذي لا يَشْركه فيه غيره :﴿ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ ﴾ [ الزخرف : ٤٥ ] فأخبر الرحمن هو المستحق للعبادة جلّ وعزّ، وقد تجاسر ( مسيلمة الكذاب ) لعنه الله فتسمى ب ( رحمان اليمامة ) ولم يتسمّ به حتى قرع مسامَعه نعت الكذّاب، فألزمه الله ذلك حتى صار هذا الوصف لمسيلمة عَلَماً يُعرف به ».
﴿ يَوْمِ الدين ﴾ : يوم الجزاء والحساب، أي أنه سبحانه المتصرّف في يوم الدين، تصرّف المالك في ملكه، والدينُ في اللغة : الجزاءُ، ومنه قوله عليه السلام :« إفعل ما شئت كما تدين تدان » أي كما تفعل تجزى.
قال في « اللسان » : والدينُ : الجزاء والمكافأة، ويومُ الدين : يوم الجزاء، وقوله تعالى :﴿ أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ [ الصافات : ٥٣ ] أي مجزيّون محاسبون، ومنه الديّان في صفة الله تعالى قال لبيد :
حصادك يوماً ما زرعت وإنما | يُدان الفتى يوماً كما هو دائن |
قال الزمخشري : العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل، ومنه ثوبٌ ذو عَبَدة إذا كان في غاية الصفاقة وقوة النسج، ولذلك لم تستعمل إلاّ في الخضوع لله تعالى، لأنه مولى أعظم النعم. فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع.
والمعنى : لك اللهمّ نذل ونخضع ونخصك بالعبادة لأنك المستحق لكل تعظيم وإجلال، ولا نعبد أحداً سواك.
﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ : الاستعانة : طلب العون، قال الفراء : أعنتهُ إعانةً، واستعنتهُ واستعنت به، وفي الدعاء : ربّ أعنّي ولا تُعِنْ عليّ، ورجل معوان : كثير الإعانة للناس، وفي حديث ابن عباس :( إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله )
والمعنى : إيّاك ربنا نستعين على طاعتك وعبادتك في أمورنا كلها، فلا يملك القدرة على عوننا أحد سواك، وإذا كان من يكفر بك يستعين بسواك، فنحن لا نستعين إلا بك.
والهداية في اللغة : تأتي بمعنى الدلالة كقوله تعالى :﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى ﴾ [ فصلت : ١٧ ] وتأتي بمعنى الإرشاد وتمكين الإيمان في القلب كما قال تعالى :﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ... ﴾ [ القصص : ٥٦ ].
فالرسول ﷺ هادٍ بمعنى أنه دالّ على الله ﴿ وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ الشورى : ٥٢ ] ولكنه لا يضع الإيمان في قلب الإنسان. وفعل هدى يتعدى ب ( إلى ) وب ( اللام ) كقوله تعالى :﴿ فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم ﴾ [ الصافات : ٢٣ ] وقوله :﴿ الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا ﴾ [ الأعراف : ٤٣ ] وقد يتعدّى بنفسه كما هنا ﴿ اهدنا الصراط ﴾.
﴿ الصراط المستقيم ﴾ : الصّراط : الطريقُ، وأصله بالسين ( السّراط ) من الاستراط بمعنى الابتلاع، سميّ بذلك لأنّ الطريق كأنه يبتلع السالك.
قال « الجوهري » : الصّراط، والسّراط، والزّراط : الطريق قال الشاعر :
وأحملهم على وَضِح الصّراط | أي على وضح الطريق. |
شحنّا أرضهم بالخيل حتّى | تركناهم أذلّ من الصراط |
﴿ المستقيم ﴾ : الذي لا عوج فيه ولا انحراف، ومنه قوله تعالى :﴿ وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه... ﴾ [ الأنعام : ١٥٣ ] وكلّ ما ليس فيه اعوجاج يسمّى مستقيماً.
ومعنى الآية : ثبّتنا يا ألله على الإيمان، ووفقنا لصالح الأعمال، واجعلنا ممن سلك طريق الإسلام، الموصل إلى جنّات النعيم.
﴿ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ : النعمةُ : لينُ العيش ورغده، تقولُ : أنعمتُ عينَه أي سررتها، وأنعمتُ عليه بالغتُ في التفضيل عليه، والأصل فيه أن يتعدّى بنفسه، تقول :( أنعمتُه ) أي جعلته صاحب نعمة، إلاّ أنه لمّا ضمنِ معنى التفضل عليه عدّي بعلى ﴿ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾.
قال ابن عباس : هم النبيّون، والصدّيقون، والشهداء، والصالحون، وإلى هذا ذهب جمهور المفسّرين، وانتزعوا ذلك من قوله تعالى :﴿ وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً ﴾ [ النساء : ٦٩ ].
﴿ المغضوب عَلَيْهِم ﴾ : هم اليهود لقوله تعالى فيهم :﴿ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله ﴾ [ آل عمران : ١١٢ ] وقوله تعالى :﴿ مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير... ﴾ [ المائدة : ٦٠ ].
﴿ الضآلين ﴾ : الضلاّل في كلام العرب هو الذهاب عن سَنَن القصد، وطريق الحق، والانحراف عن النهج القويم، ومنه قولهم : ضلّ اللبن في الماء أي غاب، قال تعالى :﴿ وقالوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض... ﴾ [ السجدة : ١٠ ] أي غبنا بالموت فيها وصرنا تراباً، وقال الشاعر :
ألم تسأل فتخبرْك الدّيارُ | عن الحيّ المضلّل أين ساروا |
وقال بعض المفسّرين : الأولى أن يُحمل ﴿ المغضوب عَلَيْهِم ﴾ على كلّ من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفُساق، ويُحمل ﴿ الضالّون ﴾ على كل من أخطأ في الاعتقاد، لأنّ اللفظ عامٌ، والتقييد خلاف الأصل، والمنكرون للصانع والمشركون أخبثُ ديناً من اليهود والنّصارى، فكان الاحتراز عن دينهم أولى، وهذا اختيار الإمام الفخر.
وقد ردّه الألوسي لأن تفسير المغضوب عليهم والضالين ب ( اليهود والنصارى ) جاء في الحديث الصحيح المأثور فلا يُعتد بخلافه.
وقال القرطبي :« جمهور المفسّرين أن المغضوب عليهم اليهود، والضالين النصارى، وجاء ذلك مفسّراً عن النبي ﷺ في حديث ( عديّ بن حاتم ) وقصة إسلامه ».
وقال أبو حيان : وإذا صحّ هذا عن رسول الله ﷺ وجب المصير إليه.
أقول : ما ذكره الفخر الرازي ليس فيه ردّ للمأثور، بل إنّه عمّم الحكم فجعله شاملاً لليهود والنصارى ولجميع من انحراف عن دين الله، وضلّ عن شرعه القويم، حيث يدخل في اللفظ جميع الكفّار والمنافقين، وإليك نصّ كلام الإمام « الفخر ».
قال رحمه الله :« ويحتمل أن يقال المغضوب عليهم هم الكفّار، والضّالون هم المنافقون، وذلك لأنه تعالى بدأ بذكر المؤمنين والثناء عليهم في خمس آياتٍ من أوّل البقرة، ثم أتبعه بذكر الكفار، ثمّ أتبعه بذكر المنافقين، فكذا هنا بدأ بذكر المؤمنين وهو قوله :﴿ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ ثم أعقبه بذكر الكفار وهو قوله ﴿ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم ﴾ ثمّ أتبعه بذكر المنافقين وهو قوله :﴿ وَلاَ الضآلين ﴾.
آمين : كلمة دعاء وليست من القرآن الكريم إجماعاً، بدليل أنها لا تكتب في المصحف الشريف، ومعناها : استجب دعاءنا يا رب.
قال الألوسي : ويُسنّ بعد الختام أن يقول القارئ ( آمين ) لحديث أبي ميسرة » أنّ جبريل أقرأ النبي ﷺ فاتحة الكتاب، فلما قال :﴿ وَلاَ الضآلين ﴾ قال له : قل : آمين فقال آمين «.
قال ابن الأنباري : وأمّا ( آمين ) فدعاء، وليس من القرآن، وهو اسم من أسماء الأفعال ومعناه : اللهمّ استجب، وفيه لغتان : القصرُ ( أمين ) والمدّ ( آمين ) فالأول على وزن ( فعيل ) والثاني على وزن ( فاعِل ).
قال الشاعر :
يا ربّ لا تسلُبَنّي حبها أبدَاً | ويرحمُ اللهُ عبداً قال آميناً |
غيظ العِدَى من تساقينا الهَوَى فَدَعَوْا... بأن نَغَصَّ فقال الدهر : آمِنا
المعنى الإجمالي
علّمنا الله - تقدّست أسماؤه - كيف ينبغي أن نحمده ونقدّسه، ونثني عليه بما هو أهله، فقال ما معناه : يا عبادي إذا أردتم شكري وثنائي فقولوا : الحمد لله رب العالمين، اشكروني على إحساني وجميلي إليكم، فأنا الله ذو العظمة والمجد والسؤدد، المتفرد بالخلق والإيجاد، ربّ الإنس والجن والملائكة، وربّ السماوات والأرضين، وأنا الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، وعمّ فضله جميع الأنام، فالثناء والشكر لله رب العالمين، دون ما يعبد من دونه، بما أنعم على عباده من الخلق والرزق وسلامة الجوارح، وهداية الخلق إلى سعادة الدنيا والآخرة، فهو السّيّد الذي لا يبلغ سؤدده أحد، والمصلح أمر عباده بما أودع في هذا العالم من نظام، يرجع كلّه بالمصلحة على عالم الإنسان والنبات والحيوان، فمن شمسٍ لولاها ما وجدت حياة ولا موت، ومن غذاءٍ به قوام البشر، ومياه بها حياة النبات والحيوان، وأنا المالك للجزاء والحساب، المتصرف في يوم الدين، تصرّف المالك في ملكه، فخصوني بالعبادة دون سواي، وقولوا لك اللهمّ نذلّ ونخضع، ونستكين ونخشع، ونخصّك بالعبادة، ولا نعبد أحداً سواك، وإيّاك ربّنا نستعين على طاعتك ومرضاتك، فإنك المستحقّ لكل إجلال وتعظيم، ولا يملك القدرة على عوننا أحد سواك.
معاني الفاتحة في « ظلال القرآن »
يقول سيد قطب رحمه الله في تفسيره « الظلال » ما نصه :
( يردّد المسلم هذه السورة القصيرة، ذات الأيات السبع، سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة على الحد الأدنى وأكثر من ضعف ذلك إذا هو صلى السنن، ولا تصح صلاة بغير هذه السورة لما ورد في الصحيحين :« لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ».
إن في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية، وكليات التصور الإسلامي، وكليات المشاعر والتوجهات ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة.
تبدأ السورة ب ( بسم الله الرحمن الرحيم ) والبدء باسم الله هو الأدب الذي أوحى الله لنبيّه ﷺ في أول ما نزل من القرآن باتفاق، وهو قوله تعالى :﴿ اقرأ باسم رَبِّكَ ﴾ [ العلق : ١ ] وهو الذي يتفق مع قاعدة التصور الإسلامي الكبرى من أنّ الله ( الأول، والآخر، والظاهر، والباطن ) فهو سبحانه الموجود الحق الذي يستمد منه كل موجودٍ وجودَه، ويبدأ منه كل مبدوءٍ بدأه، فباسمه إذن يكون كل ابتداء، وباسمه إذن تكون كل حركة وكل اتجاه.
وإذا كان البدء باسم الله، وما ينطوي عليه من توحيد لله، وأدبٍ معه، يمثّل الكلّية الأولى في التصور الإسلامي، فإن استغراق معاني الرحمة في صفتي ( الرحمن الرحيم ) يمثّل الكليّة الثانية في هذا التصور، ويقرّر حقيقة العلاقة بين الله والعباد وعقب البدء ب ﴿ بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ ﴾ يجيء التوجه إلى الله بالحمد، ووصفُه بالربوبية المطلقة، يمثّل شعور المؤمن الذي يستجيشه مجرد ذكره لله، والحمد هو الشعور الذي يفيض به قلب المؤمن، فإن وجوده ابتداءً ليس إلا فيضاً من فيوضات النعمة الإلهية، وفي كل لمحة، وفي كل لحظة، وفي كل خطوة تتوالى آلاء الله، وتغمر الخلائق كلها، وبخاصة هذا الإنسان.
وتبدوا العقيدة الإسلامية : في كمالها وتناسقها رحمة.. رحمةً حقيقية للقلب والعقل، رحمة بما فيها من جمال وبساطة، ووضوح وتناسق، وقربٍ وأنس، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق.
ثم تأتي هذه الصفة ﴿ الرحمن الرَّحِيمِ ﴾ التي تستغرق كلّ معاني الرحمة، وحالاتها ومجالاتها، تتكرر هنا في صلب السورة في آية مستقلة لتؤكد تلك الربوبية الشاملة، ولتثبت قوائم الصلة الدائمة بين الربّ ومربوبيه، وبين الخالق ومخلوقاته.. إنها صلة الرحمة والرعاية، التي تقوم على الطمأنينة وتنبض بالمودة، فالحمد هو الاستجابة الفطرية للرحمة النديّة.
والتعبير بقوله :﴿ مالك يَوْمِ الدين ﴾ يمثّل الكليّة الضخمة، العميقة التأثير، كلية الاعتقاد بالآخرة. والاعتقادُ بيوم الدين كلية من كليّات العقيدة الإسلامية ذات قيمة هامة في تعليق أنظار البشر وقلوبهم بعالَم آخر، وهو مفرق الطريق بين الإنسانية في حقيقتها العليا، والصور المشوّهة المنحرفة التي لم يُقدّر لها الكمال، وما تستقيم الحياة البشرية على منهج الله الرفيع، ما لم تتحقّق هذه الكلية في تصور البشر، وما لم يثق الفرد المحدود بأنّ له حياة أخرى تستحق أن يجاهد لها وأن يضحّي في سبيلها. وما يستوي المؤمنون بالآخرة والمنكرون لها في شعورٍ، ولا خُلُق، ولا سلوك، ولا عمل، فهما صنفان مختلفان من الخَلْق، وطبيعتان متميّزتان، لا تلتقيان في الأرض في عمل، ولا تلتقيان في الآخرة في جزاء.. وهذا هو مفرق الطريق.
وقوله :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ هذه هي الكلية الاعتقادية التي تنشأ عن الكليات السابقة في السورة، فلا عبادة إلاّ لله، ولا استعان إلاّ بالله.
وهنا كذلك مفرق طريق.. مفرق طريق بين التحرر المطلق من كل عبودية، وبين العبودية المطلقة للعبيد، وهي تعلن ميلاد التحرر البشري، الكامل الشامل.
ولقد درج ( الغربيون ) على التعبير عن استخدام قوى الطبيعة بقولهم :« قهر الطبيعة » ولهذا التعبير دلالته الظاهرة على نظرة الجاهلية، المقطوعة الصلة بالله، وبروح الكون المستجيب لله، فأمّا المسلم الموصول القلب بربه الرحمن الرحيم الموصول الروح بروح هذا الوجود المسبّحة لله رب العالمين، فيؤمن بأن هناك علاقة أخرى، غير علاقة القهر والجفوة، إنه يعتقد بأن الله هو مبدع هذه القُوى جميعاًِ، خلقها كلها وفق ناموس واحد، وسخّرها للإنسان ابتداءً، ويسّر له كشف أسرارها، ومعرفة قوانينها، وأنّ على الإنسان أن يشكر الله كلّما هيأ لَه أن يظفر بمعونة من إحداها، فالله هو الذي يسخّرها وليس هو الذي يقهرها
وبعد تقرير تلك الكليّات الأساسية في التصور الإسلامي، يبدأ في التطبيق العملي ﴿ اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين ﴾. فالمعرفة والاستقامة كلتاهما ثمرة لهداية الله ورعايته ورحمته، وهو ثمرة الاعتقاد بأنه وحده المعين، وهذا الأمر أعظم ما يطلبه المؤمن من ربه، فالهداية فطرة الإنسان إلى ناموس الله، الذي ينسّق بين حركة الإنسان، وحركة الوجود كله في الاتجاه إلى الله رب العالمين، ويكشف عن طبيعة هذا الصراط المستقيم ﴿ صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ فهو طريق الذين قسم لهم نعمته، لا طريق الذين غضب الله عليهم.. إنه صراط السعداء المهتدين الواصلين.
ولعلَّ ذلك يكشف لنا عن سرّ من أسرار اختيار السورة ليردّدها المؤمن سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة، أو ما شاء الله أن يردّدها كلّما قام يدعوه في الصلاة.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : أمر الباري - جل وعلا - بالتعوذ عند قراءة القرآن :﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم ﴾ [ النحل : ٩٨ ].
قال جعفر الصادق :« إنه لا بد قبل القراءة من التعوذ، وأما سائر الطاعات فإنه لا يتعوذ فيها، والحكمة فيه أن العبد قد ينجس لسانه بالكذب والغيبة، والنميمة، فأمر الله تعالى العبد بالتعوذ ليصير لسانه طاهراً، فيقرأ بلسان طاهر، كلاماً أنزل من رب طيب طاهر ».
اللطيفة الثانية : المشهور عند أهل اللغة أن البسملة هي قول القائل :( بسم الله الرحمن الرحيم )، وقد اشتهر هذا في الشعر والنثر، قال الشاعر :
لقد بسملَتْ ليلَى غداةَ لقيتُها | فيها حبّذَا ذاك الحبيبُ المبسملُ |
فإن قيل : لماذا نقول بسم الله، ولا نقول بالله؟
فالجواب كما قال العلامة أبو السعود : هو التفريق بين اليمين والتيمّن يعني التبرك، فقول القائل : بالله يحتمل القسم ويحتمل التبرك. فذكر الاسم يدل على إرادة التبرك والاستعانة بذكره تعالى، ويقطع احتمال إرادة القسم.
اللطيفة الثالثة : يرى بعض العلماء أنّ الاسم هو عين المسمّى، فقول القائل :( بسم الله ) كقوله :( بالله ) وأن لفظ الاسم مقحم كما في قول لبيد بن ربيعة :
إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما | ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر |
قال ابن جرير الطبري : لو جاز ذلك وصحّ تأويله فيه على ما تأول لجاز أن يُقال : رأيت اسم زيد، وأكلتُ اسم الطعام، وشربت اسم الدواء، وفي إجماع العرب على إحالة ذلك ما ينبئ عن فساد تأويله، ويقال لهم : أتستجيزون في العربية أن يُقال : أكلتُ اسم العسل، يعني أكلتُ العسل؟
أقول : الصحيح ما قاله المحققون من المفسّرين إنّ ذلك للتفريق بين اليمين والتبرك.
اللطيفة الرابعة : الفرق بين لفظ ( الله ) ولفظ ( الإله ) أن الأول اسم علم للذات المقدسّة لا يشاركه فيه غيره، ومعناه المعبود بحق، والثاني يطلق على الله تعالى وعلى غيره، وهو مشتق من ( ألَهَ ) ومعناه المعبود، سواءً كان بحق أو غير حق، فالأصنام التي كان يعبدها العرب تسمّى ( آلهة ) جمع ( إله ) لأنها عُبدت بباطل من دون الله، وما كان أحد يسمى الصنم ( الله ) بل كان العربي في الجاهلية إذا سئل : من خلقك؟ أو من خلق السماوات والأرض؟ يقول : الله، وفيهم يقول القرآن الكريم :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله... ﴾ [ لقمان : ٢٥ ].
اللطيفة الخامسة : في قولنا ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فوائد جليلة، منها التبرك بذكر اسم الله تعالى، والتعظيم لله تعالى، وطرد للشيطان لأنه يهرب من ذكر اسم الله، وفيها إظهار لمخالفة المشركين، الذين يفتتحون أمورهم بذكر الأصنام أو غيرها من المخلوقين الذين كانوا يعبدونهم، وفيها أمان للخائف ودلالة على انقطاع قائلها إلى الله تعالى، وفيها إقرار بالألوهية، واعتراف بالنعمة، واستعانة بالله تعالى، وفيها اسمان من أسمائه تعالى المخصوصة به وهما ( الله ) و ( الرحمن ).
اللطيفة السادسة : الألف واللام في ( الحمد ) لاستغراق الجنس، والمعنى لا يستحق الثناء الكامل، والحمد التام الوافي، إلاّ الله ربّ العالمين، فهو الإله المنعوت بصفات الكمال، المستحق لكل تمجيد وتعظيم وتقديس، والصيغة وردت معرّفة ( الحمدُ لله ) للإشارة إلى أنّ الحمد له تعالى أمر دائم مستمر، لا حادث متجدّد، فتدبره فإنه دقيق.
اللطيفة السابعة : فائدةٌ ذكر ﴿ الرحمن الرَّحِيمِ ﴾ : عقب لفظ ﴿ رَبِّ العالمين ﴾ هي أن لفظ ( الربّ ) ينبئ عن معنى الكبرياء، والسيادة، والقهر، فربمّا توهّم السامع أن هذا الربّ قهّار جبّار لا يرحم العباد فدخل إلى نفسه الفزع، واليأس، والقنوط، لذلك جاءت هذه الجملة لتؤكد أن هذا الرب - جلّ وعلا - رحمن رحيم، وأن رحمته وسعت كل شيء.
قال أبو حيّان : بدأ أولاً بالوصف بالربوبيّة، فإن كان الرب بمعنى السيّد، أو بمعنى المالك، أو بمعنى المعبود، كان صفة فعل للموصوف، فناسب ذلك الوصف بالرحمانية والرحيمية، لينبسط أمل العبد في العفو إن زلّ، ويقوى رجاؤه إن هفا.
ثم قال رحمه الله : وهذه النكتة لا تكاد تجدها في كتاب.
ومجمل القول : أنَّ معنى ( الرحمن ) المنعم بجلائل النعم، ومعنى ( الرحيم ) المنعم بدقائقها.
وقيل : إنهما بمعنى واحد، والثاني لتأكيد الأول وهو رأي الصبّان والجلال، وهو ضعيف فقد قال ابن جرير الطبري : لا توجد في القرآن كلمة زائدة لغير معنى مقصود.
والراجح : ما ذهب إليه ابن القيم وهو أن الوصف الأول دال على الرحمة الثابتة له سبحانه، والثاني يدل على تجدّد الأفعال المتعلقة بهذه الصفة والله أعلم.
اللطيفة الثامنة : قوله تعالى :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب على سبيل التفنن في الكلام، لأنه أدخلُ في استمالة النفوس، واستجلاب القلوب، وهذا ( الإلتفات ) ضرب من ضروب البلاغة، ولو جرى الكلام على الأصل لقال ( إيّاه نعبد ) فعدل عن ضمير الغائب إلى المخاطب لنكتة ( الإلتفات ) ومثله قوله تعالى :﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ﴾ [ الإنسان : ٢١ ] ثم قال :﴿ إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً ﴾ [ الإنسان : ٢٢ ] وقد يكون الإلتفات من ( الخطاب ) إلى ( الغيبة ) كما في قوله تعالى :﴿ هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ﴾ [ يونس : ٢٢ ] فقد كان الكلام مع المخاطبين، ثم جاء بضمير الغيبة على طريق الإلتفات.
قال أبو حيان في « البحر » :« ونظير هذا أن تذكر شخصاً متصفاً بأوصاف جليلة، مخبراً عنه إخبار الغائب، ويكونذلك الشخص حاضراً معك، فتقول له : إيّاك أقصد، فيكون في هذا الخطاب من التلطف على بلوغ المقصود، ما لا يكون في لفظ ( إيّاه ) ».
اللطيفة التاسعة : وردت الصيغة بلفظ الجمع في الجملتين ﴿ نَعْبُدُ ﴾ و ﴿ نَسْتَعِينُ ﴾ ولم يقل :( إياّاك أعبد وإيّاك أستعين ) وذلك لنكتةٍ لطيفة، هي اعتراف العبد بقصوره عن الوقوف في باب ملك الملوك جلّ وعلا، وطلبه الاستعانة والهداية مفرداً دون سائر العرب، فكأنه يقول : يا رب أنا عبد حقير، ذليل، لا يليق بي أن أقف هذا الموقف في مناجاتك بمفردي، بل أنا أنضم إلى سلك الموحّدين، وأدعوك معهم، فتقبّل دعائي معهم، فنحن جميعاً نعبدك ونستعين بك.
وتقديم المفعول على الفعل ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ و ﴿ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ يفيد القصر والتخصيص كما في قوله :﴿ وإياي فارهبون ﴾ [ البقرة : ٤٠ ] كما يفيد التعظيم والاهتمام به.
قال القرطبي : إن قيل : لم قدَّم المفعول ﴿ إِيَّاكَ ﴾ على الفعل ﴿ نَعْبُدُ ﴾ ؟ قيل له : اهتماماً، وشأنُ العرب تقديم الأهم، يُذكر أنْ أعرابياً سبّ آخر فأعرض المسبوب عنه، فقال له السابّ : إيّاك عني، فقال له الآخر : وعنك أُعرض، فقدّما الأهم، وأيضاً لئلا يتقدم ذكر العبد والعبادة على المعبود، فلا يجوز نعبدك، ونستعين، ولا نعبد إيّاك ونستعين إياك، وإنما يتبع لفظ القرآن، قال العجّاج :
إيّاك أدعو فتقبّل مَلَقي | واغفر خطايايَ وكثّر ورقي |
اللطيفة العاشرة : نسبَ النعمة إلى الله عزّ وجل ﴿ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ ولم ينسب الإضلال والغضب فلم يقل :( غضبت عليهم ) وأضللتهم، وذلك جارٍ على طريق تعليم الأدب مع الله عزّ وجل، حيث لا ينسب الشرّ إليه ( أدباً ) وإن كان منه ( تقديراً ) كما قال بعضهم : الخير كله بيديك، والشرّ ليس إليك.
فهو كقوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام :﴿ الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ [ الشعراء : ٧٨-٨٠ ] فلم يقل :( وإذا أمرضني ) أدباً. وكقوله تعالى على لسان مؤمني الجن :﴿ وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً ﴾ [ الجن : ١٠ ] فلم يقولوا : أشرّ أراد الله فتدبره فإنه دقيق.
الدقائق البيانية في سورة الفاتحة
قال أبو حيان في تفسيره « البحر المحيط » :« وقد انجرّ في غضون تفسير هذه السورة الكريمة من علم البيان فوائد كثيرة لا يهتدي إلى استخراجها إلاّ من كان توغّل في فهم لسان العرب، ورُزق الحظّ والوافر من علم الأدب، وكان عالماً بافتتان الكلام، قادراص على إنشاء النثار البديع والنظام، وفي هذه السورة الكريمة من أنواع الفصاحة والبلاغة أنواع :
النوع الأول : حسنُ الافتتاح وبراعة المطلع، وناهيك حسناً أن يكون مطلعها مفتتحاً باسم الله، والثناء عليه بما هو أهله من الصفات العليّة.
النوع الثاني : المبالغة في الثناء وذلك العموم ( أل ) في الحمد المفيد للاستغراق.
النوع الثالث : تلوين الخطاب في قوله :﴿ الحمد للَّهِ ﴾ إذ صيغته الخبر ومعناه الأمر أي قولوا : الحمد لله.
النوع الرابع : الاختصاص باللاّم التي في ( لله ) إذ دلّت على أنّ جميع المحامد مختصة به تعالى إذ هو مستحق لها جلّ وعلا.
النوع الخامس : الحذف وذلك كحذف ( صراط ) من قوله تعالى :﴿ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين ﴾ التقدير : غير صراط المغضوب عليهم، وغير صراط الضالين.
النوع السادس : التقديم والتأخير في قوله :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ وكذلك في قوله :﴿ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين ﴾ وقد تقدم الكلام على ذلك.
النوع السابع : التصريح بعد الإبهام وذلك في قوله تعالى :﴿ اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ حيث فسّر الصراط.
النوع الثامن : الإلتفات وذلك في قوله :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهدنا الصراط المستقيم ﴾.
النوع العاشر : التسجيع المتوازي وهو اتفاق الكلمتين الأخيرتين في الوزن والرّوي وذلك في قوله تعالى :﴿ الرحمن الرحيم... الصراط المستقيم ﴾ وقوله ﴿ نَسْتَعِينُ... وَلاَ الضآلين ﴾.
وجوه القراءات
أولاً : قرأ الجمهور ﴿ الحمد للَّهِ ﴾ بضمّ دال الحمد، وقرأ سفيانُ بن عُيَيّنة ( الحمدَ الله ) بالنصب، قال ابن الأنباري : ويجوز نصبه على المصدر بتقدير أحمد الله.
قال أبو حيان : وقراءة الرفع أمكنُ في المعنى، ولهذا أجمع عليها السبعة، لأنها تدل على ثبوت الحمد واستقراره لله تعالى، فيكون قد أخبر بأنّ الحمد مستقرّ لله تعالى أي حمدُه وحمدُ غيره.
ثانياً : قرأ الجمهور ﴿ ربّ العالمين ﴾ بكسر الباء وقرأ زيد بن عليّ ﴿ ربَّ العالمين ﴾ بالنصب على المدح أي أمدح ربّ العالمين، وهي فصيحة لولا خفض الصفات بعدها كما نبّه عليه أبو حيّان وغيره.
قال القرطبي : يجوز الرفع والنصب في ﴿ ربّ ﴾ فالنصبُ على المدح، والرفع على القطع أي هو ربّ العالمين.
ثالثاً : قرأ الجمهور ﴿ مَالِك يومِ الدّينِ ﴾ على وزن فاعل مالك وقرأ ابن كثير وابن عمر وأبو الدرداء ﴿ مَلِك ﴾ بفتح الميم مع كسر اللام.
قال ابن الجوزي : وقراءة ( مَلِك ) أظهر في المدح لأن كل ملك مالك، وليس كل مالك ملكاً.
وقال ابن الأنباري : وفي مالك خمسُ قراءات وهي : مالك، ومَلِك، ومَلْك، ومليك، ومَلاَك.
رابعاً : قرأ الجمهور ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ بضم الباء، وقرأ زيد بن علي ﴿ نعبِد ﴾ بكسر النون، وقرأ الحسن وأبو المتوكل ﴿ إيّاك يُعبد ﴾ بضم الياء وفتح الباء.
خامساً : قرأ الجمهور ﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾ بالصّاد وهي لغة قريش، وقرأ مجاهد وابن محيصن ( السّراط ) بالسّين على الأصل.
قال الفرّاء : اللغة الجيّدة بالصاد وهي اللغة الفصحى، وعامة العرب يجعلونها سيناً، فمن قرأ بالسين فعلى أصل الكلمة، ومن قرأ بالصّاد فلأنها أخفّ على اللّسان.
وجوه الإعراب
أولاً :﴿ بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ ﴾ الجار والمجرور في ﴿ بِسمِ الله ﴾ اختلف فيه النحويون على وجهين :
أ - مذهب البصريين : أنه في موضع رفع، لأنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره : ابتدائي بسم الله.
ب - مذهب الكوفيين : أنه في موضع نصب بفعل مقدّر وتقديره : ابتدأتُ بسم الله.
ثانياً : قوله تعالى :﴿ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين ﴾ الحمدُ مبتدأ ولفظ الجلالة خبره تقديره : الحمد مستحق لله، و ﴿ رَبِّ العالمين ﴾ صفة، ومثله ﴿ الرحمن الرحيم ﴾ و ﴿ مالك يَوْمِ الدين ﴾ كلها صفات لاسم الجلالة.
ثالثاً : قوله تعالى :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ اختلف المفسّرون في ﴿ إِيَّاكَ ﴾ فذهب المحققون إلى أنه ضمير منفصل منصوب بالفعل بعده وأصله ( نعبدك ) و ( نستعينك ) فلما قُدّم الضمير المتصل أصبح ضميراً منفصلاً، والكاف للخطاب ولا موضع لها من الإعراب.
وذهب آخرون إلى أنه ضمير مضاف إلى ما بعده، ولا يعلم ضمير أضيف إلى غيره.
رابعاً : قوله تعالى :﴿ اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ... ﴾ ﴿ اهدنا ﴾ فعل دعاء وهو يتعدى إلى مفعولين المفعول الأول هو ضمير الجماعة ( ن ) في إهدنا، و ﴿ الصراط ﴾ هو المفعول الثاني، و ﴿ المستقيم ﴾ صفة للصراط، و ﴿ صِرَاطَ ﴾ بدل من الصراط الأول.
خامساً : آمين : اسم فعل أمر بمعنى استجب.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل البسملة آية من القرآن؟
أجمع العلماء على أن البسملة الواردة في سورة النمل [ ٣٠ ] هي جزء من آية في قوله تعالى :﴿ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم ﴾ ولكنهم اختلفوا هل هي آية من الفاتحة، ومن أول كل سورة أم لا؟ على أقوال عديدة :
الأول : هي آية من الفاتحة، ومن كل سورة، وهو مذهب الشافعي رحمه الله.
الثاني : ليست آية لا من الفاتحة، ولا من شيء من سور القرآن، وهو مذهب مالك رحمه الله.
الثالث : هي آية تامة من القرآن أُنزلت للفصل بين السور، وليست آية من الفاتحة وهو مذهب أبو حنيفة رحمه الله.
دليل الشافعية :
استدل الشافعية على مذهبهم بعدة أدلة نوجزها فيما يلي :
أولاً - حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال :« إذا قرأتم الحمد لله رب العالمين، فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم، إنها أمّ القرآن، وأمّ الكتاب، والسبعُ المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم أحدُ آياتها ».
ثانياً - حديث ابن عباس رضي الله عنهما « أنّ رسول الله ﷺ كان يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم ».
ثالثاً - حديث أنس رضي الله عنه أنه سئل عن قراءة رسول الله ﷺ فقال : كانت قراءته مدّاً.. ثمّ قرأ ﴿ بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ * الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يَوْمِ الدين... ﴾.
رابعاً : حديث أنس رضي الله عنه أنه قال :( بينا رسول الله ﷺ ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاؤة، ثمّ رفع رأسه متبسّماً، فقلنا ما أضحكك يا رسول الله؟ قال : نزلت عليّ آنفاً سورة، فقرأ :﴿ بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر ﴾ [ الكوثر : ١-٣ ].
قالوا : فهذا الحديث يدل على أن البسملة آية من كل سورة من سور القرآن أيضاً، بدليل أن الرسول ﷺ قرأها في سورة الكوثر.
دليل المالكية :
واستدل المالكية على أن البسملة ليست آية من الفاتحة، ولا من القرآن وإنما هي للتبرك بأدلة نوجزها فيما يلي :
أولاً : حديث عائشة رضي الله عنها قالت :« كان رسول الله ﷺ يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله ربِّ العالمين »
ثانياً : حديث أنس كما في « الصحيحين » قال :« صلّيتُ خلف النبي ﷺ وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين ».
وفي رواية لمسلم :( لا يذكرون ( بسم الله الرحمن الرحيم ) لا في أول قراءة ولا في آخرها ).
ثالثاً : ومن الدليل أنها ليست آية من الفاتحة حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : قال الله عزّ وجل :« قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل.
فإذا قال العبد :﴿ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين ﴾. قال الله تعالى : حمدني عبدي.
وإذا قال العبد :﴿ الرحمن الرحيم ﴾. قال الله تعالى : أثنى عليّ عبدي.
وإذا قال العبد :﴿ مالك يَوْمِ الدين ﴾. قال الله تعالى : مجدّني عبدي - وقال مرة فوّض إليّ عبدي -.
فإذا قال :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾. قال : هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل.
فإذا قال :﴿ اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين ﴾. قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ».
قالوا : فقوله سبحانه :« قسمت الصلاة » يريد الفاتحة، وسمّاها صلاة لأن الصلاة لا تصح إلا بها، فلو كانت البسملة آية من الفاتحة لذكرت في الحديث القدسي.
رابعاً : لو كانت البسملة من الفاتحة لكان هناك تكرار في ﴿ الرحمن الرحيم ﴾ في وصفين وأصبحت السورة كالآتي :( بسم الله الرحمن الرحيم، الحد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم ) وذلك مخلّ ببلاغة النظم الجليل.
خامساً : كتابتها في أوائل السور إنما هو للتبرك، ولامتثال الأمر بطلبها والبدء بها في أوائل الأمور، وهي وإن تواتر كتبُها في أوائل السور، فلم يتواتر كونها قرآناً فيها.
قال القرطبي :« الصحيحُ من هذه الأقوال قول مالك، لأن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد وإنما طريقهُ التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه.
ثم قال : إنّ مذهبنا يترجّح في ذلك بوجه عظيم وهو المعقول، وذلك أن مسجد النبي ﷺ بالمدينة انقضت عليه العصور، ومرّت عليه الأزمنة، والدهور من لدن رسول الله ﷺ إلى زمان مالك، ولم يقرأ أحد فيه قطّ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) اتّباعاً للسُنّة، وهذا يردّ ما ذكرتموه، بيد أن أصحابنا استحبوا قراءتها في النفل، وعليه تُحمل الآثار الواردة في قراءتها أو على السعة في ذلك «.
دليل الحنفية :
وأما الحنفية : فقد رأوا أنّ كتابتها في ( المصحف ) يدل على أنها قرآن ولكن لا يدل على أنها آية من سورة، والأحاديث الواردة التي تدل على عدم قراءتها جهراً في الصلاة مع الفاتحة تدل على أنها ليست من الفاتحة، فحكموا بأنها آية من القرآن تامة - في غير سورة النمل - أنزلت للفصل بين السور.
ومما يؤيد مذهبهم : ما روي عن الصحابة أنهم قالوا :» كنا لا نعرف انقضاء السور حتى تنزل ( بسم الله الرحمن الرحيم )، وكذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه « بسم الله الرحمن الرحيم ».
قال الإمام أبو بكر الرازي :« وقد اختلف في أنها آية من فاتحة الكتاب أم لا، فعدّها قرّاء الكوفة آية منها، ولم يعدّها قرّاء البصريين، وقال الشافعي : هي آية منها وإنْ تركها أعاد الصلاة، وحكى شيخنا ( أبو الحسن الكرخي ) عدم الجهر بها، ولأنها إذا لم تكن من فاتحة الكتاب فكذلك حكمها في غيرها، وزعم الشافعي أنها آية من كل سورة، وما سبقه إلى هذا القول أحد، لأن الخلاف بين السلف إنما هو في أنها آية من ( فاتحة الكتاب ) أو ليست بآية منها، ولم يعدّها أحد آية من سائر السور ».
ثم قال :« ومما يدل على أنها ليست من أوائل السور، ما روي عن النبي ﷺ أنه قال : سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى غفر له ﴿ تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك ﴾ [ الملك : ١ ] » واتفق القرّاء وغيرهم أنها ثلاثون سوى ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فلو كانت منها كانت إحدى وثلاثين وذلك خلاف قول النبي ﷺ. ويدل عليه أيضاً اتفاق جميع قرّاء الأمصار وفقهائهم على أن سورة ( الكوثر ) ثلاث آيات، وسورة ( الإخلاص ) أربع آيات، فلو كانت منها لكانت أكثر ممّا عدّوا «.
وبعد استعراض الأدلة وما استدل به كل فريق من أئمة المذاهب نقول : لعلّ ما ذهب إليه الحنفية هو الأرجح من الأقوال، فهو المذهب الوسط بين القولين المتعارضين، فالشافعية يقولون إنها آية من الفاتحة ومن أول كل سورة في القرآن، والمالكية يقولون : ليست بآية لا من الفاتحة ولا من القرآن ﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ﴾ [ البقرة : ١٤٨ ] ولكنْ إذا أمعنا النظر وجدنا أن كتابتها في المصحف، وتواتر ذلك بدون نكير من أحد - مع العلم بأنّ الصحابة كانوا يجرّدون المصحف من كل ما ليس قرآناً - يدلّ على أنها قرآن، لكن لا يدل على أنها آية من كل سورة، أو آية من سورة الفاتحة بالذات، وإنما هي آية من القرآن وردت للفصل بين السور، وهذا ما أشار إليه حديث ابن عباس السابق ( إنّ رسول الله ﷺ كان لا يعرف فصل السور حتى ينزل عليه :( بسم الله الرحمن الرحيم ) ويؤكد أنها ليست من أوائل السور أن القرآن نزل على مناهج العرب في الكلام، والعربُ كانت ترى التفنّن من البلاغة، لا سيّما في افتتاحاتها، فلو كانت آية من كل سورة لكان ابتداء كلّ السور على منهاجٍ واحد، وهذا يخالف روعة البيان في معجزة القرآن.
وقول المالكية : لم يتواتر كونها قرآناً فليست بقرآن غير ظاهر - كما يقول الجصّاص - إذ ليس بلازم أن يقال في كل آية إنها قرآن وتواتر ذلك، بل يكفي أن يأمر الرسول ﷺ بكتابتها ويتواتر ذلك عنه ﷺ، وقد اتفقت الأمة على أن جميع ما في المصحف من القرآن، فتكون البسملة آية مستقلة من القرآن كرّرت في هذه المواضع على حسب ما يكتب في أوائل الكتب على جهة التبرك باسم الله تعالى، وهذا ما تطمئن إليه النفس وترتاح، وهو القول الذي يجمع بين النصوص الواردة والله أعلم.
الحكم الثاني : ما هو حكم قراءة البسملة في الصلاة؟
اختلف الفقهاء في قراءة البسملة في الصلاة على أقوال عديدة :
أ - فذهب مالك رحمه الله : إلى منع قراءتها في الصلاة المكتوبة، جهراً كانت أو سرّاً، لا في استفتاح أم القرآن، ولا في غيرها من السور، وأجاز قراءتها في النافلة.
ب - وذهب أبو حنيفة رحمه الله : إلى أن المصلي يقرؤها سراً مع الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة، وإن قرأها مع كل سورة فحسن.
ج - وقال الشافعي رحمه الله : يقرؤها المصلي وجوباً. في الجهر جهراً، وفي السرّ سراً.
د - وقال أحمد بن حنبل رضي الله عنه : يقرؤها سرّاً ولا يسنّ الجهر بها.
وسبب الخلاف : هو اختلافهم في ( بسم الله الرحمن الرحيم ) هل هي آية من الفاتحة ومن أول كل سورة أم لا؟ وقد تقدم الكلام على ذلك في الحكم الأول.
قال ابن الجوزي في « زاد المسير » : وقد اختلف العلماء هل البسملة، من الفاتحة أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان، فأمّا من قال : إنها من الفاتحة، فإنه يوجب قراءتها في الصلاة إذا قال بوجوب الفاتحة، وأمّا من لم يرها من الفاتحة فإنه يقول : قراءتها في الصلاة سنّة، ما عدا مالكاً رحمه الله فإنه لا يستحب قراءتها في الصلاة.
واختلفوا في الجهر بها في الصلاة فيما يجهر به، فنقل جماعة عن أحمد : أنه لا يسُن الجهر بها، وهو قول أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، ومذهب الثوري، ومالك، وأبي حنيفة.
وذهب الشافعي : إلى أن الجهر بها مسنون، وهو مرويّ عن معاوية، وعطاء، وطاووس.
الحكم الثالث : هل تجب قراءة الفاتحة في الصلاة؟
اختلف الفقهاء في حكم قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة على مذهبين :
أ - مذهب الجمهور ( مالك والشافعي وأحمد ) أن قراءة الفاتحة شرط لصحة الصلاة، فمن تركها مع القدرة عليها لم تصحّ صلاته.
ب - مذهب الثوري وأبي حنيفة : أن الصلاة تجزئ بدون فاتحة الكتاب مع الإساءة ولا تبطل صلاته، بل الواجب مطلق القراءة وأقله ثلاث آيات قصار، أو آية طويلة.
أدلة الجمهور :
استدل الجمهور على وجوب قراءة الفاتحة بما يلي :
أولاً : حديث عُبادة بن الصامت وهو قوله ﷺ :« لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ».
ثانياً : حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ :« قال من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ الكتاب فهيِ خِداج فهي خِداج، فهي خداج غير تمام ».
ثالثاً : حديث أبي سعيد الخدري :« أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسّر ».
قالوا : فهذه الآثار كلّها تدل على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، فإنّ قوله ﷺ :« لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب » يدل على نفي الصحة، وكذلك حديث أبي هريرة فهي خِداج قالها ﷺ ثلاثاً يدل على النقص والفساد، فوجب أن تكون قراءة الفاتحة شرطاً لصحة الصلاة.
استدل الثوري وفقهاء الحنفية على صحة الصلاة بغير قراءة الفاتحة بأدلة من الكتاب والسنّة.
أمّا الكتاب : فقوله تعالى :﴿ فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن ﴾ [ المزمل : ٢٠ ] قالوا : فهذا يدل على أن الواجب أن يقرأ أي شيء تيسّر من القرآن، لأن الآية وردت في القراءة في الصلاة بدليل قوله تعالى :﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل ﴾ إلى قوله :﴿ فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن ﴾ [ المزمل : ٢٠ ] ولم تختلف الأمة أن ذلك في شأن الصلاة في الليل، وذلك عموم عندنا في صلاة الليل وغيرها من النوافل والفرائض لعموم اللفظ.
قالوا : فحديث أبي هريرة في تعليم الرجل صلاته يدل على التخيير ( اقرأ ما تيسّر معك من القرآن ) ويقوّي ما ذهبنا إليه، وما دلت عليه الآية الكريمة من جواز قراءة أي شيء من القرآن.
وأما حديث عبادة بن الصامت : فقد حملوه على نفي الكمال، لا على نفي الحقيقة، ومعناه عندهم ( لا صلاة كاملة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) ولذلك قالوا : تصح الصلاة مع الكراهية، وقالوا هذا الحديث يشبه قوله ﷺ :« لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد ».
وأما حديث أبي هريرة :( فهي خداج، فهي خداج... ) الخ فقالوا : فيه ما يدلّ لنا لأنّ ( الخداج ) الناقصة، وهذا يدل على جوازها مع النقصان، لأنها لو لم تكن جائزة لما أُطلق عليها اسم النقصان، لأن إثباتها ناقصة ينفي بطلانها، إذ لا يجوز الوصف بالنقصان للشيء الباطل الذي لم يثبت منه شيء.
هذه هي خلاصة أدلة الفريقين : سردناها لك بإيجاز، وأنت إذا أمعنتَ النظر، رأيت أنّ ما ذهب إليه الجمهور أقوى دليلاً، وأقوى قيلاً، فإنّ مواظبته ﷺ على قراءتها في الفريضة والنفل، ومواظبة أصحابه الكرام عليها دليل على أنه لا تجزئ الصلاة بدونها، وقد عضد ذلك الأحاديث الصريحة الصحيحة، والنبي ﷺ مهمته التوضيح والبيان، لما أجمل من معاني القرآن، فيكفي حجّة لفريضتها ووجوبها قولُه وفعله عليه السلام.
وممّا يؤيد رأي الجمهور ما رواه مسلم عن أبي قتادة أنه قال :« كان رسول الله ﷺ يصلّي بنا فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليَيْن بفاتحة الكتاب وسورتين، ويُسمعنا الآية أحياناً، وكان يطوّل في الركعة الأولى من الظهر، ويقصر الثانية، وكذلك في الصبح ».
وفي رواية :« ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب ».
قال الطبري : يقرأ بأم القرأن في كل ركعة، فإن لم يقرأ بها لم يجزه إلا مثلها من القرآن عدد آياتها وحروفها.
قال القرطبي : والصحيح من هذه الأقوال، قولُ الشافعي وأحمد ومالك في القول الآخر، وأن الفاتحة متعينة في كل ركعةٍ لكل أحدٍ على العموم لقوله ﷺ :
قال الإمام الفخر :« إنه عليه السلام واظب طول عمره على قراءة الفاتحة في الصلاة، فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى :﴿ واتبعوه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٥٨ ] ويا لَلْعجب من أبي حنيفة فإنه تمسّك في وجوب ( مسح الناصية ) بخبر واحد وذلك ما رواه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه أتى سُباطة قوم فبال وتوضأ، ومسح على ناصيته وخفيه، في ( أنه عليه السلام مسح على الناصية ) فجعل ذلك القدر من المسح شرطاً لصحة الصلاة!! وهاهنا نقل أهلُ العلم نقلاً متواتراً أنه عليه السلام واظب طول عمره على قراءة الفاتحة، ثمّ قال : إن صحة الصلاة غير موقوفة عليها، وهذا من العجائب! ».
الحكم الرابع : هل يقرأ المأموم خلف الإمام؟
اتفق العلماء على أن المأموم إذا أدرك الإمام راكعاً فإنه يحمل عنه القراءة، لإجماعهم على سقوط القراءة عنه بركوع الإمام، وأمّا إذا أدركه قائماً فهل يقرأ خلفه أم تكفيه قراءة الإمام؟ اختلف العلماء في ذلك على أقوال :
أ - فذهب الشافعي وأحمد : إلى وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام سواء كانت الصلاة سرّية أم جهرية.
ب - وذهب مالك إلى أن الصلاة إذا كانت سرّية قرأ خلف الإمام، ولا يقرأ في الجهرية.
ج - وذهب أبو حنيفة : إلى أنه لا يقرأ خلف الإمام لا في السرية ولا في الجهرية.
استدل الشافعية والحنابلة بالحديث المتقدم وهو قوله ﷺ :« لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ».
فإن اللفظ عام يشمل الإمام والمأموم، سواء كانت الصلاة سرية جهرية، فمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب لم تصحّ صلاته.
واستدل الإمام مالك : على قراءة الفاتحة إذا كانت الصلاة سرّية بالحديث المذكور، ومنع من القراءة خلف الإمام إذا كانت الصلاة جهرية لقوله تعالى :﴿ وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [ الأعراف : ٢٠٤ ].
وقد نقل القرطبي : عن الإمام مالك أنه لا يقرأ في الجهرية بشيء من القرآن خلف الإمام، وأمّا في السرّية فيقرأ بفاتحة الكتاب، فإن ترك قراءتها فقد أساء ولا شيء عليه.
وأمّا الإمام أبو حنيفة : فقد منع من القراءة خلف الإمام مطلقاً عملاً بالآية الكريمة ﴿ وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا ﴾ [ الأعراف : ٢٠٤ ] ولحديث « من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ».
واستدل أيضاً بما روي عن النبي ﷺ أنه قال :
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
يقف الإنسان بين يدي هذه السورة الكريمة ( سورة الفاتحة ) وقفة العبد الخاشع، المعترف بالعجز، المقر بالتقصير، فإن هذه السورة وحي منزل من عند الله، وهي من كلام ربّ العالمين، وكلام الله فوق أن يحيط به عقل قاصر من بني الإنسان، أو يدرك أسراره العميقة بشر، مهما أوتي من النبوغ والذكاء، وسعة العلم والاطلاع.
وقُصارى ما يدركه الإنسان أن يحسّ من قرارة نفسه بروعة هذا القرآن الكريم، وسمو معانيه، وجمال ألفاظه، وأن يشعر بالعجز الكامل عن أن يأتي بمثل آية من آياته، فضلاً عن مثل الكتاب العزيز، فإن هذه السورة الكريمة على قصرها ووجازتها قد حوت معاني القرآن العظيم، واشتملت على مقاصده الأساسية بالإجمال، فهي تتناول أصول الدين وفروعه، تتناول العقيدة، والعبادة، والتشريع، والاعتقاد بالجزاء والحساب، والإيمان بصفات الله الحسنى، وإفراده بالعبادة، والاستعانة، والدعاء، والتوجه إليه جل وعلا بطلب الهداية إلى الدين الحق والصراط المستقيم، والتضرع إليه بالتثبيت على الإيمان ونهج سبيل الصالحين، وتجنب طريق المغضوب عليهم أو الضالّين إلى غير ما هنالك من مقاصد وأغراضٍ وأهداف.
قال العلامة القرطبي :« سميت الفاتحة ( القرآن العظيم ) لتضمنها جميع علومه، وذلك لأنها تشتمل على الثناء على الله تعالى بأوصاف كماله وجلاله، وعلى الأمر بالعبادات والإخلاص فيها، والاعتراف بالعجز عن القيام بشيء منها إلاّ بإعانته تعالى، وعلى الابتهال إليه في الهداية إلى الصراط المستقيم، وكفاية أحوال الناكثين، وعلى بيان عاقبة الجاحدين، وهذه جملة المقاصد التي جاء بها القرآن العظيم ».
يقول الشهيد الشيخ حسن البنا رحمه الله في رسالته القيّمة « مقدمة في التفسير » ما نصه :
« لا شك أن من تدبّر الفاتحة الكريمة - وكلّ مؤمن مطالب بتدبرها في تلاوته عامة، وفي صلاته خاصة - رأى من غزارة المعاني، وجمالها، وروعة التناسب، وجلاله، ما يأخذ بلبه، ويضيء جوانب قلبه. فهو يبتدئ ذاكراً تالياً متيمناً باسم الله الموصوف بالرحمة، التي تظهر آثار رحمته متجدّدة في كل شيء، مستشعراً أنّ أساس الصلة بينه وبين خالقه العظيم هو هذه الرحمة التي وسعت كل شيء. فإذا استشعر هذا المعنى، ووقر في نفسه انطلق لسانه بحمد هذا الإله ( الرحمن الرحيم ) وذكّره الحمد بعظيم نعمه، وكريم فضله، وعظيم آلائه البادية في تربيته للعوالم جميعاً، فأجال بصيرته في هذا المحيط الذي لا ساحل له، ثمّ تذكّر من جديد أنّ هذه النعم الجزيلة، والتربية الجليلة، ليست عن رغبة ولا رهبة، ولكنّها عن تفضل ورحمة، فنطق لسانه مرة ثانية بالرحمن الرحيم، ولكن من كمال هذا الإله العظيم أن يقرن ( الرحمن ) ب ( العدل ) ويذكّر بالحساب بعد الفضل، فهو مع رحمته السابغة المتجددة سيُدينُ عباده، ويحاسب خلقه يوم الدين
فتربيته لخلقه قائمة على الترغيب بالرحمة، والترهيب بالعدالة، والحساب، وإذا كان الأمر كذلك، فقد أصبح العبد مكلفاً بتحري الخير، والبحث عن وسائل النجاة، وهو في هذا أشدّ ما يكون حاجة إلى من يهديه سواء السبيل، ويرشده إلى الصراط المستقيم، وليس أولى به في ذلك من خالقه ومولاه، فليلجأ إليه، وليعتمد عليه، وليخاطبه بقوله :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ وليسأله الهداية من فضله إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم بمعرفة الحق واتباعه، غير المغضوب عليهم بالسلب بعد العطاء، والنكوص بعد الاهتداء، وغير الضالين التائهين، الذين يضلون عن الحق، أو يريدون الوصول إليه فلا يوفقون للعثور عليه آمين.
ولا جرم أن ( آمين ) براعة مقطع في غاية الجمال والحسن، وأي شيء أولى بهذه البراعة من فاتحة الكتاب، والتوجه إلى الله بالدعاء؟
فهل رأيت تناسقاً أدق، أو ارتباطاً أوثق، مما تراه بين معاني هذه الآيات الكريمات؟ وتذكّر وأنت تهيم في أودية هذا الجمال ما يرويه رسول الله ﷺ عن ربه في الحديث القدسي الذي أوردناه آنفاً « قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل » الخ وأدم هذا التدبر والإنعام، واجتهد أن تقرأ في الصلاة أو غيرها على مكث وتمهل، وخشوع وتذلّل، وأن تقف على رؤوس الآيات، وتعطي التلاوة حقها من التجويد أو النغمات، من غير تكلف ولا تطريب، واشتغال بالألفاظ عن المعاني، مع رفع الصوت المعتدل في التلاوة العادية، أو الصلاة الجهرية، فإنّ ذلك يعين على الفهم، ويثير ما غاض من شآبيب الدمع، وما نفع القلبَ شيء أفضل من تلاوةٍ في تدبر وخشوع «.