ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْإِخْلَاصقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. الْأَحَدُ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَيِ: الْوَاحِدُ الْوِتْرُ، الَّذِي لَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ، وَلَا صَاحِبَةَ، وَلَا وَلَدَ، وَلَا شَرِيكَ. اهـ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْمَعَانِي صَحِيحَةٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى.
وَأَصْلُ أَحَدٍ: وَحَدٍ، قُلِبَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً.
وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِعَةِ:
كَأَنَّ رَحْلِي وَقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا | بِذِي الْجَلِيلِ عَلَى مُسْتَأْنِسٍ وَحَد |
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ.
قَالَ الْخَلِيلُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَحَدُ اثْنَانِ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ ذَكَرَ أَصْلَهَا وَحَدٌ، وَقُلِبَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً لِلتَّخْفِيفِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَاحِدَ وَالْأَحَدَ لَيْسَا اسْمَيْنِ مُتَرَادِفَيْنِ.
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: لَا يُوصَفُ شَيْءٌ بِالْأَحَدِيَّةِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، لَا يُقَالُ: رَجُلٌ أَحَدٌ وَلَا دِرْهَمٌ أَحَدٌ، كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ وَاحِدٌ أَيْ فَرْدٌ بِهِ، بَلْ أَحَدٌ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى اسْتَأْثَرَ بِهَا فَلَا يُشْرِكُهُ فِيهَا شَيْءٌ.
ثُمَّ قَالَ: ذَكَرُوا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْأَحَدِ وُجُوهًا:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَاحِدَ يَدْخُلُ فِي الْأَحَدِ، وَالْأَحَدُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: فُلَانٌ لَا يُقَاوِمُهُ وَاحِدٌ، جَازَ أَنْ يُقَالَ: لَكِنَّهُ يُقَاوِمُهُ اثْنَانِ بِخِلَافِ الْأَحَدِ. ُُ
وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْوَاحِدَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِثْبَاتِ، وَالْأَحَدَ يُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ.
تَقُولُ فِي الْإِثْبَاتِ رَأَيْتُ رَجُلًا وَاحِدًا.
وَتَقُولُ فِي النَّفْيِ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا، فَيُفِيدُ الْعُمُومَ.
أَمَّا مَا نَقَلَهُ عَنِ الْخَلِيلِ، وَقَدْ حَكَاهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ فَقَالَ: وَرَجُلٌ وَاحِدٌ وَأَحَدٌ، أَيْ: خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ أَحَدًا تُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ فَقَدْ جَاءَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْإِثْبَاتِ أَيْضًا.
كَقَوْلِهِ: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [٤ ٤٣].
فَتَكُونُ أَغْلَبِيَّةً فِي اسْتِعْمَالِهَا وَدَلَالَتِهَا فِي الْعُمُومِ وَاضِحَةً.
وَقَالَ فِي مُعْجَمِ مَقَايِيسِ اللُّغَةِ فِي بَابِ الْهَمْزَةِ وَالْحَاءِ وَمَا بَعْدَهَا: أَحَدٌ، إِنَّهَا فَرْعٌ وَالْأَصْلُ الْوَاوُ وَحَدٌ.
وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْوَاوِ وَفِي مَادَّةِ وَحَدَ. قَالَ: الْوَاوُ وَالْحَاءُ وَالدَّالُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى الِانْفِرَادِ مِنْ ذَلِكَ الْوَحْدَةِ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَهُوَ وَاحِدُ قَبِيلَتِهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مِثْلُهُ قَالَ:
يَا وَاحِدَ الْعُرْبِ الَّذِي | مَا فِي الْأَنَامِ لَهُ نَظِيرُ |
فَيَكُونُ بِهَذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَصْلَ بِالْوَاوِ وَالْهَمْزَةَ فَرْعٌ عَنْهُ.
وَتَقَدَّمَ أَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الْعُمُومِ أَوْضَحُ أَيْ أَحَدٌ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحَدٌ، أَيْ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لَا شَبِيهَ وَلَا شَرِيكَ، وَلَا نَظِيرَ وَلَا نِدَّ لَهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَقَدْ فَسَّرَهُ ضِمْنًا قَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [١١٢ ٤]. ُُ
كَمَا قِيلَ:
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ | تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ |
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ، إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الصَّافَّاتِ وَفِي غَيْرِهَا، وَفِي الْبَقَرَةِ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [٢ ١٦٣].
وَفِي التَّوْبَةِ: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [٩ ٣١]، فَجَاءَ مَقْرُونًا بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَفِي ص قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [٣٨ ٦٥].
وَكَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ الرِّسَالَةَ كُلَّهَا جَاءَتْ لِتَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ: هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [١٤ ٥٢]، سُبْحَانَهُ جَلَّ جَلَالُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، وَتَنَزَّهَتْ صِفَاتُهُ، فَهُوَ وَاحِدٌ أَحَدٌ فِي ذَاتِهِ وَفِي أَسْمَائِهِ وَفِي صِفَاتِهِ وَفِي أَفْعَالِهِ.
وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِتَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى عَقْلًا كَمَا قَرَّرَهُ نَقْلًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا [١٧ ٤٢ - ٤٣].
وَقَوْلِهِ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [٢١ ٢٢].
فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ فَسَادِهِمَا بِعَدَمِ تَعَدُّدِهِمَا، وَجَمَعَ الْعَقْلَ وَالنَّقْلَ فِي قَوْلِهِ: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [٢٣ ٩١]. ُُ
قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [١١٢ ٣].
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ الْمُتَنَاهِي فِي السُّؤْدُدِ، وَفِي الْكَمَالِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
وَقِيلَ: مَنْ يَصْمُدُ الْخَلَائِقُ إِلَيْهِ فِي حَاجَاتِهِمْ، وَلَا يَحْتَاجُ هُوَ إِلَى أَحَدٍ.
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ، مَعْنَى الصَّمَدِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ [٦ ١٤] فَذَكَرَ شَوَاهِدَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا.
وَبِإِمْعَانِ النَّظَرِ فِي مَبْدَأٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، يَتَّضِحُ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا تَفْسِيرٌ لِأَوَّلِهَا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ لِأَنَّ الْأَحَدِيَّةَ هِيَ تَفَرُّدُهُ سُبْحَانَهُ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْكَمَالِ كُلِّهَا، وَلِأَنَّ الْمَوْلُودَ لَيْسَ بِأَحَدٍ، لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ وَالِدِهِ.
وَالْوَالِدُ لَيْسَ بِأَحَدٍ ; لِأَنَّ جُزْءًا مِنْهُ فِي وَلَدِهِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ يَكُونُ لَهُ كُفْءٌ، فَلَيْسَ بِأَحَدٍ لِوُجُودِ الْكُفْءِ، وَهَكَذَا السُّورَةُ كُلُّهَا لِتَقْرِيرِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ.
تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ، بَيَانُ شَوَاهِدِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ الْآيَةَ [٢٥ ٢] مِنْ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ.
تَنْبِيهٌ
فَفِي اتِّخَاذِ الْوَلَدِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْوِلَادَةِ ; لِأَنَّ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ قَدْ يَكُونُ بِدُونِ وِلَادَةٍ كَالتَّبَنِّي أَوْ غَيْرِهِ، كَمَا فِي قِصَّةِ يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ عَزِيزِ مِصْرَ: أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [١٢ ٢١].
فَفِي هَذِهِ السُّورَةِ نَفْيٌ أَخَصُّ، فَلَزِمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ وَهِيَ سُورَةُ
وَقَدْ جَاءَ فِيهَا النَّصُّ الصَّرِيحُ بِعَدَمِ الْوِلَادَةِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، فَهِيَ أَخَصُّ مِنْ تِلْكَ، وَهَذَا مِنَ الْمُسَلَّمَاتِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا بِدُونِ شَكٍّ وَلَا نِزَاعٍ وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا أَيُّ خِلَافٍ.
وَلَكِنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسَلِّمُوا بِذَلِكَ، فَالْيَهُودُ قَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَالْمُشْرِكُونَ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ.
فَاتَّفَقُوا عَلَى ادِّعَاءِ الْوَلَدِ لِلَّهِ، وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَوْلُودٌ.
وَقَدْ جَاءَتِ النُّصُوصُ الصَّرِيحَةُ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إِلَّا أَنَّ مُجَرَّدَ النَّصِّ الَّذِي لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ الْخَصْمُ لَا يَكْفِي لِإِقْنَاعِهِ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِصِفَاتِ اللَّهِ، لَمْ يَأْتِ التَّنْوِيهُ فِيهَا عَنِ الْمَانِعِ مِنِ اتِّخَاذِ اللَّهِ لِلْوَلَدِ، وَمِنْ كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ لَمْ يُولَدْ.
وَلَمَّا كَانَ بَيَانُ الْمَانِعِ أَوِ الْمُوجِبِ مِنْ مَنْهَجِ هَذَا الْكِتَابِ، إِذَا كَانَ يُوجَدُ لِلْحُكْمِ مُوجِبٌ أَوْ مَانِعٌ وَلَمْ تَتَقَدَّمِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ، فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَدْ تَكَلَّمَ عَلَى آيَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، بِمَا يَكْفِي وَيَشْفِي.
وَلَكِنْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ ذِكْرُ ادِّعَاءِ الْوَلَدِ لِلَّهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَجَاءَ الرَّدُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ بَيَانِ الْمَانِعِ مُفَصَّلًا مَعَ الْإِشْعَارِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، وَلِذَا لَزِمَ التَّنْوِيهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [٢ ١١٦ - ١١٧].
فَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِيمَا قَالُوهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا.
ثُمَّ جَاءَ حَرْفُ الْإِضْرَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ، فَفِيهِ بَيَانُ الْمَانِعِ عَقْلًا مِنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ بِمَا يَلْزَمُ الْخَصْمَ، وَذَلِكَ أَنَّ غَايَةَ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ أَنْ يَكُونَ بَارًّا بِوَالِدِهِ، وَأَنْ يَنْتَفِعَ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ. كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [١٨ ٤٦]، أَوْ يَكُونُ الْوَلَدُ وَارِثًا لِأَبِيهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ تَعَالَى زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ الْآيَةَ [١٩ ٥ - ٦].
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَيٌّ بَاقٍ يَرِثُ وَلَا يُورَثُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ الْآيَةَ [٥٥ ٢٦ - ٢٧].
وَقَوْلُهُ: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [٣ ١٨٠].
فَإِذَا كَانَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كُلُّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي قُنُوتٍ وَامْتِثَالٍ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [١٩ ٩٢ - ٩٣].
فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ فِي حَاجَةٍ إِلَى الْوَلَدِ لِغِنَاهُ عَنْهُ.
ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ قُدْرَتَهُ عَلَى الْإِيجَادِ وَالْإِبْدَاعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [٢ ١١٧].
وَهَذَا وَاضِحٌ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَقَدْ تَمَدَّحَ سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا [١٧ ١١١].
أَمَّا أَنَّهُ لَمْ يُولَدْ. فَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ عَلَيْهِ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا، بِدَلِيلِ الْمُمَانَعَةِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ كَالْآتِي:
لَوْ تَوَقَّفَ وُجُودُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى أَنْ يُولَدَ لَكَانَ فِي وُجُودِهِ مُحْتَاجًا إِلَى مَنْ يُوجِدُهُ، ثُمَّ يَكُونُ مَنْ يَلِدُهُ فِي حَاجَةٍ إِلَى وَالِدٍ، وَهَكَذَا يَأْتِي الدَّوْرُ وَالتَّسَلْسُلُ وَهَذَا بَاطِلٌ.
وَقَدْ يُقَالُ: مِنْ جَانِبِ الْمُمَانَعَةِ الْعَقْلِيَّةِ لَوِ افْتُرِضَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [٤٣ ٨١].
فَنَقُولُ عَلَى هَذَا الِافْتِرَاضِ: لَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَمَا مَبْدَأُ وُجُودِ هَذَا الْوَلَدِ وَمَا مَصِيرُهُ؟ فَإِنْ كَانَ حَادِثًا فَمَتَى حُدُوثُهُ؟ وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا تَعَدَّدَ الْقِدَمُ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ بَاقِيًا تَعَدَّدَ الْبَقَاءُ، وَإِنْ كَانَ مُنْتَهِيًا فَمَتَى انْتِهَاؤُهُ؟
وَإِذَا كَانَ مَآلُهُ إِلَى الِانْتِهَاءِ فَمَا الْحَاجَةُ إِلَى إِيجَادِهِ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَانْتَفَى اتِّخَاذُ الْوَلَدِ عَقْلًا وَنَقْلًا، كَمَا انْتَفَتِ الْوِلَادَةُ كَذَلِكَ عَقْلًا وَنَقْلًا.
وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ سُؤَالًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ لِمَاذَا قَدَّمَ نَفْيَ الْوَلَدِ عَلَى نَفْيِ الْوِلَادَةِ؟ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَشَاهَدِ أَنْ يُولَدَ ثُمَّ يَلِدُ؟
وَأَجَابَ بِأَنَّهُ مِنْ تَقْدِيمِ الْأَهَمِّ لِأَنَّهُ رَدٌّ عَلَى النَّصَارَى فِي قَوْلِهِمْ: عِيسَى ابْنُ اللَّهِ، وَعَلَى الْيَهُودِ فِي قَوْلِهِمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَعَلَى قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَوْلُودٌ لِأَحَدٍ، فَكَانَتْ دَعْوَاهُمُ الْوَلَدَ لِلَّهِ فِرْيَةٌ عُظْمَى. اهـ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [١٨ ٥].
وَقَوْلُهُ: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا [١٩ ٨٨ - ٩١].
فَلِشَنَاعَةِ هَذِهِ الْفِرْيَةِ قَدَّمَ ذِكْرَهَا، ثُمَّ الرَّدُّ عَلَى عَدَمِ إِمْكَانِهَا بِقَوْلِهِ: وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [١٩ ٩٢ - ٩٣].
وَقَدْ قَدَّمْنَا دَلِيلَ الْمَنْعِ عَقْلًا وَنَقْلًا.
وَالْجَوَابُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ مَنْ جَوَّزَ الْوِلَادَةَ لَهُ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، فَقَدْ يُجَوِّزُ الْوِلَادَةَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ مَوْلُودًا فَجَاءَ نَفْيُهَا تَتِمَّةً لِلنَّفْيِ وَالتَّنْزِيهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَحْرِ، كَانَ السُّؤَالُ عَنِ الْوُضُوءِ مِنْ مَائِهِ فَقَطْ، فَجَاءَ الْجَوَابُ عَنْ مَائِهِ وَمَيْتَتِهِ ; لِأَنَّ مَا احْتَمَلَ السُّؤَالَ فِي مَائِهِ يَحْتَمِلُ الِاشْتِبَاهَ فِي مَيْتَتِهِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. قَالُوا: كُفُؤًا وَكُفُوًا وَكَفَاءً، بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمِثْلُ.
وَقَدْ تَعَدَّدَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَكُلُّهَا تَدُورُ عَلَى مَعْنَى نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ.
فَعَنْ كَعْبٍ وَعَطَاءٍ: لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ وَلَا عَدِيلٌ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ بِمَعْنَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ: أَيْ لَا صَاحِبَةَ لَهُ.
وَقَدْ جَاءَ نَفْيُ الْكُفْءِ وَالْمِثْلِ وَالنِّدِّ وَالْعَدْلِ، فَالْكُفْءُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَالْمِثْلُ فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَقَوْلِهِ: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [١٦ ٧٤].
وَالنِّدُّ فِي قَوْلِهِ: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [٢ ٢٢].
وَالْعِدْلُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [٦ ١].
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ عِنْدَ آيَةِ الْأَنْعَامِ بَيَانٌ لِذَلِكَ، أَيْ يُسَاوُونَهُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعِدْلِ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ أَحَدُ شِقَّيْ حَمْلِ الْبَعِيرِ عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ، وَالْآخَرُ مِنَ الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ.
وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ مَبْحَثَانِ يُورِدُهُمَا الْمُفَسِّرُونَ. أَحَدُهُمَا: أَسْبَابُ نُزُولِهَا، وَالْآخَرُ: مَا جَاءَ فِي فَضْلِهَا، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ مَوْضُوعِ هَذَا الْكِتَابِ تَتَبُّعُ ذَلِكَ، إِلَّا مَا كَانَ لَهُ دَوَافِعُ تَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى.
أَمَّا الْمَبْحَثُ الْآخَرُ وَهُوَ سَبَبُ نُزُولِهَا، فَقِيلَ فِيهِ. إِنَّ الْمُشْرِكِينَ طَلَبُوا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْسُبَ لَهُمْ رَبَّهُ، فَنَزَلَتْ.
وَقَوْلُهُ فِيهَا: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، رُدٌّ عَلَى إِثْبَاتِ النَّسَبِ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى حِينَمَا سَأَلَ فِرْعَوْنُ مُوسَى عَنْ رَبِّهِ، فَقَالَ لَهُ: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [٢٦ ٢٣].
فَجَاءَ جَوَابُهُ: قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [٢٦ ٢٤ - ٢٧].
وَكُنْتُ سَمِعْتُ مِنَ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ، أَنَّ مُوجِبَ قَوْلِ فِرْعَوْنَ عَنْ مُوسَى «لَمَجْنُونٌ» ; لِأَنَّهُ سَأَلَهُ بِمَا فِي قَوْلِهِ: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَمَا يَسْأَلُ بِهَا عَنْ شَرْحِ الْمَاهِيَّةِ فَكَانَ مُقْتَضَى السُّؤَالِ بِهَا أَنْ يُبَيِّنَ مَاهِيَّةَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ، كَمَا يُقَالُ فِي جَوَابٍ: مَا الْإِنْسَانُ؟ إِنَّهُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ.
وَلَكِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْرَضَ عَنْ سُؤَالِ فِرْعَوْنَ لِجَهْلِهِ عَنْ حَقِيقَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لِتَجَاهُلِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [٢٧ ١٤]، وَأَجَابَهُ عَمَّا يَخُصُّهُ وَيَلْزَمُهُ الِاعْتِرَافُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، لَا رُبُوبِيَّةَ فِرْعَوْنَ الْكَاذِبَةَ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، لَمَّا سَأَلُوا عَنِ الْأَهِلَّةِ، مَا بَالُهَا تَبْدُو صَغِيرَةً، ثُمَّ تَكْبُرُ؟ فَهُوَ سُؤَالٌ عَنْ حَقِيقَةِ تَغَيُّرِهَا، فَتَرَكَ الْقُرْآنُ جَوَابَهُمْ عَلَى سُؤَالِهِمْ وَأَجَابَهُمْ بِمَا يَلْزَمُهُمْ وَيَنْفَعُهُمْ.
وَكَذَلِكَ جَوَابُ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلنُّمْرُوذِ حِينَمَا حَاجَّهُ فِي رَبِّهِ: إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [٢ ٢٥٨].
يَذْكُرُ الْمُفَسِّرُونَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَرَاهُمَا مُعَوِّذَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ، وَلَكِنْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَنِي أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [١١٣ ١] فَقُلْتُهَا وَقَالَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [١١٤ ١] فَقُلْتُهَا فَنَحْنُ نَقُولُ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَذَكَرَ نَحْوَهُ عَنِ الْبُخَارِيِّ ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ قَدْ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ إِلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَثْبَتُوهُمَا فِي الْمَصَاحِفِ الْأَئِمَّةِ، وَنَفَّذُوهَا إِلَى سَائِرِ الْآفَاقِ. وَرُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِهِمَا فِي الصَّلَاةِ وَسَاقَ عِدَّةَ طُرُقٍ فِي إِثْبَاتِ أَنَّهُمَا قُرْآنٌ، مِمَّا يَنْفِي أَيَّ خِلَافٍ بَعْدِ ذَلِكَ فِي إِثْبَاتِهِمَا. وَقَدِ اعْتَذَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، بِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُمَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى أَنَّهُمَا قُرْآنٌ وَسَمِعَهُمَا فَظَنَّهُمَا أَنَّهُمَا دُعَاءٌ مِنَ الْأَدْعِيَةِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أُعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ». وَلَمَّا بَلَغَهُ إِثْبَاتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ إِلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَمِنَ الْجَدِيرِ بِالذِّكْرِ التَّنْوِيهُ عَنِ ارْتِبَاطِهِمَا بِسُورَةِ الْإِخْلَاصِ قَبْلَهُمَا. وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْوَاحِدُ الْأَحَدُ، الْفَرْدُ الصَّمَدُ، وَالصَّمَدُ مِنْ مَعَانِيهِ الَّذِي تَصْمُدُ الْخَلَائِقُ إِلَيْهِ فِي حَاجَاتِهِمْ، جَاءَ فِي هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ تَوْجِيهُ الْعِبَادِ إِلَى مَنْ يَسْتَعِيذُونَ وَيَلُوذُونَ بِهِ، وَهُوَ اللَّهُ الصَّمَدُ سُبْحَانَهُ، فَهُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يُعِيذُهُمْ وَيَحْفَظُهُمْ وَهُوَ الَّذِي يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ. وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ: تُعَادِلُ الِاسْتِعَاذَةَ بِالْخَالِقِ مِمَّا خَلَقَ ; لِأَنَّ كُلَّ مُنْغَلِقٍ عَنْ غَيْرِهِ، إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الَّذِي لَمْ يَلِدُ وَلَمْ يُولَدْ. الثَّانِيَةُ بَعْدَهَا: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ. وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَنْبِيهٌ عَلَى مَا يُعْطِيهِ السِّيَاقُ مِنْ خَتْمِ الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ بِهَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ، وَالْمُقَارَنَةُ بَيْنَهُمَا لِبَيَانِ عِظَمِ مَنْزِلَتِهِمَا. كَمَا أَنَّ الشَّيْخَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ، قَدْ أَحَالَ عَلَى سُورَةِ النَّاسِ لِإِتْمَامِ مَبْحَثِ إِفْرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ، كَمَا سَنُوَضِّحُهُ كُلَّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَحَلِّهِ، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.