تفسير سورة الفلق

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الفلق من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

سُوْرَةُ الفَلَقْ
مدنية، وآيها: خمس آيات، وحروفها: ثلاثة وسبعون حرفًا، وكلمها: ثلاث وعشرون كلمة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

روي أن بنات لَبيد بنِ الأعصم اليهودي كنَّ ساحرات، وهن اللواتي سحرْنَ مع أبيهن (١) رسولَ الله - ﷺ -، وعَقَدْنَ له إحدى عشرة عقدة، فروي أنّه لبث فيه ستة أشهر، واشتد عليه، حتّى إنّه ليُخَيَّلُ إليه أنّه فعلَ الشيءَ وما فعلَه، وكان تسلُّط السحرِ على ظاهره وجوارحِه، لا على قلبه واعتقاده وعقله، فأنزل الله إحدى عشرة آية بعدد العقد هُنَّ المعوذتان، وأمره أن يتعوذ بهما، فجعل كلما يقرأ آية، انحلت عقدة، ووجد - ﷺ - خفة حتّى انحلت عنه العقدة الأخيرة، فقام كأنما أنشط من عقال (٢).
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١)﴾.
[١] فقال تعالى (٣): ﴿قُلْ أَعُوذُ﴾ أستجير ﴿بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ الصُّبح؛ لأنّ
(١) "أبيهن" ساقطة من "ت".
(٢) انظر: "تفسير الثعلبي" (١٠/ ٣٣٨)، و"روح المعاني" للألوسي (٣٠/ ٢٨٣). وروى قصة سحر لبيدٍ النبيَّ - ﷺ -: البخاريّ (٥٤٣٣)، كتاب: الطب، باب: السحر، ومسلم (٢١٨٩)، كتاب: السّلام، باب: السحر، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(٣) في "ت": "قوله تعالى".
عموده يتفلَّق بالضياء عن الظلام، ومنه: ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ﴾ [الأنعام: ٩٦].
* * *
﴿مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (٢)﴾.
[٢] ﴿مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ (ما) بمعنى الّذي يعمُّ كلَّ موجود له شر. وقرأ بعض المعتزلة القائلين بأن الله لم يخلق الشر (مِنْ شَرٍّ) بالتنوين (١) (ما خَلَقَ) على النَّفْي، وهي قراءة مردودة مبنية على مذهب باطل، فالله (٢) خالقُ كلِّ شيء.
* * *
﴿وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (٣)﴾.
[٣] ﴿وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ﴾ هو القمر ﴿إِذَا وَقَبَ﴾ خسفَ واسودَّ.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أخذ رسولُ الله - ﷺ - بيدي، فأشار إلى القمر، فقال: يا عائشة! تعوَّذِي بالله من شرِّ هذا؛ فإن هذا الغاسِقُ إذا وَقَبَ" (٣).
* * *
﴿وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (٤)﴾.
[٤] ﴿وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾ السواحر اللواتي ينفثْنَ في عقد
(١) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (٨/ ٥٣٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٨/ ٢٧٧).
(٢) في "ت": "الله".
(٣) رواه الترمذي (٣٣٦٦)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة المعوذتين، وقال: حسن صحيح، والإمام أحمد في "المسند" (٦/ ٦١)، وغيرهما.
الخيط إذا رَقَيْن. قرأ رويس عن يعقوب بخلاف عنه: (النَّافِثَاتِ) بألف بعد النون وكسر الفاء مخففة من غير ألف بعدها، وقرأ روح عن يعقوب أيضًا بخلاف عنه: (النُّفَاثَاتِ) بضم النون [وتخفيف الفاء جمع نُفاثة، وهو ما أنفثته من فيك، وقرأ الباقون: بتشديد الفاء وفتحها وألف بعدها من غير ألف بعد النون (١)، وأجمعت المصاحف على حذف الألفين، فاحتملتها] (٢) القراءات، والكلُّ مأخوذ من النفث، وهو شبهُ النفخ يكون في الرقية، ولا ريقَ معه، فإن كان معه ريق، فهو الثفل، يقال منه: نفث الراقي ينفُث وينفِث -بالضم والكسر-، فالنفاثات في العقد -بالتشديد-: السواحر على مراد تكرار الفعل والاحتراف به، والنفاثات تكون للدفعة الواحدة من الفعل ولتكراره أيضًا، فالقراءات كلها ترجع إلى شيء واحد، ولا تخالف الرسم.
* * *
﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (٥)﴾.
[٥] ﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ أظهر حسده، وعمل بمقتضاه، والحسد أخبثُ الطبائع، وهو تمني زوال النعمة عن مستحقها، سواء كانت نعمة دين أو دنيا.
قال - ﷺ -: "الحسدُ يأكلُ الحسنات كما تأكلُ النارُ الحطبَ" (٣).
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٤٠٤ - ٤٠٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٨/ ٢٧٧).
(٢) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
(٣) رواه أبو داود (٤٩٠٣)، كتاب: الأدب، باب: في الحسد، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وإسناده ضعيف. انظر: "فيض القدير" للمناوي (٣/ ١٢٥).
465
وقد روي عن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنّه قال: "الحاسدُ مُضادٌّ لقضائي، جاحِدٌ لنَعْمائي" (١).
قال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: "ما رأيت ظالمًا أشبهَ بمظلومٍ من الحاسد، غَمٌّ دائم، ونفسٌ متتِابع" (٢).
وأول ذنب عُصي الله تعالى به في السَّماء: حسدُ إبليس لآدم، فأخرجه من الجنَّة، فطرد (٣)، وصار به شيطانًا رجيمًا، وفي الأرض: حسدُ قابيل لأخيه هابيل، فقتله.
وعين الحاسد في الأغلب لا تضر، قال بعضهم: كلّ أحد يمكن أن ترضيه إِلَّا الحاسد؛ فإنّه لا يُرضيه إِلَّا زوالُ النعمة عنك.
وأنشد بعضهم:
فَكُلٌّ أُداريهِ على حسبِ حالِهِ سِوى حاسدٍ (٤) فَهْيَ الّتي لا أَنالُها
وكيفَ يُداري المرءُ حاسدَ نعمةٍ إذا كانَ لا يُرضيه إِلَّا زَوالهُا
قال الحسين بن الفضل: ذكر الله تعالى الشرور في هذه السورة، ثمّ ختمها بالحسد؛ ليظهر أنّه أخس طبع (٥).
(١) ذكره الحكيم التّرمذيّ في "نوادر الأصول" (٤/ ١٩)، عن وهب بن منبه.
(٢) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (٦٦٣٥) لكن عن الخليل بن أحمد.
(٣) "فطرد" زيادة من "ت".
(٤) في "ت": "حاسدي".
(٥) انظر: "تفسير الثعالبي" (٤/ ٤٥٣).
466
[قال - ﷺ -: "لَّا حسدَ إِلَّا في اثنتين: رجلٍ أتاه الله مالًا، فسَلَّطَهُ على هلكته في الحق، ورجلٍ آتاه الله حكمةً، فهو يقضي بها، ويُعَلِّمُها" (١)] (٢).
وروي أن المراد بالحاسد إذا حسد: اليهود؛ فإنهم كانوا يحسدون النّبيّ - ﷺ -، والله أعلم.
* * *
(١) رواه البخاريّ (٧٣)، كتاب: العلم، باب: الاغتباط في العلم والحكمة، ومسلم (٨١٦)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(٢) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
467
Icon