تفسير سورة السجدة

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة السجدة من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه محمد ثناء الله المظهري . المتوفي سنة 1225 هـ

سورة السّجدة
مكّيّة وهى ثلاثون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١) ان جعل اسما للسورة او القران فهو مبتدا خبره.
تَنْزِيلُ الْكِتابِ على انه بمعنى المنزل والاضافة من قبيل اخلاق ثياب والا فهو خبر مبتدا محذوف اى هذا تنزيل او مبتدا خبره لا رَيْبَ فِيهِ فيكون مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) حالا من الضمير فى فيه لان المصدر لا يعمل فيما بعد الخبر ويجوز ان يكون خبرا ثانيا او خبرا اولا ولا ريب فيه اعتراضا لا محل له والضمير فى فيه راجع الى مضمون الجملة كانّه قيل لا ريب فى كونه منزلا مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ او الخبر.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ولا ريب فيه حال من الكتاب او اعتراض ومن ربّ العلمين متعلق بتنزيل والضمير فى فيه لمضمون الجملة ويؤيده قوله تعالى بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فانه تقرير له ونظم الكلام على هذا انه أشار اولا الى اعجازه بقوله الم ثم رتب عليه ان تنزيله من رب العالمين وقور ذلك بنفي الريب عنه ثم اضرب عن ذلك الى ما يقولون فيه على خلاف ذلك إنكارا له وتعجبا منه فان أم منقطعة بمعنى بل والهمزة للانكار ثم اضرب عنه الى اثبات انه الحق المنزل من الله وبيّن المقصود من تنزيله فقال لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ يا محمد إذ كانوا اهل الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم وجملة ما اتهم صفة لقوم لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) بانذارك إياهم.
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما الله مبتدا والموصول مع صلته خبره فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أولها يوم الأحد وآخرها الجمعة
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ عطف على خلق وقد بسطنا الكلام فى الاستواء على العرش فى سورة يونس وذكرنا فى سورة الأعراف ايضا ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ يعنى إذا جاوزتم مرضاته لا ينصركم فى مواطن النصر والشفيع متجوز به للناصر فاذا أخذ لكم لم يبق لكم ولى ولا ناصر استيناف او حال من فاعل استوى أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) بمواعظ الله الهمزة للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره الا تتفكرون فلا تتذكرون.
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ استئناف او حال من فاعل استوى او خبر بعد خبر لله او خبر أول والموصول مع صلته صفة لله وما لكم حال يعنى يدبر امر الدنيا مِنَ السَّماءِ اى بأسباب سماوية نازلة اثارها إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ اى يصعد إِلَيْهِ ويثبت فى علمه موجودا او المعنى يدبر الأمر اى يحكم بالأمر وينزل الوحى مع جبرئيل او ينزل القضاء والقدر مع الملك المؤكل به من السماء الى الأرض ثم يعرج اى يصعد جبرئيل او غيره من الملائكة اليه اى الى الله يعنى الى حيث يرضاه فِي يَوْمٍ من ايام الدنيا والمراد باليوم هاهنا مطلق الوقت لا بياض النهار لان نزول الملائكة وصعودها غير مختص بالنهار كانَ مِقْدارُهُ حال بتقدير قد اى وقد كان مقدار عروجه ونزوله أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) يعنى لو سار أحد من بنى آدم لم يقطعه الا فى الف سنة لكن الله بكمال قدرته جعل نزوله وعروجه فى طرفة عين- قال البغوي هذا وصف عروج الملائكة ونزولها من السماء الى الأرض واما قوله تعالى تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مدة المسافة من الأرض الى سدرة المنتهى التي هى مقام جبرئيل يقول يسير جبرئيل والملائكة الذين معه من اهل مقامه مسيرة خمسين الف سنة فى يوم من ايام الدنيا اى برهة من الزمان هذا كله معنى قول مجاهد والضحاك- قلت وجاز ان يكون المراد فى الآيتين المسافة التي بين الأرض والسدرة المنتهى على اختلاف سير السائرين فانه ورد فى حديث العباس بن عبد المطلب عند الترمذي بعد ما بين السماء والأرض اما واحدة واما اثنتان او ثلاث وسبعون سنة وفى حديث ابى هريرة عند احمد والترمذي مسافة ما بينهما وبين كل سمائين خمس مائة سنة ولا وجه لتطبيقهما الا باعتبار اختلاف سير السائرين والله اعلم.
وقيل معنى الاية يُدَبِّرُ الْأَمْرَ اى امر الدنيا مِنَ السَّماءِ اى بأسباب سماوية
267
كالملائكة وغيرها نازلة اثارها الى الأرض ثم يرجع الأمر والتدبير اليه وحده بعد فناء الدنيا وانقطاع امر الأمراء وحكم الحكام فى يوم كان مقداره الف سنة وهو يوم القيامة لما روى الترمذي عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمس مائة عام ونصف يوم واما قوله تعالى تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ أراد به ايضا يوم القيامة- روى الشيخان فى الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ ما من صاحب كنز لا يؤدى زكوة كنزه الا احمى عليه فى نار جهنّم فيجعل صفائح فتكوى بها جنباه وجبينه حتى يحكم الله بين عباده فى يوم كان مقداره خمسين الف سنة ثم يرى سبيله اما الى الجنة واما الى النار الحديث- ووجه التطبيق بين الحديثين ان يوم القيامة يختلف طوله بالنسبة الى الاشخاص يكون ذلك اليوم على بعض الناس مقدار خمسين الف سنة وعلى بعضهم مقدار الف سنة وعلى بعضهم أخف من ايام الدنيا اخرج الحاكم والبيهقي عن ابى هريرة مرفوعا وموقوفا طول ذلك اليوم على المؤمنين كمقدار بين الظهر والعصر- وكذا ذكر البغوي قول ابراهيم التيمي واخرج ابو يعلى وابن حبان والبيهقي بسند حسن عن ابى سعيد قال سئل رسول الله ﷺ عن يوم كان مقداره خمسين الف سنة ما أطول هذا اليوم فقال والذي نفسى بيده انه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من الصلاة المكتوبة يصليها فى الدنيا- وقال البغوي قال ابن ابى مليكة دخلت انا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان بن عفان على ابن عباس فسأله عن هذه الاية وعن قوله تعالى خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فقال له ابن عباس ايام سماه الله تعالى لا أدرى ما هى واكره ان أقول فى كتاب الله ما لا اعلم- واخرج البيهقي من طريق ابن ابى طلحة عن ابن عباس فى قوله تعالى يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ قال هذا فى الدنيا وقوله تعالى فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فهذا يوم القيمة جعله الله على الكافر مقدار خمسين الف سنة- واختار جلال الدين المحلى هذه الرواية فى تفسيره وقيل يقضى قضاء الف سنة فينزل به الملك ثم يعرج بعد الالف لالف اخر- وقيل يدبر الأمور به من الطاعات منزلا من السماء الى الأرض بالوحى ثم لا يعرج اليه
268
خالصا كما يرتضيه الا فى مدة متطاولة لقلة المخلصين فى الأعمال.
ذلِكَ المدبر الخالق للسموات والأرض وما بينهما مبتدا خبره عالِمُ الْغَيْبِ اى ما غاب عن الخلق وَالشَّهادَةِ اى ما حضر عندهم فيدبر الأمور على وفق الحكمة الْعَزِيزُ الغالب على امره الرَّحِيمُ (٦) على العباد فى تدبيره وفيه ايماء بانه يراعى المصالح تفضلا وإحسانا صفتان لعالم الغيب والشهادة او خبر ثان وثالث لذلك.
الَّذِي أَحْسَنَ الموصول مع الصلة صفة بعد الصفتين المذكورتين او خبر رابع لذلك كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ «وابو جعفر ويعقوب- ابو محمد» قرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر بسكون اللام فهو بدل اشتمال من كلّ شىء يعنى احسن خلق كل شىء موافرا عليه ما يستعده ويليق به على وفق الحكمة كذا قال قتادة وقال ابن عباس أتقنه وأحكمه اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس عن النبي ﷺ فى قوله أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ قال اما ان است القردة ليست بحسنة ولكنه احكم خلقها وقال مقاتل اى علم كيف يخلق كل شىء من قولك فلان يحسن كذا إذا كان يعلم- وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام على صيغة الماضي على انه صفة لشئ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ يعنى آدم عليه السلام مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ سميت به لانها تنسل منه اى تنفصل مِنْ سُلالَةٍ اى نطفة سميت سلالة لانها تسل من الإنسان مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ضعيف بدل من سلالة او بيان له.
ثُمَّ سَوَّاهُ اى الإنسان قوّمه بتصوير أعضائه على ما ينبغى وَنَفَخَ فِيهِ اى فى الإنسان مِنْ رُوحِهِ الضمير اما راجع الى الإنسان او الى الذي احسن خلق كلّ شىء تشريفا وإظهارا بانه خلق عجيب له شأن عظيم ممكن له نسبة بما لا مثل له ولا كيف وَجَعَلَ لَكُمُ التفات من الغيبة الى الخطاب السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا بعد ما كنتم نطفا بغير سمع وبصر وتعقّل قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (٩) ما زائدة مؤكدة للقلة اى شكرا قليلا او فى زمان قليل تشكرون رب هذه النعم فتوحدونه وتعبدونه.
وَقالُوا اى منكرى البعث عطف على جعل لكم السّمع وفيه التفات من الخطاب الى الغيبة أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ اى غبنا فيها يعنى صرنا ترابا مخلوطا بتراب الأرض بحيث لا يتميز بينهما وأصله من قولهم ضل الماء فى اللبن إذا اختلط به وغاب فيه قرأ ابن عامر «وابو جعفر- ابو محمد ٣» إذا بهمزة واحدة على الخبر والعامل فيه ما دل عليه أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ
جَدِيدٍ
وهو نبعث ونجدّد خلقا قرأ نافع والكسائي ويعقوب انّا بهمزة واحدة على الخبر- والقائل ابى بن خلف والاسناد الى جميعهم لرضائهم به والاستفهام لانكار البعث استبعادا بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ اى بما بعد البعث من الجزاء كافِرُونَ (١٠) لمّا ذكر كفرهم بالبعث اضرب عنه الى ما هو ابلغ منه وهو انهم كافرون بجميع ما يكون فى الاخرة.
قُلْ يا محمّد يَتَوَفَّاكُمْ اى يستوفى نفوسكم لا يترك منها شيئا او لا يبقى منكم أحدا والتفعل والاستفعال يستعمل أحدهما مقام الاخر يقال تقصّيته واستقصيته وتعجلته واستعجلته مَلَكُ الْمَوْتِ وهو عزرائيل عليه السلام روى البغوي عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ الأمراض والإرجاع كلها بريد الموت ورسول الموت فاذا حان الاجل اتى ملك الموت فقال ايها العبد كم خبر بعد خبروكم رسول بعد رسول وكم بريد بعد بريد انا الخبر ليس بعدي خبر وانا الرسول ليس بعدي رسول أجب ربك طائعا او مكرها ولمّا قبض روحه وتصارخوا عليه قال على من تصرخون وعلى من تبكون والله ما ظلمت له أجلا ولا أكلت له رزقا بل دعاه ربه فليبك الباكي على نفسه فو الله ان لى عودات وعودات حتى لا أبقى فيكم أحدا الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ اى وكل بقبض أرواحكم وله أعوان من الملائكة وقد ذكرنا الأحاديث الواردة فى ملك الموت وأعوانه فى تفسير سورة الانعام فى تفسير قوله تعالى حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ.
(مسئلة) ملك الموت لا يعلم بوقت أحد ما لم يؤمر به اخرج احمد وابن ابى الدنيا عن معمر قال بلغنا ان ملك الموت لا يعلم متى يحضر أجل الإنسان حتى يؤمر بقبضه واخرج ابن ابى الدنيا عن ابن جريج قال بلغنا انه يقال لملك الموت اقبض فلانا فى وقت كذا فى يوم كذا.
(مسئلة) ملك الموت يظهر للمؤمن بأحسن صورة وللكافر باقبحها اخرج ابن ابى الدنيا عن ابن مسعود وابن عباس قالا لمّا اتخذ الله ابراهيم خليلا سال ملك الموت ان يأذن له ان يبشر له بذلك فاذن له فجاء ابراهيم فبشره فقال الحمد لله ثم قال يا ملك الموت أرني كيف تقبض أنفاس الكفار قال يا ابراهيم لا تطيق ذلك قال بلى قال فاعرض فاعرض ثم نظر فاذا برجل اسود ينال رأسه السماء يخرج من فيه لهب النار وليس من شعرة فى جسده الا فى صورة رجل يخرج من فيه ومسامه لهب النار فغشى على ابراهيم ثم
270
أفاق وقد تحول ملك الموت فى الصورة الاولى- فقال يا ملك الموت لو لم يبق الكافر من البلاء والحزن الا صورتك لكفاه فارنى كيف تقبض أرواح المؤمنين قال فاعرض فاعرض ثم التفت فاذا هو برجل شاب احسن الناس وجها وأطيبهم ريحا فى ثياب بيض فقال يا ملك الموت لو لم ير المؤمن عند الموت من قرة عين والكرامة الا صورتك هذه يكفيه واخرج عن كعب ان ابراهيم أراه ملك الموت الصورة التي يقبض بها المؤمن قال فراه من النور والبهاء شيئا لا يعلمه الا الله والتي يقبض بها الكفار الفجار فرعب ابراهيم رعبا حتى أرعدت فرائصه والصق بطنه بالأرض وكادت نفسه تخرج.
(مسئلة) كيف يكون الموت سوى الآدميين اخرج ابو الشيخ والعقيلي فى الصغاء والديلمي عن انس قال قال رسول الله ﷺ آجال البهائم وحشاش الأرض كلها فى التسبيح فاذا انقضى تسبيحها قبض الله أرواحها وليس الى ملك الموت من ذلك شىء وله طريق اخر أخرجه الخطيب من حديث ابن عمر مثله قال ابن عطية والقرضى معنى ذلك ان الله تعالى يعدم حياتها بلا مباشرة ملك الموت- قلت جعل ملك الموت وأعوانه للانسان إكراما للمؤمنين واهانة وتعذيبا للكافرين واخرج الخطيب فى تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس قال وكّل ملك الموت يقبض أرواح الآدميين فهو الذي يقبض أرواحهم وملك فى الجن وملك فى الشياطين وملك فى الوحش والطير والسباع والحيتان والنمل فهو اربعة املك والملائكة يموتون فى الصعقة الاولى وان ملك الموت يلى قبض أرواحهم ثم يموت فامّا الشهداء فى البحر فان الله يلى قبض أرواحهم لا يكل ذلك الى ملك الموت لكرامتهم عليه حيث ركبوا سيح البحر فى سبيله- وفيه جويبر ضعيف جدّا والضحاك عن ابن عباس منقطع ولاخره شاهد مرفوع أخرجه ابن ماجة عن ابى امامة سمعت رسول الله ﷺ يقول ان الله وكل ملك الموت بقبض الأرواح الا شهداء البحر فان الله يتولى قبض أرواحهم- قلت فشهداء بحر العشق والمعرفة اولى بذلك الكرامة والله اعلم.
ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) يعنى بعد الموت يصعد بروح المؤمن ملائكة الرحمة الى السموات حتى ينتهى بها الى السماء السابعة وبروح الكافر ملائكة العذاب حتى ينتهى بها الى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له فيطرح روحه طرحا وقد مر الحديث فى سورة
271
الانعام او المعنى ترجعون بعد الحشر احياء الى موقف الحساب فيجزى كل نفس بما عملت وقد مرّ ثم ذكر الله سبحانه حالهم بعد الحشر فقال.
وَلَوْ تَرى يا محمّد إِذِ الْمُجْرِمُونَ اى المشركين الذين قالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ... ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ حال من الضمير فى المجرمون عِنْدَ رَبِّهِمْ ندامة وحزنا يقولون حال من فاعل ناكسوا او حال مرادف له او استيناف فى جواب ما يقولون حينئذ رَبَّنا أَبْصَرْنا ما وعدتنا وكنا مكذّبيه وَسَمِعْنا منك تصديق رسلك فيما كذّبناهم وقيل معناه أبصرنا معاصينا وسمعنا ما قيل فينا فَارْجِعْنا الى الدنيا نَعْمَلْ عملا صالِحاً مجذوم فى جواب الدعاء إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) الان بما كنا شاكّين فيه قبل وجواب لو محذوف تقديره لرايت امرا فظيعا ويجوز ان يكون لو للتمنى والمضي فى لو وإذ لكون الثابت فى علم الله بمنزلة الواقع ولا يقدر لترى مفعول لان المعنى لو يكون منك رؤية فى هذا الوقت او يقدر ما دل عليه صلة إذ يعنى لو ترى نكوس رءوسهم.
وَلَوْ شِئْنا ان نؤتى كل نفس هداها اى ما يهتدى به الى الايمان والعمل الصالح وخلق الانقياد للرسول باختياره قلبا وقالبا او المعنى لو شئنا هداية كل نفس لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ عاقلة من الجن والانس هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي اى ثبت قضائى بعدم هدايتهم وعدم اهتدائهم وكون مصيرهم الى النار او سبق وعيدى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ اللام فيهما للعهد والمراد المجرمون من الفريقين الذين مرّ ذكرهم بدليل قوله أَجْمَعِينَ (١٣) عن عائشة قالت قال رسول الله ﷺ ان الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم فى أصلاب ابائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم فى أصلاب ابائهم رواه مسلم وعن علىّ رضى الله عنه قال قال رسول الله ﷺ ما منكم من أحد الا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة قالوا يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له اما من كان من اهل السعادة فسييسر لعمل اهل السعادة واما من كان من اهل الشقاوة فسييسر لعمل اهل الشقاوة ثم قرأ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى الاية متفق عليه وعن عبد الله ابن عمرو قال خرج رسول الله ﷺ وفى يده كتابان فقال أتدرون
ما هذان الكتابان قلنا لا يا رسول الله الا تخبرنا فقال للذى فى يمينه هذا كتاب من رب العالمين فيه اسماء اهل الجنة واسماء ابائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم ابدا ثم قال للذى فى شماله هذا كتاب من رب العالمين فيه اسماء لاهل النار واسماء ابائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم ابدا فقال أصحابه ففيم العمل يا رسول الله ان كان امر قد فرغ منه فقال سددوا وقاربوا فان صاحب الجنة يختم له بعمل اهل الجنة وان عمل اىّ عمل وان صاحب النار يختم له بعمل اهل النار وان عمل اىّ عمل ثم قال رسول الله ﷺ بيديه فنبذهما ثم قال فرغ ربّكم من العباد فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ- رواه الترمذي- وجملة لاملانّ جواب قسم محذوف وبيان للقول المذكور بتقدير هو او بدل عنه وجاز ان يكون حق القول فى حكم القسم يقال حقّا لافعلن كذا فعلى هذا يكون لاملانّ جوابا له وقال مقاتل المراد بالقول هو قوله تعالى لابليس لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ وفى هذه تصريح بان عدم ايمانهم مسبب بعدم المشيّة- وحق القول اما تقرير لعدم المشية والمعنى ولكن شئت كفرهم ومصيرهم الى النار او تعليل لعدم المشية بسبق القضاء ولا يدفعه جعل ذوق العذاب مسببا عن نسيانهم العاقبة وعدم تفكرهم فيها بقوله.
فَذُوقُوا الفاء للسببية يعنى لما حقّ القول منّى كذلك فيقول لهم خزنة جهنم إذا دخلوها ذوقوا عذاب جهنم بِما نَسِيتُمْ اى بسبب نسيانكم لِقاءَ يَوْمِكُمْ يعنى البعث والرجوع الى الله اى الى موقف حسابه هذا صفة ليومكم حتى عملتم موجبات العذاب إِنَّا نَسِيناكُمْ اى تركناكم من الرحمة او فى العذاب ترك المنسى وفى استينافه وبناء الفعل على ان واسمها تشديد فى الانتقام منهم وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤) كرر الأمر للتوكيد ولما نيط به من التصريح بمفعوله وتعليله بأعمالهم السيئة من الكفر والمعاصي كما علله بتركهم تدبر امر العاقبة والتفكر فيها دلالة على ان كل منهما يقتضى ذلك وهذه الاية حجة لنا على الجبرية والقدرية- اما على الجبرية فلقوله بما نسيتم حيث جعل سبب ذوق العذاب نسيانهم وتركهم الايمان والأعمال الصالحة باختيارهم واما على القدرية فانهم يقولون ان الله يشاء من عباده كلهم الايمان والأعمال الصالحة وهم تركوا الايمان بمشيتهم واختيارهم فالاية تدل على انه لا جبر ولا تفويض بل امر بين أمرين.
إِنَّما يُؤْمِنُ
بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها اى وعظوا خَرُّوا وقعوا على وجوههم خوفا من عذاب الله سُجَّداً اى ساجدين وَسَبَّحُوا اى نزهوا عما لا يليق به كالعجز عن البعث بِحَمْدِ رَبِّهِمْ متلبسين بحمده يعنى حامدين له شكرا على ما وفقهم للاسلام وأتاهم الهدى قائلين سبحان الله وبحمده وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) عن الايمان والطاعة.
تَتَجافى حال من فاعل سبحوا اى ترتفع وتتنحى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ اى الفرش التي ينامون عليها يَدْعُونَ حال من الضمير المجرور فى جنوبهم وهو فاعل تتجافى على طريقة دابر هؤلاء مقطوع مصبحين رَبَّهُمْ خَوْفاً من سخطه وعذابه وَطَمَعاً فى رحمته وثوابه اخرج هناد عن اسماء بنت يزيد رضى الله عنها قال قال رسول الله ﷺ يجمع الله يوم القيامة الناس فى صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر فيقوم مناد فينادى اين الذين كانوا يحمدون الله تعالى فى السراء والضراء فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يعود فينادى اين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يقوم سائر الخلق فيحاسبون- واخرج ابن راهويه وابو يعلى فى مسنديهما من حديثها نحوه وفيه ينادى اولا بصوت يسمع الخلائق سيعلم اهل الجمع من اهل الكرم قال الحسن ومجاهد ومالك والأوزاعي وجماعة العلماء هم المتهجدون الذين يقومون لصلوة الليل روى احمد والترمذي وابن ماجة وابن ابى شيبة وابن راهويه فى مسنديهما والحاكم عن معاذ قال قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلنى الجنة ويباعدنى من النار قال لقد سالت من عظيم وانه يسير على من يسره الله عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتى الزكوة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال الا ادلك على أبواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلوة الرجل فى جوف الليل ثم تلا تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ حتى بلغ يعملون ثم قال الا ادلّك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه قلت بلى يا رسول الله قال رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد ثم قال الا أخبرك بملاك ذلك كله قلت بلى يا نبى الله فاخذ بلسانه وقال كف عليك هذا فقلت يا نبى الله وانا لمواخذون بما نتكلم به قال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس فى النار على وجوههم او على
274
مناخرهم الا حصائد ألسنتهم.
وعن ابى مالك الأشعري قال قال رسول الله ﷺ ان فى الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله لمن الان الكلام واطعم الطعام وتابع الصيام وصلّى بالليل والناس نيام- رواه البيهقي فى شعب الايمان- وروى الترمذي عن على نحوه وعن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلوة الليل- رواه مسلم وروى احمد الفصل الا خير بلفظ أفضل الصلاة بعد الفريضة صلوة فى جوف الليل وروى البغوي عن ابن مسعود رضى الله عنه قال قال رسول الله ﷺ عجب ربنا عن رجلين رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين حبه واهله الى صلوته فيقول الله لملائكته انظروا الى عبدى ثار عن فراشه ووطائه من بين حبه واهله رغبة فيما عندى وشفقة ممّا عندى ورجل غزا فى سبيل الله فانهزم مع أصحابه فعلم ما عليه فى انهزامه وماله فى الرجوع فرجع حتى أهريق دمه فيقول الله لملائكته انظروا الى عبدى رجع رغبة فيما عندى وشفقة عما عندى حتى أهريق دمه وروى البغوي عن ابى هريرة ما قال ابن «١» رواحة
وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات انّ ما قال واقع
يبيت يجافى جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
وقد ذكرنا ما ورد من الأحاديث فى فضائل صلوة الليل فى تفسير سورة المزّمّل واخرج الترمذي وصححه عن انس ان هذه الاية تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ نزلت فى انتظار الصلاة التي تدعى العتمة- وقال البغوي قال انس نزلت هذه الاية فينا معشر الأنصار كنا نصلى المغرب فلا نرجع الى رحالنا حتى نصلى العشاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- وقال عن انس ايضا قال نزلت فى أناس من اصحاب رسول الله ﷺ كانوا يصلون من صلوة المغرب الى صلوة العشاء- أخرجه ابن مردوية عن انس وأصله فى سنن ابى داؤد وهو قول ابى حاتم ومحمد بن المنكدر وقالا هى صلوة الأوابين روى ابن نصر عن محمد بن المنكدر مرسلا من صلى ما بين المغرب والعشاء فانها صلوة الأوابين واخرج البزار بسند ضعيف
(١) هذا فى كتب الرجال هو عبد الله بن رواحة الخزرجي شاعر رسول الله ﷺ وفى الأصل ابن ابى رواحة ١٢
275
عن بلال قال كنا نجلس فى المجلس وناس من اصحاب النبي ﷺ يصلون بعد المغرب الى العشاء فنزلت هذه الاية تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ- وقال البغوي عن ابى الدرداء وابى ذر- وعبادة بن صامت هم الذين يصلون العشاء الاخرة والفجر فى جماعة وروى مسلم واحمد عن عثمان رضى الله عنه قال قال رسول الله ﷺ من صلى العشاء فى جماعة فكانما قام نصف الليل ومن صلى الصبح فى جماعة فكانما صلى الليل كله- وعن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ لو يعلمون ما فى النداء والصف الاول ثم لم يجدوا الا ان يستهموا عليه لاستهموا عليه ولو يعلمون ما فى التهجير لاستبقوا اليه ولو يعلمون ما فى العتمة والصبح لاتوهما ولو حبوا- رواه الشيخان فى الصحيحين واحمد والنسائي.
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) قيل أريد به الصدقة المفروضة وقيل عام فى وجوه الخير.
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ لا ملك مقرّب ولا نبى مرسل ما أُخْفِيَ لَهُمْ قرأ حمزة ويعقوب بياء ساكنة على انه مضارع أخفيت ويؤيده قراءة ابن مسعود نخفى بالنون والباقون بفتحها على انه ماض مبنى للمفعول مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ من زائدة وقرّة أعين فى محل النصب على قراءة حمزة وفى محل الرفع على قراءة الجمهور اى ممّا تقربه أعينهم عن ابى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله ﷺ قال الله تعالى اعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رات ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر اقرءوا ان شئتم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ متفق عليه قال هذا ما لا تفسير له جَزاءً منصوب على المصدرية او على العلية يعنى يجزون جزاء وأخفى للجزاء بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) ذكر البغوي واخرج الواحدي وابن عساكر من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه انه كان بين على بن ابى طالب رضى الله عنه والوليد بن عقبة بن ابى معيط تنازع وكلام فى شىء فقال الوليد لعلى عليه السلام اسكت فانّك صبى وانا والله ابسط منك لسانا وأشجع منك حبانا واملا منك حشوا فى الكتيبة فقال على اسكت فانك فاسق فانزل الله تعالى.
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً واخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار مثله واخرج الخطيب فى تاريخه وابن عدى من طريق الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس مثله واخرج الخطيب وابن عساكر من طريق ابن لهيعة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس انها نزلت فى على بن ابى طالب وعقبة بن ابى معيط وذلك بسباب كان بينهما والاستفهام للانكار
والفاء للعطف على محذوف تقديره أيستوي علىّ ولى الله المرتضى ووليد عدو الله أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كان كَمَنْ كانَ فاسِقاً يعنى خارجا عن اهل الايمان لا يكون ذلك لا يَسْتَوُونَ (١٨) فى الشوف والمثوبة أورد صيغة الجمع لان المراد جنس المؤمن والكافر والجملة تقرير لانكار الاستواء ولمّا كان الاستواء مجملا فصّله بقوله.
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى فانها المأوى الحقيقي والدنيا منزل مرتحل عنها لا محالة يأوى إليها المؤمنون ويأبى عن دخولها الكافرون باختيارهم الشرك بالله نُزُلًا وو هو ما يعد للضيف حال من جنات وهو فاعل للظرف بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) اى بسبب أعمالهم.
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا اى كفروا فَمَأْواهُمُ النَّارُ استبدلوها بجنات المأوى كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها عبارة عن خلودهم فيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) اهانة لهم وزيادة فى غيظهم.
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ عطف على ماوهم النّار مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى يعنى عذاب الدنيا قال أبيّ بن كعب والضحاك والحسن وابراهيم يعنى مصائب الدنيا وأسقامها وهو رواية الوالبي عن ابن عباس وقال عكرمة أراد بها الحدود وقال مقاتل الجوع سبع سنين بمكة حين أكلوا الجيف والعظام والكلاب وقال ابن مسعود هو القتل بالسيف يوم بدر وهو قول قتادة والسدىّ دُونَ اى قبل الْعَذابِ الْأَكْبَرِ يعنى العذاب الاخرة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) الى الايمان يعنى من بقي منهم بعد القحط وبعد البدر.
وَمَنْ أَظْلَمُ لا أحد اظلم مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها ولم يتدبر فيها وثم لاستبعاد الاعراض عن مثل هذه الآيات مع فرط وضوحها وإرشادها الى السعادة فى الدارين إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢) فكيف بمن كان هو اظلم من كل ظالم.
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ جواب قسم محذوف وهو مع ما عطف عليه معترضة بين قوله إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ وبين قوله إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يعنى كما اتيناك القرآن اتينا قبل ذلك موسى الكتب يعنى التورية فَلا تَكُنْ يا محمد فِي مِرْيَةٍ فى شك مِنْ لِقائِهِ اى الكتاب مصدر مضاف الى المفعول والفاعل محذوف يعنى من ان لقيت الكتاب الى القران فانه غير مبتدع ممّا لم يكن قبل حتى ترتاب فيه- او من ان لقى الموسى الكتاب بالرضاء والقبول كذا قال السدىّ واخرج
الطبراني عن ابن عباس عن النبي ﷺ فى قوله فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ قال لقاء موسى ربه وقيل معناه لا تكن فى شك من لقائك موسى اى ليلة المعراج قاله ابن عباس وغيره- روى الشيخان عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال رايت ليلة اسرى بي موسى رجلا أدما طوالا جعدا كانّه من رجال شنوأة ورايت عيسى رجلا مربوع الخلق الى الحمرة والبياض سبط الراس ورايت مالكا خازن النار والدجال فى آيات أراهن الله إياه فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ- وعن ابن عباس قال سرنا مع رسول الله ﷺ فمررنا بواد فقال اىّ واد هذا فقالوا وادي الأزرق قال كانى انظر الى موسى فذكر من لونه وشعره واضعا إصبعيه فى اذنيه له جؤار «رفع الصوت والاستغاثة- منه رح» الى الله بالتلبية مارّا بهذا الوادي- قال ثم سرنا حتى اتينا على ثنية فقال اىّ ثنية هذه فقالوا مرشا او لغت فقال كانى انظر الى يونس على ناقة حمراء عليه جبة صوف خطام ناقته حلبته مارّا بهذا الوادي ملبيا- رواه مسلم وقد ذكر فى سورة بنى إسرائيل فى حديث المعراج ان النبي ﷺ راى موسى فى السماء السادسة ومراجعته فى امر الصلاة- وعن انس قال قال رسول الله ﷺ لمّا اسرى بي الى السماء رايت موسى يصلى فى قبره وَجَعَلْناهُ يعنى الكتاب الذي انزل على موسى وقال قتادة يعنى موسى كذا اخرج الطبراني عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال جعل موسى هدى لبنى إسرائيل هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٤) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ اى من بنى إسرائيل أَئِمَّةً قادة فى الخير يقتدى بهم يعنى الأنبياء الذين كانوا فيهم وقال قتادة اتباع الأنبياء يَهْدُونَ النّاس الى ما فيه من الاحكام بِأَمْرِنا إياهم او بتوفيقنا لهم لَمَّا صَبَرُوا قرأ «ورويس- ابو محمد» حمزة والكسائي لما بكسر اللام وتخفيف الميم اى لصبرهم والباقون بفتح اللام وتشديد الميم اى حين صبروا على دينهم وعلى البلاء من عدوهم بمصر- وفيه دليل على ان الصبر يورث امامة الناس وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) لامعانهم فيها بالنظر.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ يقضى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فيميز المحق من المبطل متصل بقوله إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ وفيه التفات من التكلم الى الغيبة فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) من امر الدين.
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ الهمزة للانكار والواو للعطف على محذوف والفاعل ضمير راجع الى ربّك او ما دل عليه قوله كَمْ أَهْلَكْنا تقديره الم يعتبروا بمن سبقهم ولم يهد لهم ربك او كثرة إهلاكه مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ
الماضية بسبب كفرهم يَمْشُونَ اهل مكة فى أسفارهم فِي مَساكِنِهِمْ اى مساكن المهلكين إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك لَآياتٍ دلالات على قبح ما فعلوا من الكفر والمعاصي وعلى قدرتنا على الانتقام أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) الهمزة للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أيعرضون عن ايتنا فلا يسمعون سماع تدبر واتعاظ.
أَوَلَمْ يَرَوْا الهمزة للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره الم يتفكروا ولم يروا اى لم يعلموا بل قد علموا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ التي جرز نباتها اى قطع وازيل فَنُخْرِجُ بِهِ اى بالماء زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ اى من الزرع أَنْعامُهُمْ كالتين والورق وَأَنْفُسُهُمْ كالحب والثمر أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) الهمزة للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره الا يلقون انظارهم فلا يبصرون ما ذكرنا فيستدلون به على كمال قدرتنا وفضلنا وعلى انا قادرون على بعثهم بعد الموت- اخرج ابن جرير وذكره البغوي عن قتادة قال قال الصحابة للمشركين ان لنا يوما او شك ان نستريح فيه ونتنعم ويحكم الله بيننا وبينكم- قلت لعلهم يعنون يوم القيامة الذي يحكم الله فيه بين العباد وقال الكلبي يعنون فتح مكة وقال السدىّ يوم بدر لان اصحاب النبي ﷺ كانوا يقولون ان الله ناصرنا ومظهرنا عليكم فقال المشركون استهزاء متى هذا الفتح فنزلت.
وَيَقُولُونَ يعنى كفار مكة عطف على مضمون أَفَلا يُبْصِرُونَ فان نفى أبصار آيات القدرة انكار للقدرة يعنى اينكرون القدرة ويقولون استهزاء مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) فيما تقولون فبينوا لنا وقته.
قُلْ يا محمد جملة مستأنفة فى جواب ماذا أقول لهم حين قالوا ذلك يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ المتبادر منه ان المراد بيوم الفتح يوم القيمة لان ايمان ذلك اليوم لا ينفع البتة ومن حمل الفتح على فتح مكة او يوم بدر قال معناه لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا وقتلوا او ماتوا على الكفر ايمانهم حين راووا العذاب بعد موتهم وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) اى يمهلون ووجه تطبيق هذا الجواب بسوالهم عن يوم الفتح ان سوالهم ذلك كان استعجالا منهم على وجه التكذيب والاستهزاء فاجيبوا على حسب ما عرف من عرضهم فى سوالهم- فكانّ التقدير لا تستعجلوا به ولا تستهزءوا فكانّى بكم وأنتم فى ذلك اليوم وأمنتم به فلم ينفعكم ايمانكم واستنظرتم فى درك العذاب فلم تنظروا.
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ الفاء للسببية يعنى إذا عرفت حالهم
279
وما لهم فاعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم قال ابن عباس نسختها اية السيف وَانْتَظِرْ موعدى لك بالفتح إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠) بك حوادث الزمان وقيل انتظر عذابنا فيهم فانهم ينتظرون ذلك.
عن ابى هريرة قال كان النبي ﷺ يقرأ فى الفجر يوم الجمعة الم تَنْزِيلُ وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ- وعن جابر قال كان النبي ﷺ لا ينام حتى يقرأ الم تَنْزِيلُ وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ رواه احمد والترمذي والدارمي وقال الترمذي هذا حديث صحيح وعن خالد بن معدان قال بلغني فى الم تنزيل ومثله فى تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ان رجلا كان يقراهما ما يقرأ شيئا غيرهما وكان كثير الخطايا فنشرت جناحها عليه وقالت رب اغفر له فانه كان يكثر قراءتى فشفعها الرب تعالى فيه وقال اكتبوا له بكل خطيئة حسنة وارفعوا له درجة- وقال ايضا انها تجادل عن صاحبها فى القبر تقول ان كنت من كتابك فشفعنى فيه وان لم أكن من كتابك فامحنى عنه وانها تكون كالطير تجعل جناحها عليه فتشفع له فتمنعه من عذاب القبر وقال فضلتا على كل سورة فى القران بستين حسنة- رواه الدارمي وعن ابن عباس قوله ﷺ من قرأ الم تنزيل وتبارك الملك اعطى من الاجر كانما احيى ليلة القدر- رواه الثعلبي وابن مردوية وروى ابن مردوية عن ابن عمر نحوه- قال السيوطي هذا حديث موضوع والله اعلم تم تفسير سورة الم تنزيل يوم الاثنين الرابع والعشرين من رجب من السنة السادسة بعد الف وماتين سنه ١٢٠٦ ويتلوه ان شاء الله تعالى سورة الأحزاب.
280
Icon