تفسير سورة الأعلى

الجامع لأحكام القرآن
تفسير سورة سورة الأعلى من كتاب الجامع لأحكام القرآن .
لمؤلفه القرطبي . المتوفي سنة 671 هـ

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى
يُسْتَحَبّ لِلْقَارِئِ إِذَا قَرَأَ " سَبِّحْ اِسْم رَبّك الْأَعْلَى " أَنْ يَقُول عَقِبَهُ : سُبْحَان رَبِّيَ الْأَعْلَى قَالَهُ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَهُ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ عَلَى مَا يَأْتِي.
وَرَوَى جَعْفَر بْن مُحَمَّد عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه قَالَ :( إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلَكًا يُقَال لَهُ حِزْقَائِيل، لَهُ ثَمَانِيَة عَشَرَ أَلْف جَنَاح، مَا بَيْن الْجَنَاح إِلَى الْجَنَاح مَسِيرَة خَمْسِمِائَةِ عَام، فَخَطَرَ لَهُ خَاطِر هَلْ تَقْدِرُ أَنْ تُبْصِرَ الْعَرْشَ جَمِيعَهُ ؟ فَزَادَهُ اللَّه أَجْنِحَةً مِثْلَهَا، فَكَانَ لَهُ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْف جَنَاح، مَا بَيْن الْجَنَاح إِلَى الْجَنَاح خَمْسُمِائَةِ عَام.
ثُمَّ أَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ : أَيّهَا الْمَلَك، أَنْ طِرْ، فَطَارَ مِقْدَار عِشْرِينَ أَلْفَ سَنَة فَلَمْ يَبْلُغ رَأْس قَائِمَة مِنْ قَوَائِم الْعَرْش.
ثُمَّ ضَاعَفَ اللَّه لَهُ فِي الْأَجْنِحَة وَالْقُوَّة، وَأَمَرَهُ أَنْ يَطِير، فَطَارَ مِقْدَار ثَلَاثِينَ أَلْف سَنَة أُخْرَى، فَلَمْ يَصِل أَيْضًا فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ أَيّهَا الْمَلَك، لَوْ طِرْت إِلَى نَفْخ الصُّوَر مَعَ أَجْنِحَتك وَقُوَّتك لَمْ تَبْلُغ سَاقَ عَرْشِي.
فَقَالَ الْمَلَك : سُبْحَان رَبِّيَ الْأَعْلَى فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى :" سَبِّحْ اِسْم رَبّك الْأَعْلَى ".
فَقَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : اِجْعَلُوهَا فِي سُجُودكُمْ ).
ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ فِي ( كِتَاب الْعَرَائِس ) لَهُ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَالسُّدِّيّ : مَعْنَى " سَبِّحْ اِسْم رَبّك الْأَعْلَى " أَيْ عَظِّمْ رَبّك الْأَعْلَى.
وَالِاسْم صِلَة، قُصِدَ بِهَا تَعْظِيم الْمُسَمَّى كَمَا قَالَ لَبِيد :
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اِسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا
وَقِيلَ : نَزِّهْ رَبّك عَنْ السُّوء، وَعَمَّا يَقُول فِيهِ الْمُلْحِدُونَ.
وَذَكَرَ الطَّبَرِيّ أَنَّ الْمَعْنَى نَزِّهْ اِسْم رَبّك عَنْ أَنْ تُسَمِّيَ بِهِ أَحَدًا سِوَاهُ.
وَقِيلَ : نَزِّهْ تَسْمِيَة رَبّك وَذِكْرَك إِيَّاهُ، أَنْ تَذْكُرَهُ إِلَّا وَأَنْتَ خَاشِع مُعَظِّم، وَلِذِكْرِهِ مُحْتَرِم.
وَجَعَلُوا الِاسْم بِمَعْنَى التَّسْمِيَة، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُون الِاسْم هُوَ الْمُسَمَّى.
رَوَى نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : لَا تَقُلْ عَلَا اِسْمُ اللَّه فَإِنَّ اِسْم اللَّه هُوَ الْأَعْلَى.
وَرَوَى أَبُو صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس : صَلِّ بِأَمْرِ رَبّك الْأَعْلَى.
قَالَ : وَهُوَ أَنْ تَقُول سُبْحَان رَبِّي الْأَعْلَى.
وَرُوِيَ عَنْ عِلِّيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَابْن عَبَّاس وَابْن عَمْرو وَابْن الزُّبَيْر وَأَبِي مُوسَى وَعَبْد اللَّه بْن مَسْعُود - رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا اِفْتَتَحُوا قِرَاءَة هَذِهِ السُّورَة قَالُوا : سُبْحَان رَبِّي الْأَعْلَى اِمْتِثَالًا لِأَمْرِهِ فِي اِبْتِدَائِهَا.
فَيَخْتَار الِاقْتِدَاء بِهِمْ فِي قِرَاءَتهمْ لَا أَنَّ سُبْحَان رَبِّيَ الْأَعْلَى مِنْ الْقُرْآن كَمَا قَالَهُ بَعْض أَهْل الزَّيْغ.
وَقِيلَ : إِنَّهَا فِي قِرَاءَة أُبَيّ :" سُبْحَان رَبِّي الْأَعْلَى ".
وَكَانَ اِبْن عُمَر يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ.
وَفِي الْحَدِيث : كَانَ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا قَرَأَهَا قَالَ :[ سُبْحَان رَبِّي الْأَعْلَى ].
قَالَ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن شَهْرَيَار، قَالَ : حَدَّثَنَا حُسَيْن بْن الْأَسْوَد، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي حَمَّاد قَالَ : حَدَّثَنَا عِيسَى بْن عُمَر، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ : قَرَأَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب عَلَيْهِ السَّلَام فِي الصَّلَاة " سَبِّحْ اِسْم رَبّك الْأَعْلَى "، ثُمَّ قَالَ : سُبْحَان رَبِّي الْأَعْلَى فَلَمَّا اِنْقَضَتْ الصَّلَاة قِيلَ لَهُ : يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، أَتَزِيدُ هَذَا فِي الْقُرْآن ؟ قَالَ : مَا هُوَ ؟ قَالُوا : سُبْحَان رَبِّي الْأَعْلَى.
قَالَ : لَا، إِنَّمَا أُمِرْنَا بِشَيْءٍ فَقُلْته، وَعَنْ عُقْبَة بْن عَامِر الْجُهَنِيّ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ " سَبِّحْ اِسْم رَبّك الْأَعْلَى " قَالَ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( اِجْعَلُوهَا فِي سُجُودكُمْ ).
وَهَذَا كُلّه يَدُلّ عَلَى أَنَّ الِاسْم هُوَ الْمُسَمَّى ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا : سُبْحَان اِسْم رَبّك الْأَعْلَى.
وَقِيلَ : إِنَّ أَوَّل مَنْ قَالَ [ سُبْحَان رَبِّيَ الْأَعْلَى ] مِيكَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِجِبْرِيل :( يَا جِبْرِيل أَخْبِرْنِي بِثَوَابِ مَنْ قَالَ : سُبْحَان رَبِّيَ الْأَعْلَى فِي صَلَاته أَوْ فِي غَيْر صَلَاته ).
فَقَالَ :( يَا مُحَمَّد، مَا مِنْ مُؤْمِن وَلَا مُؤْمِنَة يَقُولهَا فِي سُجُوده أَوْ فِي غَيْر سُجُوده، إِلَّا كَانَتْ لَهُ فِي مِيزَانه أَثْقَلَ مِنْ الْعَرْش وَالْكُرْسِيّ وَجِبَال الدُّنْيَا، وَيَقُول اللَّه تَعَالَى : صَدَقَ عَبْدِي، أَنَا فَوْق كُلّ شَيْء، وَلَيْسَ فَوْقِي شَيْء، اِشْهَدُوا يَا مَلَائِكَتِي أَنِّي قَدْ غَفَرْت لَهُ، وَأَدْخَلْته الْجَنَّة فَإِذَا مَاتَ زَارَهُ مِيكَائِيل كُلّ يَوْم، فَإِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة حَمَلَهُ عَلَى جَنَاحه، فَأَوْقَفَهُ بَيْن يَدَيْ اللَّه تَعَالَى، فَيَقُول : يَا رَبّ شَفِّعْنِي فِيهِ، فَيَقُول قَدْ شَفَّعْتُك فِيهِ، فَاذْهَبْ بِهِ إِلَى الْجَنَّة ).
وَقَالَ الْحَسَن :" سَبِّحْ اِسْم رَبّك الْأَعْلَى " أَيْ صَلِّ لِرَبِّك الْأَعْلَى.
وَقُلْ : أَيْ صَلِّ بِأَسْمَاءِ اللَّه، لَا كَمَا يُصَلِّي الْمُشْرِكُونَ بِالْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَة.
وَقِيلَ : اِرْفَعْ صَوْتك بِذِكْرِ رَبّك.
قَالَ جَرِير :
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى
قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّسْوِيَة فِي " الِانْفِطَار " وَغَيْرهَا.
أَيْ سَوَّى مَا خَلَقَ، فَلَمْ يَكُنْ فِي خَلْقه تَثْبِيج.
وَقَالَ الزَّجَّاج : أَيْ عَدَّلَ قَامَتْهُ.
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس : حَسَّنَ مَا خَلَقَ.
وَقَالَ الضَّحَّاك : خَلَقَ آدَم فَسَوَّى خَلْقه.
وَقِيلَ : خَلَقَ فِي أَصْلَاب الْآبَاء، وَسَوَّى فِي أَرْحَام الْأُمَّهَات.
وَقِيلَ : خَلَقَ الْأَجْسَاد، فَسَوَّى الْأَفْهَام.
وَقِيلَ : أَيْ خَلَقَ الْإِنْسَان وَهَيَّأَهُ لِلتَّكْلِيفِ.
وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى
قَرَأَ عَلِيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالسُّلَمِيّ وَالْكِسَائِيّ " قَدَرَ " مُخَفَّفَة الدَّال، وَشَدَّدَ الْبَاقُونَ.
وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
أَيْ قَدَّرَ وَوَفَّقَ لِكُلِّ شَكْلٍ شَكْلَهُ.
" فَهَدَى " أَيْ أَرْشَدَ.
قَالَ مُجَاهِد : قَدَّرَ الشَّقَاوَة وَالسَّعَادَة، وَهَدَى لِلرُّشْدِ وَالضَّلَالَة.
وَعَنْهُ قَالَ : هَدَى الْإِنْسَان لِلسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَة، وَهَدَى الْأَنْعَام لِمَرَاعِيهَا.
وَقِيلَ : قَدَّرَ أَقْوَاتهمْ وَأَرْزَاقهمْ، وَهَدَاهُمْ لِمَعَاشِهِمْ إِنْ كَانُوا إِنْسًا، وَلِمَرَاعِيهِمْ إِنْ كَانُوا وَحْشًا.
وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالسُّدِّيّ وَمُقَاتِل وَالْكَلْبِيّ فِي قَوْله " فَهَدَى " قَالُوا : عَرَّفَ خَلْقه كَيْف يَأْتِي الذَّكَر الْأُنْثَى كَمَا قَالَ فِي ( طه ) :" الَّذِي أَعْطَى كُلّ شَيْء خَلْقه ثُمَّ هَدَى " [ طه : ٥٠ ] أَيْ الذَّكَر لِلْأُنْثَى.
وَقَالَ عَطَاء : جَعَلَ لِكُلِّ دَابَّة مَا يُصْلِحُهَا، وَهَدَاهَا لَهُ.
وَقِيلَ : خَلَقَ الْمَنَافِع فِي الْأَشْيَاء، وَهَدَى الْإِنْسَان لِوَجْهِ اِسْتِخْرَاجهَا مِنْهَا.
وَقِيلَ " قَدَّرَ فَهَدَى " : قَدَّرَ لِكُلِّ حَيَوَان مَا يُصْلِحُهُ، فَهَدَاهُ، وَعَرَّفَهُ وَجْه الِانْتِفَاع بِهِ.
يُحْكَى أَنَّ الْأَفْعَى إِذَا أَتَتْ عَلَيْهَا أَلْف سَنَة عَمِيَتْ، وَقَدْ أَلْهَمَهَا اللَّه أَنَّ مَسْحَ الْعَيْن بِوَرَقِ الرَّازِيَانْج الْغَضّ يَرُدُّ إِلَيْهَا بَصَرَهَا فَرُبَّمَا كَانَتْ فِي بَرِّيَّة بَيْنهَا وَبَيْن الرِّيف مَسِيرَة أَيَّام، فَتَطْوِي تِلْكَ الْمَسَافَة عَلَى طُولهَا وَعَلَى عَمَّاهَا، حَتَّى تَهْجُم فِي بَعْض الْبَسَاتِين عَلَى شَجَرَة الرَّازِيَانْج لَا تُخْطِئُهَا، فَتَحُكُّ بِهَا عَيْنَيْهَا وَتَرْجِع بَاصِرَة بِإِذْنِ اللَّه تَعَالَى.
وَهِدَايَات الْإِنْسَان إِلَى مَا لَا يُحَدّ مِنْ مَصَالِحه، و مَا لَا يُحْصَر مِنْ حَوَائِجه، فِي أَغْذِيَته وَأَدْوِيَته، وَفِي أَبْوَاب دُنْيَاهُ وَدِينه، وَإِلْهَامَات الْبَهَائِم وَالطُّيُور وَهَوَامّ الْأَرْض بَاب وَاسِع، وَشَوْط بَطِين، لَا يُحِيط بِهِ وَصْف وَاصِف فَسُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى.
وَقَالَ السُّدِّيّ : قَدَّرَ مُدَّة الْجَنِين فِي الرَّحِم تِسْعَة أَشْهُر، وَأَقَلّ وَأَكْثَر، ثُمَّ هَدَاهُ لِلْخُرُوجِ مِنْ الرَّحِم.
وَقَالَ الْفَرَّاء : أَيْ قَدَّرَ، فَهَدَى وَأَضَلَّ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدهمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" سَرَابِيل تَقِيكُمْ الْحَرّ " [ النَّحْل : ٨١ ].
وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون بِمَعْنَى دَعَا إِلَى الْإِيمَان كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَإِنَّك لَتَهْدِي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم ".
[ الشُّورَى : ٥٢ ].
أَيْ لَتَدْعُو، وَقَدْ دَعَا الْكُلّ إِلَى الْإِيمَان.
وَقِيلَ :" فَهَدَى " أَيْ دَلَّهُمْ بِأَفْعَالِهِ عَلَى تَوْحِيده، وَكَوْنه عَالِمًا قَادِرًا.
وَلَا خِلَاف أَنَّ مَنْ شَدَّدَ الدَّال مِنْ " قَدَّرَ " أَنَّهُ مِنْ التَّقْدِير كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَخَلَقَ كُلّ شَيْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا " [ الْفُرْقَان : ٢ ].
وَمَنْ خَفَّفَ فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مِنْ التَّقْدِير فَيَكُونَانِ بِمَعْنًى.
وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مِنْ الْقَدْر وَالْمِلْك أَيْ مَلَكَ الْأَشْيَاء، وَهَدَى مَنْ يَشَاء.
قُلْت : وَسَمِعْت بَعْض أَشْيَاخِي يَقُول : الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَقَدَّرَ فَهَدَى.
هُوَ تَفْسِير الْعُلُوّ الَّذِي يَلِيق بِجَلَالِ اللَّه سُبْحَانه عَلَى جَمِيع مَخْلُوقَاته.
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى
أَيْ النَّبَات وَالْكَلَأ الْأَخْضَر.
قَالَ الشَّاعِر :
قَبَّحَ الْإِلَهُ وُجُوهَ تَغْلِبَ كُلَّمَا سَبَّحَ الْحَجِيجُ وَكَبَّرُوا تَكْبِيرَا
فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى
الْغُثَاء : مَا يَقْذِف بِهِ السَّيْل عَلَى جَوَانِب الْوَادِي مِنْ الْحَشِيش وَالنَّبَات وَالْقُمَاش.
وَكَذَلِكَ الْغُثَّاء ( بِالتَّشْدِيدِ ).
وَالْجَمْع : الْأَغْثَاء، قَتَادَة : الْغُثَاء : الشَّيْء الْيَابِس.
وَيُقَال لِلْبَقْلِ وَالْحَشِيش إِذَا تَحَطَّمَ وَيَبِسَ : غُثَاء وَهَشِيم.
وَكَذَلِكَ لِلَّذِي يَكُون حَوْل الْمَاء مِنْ الْقُمَاش غُثَاء كَمَا قَالَ :
وَقَدْ يَنْبُتُ الْمَرْعَى عَلَى دِمَنِ الثَّرَى وَتَبْقَى حَزَّازَاتُ النُّفُوسِ كَمَا هِيَا
كَأَنَّ طَمِيَّةَ الْمُجَيْمِر غُدْوَةً مِنْ السَّيْل وَالْأَغْثَاء فَلْكَة مِغْزَلِ
وَحَكَى أَهْل اللُّغَة : غَثَا الْوَادِي وَجَفَا.
وَكَذَلِكَ الْمَاء : إِذَا عَلَاهُ مِنْ الزَّبَد وَالْقُمَاش مَا لَا يُنْتَفَع بِهِ.
وَالْأَحْوَى : الْأَسْوَد أَيْ إِنَّ النَّبَات يَضْرِب إِلَى الْحُوَّة مِنْ شِدَّة الْخُضْرَة كَالْأَسْوَدِ.
وَالْحُوَّة : السَّوَاد قَالَ الْأَعْشَى :
لَمْيَاء فِي شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لَعَسٌ وَفِي اللِّثَاث وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبُ
وَفِي الصِّحَاح : وَالْحُوَّة : سُمْرَة الشَّفَة.
يُقَال : رَجُل أَحَوَى، وَامْرَأَة حَوَّاء، وَقَدْ حَوَيْت.
وَبَعِير أَحَوَى إِذَا خَالَطَ خُضْرَته سَوَاد وَصَفْوَة.
وَتَصْغِير أَحَوَى أُحَيْو فِي لُغَة مَنْ قَالَ أُسَيْوِد.
ثُمَّ قِيلَ : يَجُوز أَنْ يَكُون " أَحَوَى " حَالًا مِنْ " الْمَرْعَى "، وَيَكُون الْمَعْنَى : كَأَنَّهُ مِنْ خُضْرَته يَضْرِب إِلَى السَّوَاد وَالتَّقْدِير : أَخْرَجَ الْمَرْعَى أَحَوَى، فَجَعَلَهُ غُثَاء يُقَال : قَدْ حُوِيَ النَّبْت حَكَاهُ الْكِسَائِيّ، وَقَالَ :
وَغَيْثٍ مِنْ الْوَسْمِيّ حُوٍّ تِلَاعُهُ تَبَطَّنْتُهُ بِشَيْظَمٍ صَلَتَانِ
وَيَجُوز أَنْ يَكُون " حَوَى " صِفَة لِ " غُثَاء ".
وَالْمَعْنَى : أَنَّهُ صَارَ كَذَلِكَ بَعْد خُضْرَته.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : فَجَعَلَهُ أَسْوَد مِنْ اِحْتِرَاقه وَقِدَمِهِ وَالرَّطْب إِذَا يَبِسَ اِسْوَدَّ.
وَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد : أَخْرَجَ الْمَرْعَى أَخْضَر، ثُمَّ لَمَّا يَبِسَ اِسْوَدَّ مِنْ اِحْتِرَاقه، فَصَارَ غُثَاء تَذْهَب بِهِ الرِّيَاح وَالسُّيُول.
وَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّه تَعَالَى لِلْكُفَّارِ، لِذَهَابِ الدُّنْيَا بَعْد نَضَارَتهَا.
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى
" سَنُقْرِئُك " أَيْ الْقُرْآن يَا مُحَمَّد فَنُعَلِّمُكَهُ " فَلَا تَنْسَى " أَيْ فَتَحْفَظُ رَوَاهُ اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك.
وَهَذِهِ بُشْرَى مِنْ اللَّه تَعَالَى بَشَّرَهُ بِأَنْ أَعْطَاهُ آيَة بَيِّنَةً، وَهِيَ أَنْ يَقْرَأ عَلَيْهِ جِبْرِيل مَا يَقْرَأ عَلَيْهِ مِنْ الْوَحْي، وَهُوَ أُمِّيِّ لَا يَكْتُب وَلَا يَقْرَأ، فَيَحْفَظهُ وَلَا يَنْسَاهُ.
وَعَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد، قَالَ : كَانَ يَتَذَكَّر مَخَافَة أَنْ يَنْسَى، فَقِيلَ : كَفَيْتُكَهُ.
قَالَ مُجَاهِد وَالْكَلْبِيّ : كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيل بِالْوَحْيِ، لَمْ يَفْرُغ جِبْرِيل مِنْ آخِر الْآيَة، حَتَّى يَتَكَلَّم النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَوَّلِهَا، مَخَافَة أَنْ يَنْسَاهَا فَنَزَلَتْ :" سَنُقْرِئُك فَلَا تَنْسَى " بَعْد ذَلِكَ شَيْئًا، فَقَدْ كَفَيْتُكَهُ.
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ
وَوَجْه الِاسْتِثْنَاء عَلَى هَذَا، مَا قَالَهُ الْفَرَّاء : إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه، وَهُوَ لَمْ يَشَأْ أَنْ تَنْسَى شَيْئًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَّا مَا شَاءَ رَبّك " [ هُود : ١٠٨ ].
وَلَا يَشَاء.
وَيُقَال فِي الْكَلَام : لَأُعْطِيَنَّكَ كُلّ مَا سَأَلْت إِلَّا مَا شِئْت، وَإِلَّا أَنْ أَشَاء أَنْ أَمْنَعَك، وَالنِّيَّة عَلَى أَلَّا يَمْنَعهُ شَيْئًا.
فَعَلَى هَذَا مَجَارِي الْأَيْمَان يُسْتَثْنَى فِيهَا وَنِيَّة الْحَالِف التَّمَام.
وَفِي رِوَايَة أَبِي صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس : فَلَمْ يَنْسَ بَعْد نُزُول هَذِهِ الْآيَة حَتَّى مَاتَ، " إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه ".
وَعَنْ سَعِيد عَنْ قَتَادَة، قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَنْسَى شَيْئًا " إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه ".
وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَال قِيلَ : إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يَنْسَى، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَنْسَى شَيْئًا مِنْهُ بَعْد نُزُول هَذِهِ الْآيَة.
وَقِيلَ : إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يَنْسَى، ثُمَّ يَذْكُر بَعْد ذَلِكَ فَإِذًا قَدْ نَسِيَ، وَلَكِنَّهُ يَتَذَكَّر وَلَا يَنْسَى نِسْيَانًا كُلِّيًّا.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ أَسْقَطَ آيَة فِي قِرَاءَته فِي الصَّلَاة، فَحَسِبَ أُبَيّ أَنَّهَا نُسِخَتْ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ :[ إِنِّي نَسِيتهَا ].
وَقِيلَ : هُوَ مِنْ النِّسْيَان أَيْ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يُنْسِيَكَ.
ثُمَّ قِيلَ : هَذَا بِمَعْنَى النَّسْخ أَيْ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يَنْسَخَهُ.
وَالِاسْتِثْنَاء نَوْع مِنْ النَّسْخ.
وَقِيلَ.
النِّسْيَان بِمَعْنَى التَّرْك أَيْ يَعْصِمك مِنْ أَنْ تَتْرُك الْعَمَل بِهِ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه أَنْ تَتْرُكهُ لِنَسْخِهِ إِيَّاهُ.
فَهَذَا فِي نَسْخ الْعَمَل، وَالْأَوَّل فِي نَسْخ الْقِرَاءَة.
قَالَ الْفَرْغَانِيّ : كَانَ يَغْشَى مَجْلِسَ الْجُنَيْد أَهْل الْبَسْط مِنْ الْعُلُوم، وَكَانَ يَغْشَاهُ اِبْن كَيْسَان النَّحْوِيّ، وَكَانَ رَجُلًا جَلِيلًا فَقَالَ يَوْمًا : مَا تَقُول يَا أَبَا الْقَاسِم فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى :" سَنُقْرِئُك فَلَا تَنْسَى " ؟ فَأَجَابَهُ مُسْرِعًا - كَأَنَّهُ تَقَدَّمَ لَهُ السُّؤَال قَبْل ذَلِكَ بِأَوْقَاتٍ : لَا تَنْسَى الْعَمَل بِهِ.
فَقَالَ اِبْن كَيْسَان : لَا يَفْضُضْ اللَّه فَاك مِثْلُك مَنْ يُصْدَرُ عَنْ رَأْيه.
وَقَوْله " فَلَا " : لِلنَّفْيِ لَا لِلنَّهْيِ.
وَقِيلَ : لِلنَّهْيِ وَإِنَّمَا أُثْبِتَتْ الْيَاء ; لِأَنَّ رُءُوس الْآي عَلَى ذَلِكَ.
وَالْمَعْنَى : لَا تَغْفُلْ عَنْ قِرَاءَتِهِ وَتَكْرَاره فَتَنْسَاهُ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يُنْسِيَكَهُ بِرَفْعِ تِلَاوَته لِلْمَصْلَحَةِ.
وَالْأَوَّل هُوَ الْمُخْتَار ; لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاء مِنْ النَّهْي لَا يَكَاد يَكُون إِلَّا مُؤَقَّتًا مَعْلُومًا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْيَاء مُثْبَتَة فِي جَمِيع الْمَصَاحِف، وَعَلَيْهَا الْقُرَّاء.
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يُؤَخِّر إِنْزَاله.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحَوَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يَنَال بَنُو آدَم وَالْبَهَائِم، فَإِنَّهُ لَا يَصِير كَذَلِكَ.
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى
أَيْ الْإِعْلَان مِنْ الْقَوْل وَالْعَمَل.
" وَمَا يَخْفَى " مِنْ السِّرّ.
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس : مَا فِي قَلْبك وَنَفْسك.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن حَاتِم : يَعْلَم إِعْلَان الصَّدَقَة وَإِخْفَاءَهَا.
وَقِيلَ : الْجَهْر مَا حَفِظْته مِنْ الْقُرْآن فِي صَدْرك.
" وَمَا يَخْفَى " هُوَ مَا نُسِخَ مِنْ صَدْرك.
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى
" وَنُيَسِّرُك " : مَعْطُوف عَلَى " سَنُقْرِئُك " وَقَوْله :" إِنَّهُ يَعْلَم الْجَهْر وَمَا يَخْفَى " اِعْتِرَاض.
وَمَعْنَى " لِلْيُسْرَى " أَيْ لِلطَّرِيقَةِ الْيُسْرَى وَهِيَ عَمَل الْخَيْر.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : نُيَسِّرُك لِأَنْ تَعْمَل خَيْرًا.
اِبْن مَسْعُود :" لِلْيُسْرَى " أَيْ لِلْجَنَّةِ.
وَقِيلَ : نُوَفِّقُك لِلشَّرِيعَةِ الْيُسْرَى وَهِيَ الْحَنِيفِيَّة السَّمْحَة السَّهْلَة قَالَ مَعْنَاهُ الضَّحَّاك.
وَقِيلَ : أَيْ نُهَوِّنُ عَلَيْك الْوَحْي حَتَّى تَحْفَظَهُ وَتَعْمَل بِهِ.
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى
" فَذَكِّرْ " أَيْ فَعِظْ قَوْمك يَا مُحَمَّد بِالْقُرْآنِ.
" إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى " أَيْ الْمَوْعِظَة.
وَرَوَى يُونُس عَنْ الْحَسَن قَالَ : تَذْكِرَة لِلْمُؤْمِنِ، وَحُجَّة عَلَى الْكَافِر.
وَكَانَ اِبْن عَبَّاس يَقُول : تَنْفَع أَوْلِيَائِي، وَلَا تَنْفَع أَعْدَائِي.
وَقَالَ الْجُرْجَانِيّ : التَّذْكِير وَاجِب وَإِنْ لَمْ يَنْفَع.
وَالْمَعْنَى : فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى أَوْ لَمْ تَنْفَع، فَحَذَفَ كَمَا قَالَ :" سَرَابِيل تَقِيكُمْ الْحَرّ " [ النَّحْل : ٨١ ].
وَقِيلَ : إِنَّهُ مَخْصُوص بِأَقْوَامٍ بِأَعْيَانِهِمْ.
وَقِيلَ : إِنَّ " إِنْ " بِمَعْنَى مَا أَيْ فَذَكِّرْ مَا نَفَعَتْ الذِّكْرَى، فَتَكُون " إِنْ " بِمَعْنَى مَا، لَا بِمَعْنَى الشَّرْط ; لِأَنَّ الذِّكْرَى نَافِعَة بِكُلِّ حَال قَالَ اِبْن شَجَرَة.
وَذَكَرَ بَعْض أَهْل الْعَرَبِيَّة أَنَّ " إِنْ " بِمَعْنَى إِذْ أَيْ إِذْ نَفَعَتْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " [ آل عِمْرَان : ١٣٩ ] أَيْ إِذْ كُنْتُمْ فَلَمْ يُخْبِر بِعُلُوِّهِمْ إِلَّا بَعْد إِيمَانهمْ.
وَقِيلَ : بِمَعْنَى قَدْ.
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى
أَيْ مَنْ يَتَّقِي اللَّه وَيَخَافهُ.
فَرَوَى أَبُو صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : نَزَلَتْ فِي اِبْن أُمّ مَكْتُوم.
الْمَاوَرْدِيّ : وَقَدْ يَذَّكَّرُ مَنْ يَرْجُوهُ، إِلَّا أَنَّ تَذْكِرَة الْخَاشِي أَبْلَغُ مِنْ تَذْكِرَة الرَّاجِي فَلِذَلِكَ عَلَّقَهَا بِالْخَشْيَةِ دُون الرَّجَاء، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْخَشْيَةِ وَالرَّجَاء.
وَقِيلَ : أَيْ عَمَّمَ أَنْتَ التَّذْكِيرَ وَالْوَعْظَ، وَإِنْ كَانَ الْوَعْظ إِنَّمَا يَنْفَع مَنْ يَخْشَى، وَلَكِنْ يَحْصُل لَك ثَوَاب الدُّعَاء حَكَاهُ الْقُشَيْرِيّ.
وَيَتَجَنَّبُهَا
أَيْ وَيَتَجَنَّب الذِّكْرَى وَيَبْعُد عَنْهَا.
الْأَشْقَى
أَيْ الشَّقِيّ فِي عِلْم اللَّه.
وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة وَعُتْبَة بْن رَبِيعَة.
الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى
أَيْ الْعُظْمَى، وَهِيَ السُّفْلَى مِنْ أَطْبَاق النَّار قَالَهُ الْفَرَّاء.
وَعَنْ الْحَسَن : الْكُبْرَى نَار جَهَنَّم، وَالصُّغْرَى نَار الدُّنْيَا وَقَالَهُ يَحْيَى بْن سَلَّام.
ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا
أَيْ لَا يَمُوت فَيَسْتَرِيح مِنْ الْعَذَاب، وَلَا يَحْيَا حَيَاة تَنْفَعهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِر :
أَلَا مَا لِنَفْسٍ لَا تَمُوت فَيَنْقَضِي عَنَاهَا وَلَا تَحْيَا حَيَاة لَهَا طَعْم
وَقَدْ مَضَى فِي " النِّسَاء " وَغَيْرهَا حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ، وَأَنَّ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دَخَلُوا جَهَنَّم - وَهِيَ النَّار الصُّغْرَى عَلَى قَوْل الْفَرَّاء - اِحْتَرَقُوا فِيهَا وَمَاتُوا إِلَى أَنْ يُشْفَع فِيهِمْ.
خَرَّجَهُ مُسْلِم.
وَقِيلَ : أَهْل الشَّقَاء مُتَفَاوِتُونَ فِي شَقَائِهِمْ، هَذَا الْوَعِيد لِلْأَشْقَى، وَإِنْ كَانَ ثَمَّ شَقِيٌّ لَا يَبْلُغ هَذِهِ الْمَرْتَبَة.
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى
" قَدْ أَفْلَحَ " أَيْ قَدْ صَادَفَ الْبَقَاء فِي الْجَنَّة أَيْ مَنْ تَطَهَّرَ مِنْ الشِّرْك بِإِيمَانٍ قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَعَطَاء وَعِكْرِمَة.
وَقَالَ الْحَسَن وَالرَّبِيع : مَنْ كَانَ عَمَلُهُ زَاكِيًا نَامِيًا.
وَقَالَ مَعْمَر عَنْ قَتَادَة :" تَزَكَّى " قَالَ بِعَمَلٍ صَالِح.
وَعَنْهُ وَعَنْ عَطَاء وَأَبِي الْعَالِيَة : نَزَلَتْ فِي صَدَقَة الْفِطْر.
وَعَنْ اِبْن سِيرِينَ " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى.
وَذَكَرَ اِسْم رَبّه فَصَلَّى " قَالَ : خَرَجَ فَصَلَّى بَعْدَمَا أَدَّى.
وَقَالَ عِكْرِمَة : كَانَ الرَّجُل يَقُول أُقَدِّمُ زَكَاتِي بَيْن يَدَيْ صَلَاتِي.
فَقَالَ سُفْيَان : قَالَ اللَّه تَعَالَى :" قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى.
وَذَكَرَ اِسْم رَبّه فَصَلَّى ".
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ وَابْن عُمَر : أَنَّ ذَلِكَ فِي صَدَقَة الْفِطْر، وَصَلَاة الْعِيد.
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْعَالِيَة، وَقَالَ : إِنَّ أَهْل الْمَدِينَة لَا يَرَوْنَ صَدَقَة أَفْضَل مِنْهَا، وَمِنْ سِقَايَة الْمَاء.
وَرَوَى كَثِير بْن عَبْد اللَّه عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه، عَنْ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْله تَعَالَى :" قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى " قَالَ :[ أَخْرَجَ زَكَاة الْفِطْر ]، " وَذَكَرَ اِسْم رَبّه فَصَلَّى " قَالَ :[ صَلَاة الْعِيد ].
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك :" وَذَكَرَ اِسْم رَبّه " فِي طَرِيق الْمُصَلَّى " فَصَلَّى " صَلَاة الْعِيد.
وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالْآيَةِ زَكَاة الْأَمْوَال كُلّهَا قَالَ أَبُو الْأَحْوَص وَعَطَاء.
وَرَوَى اِبْن جُرَيْج قَالَ : قُلْت لِعَطَاءٍ :" قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى " لِلْفِطْرِ ؟ قَالَ : هِيَ لِلصَّدَقَاتِ كُلّهَا.
وَقِيلَ : هِيَ زَكَاة الْأَعْمَال، لَا زَكَاة الْأَمْوَال، أَيْ تَطَهَّرَ فِي أَعْمَاله مِنْ الرِّيَاء وَالتَّقْصِير ; لِأَنَّ الْأَكْثَر أَنْ يُقَال فِي الْمَال : زَكَّى، لَا تَزَكَّى.
وَرَوَى جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :[ " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى " أَيْ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه، وَخَلَعَ الْأَنْدَاد، وَشَهِدَ أَنِّي رَسُول اللَّه ].
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس " تَزَكَّى " قَالَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَرَوَى عَنْهُ عَطَاء قَالَ : نَزَلَتْ فِي عُثْمَان بْن عَفَّان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : كَانَ بِالْمَدِينَةِ مُنَافِقٌ كَانَتْ لَهُ نَخْلَة بِالْمَدِينَةِ، مَائِلَة فِي دَار رَجُل مِنْ الْأَنْصَار، إِذَا هَبَّتْ الرِّيَاح أَسْقَطَتْ الْبُسْرَ وَالرُّطَبَ إِلَى دَار الْأَنْصَارِيِّ، فَيَأْكُلُ هُوَ وَعِيَالُهُ، فَخَاصَمَهُ الْمُنَافِق فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَرْسَلَ إِلَى الْمُنَافِق وَهُوَ لَا يَعْلَم نِفَاقَهُ، فَقَالَ :[ إِنَّ أَخَاك الْأَنْصَارِيَّ ذَكَرَ أَنَّ بُسْرَك وَرُطَبَك يَقَع إِلَى مَنْزِله، فَيَأْكُل هُوَ وَعِيَالُهُ، فَهَلْ لَك أَنْ أُعْطِيَك نَخْلَةً فِي الْجَنَّة بَدَلَهَا ] ؟ فَقَالَ : أَبِيعُ عَاجِلًا بِآجِلٍ لَا أَفْعَلُ.
فَذَكَرُوا أَنَّ عُثْمَان بْن عَفَّان أَعْطَاهُ حَائِطًا مِنْ نَخْل بَدَل نَخْلَتِهِ فَفِيهِ نَزَلَتْ " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ".
وَنَزَلَتْ فِي الْمُنَافِق " وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ".
وَذَكَرَ الضَّحَّاك أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْر الصِّدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْقَوْل فِي زَكَاة الْفِطْر فِي سُورَة " الْبَقَرَة " مُسْتَوْفًى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَة مَكِّيَّة فِي قَوْل الْجُمْهُور، وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّة عِيد وَلَا زَكَاة فِطْر.
الْقُشَيْرِيّ : وَلَا يَبْعُد أَنْ يَكُون أَثْنَى عَلَى مَنْ يَمْتَثِل أَمْره فِي صَدَقَة الْفِطْر وَصَلَاة الْعِيد، فِيمَا يَأْمُر بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَل.
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى
أَيْ ذَكَرَ رَبّه.
وَرَوَى عَطَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : يُرِيد ذَكَرَ مَعَادَهُ وَمَوْقِفَهُ بَيْن يَدَيْ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ، فَعَبَدَهُ وَصَلَّى لَهُ.
وَقِيلَ : ذَكَرَ اِسْم رَبّه بِالتَّكْبِيرِ فِي أَوَّل الصَّلَاة ; لِأَنَّهَا لَا تَنْعَقِد إِلَّا بِذِكْرِهِ وَهُوَ قَوْله : اللَّه أَكْبَر : وَبِهِ يُحْتَجّ عَلَى وُجُوب تَكْبِيرَة الِافْتِتَاح، وَعَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الصَّلَاة ; لِأَنَّ الصَّلَاة مَعْطُوفَة عَلَيْهَا.
وَفِيهِ حُجَّة لِمَنْ قَالَ : إِنَّ الِافْتِتَاح جَائِز بِكُلِّ اِسْم مِنْ أَسْمَاء اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
وَهَذِهِ مَسْأَلَة خِلَافِيَّة بَيْن الْفُقَهَاء.
وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي هَذَا فِي أَوَّل سُورَة " الْبَقَرَة ".
وَقِيلَ : هِيَ تَكْبِيرَات الْعِيد.
قَالَ الضَّحَّاك :" وَذَكَرَ اِسْم رَبّه " فِي طَرِيق الْمُصَلَّى " فَصَلَّى " أَيْ صَلَاة الْعِيد.
وَقِيلَ :" وَذَكَر اِسْم رَبّه " وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَهُ بِقَلْبِهِ عِنْد صَلَاته، فَيَخَاف عِقَابه، وَيَرْجُو ثَوَابه لِيَكُونَ اِسْتِيفَاؤُهُ لَهَا، وَخُشُوعه فِيهَا، بِحَسَبِ خَوْفه وَرَجَائِهِ.
وَقِيلَ : هُوَ أَنْ يَفْتَتِح أَوَّل كُلّ سُورَة بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
" فَصَلَّى " أَيْ فَصَلَّى وَذَكَرَ.
وَلَا فَرْق بَيْن أَنْ تَقُول : أَكْرَمْتنِي فَزُرْتنِي، وَبَيْن أَنْ تَقُول : زُرْتنِي فَأَكْرَمْتنِي.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : هَذَا فِي الصَّلَاة الْمَفْرُوضَة، وَهِيَ الصَّلَوَات الْخَمْس.
وَقِيلَ : الدُّعَاء أَيْ دُعَاء اللَّه بِحَوَائِج الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وَقِيلَ : صَلَاة الْعِيد قَالَهُ أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ وَابْن عُمَر وَغَيْرهمَا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَقِيلَ : هُوَ أَنْ يَتَطَوَّع بِصَلَاةٍ بَعْد زَكَاته قَالَهُ أَبُو الْأَحْوَص، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْل عَطَاء.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : مَنْ أَقَامَ الصَّلَاة وَلَمْ يُؤْتِ الزَّكَاة فَلَا صَلَاة لَهُ.
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
قِرَاءَة الْعَامَّة " بَلْ تُؤْثِرُونَ " بِالتَّاءِ تَصْدِيقُهُ قِرَاءَة أُبَيّ " بَلْ أَنْتُمْ تُؤْثِرُونَ ".
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَنَصْر بْن عَاصِم " بَلْ يُؤْثِرُونَ " بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَة تَقْدِيره : بَلْ يُؤْثِرُونَ الْأَشْقَوْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا.
وَعَلَى الْأَوَّل فَيَكُون تَأْوِيلهَا بَلْ تُؤْثِرُونَ أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ الِاسْتِكْثَار مِنْ الدُّنْيَا، لِلِاسْتِكْثَارِ مِنْ الثَّوَاب.
وَعَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَة، فَقَالَ : أَتَدْرُونَ لِمَ آثَرْنَا الْحَيَاة الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَة ؟ لِأَنَّ الدُّنْيَا حَضَرَتْ وَعُجِّلَتْ لَنَا طَيِّبَاتُهَا وَطَعَامهَا وَشَرَابهَا، وَلِذَاتِهَا وَبَهْجَتهَا، وَالْآخِرَة غُيِّبَتْ عَنَّا، فَأَخَذْنَا الْعَاجِل، وَتَرَكْنَا الْآجِل.
وَرَوَى ثَابِت عَنْ أَنَس قَالَ : كُنَّا مَعَ أَبِي مُوسَى فِي مَسِير، وَالنَّاس يَتَكَلَّمُونَ وَيَذْكُرُونَ الدُّنْيَا.
قَالَ أَبُو مُوسَى : يَا أَنَس، إِنَّ هَؤُلَاءِ يَكَاد أَحَدهمْ يَفْرِي الْأَدِيم بِلِسَانِهِ فَرِيًّا، فَتَعَالَ فَلْنَذْكُرْ رَبَّنَا سَاعَة.
ثُمَّ قَالَ : يَا أَنَس، مَا ثَبَرَ النَّاس مَا بَطَّأَ بِهِمْ ؟ قُلْت الدُّنْيَا وَالشَّيْطَان وَالشَّهَوَات.
قَالَ : لَا، وَلَكِنْ عُجِّلَتْ الدُّنْيَا، وَغُيِّبَتْ الْآخِرَة، أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ عَايَنُوهَا مَا عَدَلُوا وَلَا مَيَّلُوا.
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى
أَيْ وَالدَّار الْآخِرَة أَيْ الْجَنَّة.
" خَيْر " أَيْ أَفْضَل.
" وَأَبْقَى " أَيْ أَدْوَم مِنْ الدُّنْيَا.
وَقَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :[ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا كَمَا يَضَع أَحَدكُمْ أُصْبُعه فِي الْيَمّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِع ] صَحِيح.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَقَالَ مَالِك بْن دِينَار : لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا مِنْ ذَهَب يَفْنَى، وَالْآخِرَةُ مِنْ خَزَفٍ يَبْقَى، لَكَانَ الْوَاجِب أَنْ يُؤْثَر خَزَفٌ يَبْقَى، عَلَى ذَهَبٍ يَفْنَى.
قَالَ : فَكَيْف وَالْآخِرَة مِنْ ذَهَب يَبْقَى، وَالدُّنْيَا مِنْ خَزَف يَفْنَى.
إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى
قَالَ قَتَادَة وَابْن زَيْد : يُرِيد قَوْله " وَالْآخِرَة خَيْر وَأَبْقَى ".
وَقَالَا : تَتَابَعَتْ كُتُب اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ كَمَا تَسْمَعُونَ أَنَّ الْآخِرَة خَيْر وَأَبْقَى مِنْ الدُّنْيَا.
وَقَالَ الْحَسَن :" إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُف الْأُولَى " قَالَ : كُتُب اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ كُلّهَا.
الْكَلْبِيّ :" إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُف الْأُولَى " مِنْ قَوْله :" قَدْ أَفْلَحَ " إِلَى آخِر السُّورَة لِحَدِيثِ أَبِي ذَرّ عَلَى مَا يَأْتِي.
وَرَوَى عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس :" إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُف الْأُولَى " قَالَ : هَذِهِ السُّورَة.
وَقَالَ الضَّحَّاك : إِنَّ هَذَا الْقُرْآن لَفِي الصُّحُف الْأُولَى أَيْ الْكُتُب الْأُولَى.
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
يَعْنِي الْكُتُب الْمُنَزَّلَة عَلَيْهِمَا.
وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظ بِعَيْنِهَا فِي تِلْكَ الصُّحُف، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْمَعْنَى أَيْ إِنَّ مَعْنَى هَذَا الْكَلَام وَارِد فِي تِلْكَ الصُّحُف.
وَرَوَى الْآجُرِّيّ مِنْ حَدِيث أَبِي ذَرّ قَالَ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه، فَمَا كَانَتْ صُحُف إِبْرَاهِيم ؟ قَالَ : كَانَتْ أَمْثَالًا كُلّهَا : أَيّهَا الْمَلِك الْمُتَسَلِّط الْمُبْتَلَى الْمَغْرُور، إِنِّي لَمْ أَبْعَثْك لِتَجْمَع الدُّنْيَا بَعْضهَا عَلَى بَعْض، وَلَكِنْ بَعَثْتُك لِتَرُدَّ عَنِّي دَعْوَة الْمَظْلُوم.
فَإِنِّي لَا أَرُدُّهَا وَلَوْ كَانَتْ مِنْ فَم كَافِر.
وَكَانَ فِيهَا أَمْثَال : وَعَلَى الْعَاقِل أَنْ يَكُون لَهُ ثَلَاث سَاعَات : سَاعَة يُنَاجِي فِيهَا رَبّه، وَسَاعَة يُحَاسِب فِيهَا نَفْسه، يُفَكِّر فِيهَا فِي صُنْع اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ، وَسَاعَة يَخْلُو فِيهَا لِحَاجَتِهِ مِنْ الْمَطْعَم وَالْمُشْرَب.
وَعَلَى الْعَاقِل أَلَّا يَكُون ظَاعِنًا إِلَّا فِي ثَلَاث : تَزَوُّد لِمَعَادٍ، وَمَرَمَّة لِمَعَاشٍ، وَلَذَّة فِي غَيْر مُحَرَّم.
وَعَلَى الْعَاقِل أَنْ يَكُون بَصِيرًا بِزَمَانِهِ، مُقْبِلًا عَلَى شَأْنه، حَافِظًا لِلِسَانِهِ.
وَمَنْ عَدَّ كَلَامه مِنْ عَمَله قَلَّ كَلَامه إِلَّا فِيمَا يَعْنِيه.
قَالَ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه، فَمَا كَانَتْ صُحُف مُوسَى ؟ قَالَ : كَانَتْ عِبَرًا كُلّهَا : عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ كَيْف يَفْرَح ! وَعَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ كَيْف يَنْصَب.
وَعَجِبْت لِمَنْ رَأَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبهَا بِأَهْلِهَا كَيْف يَطْمَئِنّ إِلَيْهَا ! وَعَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ غَدًا ثُمَّ هُوَ لَا يَعْمَل !.
قَالَ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه، فَهَلْ فِي أَيْدِينَا شَيْء مِمَّا كَانَ فِي يَدَيْ إِبْرَاهِيم وَمُوسَى، مِمَّا أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْك ؟ قَالَ : نَعَمْ اِقْرَأْ يَا أَبَا ذَرّ :" قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى.
وَذَكَرَ اِسْم رَبّه فَصَلَّى.
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاة الدُّنْيَا وَالْآخِرَة خَيْر وَأَبْقَى.
إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُف الْأُولَى.
صُحُف إِبْرَاهِيم وَمُوسَى ".
Icon