تفسير سورة السجدة

النهر الماد من البحر المحيط
تفسير سورة سورة السجدة من كتاب النهر الماد من البحر المحيط .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * الۤـمۤ * تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ هذه السورة مكية وقال ابن عباس إلا ثلاث ايات نزلن بالمدينة * ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر فيما قبلها دلائل التوحيد من بدء الخلق وهو الأصل الأول ثم ذكر المعاد والحشر وهو الأصل الثاني وختم به السورة ذكر في بدء هذه السورة الأصل الثالث وهو تبيين الرسالة والكتاب هو القرآن والظاهر أن يكون تنزيل مبتدأ ولا ريب فيه اعتراضاً ومن رب العالمين الخبر قال الزمخشري: من رب العالمين متعلق بتنزيل وفي الكلام تقديم وتأخير ويجوز أن يتعلق بقوله لا ريب أي لا شك فيه من جهة الله تعالى فإِن وقع شك الكفرة فذلك لا يراعى والريب الشك وكذا هو في كل القرآن إلا قوله: ريب المنون " انتهى " وإذا كان تنزيل خبر مبتدأ وكانت الجملة اعتراضية بين ما افتقر إلى غيره وبينه لم يقل فيه ان فيه تقديماً وتأخيراً بل لو تأخر لم يكن اعتراضاً وأما كونه متعلقاً بلا ريب فليس بالجيد لأن نفي الريب عنه مطلقاً هو المقصود كان المعنى لا مدخل للريب فيه انه تنزيل الله تعالى لأن موجب نفي الريب عنه موجود وهو الإِعجاز وهو أبعد شيء من الريب.﴿ أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ ﴾ تقدم الكلام عليه ومن ربك في موضع الحال أي كائناً من عند ربك وبه يتعلق بلتنذر أو بمحذوف تقديره أنزله لتنذر والقوم هنا قريش والعرب وما نافية ومن نذير من زائدة ونذير فاعل أتاهم أخبر تعالى أنه لم يبعث إليهم رسولاً بخصوصيتهم قبل محمد صلى الله عليه وسلم لا هم ولا آباؤهم لكنهم كانوا متعبدين بملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وما زالوا على ذلك إلى أن غير ذلك بعض رؤسائهم وعبدوا الأصنام وعم ذلك فهم مندرجون تحت قولهم: وإن من أمة إلا خلا فيها نذير أي شريعته ودينه والنذير ليس مخصوصاً بمن باشر بل يكون نذيراً لمن باشره ولغير من باشره والعرب ممن سبق لها نذير ولم يباشرهم نذير غير محمد صلى الله عليه وسلم.﴿ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾ تقدم الكلام عليه.﴿ يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ ﴾ واحد الأمور أي ينفذ الله قضاءه بجميع ما يشاؤه.﴿ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ﴾ أي يصعد خبر ذلك.﴿ فِي يَوْمٍ ﴾ من أيام الدنيا.﴿ مِقْدَارُهُ ﴾ ان سير فيه السير المعروف من البشر.﴿ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام والضمير في مقداره عائد على التدبير أي كان مقدار التدبير المقضي من يوم ألف سنة لو دبره البشر * وقرىء خلقه بسكون اللام وهو بدل اشتمال من قوله: كل التقدير أحسن خلق كل شىء وقرىء: بفتح اللام فعلاً ماضياً فالضمير المنصوب فيه ان عاد على كل كانت الجملة صفة له في موضع نصب وإن عاد على شىء كانت الجملة في موضع جر صفة له.﴿ وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ ﴾ هو آدم عليه السلام.﴿ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ ﴾ أي ذريته نسل من الشيء انفصل منه.﴿ ثُمَّ سَوَّاهُ ﴾ أي قومه وأضاف الروح إلى ذاته دلالة على أنه خلق عجيب لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى وهو إضافة ملك إلى مالك وخلق إلى خالق سبحانه وتعالى.﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ ﴾ التفات إذ هو خروج من مفرد غائب إلى جمع مخاطب وتعديد النعم وهي شاملة لآدم كما أن التسوية ونفخ الروح شامل له ولذريته. و ﴿ قَلِيلاً ﴾ نعت لمصدر محذوف وما زائدة والتقدير تشكرون شكراً قليلاً والظاهر أن الضمير في وقالوا للجمع وقيل القائل أبي بن خلف وأسند إلى الجمع لرضاهم به والناصب للظرف محذوف يدل عليه المعنى تقديره انبعث إذا ضللنا في الأرض وهو استفهام استبعاد واستهزاء وأصله من حفل الماء في اللبن إذ أذهب فيه.﴿ أَءِنَّا ﴾ إستفهام إستبعاد واستهزاء أيضاً.﴿ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ ﴾ إضراب عن معنى استفهامهم كأنه قال: ليسوا مستفهمين هم.﴿ كَافِرُونَ ﴾ جاحدون بلقاء الله والصيرورة إلى جزائه ثم أمره تعالى أن يخبرهم بجملة الحال غير مفصلة من قبض أرواحهم ثم عودهم إلى جزاء ربهم بالبعث وملك الموت عليه السلام اسمه عزرائيل ومعناه عبد الله.﴿ وَلَوْ تَرَىٰ ﴾ الظاهر أنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وقيل له ولأمته أي ولو ترى يا محمد منكري البعث يوم القيامة لرأيت العجب قال الزمخشري: ويجوز أن يكون خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه وجهان أن يراد به التمني كأنه قيل وليتك ترى والتمني له كما كان الترجي له في لعلهم يهتدون لأنه تجرع منهم الغصص ومن عداوتهم وضرارهم فجعل الله تمنى أن يراهم على تلك الصفة القطيعة من الحياء والخزي والغم لشمت بهم وأن تكون لو الامتناعية قد حذف جوابها وهو لرأيت أمراً فظيعاً ويجوز أن يخاطب به كل أحد كما تقول فلان لئيم إن أكرمته أهانك وإن أحسنت إليه أساءك فلا تريد به مخاطباً بعينه وكأنك قلت ان أكرم وإن أحسن إليه " انتهى " * والمتمنى في هذا الموضع بلو بعيد وتسمية لو امتناعية ليس بجيد بل العبارة الصحيحة في لو أنها لما كان سيقع لوقوع غيره وهي عبارة سيبويه وقوله: قد حذف جوابها وتقديره وليتك ترى مما يدل على أنها إذا كانت للتمني لا جواب لها والصحيح أنها إذا أشربت معنى التمني يكون لها جواب كحالها إذا لم تشربه قال الشاعر: فلو نبش المقابر عن كليب *   فتخبر بالذئاب أي زيربيوم الشعثمين لقر عيناً *   وكيف لقاء من تحت القبور *وقال الزمخشري: وقد تجيء لو في معنى التمنى كقولك: لو تأتيني فتحدثني كما تقول ليتك تأتيني فقال ابن مالك إن أراد به الحذف أي وددت تأتيني فصحيح وإن أراد أنها موضوعة للتمني فغير صحيح لأنها لو كانت موضوعة له ما جاز أن يجمع بينها وبين فعل التمني لا يقال تمنيت ليتك تفعل ويجوز تمنيت لو تقدم ولذلك امتنع الجمع بين لعل وأترجى وبين إلا واستثنى.﴿ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ ﴾ أي مطرقوها من الذل والحزن والهم والغم والندم.﴿ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ أي عند مجازاته وهو مكان شدة الخجل لأن المربوب إذا أساء ووقف بين يدي ربه كان في غاية الخجل.﴿ رَبَّنَآ ﴾ على إضمار يقولون ربنا.﴿ أَبْصَرْنَا ﴾ ما كنا نكذب وسمعنا ما كنا ننكر.﴿ فَٱرْجِعْنَا ﴾ أي إلى الدنيا.﴿ إِنَّا مُوقِنُونَ ﴾ أي بالبعث.﴿ وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ﴾ أي اخترعنا الإِيمان فيها كقوله:﴿ أَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ ﴾[الرعد: ٣١].
﴿ فَذُوقُواْ ﴾ مفعوله محذوف أي العذاب والكاف في كما للتعليل لا للتشبيه وما مصدرية أي لنسيانكم والمراد بنسيانهم إهمالهم وغفلتهم وعدم الفكر في لقاء جزاء ربهم وهذه صفة ليومكم ثم قال انا نسيانكم على المقابلة أي جازيناكم جزاء نسيانكم وذوقوا العذاب المخلد في جهنم.﴿ تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ ﴾ أي ترتفع وتتنحى يقال: جفا الرجل الموضع تركه وتجافى الجنب عن الموضع تركه والمضاجع تقدم الكلام عليه * ويدعون حال * وخوفاً وطمعاً مفعول من أجله أو مصدران في موضع الحال وما مفعولة بتعلم موصولة وقرىء: أخفي فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول ومفعوله ضمير يعود على ما قرىء وأخفي مضارع أخفى ومن قرة تبيين لما انبهم في ما وجزاء مفعول من أجله.﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً ﴾ قال ابن عباس: نزلت في علي والوليد بن عقبة تلاحياً فقال له الوليد: انا أذلق منك لساناً وأحد سناناً وأرد للكتيبة فقال له علي أسكت فإِنك فاسق فنزلت وأريد هنا بالمؤمن والفاسق الجنس ولذلك جاء جمعاً في قوله: لا يستوون والفاسق هنا هو الكافر ويبينه أنه فسق الكفر التقسيم بعد ذلك ثم بين عدم الاستواء بمقر كل واحد منهما وهو أن المؤمن له الجنة والفاسق له النار قال الزمخشري: ويجوز أن يراد فجنة مأواهم النار أي النار لهم مكان فجنة المأوى للمؤمنين كقوله:﴿ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾[آل عمران: ٢١] " انتهى " هذا فيه بعد وإنما يذهب إليه في مثل فبشرهم بعذاب أليم إذ كان مصرحاً به فنقول قام مقام التبشير العذاب وكذلك قام مقام التحية ضرب وجيع إما أن تضمر شيئاً الكلام مستغن عنه جار على أحسن وجوه الفصاحة حتى يحمل الكلام على إضمار فليس بجيد والعذاب الأدنى هو الأقرب إليهم في الدنيا من القتل والنهب والأسر والعذاب الأكبر عذاب يوم القيامة في النار قال ابن عطية: ولا خلاف إن العذاب عذاب الآخرة " انتهى " وفي كتاب التحرير وأكثرهم على أن العذاب الأكبر عذاب يوم القيامة في النار وقيل هو القتل والسبي والأسر والعذاب وعن جعفر بن محمد أنه خروج المهدي بالسيف.﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾ تقدم. و ﴿ مِنَ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴾ عام في كل مجرم ومن متعلقة بمنتقمون.﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ ﴾ لما قدم الأصول الثلاثة الرسالة وبدأ الخلق والمعاد عاد إلى الأصل الذي بدأ به وهو الرسالة أي لست بدعاً في الرسالة بل سبقك رسل وذكر موسى لقرب زمانه والظاهر أن الضمير في لقائه عائد على موسى مضافاً إليه على طريق المفعول والفاعل محذوف ضمير الرسول أي من لقائك موسى أي في ليلة الإِسراء أي شاهدته حقيقة وهو النبي الذي أوتي التوراة وقرىء: لما حرف وجوب لوجوب وجوابه متقدم عليه وهو جعلناه وقرىء: لما بكسر اللام وتخفيف الميم وهي لام العلة وما مصدرية تقديره بصبرهم.﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ﴾ تقدم الكلام عليه في طه إلا أن هنا من قبلهم ولقوم يسمعون وهناك قبلهم ولأولي النهي ويسمعون. النهي من الفواصل جاء كل منهما مطابقاً لما قبله وما بعده من الفواصل.﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ ٱلْمَآءَ ﴾ لما أقام تعالى الحجة على الكفرة بالأمم السالفة الذين كفروا فأهلكوا ثم أقامها عليهم بإِظهار قدرته وتنبيههم على البعث وتقدّم الكلام على الجرز في الكهف وكل أرض جرز داخلة في هذا فلا تخصيص لها بمكان معين قال ابن عباس: هي أرض أبين من اليمن.﴿ فَنُخْرِجُ بِهِ ﴾ أي بالماء وحض الزرع بالذكر وان كان يخرج الله به أنواعاً كثيرة من الفواكه والبقول والعشب المنتفع به في الطب وغيره تشريفاً للزرع ولأنه أعظم ما يقصد من النبات أو أوقع الزرع موقع النبات وقدّمت الأنعام لأن ما ينبت تأكله الأنعام أولاً فأولاً من قبل أن يأكل بنو آدم الحب ألا ترى أن العقيل وهو شعير يزرع تأكله الأنعام أولاً قبل أن يسبل تأكله الأنعام قبل بني آدم أو لأنه غذاء الدواب والإِنسان قد يتغذى بغيره من حيوان وغيره أو بدأ بالأدنى ثم ترقى إلى الأشرف وهم بنو آدم والفتح الحكم وهو الذي يترتب عليه قوله: قال يوم الفتح إلخ وقيل فتح مكة وهو غير سديد لعدم مطابقته ما بعده لأن من آمن يوم فتح مكة ينفعه إيمانه.﴿ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾ أي لا يؤخرون عن العذاب ولما علم غرضهم في سؤالهم على سبيل الهزؤ قيل لهم لا تستعجلوا ولا تستهزؤا ويوم منصوب بلا ينفع وقيل انهم منتظرون العذاب وهذا حكمهم وإن كانوا لا يشعرون.
Icon