بسم الله الرحمن الرحيم
سورة السجدةسورة السجدة مكية إلا ثلاث آيات نزلن بالمدينة في رجلين من قريش.
وهن قوله :﴿ أفمن كان مؤمنا ﴾ إلى آخر الثلاث آيات١.
قوله تعالى ذكره :﴿ ألم تنزيل الكتاب ﴾ ١ إلى قوله ﴿ بل هم بلقاء ربهم كافرون ﴾ ١٠.
من رواية ابن وهب : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ ألم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك فكأنما وافق ليلة القدر " ٢.
وعنه أنه قال : " ألم تنزيل السجدة وتبارك يفضلان على السور بستين حسنة " ٣.
٢ أورده السيوطي بمعناه في الدر المنثور ٦/٥٣٥، ولفظه فيما يلي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ تبارك الذي بيده الملك وألك السجدة " بين المغرب والعشاء الآخرة، فكأنما قام ليلة القدر. وقد أشار السيوطي إلى أن هذا الحديث من تخريج ابن مردويه عن ابن عمر..
٣ أخرجه الدارمي في سننه عن طاوس كتاب فضائل القرآن، باب في فضل سورة "تنزيل السجدة" و"تبارك" ٢/٤٥٥.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة السجدةسورة السجدة مكية إلا ثلاث آيات نزلن بالمدينة في رجلين من قريش. وهن
قوله: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا) إلى آخر الثلاث الآيات.
قوله تعالى ذكره: ﴿الم * تَنزِيلُ الكتاب﴾ إلى قوله: ﴿بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ﴾.
من رواية أبن وهب: أن النبي ﷺ قال: " مَنْ قَرَأَ آلم تَنْزِيلُ السِّجْدَةِ، وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ فَكَأَنَّمَأ وَافَقَ لَيْلَةَ القَدْرِ ".
وقال جابر بن عبد الله: " مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَنَامُ حَتَّى يَقْرَ آلم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكِ " قد تقدم ذكر ﴿الم﴾.
وقوله: ﴿تَنزِيلُ﴾ رُفِعَ بالابتداء، و ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ الخبر. ويجوز أن يكون خبر الابتداء محذوف، أي: ها المتلوا تنزيل الكتاب. ويجوز أن يكون [التقدير]: هذه الحروف تنزيل الكتاب، ﴿الم﴾ بدل من الحروف دالة عليها فهي موضع الابتداء، و ﴿تَنزِيلُ﴾ الخبر. ويجوز: " تنزيل " بالنصب على المصدر. والمعنى: تنزيل الكتاب المنزل على محمد لا شك فيه أنه من رب العالمين، وليس بسحر ولا سجع ولا كهانة ولا كذب. وهذا تكذيب لمن قال ذلك في القرآن من المشركين.
قال أبو عبيدة: معناه: بل يقولون. وهو خروج من حديث إلى حديث.
وقال الزجاج: التقدير: أيقولون. والتقدير عند الطبري: أيقولون، يعني المشركين أيقولون اختلق محمد ﷺ هذا القرآن من قبل نفسه، وأم عنده تقرير كالألف.
ثم أكذبهم الله في قولهم فقال: ﴿بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبِّكَ﴾ أي: هو الصدق من عند ربك أنزله عليك، لتنذر قوماً بأس الله أن يحل بهم على كفرهم لم يأتهم نذير من قبلك.
﴿لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ أي: يهتدون إلى طريق النجاة من عذاب الله. أجاز بعض النحويين الوقف على ﴿رَّبِّكَ﴾، على أن تكون اللام متعلقة بفعل محذوف، والتقدير: وأنزله عليك لتندر. وأجاز أبو حاتم الوقف على ﴿افتراه﴾.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ الآية.
أي: المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له هو الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش في اليوم/ السابع، قاله
ثم قال [تعالى]: ﴿مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ﴾.
[أي]: يلي أمركم [فينصركم] منه إذا أراد بكم ضراً، ﴿وَلاَ شَفِيعٍ﴾ أي: يشفع لكم إن عاقبكم على كفركم، فاتخذوه أيها الناس ولياً واستعينوا بطاعته على أموركم.
﴿أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ﴾ أي: تتذكرون هذه الموعظة فتعلموا أنه لا معبود لكم غيره/ فتفردوا له العبادة وتخلصوا له العمل.
(في) ستة أيام تمام عند نافع، وعلى العرض أتم منه.
ثم قال تعالى [ذكره]: ﴿يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض﴾.
أي: هو يدبر الأمر من السماء إلى الأرض.
﴿ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾.
قال مجاهد: يعني نزول الأمر من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء في
وهو معنى قول قتادة والضحاك وعكرمة، وقاله ابن عباس. وهو اختيار الطبري.
وقال ابن عباس: إن المعنى أن هذا اليوم من الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض وما بينهما كألف سنة من سني الدنيا.
وعن ابن عباس: أن المعنى ثم تعرج إليه الملائكة بالأمر في يوم مقدار ذلك اليوم ألف سنة من سني الدنيا.
وعن مجاهد: أن المعنى: كان مقدار ذلك التبدير ألف سنة من أيام الدنيا.
وقيل: التقدير: كان مقدار ذلك العروج ألف سنة من أيام الدنيا.
وقيل: المنى: يدبر الله أمر الدنيا وما حدث فيها مما يجازي عليه الناس وغيرهم
وقيل: معناه يدبر الشمس في طلوعها من المشرق وغروبها في المغرب ومدارها في العالم من السماء إلى الأرض لأنها على أهل الأرض تطلع، وفوق الأرض تطلع إلى أن تغرب وترجع إلى موضعها من الطلوع في يوم [كان] مقداره في المسافة ألف سنة.
والهاء في يَعْرُجُ إليه: قيل تعود على السماء لأنها تذكر.
وقيل: تعود على الله جل ذكره. فأما قوله في " المعارج ".
﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج: ٤].
فمعناه على قول ابن عباس: أنه يوم القيامة يراد [به] قال: جعله الله على الكفار مقدار خسمين ألف سنة/.
وقال وهب بن منبه: [ما] بين أسفل الأرض إلى العرش مقدار خمسين ألف
وقيل عنه: الدنيا من أولها إلى آخرها خمسون ألف سنة لا يدري أحدكم [كم] مضى منها ولا كم بقي.
وقيل: يوم القيامة أيام، فمنه ما مقداره ألف سنة، ومنه ما مقداره خمسون ألف سنة.
واليوم في اللغة بمعنى الوقت.
فالمعنى تعرج الملائكة والروح إليه [في وقت مقدار ألف سنة و] في وقت آخر مقدار خمسون ألف سنة.
" إلى لأرض " تمام عند الأخفش.
ثم قال تعالى: ﴿ذلك عَالِمُ الغيب والشهادة﴾. أي: الذي تقدمت صفته في قدرته
ثم قال تعالى: ﴿الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾. أي: وهو الذي أعطى كل شيء خلقه، الإنسان للإنسان، والفرس للفرس، فقرن كل جنس بشكله.
قاله مجاهد.
" وأحسن " على هذا القول بمعنى أعلم، تقول [العرب] فلان يحسن كذا إذا كان يعلمه. هذا على قراءة من أسكن اللام من " خلقه " فيكون " خلقه " مفعولاً به.
ويجوز عن سيبويه أن ينتصب على المصدر المؤكد. مثل ﴿صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ٨٨] وقيل: هو منصوب، على التفسير، كقولك: زيد أوسعكم
وقيل: أحسن على هذه القراءة بمعنى أعلم وألهم. فيكون خلقه مفعولاً به.
وهو القول الذي ذكرنا عن مجاهد أولاً. ومن فتح اللام جعله فعلاً ماضياً. والمعنى الذي أتقن كل شيء خلقه وأحكمه. والهاء في موضع نصب، والفعل في موضع خفض على النعت لشيء.
فالمعنى على قول ابن عباس: الذي أحكم كل شيء خلقه. أي: جاء به على ما أراد لم يتغير عن إرادته.
وروي عنه أنه كان يقرأ بفتح اللام، ويقول: أما إن أَسْتَ القرد ليست بحسنة ولكنه أحكمها.
وعن ابن عباس: في معنى الإسكان أحسن كل شيء في خلقه، أي: حعل كل شيء في خلقه حسناً.
وأجاز الزجاج " خَلقُه " بالرفع على معنى: ذلك، خلقه، ولم يقرأ به أحد.
ثم قال تعالى: ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ﴾ يعني: آدم ﷺ.
﴿ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ﴾ أي: جعل ذريته من سلالة، والسلالة ما ينسل من الشيء. فالمعنى جعل/ ذريته من الماء الذي ينسل منه/ ومعنى ﴿مَّهِينٍ﴾ حقير ضعيف.
ثم قال تعالى: ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ﴾ يعني آدم، أي سوَّى خلقه معتدلاً سوياً.
﴿وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ﴾ أي: من روحه الذي يحيى به [الموتى] فصار حياً ناطقاً.
ثم قال [تعالى]: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة﴾ أي أنعم عليكم بسمعكم وأبصاركم وقلوبكم تنتفعون بمها وتسمعون وتبصرون وتفهمون ووحد السمع لأنه مصدر.
ثم قال [تعالى]: ﴿وقالوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض﴾ أي: وقال المشركون: أئذا صارت لحومنا وعظامنا تراباً في الأرض أَنُبْعَثُ؟ إنكاراً للبعث.
وقال مجاهدك: " ضللنا ": هلكنا، لأن كل شيء غلب عليه غيره حتى تلف وخفي فقد هلك.
وقرأ أبو رجاء وطلحة: " ضِللْنا " بكسر اللام، وهي لغة شاذة.
وقرأ الحسن: " صَلَلْنَا " بالصادر غير معجمة وفتح اللام.
ثم قال الله تعالى: ﴿هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ﴾ أي: جاحدون للبعث بعد الموت والرجوع إلى الله (جلّ وعزَّ).
قوله تعالى ذكره: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت﴾ إلى قوله: ﴿جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.
أي: قل يا محمد لهؤلاء المنكرين للبعث: يتوفاكم ملك الموت.
أي: يستوفي عددكم بقبض أرواحكم، ثم إلى ربكم بعض قبض أرواحكم تردون يوم القيامة فيجازيكم بأعمالكم.
قال قتادة: ملك الموت يتوفاكم ومعه أعوان من الملائكة. ودليله قوله تعالى: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ﴾ [الأنعام: ٦١]. وملك الموت اسمه: عزرائيل، وهو بالعربية عبد الجبار ﷺ، وعلى جميع الملائكة والنبيين والمرسلين.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾.
أي: لو رأيت يا محمد هؤلاء المنكرين للبعث ناكسوا رؤوسهم عند ربهم حياء منه للذي سلف من كفرهم وإنكارهم للبعث يقولون: ﴿رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا﴾.
أي: أبصرنا ما كنا نكذب به من عذابك، ومعادنا إليك، وسمعنا منك، وتصديق ما كانت الرسل تأتنا به وتأمرنا به.
﴿فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً﴾ أي: أرددنا إلى الدنيا نعمل فيها/ بطاعتك.
﴿إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ أي: قد أيقنا الآن منا كنا به في الدنيا جهالاً من توحيدك وإفرادك بالعبادة.
وقيل: المخاطبة هنا للمجرمين.
والمعنى: قل يا محمد للمجرم: لو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم لندمت على ما كان منك.
وجواب لو محذوف، والتقدير: لرأيت ما تعتبر به اعتباراً شديداً.
ومعنى: ﴿رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا﴾ أي: يقولون يا ربنا أبصرنا ما كنا نكذب به.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ أي: رشدها وتوفيقها إلى الإيمان،
﴿ولكن حَقَّ القول مِنِّي﴾ أي: وجب العذاب مني.
﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس﴾ يعني: من أهل الكفر والمعاصي.
وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك أنه قال: سألني رجل أمس عن القدر؟ فقلت له: نعم قال الله تعالى في كتابه ﴿وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ إلى (قوله): ﴿أَجْمَعِينَ﴾ حقت كلمة ربك لأملأن جهنم منهم، فلا بد أن يكون ما قال:
قال قتادة: لو شاء الله لهدى الناس جميعاً، لو شاء لأنزل عليهم آية من السماء تضطرهم إلى الإيمان. فالمعنى: لو شئنا لأعطينا كل إنسان توفيقاً يهتدي إلى الإيمان في الدنيا.
ثم قال تعالى (ذكره): ﴿فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هاذآ﴾ أي ذوقوا عذاب الله بترككم العمل للقاء يومكم.
﴿إِنَّا نَسِينَاكُمْ﴾ إي: تركناكم في النار.
وقيل: إن الأول من النيسان لأنهم لما لم يعملوا/ ليوم القيامة كانوا بنزلة الناسي له.
ثم قال [تعالى]: ﴿وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
أي: ويقال لهم: ذوقوا عذاباً تخلدون فيه إلى مَا لاَ نِهَايَة له بما كنتم تعملون في الدنيا من المعاصي.
ثم قال [تعالى ذكره]: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الذين إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً﴾ أي: إذا ذكروا ووعظوا خروا لله سجداً تذللاً واستكانة لعظمته وإقراراً له بالعبودية.
وروي أن هذه الآية/ نزلت على النبي ﷺ لأن قوماً من المنافقين كانوا يخرجون من المسجد إذا أقيمت الصلاة.
ثم قال تعالى: ﴿تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع﴾ أي: ترتفع وتنبوا جنوب هؤلاء الذين تقدم ذكرهم من المؤمنين عن مضاجعهم.
﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ أي: خوفاً من عذابه وطمعاً في رحمته. قاله قتادة.
و ﴿تتجافى﴾: تتفاعل من الجفاء [وهو] النَّبْؤ.
﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ أي: يزكون ما يجب عليهم في أموالهم.
قال أنس في قوله: ﴿كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ﴾ [الذاريات: ١٧]. قال: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء. وكذلك ﴿تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع﴾.
وقال الحسن: عني بذلك قيام الليل.
وقاله الأوزاعي.
وهو قول مالك بن أنس.
وعن أنس: أنه عني بذلك أيضاً صلاة العتمة.
وقال ابن عباس: عني بذلك ملازمة ذكر الله، فكلما انتبهوا ذكروا الله، إما في صلاة، وإما في قيام، وإما في قعود، أو على جنوبهم لا يزالون يذكرون الله.
وهو قول الضحاك.
ثم قال تعالى: ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾.
أي: ما خبئ لهؤلاء الذين تصدمت صفتهم في الآيتين مما تَقِرُّ به أعينهم في الجنة جزاء بأعمالهم.
وقرأ ابن مسعود: " ما نُخْفِيَ لَهُمْ " بالنون. فهذا شاهد لقراءة حمزة بإسكان الياء، فالقراءتان جرتا على الإخبار عن الله جلَّ ذكره، و " ما " في موضع نصب
وروى أبو هريرة: أن النبي صلى الله عليه [وسلّم] " قرأ " (مِنْ قرَّاتِ أعيْنٍ) بالجمع ".
وروى أيضاً عن النبي عليه السلام أنه قال:
" قَالَ رَبُّكُمْ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ. بَشَرٍ، فاقرؤوا إِنْ شِئْتُمْ: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أخْفِيَ (لَهُمْ) الآية ".
وروى الشعبي عن المغيرة بن شعبة: أن النبي ﷺ قال: " سَأَلَ موسَى ربَّه فَقَال: أيّ ربِّ أخبِرْنِي بِأدْنَى أهل الجنة مَنْزِلةً فَقَالَ: رَجُلٌ أَتى بَعدمَا أُنْزِلَ، أهل الجَنَّةِ مَنَازِلَهُم وأخَذُوا أخَذَاتِهِم، فَقِيلَ له: ادخل الجنة، فقال: أيْ رَبّ، وقد نَزَل النَّاسُ مَنَازِلَهُم وَأخَذُوا أخَذَاتِهُم، فقيل له: أترضى مثل مُلْكِ مَلِكٍ من مُلُوكِ الدنيا؟ قال: رَضِيتُ أي ربِّ، فَقَالَ: فَإِنَّ لَكَ ما اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، وَمِثْلُه [معه]، وِمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ إنْ رَضيتَ، فقال: رَضيتُ أيْ ربِّ، قال: فإن لَكَ ما اشتهت نفسك وَلَذَّت عينك، قاغل: أي رب، فأخْبِرنِي بأعْلَى أهل الجنة مَنزِلَةً، فقال: أولئك الذِينَ أَرَدْتُ وَسَوفَ أخْبِرُكَ عَنْهُمْ، إنّي غَرَسْتُ كَرَامَتَهُم بِيَدي وَخَتَمْتُ عليها، وَلَمْ تَدْرِ نفسٌ وَلَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أذْنٌ وَلَمْ يَخْطُر عَلَى قَلْب بَشَرٍ وَمِصْداقٌ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ تعالى
وقيل: إن معنى الآية في ثواب الجهاد، أي: لا تعلم نفس ما أخفي لها من ثواب الجهاد في سبيل الله، ذكره ابن وهب عن رجاله.
قال سليمان بن عامر: الجنة مائة درجة فأولها درجة من فضة، أرضها فضة ومساكنها فضة، وآنيتُها فضة، وترابها مسك، والثانية ذهب، وأرضها ذهب، ومساكنها ذهب وآنيَّتُها ذهب وترابها مسك، والثالثة لؤلؤ (و) أرضها لؤلؤ ومساكنها لؤلؤ وآنيَّتُها لؤلؤ وترابها مسك، وسبعة وتسعون درجة بعد ذلك ما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، قال الله تعالى: ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم﴾ الآية.
وعن ابن سيرين أنه قال في الآية: إنه النظر إلى الله تعالى.
قوله تعالى ذكره: ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً﴾ إلى قوله:
أي: أيكون الكافر المكذب كالمؤمن المصدق، لا يستوون عند الله.
قال قتادة: لا والله ما يستوون في الدنيا ولا في الآخرة ولا عند الموت. وإنما جمع يستوون لأن " مَنْ " تؤدي عن جمع فحمله على المعنى.
وقيل: إن المراد به أثنان بأعيانهما، وذلك أن الآية نزلت في قول ابن عباس وعطاء وغيرها في المدينة في عل ي بن أبي طالب رضي لله عنه، والوليد بن عقبة بن أبي معيط قال عطاء: كان بين الوليد وعلي كلام، فقال/ [الوليد] " أنا أبْسطُ منك لساناً وأحَدُّ منك سِنَاناً، فقال له علي [اسكت] فإنك فاسق، فنزلت ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً﴾ الآية فيهما.
فيكون يستوون على هذا قد جمع في موضع التثنية، لأن التثنية جمع في الأصل.
ثم قال تعالى [ذكره] ﴿أَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ جَنَّاتُ المأوى﴾ أي: الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا ما أمرهم الله ورسوله فلهم بساتين المساكن التي يكسنونها في لجنة ويأوون إليها.
ويجوز أن يكون التقدير: فلهم بساتين جنة المأوى.
﴿نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي: أنزلهم الله فيها نزلاً بعملهم.
ثم قال: ﴿وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ﴾ أي: كفروا بالله.
﴿فَمَأْوَاهُمُ النار﴾ أي: مساكنهم في النار في الآخرة.
ثم قال: ﴿كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا﴾. قد تقدم هذا في " الحج ".
ثم قال: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ أي: في الدنيا.
ثم قال [تعالى]: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى﴾ أي: لنذيقن هؤلاء الفسقة من مصائب الدنيا في الأنفس والأموال في الدنيا دون عذاب النار في الآخرة. قاله ابن عباس وأُبي بن كعب والضحاك.
وقال مجاهد: هو الجوع والقتل لقريش في الدنيا. روي أنهم جاعوا حتى أكلوا العِلْهِزَ، وهو القُرَدُ يفقأ دمها في الوبر ويحمل على النار فيؤكل.
وعن ابن عباس أيضاً: أنه الحدود.
وعن مجاهد أيضاً: أنه عذاب القبر وعذاب الدنيا.
وأكثرهم على أن العذاب الأكبر عذاب يوم القيامة في النار.
وقيل: هو القتل يوم بدر.
أي: لا أحد أظلم لنفسه ممن وعظ بحجج الله وآي كتابه فأعرض عن ذلك وكذب به.
ثم قال: ﴿إِنَّا مِنَ المجرمين مُنتَقِمُونَ﴾ أي: من الذين اكتسبوا السيئات منتقمون في الآخرة.
وقيل: عني بالمجرمين [هنا] أهل القدر، وكذلك قوله:
﴿إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ﴾ [القمر: ٤٧] الآيات في أهل القدر أيضاً.
[وقال] / معاذ بن جبل: سمعت النبي صلى الله عليه [وسلّم] يقول
ثم قال تعالى [ذكره]: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب﴾ أي التوراة.
﴿فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ﴾ أي: في شك من أنك لقيته أو تلقاه ليلة الإسراء، قاله قتادة.
وبذلك أتى الخبر عن النبي ﷺ أنه لقيه ليلة الإسراء، روى ابن عباس: أن النبي ﷺ / قال: " أرِيتُ لَيْلَةَ أسْرِي [بي] موسى بن عِمْرِان رَجلاً آدَمَ
والتقدير: فلا تكن في شك من تلقي موسى الكتاب بالقبول، وتكون المخاطبة على القول الأول للنبي خاصة، وعلى القول الثاني لجميع الناس.
فالهاء عائدة على معنى محذوف كأنه قال: من لقاء ما لاقى، والمخاطبة على هذا للنبي عليه السلام خاصة.
ويجوز أن يكون هذا خطاباً للشاك في إتيان الله موسى الكتاب، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والهاء في ﴿لِّقَآئِهِ﴾ تعود على الرجوع إلى الآخرة والبعث، والتقدير: قل يتوفاكم ملك المت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون، ﴿فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ﴾ أي: من لقاء البعث والرجوع إلى الحياة بعد الموت فهو خطاب للنبي عليه السلام، والمراد به من ينكر البعث.
وقوله: ﴿فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ﴾ كلام اعترض بين كلامين.
ثم قال بعد ذلك: ﴿وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لبني إِسْرَائِيلَ﴾.
أي: الكتاب جعله الله هادياً لهم من الضلالة إلى الهدى.
وقال قتادة: ﴿وَجَعَلْنَاهُ﴾ أي: جعلنا موسى هدى لهم.
أي: وجعلنا من بني إسرائيل قادة في الخير يؤتم بهم.
قال قتادة: ﴿أَئِمَّةً﴾ رؤساء الخير.
﴿يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾: أي يرشدون أتباهم بإذننا هم وتقويتنا إياهم على ذلك. ﴿لَمَّا صَبَرُواْ﴾ أي: حين صبروا على طاعة الله وعلى أذاء فرعون لهم، فيكون المعنى: إنهم إنما جعلوا أئمة حين وُجِدَ منهم الصبر.
ومن قرأ " لِمَا " بكسر اللام فمعناه فعلنا بهم ذلك لصبرهم على طاعة الله.
فيكون المعنى: فهل بهم ذلك الجزاء لهم الصبرهم المتقدم في الله.
ثم قال (تعالى): ﴿وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ أيك بحججنا وكتابنا يصدقون.
وفي قراءة أُبي: " كَمَا صَبَروا ".
وفي قراءة أبن مسعود: " بِمَا صَبَروا ". فهذا شاهد لمن كسر اللام، وهو حمزة والكسائي.
أي: يحكم بين جميع خلقه فيما اختلفوا فيه في الدنيا من أمور الدين، فيوجب للمحسن الجنة وللمسيء النار.
ثم قال تعالى [ذكره]: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ القرون﴾.
قال الفراء: كم في موضع رفع فاعل ليهدي.
ولا يجيزه البصريون لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله.
وقال المبرد: الفَاعِل المَصَدر مَحْذُوف لأِن يَهْدِي يَدُلُّ عَلَى مَصْدرِهِ، تقديره: أَوَ لَمْ يَهْدِ الهُدَى لَهُم.
وقيل التقدير: أولم يهد الله لهم. وهذا إن شاء الله أحسنها. ويقوي ذلك أن أبا عبد الرحمن السلمي وقتادة قرأ: أو لم نهدِ بالنون.
ثم قال تعالى: ﴿يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾ أي: تمشي قريش في مساكن الأمم الخالية، فكيف لا تتعظ وتزدجر وتعلم أن مصيرها إن كفرت إلى ما صارت إليه هذه الأمم.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ﴾ أي: إن في خلاء مساكن من مضى، وأهلاك الله إياهم لعبرا وحججاً لقريش، أفلا يسمعون عظات الله وتذكيره إياهم وتعريفه مواضع حججه عليهم.
وقيل: ﴿أَفَلاَ يَسْمَعُونَ﴾، معناه: أفلا يعقلون، مثل " سَمِع اللهُ لِمَنْ حَمِدَه ".
قوله تعالى [ذكره]: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز﴾ إلى آخر السورة.
أَلَم يرَ هؤلاء المكذبون بالبعث [بعد الموت] أنا بقدرتنا نسوق الماء إلى الأرض اليابسة الغليظة التي لا نبات فيها/.
وحكى الفراء وغيره فيه أربع لغات: أرض جُرْزٌ، وَجُرْزٌ وَجَرَزٌ وَجَرْزٌ، وكذلك حكوا في البُخل والرُّعب والرُّهب، هذه الأربع على أربع لغات، قال ابن عباس: هي أرض باليمن. يروى أنه ليس فيها أنهار وأنها بعيدة من البحر يأتها كل عام واديان عظيمان بسيل عظيم من حيث لا يعلمون فيزرعون عليه ثلاث مرات في السنة.
وقال مجاهد: هي أَبْين.
وقال عكرمة: هي الظَّمأى.
وقال ابن عباس: الجرز: التي لا تمطر إلا مطراً لا يغني عنها شيئاً.
وقال أهل اللغة: هي التي لا نبات فيها.
ثم قال [تعالى] ﴿فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً﴾ أي: بالماء.
﴿تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ﴾ اي: ترعاه مواشيهم، ويأكلون منه هم.
وقوله: ﴿وَأَنفُسُهُمْ﴾ أي: وهم يأكلون منه. والنفس يراد بها جملة الشيء وحقيقته، منه قوله تعالى ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ [المائدة: ١١٦]، أي: تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم. وتكون النفس الجزء من الإنسان كقولك [خرجت] نفسه.
ثم قال: ﴿أَفَلاَ يُبْصِرُونَ﴾ أي: أفلا يرون ذلك بأعينهم فيعلمون أن من قدر على ذلك هو قادر على إحيائهم بعد موتهم.
ثم قال [تعالى]: ﴿وَيَقُولُونَ متى هذا الفتح إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾.
أي: يقول لك يا محمد هؤلاء المشركون: متى يجيئ هذا الحكم بيننا وبينك، أي: متى يكون هذا الثواب والعقاب.
وقال القتبي: يعني فتح مكة.
وقال مجاهد وغيره: هو يوم القيامة.
وقوله تعالى [ذكره]: ﴿قُلْ يَوْمَ الفتح لاَ يَنفَعُ الذين كفروا إِيَمَانُهُمْ﴾ يدل على أنه يوم القيامة لأنه قد نفع من آمن من الكفار إيمانهم يوم فتح مكة.
وروي أن المؤمنين قالوا: سيحكم الله بيننا يوم القيامة فيثيب المحسن ويعاقب المسيء، فقال الكفار على التهزي: متى هذا الفتح؟، أي: هذا الحكم.
يقال للحاكم فاتح وفتاح لأن الأحكام تنفتح على يديه. وفي القرآن: ﴿رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق﴾ [الأعراف: ٨٨] أي احكم.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ يَوْمَ الفتح﴾ أي: قل لهم يا محمد: يوم الفتح لا ينفع من كفر
قال ابن زيد " يوم الفتح "، أي: إذا جاء العذاب.
وقوله: ﴿وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ﴾ أي: يؤخرون للتوبة/ والرجوع إلى الدنيا.
ثم قال تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ أي: عن هؤلاء المشركين.
وهذا منسوخ نسخة آية السيف قوله جل ذكره ﴿فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] الآية، قاله ابن عباس وغيره.
ثم قال: ﴿وانتظر إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ﴾ أي: انتظر ما الله صانع بهم. إنهم منتظرون ما تعدهم من العذاب ومجيئ الساعة.