ﰡ
وفي هذه الآيةِ دليلٌ أنَّ قولَ الرجُلِ : أشْهَدُ، يمينٌ ؛ لأنَّ القومَ قالوا (نَشْهَدُ) فجعلَهُ اللهُ يَميناً في هذهِ الآية، وعلى هذا أُقسِمُ وأعزِمُ وأحلِفُ، كلُّها إيمانٌ عند أبي حنيفةَ وصَاحِبَيْهِ، والثوريِّ والأوزاعي.
وقال مالكُ :(إنْ أرَادَ بهِ الْيَمِينَ فَهُوَ يَمِينٌ)، وقال الشافعيُّ :(أُقْسِمُ لَيْسَ بيَمِينٍ وَأُقْسِمُ باللهِ يَمِينٌ). وفي قراءةِ الحسن (اِتَّخَذُوا إيْمَانَهُمْ) بكسر الألف، أي إنَّا مُؤمِنون، اتَّخذوهُ تُقْيَةً عن القتلِ.
قَوْلُهُ تَعَاَلَى :﴿ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ﴾ ؛ فيه بيانٌ في تركِ التفهُّم والاستبصار بمنْزِلة الْخُشُب الْمُسَنَّدَةِ إلى الجدار، لا ينتفعُ إلاَّ بالنظرِ إليها، والْخُشُبُ لا أرواحَ فيها ولا تعقلُ ولا تفهمُ، وكذلك المنافقون لا يَسمعون الإيمانَ ولا يعقلونَهُ. و(الْمُسَنَّدَةُ) الْمُمَالَةُ إلى الجدار، ويُقرأ (خُشُبٌ، وَخُشْبٌ) بجزم الشِّين، ومنها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ﴾ ؛ أي يظُنُّون مِن الْجُبنِ والخوفِ أنَّ كلَّ مَن خاطبَ النبيَّ ﷺ فإنما يُخاطِبهُ في أمرِهم وكشفِ نفقاهم. ويقالُ : لا يسمعون صَوتاً إلاَّ ظنُّوا أنْ قد أتوا (فإذا نادَى مُنادٍ في العسكرِ، وانفلَتَتْ دابَّة، أو أنشِدَتْ ضالَّةٌ، ظنُّوا أنُّهم يُرَادُون مما في قلوبهم من الرُّعب) أنْ يكشفَ اللهُ أسرارَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هُمُ الْعَدُوُّ ﴾ ؛ ابتداءُ كلامٍ، والمعنى : هُمْ على الحقيقةِ العدوِّ الأدنَى إليكَ، ﴿ فَاحْذَرْهُمْ ﴾ ؛ يا مُحَمَّدُ ولا تَأْمَنْهُمْ وإنْ أظهَرُوا أنَّهم معكَ، نلا تُطلِعْهُمْ على سرِّكَ كأَنَّهم عيونٌ لأعدائِكَ من الكفَّار.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ ؛ أي لعَنَهم اللهُ وأخزَاهم وأحَلَّهم محلَّ مَن يقاتلهُ عدُوّاً قاهراً له، ﴿ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ أي يُصرَفُون من الحقِّ إلى الباطلِ.
ومعنى ﴿ يَصُدُّونَ ﴾ أي يَمتَنِعُونَ، ويَمنَعُونَ غيرَهم عن طلب المغفرةِ، وهم مُستكبرون عن استغفار رسولِ الله لَهم وعن قبولِ الحقِّ. وذلك : أنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ أُبَيٍّ لَمَّا رَجَعَ مِنْ أُحُدٍ بكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مَقَتَهُ الْمُسْلِمُونَ وَعَنَّفُوهُ، فَقالَ لَهُ بَنُوا أبيهِ ؛ إئْتِ رَسُولَ اللهِ ﷺ حَتَّى يَسْتَغْفِرَ لَكَ، قَالَ : لاَ أذْهَبُ إلَيْهِ وَلاَ أُريدُ أنْ يَسْتَغْفِرَ لِي. ومن قرأ (لَوَوْا) بالتخفيفِ فهو من لَوَى يَلْوِي إذا صَرَفَ الشيءَ وقلبه.
" وذلك : أنَّ أصْحَابَ رَسُولِ اللهِ ﷺ كَانُوا نُزُولاً عَلَى الْمَاءِ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، إذْ وَقَعَ بَيْنَ غُلاَمٍ لِعُمَرَ رضي الله عنه مِنْ بَنِي غِفَارٍ يَقُالُ لَهُ : جَهْجَاهُ بْنُ سَعِيدٍ يَقُودُ لِعُمَرَ فَرَسَهُ وَبَيْنَ غُلاَمٍ لِعَبْدِاللهِ بْنِ أبي سَلُولٍ يُقَالُ لَهُ : سِنَانُ الْجُهَنِيُّ، فَأَقْبَلَ جَهْجَاهُ يَقُودُ فَرَسَ عُمَرَ فَازْدَحَمَ هُوَ وَسِنَان عَلَى الْمَاءِ فَاقْتَتَلاَ، فَصَرَخَ سِنَانُ : يَا مَعْشَرَ الأَنْصَار، وَصَرَخَ الْغِفَاريُّ : يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ. فَاشْتَبَكَ النَّاسُ وَعَلَتِ الأَصْوَاتُ.
فَقَالَ عبْدُاللهِ بْنُ أبَيٍّ : مَا أدْخَلْنَا هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ فِي دِيَارنَا إلاَّ لِيَرْكَبُوا أعْنَاقَنَا، وَاللهِ مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُهُمْ إلاَّ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ! أمَا وَاللهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذلَّ، يَعْنِي الأَعَزَّ نَفْسَهُ وَالأَذلَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم! ثُمَّ أقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ : هَذا مَا فَعَلْتُمُوهُ لِنَفْسِكُمْ أحْلَلْتُمُوهُمْ بلاَدَكُمْ، قَاسَمْتُمُوهُمْ أمْوَالَكُمْ، أمَا وَاللهِ لَوْ أمْسَكْتُمْ طَعَامَكُمْ وَمَنَعْتُمْ أصْحَابَ هَذا الرَّجُلِ الطَّعَامَ لَتَفَرَّقُوا عَنْهُ وَرَجَعُوا إلَى عَشَائِرِهِمْ، وَتَحَوَّلُوا عَنْ بلاَدِهِمْ، فَلاَ تُنْفِقُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْفَضُّوا ؛ أيْ يَتَفَرَّقُوا مِنْ حَوْلِ مُحَمَّدٍ.
فَسَمِعَ زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ كَلاَمَهُ، فَقَالَ : وَاللهِ أنْتَ الذلِيلُ الْبَغِيضُ، الْقَلِيلُ الْمَبْغُوضُ فِي قَوْمِكَ، وَمُحَمَّدٌ ﷺ فِي عَزِّ الرَّحْمَنِ وَعِزَّةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ : ثُمَّ ذهَبَ زَيْدٌ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَأخْبَرَهُ بذلِكَ وَعِنْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب رضي الله عنه فَقَالَ : دَعْنِي أضْرِبْ عُنُقَهُ يَا رَسُولَ اللهِ إذْ تَرْعَدُ لَهُ أنْفٌ كَثِيرٍ بيَثْرِبَ. فَقَالَ عُمَرُ : فَإنْ كَرِهْتَ يَا رَسُولَ اللهِ أنْ يَقْتُلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَمُرْ سَعِدَ بْنَ مُعَاذٍ أوْ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ أوْ عَبَّادَ بْنَ بشْرٍ فَلْيَقْتُلُوهُ.
فَقَالَ ﷺ :" فَكَيْفَ يَا عُمَرُ إذا تَحَدَّثَ النَّاسُ أنَّ مُحَّمَداً يَقْتُلُ أصْحَابَهُ ؟ لاَ وَلَكِنِ أذِّنْ بالرَّحِيلِ " وَذلِكَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يُرْتَحَلُ فِيْهَا، فَارْتَحَلَ النَّاسُ، فَأَرْسَلَ النَّبيُّ ﷺ إلَى عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ فَأَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ :" أنْتَ صَاحِبُ هَذا الْكَلاَمِ الَّذِي بَلَغَنِي ؟ " فَقَالَ : وَالَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مَا قُلْتُ شَيْئاً مِنْ ذلِكَ، وَإنَّ زَيْداً لَكَاذِبٌ.
وَكَانَ عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيٍّ فِي قَوْمِهِ شَرِيفاً عَظِيماً، فَقَالَ مَنْ حَضَرَ مِنَ الأَنْصَار : يَا رَسُولَ اللهِ شَيْخُنَا وَكَبِيرُنَا عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيٍّ، لاَ تُصَدِّقْ عَلَيْهِ كَلاَمَ صَبيٍّ مِنْ غِلْمَانِ الأَنْصَار، عَسَى أنْ يَكُونَ هَذا الصَّبيُّ وَهِمَ فِي حَدِيثِهِ وَلَمْ يَحْفَظْ مَا قَالَ، فَعَذرَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم. وَفَشَتِ الْمَلامَةُ مِنَ الأَنْصَار لِزَيْدٍ وَكَذبُوهُ، فَقَالَ لَهُ عَمُّهُ : مَا أرَدْتَ يَا وَلَد إلاَّ أنْ كَذبَكَ رَسُولُ اللهِ وَالنَّاسُ وَمَقَتُوكَ. وََكَانَ زَيْدٌ يُسَايرُ النَّبيَّ ﷺ فَاسْتَحَى بَعْدَ ذلِكَ أنْ يَدْنُو مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وَبَلَغَ وَلَدَ عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ مَا كَانَ مِنْ أمْرِ أبيهِ، فَأَتَى إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ بَلَغَنِي أنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ لِمَا بَلَغَكَ عَنْهُ، فَإنْ كُنْتَ فَاعِلاً فَمُرْنِي فَأَنَا أحْمِلْ إلَيْكَ دُأبَتَهُ، وَإنِّي أخْشَى أنْ تَأْمُرَ بهِ غَيْرِي فَيَقْتُلَهُ، فَلاَ تَدَعُنِي نَفْسِي أنْ أنْظُرَ إلَى قَاتِلِهِ يَمْشِي بَيْنَ النَّاسِ، فَأَخَافُ أنْ أقْتُلَهُ فَأَقْتُلَ مُؤْمِناً بكَافِرٍ فَأَدْخُلَ النَّارَ، فَقَالَ ﷺ :" بَلْ تَرْفُقُ بهِ وَتُحْسِنُ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا ".
وَكَذلِكَ جَاءَ أُسَيدُ بْنُ حُضَيرٍ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ كُنْتَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يُمْشَى فِيهَا، فَقَالَ لَهُ :" أوَمَا بَلَغَكَ مَا قَالَ صَاحِبُكَ ؟ زَعَمَ أنَّهُ إنْ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذلَّ " فَقَالَ أُسَيْدُ : بَلْ أنْتَ وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ تُخْرِجُهُ إنْ شِئْتَ، هُوَ وَاللهِ الذلِيلُ وَأنْتََ الْعَزِيزُ، فَوَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ جَاءَ اللهُ بكَ، وَإنَّ قَوْمَهُ لَيَنْظُمُونَ لَهُ الْخَرَزَ لِيُتوِّجُوهُ، فَهُوَ يَرَى أنَّكَ سَلَبْتَهُ مُلْكَهُ.
ثم سارَ رسولُ الله ﷺ حتى وافَى المدينةَ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ ﴿ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ ﴾ الآية إلى قولهِ :﴿ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَـاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ﴾ ؛ فَأَخَذ رَسُولُ اللهِ ﷺ بأُذُنٍ زَيْدٍ فَقَالَ :" يَا زَيْدُ إنَّ اللهَ صَدَّقَكَ ".
وَكَانَ عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيٍّ بقُرْب الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا أرَادَ أنْ يَدْخُلَهَا جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُاللهِ حَتَّى أنَاخَ عَلَى مَجَامِعِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ وَمَنَعَ أبَاهُ أنْ يَدْخُلَهَا، فَقَالَ لَهُ : مَا لكَ ؟ قَالَ : وَيْلَكَ! وَاللهِ لاَ تَدْخُلُهَا أبَداً إلاَّ أنْ يَأْذنَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَلِتَعْلَمَنَّ الْيَوْمَ مَنِ الأَعَزُّ وَمَنِ الأَذلُّ.
فَشَكَا عَبْدُاللهِ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ مَا مَنَعَ ابْنَهُ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ النَّبيُّ ﷺ :" أنْ دَعْهُ يَدْخُلُ " فَقَالَ : أمَّا إذا جَاءَ أمْرُ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَنَعَمْ. فَلَبثَ بَعْدَ أنْ دَخَلَ أيَّاماً قَلاَئِلَ ثُمَّ مَرِضَ وَمَاتَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ ؛ أي ومَن ينشغِلْ بالمالِ والأولاد عن طاعةِ الله فأُولئك هم الْمَغْبُونُونَ لذهاب الدُّنيا والآخرة عنهم، وهلاكِ أنفُسهم التي هي رأسُ مالهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾ ؛ قِِيْلَ : إنَّ معناه وأحجُّ، عن ابنِ عبَّاس. وقوله :﴿ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾ على قراءةِ مَن جزمَ عطفَهُ على موضعِ ﴿ فَأَصَّدَّقَ ﴾ لأنه على معنى إنْ أخرَجتَني أصَّدَّقُ وأكُنْ، ولولا الفاءُ لكان فأَصَّدَّقْ مجزومٌ، ومن قرأ (وَأكُونُ) فهو عطفٌ على لفظ ﴿ فَأَصَّدَّقَ ﴾. وانتصبَ قوله تعالى ﴿ فَأَصَّدَّقَ ﴾ لأنه جوابُ التَّمنِّي، فالفاءُ وأصله : فَأَتَصَدَّقَ.