تفسير سورة الطلاق

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة الطلاق من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الطلاق مدنية١
ويقال لها : سورة النساء الصغرى٢.
١. بالإجماع، انظر: الغريب لابن قتيبة، ص: ٤٧٠ وتفسير القرطبي١٨/١٤٧ وروح المعاني٢٨/١٢٨.
٢.- لم أجدها بهذا الاسم:" الصغرى" وإنما سماها عبد الله بن مسعود: سورة النساء القصرى، أخرج ذلك عنه البخاري في كتاب التفسير، سورة الطلاق، ح: ٤٩١٠( الفتح٨/٦٥٤) وانظر: فيه، ص: ٦٥٦- الرد على من أنكر تسمية السورة بذلك، وانظر: الإتقان١/٥٥ وروح المعاني٢٨/١٦٢.

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الطلاق
مدنية
ويقال لها: سورة النساء الصغرى.
- قوله تعالى: ﴿يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ...﴾ إلى قوله: ﴿بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً...﴾.
هذا خطاب للنبي ﷺ ويراد به أمته [ودل] على ذلك قوله - بعد ذلك: ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ﴾.
وقيل: إن هذا من الانتقال من المخاطبة، كما قال:
7519
﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك﴾ [يونس: ٢٢] ثم قال: ﴿وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ [يونس: ٢٢].
وقيل: إنه كله مخاطبة للنبي، لكن خوطب بلفظ الجمع على التعظيم والإجلال، كما يقال للرجل الجليل: أنتم فعلتم.
والمعنى: إذا طلقتم نساءكم المدخول بهن، أي: إذا أردتم طلاقهن ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ أي: لظهورهن [الذي يحصينه من عدتهن ويعتددن به طاهرات من غير جماع كان منكم في ذلك الطهر، ولا تطلقوهن لحيضهن] الذي لا يعتددن من أقرائهن. (" فاللام " بمعنى) " في ": أي: [فطلقوهن] في عدتهن.
7520
أي: في الطهر (الذي) [يعتددن] به، وهو الطهر [الذي] لم تقرب فيه. [وهذا هو مذهب] مالك وغيره.
وكون اللاَّمِ بمعنى " في ": [مستعمل]، قال الله جل ذكره عن قول الكافر في الآخرة: ﴿ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ [الفجر: ٢٤]، أي: في حياتي، أي: يا ليتني قدمت عملاً (صالحاً) في حياتي في الدنيا.
فطلاق السنة الذي ثبت عن النبي ﷺ هو أن يطلق الرجل امرأته وهي طاهر من غير جماع كان منه في ذلك الطهر. دل على ذلك قوله: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ أي: في عدتهن، أي: في الطهر الذي يعتددن به ويجعلنه قُرْءاً إذا مضى.
وسأل رجل ابن عباس فقال: إنه طلق امرأته مائة، فقال له ابن عباس: عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، ولم تتق الله فيجعل لك مخرجاً، وقرأ:
7521
﴿وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً﴾ [الجمعة: ٢]، وقرأ: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن من قبل عدتهن) هكذا روي أنه قرأ على التفسير.
" وَرَوَى مالك أن ابن عمر " طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمرُ عن ذلك رسول الله ﷺ فقال له: مُرْهُ يُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهَرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهَرَ (ثُمَّ) إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدٌ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ الله أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ " فهذا طلاق السنة، يطلقها في طهر لم يسمها فيه طلقة، ويدعها [تمضي] في عدتها، فإن بدا له أن يرتجعها (أرتجعها) شاءت أم أبت قبل أن تمضي
7522
عدتها، فإن لم يرتجعها حتى مضت عدتها حلَّت للأَزواج غيرِه وملكت نفسها، وصار خطاباً من الخطاب. وهذا قول ابن عباس وابن مسعود وعطاء وطاوس وابن المسيب وعمرو بن دينار وقتادة وربيعة ومالك وأهل المدينة، وبه قال الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو
7523
ثور وأصحاب الرأي، ومُضِيُّ عدتها عند مالك وأصحابه: أن ترى الدم من الحيضة الثالثة، لأن الأقراء عند الأطهار، وعند غيره: الحِيَضُ.
وأصل [القرء] في اللغة: الوقت. فهو يصلح للطهر والحيض وقد مضى الكلام على الأقراء في سورة البقرة [بأشبع] من هذا.
7524
وقال أبو حنيفة: طلاق السنة أن يطلق في كل طهر طلقة.
قال مجاهد والحسن وابن سيرين: ﴿لِعِدَّتِهِنَّ﴾: (أي): لطهرهن، أي: إذا طهرت من حيض ولم تجامع - وهو [قول] السدي - ومن طلق ثلاثاً لزمه، وبئس ما صنع لمخالفته السنة.
(روي) أن علياً - رضي لله عنه - كان يعاقب من طلق البتة، وكان يقول: ما طلق
7525
طلاق السنة فندم.
وروى أنس أن [عمر] كان يؤدب من طلاق ثلاثاً وينهى عنه.
وروي أن هذا الحكم نزل في سبب طلاق النبي حفصة بنت عمر، طلقها تطليقة، فقيل له: راجعها، فإنها صوامة قوامة، وإنها من نسائك في الجنة.
- وقوله: ﴿وَأَحْصُواْ العدة...﴾.
أي: احفظوها لتعلموا متى تحل للأزواج وتملك نفسها، ومتى بقى لكم عليها حكم بالمراجعة.
- ثم قال: ﴿واتقوا الله رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ...﴾.
أي: خافوه أن تتعدوا حدوده ولا تُخرجوا من طلقتم من نسائكم لعدتهن من
7526
بيوتهن اللاتي كنتم أسكنتموهن فيما قبل الطلاق حتى تنقضي العدة.
قال ابن عباس: هي المطلقة في الطهر طَلْقَةً لا تَخْرُج من بيتها ما دامم لزوجها عليها الرجعة/ وعليه النفقة، وذلك ما كانت (في) العدة.
وقال قتادة: لا يخرجها إذا طلقتها واحدة أو اثنتين حتى تتم العدة، فإن طلقها ثلاثاً لم يكن لها سكنى. هذا معنى قوله. والسكنى واجب عند مالك لكل مطلقة دخل بها طلقة ثلاثا أو واحدة. وقال الضحاك: إن خرجت هي فلا سكنى لها ولا نفقة.
- ثم قال: ﴿إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ...﴾.
قال قتادة: هي الزنا، إذا زنت في عدتها أخرجها لإقامة الحد عليها. وهو قول
7527
الحسن ومجاهد وابن زيد.
قال ابن عباس: الفاحشة هنا: [البَذَاءُ] على أهله.
وقال قتادة: [الفاحشة] هنا: النشوز، وذلك أن يطلقها على النشوز، فلها أن تتحول من بيت زوجها.
وقال السدي: الفاحشة هنا: خروجها من بيتها في العدة.
وقال ابن عمر: " خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة ".
7528
وعن ابن عباس أنه قال: الفاحشة هنا: كل معصية مثل الزنا والسرقة والبذاء على الأهل، وهو اختيار الطبري.
وللرجل أن يطلق الحامل متى شاء عند مالك تطليقة واحدة.
[وكذلك يطلق الآيسة من المحيض واللائي لم يحضن متى شاء تطليقة واحدة، ولا يتبعها] طلاقاً حتى تحل.
7529
- ثم قال: -ayah text-primary">﴿وَتِلْكَ حُدُودُ الله [وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله] فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾.
(أي): وتلك الأمور التي بينت لكم (في الطلاق) حدود الله [لكم] وفرائضه عليكم، ومن يتعد حدود الله فيطلق في غير طهر ويخرج من طلق من بيتها قبل انقضاء العدة ويتجاوز [ما أمره الله به] فقد ظلم نفسه بما ألزمها من الذنوب والعقوبات في آخرته.
- ثم قال: ﴿لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ (أَمْراً)﴾.
أي: لعلكم تندمون بدلا طلاقكم فتراجعون، فإذا تجاوزتم حدود الله في الطلاق فطلقتم ثلاثاً ثم ندمتم لم تكن لكم رجعة أبداً، إنما تكونون خطاباً لها بعد زوج. وهذا قول جميع المفسرين.
7530
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ إلى قوله: ﴿مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً﴾.
أي: فإذا بلغ المطلقات اللواتي في العدة آخر عدتهن، فأمسكوهن برجعة ترجعونهن إن أردتم ذلك.
ومعنى: ﴿بِمَعْرُوفٍ﴾ أي: راجعوهن بمعروف، وذلك إعطاؤها الحقوق التي أوجب الله لها عليهم من النفقة والكسوة والسكنى وحسن الصحبة.
- ﴿أَوْ فَارِقُوهُنَّ...﴾.
أي: اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيملكن أنفسهم.
ومعنى ﴿بِمَعْرُوفٍ...﴾.
(أي) ": [بإيفائها ما لها] من بقية الصداق والمتعة. قال الضحاك:
7531
﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾: إذا انقضت عدتها قبل أن تغتسل من الحيضة الثالثة، أو ثلاثة أشهر، إن لم يكن يحضن، فراجع إن شئت قبل أن تقضي العدة ([وأمسكها] بمعروف، أي: بحسن الصحبة والقيام عليها ﴿أَوْ فَارِقُوهُنَّ﴾ أي: دعوهن حتى تنقضي العدة) بالطهر الثالث أو تمام الثلاثة أشهر ﴿بِمَعْرُوفٍ﴾ (أن) يعطيها مهرها إن كان لها.
- ثم قال تعالى: ﴿وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ...﴾.
أي: أشهدوا - إذا رجعتموهن - ذوي عدل. وهما من يُرضى دينه وأمانته.
قال ابن عباس: يشهد عدلين عند الطلاق وعند المراجعة، وقاله السدي.
7532
والإشهاد عند [أكثر] الفقهاء على الندب، وكذلك أكثر ما جاء في القرآن من الأمر بالأشهاد.
قال ابن المسيب: ﴿[ذَوَىْ] عَدْلٍ﴾: [ذوي] عقل وفهمه.
- ثم قال: ﴿وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ...﴾.
أي: اشهدوا بالحق.
وإذا جامع أو [قَيَّل] يريد به الرجعة فهو رجعة عند مالك. وكذلك إن [تكلم] بالرجعة ونِيَّتُه الرجعة فهي رجعة.
- ثم قال تعالى: ﴿ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر...﴾.
7533
أي: هذا (الذي) عرفتكم به من أمر الطلاق عظة لمن يؤمن بالله واليوم الآخر فيتبعه ويعمل به.
- ثم قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً﴾.
أي: ومن يخف الله فيعمل ما أمره به ويجتنب ما نهاه عنه يجعل له من أمره مخرجاً، وذلك أنه [يُعَرِّفُهُ] أن ما قضاه عليه فلا بد أن يكون.
وقيل: المعنى: ومن يتق الله فيما أمره به (من هذا الطلاق، يجعل له مخرجاً إن ابتغت نفسه رد المطلقة بعد انقضاء العدة فيحل له أن يخاطبها ويتزوجها. ومن لم يتق الله فيما أمره) ويطلق ثلاثاً، لا يجعل له مخرجاً إن ابتغتها نفسه، فلا يحل له أن يخطبها، ولا يتزوجها إلا بعد زوج، هاذ قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنهـ -
7534
والشعبي.
وقيل: هو على العموم، (أي: و) من يتق الله في أمره ونهيه يجعل له مخرجاً في كل أموره فيرزقه من حيث لا يحتسب، / (أي): [ويسبب] له أسباب الرزق من حيث لا يشعر ولا يعلم.
وعن ابن عباس: ﴿يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً﴾: ينجيه (من كل كرب) في الدنيا والآخرة.
قال الربيع: ﴿يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً﴾ من كل أمر ضاق على الناس.
7535
وروي أن هذه الآية نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، كان له ابن قد أسره المشركون، فكان يشكو إلى النبي ﷺ مكان ابنه وحاله وحاجته، فكان النبي يأمره بالصبر [ويقول له: إن الله سيجعل له مخرجاً]. فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيراً حتى [انفلت] بانه من [أيدي] المشركيني، [فمر بغنم] من أغنام العدو، [فاسْتاقها] [وجاء بها] إليه، فنزلت: ﴿وَمَن يَتَّقِ الله﴾ الآية.
قال ابن مسعود: [المخرج] أن يعلم أن الله هو الذي يعطيه ويمنعه.
- ثم قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ...﴾.
7536
أي: فهو كافيه.
قال مسروق: [القضاء] جار على من توكل وعلى من لم يتوكل.
قال بعض الصالحين: المتوكل تعجل البركة والأجر.
- ثم قال تعالى ﴿إِنَّ الله بَالِغُ﴾.
قال مسروق: الله بالغ أمره بكل حال، [توكل] عليه أو لم يتوكل (عليه)، أي: مُنْفِذٌ قضاءه بكل حال، غير أن المتوكل عليه يكفّرُ عنه سيآتِه ويعظم له أجراً.
قال ابن مسعود: إن أكثر آية تفويضاً في القرآن ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ﴾.
7537
- ثم قال تعالى: -ayah text-primary">﴿قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾.
قال مسروق: " أي: لكل شيء أجلاً ومنتهى ".
وقال السدي: هو قدر الحيض في الأجل والعدة.
وقيل: هو عام.
والمعنى: قد جعل الله [لكل شيء من الطلاق] والعدة وغير ذلك حداً وأجلاً وقدراً ينتهي إليه.
ولا اختلاف بين العلماء وأن المطلقة واحدةً أو اثنتين لها النفقة والسكنى وكذلك المطلقة الحامل.
وفي المطلقة ثلاثاً اختلاف، فأكثر العلماء على أن لا نفقة (لها) ولا سكنى. وقد روي ذلك [عن النبي ﷺ]. وقال الحسن وعكرمة والشعبي: لها متاع
7538
بالمعروف وسكنى. وهو قول جابر.
وقال الثوري وأصحاب الرأي: (لها النفقة) والسكنى. وهو قول مروي عن عمر وابن مسعود، وبه قال شريح. والقول الأول قول ابن عباس.
7539
وقال مالك والشافعي والأوزاعي وابن أبي ليلى وأبو عبيد: لها السكنى ولا نفقة (لها) وهو قول ابن المسيب وسليمان بن يسار والحسن وعطاء والشعبي وابن مهدي.
7540
- ثم قال تعالى: -ayah text-primary">﴿واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللائي لَمْ يَحِضْنَ...﴾.
أي: والنساء اللائي ارتفع طمثهن فلا يرجون أن يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر، (وكذلك عدة النساء اللائي لم يحضن أيضا. وقوله: ﴿إِنِ ارتبتم﴾ قيل: معناه: إن ارتبتم بالدم الذي [يظهر] منها في كبرها أمن الحيض هو أم من الاستحاضة؟ فعدتهن ثلاثة أشهر).
وقال مجاهد: معناه: إن لم تعلموا عدة التي قعدت عن الحيضة أو اللائي لم
7541
يحضن، فعدتهن ثلاثة أشهر.
وقال الزهري: " إن ارتبتم في كبرها أن يكون ذلك من الكبر، فإنها تعتد حين ترتاب ثلاثة أشهر.
فأما إذا ارتفعت حيضة المرأة وهي شابة، فإنها [يُتَأَنَّى] بها حتى يُنظر أهي [حامل] أم غير حامل؟ فإن استبان حملها فحتى تضع حملها، وإن لم يستبن حملها فحتى يستبرئها، وأقصى ذلك سنة، تسعة للاستبراء وثلاثة للعدة، وهو مذهب مالك.
وقال ابن زيد: إن ارتبتم أنها لا تحيض وقد ارتفعت حيضتها وارتاب الرجل وقالت المرأة: تركتني الحيضة، فعدتها ثلاثة أشهر إن ارتاب فخاف أن تكومن حيضتها قد انقطعت.
وقيل: المعنى: إن ارتبتم [بحكمهن] فلم تدروا ما الحكم في عدتهن، فإن عدتهن ثلاثة أشهر.
7542
وقال عكرمة: من [الريبة]: المرأة المستحاضة والتي لا تستقيم لها الحِيَضُ: تحيض في الشهر مرات، وفي الأشهر مرة، فعدتها ثلاثة أشهر، وهو قول قتادة.
وقيل: هذا متصل بأول السورة، والتقدير: لا تخرجوهن من بيوتهن إن ارتبتم في انقضاء العدة ولا يخرجن.
والاختيار (عند) الطبري أن يكون المعنى على قول من قال: إن ارتبتم فلم تدروا ما الحكم في عدتهن. قال: ولو كن الارتياب إنما هو في الدم، لا يُدرى دم حيض أم دم استحاضة؟. لكان اللفظ: إن ارتبتن. لأنهن إذا أشكل الدم عليهن فهن المُرتابات بدماء أنفسهن، [لا غيرهن]، فكون [الخطاب] للرجال دليل
7543
على أن المعنى: إن ارتبتم في الحكم في عدتهن. وايضاً فإن بعده ﴿(واللائي) لَمْ يَحِضْنَ﴾ ومحال أن [يُرتاب] في دم من لم تحض، وإنما [يرتاب] في حكمها في العدة.
قال الضحاك ﴿واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض﴾ من القواعد من النساء/ ﴿واللائي لَمْ يَحِضْنَ﴾ من الصغار، لم يبلغن وقد مُسِسْنَ فعدتهن ثلاثةُ أشهر. وهو قول قتادة.
- ثم قال تعالى: ﴿وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ...﴾.
أي: والنساء الحوامل إذا طُلقن، فانقضاء عدتهن أن يضعن حملهن. وهذا إجماع.
فأما المتوفى عنها زوجها (وهي حامل، فأكثر العلماء على أن وضع حمْلها انقضاء عدتها ولو كان بعد موْت زوجها).
وقد روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهـ - وابن عباس - رضي الله عنهـ - أن انقضاء
7544
عدتها آخر الأجلين.
- ثم قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ الله [يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً].﴾.
أي: ومن يتق الله فيتبع في طلاقه ما أمره الله به يجعل له من طلاقه ذلك يسراً. وهو أن يسهل عليه إن أراد الرجعة فيجعل الأمر بيده ويرتجعها متى شاء ما كانت في العدة، ويحل له التزويج بعد انقضاء العدة. ومن لا يتق الله - فيطلق ثلاثاً بخلاف ما أمره الله - لا يسهل عليه رجعة في عدة ولا في غيرها، ولا يسهل عليه تزويجها بعد العدة ما لم [تتزوج] غيره.
- قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ...﴾ إلى آخر السورة.
أي: ذلك الذي بينه لكم حكم الطلاق والرجعة والعدة أَمْرُ الله الذي
7545
أمركم به، أنزله لتأتمروا به وتعملوا به.
ثم قال: ﴿وَمَن يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً﴾.
أي: ومن (يخف الله) ويتقه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، يمح عنه ذنوبه ويعظم له أجراً يوم القيامة على عمله.
ثم قال تعالى: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم...﴾.
أي: أسكنوا مطلقات نسائكم من المواضع التي سكنتم من وجدكم، (أي): من سعتكم.
يقال: وجت في المال وُجْداً، ووجدت على الرجل وَجْداً ومَوْجِدَةً، وَوَجَدْتُ الضَّالَّةَ وَجْداناً.
7546
وروي أن الأعمش قرأ بفتح الواو. وهو غلط؛ لأن الوَجْد بالفتح إنما هو في الغضب.
وقرأ يعقوب الحضرمي بسر الواو لغاية فيه.
أمر الله الرجال أن يُسْكِنُوا المطلقات مما يجدون حتى يقضين عدتهن.
قال السدي: ﴿مِّن وُجْدِكُمْ﴾: من ملككم ومقدرتكم.
- ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ...﴾.
أي: لا تضاروهن في المسكن الذي [تسكنوهن] فيه وأنتم تجدون سعة من
7547
المنازل تطلبون التضييق عليهن.
- ثم قال: ﴿َإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ...﴾.
أي: أنفقوا على المطلقة الحامل حتى تضع الحمل، وإن أرضعت فحتى تفطم. وهو قوله: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ...﴾، فلها أجرة الرضاع إن أرضعت وهي أحق بما يأخذ غيرها، وإن أبت أن ترضع اسْتَرْضَعَتْ له أخرى.
- ثم قال تعالى: ﴿وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ...﴾.
قال السدي: معناه: " اصنعوا المعروف فيما بينكم ".
وقيل: المعنى: هموا بالمعروف واعزموا عليه.
وقد قيل: [وَاتَمُرِوا: تشاوروا، وليس بشيء].
- ثم قال: ﴿وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى﴾.
أي: إن امتنعت المرأة من الرضاع فلا سبيل له عليها، ولكن يستأجر للصبي مرضعاً غير أمه، قال السدي وغيره: وقال: إذا رضيت الأم من أجرة الرضاع بما
7548
يرضي به غيرها فهي أحق.
- ثم قال تعالى: ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله...﴾.
أي: لينفق الذي بانت منه امرأته إن كان ذا سعة من المال الذي بيده على امرأته لرضاعها ولده. ومن ضيق عليه في رزقه فلم يكن ذا سعة من المال فلينفق مما أعطاه الله على قدر ما يجد.
وقيل: معناه: إن كان له ما يبيعه من متاع البيت باعه فأنفقه.
- ثم قال تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا...﴾.
أي: لا يكلف الله أحداً من النفقة على من تلزمه نفقته إلا ما أعطاه، أن كان ذا سعة فمن سعته، وإن كان مقدوراً عليه (رزقه) فمما رزقه الله. لا يُكَلَّفُ الفقير مثل نفقة الغني.
قال ابن زيد: معناه: لا يكلفه أن يتصدق وليس عنده ما يتصدق به.
7549
- ثم قال تعالى: -ayah text-primary">﴿سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً﴾.
أي: سيجعل الله للمقل بعد شدة رخاء، وبعد فق غنى.
وقيل: [اليسر] الذي يجعله الله له إما في الدنيا وإما في الآخرة.
- ثم قال تعالى: ﴿وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ...﴾.
أي: وكثير من أهل القرى عتوا عن أمر ربهم وخالفوه وعصوا رسله.
- ﴿فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً...﴾.
أي: حاسبنا أهلها على النعم التي أسديت إليهم والشكر عليها حساباً شديداً، أي حساباً ليس فيه عفو/ عن شيء.
- ﴿وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً﴾.
7550
أي: منكراً، وهو عذاب جهنم.
وقال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير. والتقدير: فعذبناها عذاباً نكراً في الدنيا، وحاسبناها حساباً شديداً في الآخرة).
والعُتُوُّ في اللغة: التجاوز في المخالفة والطغيان.
- ثم قال تعالى: ﴿فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا...﴾.
أي: عقوبة عملها. الوبال: العاقبة. قال ابن عباس ومجاهد: " ﴿وَبَالَ أَمْرِهَا﴾ ": جزاء أمرها.
- ثم قال تعالى: ﴿وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً﴾.
أي: غبناً، لأنهم باعوا نعيم الآخرة بخسيس الدنيا وقليله.
7551
- ثم قال تعالى: -ayah text-primary">﴿أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً...﴾.
(أي): في الآخرة، يعني عذاب النار.
- ثم قال تعالى: ﴿فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمَنُواْ...﴾.
أي: اتقوا الله في أمره ونهيه يا أصحاب العقول الذي آمنوا.
- ثم قال تعالى: ﴿قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً...﴾ ﴿رَّسُولاً...﴾.
قال السدي: " الذكر: القرآن، والرسول محمد " فيكون (التقدير لى قوله: ذِكْراً ذَا رَسُول. فيكون نعتاً للذكر، قد حذف المضاف) وأقيم المضاف إليه مقامه مثل ﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢] (وقيل: الرسول نصب " بذكر " كأنه قال: " أن تذكروا رسولاً " فهو مفعول به).
وقيل: الرسول نصب إضمار " أعني ".
وقيل: الرسول ترجمة عن الذكر كأنه بدل منه، ولذلك نصب، فيكون - على
7552
هذا القول - الرسولُ بمعنى الرسالة. وقيل: رسولاً منصوب بإضمار فعل، كأنه قال: أرسلنا رسولاً.
- ثم قال تعالى: ﴿يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ الله مُبَيِّنَاتٍ...﴾.
أي: يتلو الرسول عليكم آيات الله واضحات، كي يخرج الذين آمنوا بالآيات من الظلمات إلى النور، أي: من الكفر إلى الإيمان.
- ثم قال تعالى: ﴿وَمَن يُؤْمِن بالله...﴾.
أي: يصدق به.
- ﴿وَيَعْمَلْ صَالِحاً...﴾.
أي: يعمل بطاعة الله.
- ﴿يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار...﴾.
أي: من تحت أشجارها.
- ﴿خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً...﴾.
أي: (لا يخرجون منها أبداً) ولا يموتون.
7553
- ثم قال تعالى: -ayah text-primary">﴿قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً﴾.
أي: قد وسع الله له في الجنات رزقاً.
- ثم قال تعالى: ﴿الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سماوات وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ...﴾.
أي: الله (الذي) خلق ذلك، لا (ما) يعبده المشركون من الأوثان والأصنام التي لا تقدر على شيء، وخَلَقَ من الأرض مثلهن (أي): سبعاً.
وعن ابن عباس أنه قال: في كل أرض من الأرضين السبع نحو ما على هذه الأرض من الخلق. ولذلك قال: ﴿وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ﴾ لأن في كل سماء خلقاً لله.
وعن ابن مسعود أنه [قال]: خلق سبع سماوات، غِلَظُ كل واحدة مسيرة خمسمائة عام، وبين كل واحدة منهم والأخرى مسيرة خمسمائة عام، وفوق
7554
السماوات السبع [الماءُ]، والله - جل ذكره - فوق الماء لا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم، والأرضُ سَبْعٌ، بين كل أَرْضَيْنِ مسيرة خمسمائة عام. وغِلَظُ كل أرض خمسمائة عام.
[وقال] مجاهد: هذه الأرض إلى تلك الأرض مثل الفسطاط ضربته بأرض فلاة. وهذه السماء إلى تلك السماء مثل حلقة رميت (بها) في أرض فلاة.
وقال الربيع بن أنس: " السماء أولها موج مكفوف، والثانية صخرة، والثالثة
7555
حديد، والرابعة نحاس، والخامسة فضة، والسادسة ذهب، والسابعة ياقوتة ".
وقال مجاهد: (هذا) البيت الكعبة رابع أربعة عشر بيتاً، في كل سماء بيت، كل بيت منها [حَذْرَ] صاحبه، لَوْ وَقَعَ وَقَعَ عَلَيْهِ.
وإن هذا الحَرَمَ حَرَمٌ مثله في السماوات السبع والأرضين السبع. قال أبو عثمان [النهدي]: كنت عند عمر جالسا إذ جاء رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي ابنا إذا سجد قال: سبحان ربي الأعلى الأعلى الأعلى، فيكثر من ذلك، فلا أدري أَيَّ شَيْءٍ يريد به. قال: جئني (به)، فجاء الفتى، فقال عمر: ماذا يقول أبوك؟
7556
قال: وما يقول؟ مقال: يقول إنك إذا سجدت أكثرت من سبحان ربي الأعلى الأعلى الأعلى، قال: يا أمير المؤمنين، شيء جراه الله على لساني. قال: وكعب جالس إلى جنبه، فقال كعب: صدق، يا أمير المؤمنين. قال عمر: وكيف ذاك؟ قال كعب: إذاً أخبرك، فإن الله خلق الأرضين سبعاً، (وجعل غلظ كل أرض خمسمائة عام، وما بين كل أرض إلى أرض خمسمائة عام، وجعل السماوات سبعاً)، وجعل غلظ كل سماء خمسمائة عام، وما بين كل سماء إلى سماء مثل ذلك، والله تعالى ملائكة يحملون العرش قياماً في ماء، غِلَظُ ذلك الماء غلظ السماوات السبع والأرضين السبع، لا يبلغ ذلك الماء أعناقهم، فهو جل وعز الأعلى الأعلى الأعلى.
قال (قتادة): خلق الله سبع سماوات وسبع أرضين، في كل سماء من سمائه وأرض من أرضه خلق من خلقه، وأمر من أمره، وقضاء من قضائه جل ثناؤه.
7557
وذكر قتادة قال: التقى أربعة أملاك من الملائكة بين السماء والأرض، فقال بعضهم لبعض: من أين [جئت]؟ فقال أحدهم: أرسلني ربي من المشرق وتركته، (ثم) قال الآخر: أرسلني ربي من الأرض السابعة وتركته، (ثم) قال الآخر: أرسلني ربي من المغرب وتركته.
- ثم قال تعالى: ﴿يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ.
..﴾
.
أي: يتنزل الوحي بين السماء السابعة والأرض السابعة. قاله مجاهد.
- ثم قال تعالى: ﴿لتعلموا أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ...﴾.
أي: يتنزل قضاء/ الله وأمره بين ذلك كي تعلما أيها الناس كُنْهَ قدرته وسلطانه، وأنه قادر على كل شيء، لا يتعذر عليه شيء أراده، ولا يمتنع عليه شيء شاءه.
- ثم قال تعالى: ﴿وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً﴾.
أي: ولتعلموا أن الله بكل شيء (مِنْ) خلقه محيط علماً، لا يعزب عنه
7558
مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، فخافوه وأطيعوه تنجوا من عقوبته وتدخلُو جنته. وأعاد الاسم بالإظهار وقد تقدم إظهاره للتفخيم والتعظيم. و ﴿عِلْماً﴾ نصب [على التمييز]. أو (على) المصدر، كأنه قال: علم كل شيء علماً.
7559
Icon