مدنية، وهي إحدى عشرة آية ومائتان وتسع وأربعون كلمة وألف وستون حرفا.
ﰡ
قال ابن الخطيب: وجه تعلق هذه السورة بآخر ما قبلها، هو أنه تعالى أشار في آخر التي قبلها إلى كمال علمه بقوله: ﴿عَالِمُ الغيب والشهادة﴾ [التغابن: ١٨]، وفي أول هذه السورة أشار إلى كمال علمه بمصالح النِّساء، والأحكام المخصوصة بطلاقهن، فكأنه بيّن ذلك الكلي بهذه الجزئيات.
فصل في هذا الخطاب.
وهذا الخطاب فيه أوجه:
أحدهما: أنه خطاب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خوطب بلفظ الجمع تعظيماً له؛ كقوله: [الطويل]
٤٧٨٠ - فَإنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّساءَ سِوَاكُمُ | وإنْ شِئْتُ لَمْ أطْعَمْ نُقَاخاً ولا بَرْداً |
٤٧٨١ -................................ إذَا أنْجَلَتْهُ رِجْلُهَا...................
كقوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١]، أي: والبرد.
الثالث: أنه خطاب لأمته فقط بعد ندائه - عليه الصَّلاة والسلام - وهو من تلوين الخطاب، خاطب أمته بعد أن خاطبه.
الرابع: أنه على إضمار قول، أي: يا أيها النبي قل لأمتك إذا طلقتم النساء.
قال القرطبي: قيل: إنه خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد أمته، وغاير بين اللفظين من حاضر وغائب، وذلك لغة فصيحة، كقوله: ﴿إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ [يونس: ٢٢]، والتقدير: يا أيها النبي قل لهم: إذا طلقتم النساء، فطلقوهن لعدتهن، وهذا هو قولهم: إن الخطاب له وحده، والمعنى له وللمؤمنين، وإذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لاطفه بقوله: ﴿يا أيها النبي﴾، وإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعاً له قال: ﴿يا أيها الرسول﴾.
قال القرطبي: ويدلّ على صحة هذا القول نزول العدة في أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية.
روى أبو داود: أنها طُلِّقت على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يكن للمطلَّقة عدّة، فأنزل الله - تعالى - العِدّة للطلاق حين طُلقت أسماء، فكانت أولَّ من أُنزل فيها العدة للطلاق.
الخامس: قال الزمخشري: «خصّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالنداء وعمّ بالخطاب؛ لأن النبي إمام أمته وقدوتهم كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت اعتباراً لتقدمه وإظهاراً لترؤسه» في كلامٍ حسنٍ.
وهذا هو معنى القول الثالث المتقدم.
قال القرطبي: وقيل: المراد به نداء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تعظيماً له، ثم ابتدأ: ﴿إذا طلّقتم النساء﴾، كقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام﴾ [المائدة: ٩٠] الآية فذكر المؤمنين تكريماً لهم، ثم افتتح فقال: ﴿إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام﴾ [المائدة: ٩٠] الآية.
وقوله: ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ﴾ أي: إذا أردتم، كقوله: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة﴾ [المائدة: ٦] ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن﴾ [النحل: ٩٨]. وتقدم تحقيقه.
فصل في طلاق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
روى ابن ماجة عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ طلّق حفصة ثم راجعها.
وعن أنس قال: طلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - فأتَتْ أهلها، فأنزل الله تعالى عليه: ﴿يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾، وقيل له: راجعها فإنها صوَّامة قوَّامة، وهي من أزواجك في الجنة. ذكره القشيري والماوردي والثعلبي.
زاد القُشيريّ: ونزل في خروجها إلى أهلها قوله تعالى: ﴿لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ﴾.
وقال الكلبي: سبب نزول هذه الآية غضبُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على حفصة لما أسر إليها حديثاً فأظهرته لعائشة، فطلقها تطليقة، فنزلت الآية.
وقال السُّديُّ: نزلت في عبد الله بن عمر، طلق امرأته حائضاً تطليقة واحدة، فأمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، فإن أراد أن يطلقها فليطلِّقها حين تطهر من قبل أن يجامعها فتلك العدَّة التي أمر اللَّه أن تطلق لها النساء.
وقد قيل: إن رجالاً فعلوا مثل ما فعل عبد الله بن عمر، منهم عبد الله بن عمرو بن العاص، وعمرو بن سعيد بن العاص، وعتبة بن غزوان، فنزلت الآية فيهم.
قال ابن العربي: وهذا كله وإن لم يكن صحيحاً فالقول الأول أمثل وأصح، والأصح فيه أنه بيان لشرع مبتدأ.
فصل في الطلاق
روى الثعلبي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ مِنْ أبْغَضِ الحَلالِ إلى اللَّهِ الطَّلاقُ».
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا تُطلِّقُوا النِّساءَ إلاَّ من ريبَةٍ فإنَّ اللَّه - عزَّ وجلَّ - لا يُحِبُّ الذَّوَّاقِينَ ولا الذواقات».
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا حَلَفَ بالطَّلاقِ ولا اسْتَحْلَفَ بِهِ إلاَّ مُنَافِقٌ» أسنده الثعلبي.
وروى الدارقطني عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يَا مُعَاذُ مَا يَخْلُقُ اللَّهُ تَعالَى شَيْئاً عَلَى وَجْهِ الأرْضِ أحَبُّ إليْهِ مِنَ العِتَاقِ، ولا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئاً أبْغَضَ إِليْهِ من الطَّلاقِ، فإذَا قَالَ الرَّجُلُ لمَمْلُوكَهِ: أنتَ حُرٌّ - إن شَاءَ اللَّهُ - فَهُو حُرٌّ ولا اسْتِثْنَاءَ لَهُ، وإذَا قَالَ الرَّجلُ لامْرأتِهِ: أنت طَالِقٌ إن شَاءَ الله فَلهُ اسْتِثْنَاؤهُ، ولا طَلاقَ عَلَيْهِ».
وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا أحَلَّ اللَّهُ شَيْئاً أبْغَضَ إلَيْهِ مِنَ الطَّلاقِ، فَمَن طلَّقَ واسْتَثْنَى فَله ثنياه».
قال ابن المنذر: واختلفوا في الاستثناء في الطلاق والعتق: فقالت طائفة بجوازه، وهو مروي عن طاووس.
قال حماد الكوفي: والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي.
وقال مالك والأوزاعي: لا يجوز الاستثناء في الطلاق خاصة.
قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول.
فصل في وجوه الطلاق
روى الدارقطني عن ابن عباس أنه قال: الطلاق على أربعة وجوه وجهان حلالان، ووجهان حرامان.
فأما الحلال، فأن يطلقها [طاهراً] من غير جماع، وأن يطلّقها حاملاً متبيناً حملها، وأما الحرام فأن يطلقها حائضاً، وأن يطلقها حين يجامعها لا يدري أشْتَمَلَ الرَّحمُ على ولدٍ أمْ لاَ.
واعلم أن الطلاق في حال الحيض والنفاس بدعة، وكذلك في الطُّهر الذي جامعها فيه لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وإن شَاءَ طلَّق قَبْلَ أن يمضي».
وطلاق السُّنة: أن يُطلِّقها في طُهْرٍ لم يجامعها فيه، وهذا في حقِّ المرأة يلزمها العدة بالأقراء.
وأما طلاق غير المدخول بها في حيضها، أو الصغيرة التي لم تحض، والآيسة بعدما جامعها، أو طلق الحامل بعد ما جامعها، أو في حال رؤية الدم لا يكون بدعيًّا ولا سنيًّا لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «ثُمَّ ليُطلِّقْهَا طَاهِراً أو حَاملاً».
والخُلْع في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه فلا يكون بدعياً، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أذن لثابت بن قيس في مخالعة زوجته من غير أن يعرف حالها، ولولا جوازه في جميع الأحوال لاستفسره.
قوله: ﴿لِعِدَّتِهِنَّ﴾.
قال الزمخشري: «مستقبلات لعدتهن»، كقولك: أتيته لليلة بقيت من المحرم أي: مستقبلاً لها، وفي قراءة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿من قبل عدتهن﴾ انتهى.
وناقشه أبو حيان في تقدير الحال التي تعلق بها الجار كوناً خاصًّا.
وقال: «الجار إذا وقع حالاً إنما يتعلق بكون مطلق».
وفي مناقشته نظر، لأن الزمخشري لم يجعل الجار حالاً، بل جعله متعلقاً بمحذوف دلّ عليه معنى الكلام.
وقال أبو البقاء: «لعدَّتهنَّ» أي: عندما يعتد لهن به، وهن في قبل الطهر. وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب.
فعلى هذا تتعلق اللام ب «طلقوهن».
وقال الجرجاني: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ صفة للطَّلاق.
كيف يكون، وهذه اللام تجيء لمعان مختلفة؟
للإضافة، وهي أصلها، أو لبيان السبب والعلة، كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله﴾ [الإنسان: ٩].
أو بمعنى «عند» كقوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس﴾ [الإسراء: ٧٨] أي: عنده.
وبمنزلة «في» كقوله تعالى: ﴿أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر﴾ [الحشر: ٢]، أي: في أول الحشر.
وهي في هذه الآية بهذا المعنى، لأن المعنى: فطلقوهن في عدتهن، أي: في الزمان الذي يصلح لعدتهن.
فصل في قوله: لعدتهن
قال القرطبي: قوله: «لعدَّتِهِنَّ» يقتضي أنهن اللاتي دخل بهن الأزواج، لأن غير المدخول بهن خرجن بقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: ٤٩] وحصل الإجماع على أن الطلاق في الحيض ممنوع منه، وفي الطهر مأذون فيه، وهذا يدل على أن القرء هو الطهر.
فإن قيل: معنى قوله: «فطَلِّقُوهُنَّ لعِدَّتِهِنَّ» أي: في قُبُل عدتهن، أو لقبل عدتهن وهي قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما قال ابن عمر، فقبول العدة آخر الطهر حتى يكون القرء الحَيْض؟.
قيل: هذا هو الدليل الواضح لمن قال: بأن الأقْراءَ هي الأطْهَار، ولو كان كما قال الحنفي، ومن تابعه لوجب أن يقال: إن من طلق في أول الطهر لا يكون مطلقاً لقبل الحيض لأن الحيض لم يُقْبِل بعد، وأيضاً إقبال الحيض يكون بدخول الحيض، وبانقضاء الطهر لا يتحقق إقبال الحيض، ولو كان إقبال الشيء إدبار ضده لكان الصائم مفطراً قبل
وقال البغوي: معنى قوله «لِعدَّتهِنَّ» أي: لطهرهن الذي يحضنه من عدتهن، وكان ابن عبَّاس وابن عمر يقرآن: ﴿فطلقوهن في قبل عدتهن﴾، والآية نزلت في عبد الله بن عمر.
فصل في الطلاق في الحيض
من طلق في طهر جامع فيه أو حائضاً نفذ طلاقه، وأخطأ السُّنة.
وقال سعيد بن المسيب في آخرين: لا يقع الطلاق في الحيض لأنه خلاف السنة، وإليه ذهبت الشيعة.
فصل في طلاق السنة
قال عبد الله بن مسعود: طلاق السنة أن يطلقها في كل طُهْر تطليقة، فإذا كان آخر ذلك، فتلك العدّة التي أمر الله بها.
قال القرطبي: قال علماؤنا: طلاق السُّنة ما جمع شروطاً سبعة: وهو أن يطلقها واحدة، وهي ممن تحيض طاهراً، لم يمسّها في ذلك الطُّهر، ولا تقدمه طلاق في حيض ولا تبعه طلاق في طهر يتلوه، وخلا عن العوض، وهذه الشروط السبعة من حديث ابن عمرو. وقال الشافعي: طلاق السُّنة: أن يطلقها في كل طُهْرٍ خاصة، ولو طلقها ثلاثاً في طُهْر لم يكن بدعة.
قال ابن العربي: «وهذه غفلة عن الحديث الصحيح، فإنه قال فيه:» مُرةُ فَليُرَاجِعْهَا «وهذا يدفع الثلاث».
وفي الحديث أنه قال: «» أرَأيْتَ لَوْ طَلقَّهَا ثلاثاً «؟ قَال:» حَرُمَتْ عليْكَ، وكَانَتْ مِنكَ بِمَعْصيَةٍ «».
وقال أبو حنيفة: ظاهر الآية يدل على أن الطلاق الثلاث والواحد سواء.
وهو
قال القرطبي: وأما مالك فلم يخف عليه إطلاق الآية، ولكن الحديث فسرها، وأما قول الشعبي فمردود بحديث ابن عمر.
واحتج الشافعي بأن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته تماضر بنت الأصبغ الكلبية وهي أم أبي سلمة ثلاث تطليقات في كلمة واحدة، ولم يبلغنا أن أحداً من الصحابة عاب ذلك عليه.
وأن حفص بن المغيرة طلق امرأته فاطمة بنت قيس على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثلاث تطليقات في كلمة واحدة، فأبانها منه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولم يبلغنا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عاب ذلك عليه.
وبحديث عويمر العجلاني، لما لاعن، قال: يا رسول الله، هي طالق ثلاثة، فلم ينكر عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فصل في نزول العدة للطلاق
روى أبو داود عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية، أنها طلقت على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يكُن للمطلقة عدة فأنزل الله - تعالى - حين طلقت أسماء العدّة للطلاق، فكانت أول من أنزل فيها العدة للطلاق.
قوله: ﴿وَأَحْصُواْ العدة﴾.
يعني في المدخول بها، أي: احفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق.
قيل: أمر بإحصاء العدة لتفريق الطلاق على الأقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثاً، وقيل: للعلم ببقاء زمان الرجعة ومراعة أمر النفقة والسكن.
وفي المخاطب الإحصاء أقوال.
أحدها: أنهم الأزواج.
والثاني: هم الزوجات.
والثالث: هم المسلمون.
قال ابن العربي: والصحيح أنهم الأزواج؛ لأن الضمائر كلها من «طَلَّقتُمْ»، و «أحْصُوا العِدَّة» و «لا تُخْرجُوهُنَّ» على نظام واحد، فرجع إلى الأزواج، ولكن
قوله: ﴿واتقوا الله رَبَّكُمْ﴾. أي: لا تعصوه.
﴿لا تخرجوهنَّ من بيوتهنَّ﴾. أي: ليس للزَّوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدّة، ولا يجوز لها الخروج أيضاً لحق الزوج إلا لضرورة ظاهرة، فإن خرجت أثِمَتْ، ولا تنقطع العدّة.
فإن قيل: ما الحِكمةُ في قوله تعالى: ﴿واتقوا الله رَبَّكُمْ﴾ ولم يقتصر على قوله ﴿واتقوا الله﴾ ؟.
فالجواب: إن في هذا من المبالغة ما ليس في ذاك، فإن لفظ الرَّبِّ يفهم منه التربية، وينبه على كثرة الإنعام بوجوه كثيرة، فيبالغون في التَّقوى حينئذ خوفاً من فوت تلك التربية.
فصل في الرجعية والمبتوتة.
والرجعية والمبتوتة في هذا سواء، وذلك لصيانة ماء الرجل، وهذا معنى إضافة البيوت إليهن، كقوله تعالى: ﴿واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب: ٢٤]، وقوله تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب: ٣٣] فهو إضافة إسكان لا إضافة تمليك، وقوله ﴿لاَ تُخْرِجُوهُنَّ﴾ يقتضي أن يكون حقًّا على الأزواج، وقوله: ﴿ولا يخرجن﴾ يقتضي أنه حق على الزوجات، فلا يجوز لها أن تخرج ما لم تنقض عدتها، فإن خرجت لغير ضرورة أو حاجة أثمت، فإن وقعت ضرورة أو خافت هدماً أو غرقاً، فلها أن تخرج إلى منزل آخر، وكذلك إن كانت لها حاجة من بيع غَزْل أو شراء قطن، فيجوز لها الخروج نهاراً ولا يجوز ليلاً؛ فإن رجالاً استشهدوا ب «أحد»، فقالت نساؤهم: نستوحش في بيوتنا فإذِنَ لهن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يتحدثن عند إحداهن، فإذا كان وقت الليل تأوي كل امرأة إلى بيتها.
وأذن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لخالة جابر لما طلقها زوجها أن تخرج لجداد نخلها.
وإذا لزمتها العدة في السفر تعتد ذاهبة وجائية، والبدوية تَنْتَوي حيث يَنْتَوي أهلها في العدة، لأن الانتقال في حقهم كالإقامة في حق المقيم.
فبين أن الآية في تحريم الإخراج، والخروج إنما هو في الرجعية.
فاستدلّت فاطمة أن الآية إنما تضمنت النهي عن خروج المطلقة الرجعية لأنها بصدد أن يحدث لمطلقها رأي في ارتجاعها ما دامت في عدتها فكانت تحت تصرف الزوج في كل وقت.
وأما البائن فليس له شيء في ذلك، فيجوز أن تخرج إذا دعتها لذلك حاجة.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ﴾.
قال ابن عباس، وابن عمر، والحسن، والشعبي، ومجاهد: هو الزِّنا، فتخرج ويقام عليها الحد.
وعن ابن عباس أيضاً: أنه البذاء على أحمائها، فيحل لهم إخراجها.
وعن سعيد بن المسيب أنه قال في فاطمة: تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها فأمرها النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن تنتقل.
قال عكرمة: في مصحف أبيٍّ ﴿إلا أن يفحشن عليْكم﴾.
ويقوي هذا أن محمد بن إبراهيم بن الحارث روي أن عائشة قالت لفاطمة بنت قيس: اتَّقي الله، فإنك تعلمين لم أخرجت.
وعن ابن عبَّاس أيضاً: أن الفاحشة كل معصية كالزِّنا والسرقة والبذاء على الأهل، وهو اختيار الطبري.
وعن ابن عباس أيضاً والسدي: «الفاحشة خروجها من بيتها في العدة».
وتقدير الآية: إلا أن يأتين بفاحشة لخروجهن من بيوتهن بغير حق، أي: لو خرجت كانت عاصية.
وقال قتادة: «الفاحشة» النشوز، وذلك أن يطلقها على النُّشوز، فتتحول عن بيته.
وقال ابن العربي: أما من قال: إنه الخروج للزنا، فلا وجه له؛ لأن ذلك الخروج هو خروج القَتْل والإعدام، وليس ذلك بمستثنى في حلال ولا حرام، وأما من قال: إنه البذاء، فهو معتبر في حديث فاطمة بنت قيس، وأما من قال: إنه كل معصية فوهم، لأن الغيبة ونحوها من المعاصي لا تبيح الإخراج ولا الخروج، وأما من قال: إنه الخروج بغير حقًّ فهو صحيح، وتقدير الكلام: لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن شرعاً إلا أن يخرجن تعدِّياً.
قوله: ﴿مُّبَيِّنَةٍ﴾.
قرىء: بكسر الياء.
ومعناه: أن الفاحشة إذا تفكَّرت فيها تبين أنها فاحشة.
وقرىء: بفتح الياء المشددة.
والمعنى: أنها مبرهنة بالبراهين، ومبينة بالحُجَجِ.
قوله: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ الله﴾.
قوله: ﴿لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً﴾.
الأمر الذي يحدث الله أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليها فيراجعها.
وقال جميع المفسرين: أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة، ومعنى الكلام: التحريض على طلاق الواحدة والنهي عن الثلاث، فإنه إذا طلق ثلاثاً أضر بنفسه عند الندم على الفراق والرغبة في الارتجاع فلا يجد للرجعة سبيلاً.
وقال مقاتل: «بعد ذلك» أي بعد طلقة أو طلقتين «أمراً» أي: المراجعة من غير خلاف.
قوله: ﴿لَعَلَّ الله﴾.
هذه الجملة مستأنفة، لا تعلُّق لها بما قبلها، لأن النحاة لم يعدوها في المعلقات.
وقد جعلها أبو حيَّان مما ينبغي أن يعد فيهن، وقرر ذلك في قوله: ﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ﴾ [الأنبياء: ١١١].
فهناك يطلب تحريره.
قرأ العامة: «أجَلَهُنَّ» ؛ لأن الأجل من حيثُ هو واحد، وإن اختلفت أنواعه بالنسبة إلى المعتدات.
والضحاك وابن سيرين: «آجَالهُنّ» جمع تكسير.
فصل في معنى الآية
معنى قوله: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي: قاربن انقضاء العدة، كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾ [البقرة: ١٣١] أي: قربن من انقضاء الأجل ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ يعني المراجعة بالمعروف أي: بالرغبة من غير قصد المضارة في المراجعة تطويلاً لعدتها كما تقدم في البقرة ﴿أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ أي: اتركوهن حتَّى تنقضي عدّتهن، فيملكن أنفسهن.
وفي قوله: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ ما يوجب أن يكون القول قول المرأة في انقضاء عدتها إذا ادعت ذلك على ما تقدم في «البقرة» عند قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢٨] الآية.
فصل
قال بعض العلماء في قوله تعالى: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: ٢٣١] وقوله: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩] أن الزوج له حق في بدنه وذمته، فكل من له دَيْن في ذمة غيره سواء كان مالاً، أو منفعة من ثمنٍ، أو مثمن، أو أجرة، أو منفعة، أو صداق، أو نفقة، أو بدل متلف، أو ضمان مغصوب، فعليه أن يؤدي ذلك الحق الواجب بإحسان، وعلى صاحب الحق أن يتبع بإحسان كما قال تعالى في آية القصاص: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: ١٧٨].
وكذلك الحق الثابت في بدنه مثل حق الاستمتاع والإجارة على عينه ونحو ذلك، فالطالب يطلب بمعروف والمطلوب يؤدى بإحسان.
قوله: ﴿وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾.
أمر بالإشهاد على الطلاق، وقيل على الرجعة.
قال القرطبي: «والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق، فإن راجع من غير إشهاد ففي صحة الرجعة قولان.
وقيل: المعنى وأشهدوا عند الرجعة والفرقه جميعاً وهذا الإشهاد مندُوب إليه عند أبي حنيفة، كقوله تعالى: ﴿وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٨٢]، وعند الشَّافعي واجبٌ في الرَّجعة مندوب إليه في الفرقة، وفائدة الإشهاد ألا يقع بينهما التجاحد، وألاَّ
فصل في الإشهاد على الرجعية
الإشهاد على الرجعية ندب عند الجمهور، وإذا جامع أو قبل أو باشر يريد بذلك الرَّجعة، فليس بمراجع.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا قبل أو باشر أو لمس بشهوة، فهو رجعة وكذلك النظر إلى الفَرْج رجعة.
وقال الشافعي وأبو ثور: إذا تكلم بالرجعة، فهي رجعة.
وقيل: وطؤه مراجعة على كُلِّ حال، نواها أو لم ينوها، وهو مذهب أحمد وإليه ذهب الليث وبعض المالكية.
قال القرطبي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: وكان مالك يقول: إذا وطىء ولم ينو الرجعة، فهو وَطْء فاسد، ولا يعود إلى وطئها حتى يستبرئها من مائهِ الفاسد، وله الرجعة في بقية العدة الأولى، وليست له رجعة في هذا الاستبراء.
فصل فيمن أوجب الإشهاد في الرجعة
أوجب الإشهاد في الرجعة الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، والشافعي كذلك لظاهر الأمر.
وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد والشافعي في القول الآخر: إنَّ الرجعة لا تفتقر إلى القبول فلم تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق، وخصوصاً حل الظهار بالكفارة.
فصل
إذا ادّعى بعد انقضاء العدة أنه راجع امرأته في العدة، فإن صدقته جاز، وإن أنكرت حلفت، فإن أقام بينةً أنه ارتجعها في العدة، ولم تعلم بذلك لم يضرّه جهلها، وكانت زوجته وإن كانت قد تزوجت ولم يدخل بها، ثم أقام الأول البيّنة على رجعتها، فعن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك روايتان:
إحداهما: أن الأول أحق بها.
والأخرى: أن الثاني أحق بها، فإن كان الثاني قد دخل بها فلا سبيل للأول إليها.
قوله: ﴿ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾.
قال الحسنُ: من المسلمين.
قال القرطبي: «ولذلك قال علماؤنا: ولا مدخل للنساء فيما عدا الأموال».
قوله: ﴿وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ﴾ كما تقدم في «البقرة».
أي: تقرباً إلى الله في إقامة الشهادة على وجهها إذا مست الحاجة إليها من غير تبديل ولا تغيير.
قوله: ﴿ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ﴾ أي: يرضى به ﴿مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر﴾ فأما غير المؤمن فلا ينتفع بهذه المواعظ.
قوله: ﴿وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً﴾.
قال الزمخشري: «قوله: ﴿وَمَن يَتَّقِ الله﴾ جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من أمر الطلاق على السُّنَّة» كما مر.
روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سئل عمن طلق زوجته ثلاثاً أو ألفاً هل له من مخرج؟ [فتلاها].
وقال ابن عباس والشعبي والضحاك: هذا في الطلاق خاصة، أي: من طلق كما أمره الله يكن له مخرج في الرجعة في العدة، وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة.
وعن ابن عبَّاس أيضاً: يجعل له محرجاً ينجِّيه من كل كربٍ في الرجعة في الدنيا والآخرة.
وقيل: المخرج هو أن يقنعه الله بما رزقه. قاله علي بن صالح.
وقال الحسن: مخرجاً مما نهى الله عنه.
وقال أبو العالية: مخرجاً من كل شدة.
وقال الربيع بن خيثم: مخرجاً من كل شيء ضاق على الناس.
وقال الحسين بن الفضل: ﴿وَمَن يَتَّقِ الله﴾ في أداء الفرائض ﴿يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً﴾ من العقوبة ﴿وَيَرْزُقْهُ﴾ الثواب ﴿مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾ أن يبارك له فيما آتاه.
وقال سهل بن عبد الله: ﴿وَمَن يَتَّقِ الله﴾ في اتباع السُّنَّة ﴿يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً﴾ من عقوبة أهل البدع ﴿مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾.
وقال أبو سعيد الخدري: ومن تبرأ من حوله وقوَّتهِ بالرجوع إلى اللَّه ﴿يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً﴾ مما كلفه الله بالمعونة.
وقال ابن مسعود ومسروق: الآية على العموم.
وقال أبو ذر: «قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إنِّي لأعلمُ آيَةً لوْ أخَذَ النَّاسُ بِهَا لَكَفَتهُمْ «وتلا: ﴿وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾ [فما زال يكررها ويعيدها».
وقال ابن عباس: «قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويزرقه من حيث لا يحتسب﴾ ] قال:» مخرجاً من شُبهات الدنيا، ومن غمرات الموتِ، ومن شدائد يوم القيامة «».
وقال أكثر المفسرين: «نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، أسر المشركون ابناً له يسمى سالماً، فأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يشتكي إليه الفاقة، وقال: إن العدوّ أسر ابني وجزعت الأم، فما تأمرني؟ قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» اتِّق اللَّهَ واصْبِرْ، وآمُرُكَ وإيَّاهَا أن تَسْتَكْثِرَا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم «، فعاد إلى بيته، وقال
وروي أنه جاء وقد أصاب إبلاً من العدو، وكان فقيراً. فقال الكلبي: إنه أصاب خمسين بعيراً.
وفي رواية: فانفلت ابنه من الأسر وركب ناقة للقوم ومر في طريقه بسرح لهم فاستاقه.
وقال مقاتل: «أصاب غنماً ومتاعاً، فقال أبوه للنبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أيحل لي أن آكل مما أتى به ابني؟ قال: نعم»، ونزلت: ﴿وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾.
وروى الحسن عن عمران بن الحصين قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَن انقَطَعَ إلى اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ كُلَّ مَؤونةٍ ورَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، ومن انقطع إلى الدُّنيا وكلها اللَّهُ إليهِ».
وقال الزجاج: أي: إذا اتقى وآثر الحلال والصبر على أهله فتح الله عليه إن كان ذا ضيق ورزقه من حيث لا يحتسب.
وعن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مَنْ أكْثَرَ الاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ من كُلِّ هَمٍّ فَرجاً، ومِن كُلِّ ضيقٍ مَخْرَجاً، ورَزقَهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ».
أن من فوّض إليه أمره كفاهُ ما أهمَّه.
وقيل: من اتقى الله وجانب المعاصي وتوكل عليه فله فيما يعطيه في الآخرة من ثوابه كفاية، ولم يرد الدنيا؛ لأن المتوكل قد يصاب في الدنيا وقد يقتل.
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لَوْ أنَّكُمْ تَتوكَّلُونَ على اللَّهِ حقَّ تَوكُّلِهِ لرزقَكُم كَمَا يَرزقُ الطَّيْر تَغْدُو خِمَاصاً وتَرُوحُ بِطَاناً».
قوله: ﴿إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ﴾.
قرأ حفص: «بَالِغُ» من غير تنوين «أمْرِهِ» مضاف إليه على التخفيف.
والباقون: بالتنوين والنصب، وهو الأصل، خلافاً لأبي حيان.
وقرأ ابن أبي عبلة وداود بن أبي هند، وأبو عمرو في رواية: «بَالِغٌ أمْرُهُ» بتنوين «بالغ» ورفع «أمره».
وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون «بالغ» خبراً مقدماً، و «أمره» مبتدأ مؤخر، والجملة خبر «إن».
والثاني: أن يكون «بالغ» خبر «إن» و «أمره» فاعل به.
قال الفراء: أي: أمره بالغ.
وقيل: «أمره» مرتفع ب «بالغ» والمفعول محذوف، والتقدير: بالغ أمره ما أراد.
أظهرهما: وهو تخريج الزمخشري: أن يكون «بالغاً» نصباً على الحال، و ﴿قَدْ جَعَلَ الله﴾ هو خبر «إن» تقديره: إن الله قد جعل لكل شيء قدراً بالغاً أمره.
والثاني: أن يكون على لغة من ينصب الاسم والخبر بها، كقوله: [الطويل]
٤٧٨٢ -........................................... إنَّ حُرَّاسنَا أسْدَا
ويكون «قَدْ جَعَلَ» مستأنفاً كما في القراءة الشهيرة.
ومن رفع «أمره» فمفعول «بالغ» محذوف، تقديره: ما شاء، كما تقدم في القرطبي.
فصل في معنى الآية
قال مسروق: يعني قاضٍ أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه إلا أن من توكل عليه يكفر عنه سيئاته، ويعظم له أجراً.
قوله: ﴿قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾.
قيل: إن من قوله تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ إلى قوله: ﴿مَخْرَجاً﴾ آية، ومنه إلى قوله تعالى: ﴿قَدْراً﴾ آية أخرى، وعند الكوفي والمدني المجموع آية واحدة.
وقرأ جناح بن حبيش: «قَدراً» بفتح الدال.
والمعنى: لكل شيء من الشدة والرخاء أجلاً ينتهي إليه.
وقيل: تقديراً.
وقال السدي: هو قدر الحيض في الأجل والعدة.
وقال عبد الله بن رافع: لما نزل قوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ فقال أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فَنَحْنُ إذَا توكلنَا عليْهِ يُرسِلُ مَا كَانَ لَنَا وَلاَ نَحْفَظُهُ»، فنزلت: ﴿إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ﴾ فيكم وعليكم.
وقال الربيع بن خيثم: إنَّ الله قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه، ومن آمن به
وتصديق ذلك في كتاب الله: ﴿وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن: ١١]، ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ﴾، ﴿إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ﴾ [التغابن: ١٧]، ﴿وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [آل عمران: ١٠١]، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة: ١٨٦].
وقال سهل بن عبد الله :﴿ وَمَن يَتَّقِ الله ﴾ في إتباع السُّنَّة ﴿ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ﴾ من عقوبة أهل البدع ﴿ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾.
وقال أبو سعيد الخدري : ومن تبرأ من حوله وقوَّتهِ بالرجوع إلى اللَّه ﴿ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ﴾ مما كلفه الله بالمعونة١.
وقال٢ ابن مسعود ومسروق : الآية على العموم.
وقال أبو ذر :«قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إنِّي لأعلمُ آيَةً لوْ أخَذَ النَّاسُ بِهَا لَكَفَتهُمْ " وتلا :﴿ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾ [ فما زال يكررها ويعيدها »٣.
وقال ابن عباس :«قرأ النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ﴾ ] ٤ قال :" مخرجاً من شُبهات الدنيا، ومن غمرات الموتِ، ومن شدائد يوم القيامة " ٥.
وقال أكثر المفسرين٦ :«نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، أسر المشركون ابناً له يسمى سالماً، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي إليه الفاقة، وقال : إن العدوّ أسر ابني وجزعت الأم، فما تأمرني ؟ قال - عليه الصلاة والسلام - :" اتِّق اللَّهَ واصْبِرْ، وآمُرُكَ وإيَّاهَا أن تَسْتَكْثِرَا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم "، فعاد إلى بيته، وقال لامرأته : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني وإياك أن نستكثر من قول " لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " فقالت : نِعْمَ ما أمرنا به، فجعلا يقولان، فغفل العدو عن ابنه فساق غنمهم، وجاء بها إلى أبيه، وهي أربعة آلاف شاةٍ، فنزلت الآية، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم تلك الأغنام له »٧.
وروي أنه جاء وقد أصاب إبلاً من العدو، وكان فقيراً. فقال الكلبي : إنه أصاب خمسين بعيراً.
وفي رواية : فانفلت ابنه من الأسر وركب ناقة للقوم ومر في طريقه بسرح لهم فاستاقه.
وقال مقاتل :«أصاب غنماً ومتاعاً، فقال أبوه للنبيّ صلى الله عليه وسلم أيحل لي أن آكل مما أتى به ابني ؟ قال : نعم »، ونزلت :﴿ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾٨.
وروى الحسن عن عمران بن الحصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«مَن انقَطَعَ إلى اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ كُلَّ مَؤونةٍ ورَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، ومن انقطع إلى الدُّنيا وكلها اللَّهُ إليهِ »٩.
وقال الزجاج١٠ : أي : إذا اتقى وآثر الحلال والصبر على أهله فتح الله عليه إن كان ذا ضيق ورزقه من حيث لا يحتسب.
وعن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«مَنْ أكْثَرَ الاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ من كُلِّ هَمٍّ فَرجاً، ومِن كُلِّ ضيقٍ مَخْرَجاً، ورَزقَهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ »١١.
قوله :﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾.
أن من فوّض إليه أمره كفاهُ ما أهمَّه.
وقيل : من اتقى الله وجانب المعاصي وتوكل عليه فله فيما يعطيه في الآخرة من ثوابه كفاية، ولم يرد الدنيا ؛ لأن المتوكل قد يصاب في الدنيا وقد يقتل.
وقال - عليه الصلاة والسلام - :«لَوْ أنَّكُمْ تَتوكَّلُونَ على اللَّهِ حقَّ تَوكُّلِهِ لرزقَكُم كَمَا يَرزقُ الطَّيْر تَغْدُو خِمَاصاً وتَرُوحُ بِطَاناً »١٢.
قوله :﴿ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ ﴾.
قرأ حفص :«بَالِغُ » من غير تنوين «أمْرِهِ » مضاف إليه على التخفيف.
والباقون : بالتنوين١٣ والنصب، وهو الأصل، خلافاً لأبي حيان١٤.
وقرأ ابن أبي عبلة وداود بن أبي١٥ هند، وأبو عمرو في رواية :«بَالِغٌ أمْرُهُ » بتنوين «بالغ » ورفع «أمره ».
وفيه وجهان١٦ :
أحدهما : أن يكون «بالغ » خبراً مقدماً، و «أمره » مبتدأ مؤخر، والجملة خبر «إن ».
والثاني : أن يكون «بالغ » خبر «إن » و «أمره » فاعل به.
قال الفراء١٧ : أي : أمره بالغ.
وقيل :«أمره » مرتفع ب «بالغ » والمفعول محذوف، والتقدير : بالغ أمره ما أراد.
وقرأ المفضل١٨ :«بالغاً » بالنصب، «أمرُه » بالرفع. وفيه وجهان١٩ :
أظهرهما : وهو تخريج الزمخشري٢٠ : أن يكون «بالغاً » نصباً على الحال، و ﴿ قَدْ جَعَلَ الله ﴾ هو خبر «إن » تقديره : إن الله قد جعل لكل شيء قدراً بالغاً أمره.
والثاني : أن يكون على لغة من ينصب الاسم والخبر بها، كقوله :[ الطويل ]
٤٧٨٢ -. . . ***. . . . . . . . . . . إنَّ حُرَّاسنَا أسْدَا٢١
ويكون «قَدْ جَعَلَ » مستأنفاً كما في القراءة الشهيرة.
ومن رفع «أمره » فمفعول «بالغ » محذوف، تقديره : ما شاء، كما تقدم في القرطبي٢٢.
فصل في معنى الآية٢٣
قال مسروق : يعني قاضٍ أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه إلا أن من توكل عليه يكفر عنه سيئاته، ويعظم له أجراً.
قوله :﴿ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ﴾.
قيل : إن من قوله تعالى :﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾ إلى قوله :﴿ مَخْرَجاً ﴾ آية، ومنه إلى قوله تعالى :﴿ قَدْراً ﴾ آية أخرى، وعند الكوفي والمدني المجموع آية واحدة٢٤.
وقرأ جناح بن٢٥ حبيش :«قَدراً » بفتح الدال.
والمعنى٢٦ : لكل شيء من الشدة والرخاء أجلاً ينتهي إليه.
وقيل : تقديراً.
وقال السدي : هو قدر الحيض في الأجل والعدة٢٧.
وقال عبد الله بن رافع : لما نزل قوله تعالى :﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم :«فَنَحْنُ إذَا توكلنَا عليْهِ يُرسِلُ مَا كَانَ لَنَا وَلاَ نَحْفَظُهُ »، فنزلت :﴿ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ ﴾ فيكم وعليكم٢٨.
وقال الربيع بن خيثم : إنَّ الله قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه، ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجَّاه، ومن دعاه أجاب له.
وتصديق ذلك في كتاب الله :﴿ وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾[ التغابن : ١١ ]، ﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾، ﴿ إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ ﴾ [ التغابن : ١٧ ]، ﴿ وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾[ آل عمران : ١٠١ ]، ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ ﴾ [ البقرة : ١٨٦ ].
٢ في أ: وتأول..
٣ أخرجه الحاكم (٢/٤٩٢) وأحمد (٥/١٧٨) وابن حبان (١٥٤٧-موارد) من حديث أبي ذر.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي..
٤ سقط من أ..
٥ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٥٤) وعزاه إلى أبي يعلى وأبي نعيم والديلمي من طريق عطاء ابن يسار عن ابن عباس..
٦ ينظر الجامع لأحكام القرآن (١٨/١٠٦)..
٧ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٣٠، ١٣١) عن السدي وسالم بن أبي الجعد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٥٤) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن سالم بن أبي الجعد.
وذكره أيضا عن ابن عباس مطولا وعزاه للخطيب في "تاريخه" من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس. ومختصرا من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه وعزاه لابن مردويه..
٨ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٠٦) عن مقاتل..
٩ أخرجه الخطيب (٧/١٩١) والطبراني في "الأوسط" كما في "مجمع الزوائد" (١٠/٣٠٦).
وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه إبراهيم بن الأشعث صاحب الفضيل وهو ضعيف وقد ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال يخطئ ويغرب ويخالف..
١٠ ينظر معاني القرآن للزجاج ٥/١٨٤..
١١ أخرجه أحمد (١/٢٤٨) وأبو داود (١٥١٨) والحاكم (٤/٢٦٢) والنسائي في "الكبرى" (٦٤٥) ومن طريقه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (٣٥٨) والبيهقي (٣/٣٥١) من طريق الحكم بن مصعب ثني محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده مرفوعا.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
ورده الذهبي بقوله: قلت الحكم فيه جهالة.
والحكم ذكره الحافظ ابن حجر في "التهذيب" (٢/٤٣٩) وقال: روى عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وعنه الوليد بن مسلم. قال أبو حاتم: لا أعلم روى عنه غيره وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال يخطئ له عندهم حديث واحد في لزوم الاستغفار قلت: هذا مقل جدا فإن كان أخطأ فهو ضعيف وقد قال أبو حاتم مجهول وذكره ابن حبان في الضعفاء أيضا وقال: روى عنه أبو المغيرة أيضا لا يجوز الاحتجاج بحديثه ولا الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار انتهى وهو تناقض صعب وقال الأزدي: لا يتابع على حديثه فيه نظر..
١٢ أخرجه أحمد (١/٣٠، ٥٢) والترمذي (٢٣٤٤) وابن ماجه (٤١٦٤) وعبد بن حميد في "المنتخب" (ص ٣٢) من حديث عمر بن الخطاب وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح..
١٣ ينظر: السبعة ٦٣٩، والحجة ٦/٣٠٠، وإعراب القراءات ٢/٣٧٣، وحجة القراءات ٧١٢، وشرح الطيبة ٦/٥٨، والعنوان ١٩٢، وشرح شعلة ٦٠٤، وإتحاف ٢/٥٤٥..
١٤ ينظر: البحر المحيط ٨/٢٧٩..
١٥ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٢٤، والبحر المحيط ٨/٢٧٩، والدر المصون ٦/٣٢٩..
١٦ ينظر: الدر المصون ٦/٣٢٩..
١٧ ينظر: معاني القرآن له ٣/١٦٣..
١٨ ينظر: القراءة السابقة..
١٩ ينظر: الدر المصون ٦/٣٢٩..
٢٠ ينظر: الكشاف ٤/٥٥٦..
٢١ تقدم..
٢٢ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٠٧..
٢٣ ينظر السابق ١٨/١٠٦..
٢٤ ينظر: التفسير الكبير ٣٠/٣٢..
٢٥ ينظر: البحر المحيط ٨/٢٧٩، والدر المصون ٦/٣٣٠..
٢٦ ينظر: القرطبي ١٨/١٠٧..
٢٧ ذكره القرطبي في "تفسيره"(١٨/١٠٧)..
٢٨ ينظر المصدر السابق..
تقدم الخلاف فيه.
وأبو عمرو يقرأ هنا: «واللاّئي يئسن» بالإظهار.
وقاعدته في [مثله] الإدغام، إلا أن الياء لما كانت عنده عارضة لكونها بدلاً من همزة، فكأنه لم يجتمع مثلان، وأيضاً فإن سكونها عارض، فكأن ياء «اللائي» متحركة، والحرف ما دام متحركاً لا يدغم في غيره، وقرىء: «يَئِسْنَ» فعلاً ماضياً.
وقرىء: «يَيْئَسْنَ» مضارع.
و ﴿مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ﴾.
«من» الأولى لابتداء الغاية، وهي متعلقة بالفعل قبلها، والثانية للبيان متعلقة بمحذوف.
و «اللاَّئِي» مبتدأ، و «فَعدَّتُهُنَّ» مبتدأ ثانٍ، و «ثَلاثةُ أشْهُرٍ» خبره، والجملة خبر الأول، والشرط معترض، وجوابه محذوف.
ويجوز أن يكون «إن ارْتَبْتُمْ» جوابه ﴿فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ﴾، والجملة الشرطية خبر المبتدأ، ومتعلق الارتياب محذوف، تقديره: إن ارتبتم في أنها يئست أم لا لإمكان ظهور حمل وإن كان انقطع دمها.
وأغرب ما قيل: إن «إنِ ارتَبْتُمْ» بمعنى: تَيَقَّنْتُمْ، فهو من الأضداد.
قوله: ﴿واللاتي لَمْ يَحِضْنَ﴾.
مبتدأ، خبره محذوف، فقدره جملة كالأولى، أي: فعدتهن ثلاثة أشهر أيضاً، والأولى أن يقدر مفرداً، أي: فكذلك أو مثلهن.
ولو قيل: بأنه معطوف على «اللاَّئِي يَئِسْنَ» عطف المفردات، وأخبر عن الجمع بقوله: «فعدَّتُهُنَّ» لكان وجهاً حسناً، وأكثر ما فيه توسُّطُ الخبر بين المبتدأ وما عطف عليه. وهذا ظاهر قول أبي حيان: و ﴿واللائي لَمْ يَحِضْنَ﴾ معطوف على قوله «واللاَّئِي يَئِسْنَ»، فإعرابه مبتدأ كإعراب «واللائي».
قوله: ﴿وَأُوْلاَتُ الأحمال﴾ مبتدأ، و «أجَلُهُنَّ» مبتدأ ثانٍ، و «أن يَضَعْنَ» خبر المبتدأ الثاني وهو وخبره خبر الأول.
والعامَّة: على إفراد «حَمْلَهُنَّ».
والضحاك: «أحْمَالهُنَّ».
فصل في عدة التي لا ترى الدم
لما بين أمر الطلاق والرجعة في التي تحيض، وكانوا قد عرفوا عدة ذوات الأقراء عرفهم في هذه السورة عدة التي لا ترى الدم.
قال أبو عثمان عمير بن سليمان: لما نزل عدة النِّساء في سورة البقرة في المطلقة والمتوفى عنها زوجها، قال أبيُّ بن كعب: يا رسول الله، إن ناساً يقولون: قد بقي من النساء من لم يذكر فيهن شيء، الصغار والكبار وذوات الحَمْل، فنزلت: ﴿واللائي يَئِسْنَ﴾ الآية.
وقال مقاتل: لما ذكر قوله تعالى: ﴿والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء﴾ [البقرة: ٢٢٨] قال
وقيل: إن معاذ بن جبل سأل عن عدّة الكبيرة التي يئست، فنزلت الآية.
وقال مجاهد: الآية واردة في المستحاضة لا تدري دم حيض هو أو دم علة؟.
فصل في تفسير الآية
قال المفسرون: ﴿واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ﴾، فلا يرجون أن يحضن «إن ارتبْتُمْ» أي: شككتم.
وقيل: تيقنتم، وهو من الأضداد، يكون شكًّا ويقيناً كالظَّن.
واختيار الطَّبري: أن يكون المعنى إن شككتم، فلم تدروا ما الحكم فيهن.
وقال الزجاج: إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن يحيض مثلها.
قال القشيري: وفي هذا نظر، لأنا إذا شككنا، هل بلغت سن اليأس لم نقل: عدتها ثلاثة أشهر.
والمعتبر في سن اليأس أقصى عادة امرأة في العالم.
وقيل: غالب نساء عشيرة المرأة.
وقال مجاهد: قوله: «إن ارْتَبْتُمْ» للمخاطبين، يعني إن لم تعلموا كم عدة الآيسة، والتي لم تحضْ فالعدّة هذه.
وقيل: المعنى إن ارتبتم أن الدم الذي يظهر منها من أجل كبر أو من الحيض المعهود أو من الاستحاضة فالعدة ثلاثة أشهر.
وقال عكرمة وقتادة: من الريبة المرأة المستحاضة التي لا يستقيم لها الحيض تحيض في أول الشهر مراراً، وفي الأشهر مرة.
وقيل: إنه متصل بأول السورة، والمعنى لا تخرجوهن من بيوتهن إن ارتبتم في انقضاء العدة.
فصل في المرتابة في عدتها
المرتابة في عدتها لم تنكح حتى تستبرىء نفسها من ريبتها، ولا تخرج من العدة إلا بارتفاع الرِّيبة، وقد قيل في المرتابة التي ارتفع حيضها، لا تدري ما رفعه إنها تنتظر سنة من يوم طلَّقها زوجها، منها تسعة أشهر استبراء، وثلاثة عدة، فإن طلقها فحاضت حيضة، أو حيضتين، ثم ارتفع حيضها بغير يأس منها انتظرت تسعة أشهر ثم ثلاثة من يوم طهرت من حيضها ثم حلت [للأزواج]. وهذا قول الشافعي بالعراق.
فعلى قياس هذا القول تقيم الحرة المتوفى عنها زوجها المستبرأة بعد التسعة أشهر [أربعة أشهر وعشراً، والأمة شهرين وخمس ليال بعد التسعة أشهر].
وروي عن الشافعي أيضاً: أن أقراءها على ما كانت حتى تبلغ سنَّ اليائسات.
وهو قول النخعي والثوري وغيرهما، وحكاه أبو عبيدة عن أهل العراق.
فصل في ارتياب المرأة الشابة
إذا ارتابت المرأة الشابة هل هي حامل أم لا؟.
فإن استبان حملها فأجلها وضعه، وإن لم يستبن، فقال مالك: عدة التي ارتفع حيضها وهي شابة سنة، وبه قال أحمد وإسحاق وروي عن عمر بن الخطَّاب وغيره.
وأهل «العراق» يرون أن عدتها ثلاث حيض بعد ما كانت حاضت مرة واحدة في عمرها وإن مكثت عشرين سنةً، إلا أن تبلغ من الكبر سنًّا تيأس فيه من الحيضِ فتكون عدتها بعد الإياس ثلاثة أشهر.
قال الثعلبي: وهذا الأصح من مذهب الشافعي وعليه جمهور العلماء، وروي ذلك عن ابن مسعود وأصحابه.
قال إلكيا: وهو الحق، لأن الله تعالى جعل عدة الآيسة ثلاثة أشهر. والمرتابة ليست آيسة.
فصل فيمن تأخر حيضها لمرض
فأما من تأخر حيضها لمرض، فقال مالك وبعض أصحابه: تعتد تسعة أشهر ثم ثلاثة كما تقدم.
وقد طلق حبان بن منقذ امرأته وهي ترضع، فمكثت سنة لا تحيض لأجل الرضاع ثم مرض حبان فخاف أن ترثه فخاصمها إلى عثمان وعنده عليّ وزيد فقالا: نرى أن ترثه، لأنها ليست من القواعد ولا من الصغار، فمات حبان فورثته واعتدت عدة الوفاة.
فصل
لو تأخّر الحيض بغير مرض ولا رضاع فإنها تنتظر سنة لا حيض فيها، تسعة أشهر ثم ثلاثة على ما تقدم، فتحل ما لم ترتب بحمل، فإن ارتابت بحمل أقامت أربعة أعوام أو خمسة أو سبعة على الاختلاف.
قال القرطبي: «وأشهر الأقوال خمسة أعوام، فإن تجاوزتها حلت».
وقال أشهب: لا تحل أبداً حتى تنقطع عنها الريبة.
قال ابن العربي: «وهو الصحيح، إذا جاز أن يبقى الولد في بطنها خمسة أعوام جاز أن يبقى عشرة أو أكثر من ذلك»، وروي مثله عن مالك.
فصل فيمن جهل حيضها بالاستحاضة
وأما التي جهل حيضها بالاستحاضة ففيها أقوال:
قال ابن المسيب: تعتد سنة. وهو قول الليث.
قال الليث: عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها إذا كانت مستحاضة «سنة».
قال القرطبي: «وهو مشهور قول علمائنا، سواء علمت دم حيضها من دم استحاضتها، وميزت ذلك أو لم تميزه، عدّتها في مذهب مالك سنة، منها تسعة أشهر استبراء، وثلاثة عدّة».
وقال الشَّافعي في أحد أقواله: عدتها ثلاثة أشهر، وهو قول جماعة من التابعين والمتأخرين.
قال ابن العربي: «وهو الصحيح عندي».
وقال أبو عمر: المستحاضة إذا علمت إقبال حيضتها وإدبارها اعتدت بثلاثة قُرُوءٍ.
قال القرطبي: «وهذا أصحّ في النظر، وأثبت في القياس والأثر».
قوله: ﴿واللائي لَمْ يَحِضْنَ﴾.
فصل
قوله: ﴿وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ﴾ وضع الحمل، وإن كان ظاهراً في المطلقة؛ لأنه عليها عطف وإليها رجع عقب الكلام، فإنه في المتوفى عنها زوجها كذلك، لعموم الآية، وحديث سبيعة، كما مضى في سورة «البقرة».
فإذا وضعت المرأة ما في بطنها من علقة أو مضغة حلت عند مالك.
وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا تحل إلا بوضع ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان، فإن كانت حاملاً بتوءمين لم تنقض عدتها حتى تضع الثاني منهما.
قوله: ﴿وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً﴾.
أي: من يتقه في طلاق السنة ﴿يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً﴾ في الرجعة.
وقال مقاتل: ومن يتق الله في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسراً في توفيقه للطاعة.
﴿ذَلِكَ أَمْرُ الله﴾ أي: الذي ذكر من الأحكام أمر الله أنزله إليكم وبيَّنَهُ لَكُمْ، ﴿وَمَن يَتَّقِ الله﴾ أي: يعمل بطاعته ﴿يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً﴾ أي: في الآخرة.
قوله: ﴿وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً﴾.
هذه قراءة العامة مضارع «أعظم».
وابن مقسم: «يعظم» بالتشديد، مضارع عظم مشدداً.
والأعمش: «نعظم» بالنون، مضارع «أعظم» وهو التفات من غيبة إلى تكلم.
قوله: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ﴾.
أي : من يتقه في طلاق السنة ﴿ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ﴾ في الرجعة.
وقال مقاتل : ومن يتق الله في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسراً في توفيقه للطاعة١.
﴿ ذَلِكَ أَمْرُ الله ﴾ أي : الذي ذكر من الأحكام أمر الله أنزله إليكم وبيَّنَهُ لَكُمْ، ﴿ وَمَن يَتَّقِ الله ﴾ أي : يعمل بطاعته ﴿ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً ﴾ أي : في الآخرة.
قوله :﴿ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً ﴾.
هذه قراءة العامة مضارع «أعظم ».
وابن مقسم٢ :«يعظم » بالتشديد، مضارع عظم مشدداً.
والأعمش٣ :«نعظم » بالنون، مضارع «أعظم » وهو التفات من غيبة إلى تكلم.
٢ ينظر: البحر المحيط ٨/٢٨٠، والدر المصون ٦/٣٣٠..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٢٦، والبحر المحيط ٨/٢٨٠، والدر المصون ٦/٣٣٠، والتخريجات النحوية ٢٥٢..
قوله: ﴿مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم﴾. فيه وجهان:
أحدهما: أن «من» للتبعيض.
قال الزمخشري: «مبعضها محذوف معناه: أسكنوهن مكاناً من حيثُ سكنتم، أي: بعض مكان سُكناكم، كقوله تعالى: ﴿يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ [النور: ٣٠] أي: بعض أبصارهم».
قال قتادةُ: إن لم يكن إلا بيت واحد، فأسكنها في بعض جوانبه.
قال ابن الخطيب: وقال في الكشاف: «من» صلة، والمعنى أسكنوهن من حيث سكنتم.
والثاني: أنها لابتداء الغاية. قاله الحوفي، وأبو البقاء.
قال أبو البقاء: والمعنى تسبّبوا إلى إسكانهن من الوجه الذي تسكنون أنفسكم ودلّ عليه قوله «مِن وُجْدِكُم»، والوُجْد: الغِنَى.
قوله: «من وجدكم». فيه وجهان:
أظهرهما: أنه بدل من قوله: ﴿مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم﴾ بتكرار العامل، وإليه ذهب أبو البقاء.
كأنه قيل: أسكنوهن من سعتكُم.
والثاني: أنه عطف بيان لقوله: ﴿مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم﴾، وإليه ذهب الزمخشري، فإنه قال بعد أن أعرب «مِنْ حَيْثُ» تبعيضية، قال: «فإن قلت: فقوله» مِنْ وُجْدِكُمْ «قلت: هو عطف بيان لقوله ﴿مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم﴾ ومفسّر له، كأنه قيل: أسكنوهن مكاناً من مسكنكم مما تطيقونه، والوُجْد: الوسع والطاقة».
وناقشه أبو حيان بأنه لم يعهد في عطف البيان إعادة العامل. إنما عهد هذا في البدل، ولذلك أعربه أبو البقاء بدلاً.
والحسن، والأعرج، وأبو حيوة: بفتحها.
والفياض بن غزوان وعمرو بن ميمون ويعقوب: بكسرها.
وهي لغات بمعنى واحد.
يقال: وجدت في المال أجد وُجْداً وجدة، والوُجْد: الغِنَى والقُدرة، والوَجْد بفتح الواو: الحُزْن أيضاً والحب والغضب.
فصل في تفسير الآية
قال القرطبي: روى أشهب عن مالك: يخرج عنها إذا طلقها ويتركها في المنزل لقوله تعالى: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ﴾، فلو كان معها ما قال أسكنوهن.
وقال ابن نافع: قال مالك في قوله تعالى ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم﴾ يعني المطلقات اللاتي بنَّ من أزواجهن فلا رجعة لهم عليهن، وليست حاملاً، فلها السُّكنَى، ولا نفقة لها ولا كُسْوة؛ لأنها بائن منه، ولا يتوارثان ولا رجعة له عليها، وإن كانت حاملاً فلها الكسوة والنفقة والمسكن حتى تنقضي عدتها.
قال البغوي: ونعني بالكسوة مؤونة السكن، فإن كانت الدار التي طلقها فيها ملكاً للزوج وجب على الزوج أن يخرج ويترك الدار لها مدة عدتها، وإن كانت بإجارة فعلى الزوج الأجرة، وإن كانت عاريةً فرجع المعير فيها فعليه أن يكتري لها داراً تسكنها، فأما من لم تَبِنْ منه، فإنها امرأته يتوارثان، ولا تخرج إلا بإذن زوجها ما دامت في العدة ولم يؤمر بالسكن لهما لأن ذلك لازم للزوج مع النفقة والكسوة حاملاً كانت أو غير حامل، وإنما أمر الله بالسكن للبائن، قال تعالى: ﴿وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ فجعل الله - عَزَّ وَجَلَّ - للحوامل البائنات من أزواجهن السكنى والنفقة.
قال ابن العربي: «إن الله - تعالى - لما ذكر السكنى أطلقها لكل مطلقة، فلما ذكر النفقة قيدها بالحمل، فدل على أن المطلقة البائن لا نفقة لها».
قال القرطبي: اختلف العلماء في المطلقة ثلاثاً على ثلاثة أقوال: فمذهب مالك والشافعي: أن لها السَّكنى ولا نفقة لها.
ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور: لا نفقة لها ولا سُكنى، لحديث فاطمة بنت قيس قالت: «دخلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومعي أخو زوجي، فقلت: إن زوجي طلقني، وإن هذا يزعم أنه ليس لي سُكْنَى ولا نفقة، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: بل لك السُّكنى والنفقة، قال: إن زوجها طلَّقها ثلاثاً، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنَّمَا السُّكْنَى والنَّفقةُ على من لَهُ عليْهَا رَجْعَةٌ، فَلمَّا قدمتُ» الكُوفَة «طلبني الأسود بن يزيد ليسألني عن ذلك، وإن أصحاب عبد الله يقولون: إن لها السكنى والنفقة».
وعن الشعبي قال: لقيني الأسود بن يزيد، فقال: يا شعبي، اتق الله وارجع عن حديث فاطمة بنت قيسٍ، فإن عمر كان يجعل لها السكنى والنفقة، قلت: لا أرجع عن شيء حدثتني به فاطمة بنت قيس عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ولأنه لو كان لها سكنى لما أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن تعتدَّ في بيت ابن أم مكتومٍ.
وأجيب عن ذلك بما روت عائشة أنها قالت: كانت فاطمة في مكان وحش، فخيف على ناحيتها.
وقال سعيد بن المسيب: إنما نقلت فاطمة لطول لسانها على أحمائها.
وقال قتادة وابن أبي ليلى: لا سكنى إلا للرجعية، لقوله تعالى: ﴿لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً﴾ [الطلاق: ١]، وقوله تعالى: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ﴾ راجع إلى ما قبله، وهي المطلقة الرجعية.
فصل في المعتدة عن وطء الشبهة
قال البغوي: «وأما المُعتدَّة عن وطء الشبهة والمفسوخ نكاحها بِعيْبٍ أو خيار عتق، فلا سُكْنَى لها ولا نفقة، وإن كانت حاملاً، والمعتدة من وفاة زوج لا نفقة لها حاملاً كانت أو حائلاً عند أكثر العلماء، وروي عن عليٍّ أن لها النفقة إن كانت حاملاً من التركة حتى تضع، وهو قول شريح والشعبي والنخعي والثوري. واختلفوا في سكناها:
فللشافعي قولان:
أحدهما: لا سكنى لها بل تعتدّ حيث شاءت، وهو قول علي وابن عبَّاس وعائشة، وبه قال عطاء والحسن، وهو مذهب أبي حنيفة.
فمن قضى بهذا القول قال: إذنه لفريعة أولاً بالرجوع إلى أهلها صار منسوخاً بقوله: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حتَّى يبلغ الكِتَابُ أجَلَهُ»، ومن لم يوجب السُّكنى قال: أمرها بالمكث آخراً استحباباً لا وجوباً.
قوله: ﴿وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ﴾.
قال مجاهد: في المسكن.
وقال مقاتل: في النَّفقة. وهو قول أبي حنيفة.
وعن أبي الضحى: أن يطلقها فإذا بقي يومان من عدتها راجعها، ثم طلقها.
قوله: ﴿وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾.
هذا في وجوب النَّفقة والسُّكنى للحامل المطلقة ثلاثاً أو أقل حتى تضع حملها، فأما الحامل المتوفى عنها زوجها، فقال علي، وابن عمر وابن مسعود، وشريح، والنخعي، والشعبي، وحماد، وابن أبي ليلى، وسفيان، وأصحابه: ينفق عليها من جميع المال حتى تضع.
قوله: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ﴾.
يعني المُطلَّقات، أولادكم منهن فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة إرضاعهنّ وللرجل أن يستأجر امرأته للرضاع كما يستأجر أجنبية، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم يَبِنَّ، ويجوز عند الشافعي. وتقدم القول في الرضاع في «البقرة».
قوله: ﴿وَأْتَمِرُواْ﴾.
افتعلوا من الأمر، يقال: ائتمر القوم وتأمّروا، أي: أمر بعضهم بعضاً.
وقال الكسائي: «ائتمروا» تشاوروا؛ وتلا قوله تعالى: ﴿إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ﴾ [القصص: ٢٠] وأنشد قول امرىء القيس: [الطويل]
٤٧٨٢ - ب -.......................... ويَعْدُو عَلَى المَرْءِ مَا يَأتَمِرْ
فصل في هذا الخطاب
الخطاب في قوله: «وائتمروا» للأزواج والزوجات، أي: وليقبل بعضكم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل، والجميل منه توفير الأجرة عليها للإرضاع.
وقيل: ائتمروا في إرضاع الولد فيما بينكم بمعروف حتى لا يلحق الولد إضرار.
وقيل: هو الكسوة والدثار.
وقيل: معناه لا تضار والدة بولدها، ولا مولود له بولده.
قوله: ﴿فَسَتُرْضِعُ﴾.
قيل: هو خبر في معنى الأمر، والضمير في «له» للأب، لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ﴾ والمفعول محذوف للعلم به، أي: فسترضع الولد لوالده امرأة أخرى، والظَّاهر أنه خبر على بابه.
فصل في تفسير الآية
قوله: ﴿وَإِن تَعَاسَرْتُمْ﴾ في أجرة الرضاع فأبى الزوج أن يعطي الأم أجرة رضاعها، وأبت الأم أن ترضعه فليس له إكراهها وليستأجر غير أمه.
وقيل: معناه إن تضايقتكم وتشاكستم فليسترضع لولده غيرها.
واختلفوا فيمن يجب عليه رضاع الولد.
فقال مالك: إرضاع الولد على الزوجة ما دامت الزوجية، إلا لشرفها وموضعها، فعلى الأب رضاعه يومئذ في ماله.
وقال أبو حنيفة: لا يجب على الأم بحال.
وقيل: يجب عليها بكل حال.
فإن طلقها فلا يجب عليها إرضاعه إلا أن لا يقبل ثدي غيرها فيلزمها حينئذ الإرضاع، فإن اختلفا في الأجرة، فإن دعت إلى أجرة المثل وامتنع الأب إلا تبرعاً فالأم أولى بأجر المثل إذا لم يجد الأب متبرعة، وإن دعا الأب إلى أجرِ المثل، وامتنعت الأم لتطلب شططاً، فالأب أولى به، فإن أعسر الأب بأجرتها أجبرت على رضاع ولدها.
قوله: ﴿لِيُنفِقْ﴾.
وحكى أبو معاذ القارىء: «لِيُنْفِقَ» بنصب الفعل على أنها لام «كي» نصب الفعل بعدها بإضمار «أن» ويتعلق الحرف حينئذ بمحذوف، أي: شرعنا ذلك لينفق.
وقرأ العامة: «قُدِرَ» مخففاً.
وابن أبي عبلة: «قُدِّرَ» مشدداً.
فصل في وجوب النفقة للولد على الوالد
قال القرطبي: هذه الآية أصل وجوب النفقة للولد على الوالد دون الأم، خلافاً لمحمد بن الموَّاز إذ يقول: إنها على الأبوين على قَدْر الميراث.
قال ابن العربيّ: ولعل محمداً أراد أنها على الأم عند عدم الأب، وفي البخاري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «تَقُولُ لَكَ المَرأةُ: أنفِقْ عليَّ وإلاَّ طلِّقْنِي، ويقُولُ لَكَ العَبْدُ: أنفِقْ عَلي واستَعْمِلْنِي، ويقُولُ لَكَ ابْنُكَ: أنفِقْ عليَّ إلى مَنْ تكلُني؟»،
قوله: ﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا﴾ من المال، والمعنى لا يكلف الله الفقير مثل ما يكلف الغني ﴿سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً﴾ أي: بعد الضيق غنى وبعد الشدة سعة.
فصل في اختلاف الزوجين في قبض النفقة
قال ابن تيمية: إذا ختلف الزوجان في قبض النفقة والكسوة، فقال القاضي أبو يعلى وأتباعه: إن القول قول الزَّوجة، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي كما لو اختلف اثنان في قبض سائر الحقوق مثل الصَّداق، وثمن المبيع ونحو ذلك، ومذهب مالك بخلاف ذلك.
وقال الغزالي: فيها وجهان: وحسنوا قول الزوج.
قال ابن تيمية: وكذلك يجيء لأصحاب أحمد وجهان كما لو كان الصداق منفعة حصلت لها، فقالت: حصلت من غيرك وقال: بل حصلت منّي مثل أن يصدقها تعليم قصيدة أو غيرها مما يجوز جعله صداقاً فإنها إذا تعلمت من غيره كان عليه الأجرة، فإن قال: أنا علمتها وقالت: بل غيره، ففيها وجهان، فهكذا في النَّفقة، فإنها لا بُدَّ أن تكون قد ارتزقت في الزمن الماضي، وهو يقول: أنا رزقتها، وهي تقول: بل غيره.
والصَّواب المقطُوع به أنه لا يقبل قولها في ذلك مطلقاً؛ فإن هذا فيه فساد عظيم على هذا القول في مذهب الشَّافعي، وقول أحمد الموافق له ولا يجيء ذلك على مذهب مالك، ولا على مذهب أبي حنيفة، وقول أحمد الموافق له؛ فإنا إذا قلنا: إن نفقة الزوجة تسقط بمضي الزمان لم يقبل دعواها بالنفقة الماضية، وإنما يجيء على قولنا إن نفقة الزوجة لا تسقط بمضي الزمان، كما هو المشهور من مذهب أحمد، وهو قول الشافعي.
والعُمْدَة في ذلك الأمر المعروف عن عمر بن الخطاب؛ قال ابن المُنذِر: إن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غلبوا عن نسائهم فأمرهم أن ينفقوا، أو يطلقوا؛ فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى، وليس قبول الزوجة في ذلك مأثوراً عن أحمد، ولا ملائماً لأصوله، فإنه في تداعي الزوجين وغيرهما يرجح من تشهد له اليد الحكمية العرفية دون اليد الحسية، ومعلوم أن المدعى عليه يترجح تارة باليد في الأعيان وببراءة الذمة في الحقوق، فكما أن في اليد لم يلتفت إلى مُجرَّد الحس، بل يرجع إلى اليد الحكمية التي يستدلّ عليها بالأفعال والتصرفات؛ إذ الأَصل في الدعاوى ترجيح مَنِ الظَّاهرُ معهُ.
والظهور يستدلّ عليه
وهذا ينبني على أصول:
أحدها: أنه قد وجد كسوة ونفقة وإنما تنازعا في المنفق، فقال هو: مني، وقالت هي: من غيرك، فهنا الأصل عدم غيره، ثم إنها تطالب بتعيين ذلك الغير، فإن ادعت ممتنعاً لم يقبل بحال، وإن ادعت ممكناً فهو محل التردُّد، فإن إنفاقه واجب، والأمر الحادث يضاف إلى السبب القوي دون الضعيف.
والأصل الثاني: أن العادة والعرف إذا قضي بوجود أمر فهل القول قول نافيه، أو قول مثبته.
والأصل الثالث: أن ما يتعذر إقامة البينة عليه لا يكلف إقامة البينة عليه كالوطء، ومن المعلوم أن المعاشرة بالمعروف التي أمر الله بها ورسوله ليس فيها شهادة على المرأة بذلك؛ لأن ذلك ليس من الأمر بالمعروف، ولهذا لم يفعله أحد على عهد سلف الأمة ولا يفعله جماهير بني آدم، وفعله إما متعذّر أو متعسر، فإنه إن أطعمها مما يأكل فليس عنده من يشهد على إطعامها وإن ناولها طعاماً كلَّ يوم فمن المتعسّر شهود في كل وقت، وقد يكونان ساكنين حيث لا شهود، وهذا ظاهر بيِّن.
الأصل الرابع: أن المرأة مفرطة بترك أخذ نفقتها منه بالمعروف، ومطالبته بها إذا كان لا ينفق، بخلاف ما إذا كان غائباً، وهي الصُّورة التي روي عن عمر أنه أمر فيها بنفقة الماضي، بل قد يقال: إن ذلك رضا منها بترك النفقة، وليس هذا قولاً بسقوط النفقة في الماضي، بل بأن هذا دليل من جهة العرف على أنها إما أن تكون قد أنفق عليها، أو تكون راضية بترك النفقة.
وهذا أصل خامس: وهو أن العادة المعروفة تدل على أن المرأة إذا سكتت مدة طويلة عن المطالبة بالنفقة مع القدرة على الطلب كانت راضية بسقوطها.
فصل في النفقة والكسوة بالمعروف
وأما النفقة والكسوة بالمعروف وهي الواجبة بنصّ القرآن، فهو ما كان في عرف الناس في حالهما نوعاً وقدراً وصفة، وإن كان ذلك يتنوّع بتنوّع حالهما من اليسار والإعسار والزمان كالشتاء والصيف والليل والنهار، والمكان فيطعمها في كل بلد مما هو عادة أهل البلد والعرف عندهم.
وقال بعضهم: هي مقدَّرة بالشَّرع نوعاً وقدراً مُدًّا من حنطة، أو مدًّا ونصفاً أو مدَّين
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في خطبته ب «عرفات» :«ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف».
ومن المعلوم أن الكفاية بالمعروف تتنوع بحال الزوجة في حاجتها، وبتنوع الزمان والمكان وبتنوع حال الزوج في يساره وإعساره، فليست كسوة القصيرة الضئيلة ككسوة الطويلة الجسيمة، ولا كسوة الشتاء ككسوة الصيف ولا كفاية طعام الشتاء مثل طعام الصيف ولا طعام البلاد الحارَّة كالباردة، ولا المعروف في بلاد التمر والشعير كالمعروف في بلاد الفاكهة والخبز.
«وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - للذي سأله: مَا حَقُّ زَوجةِ أحدنّا عليْهِ؟.
قال» تُطْعِمُها إذَا أكَلْتَ، وتَكسُوهَا إذَا اكتَسيْتَ، ولا تَضْرِبِ الوَجْهَ ولا تُقَبِّحْ ولا تَهْجُر إلاَّ في البيْتِ «».
وهكذا قال في نفقة المماليك: «هُمْ إخْوانُكُمْ وخَولكُمْ جعلهُم اللَّهُ تَحْتَ أيْدِيكُمْ فَمَن كَانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدهِ فليُطْعِمْهُ ممَّا يأكلُ، وَليُلْبِسْهُ ممَّا يَلبسُ ولا تُكلِّفُوهُمْ ما يَغلبُهُمْ فإن كلَّفْتُموهُمْ فأعينُوهُمْ».
ففي الزوجة والمملُوك أمر واحد، فالواجب على هذا هو الرزق والكسوة بالمعروف في النوع، والقدرة، وصفة الإنفاق.
فأما النوع فلا يتعين أن يعطيها مكيلاً كالبُرِّ، ولا موزوناً كالخبز، ولا ثمن ذلك كالدَّراهم، بل يرجع في ذلك إلى العرف، فإذا أعطاها كفايتها بالمعروف مثل أن تكون عادتهم أكل التَّمْر والشعير فيعطيها ذلك، أو تكون عادتهم أكل الخبز والأدم، فيعطيها ذلك والطبيخ، فيعطيها ذلك، وإن كان عادتهم أن يعطيها حباً فتطحنه في البيت فعل
وأما الإنفاق، فقد قيل: إن الواجب تمليكها النفقة والكسوة.
وقيل: لا يجب التمليك، وهو الصَّواب، فإن ذلك ليس من المعروف، بل عرف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمسلمون إلى يومنا هذا أن الرجل يأتي بالطعام إلى منزلة فيأكل هو وزوجته ومملوكه جميعاً تارة، وتارة أفراداً، ويفضل منه فضل تارة فيدخرونه، ولا يعرف المسلمون أنه يملكها كل يوم تتصرف فيها تصرف الملاك، بل من عاشر امرأته بمثل هذا كان عند المسلمين قد تعاشرا بغير المعروف، وتضارّا في العشرة، وإنما يفعل أحدهما ذلك بصاحبه عند الضرار لا عند العشرة بالمعروف.
وأيضاً فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أوجب للزوجة مثل ما أوجب للمملوك كما تقدم.
وقد اتَّفق المسلمون على أنه لا يجب تمليك المملوك نفقته، فدل على عدم وجوب التمليك في حق الزوجة.
وإذا تنازع الزوجان فمتى اعترفت الزوجة أنه يطعمها إذا أكل، ويكسوها إذا اكتسى، وكان ذلك هو المعروف لمثلها في بلدها، فلا حق لها سوى ذلك، وإن أنكرت ذلك فعلى الحاكم أن يجبره أن ينفق بالمعروف، ليس على الحاكم بل ولا له أن يأمر بدراهم مقدرة مطلقاً أو حَبّ مقدر مطلقاً، لكن يذكر المعروف الذي يليق بهما.
فصل في تفسير الآية
قال القرطبي في قوله تعالى: ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ﴾ أي: «لينفق الزوج على زوجته وعلى ولده الصَّغير على قدر وسعه، فيوسع إذا كان موسعاً عليه، ومن كان فقيراً فعلى قدر ذلك، فتقدر النَّفقة بحسب حال المنفق والحاجة من المنفق عليه بالاجتهاد على مجرى العادة».
وقال الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ: النفقة محدودة، ولا اجتهاد للحاكم ولا المفتي فيها وتقديرها هو بحال الزَّوج وحده من يُسره وعُسْره، ولا اعتبار بحالها، فيجب لابنة الخليفة ما يجب لابنة الحارس، فيلزم الزوج الموسر مدَّان، والمتوسط مد ونصف والمعسر مُدّ؛ لظاهر قوله تعالى: ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ﴾.
وأجاب القرطبي: بأن هذه الآية لا تعطي أكثر من الفرق بين الغني والفقير، وأنها تختلف بعُسْر الزوج ويُسْره، فأما أنه لا اعتبار بحال الزوجة فليس فيها، وقد قال تعالى: ﴿وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف﴾ [البقرة: ٢٣٣]، وذلك يقتضي تعلق المعروف في حقها؛ لأنه لم يخص في ذلك واحداً منهما، وليس من المعروف أن يكون كفاية الغنيمة مثل نفقة الفقيرة، وقد قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لهند: «خُذِي ما يَكْفيكِ وولَدَك بالمعرُوفِ»، فأحالها على الكفاية حين علم السعة من حال أبي سفيان.
لما ذكر الأحكام ذكر وحذَّر مخالفة الأمر، وذكر عُتُوَّ وحُلُول العذاب بهم، وتقدم الكلام في «كأين» في «آل عمران».
قوله: ﴿عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا﴾.
ضمّن «عَتَتْ» معنى أعرض، كأنه قيل: أعرضت بسبب عتوِّها، أي: عتت يعني القرية والمراد أهلها.
وقوله: ﴿فَحَاسَبْنَاهَا﴾ إلى آخره. يعني في الآخرة، وأتى به بلفظ الماضي لتحقُّقه.
وقيل: العذاب في الدُّنيا، فيكون على حقيقته، أي جازيناها بالعذاب في الدُّنيا ﴿وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً﴾ في الآخرة وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي: فعذبناها عذاباً نكراً في الدنيا بالجوع والقَحْط والسَّيف والخَسْف والمَسْخ وسائر المصائب، وحاسبناها في الآخرة حساباً شديداً.
والنُّكْر: المنكر، وقرىء مخففاً ومثقلاً، وقد مضى في سورة الكهف.
قوله: ﴿فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا﴾. أي: عاقبة كفرها ﴿وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرَهَا خُسْراً﴾ أي: هلاكاً في الدنيا بما ذكرنا وفي الآخرة بجهنم.
تكرير للوعيد توكيداً.
وجوز الزمخشري أن يكون «عَتَتْ» وما عطف عليه صفة ل «قَرْيَةٍ»، ويكون الخبر ل «كأيٍّ» في الجملة من قوله: ﴿أَعَدَّ الله لَهُمْ﴾.
وعلى الأول يكون الخبر «عَتَت» وما عطف عليه.
قوله: ﴿الذين آمَنُواْ﴾.
منصوب بإضمار أعني، بياناً للمنادى في قوله: ﴿ياأولي الألباب﴾ أي: العُقُول، ويكون عطف بيان للمنادى أو نعتاً له، ويضعف كونه بدلاً لعدم حلوله محل المبدل منه.
قوله: ﴿قد أنزل الله إليكم ذكراً رسولاً﴾.
في نصب «رسولاً» أوجه:
أحدها: قال الزجاج والفارسي: إنه منصوب بالمصدر المنون قبله؛ لأنه ينحل لحرف مصدري وفعل، كأنه قيل: أن ذكر رسولاً، ويكون ذكره الرسول قوله ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله﴾ [الفتح: ٢٩]، والمصدر المنون عامل كقوله تعالى: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً﴾ [البلد: ١٤، ١٥].
وقول الآخر: [الوافر]
٤٧٨٣ - بِضَرْبٍ بالسُّيُوفِ رُءُوسَ قَوْمٍ | أزَلْنَا هَامَهُنَّ عنِ المَقِيلِ |
الثالث: أنه بدل منه على حذف مضاف من الأول، تقديره: أنزل ذا ذكر رسولاً.
الرابع: كذلك، إلا أن «رسولاً» نعت لذلك المحذوف.
الخامس: أنه بدل منه على حذف مضاف، أي ذكراً ذا رسول.
السادس: أن يكون «رَسُولاً» نعتاً ل «ذِكْراً» أو على حذف مضاف، أي: ذكراً ذا رسول، و «ذا» رسول نعتاً ل «ذِكْراً».
السابع: أن يكون «رسولاً» بمعنى رسالة، فيكون «رسولاً» بدلاً صريحاً من غير تأويل، أو بيناً عند من يرى جريانه في النكرات كالفارسي، إلا أن هذا يبعده قوله «يَتْلُو عَلَيْكُم» لأن الرسالة لا تتلو إلا بمجاز.
قال البغوي: كأنه قيل: أنزل إليكم قرآناً وأرسل رسولاً.
وقيل: مع رسول.
التاسع: أن يكون منصوباً على الإغراء: أي: اتبعوا والزموا رسولاً هذه صفته.
فصل في قوله: رسولاً
اختلف الناس في «رسولاً»، هل هو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو القرآن نفسه أو جبريل.
قال الزمخشري: «هو جبريل أبدل من» ذكراً «لأنه وصف بتلاوة آيات الله، فكان إنزاله في معنى إنزال الذِّكر، فصح إبداله منه».
قال أبو حيَّان: «ولا يصحّ هذا لتباين المدلولين بالحقيقة، ولكونه لا يكون بدل بعض، ولا بدل اشتمال». انتهى.
قال شهاب الدين: «وهذا الذي قاله الزمخشري سبقه إليه الكلبي، وأما اعتراضه عليه، فغير لازم؛ لأنه بولغ فيه حتى جعل نفس الذكر كما تقدم بيانه».
وقرىء: «رسول» بالرفع على إضمار مبتدأ، أي: هو رسول.
وقيل: الذكر هنا الشَّرف كقوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ [الأنبياء: ١٠] وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف: ٤٤] ثم بين الشرف فقال: «رَسُولاً»، والأكثر على أن المراد بالرسول محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال الكلبي: هو جبريل، فيكونان جميعاً منزلين.
قوله: ﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ الله﴾. نعت ل «الرسول»، و «آيَاتِ اللَّهِ» القرآن. و «مبيِّنَاتٍ» قرأ العامة: بفتح الياء، أي: يبينها الله، وبها قرأ ابن عباس، وهي اختيار أبي عبيد، وأبي حاتم، لقوله تعالى: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ﴾ [آل عمران: ١١٨].
وقرأ ابن عامر، وحفص، وحمزة، والكسائي: بكسرها، أي: يبين لكم ما تحتاجون إليه من الأحكام.
قوله: ﴿لِّيُخْرِجَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنَ الظلمات إِلَى النور﴾. الجار متعلق إما ب «أنزل» وإما ب «يتلو».
والمراد بالذين آمنوا من سبق له ذلك في علم الله.
وقوله: ﴿مِنَ الظلمات إِلَى النور﴾. أي: من الكفر إلى الهدى والإيمان.
قال ابن عباس: نزلت في مؤمني أهل الكتاب، وأضاف الإخراج إلى الرسُول؛ لأن الإيمان إنما حصل بطاعته.
قوله: ﴿وَمَن يُؤْمِن﴾. هذا أحد المواضع التي رُوعي فيها اللفظ أولاً ثم المعنى ثانياً، ثم اللفظ آخراً.
قوله: ﴿يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ﴾ قرأ نافع وابن عامر: بالنون، والباقون: بالياء.
وقوله: «خَالِدينَ». قال بعضهم: ليس قوله «خالدين» فيه ضمير عائد على «من» إنما يعود على مفعول «يُدخِلْهُ» و «خَالِدينَ» حال منه والعامل فيه «يدخله» لا فعل الشَّرط.
هذه عبارة أبي حيَّان.
وفيها نظر، لأن «خَالدِينَ» حال من مفعول «يُدْخلهُ» عند القائلين بالقول الأول، وكان إصلاح العبارة أن يقال: حال من مفعول «يُدْخِلهُ» الثاني وهو «جنَّاتٍ». والخلود في الحقيقة لأصحابها، وكان ينبغي على رأي البصريين أن يقال: «خالدين هم فيها» لجريان الوصف على غير من هو له.
قوله: ﴿قَدْ أَحْسَنَ الله﴾. حال ثانية، أو حال من الضمير في «خَالِدينَ»، فتكون متداخلة. ومعنى قوله: ﴿قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً﴾، أي: وسَّع له في الجنَّات.
تكرير للوعيد توكيداً.
وجوز الزمخشري١ أن يكون «عَتَتْ » وما عطف عليه صفة ل «قَرْيَةٍ »، ويكون الخبر ل «كأيٍّ » في الجملة من قوله :﴿ أَعَدَّ الله لَهُمْ ﴾.
وعلى الأول يكون الخبر «عَتَت » وما عطف عليه.
قوله :﴿ الذين آمَنُواْ ﴾.
منصوب بإضمار أعني، بياناً للمنادى في قوله :﴿ يا أولي الألباب ﴾ أي : العُقُول، ويكون عطف بيان للمنادى أو نعتاً له، ويضعف كونه بدلاً لعدم حلوله محل المبدل منه.
في نصب «رسولاً » أوجه :
أحدها : قال الزجاج١ والفارسي : إنه منصوب بالمصدر المنون قبله ؛ لأنه ينحل لحرف مصدري وفعل، كأنه قيل : أن ذكر رسولاً، ويكون ذكره الرسول قوله ﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله ﴾[ الفتح : ٢٩ ]، والمصدر المنون عامل كقوله تعالى :﴿ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ﴾[ البلد : ١٤، ١٥ ].
وقول الآخر :[ الوافر ]
٤٧٨٣ - بِضَرْبٍ بالسُّيُوفِ رُءُوسَ قَوْمٍ***أزَلْنَا هَامَهُنَّ عنِ المَقِيلِ٢
الثاني : أنه جعل نفس الذكر مبالغة، ويكون محمولاً على المعنى، كأنه قال : قد أظهر لكم ذكراً رسولاً، فيكون من باب بدل الشَّيء من الشَّيء وهو هو.
الثالث : أنه بدل منه على حذف مضاف من الأول، تقديره : أنزل ذا ذكر رسولاً.
الرابع : كذلك، إلا أن «رسولاً » نعت لذلك المحذوف.
الخامس : أنه بدل منه على حذف مضاف، أي ذكراً ذا رسول.
السادس : أن يكون «رَسُولاً » نعتاً ل «ذِكْراً » أو على حذف مضاف، أي : ذكراً ذا رسول، و «ذا » رسول نعتاً ل «ذِكْراً ».
السابع : أن يكون «رسولاً » بمعنى رسالة، فيكون «رسولاً » بدلاً صريحاً من غير تأويل، أو بيناً عند من يرى جريانه في النكرات كالفارسي، إلا أن هذا يبعده قوله «يَتْلُو عَلَيْكُم » لأن الرسالة لا تتلو إلا بمجاز.
الثامن : أن يكون «رَسُولاً » منصوب بفعل مقدر، أي : أرسل رسولاً، لدلالة ما تقدَّم عليه.
قال البغوي٣ : كأنه قيل : أنزل إليكم قرآناً وأرسل رسولاً.
وقيل : مع رسول.
التاسع : أن يكون منصوباً على الإغراء : أي : اتبعوا وألزموا رسولاً هذه صفته.
فصل في قوله : رسولاً
اختلف الناس في «رسولاً »، هل هو النبي صلى الله عليه وسلم أو القرآن نفسه أو جبريل.
قال الزمخشري٤ :«هو جبريل أبدل من " ذكرا " ً لأنه وصف بتلاوة آيات الله، فكان إنزاله في معنى إنزال الذِّكر، فصح إبداله منه ».
قال أبو حيَّان٥ :«ولا يصحّ هذا لتباين المدلولين بالحقيقة، ولكونه لا يكون بدل بعض، ولا بدل اشتمال ». انتهى.
قال شهاب الدين٦ :«وهذا الذي قاله الزمخشري سبقه إليه الكلبي، وأما اعتراضه عليه، فغير لازم ؛ لأنه بولغ فيه حتى جعل نفس الذكر كما تقدم بيانه ».
وقرئ٧ :«رسول » بالرفع على إضمار مبتدأ، أي : هو رسول.
وقيل : الذكر هنا الشَّرف كقوله تعالى :﴿ لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ ﴾ [ الأنبياء : ١٠ ] وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾ [ الزخرف : ٤٤ ] ثم بين الشرف فقال :«رَسُولاً »، والأكثر على أن المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الكلبي : هو جبريل، فيكونان جميعاً منزلين٨.
قوله :﴿ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ الله ﴾. نعت ل «الرسول »، و «آيَاتِ اللَّهِ » القرآن. و «مبيِّنَاتٍ » قرأ العامة : بفتح الياء، أي : يبينها الله، وبها قرأ ابن عباس، وهي اختيار أبي عبيد، وأبي حاتم، لقوله تعالى :﴿ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ ﴾ [ آل عمران : ١١٨ ].
وقرأ ابن عامر، وحفص، وحمزة، والكسائي : بكسرها، أي : يبين لكم ما تحتاجون إليه من الأحكام.
قوله :﴿ لِّيُخْرِجَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنَ الظلمات إِلَى النور ﴾. الجار متعلق إما ب «أنزل » وإما ب «يتلو ».
وفاعل «يخرج » إما ضمير الباري - تعالى - المنزل، أو ضمير الرسُول، أو الذكر.
والمراد بالذين آمنوا من سبق له ذلك في علم الله.
وقوله :﴿ مِنَ الظلمات إِلَى النور ﴾. أي : من الكفر إلى الهدى والإيمان.
قال ابن عباس : نزلت في مؤمني أهل الكتاب، وأضاف الإخراج إلى الرسُول ؛ لأن الإيمان إنما حصل بطاعته٩.
قوله :﴿ وَمَن يُؤْمِن ﴾. هذا أحد المواضع التي رُوعي فيها اللفظ أولاً ثم المعنى ثانياً، ثم اللفظ آخراً.
قوله :﴿ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ ﴾ قرأ نافع وابن عامر١٠ : بالنون، والباقون : بالياء.
وقوله :«خَالِدينَ ». قال بعضهم : ليس قوله «خالدين » فيه ضمير عائد على «من » إنما يعود على مفعول «يُدخِلْهُ » و «خَالِدينَ » حال منه والعامل فيه «يدخله » لا فعل الشَّرط.
هذه عبارة أبي حيَّان١١.
وفيها نظر، لأن «خَالدِينَ » حال من مفعول «يُدْخلهُ » عند القائلين بالقول الأول، وكان إصلاح العبارة أن يقال : حال من مفعول «يُدْخِلهُ » الثاني وهو «جنَّاتٍ ». والخلود في الحقيقة لأصحابها، وكان ينبغي على رأي البصريين أن يقال :«خالدين هم فيها » لجريان الوصف على غير من هو له.
قوله :﴿ قَدْ أَحْسَنَ الله ﴾. حال ثانية، أو حال من الضمير في «خَالِدينَ »، فتكون متداخلة. ومعنى قوله :﴿ قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً ﴾، أي : وسَّع له في الجنَّات.
٢ تقدم..
٣ ينظر: معالم التنزيل ٤/٣٦١..
٤ ينظر: الكشاف ٤/٥٦٠..
٥ ينظر: البحر المحيط ٨/٢٨٢..
٦ ينظر: الدر المصون ٦/٣٣٢..
٧ ينظر: الكشاف ٤/٥٦١، والبحر المحيط ٨/٢٨٣، والدر المصون ٦/٣٣٢..
٨ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١١٤)..
٩ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١١٤)..
١٠ ينظر: إعراب القراءات ٢/٣٧٣، والعنوان ١٩٢، وحجة القراءات ٧٧١٢..
١١ ينظر: البحر المحيط ٨/٢٨٣..
يدّل على كمال قدرته وأنه يقدر على البعث والمحاسبة، ولا خلاف في أن السماوات سبع بعضها فوق بعض بدليل حديث الإسراء وغيره، وقوله: ﴿وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ﴾ يعني سبعاً، واختلف فيهن.
فقال الجمهور: إنها سبع أرضين مطبقاً بعضها فوق بعض بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض وفي كلِّ مكان من خلق الله.
قال القرطبي: والأول أصحّ؛ لأن الأخبار دالة عليه كما روى البخاري وغيره، روى أبو مروان عن أبيه: «أن كعباً حلف له بالله الذي فلق البحر لموسى أن صهيباً حدثه أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها:» اللَّهُمَّ ربَّ السَّمواتِ السَّبعِ ومَا أظْللْنَ، وربَّ الأرضينَ السَّبْعِ وما أقْلَلْنَ، وربَّ الشَّياطينِ وما أضللنَ، وربَّ الرِّياحِ وما أذررْنَ، إنَّا نَسْألُكَ خَيْر هذهِ القريةِ وخَيْرَ أهْلِهَا، ونَعُوذُ بِكَ من شرِّها وشرِّ أهلهَا، ومن شرِّ مَنْ فيهَا «».
وروى مسلم عن سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «مَن ظَلَمَ قِيْدَ شِبْرٍ مِنَ الأرْضِ طُوِّقه يَوْمَ القيامَةِ من سَبْعِ أرضينَ».
قال الماوردي: وعلى أنها سبع أرضين تختص دعوة أهل الإسلام بإهل الأرض العليا ولا يلزم فيمن غيرها من الأرضين وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز، وفي مشاهدتهم السماء واستمدادهم الضوء منها قولان:
أحدهما: أنهم يشاهدون من كل جانب من أرضهم، ويستمدّون الضياء منها، وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة. والثاني: أنهم لا يشاهدون السماء، وأن الله تعالى خلق لهم ضياء يشاهدونه، وهذا قول من جعل الأرض كرة.
وحكى الكلبي عن أبي صالحٍ، عن ابن عباس: أنها سبع أرضين منبسطة ليس بعضها فوق بعض يفرق بينها البحار، وتظل جميعهم السماء، فعلى هذا إن لم يكن لأحد من أهل الأرض وصول إلى أرض أخرى اختصت دعوة الإسلام بأهل هذه الأرض، وإن كان لقوم منهم وصول إلى أرض أخرى، احتمل أن يلزمهم دعوة الإسلام لإمكان الوصول إليهم لأن فصل البحار إذا أمكن سلوكها لا يمنع من لزوم ما عم حكمه، واحتمل ألا يلزمهم دعوة الإسلام؛ لأنها لو لزمتهم لكان النصُّ بها وارداً، ولكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مأموراً بها.
قال بعض العلماء: السماء في اللغة عبارة عما علاكَ، ففلك القمر بالنسبة إلى السماء الثانية أرض، وكذلك السماء الثانية بالنسبة إلى الثالثة أرض وكذلك البقية بالنسبة
قوله: ﴿مِثْلَهُنَّ﴾. قرأ العامَّة: بالنصب، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه عطف على سبع سموات. قاله الزمخشري.
واعترض عليه أبو حيَّان بلزوم الفصل بين حرف العطف، وهو على حرف واحد وبين المعطوف بالجار والمجرور، وهو مختص بالضرورة عند أبي علي.
قال شهاب الدين: وهذا نظير قوله: ﴿آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً﴾ [البقرة: ٢٠١] عند ابن مالك، وتقدم تحريره في سورة البقرة والنساء، وهو عند قوله: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس﴾ [النساء: ٥٨]، ﴿وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ [هود: ٧١].
والثاني: أنه منصوب بمقدر بعد الواو، أي: خلق مثلهن من الأرض.
واختلف الناس في المثليَّة.
فقيل: مثلها في العدد.
وقيل: في بعض الأوصاف؛ فإن المثليَّة تصدق بذلك، والأول المشهور.
وقرأ عاصم في رواية: «مثلُهنَّ» بالرفع على الابتداء، والجار قبله خبره.
قوله: ﴿يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ﴾.
يجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون نعتاً لم قبله. قاله أبو البقاء.
وقرأ أبو عمرو في رواية، وعيسى: «يُنَزِّلُ» بالتشديد، أي: الله، «الأمْرَ» مفعول به. والضميرُ في «بَيْنَهُنَّ» عائد على «السَّماواتِ والأرضين» عند الجمهور، أو على السمواتِ والأرض عند من يقول: إنها أرض واحدة.
وقوله: ﴿لتعلموا﴾ : متعلق ب «خَلَقَ» أو ب «يَتَنَزَّل».
والعامة: «لتعْلَمُوا» بتاء الخطاب، وبعضهم بياء الغيبة.
فصل في تفسير الآية
قال مجاهدٌ: يتنزل الأمرُ من السماوات السبع إلى الأرضين السبع.
وقال الحسنُ: بين كل سماءين أرض وأمر.
وقيل: الأمر هنا القضاء والقدر، وهو قول الأكثرين، فعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى: ﴿بَيْنَهُنَّ﴾ إشارة إلى ما بين الأرض السُّفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها.
وقيل: ﴿يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ﴾ بحياة بعض، وموت بعض، غِنَى قوم، وفقر قوم.
وقيل: ما يُدَبِّرُ فيهن من عجيب تدبيره، فينزل المطرُ، ويخرج النبات، ويأتي بالليل والنهار والصيف والشتاء، ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيئاتها فينقلهم من حال إلى حال.
قال ابن كيسان: وهذا على اتساعِ اللغةِ، كما يقال للموت: أمر اللَّهِ، وللريح والسَّحاب ونحوهما.
قال قتادةُ: في كل أرض من أرضه، وسماء من سمائه خلق من خلقه، وأمر من أمره وقضاء من قضائه.
﴿لتعلموا أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، أي: من قدر على هذا الملك العظيم، فهو على ما بينهما من خلقه أقدر من العفو، والانتقام أمكنُ، وإن استوى كل ذلك في مقدوره ومكنته، ﴿وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَا﴾، فلا يخرج شيء عن علمه وقُدرته.
ونصب «عِلْماً» على المصدر المؤكد؛ لأن «أحَاطَ» بمعنى «عَلِمَ».
وقيل: بمعنى: وأن الله أحاط إحاطة.
روى الثعلبيُّ عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسول الله: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورَةَ ﴿يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء﴾ ماتَ علَى سُنَّةِ رسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ».