" بسم الله " اسم من لا سبيل إلى وصاله، ولا غنية – عن فعاله، اسم من علمه وقع في كل سكون وراحة، اسم من عرفه وقع في كل اضطراب وإطاحة، العلماء بسراب علمهم استقلوا فاستراحوا، والعارفون بسلطان حكمه اصطلموا عن شواهدهم. . . فبادوا وطاحوا.
ﰡ
الطلاقُ - وإنْ كان فراقاً - فلم يجعله الحقُّ محظوراً. . . وإن كان من وجهٍ مكروهاً.
وللطلاق وقتية : سُنِّية وبِدْعية، ومباحة، لا سنية ولا بدعية ؛ فالسنية : أَنْ تطلَّقَ في طُهْرٍ لم تُباشَر فيه طلقةً واحدة، والبدعية : في حال الحيض وطُهْرٍ جُومعت فيه، والمباحة : في طهر بعد حيض ثم يطلقها من قبل أن يجامعها - والطلاق أكثر من واحدة.
والعِدَّةُ - وإن كانت في الشريعة لتحصين ماء الزوج محاماةً على الأنساب لئلا يدخل على ماء الزوج ماءُ آخر - فالغالبُ والأقوى في معناها أنها للوفاء للصحبة الماضية في وصلة النكاح.
والإشارة في الآيات التالية إلى أنه بعد أن انتهت الوصلة فلا أقلَّ من الوفاء مدةً لهذه الصغيرة التي لم تحِضْ، وهذه الآيسة من الحيض، وتلك التي انقطع حَيْضُهَا، والحُبْلَى حتى تلد. . كل ذلك مراعاةً للحرمة : وعِدَّةُ الوفاة تشهد على هذه الجملة في كونها أطول ؛ لأن حُرْمَة الميت أعظم وكذلك الإمداد في أيام العِدَّة. . . المعنى فيه ما ذكرنا من مراعاة الوفاء والحرمة.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾.
العبوديةُ : الوقوف عند الحدِّ، لا بالنقصان عنه ولا بالزيادة عليه، ومَنْ راعى مع اللَّهِ حَدَّه أخلص اللَّهُ له عَهْدَه. . .
﴿ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ﴾.
قالوا : أراد نَدَماً، وقيل : وَلَداً، وقيل : مَيْلاً إليها، أولها إليه ؛ فإن القلوبَ تتقلب :
والإشارة في إباحة الطلاق إلى أنه إذا كان الصبرُ مع الأشْكال حقّا للحرمة المتقدمة فالخلاصُ من مُسَاكنة الأمثال، والتجرُّدُ لعبادة الله تعالى أوْلَى وأحَقُّ.
إذا صَدَقَ العبدُ في تقواه أخرجه من بين أشغاله كالشعرة تُخْرَجُ من بين العجِين لا يَعْلَقُ بها شيءٌ. ويضربُ الله تعالى على المُتَّقِي سرادقاتِ عنايته، ويُدْخِلُه في كنف الإيواء، ويَصْرِفُ الأشغال عن قلبه، ويُخْرِجُه من ظلمات تدبيره، ويُجَرِّدُه من كل أمر، وينقله إلى فضاء تقديره.
لم يقل : ومَنْ يتوكل على الله فتوكُّلُه حَسْبُه، بل قال :﴿ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ ؛ أي فاللَّهُ حَسْبُه أي كافيه.
﴿ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ﴾.
إذا سَبَقَ له شيءٌ من التقدير فلا محالةَ يكون، وبتَوَكُّله لا يتغير المقدور ولا يستأخر، ولكنَّ التوكَّل بنيانه على أنْ يكون العبدُ مُرَوَّحَ القلب غيرَ كارهٍ. . . وهذا من أَجَلِّ النِّعم.
﴿ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ﴾.
التوكلُ : شهود نَفْسِك خارجاً عن المُنَّة تجري عليكَ أحكامُ التقديرِ من غير تدبيرٍ منك ولا اطّلاعٍ لكَ على حُكمِه، وسبيلُ العبدِ الخمودُ والرضا دونَ استعلام الأمر، وفي الخبر :" أعوذ بك من عِلْمٍ لا ينفع " : ومن العلم الذي لا ينفع - ويجب أَنْ تستعيذَ منه - أن يكون لك شُغْلٌ أو يستقبلك مُهِمٌّ من الأمر ويشتبه عليك وجهُ التدبيرِ فيه، وتكون مُطَالَباً بالتفويض - فَطَلبُكَ العلم وتمنِّيكَ أَنْ تعرفَ متى يصلح هذا الأمرُ ؟ ولأي سبَبٍ ؟ ومِنْ أيِّ وجهٍ ؟ وعلى يد مَنْ ؟. . . كل هذا تخليطٌ، وغيرُ مُسَلَّمٍ شيءٌ منه للأكابر.
فيجب عليك السكونُ، وحُسْنُ الرضا. حتى إذا جاء وقتُ الكَشْف فسترى صورة الحال وتعرفه، وربما ينتظر العبدُ في هذه الحالة تعريفاً في المنام أو ينظر في (. . . ) من الجامع، أو يرجو بيان حاله بأن يجري على لسان مستنطق في الوقت. . . كلُّ هذا ترْكٌ للأدب، واللَّهُ لا يَرْضى بذلك من أوليائه، بل الواجبُ السكونُ.
إذا اتسع رزقُ العبد فعلى قَدْرِ المُكنَةِ يُطَالَبُ بالإعطاء والنفقة فمن قدر عليه رزقه - أي ضيِّق - فلينفق مما آتاه الله أي من متاع البيت، ومن رأسِ المال - إن لم يكن من الربح، ومن ثمنِ الضيعة - إن لم يكن من الغَلَّة.
ومَنْ ملك ما يكفيه للوقت، ثم اهتمَّ بالزيادة للغد فذلك اهتمامٌ غيرُ مرضيٍّ عنه، وصاحبُه غير مُعَان. فأمَّا إذا حصل العجزُ بكلِّ وجهٍ، فإن الله تعالى :﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا ﴾ وسيجعل الله بعد عسرٍ يسراً. هذا من أصحاب المواعيد - وتصديقه على حسب الإيمان، وذلك على قَدْرِ اليقين- ويقينه على حسب القِسْمة. وانتظارُ اليُسْرِ من اللَّهِ صفةً المتوسطين في الأحوال، الذين انحطُّوا عن حدِّ الرضا واستواءِ وجودِ السبب وفَقْدِه، وارتقوا عن حدِّ اليأس والقنوط، وعاشوا في أفياء الرجال يُعَلِّلون بحُسْنِ المواعيد. . . وأبداً هذه حالتهم وهي كما قلنا :
إنْ نَابَكَ الدهرُ بمكروهه | فعِشْ بتهوين تصانيفه |
فَعنْ قريبٍ ينجلي غَيْمُه | وتنقضي كلُّ تصاريفه |
مَنْ زرع الشوكَ لم يَجْن الوردَ، ومَنْ أضاع حقَّ اللَّهِ لا يُطَاع في حظِّ نَفْسه. ومن اجترأ بمخالفةِ أمرِ الله فليصبِر على مقاساة عقوبة الله.
إنَّ كتابَ الله فيه تبيانٌ لكلِّ شيءٍ. . . فَمَنْ استضاءَ بنوره اهتدى، ومَنْ لجأ إلى سعة فنائه وَصَلَ من داءِ الجهل إلى شِفائه.
ومَنْ يؤمِنْ بالله، ويعملْ صالحاً لله، وفي الله، فله دوامُ النُّعمى من الله. . . قال تعالى :
﴿ قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً ﴾.
والرزقُ الحسنُ ما كان على حدِّ الكفاية ؛ لا نقصانَ فيه تتعطَّلُ الأمورُ بسببه، ولا زيادةَ فيه تَشْغَلُه عن الاستمتاع بما رُزِق لِحْرصِه.
كذلك أرزاقُ القلوبِ. أحسنُها أن يكون له من الأحوال ما يشتغل به في الوقت ؛ من غير نقصانٍ يجعله يتعذَّّب بتعَطُّشِه، ولا تكون فيه زيادة فيكون على خَطَرٍ من مغاليطَ لا يَخْرُجُ منها إلاَّ بتأييدٍ سماويٍّ من الله.
خَلَقَ سبعَ سماواتٍ، وخَلَقَ ما خَلَقَ وهو مُحِقٌّ فيما خَلَقَ وأمر، حتى نعلم استحقاقَ جلالهِ وكمالَ صفاته، وأنه أمضى فيما قضى حُكماً، وأنه أحاط بكل شيء علماً.