تفسير سورة التكاثر

نظم الدرر
تفسير سورة سورة التكاثر من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ

ولما أثبت في القارعة أمر الساعة، وقسم الناس فيها إلى شقي وسعيد، وختم بالشقي، افتتح هذه بعلة الشقاوة ومبدأ الحشر لينزجر السامع عن هذا السبب ليكون من القسم الأول، فقال ما حاصله: انقسمتم فكان قسم منكم هالكاً لأنه ﴿ألهكم﴾ أي أغفلكم إلا النادر منكم غفلة عظيمة عن الموت الذي هو وحده كاف في البعث على الزهد فكيف بما بعده ﴿التكاثر *﴾ وهو المباهاة والمفاخرة بكثرة الأعراض الفانية من متاع الدنيا: المال والجاه والبنين ونحوها مما هو شاغل عن الله، فكان ذلك موجباً لصرف الهمة كلها إلى الجمع، فصرفكم ذلك إلى اللهو، فأغفلكم
225
عما أمامكم من الآخرة والدين الحق وعن ذكر ربكم وعن كل ما ينجيكم من سخطه، أو عن المنافسة في الأعمال الموصلة إلى أعلى الدرجات بكثرة الطاعات، وذلك كله لأنكم لا تسلمون بما غلب عليكم من الجهل الذي سببه شهوة النفس وحب الراحة فخفت موازينكم، وحذف هذا الشيء الملهو عنه لتعظيمه والدلالة على أنه ليس غيره مما يؤسف على اللهو عنه.
ولما كانوا ينكرون البعث، ويعتقدون دوام - الإقامة في القبور، عبر بالزيارة إشارة إلى أن البعث لا بد منه ولا مرية فيه، وأن اللبث في البرزخ وإن طال فإنما هو كلبث الزائر عند مزوره في جنب الإقامة بعد البعث في دار النعيم أو غار الجحيم، وأن الإقامة فيه محبوبة للعلم بما بعده من الأهوال والشدائد والأوجال، فقال: ﴿حتى﴾ أي استمرت مباهاتكم ومفاخرتكم إلى أن ﴿زرتم المقابر *﴾ أي بالموت والدفن، فكنتم فيها عرضة للبعث لا تتمكنون من عمل ما ينجيكم لأن دار العمل فاتت كما أن الزائر ليس بصدد العلم عند المزور، لا يمكثون بها إلا ريثما يتكمل المجموعون بالموت كما أن الزائر معرض للرجوع
226
إلى داره وحل قراره، فلو لم يكن لكم وازع عن الإقبال على الدنيا إلا الموت لكان كافياً فكيف والأمر أعظم من ذلك؟ فإن الموت مقدمة من مقدمات العرض، قال أبو حيان: سمع بعض الأعراب الآية فقال: بعث القوم للقيامة ورب الكعبة، فإن الزائر منصرف لا مقيم، وروى ابن أبي الدنيا عن عمر بن عبد العزيز أنه قرأها ثم قال: ما أرى المقابر إلا زيارة، ولا بد لمن زار أن يرجع إلى بيته، إما إلى الجنة أو إلى النار.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تقدم ذكر القارعة وعظيم أهوالها، أعقب بذكر ما شغل وصد عن الاستعداد لها وألهى عن ذكرها، وهو التكاثر بالعدد والقرابات والأهلين فقال: ﴿ألهاكم التكاثر﴾ وهو في معرض التهديد والتقريع وقد أعقب بما يعضد ذلك وهو قوله ﴿كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون﴾ ثم قال: ﴿كلا لو تعلمون علم اليقين﴾ وحذف جواب «لو» والتقدير: لو تعلمون علم اليقين لما شغلكم التكاثر، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً» الحديث، وقوله تعالى «لترون الجحيم» جواب لقسم مقدر أي والله لترون الجحيم، وتأكد بها التهديد وكذا ما بعد
227
إلى آخر السورة - انتهى.
ولما كان الاشتغال بالتكاثر في غاية الدلالة على السفه لأن من المعلوم قطعاً أن هذا الكون على هذا النظام لا يكون إلا بصانع حكيم، وكان العقلاء المنتفعون بالكون في غاية التظالم، وكان الحكيم لا يرضى أصلاً أن يكون عبيده يظلم بعضهم بعضاً ثم لا يحكم بينهم ولا ينظر في مصالحهم علم قطعاً أنه يبعثه ليحكم بينهم لأنه كما قدر على إبدائهم يقدر على إعادتهم، وقد وعد بذلك وأرسل به رسله وأنزل به كتبه، فثبت ذلك ثبوتاً لا مرية فيه ولا مزيد عليه، وكان الحال مقتضياً لأن يردع غاية الردع من أعرض عما يعنيه وأقبل على ما لا يعنيه، فقال سبحانه معبراً بأم الروادع، وجامعة الزواجر والصوادع: ﴿كلا﴾ أي ارتدعوا أتم ردع وانزجروا أعظم زجر عن الاشتغال بما لا يجدي، فإنه ليس الأمر كما تظنون من أن الفخر في المكاثرة بالأعراض الدنيوية ولم تخلقوا لذلك، إنما خلقتم لأمر عظيم، فهو الذي يهمكم فاشتغلتم عنه بما لا يهمكم - فكنتم لاهين كمن كان يكفيه كل يوم درهم فاشتغل بتحصيل أكثر، وكذا من ترك المهم من التفسير واشتغل بالأقوال الشاذة أو ترك المهم من الفقه واشتغل بنوادر الفروغ وعلل النحو وغيرها وترك
228
ما هو أهم منه مما لا عيش له إلا به.
ولما كان الردع لا يكون إلا عن ضار يجر وبالاً وحسرة، دل على ذلك بقوله استئنافاً: ﴿سوف﴾ أي بعد مهلة طويلة يتذكر فيها من تذكر ﴿تعلمون *﴾ أي يتجدد لكم العلم بوعد لا خلف فيه بما أنتم عليه من الخطإ عند معاينة ما يكشفه الموت ويجر حزنه الفوت من عاقبة ذلك ووباله.
ولما كان من الأمور ما لو شرح شأنه على ما هو عليه لطال وأدى إلى الملال، دل على أن شرح هذا الوعيد مهول بقوله مؤكداً مع التعبير بأداة التراخي الدالة على علو الرتبة: ﴿ثم كلا﴾ أي ارتدعوا ارتداعاً أكبر من ذلك لأنه ﴿سوف تعلمون *﴾ أي يأتيكم العلم من غير شك وإن تأخر زمنه يسيراً بالبعث.
ولما كان هذا أمراً صادعاً، أشار إلى أنه يكفي هذه الأمة المرحومة التأكيد بمرة، فقال مردداً للأمر بين تأكيد الردع ثالثاً بالأداة الصالحة له ولأن تكون لمعنى - حقاً كما يقوله ائمة القراءة: ﴿كلا﴾ أي - ليشتد ارتداعهم عن التكاثر فإنه أساس كل بلاء فإنكم ﴿لو تعلمون﴾ أيها المتكاثرون.
ولما كان العلم قد يطلق على الظن رفع مجازه بقوله: ﴿علم اليقين *﴾ أي لو يقع لكم علم على - وجه اليقين
229
مرة من الدهر لعلمتم ما بين أيديكم، فلم يلهكم التكاثر ولضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون - فحذف هذا الجواب بعد حذف المفعول للتفخيم فهو إشارة إلى أنه لا يقين غيره، والمعنى أن أعمالكم أعمال من لا يتيقنه، قال الرازي: واليقين مركب الأخذ في هذا الطريق، وهو غاية درجات العامة، وأول خطوة الخاصة، قال عليه الصلاة والسلام: «خير ما ألقي في القلب اليقين» وعلم قبول ما ظهر من الحق وقبول ما غاب للحق والوقوف على ما قام بالحق، والآية من الاحتباك: ذكر الإلهاء أولاً وحذف سببه وهو الجهل لدلالة الثاني عليه، وذكر ثانياً العلم الذي هو الثمرة وحذف ما يتسبب عنه من عدم اللهو الذي هو ضد الأول، وزاد في التفخيم لهذا الوعيد بإيضاح المتوعد به بعد إبهامه مع قسم دل عليه بلامه، فقال: ﴿لترون﴾ أي بالمكاشفة وعزتنا، ولا يصح أن يكون هذا جواباً لما قبله لأنه محقق ﴿الجحيم *﴾ أي النار التي تلقى المعذبين بها بكراهة وتغيظ وعتو وشديد توقد، فالمؤمن يراها وينجو منها سواء خالطها أم لا والكافر يخلد فيها.
ولما كان هذا توعداً على التكاثر لأنه يقتضي الإعراض عن الآخرة
230
فيوقع في غمرات البلايا الكبار، أكد فقال مفخماً له بحرف التراخي: ﴿ثم لترونها﴾ وعزة الله، ورقي العلم عن رتبة الأول فقط فقال تعالى: ﴿عين اليقين *﴾ أي الرؤية التي هي نفس اليقين، وذلك هو المعاينة بغاية ما يكون من صفاء العلم لكونه لا ريبة فيه فإن المشاهدة أعلى أنواع العلم، قال الرازي: وهو المغني بالاستدراك عن الاستدلال، وعن الخبر بالعيان، وخرق الشهود حجاب - العلم - انتهى. ويجوز أن يكون هذا الثاني بالملامسة والدخول، فالمؤمن وارد والكافر خالد.
ولما كان من أهول الخطاب التهديد برؤية العذاب، زاد في التخويف بأنه لأجل أن يكون ما يعذب به العاصي عتيداً، فإذا أوجب السؤال النكال كان حاضراً لا مانع من إيقاعه في الحال، ولو لم يكن حاضراً كان لمن استحقه في مدة إحضاره محال، فقال مفخماً بأداة التراخي: ﴿ثم﴾ أي بعد أمور طويله عظيمة مهولة جداً ﴿لتسئلن﴾ وعزتنا ﴿يومئذ﴾ أي إذ ترون الجحيم ﴿عن النعيم *﴾ أي الذي أداكم التكاثر إليه حتى عن الماء البارد في الصيف والحار في
231
الشتاء هل كان استمتاعكم به على وجه السرف لإرادة الترف أو كان لإرادة القوة للنشأة إلى الخير فلم يخرج عن السرف، فالمؤمن المطيع يسأل سؤال تشريف، والعاصي يسأل سؤال توبيخ وتأفيف، ولام النعيم قد تكون لمطلق الجنس وإليه يشير حديث أبي هرير رضي الله عنه عند الترمذي وغيره أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضاف أبا الهيثم بن التيهان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فأطعمهم بسراً ورطباً وسقاهم ماء بارداً وبسط لهم بساطاً في ظل، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إن هذا من النعيم الذي تسألون عنه: ظل بارد ورطب طيب وماء بارد» وقد يكون للكمال فيكون من أعلام النبوة كما في حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه عند أحمد من وجه حسن إن شاء الله أنهم قالوا عند نزولها: أي نعيم وإنما هما الأسودان: التمر والماء، وسيوفنا على رقابنا والعدو حاضر، قال: «إن ذلك سيكون» له شاهد عند الطبراني عن ابن الزبير رضي الله عنهما، وعند الطبراني أيضاً عن الحسن البصري مرسلاً، فقد التحم آخرها بأولها على وجه هو من ألطف الخطاب، وأدق المسالك في النهي عما يجر إلى العذاب، لأن العاقل إذا علم أن بين يديه سؤالاً عن كل ما يتلذذ به علم أنه يعوقه
232
ذلك في زمن السؤال عن لذاذات الجنة العوال الغوال، فكان خوفه من مطلق السؤال مانعاً له عن التنعم بالمباح فكيف بالمكروه فكيف ثم كيف بالمحرم؟ فكيف إذا كان السؤال من ملك تذوب لهيبته الجبال؟ فكيف إذا كان السؤال على وجه العتاب؟ فكيف إذا جر إلى العذاب؟ فتأمل كلام خالقك ما ألطف إشاراته وأجل عباراته، في نذاراته وبشاراته - والله أرحم.
233
(سورة العصر)
قال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: إنها سورة لو لم ينزل إلى الناس إلا هي لكفتهم، وهو معنى قول غيره: " إنها شملت جميع علوم القرآن، مقصودها تفضيل نوع الإنسان المخلوق من علق، وبيان خلاصته وعصارته وهم الحزب الناجي يوم السؤال عن زكاء الأعمال بعد الإشارة إلى أضدادهم، والإعلام بما ينجي من الأعمال والأحوال بترك الفاني والإقبال على الباقي لأنه خلاصة اتلكون ولباب الوجود، واسمها العصر واضح في ذلك فإن العصر يخلص روح المعصور ويميز صفاوته، ولذلك كان وقت هذا النبي الخاتم الذي هو خلاصة الخلق وقت العصر، وكانت صلاة العصر أفضل الصلوات، وبيان اشتمالها على علوم القرآن تنزيل جملتها على ما قال الغزالي: إن القرآن كالبحر الذي فيه جزائر
234
بها معادن ستة، منها أربعة مهمة: مهمان منها هما ياقوت أفخر فأحمره للعلم بالله، وأخضره لصفاته، وأزرقه لأفعاله، وزمرد أخضر هو العلم باليوم الآخر وما فيه، ومهمان أولهما در أنضر وهو العلم بالعبادات المقربة إليه سبحانه وتعالى، وثانيهما مسك أذفر، وهو العلم بالعبادات التي بها تهيأ العبادات، ومتمان وهما درياق أكبر وهو العلم بإزاحة الشكوك، والشبه والأوهام لأنها سموم ومهلكة للدين، وعنبر أشهب وهو الاعتبار بمن هلك باجتناب ما كان سبب هلاكه، والاقتفاء بمن نجا باتباع ما كان سبب نجاته، فالجملة الأولى للعنبر لأن فيها شم روائح الهالك وضده الناجي، وبدئ بها لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والجملة الثانية للياقوت بصفاته الثلاث والزمرد، والثالثة للدر والمسك، وهخما عبادات مقصودة، وعادات وسيلة إليها ممدودة، والرابعة للدرياق لأن الشبه والشكوك إنما هي من أوهام عاطلة وخيالات باطلة، والخامسة وسيلة إليها ومتمة لها لأن معرفة ذلك واجتنابه لا يكون إلا ببذل الجهد في الصبر) بسم الله (الذي كل شيء هالك إلا وجهه) الرحمن (الذي عم بالنعمة البر والفاجر فليس شيء شبهه) الرحيم (الذي خص بإتمام النعمة أولياءه، فكانوا للدهر غرة ولأهله جبهة.
235
Icon