مقصودها إنذار الكفار بهذا الكتاب السار للأبرار بدخول الجنة والنجاة من النار، واسمها السجدة منطبق على ذلك بما دعت إليه [ آيتها ٢ ] من الإخبات وترك الاستكبار، و [ كذا ٣ ] تسميتها بالم تنزيل فإنه مشير إلى تأمل جميع السورة، فهو٤ في غاية الوضوح في هذا المقصود ﴿ بسم الله ﴾ ذي الجلال والإكرام العزيز الغفار ﴿ الرحمن ﴾ بعموم البشارة والنذارة ﴿ الرحيم ﴾ الذي أسكن٥ في قلوب أحبابه الشوق إليه والخشوع بين يديه ﴿ الم ﴾ تقدم في البقرة وغيرها شيء من أسرار هذه الأحرف، ومما٦ لم يسبق أنها إشارة إلى أن الله المحيط في علمه وقدرته وكل شأنه أرسل جبرائيل عليه السلام إلى محمد الفاتح الخاتم صلى الله عليه وسلم بكتاب معجز دال بإعجازه على صحة رسالته، ووحدانية من أرسله، وعدله في العاصين، وفضله على المطيعين، وسرد سبحانه هذه الأحرف في أوائل أربع من هذه السور، فزادت على الطواسين بواحدة، وذلك بقدر٧ العدد الذي يؤكد به، وزيادة مبدأ العدد إشارة إلى أن التكرير لم يرد به مطلق التأكيد، بل دوام التكرير، إشارة إلى أن هذه المعاني في غاية الثبات لا انقطاع لها ٨والله الهادي٩.
ولما كان المقصود في التي قبلها إثبات الحكمة لمنزل هذا الكتاب الذي ١٠هو بيان١١ كل شيء الملزوم لتمام١٢ العلم وكمال الخبرة الذي١٣ ختمت به بعد أن أخبر أنه سبحانه مختص بعلم المفاتيح بعد أن أنذر بأمر١٤ الساعة، فثبت بذلك وما قبله أنه ما أثبت شيئا فقدر١٥ غيره من أهل الكتاب ولا غيرهم على نفيه، ولا نفي شيئا١٦ فقدر غيره على إثباته ولا إثبات شيء منه، كانت١٧ نتيجة ذلك أنه لا يكون شيء من الأشياء دقيقها وجليلها إلا يعلمه سبحانه وتعالى، وأجل ذلك١٨ إنزال هذا الذكر الحكيم الذي١٩ فيه إثبات هذه العلوم مع شهادة العجز عن معارضته٢٠ له بأنه من عند الله، فلذلك قال :﴿ تنزيل الكتاب ﴾ أي الجامع لكل هدى على ما ترون من التدريج من السماء ﴿ لا ريب فيه ﴾ أي في كونه من السماء لأن نافي الريب ومميطه وهو الإعجاز معه لا ينفك عنه، فكل ما يقولونه مما يخالف ذلك تعنت أوجهل من غير ريب، حال كونه ﴿ من رب العالمين ﴾ أي الخالق لهم المدبر لمصالحهم، فلا يجوز في عقل ولا يخطر في بال ولا يقع في وهم ولا يتصور في خيال [ ٢١ أنه يترك خلقه وهو المدبر الحكيم من غير كتاب يكون سبب إبقائهم أو ] أن٢٢ يصل شيء ٢٣من كتابه٢٤ إلى هذا النبي الكريم بغير أمره، فلا يتخيل أن٢٥ شيئا منه ليس بقول الله، ثم لا يتخيل أنه كلامه تعالى ولكنه أخذه من بعض أهل الكتاب، لأن هذا لا يفعل مع ملك فكيف يملك الملوك، فكيف بمن هو عالم بالسر والجهر، محيط عليه بالخفي والجلي٢٦، فلو ادعى عليه أحد ما لم يأذن فيه لما أيده بالمعجزات.
ولما أقره على ذلك المدد المتطاولات، ولاسيما إعجاز كل ما ينسبه إليه بالمعجزات، و٢٧يدعيه عليه، و٢٨هذا غاية ما في آل عمران كما كان أول لقمان غاية أول القرآن المطلق، وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما انطوت سورة الروم على ما قد أشير إليه من التنبيه بعجائب ما أودعه سبحانه في عالم السماوات والأرض، وعلى ذكر الفطرة، ثم اتبعت بسورة لقمان تعريفا بأن مجموع تلك الشواهد من آيات الكتاب وشواهده ودلائله، وأنه قد ٢٩هدى من شاء٣٠ إلى سبيل الفطرة وإن لم يمتحنه بما امتحن به كثيرا ممن ذكر، فلم يغن عنه ودعى فلم يجب، وتكررت عليه الإنذارات فلم يصغ [ لها ٣١ ] لأن٣٢ كل ذلك من الهدى والضلال واقع بمشيئته وسابق إرادته، واتبع سبحانه ذلك بما ينبه المعتبر على صحته فقال " ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى " فأعلم سبحانه أن الخلاص والسعادة في الاستسلام له٣٣ ولما يقع من أحكامه، وعزى نبيه صلى الله عليه وسلم وصبره بقوله :﴿ ومن كفر فلا يحزنك كفره ﴾ ثم ذكر تعالى لجأ الكل قهرا ورجوعا بحاكم اضطرارهم لوضوح الأمر إليه تعالى فقال ﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ﴾ ثم وعظ تعالى الكل بقوله :" ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة " أي أن ذلك لا يشق عليه سبحانه وتعالى ولا يصعب، والقليل والكثير سواء، ثم نبه بما يبين ذلك من إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل وجريان الفلك بنعمته ﴿ ذلك بأن الله هو الحق ﴾، ثم أكد ما تقدم من رجوعهم في الشدائد إليه فقال :﴿ وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين ﴾ فإذا خلصهم / سبحانه ونجاهم عادوا٣٤ إلى سيئ أحوالهم، هذا وقد عاينوا رفقه بهم وأخذه عند الشدائد بأيديهم وقد اعترفوا بأنه خالق السماوات والأرض ومسخر٣٥ الشمس ٣٦والقمر٣٧، وذلك شاهد من حالهم بجريانهم على [ ما ٣٨ ] قدر لهم ووقوفهم عند حدود السوابق ﴿ ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى ﴾ ثم عطف سبحانه على الجميع فدعاهم إلى تقواه، وحذرهم يوم المعاد وشدته، وحذرهم من الاغترار، وأعلمهم أنه المتفرد بعلم٣٩ الساعة، وإنزال الغيث، وعلم ما في الأرحام، وما يقع من المكتسبات، وحيث يموت كل من المخلوقات، فلما كانت سورة لقمان بما بين من مضمنها محتوية من٤٠ التنبيه والتحريك على ما ذكر، ومعلمة بانفراده سبحانه بخلق الكل وملكهم٤١ اتبعها تعالى بما يحكم بتسجيل صحة الكتاب، وأنه من عنده وأن ما انطوى عليه من الدلائل والبراهين يرفع كل ريب، ويزيل كل شك، فقال :﴿ الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك ﴾.
٢ زيد من ظ وم ومد، إلا أن في الأولى: آياتها..
٣ زيد من ظ وم ومد..
٤ في ظ: فهي..
٥ من ظ وم ومد، وفي الأصل: سكن..
٦ في ظ: ما..
٧ في ظ: مقدار..
٨ سقط ما بين الرقمين من ظ وم ومد..
٩ سقط ما بين الرقمين من ظ وم ومد..
١٠ في ظ وم ومد: فيه تبيان..
١١ في ظ وم ومد: فيه تبيان..
١٢ من م ومد، وفي الأصل وظ: بتمام..
١٣ في ظ: التي..
١٤ في ظ: يعلم..
١٥ من م ومد، وفي الأصل وظ: لقدر..
١٦ من ظ وم ومد، وفي الأصل: شيء..
١٧ من ظ وم ومد، وفي الأصل: كان..
١٨ من ظ وم ومد، وفي الأصل: شيء..
١٩ سقط من ظ..
٢٠ من ظ وم ومد، وفي الأصل: معارضة..
٢١ زيد من ظ وم ومد..
٢٢ في ظ ومد: أنه..
٢٣ من ظ ومد، وفي الأصل وم: منه..
٢٤ من ظ ومد، وفي الأصل وم: منه..
٢٥ سقط من ظ..
٢٦ من ظ وم ومد، وفي الأصل: الجليل..
٢٧ سقط من ظ وم ومد..
٢٨ سقط من ظ..
٢٩ في ظ: يهدي من يشاء..
٣٠ في ظ: يهدي من يشاء..
٣١ زيد من ظ وم ومد..
٣٢ في ظ ومد: أن..
٣٣ سقط من ظ..
٣٤ في ظ: عاد..
٣٥ من م ومد، وفي الأصل وظ: سخر..
٣٦ سقط ما بين الرقمين من ظ ومد..
٣٧ سقط ما بين الرقمين من ظ ومد..
٣٨ زيد من ظ وم ومد..
٣٩ من م ومد، وفي الأصل وظ: بعلمي..
٤٠ في ظ: على..
٤١ في ظ ومد: هلكهم..
ﰡ
ولما كان هذا الذي قدمه أول السورة على هذا الوجه برهاناً ساطعاً ودليلاً قاطعاً على أن هذا الكتاب من عند الله، كان - كما حكاه البغوي والرازي في اللوامع - كأنه قيل: هل آمنوا به؟ ﴿أم يقولون﴾ مع ذلك الذي لا يمترئ فيه عاقل ﴿افتراه﴾ أي تعمد كذبه.
ولما كان الجواب: إنهم ليقولون: افتراه، وكان جوابه: ليس هو مفتري لما هو مقارن له من الإعجاز، ترتب عليه قوله: ﴿بل هو الحق﴾ أي الثابت ثباتاً لا يضاهيه ثبات شيء من الكتب قبله، كائناً ﴿من ربك﴾ المحسن إليك بإنزاله وإحكامه، وخصه بالخطاب إشارة إلى أنه لا يفهم
ولما ذكر سبحانه إحسانه إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صريحاً، أشار بتعليله إلى إحسانه به أيضاً إلى كافة العرب، فقال مفرداً النذارة لأن المقام له بمقتضى ختم لقمان: ﴿لتنذر قوماً﴾ أي ذوي قوة جلد ومنعة وصلاحية للقيام بما أمرهم به ﴿ما أتاهم من نذير﴾ أي رسول في هذه الإزمان القريبة لقول ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد الفترة، ويؤيده إثبات الجار في قوله: ﴿من قبلك﴾ أي بالفعل شاهدوه أو شاهده آباؤهم. وإما بالمعنى والقوة فقد كان فيهم دين إبراهيم عليه السلام إلى أن غيّره عمرو بن لحي، وكلهم كان يعرف ذلك وأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يعبد صنماً ولا استقسم بالأزلام، وذلك كما قال تعالى:
﴿وإن من أمة إلا خلا فيها نذير﴾ [فاطر: ٢٤] أي شريعته ودينه، والنذير ليس مخصوصاً بمن باشر - نبه على ذلك أبو حيان. ويمكن أن يقال: ما أتاهم من ينذرهم على خصوص ما غيروا من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأما إسماعيل ابنه عليه السلام فكان بشيراً لا نذيراً، لأنهم ما خالفوه، وأحسن من ذلك كله ما نقله البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما ومقاتل أن ذلك
ولما ذكر علة الإنزال، أتبعها علة الإنذار فقال: ﴿لعلهم يهتدون*﴾ أي ليكون حالهم في مجاري العادات حال من ترجى هدايته إلى كمال الشريعة، وأما التوحيد فلا عذر لأحد فيه بما أقامه الله من حجة العقل مع ما أبقته الرسل عليهم الصلاة والسلام آدم فمن بعده من واضح النقل بآثار دعواتهم وبقايا دلالاتهم، ولذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن سأله عن أبيه: «أبي وأبوك في النار» وقال: «لا تفتخروا بآبائكم الذين مضوا في الجاهلية فوالذي نفسي بيده لما تدحرج الجعل خير منهم» في غير هذا من الأخبار القاضية بأن كل من مات قبل دعوته على الشرك فهو للنار.
ولما كانت هذه الدار مبنية على حكمة الأسباب كما أشير إليه في لقمان، وكان الشيء إذا عمل بالتدرج كان أتقن، قال: ﴿في ستة أيام﴾ كما يأتي تفصيله في فصلت، وقد كان قادراً على فعل ذلك في أقل من لمح البصر، ويأتي في فصلت سر كون المدة ستة.
ولما كان تدبير هذه وحفظه وتعهد مصالحه والقيام بأمره أمراً - بعد أمر إيجاده - باهراً، أشار إلى عظمته بأداة التراخي والتعبير بالافتعال فقال: ﴿ثم استوى على العرش﴾ أي استواء لم يعهدوا مثله وهو أنه أخذ في تدبيره وتدبير ما حواه بنفسه، لا شريك له ولا نائب عنه ولا وزير، كما تعهدون من ملوك الدنيا إذا اتسعت ممالكهم، وتباعدت أطرافها، وتناءت أقطارها، وهو معنى قوله تعالى استئنافاً جواباً لمن كأنه قال: العرش بعيد عنا جداً فمن استنابه في أمرنا، ولذلك لفت الكلام إلى الخطاب لأنه اقعد
ولما كانوا مقرين بأن الخلق خلقه والأمر أمره، عارفين بأنه لا يلي وال من قبل ملك من الملوك إلا بحجة منه يقيمها على أهل البلدة التي أرسل إليها أو ناب فيها، ولا يشفع شفيع فيهم إلا وله إليه وسيلة، تسبب عن ذلك الإنكار عليهم في قوله: ﴿أفلا تتذكرون﴾ أي تذكراً عظيماً بما أشار إليه الإظهار ما تعلمونه من أنه الخالق وحده، ومن أنه لا حجة لشيء مما أشركتموه بشيء مما أهلتموه له ولا وسيلة لشيء منهم إليه يؤهل بها في الشفاعة فيكم ولا أخبركم أحد منهم بشيء من ذلك، فكيف تخالفون في هذه الأمور التي هي أهم المهم، لأن عاقبتها خسارة الإنسان نفسه، فضلاً عما دونها عقولكم وما جرت به عوائدكم، وتتعللون فيها المحال، وتقنعون بقيل وقال،
ولما نفى أن يكون له شريك أو وزير في الخلق، ذكر كيف يفعل في هذا الملك العظيم الذي أبدعه في ستة أيام من عالم الأرواح والأمر، فقال مستأنفاً مفسراً للمراد بالاستواء: ﴿يدبر الأمر﴾ أي كل أمر هذا العالم بأن يفعل في ذلك فعل الناظر في أدباره لإتقان خواتمه ولوازمه، كما نظر في إقباله لإحكام فواتحه وعوازمه، لا يكل شيئاً منه إلى شيء من خلقه، قال الرازي في اللوامع: وهذا دليل على أن استواءه على العرش بمعنى إظهار القدرة، والعرش مظهر التدبير لا قعر المدبر.
ولما كان المقصود للعرب إنما هو تدبير ما تمكن مشاهدتهم له من العالم قال مفرداً: ﴿من السماء﴾ أي فينزل ذلك الأمر الذي أتقنه كما يتقن من ينظر في أدبار ما يعلمه ﴿إلى الأرض﴾ غير متعرض إلى ما فوق ذلك، على أن السماء تشمل كل عال فيدخل جميع العالم.
ولما كان الصعود أشق من النزول على ما جرت به العوائد، فكان بذلك مستبعداً، أشار إلى ذلك بقوله: ﴿ثم يعرج﴾ أي يصعد
«لو أن رصاصة مثل هذه - وأشار إلى مثل الجمجمة - أرسلت من السماء إلى الأرض، وهي مسيرة خمسمائة سنة، لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها»، أو تقول: إن الألف لجملة التدبير بالنزول والعروج - والله أعلم، وإن جعلنا البداية داخلة فتكون الألف من سطح الأرض الذي نحن عليه إلى محدب السماء لتتفق الآية مع الحديث القائل بأن بين الأرض والمساء خمسمائة سنة، وثخن السماء كذلك،
[الطلاق: ١٢] ويعضده ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من ظلم قدر شبر من الأرض طوقه الله من
﴿هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم﴾ [الحديد: ٣] قال: رواه الترمذي غير أنه ذكر أن بين كل أرض والأرض الأخرى خمسمائة عام، وهنا سبعمائة، وقال في آخره: «لو دليتم بحبل لهبط على الله» ولعله أراد: على عرش الله أو على حكمه وعلمه وقدرته، يعني أنه في ملكه وقبضته ليس خارجاً عن شيء من أمره - والله أعلم، ورأيت في جامع الأصول لابن الأثير بعد إيراده هذا الحديث ما نصه قال أبو عيسى قراءة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآية تدل على أنه أراد: لهبط على علم الله وقدرته وسلطانه ويكون مؤيداً للقول بأنها كرات متطابقة متداخلة - والله أعلم - ما روى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما السماوات السبع والأرضون السبع في العرش إلا كحلقة ملقاة في فلاه» ولم يقل: كدرهم - مثلاً، وكذا
ولما قدم علم الغيب لكونه، أعلى وكان العالم به قد لا يعلم المشهود لكونه لا يبصر قال: ﴿والشهادة﴾ من ذلك كله التي منها تنزيل القرآن عليك ووصوله إليك ﴿العزيز﴾ الذي يعجز كل شيء ولا يعجزه شيء. ولما كان ربما قدح متعنت في عزته بإهمال العصاة قال: ﴿الرحيم﴾ أي الذي خص أهل التكليف من عباده بالرحمة في إنزال الكتب على السنة الرسل، وأبان لهم ما ترضاه الإلهية، بعد أن عم جميع الخلائق بصفة الرحمانية بعد الإيجاد من الإعدام بالبر والإنعام.
ولما ذكر صفة الرحيمية صريحاً لأقتضاء المقام إياها، أشار إلى صفة الرحمانية فقال: ﴿الذي أحسن كل شيء﴾ ولما كان هذا الإحسان عاماً، خصه بأن وصفه - على قراءة المدني والكوفي - بقوله: ﴿خلقه﴾ فبين أن ذلك بالإتقان والإحكام، كما فسر ابن عباس رضي الله عنهما من حيث التشكيل والتصوير، وشق المشاعر، وتهيئة المدارك، وإفاضة
ولما كان الحيوان أشرف الأجناس، وكان الإنسان أشرفه، خصه بالذكر ليقوم دليل الوحدانية بالأنفس كما قام قبل بالآفاق، فقال دالاً على البعث: ﴿وبدأ خلق الإنسان﴾ أي الذي هو المقصود بالخطاب بهذا القرآن ﴿من طين﴾ أي مما ليس له أصل في الحياة بخلق آدم عليه السلام منه.
ولما كان قلب الطين إلى هذا الهيكل على هذه الصورة بهذه المعاني أمراً هائلاً، أشار إليه بأداة البعد في قوله: ﴿ثم جعل نسله﴾ أي ولده الذي ينسل أي يخرج ﴿من سلالة﴾ أي من شيء مسلول، أي منتزع منه ﴿من ماء مهين﴾ أي حقير وضعيف وقليل مراق مبذول، فعيل بمعنى مفعول، وأشار إلى عظمة ما بعد ذلك من خلقه وتطويره بقوله: ﴿ثم سواه﴾ أي عدله لما يراد منه بالتخطيط والتصوير وإبداع المعاني ﴿ونفخ فيه من روحه﴾ الروح ما يمتاز به الحي من
ولما ألقى السامعون لهذا الحديث أسماعهم، فكانوا جديرين بأن يزيد المحدث لهم إقبالهم وانتفاعهم، لفت إليهم الخطاب قائلاً: ﴿وجعل﴾ أي بما ركب في البدن من الأسباب ﴿لكم السمع﴾ أي تدركون به المعاني المصوتة، ووحده لقلة التفاوت فيه إذا كان سالماً ﴿والأبصار﴾ تدركون بها المعاني والأعيان القابلة، ولعله قدمها لأنه ينتفع بهما حال الولادة، وقدم السمع لأنه يكون إذ ذاك أمتن من البصر.
ولذا تربط القوابل العين لئلا يضعفها النور، وأما العقل فإنما يحصل بالتدريج فلذا أخر محله فقال: ﴿والأفئدة﴾ أي المضغ الحارة المتوقدة المتحرفة، وهي القلوب المودعة غرائز العقول المتباينة فيها أيّ تباين؛ قال الرازي في اللوامع: جعله - أي الإنسان - مركباً من روحاني وجسماني، وعلوي وسفلي، جمع فيه بين العالمين بنفسه وجسده، واستجمع الكونين بعقله وحسه، وارتفع عن الدرجتين باتصال الأمر الأعلى به وحياً قولياً، وسلم الأمر لمن له الخلق والأمر
ولما كانوا قد قالوا: محمد ليس برسول، والإله ليس بواحد، والبعث ليس بممكن، فدل على صحة الرسالة بنفي الريب عن الكتاب، ثم على الوحدانية بشمول القدرة وإحاطة العلم بإبداع الخلق على وجه هو نعمة لهم، وختم بالتعجيب من كفرهم، وكان استبعادهم للبعث - الذي هو الأصل الثالث - من أعظم كفرهم، قال معجباً منهم في إنكاره بعد التعجيب في قوله: ﴿أم يقولون افتراه﴾، لافتاً عنهم الخطاب إيذاناً بالغضب من قولهم: ﴿وقالوا﴾ منكرين لما ركز في الفطر الأُوَل، ونبهت عليه الرسل، فصار بحيث لا يكره عاقل ألم بشيء من الحكمة: ﴿أإذا﴾ أي أنبعث إذا ﴿ضللنا﴾ أي ذهبنا وبطلنا وغبنا ﴿في الأرض﴾ بصيرورتنا تراباً مثل ترابها، لا يتميز بعضه من بعض: قال أبو حيان تبعاً للبغوي والزمخشري وابن جرير الطبري وغيرهم: وأصله من ضل الماء في اللبن - إذا ذهب. ثم كرروا
ولما كان قولهم هذا يتضمن إنكارهم القدرة، وكانوا يقرون بما يلزمهم منه الإقرار بالقدرة على البعث من خلق الخلق والإنجاء من كل كرب ونحو ذلك، أشار إليه بقوله: ﴿بل﴾ أي ليسوا بمنكرين لقدرته سبحانه، بل ﴿هم بلقاء ربهم﴾ المحسن بالإيجاد والإبقاء مسخراً لهم كل ما ينفعهم في الآخرة للحساب أحياء سويين كما كانوا في الدنيا، والإشارة بهذه الصفة إلى أنه لا يحسن بالمحسن أن ينغص إحسانه بترك القصاص من الظالم الكائن في القيامة ﴿كافرون *﴾ أي منكرون للبعث عناداً، ساترون لما في طباعهم من أدلته، لما غلب عليهم من الهوى القائد لهم إلى أفعال منعهم من الرجوع عنها الكبرُ عن قبول الحق والأنفة من الإقرار بما يلزم منه نقص العقل.
فلما قام هذا البرهان القطعي الظاهر مع دقته لكل أحد على قدرته التامة على تمييز ترابهم من تراب الأرض، وتمييز بعض تربهم من بعض، وتمييز تراب كل جزء من اجزائهم جل أو دق عن بعض. علم أن التقدير: ثم يعيدكم خلقاً جديداً كما كنتم أول مرة، فحذفه كما هو
ولما تقرر دليل البعث بما لا خفاء فيه ولا لبس، شرع يقص بعض أحوالهم عند ذلك، فقال عادلاً عن خطابهم استهانة بهم وإيذاناً بالغضب، وخطاباً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسلية له، أو لكل من يصح خطابه، عاطفاً على ما تقديره: فلو رأيتهم وقد بعثرت القبور، وحصل ما في الصدور، وهناك أمور أيّ أمور، موقعاً المضارع في حيز ما من شأنه الدخول على الماضي، لأنه لتحقق وقوعه كأنه قد كان، واختير التعبير به لترويح النفس بترقب رؤيته حال سماعه، تعجيلاً للسرور بترقب المحذور لأهل الشرور: ﴿ولو ترى﴾ أي تكون أيها الرائي من أهل الرؤية لترى حال المجرمين ﴿إذ المجرمون﴾ أي القاطعون لما أمر الله
ولما لم يذكر لهم جواباً، علم أنه لهوانهم، لأنه ما جرأهم على العصيان إلا صفة الإحسان، فلا يصلح لهم إلا الخزي والهوان، ولأن الإيمان لا يصح إلا بالغيب قبل العيان.
ولما كان ربما وقع في وهم أن ضلالهم مع الإمعان في البيان، لعجز عن هدايتهم أو توان، قال عاطفاً على ما تقديره: إني لا أردكم لأني لم أضلكم في الدنيا للعجز عن هدايتكم فيها، بل لأني لم أرد إسعادكم، ولو شئت لهديتكم، صارفاً القول إلى مظهر العظمة لاقتضاء المقام لها: ﴿ولو شئنا﴾ أي بما لنا من العظمة التي تأبى أن يكون لغيرنا شيء يستقل به أو يكون في ملكنا ما لا نريد ﴿لأتينا كل نفس﴾ أي مكلفة لأن الكلام فيها ﴿هداها﴾ أي جعلنا هدايتها ورشدها وتوفيقها للإيمان وجميع ما يتبعه من صالح الأعمال في يدها متمكنة منها.
ولما استوفى الأمر حده من العظمة، لفت الكلام إلى الإفراد، دفعاً للتعنت وتحقيقاً لأن المراد بالأول العظمة فقال: ﴿ولكن﴾ أي لم أشأ ذلك لأنه ﴿حق القول مني﴾ وأنا من لا يخلف الميعاد، لأن الإخلاف إما لعجز أو نسيان أو حاجة ولا شيء من ذلك يليق بجنابي، أو يحل بساحتي، وأكد لأجل إنكارهم فقال مقسماً: ﴿لأملان جهنم﴾
ولما كان ما تقدم من أمرهم بالذوق مجملاً، بينه بقوله مؤكداً له: ﴿وذوقوا عذاب الخلد﴾ أي المختص بأنه لا آخر له. ولما كان قد خص السبب فيما مضى، عم هنا فقال: ﴿بما كنتم﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿تعملون *﴾ من أعمال من لم يخف أمر البعث ناوين أنكم لا تنفكون عن ذلك.
ولما كان قوله تعالى: ﴿بل هم بلقاء ربهم كافرون﴾ قد أشار إلى أن الحامل لهم على الكفر الكبر، وذكر سبحانه أنه قسم الناس قسمين
ولما كان المتواضع ربما نسب إلى الكسل، نفى ذلك عنهم بقوله مبيناً بما تضمنته الآية السالفة من خوفهم: ﴿تتجافى﴾ أي ترتفع ارتفاع مبالغ في الجفاء - بما أشار إليه الإظهار، وبشر بكثرتهم بالتعبير
ولما كان هجران المضجع قد يكون لغير العبادة، بين أنه لها، فقال مبيناً لحالهم: ﴿يدعون﴾ أي على سبيل الاستمرار، وأظهر الوصف الذي جرأهم على السؤال فقال: ﴿ربهم﴾ أي الذي عودهم بإحسانه: ثم علل دعاءهم بقوله: ﴿خوفاً﴾ أي من سخطه وعقابه، فإن أسباب الخوف من نقائضهم كثيرة سواء عرفوا سبباً يوجب خوفاً أو لا، فهم
ولما كانت العبادة تقطع عن التوسع في الدنيا، فربما دعت نفس العابد إلى التسمك بما في يده خوفاً من نقص العبادة عن الحاجة لتشوش الفكر والحركة لطلب الرزق، حث على الإنفاق منه اعتماداً على الخلاق الرزاق الذي ضمن الخلف ليكونوا بما ضمن لهم أوثق منهم بما عندهم، وإيذاناً بأن الصلاة سبب للبركة في الرزق ﴿وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك﴾ [طه: ١٣٢]، فقال لفتاً إلى مظهر العظمة تنبيهاً على أن الرزق منه وحده: ﴿ومما رزقناهم﴾ أي بعظمتنا، لا حول منهم ولا قوة ﴿ينفقون *﴾ من غير إسراف ولا تقتير في جميع وجوه القرب التي شرعناها لهم.
ولما ذكر جزاء المستكبرين، فتشوفت النفس إلى جزاء المتواضعين، أشار إلى جزائهم بفاء السبب، إشارة إلى أنه هو الذي وفقهم لهذه الأعمال برحمته، وجعلها سبباً إلى دخول جنته، ولو شاء لكان
ولما كانت العين لا تقر فتهجع إلا عند الأمن والسرور قال: ﴿من قرة أعين﴾ أي من شيء نفيس سارّ تقر به أعينهم لأجل ما أقلعوها عن قرارها بالنوم؛ ثم صرح بما أفهمته فاء السبب فقال: ﴿جزاء﴾ أي أخفاها لهم لجزائهم ﴿بما كانوا﴾ أي بما هو لهم كالجبلة ﴿يعملون *﴾ روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»، قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم ﴿افلا تعلم نفس﴾ - الآية.
ولما توجه الاستفهام إلى كل من اتصف بهذا الصف، وكان الاستفهام إنكارياً، عبر عن معناه مصرحاً بقوله: ﴿لا يستوون﴾ إشارة - بالحمل على لفظ «من» مرة ومعناها أخرى - إلى أنه لا يستوي جمع من هؤلاء يجمع من أولئك ولا فرد بفرد.
ولما كان السامع جديراً بالعلم بأنهم مجتهدون في الخلاص منها، قال مستأنفاً لشرح حالهم: ﴿كلما أرادوا﴾ أي وهم مجتهدون فكيف إذا أراد بعضهم ﴿أن يخرجوا منها﴾ وهذا يدل على أنه يزاد في عذابهم بأن يخيل إليهم ما يظنون به القدرة على الخروج منها كما كانوا يخرجون بفسوقهم من محيط الأدلة من دائرة الطاعات إلى بيداء المعاصي والزلات، فيعالجون الخروج فإذا ظنوا أنه تيسر لهم وهم بعد في غمراتها ﴿أعيدوا﴾ بأيسر أمر وأسهله من أيّ من أمر بذلك ﴿فيها﴾ إلى المكان الذي كانوا فيه أولاً، ولا يزال هذا دأبهم أبداً ﴿وقيل﴾ أي من أيّ قائل وكل بهم ﴿لهم﴾ أي عند الإعادة إهانة له: ﴿ذوقوا عذاب النار﴾.
ولما وصف عذابهم في النار كان أحق بالوصف عند بيان سبب الإهانة بالأمر بالذوق مع أنه أحق من حيث كونه مضافاً محدثاً عنه فقال: ﴿الذي كنتم﴾ أي كوناً هو لكم كالجبلات، وأشار إلى أن تكذيبهم به يتلاشى عنده كل تكذيب، فكأنه مختص فقال: ﴿به تكذبون *﴾ فإن الإعادة بعد معالجة الخروج أمكن في التصديق باعتبار التجدد في كل آن.
ولما بلغت هذه الآيات من الوضوح أقصى الغايات، فكان الإعراض عنها مستبعداً بعده، عبر عنه بأداة البعد لذلك فقال: ﴿ثم أعرض عنها﴾ ضد ما عمله الذين لم يتمالكوا أن خروا سجداً، ويجوز - وهو أحسن - أن يكون «ثم» على بابها للتراخي، ليكون المعنى أن من وقع له التذكير بها في وقت ما، فأخذ يتأمل فيها ثم أعرض عنها بعد ذلك ولو بألف عام فهو أظلم الظالمين، ويدخل فيه ما دون ذلك عن باب الأولى لأنه أجدر بعدم النسيان، فهي أبلغ من التعبير بالفاء كما في سورة الكهف، ويكون عدل إلى الفاء هناك شرحاً لما يكون من حالهم، عند بيان سؤالهم، الذي جعلوا بأنه آية الصدق، والعجز عن آية الكذب.
ولما كان الحال مقتضياً للسؤال عن جزائهم، وكان قد فرد الضمير باعتبار لفظ «من» تنبيهاً على قباحة الظلم من كل فرد،
ولما كان مقصود السورة نفي الريب عن تنزيل هذا الكتاب المبين في أنه من عند رب العالمين، ودل على أن الإعراض عنه إنما هو ظلم وعناد بما ختمه بالتهديد على الإعراض عن الآيات بالانتقام، وكان قد انتقم سبحانه ممن استخف بموسى عليه السلام قبل إنزال الكتاب عليه وبعد إنزاله، وكان أول من أنزل عليه كتاب
ولما كان ذلك مما لا ريب فيه أيضاً، وكان قومه قد تركوا اتباع كثير منه لا سيما فيما قصَّ من صفات نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفيما أمر فيه باتباعه، وكان هذا إعراضاً منهم مثل إعراض الشاك في الشيء، وكانوا في زمن موسى عليه السلام أيضاً يخالفون أوامره وقتاً بعد وقت وحيناً إثر حين، تسبب عن الإيتاء المذكور قوله تعريضاً بهم وإعلاماً بأن العظيم قد يرد رد بعض أوامره لحكمة دبرها: ﴿فلا تكن﴾ أي كوناً راسخاً - بما أشار إليه فعل الكون وإثبات نونه،
ولما أشار إلى إعراضهم عنه وإعراض العرب عن كتابهم، ذكر أن الكل فعلوا بذلك الضلال ضد ما أنزل له الكتاب، فقال ممتناً على
ولما كان قد تقدم عن الكفار في هذه السورة قولان: أحدهما في التكذيب بالقرآن، والثاني في إنكار البعث، ودل سبحانه على فسادهما إلى أن ختم بذكر الآيات والبعث والفصل بين المحق والمبطل، أتبعه استفهامين إنكاريين منشورين على القولين وختمت آية كل منهما بآخر، فتصير الاستفهامات أربعة، وفي مدخول الأول الفصل بين الفريقين في الدنيا، فقال مهدداً: ﴿أو لم﴾ أي أيقولون عناداً لرسولنا: أفتراه ولم ﴿يهد﴾ أي يبين - كما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما ﴿لهم كم أهلكنا﴾ أي كثرة من أهلكناه.
ولما كان انهماكهم في الدنيا الزائلة قد شغلهم عن التفكر فيما ينفعهم عن المواعظ بالأفعال والأقوال، أشار إلى ذلك بتصوير اطلاعهم على ما لهم من الأحوال، بقوله: ﴿يمشون﴾ أي أنهم ليسوا بأهل للتفكر إلا حال المشي ﴿في مساكنهم﴾ لشدة ارتباطهم مع المحسوسات، وذلك كمساكن عاد وثمود وقوم لوط ونحوهم. ولما كان في هذا أتم عبرة وأعظم عظة، قال منبهاً عليه مؤكداً تنبيهاً على أن من لم يعتبر منكر لما فيه من العبر: ﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر العظيم ﴿لآيات﴾ أي دلالات ظاهرات جداً، مرئيات في الديار وغيرها من الآثار، ومسموعات في الأخبار.
ولما كان السماع هو الركن الأعظم، وكان إهلاك القرون إنما وصل إليهم بالسماع، قال منكراً: ﴿أفلا يسمعون *﴾ أي إن أحوالهم لا يحتاج من ذكرت له في الرجوع عن الغيّ إلى غير سماعها،
﴿فلينظر الإنسان إلى طعامه﴾ [عبس: ٢٤] ثم قال ﴿فأنبتنا فيها حباً﴾ [عبس: ٢٧] وذكر من طعامه من العنب وغيره ما لا يصلح
ولما كانت هذه الآية مبصرة، وكانت في وضوحها في الدلالة على البعث لا يحتاج الجاهل به في الإقرار سوى رؤيتها قل: ﴿أفلا يبصرون﴾ إشارة إلى أن من رآها وتبه على ما فيها من الدلالة وأصر على الإنكار لا بصر له ولا بصيرة.
ولما أسفر حالهم بهذا السؤال الذي محصله الاستعجال على وجه الاستهزاء عن أنهم لا يزدادون مع البيان إلا عناداً، أمرهم بجواب فيه أبلغ تهديد، فقال فاعلاً فعل القادر في الإعراض عن إجابتهم عن تعيين اليوم إلى ذكر حاله: ﴿قل﴾ أي لهؤلاء اللد الجهلة: ﴿يوم الفتح﴾ أي الذي يستهزئون به، وهو يوم القيامة - تبادرون إلى الإيمان بعد الانسلاخ مما أنتم فيه من الشماخة والكبر، فلا ينفعكم بعد العيان
ولما كانت نتيجة سماعهم لهذه الأدلة استهزاءهم حتى بسؤالهم عن يوم الفتح، وأجابهم سبحانه عن تعيينه بذكر حاله، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لشدة حرصه على نفعهم ربما أحب إعلامهم بما طلبوا وإن كان يعلم أن ذلك منهم استهزاء رجاء أن ينفعهم نفعاً ما، سبب سبحانه عن إعراضه عن إجابتهم، أمره لهذا الداعي الرفيق والهادي الشفيق بالإعراض عنهم أيضاً، فقال مسلياً له مهدداً لهم: ﴿فأعرض عنهم﴾ أي غير مبال بهم وإن اشتد أذاهم ﴿وانتظر﴾ أي ما نفعل بهم مما فيه إظهار أمرك وإعلاء دينك، ولما كان الحال مقتضياً لتردد السامع في حالهم هل هو الانتظار، أجيب على سبيل التأكيد بقوله: ﴿إنهم منتظرون *﴾ أي ما يفعل بك وما يكون من عاقبة أمرك فيما تتوعدهم به وفي غيره، وقد انطبق آخرها على أولها بالإنذار بهذا
لما ختمت التي قبلها بالإعراض عن الكافرين، وانتظار ما يحكم به فيهم رب العالمين، بعد تحقيق أن تنزيل الكتاب من عند المدبر لهذا الخلق كله، والنهي عن الشك في لقائهع، افتتح هذه بالأمر بأسا ذلك، والنهي عن طاعة المخالفين مجاهرين كانوا أو متساترين، والأمر بإتباع الوحي الذي أعظمه الكتاب تنبيها على أن الإعراض إنما يكون