تفسير سورة السجدة

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة السجدة من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة السجدة
هذه السورة مكية غير ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي قوله ' أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ' : السجدة : ١٨ إلى تمام ثلاث آيات ويأتي تفسيرها١ وقال جابر بن عبد الله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام حتى يقرأ ' ألم ' السجدة و ' تبارك ' : الملك :٢
١ هذا ما قاله الكلبي ومقاتل وابن عباس. وقال غيرهم: إلا خمس آيات، من قوله تبارك وتعالى: ﴿تتجافى جنوبهم عن المضاجع﴾ إلى قوله: ﴿الذي كنتم به تكذبون﴾ وآيات هذه السورة ثلاثون آية، وقيل: تسع وعشرون..
٢ قال القرطبي: "وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة ﴿ألم تنزيل﴾ السجدة، و ﴿هل أتى على الإنسان حين من الدهر﴾ ". وقد روى البخاري ذلك في صحيحه في كتاب الجمعة عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه مسلم أيضا. أما حديث جابر رضي الله عنه فقد أخرجه أبو عبيدة في فضائله، وأحمد، وعبد بن حميد، والدارمي، والترمذي، والنسائي، والحاكم وصححه، وابن مردويه. ذكر ذلك الشوكاني في (فتح القدير)، وذكره السيوطي في (الدر المنثور)..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة السّجدة
هذه السورة مكية غير ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي قوله أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ [السجدة: ١٨] إلى تمام ثلاث آيات، ويأتي تفسيرها، وقال جابر بن عبد الله: ما كان رسول الله ﷺ ينام حتى يقرأ الم «السجدة» و «تبارك» [الملك: ١].
قوله عز وجل:
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤)
تَنْزِيلُ يصح أن يرتفع بالابتداء والخبر لا رَيْبَ ويصح أن يرتفع على أنه خبر ابتداء، وهو إما الحروف المشار إليها على بعض الأقوال في أوائل السور، وإما ذلك تنزيل أو نحو هذا من التقدير بحسب القول في الحروف وقوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ أي هو كذا في نفسه ولا يراعى ارتياب الكفرة، وقوله مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ متعلق ب تَنْزِيلُ، ففي الكلام تقديم وتأخير، ويجوز أن يتعلق بقوله لا رَيْبَ أي لا شك فيه من جهة الله تعالى وإن وقع شك للفكرة فذلك لا يراعى، والريب الشك وكذلك هو في كل القرآن إلا قوله رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: ٣٠] وقوله أَمْ يَقُولُونَ إضراب، كأنه قال بل أيقولون، وافْتَراهُ اختلقه، ثم رد تعالى على مقالتهم هذه وأخبر أنه الْحَقُّ من عند الله، واللام في قوله لِتُنْذِرَ يجوز أن تتعلق بما قبلها، ولا يجوز الوقف على قوله مِنْ رَبِّكَ ويجوز أن تتعلق بفعل مضمر تقديره أنزله لتنذر فيوقف حينئذ على قوله مِنْ رَبِّكَ، وقوله ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ أي لم يباشرهم ولا رأوه هم ولا آباؤهم العرب، وقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: ٢٤] يعم من بوشر من النذر ومن سمع به فالعرب من الأمم التي خلت فيها النذر على هذا الوجه لأنها علمت بإبراهيم وبنيه ودعوتهم وهم ممن لم يأتهم نذير مباشر لهم سوى محمد صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس ومقاتل: المعنى لم يأتهم نذير في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام، وقوله تعالى: فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ يقضي بأن يوما من أيام الجمعة بقي لم يخلق فيه شيء، وتظاهرت الأحاديث الصحاح أن الخلق ابتدئ يوم الأحد، وخلق آدم يوم الجمعة آخر الأشياء فهذا مستقيم مع هذه الآية.
ووقع في كتاب مسلم أن الخلق ابتدئ يوم السبت، فهذا يخالف الآية اللهم إلا أن يكون أراد في الآية جميع الأشياء غير آدم، ثم يكون يوم الجمعة هو الذي لم يخلق فيه شيء مما بين السماء والأرض، لأن آدم لم يكن حينئذ مما بينهما، وقد تقدم القول في قوله: اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ بما فيه كفاية، وثُمَّ في هذا الموضع لترتيب الجمل لأن الاستواء كان بعد أن لم يكن، وهذا على المختار في معنى اسْتَوى ونفي «الشفاعة» محمول على أحد وجهين: إما عن الكفرة وإما نفي الشفعاء من ذاتهم على حد شفاعة الدنيا لأن شفاعة الآخرة إنما هي بعد إذن من الله تعالى.
قوله عز وجل:
[سورة السجده (٣٢) : آية ٥]
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥)
الْأَمْرَ اسم جنس لجميع الأمور، والمعنى ينفذ الله تعالى قضاءه بجميع ما يشاؤه، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ خبر ذلك فِي يَوْمٍ من أيام الدنيا مِقْدارُهُ أن لو سير فيه السير المعروف من البشر أَلْفَ سَنَةٍ لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة سنة هذا أحد الأقوال، وهو قول مجاهد وابن عباس وقتادة وعكرمة والضحاك، وقال مجاهد أيضا: إن المعنى أن الضمير في مِقْدارُهُ عائد على «التدبير»، أي كان مقدار التدبير المنقضي في يوم ألف سنة لو دبرها البشر، وقال مجاهد أيضا المعنى أن الله تعالى يدبر ويلقي إلى الملائكة أمور ألف سنة من عندنا وهو اليوم عنده فإذا فرغت ألقى إليهم مثلها، فالمعنى أن الأمور تنفذ عنده لهذه المدة ثم تصير إليه آخرا لأن عاقبة الأمور إليه، وقيل المعنى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ في مدة الدنيا ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ يوم القيامة ويوم القيامة مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ من عندنا وهو على الكفار قدر خمسين ألف سنة لهوله وشنعته حسبما في سورة «سأل سائل» وسنذكر هنالك ما فيه من الأقوال والتأويل إن شاء الله، وحكى الطبري في هذه الآية عن بعضهم أنه قال قوله فِي يَوْمٍ إلى آخر الآية متعلق بقوله قبل هذا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [السجدة: ٤] ومتصل به أي أن تلك الستة كل واحد منها من ألف سنة.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا قول ضعيف مكرهة ألفاظ هذه الآية عليه رادة له الأحاديث التي بينت أيام خلق الله تعالى المخلوقات، وحكي أيضا عن ابن زيد عن بعض أهل العلم أن الضمير في مِقْدارُهُ عائد على العروج، والعروج الصعود، والمعارج الأدراج التي يصعد عليها، وقالت فرقة معنى الآية يدبر أمر الشمس في أنها تصعد وتنزل في يوم وذلك قدر ألف سنة.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا أيضا ضعيف وظاهر عود الضمير في إِلَيْهِ على اسم الله تعالى كما قال ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصافات: ٩٩] وكما قال «مهاجر إلى ربي»، وهذا كله بريء من التحيز، وقيل إن الضمير يعود على السَّماءِ لأنها قد تذكر، وقرأ جمهور الناس «تعدون» بالتاء، وقرأ الأعمش والحسن بخلاف عنه «يعدون» بالياء من تحت.
قوله عز وجل:
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ٦ الى ١١]
ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠)
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١)
358
قالت فرقة أراد ب الْغَيْبِ الآخرة، وب الشَّهادَةِ الدنيا، وقيل أراد ب الْغَيْبِ ما غاب عن المخلوقين وب الشَّهادَةِ ما شوهد من الأشياء فكأنه حصر بهذه الألفاظ جميع الأشياء، وقرأ جمهور الناس «خلقه» بفتح اللام على أنه فعل ماض، ومعنى أَحْسَنَ أتقن وأحكم فهو حسن من جهة ما هو لمقاصده التي أريد لها، ومن هذا المعنى ما قال ابن عباس وعكرمة: ليست است القرد بحسنة ولكنها متقنة محكمة، والجملة في خَلَقَهُ يحتمل أن تكون في موضع نصب صفة ل كُلَّ أو في موضع خفض صفة ل شَيْءٍ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «خلقه» بسكون اللام وذلك منصوب على المصدر، والضمير فيه إما عائد على الله تعالى وإما على المفعول، ويصح أن يكون بدلا من كُلَّ وذهب بعض الناس على هذه القراءة إلى أن أَحْسَنَ بمعنى ألهم، وأن هذه الآية بمعنى قوله تعالى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: ٥٠] أي ألهم الرجل إلى المرأة، والجمل إلى الناقة، وهذا قول فيه بعد ورجحه الطبري، وقرأ جمهور الناس «وبدأ»، وقرأ الزهري «وبدا خلق الإنسان» بألف دون همزة وبنصب القاف وذلك على البدل لا على التخفيف.
قال الفقيه الإمام القاضي: كأنه أبدل الياء من بدى ألفا، وبدى لغة الأنصار، وقال ابن رواحة:
[الرجز]
«بسم الإله وبه بدينا ولو عبدنا غيره شقينا»
والْإِنْسانِ آدم عدد أمره على بنيه إذ خلقه خلق لهم من حيث هو منسلهم، و «النسل» ما يكون عن الحيوان من الولد كأنه مأخوذ من نسل الشيء إذا خرج من موضعه، ومنه قوله تعالى: وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ [الأنبياء: ٩٦] ومنه نسل ريش الطائر إذا تساقط، و «السلالة» من سل يسل فكأن الماء يسل من الإنسان ومن ذلك قول الشاعر: [الطويل]
فجاءت به عضب الأديم غضنفرا سلالة فرج كان غير حصين
و «المهين» الضعيف، مهن الإنسان إذا ضعف وذل، وقوله وَنَفَخَ عبارة عن إفاضة الروح في جسد آدم، والضمير في رُوحِهِ لله تعالى، وهي إضافة ملك إلى مالك وخلق إلى خالق، ثم أظهر تعديد النعم عليهم في أن خصهم في قوله لَكُمُ بضمير السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ وهي لمن تقدم ذكره أيضا كما خص آدم بالتسوية ونفخ الروح وهو لجميع ذريته، وهذا كله إيجاز واقتضاب وترك لما يدل عليه المنطوق به.
359
ويحتمل أن يكون الْإِنْسانِ في هذه الآية اسم الجنس، وقوله تعالى: قَلِيلًا صفة لمصدر محذوف، وهو في موضع الحال حين حذف الموصوف به، والضمير في قالُوا للكفار الجاحدين البعث من القبور والمستبعدين لذلك دون حجة ولا دليل. وموضع إِذا نصب بما في قوله إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ لأن معناه لنعاد، واختلفت القراءة في أَإِذا وقد تقدم استيعاب ذكره في غير هذا الموضع. وقرأ جمهور القراء «ضللنا» بفتح اللام، وقرأ ابن عامر وأبو رجاء وطلحة وابن وثاب «ضللنا» بكسر اللام والمعنى تلفنا وتقطعت أوصالنا فذهبنا حتى لم نوجد، ومنه قول الأخطل: [الكامل]
كنت القذا في متن أكدر مزبد قذف الأتيّ به فضلّ ضلالا
ومنه قول النابغة:
فآب مضلوه بعين جلية وغودر بالجولان حزم ونائل
أي متلفوه دفنا، ومنه قول امرئ القيس: «تضل المداري في مثنى ومرسل». وقرأ الحسن البصري «صللنا» بالصاد غير منقوطة وفتح اللام، قال الفراء وتروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومعناه صرنا من الصلة وهي الأرض اليابسة الصلبة، ويجوز أن يريد به من التغير كما يقال صل اللحم، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس وأبان بن سعيد بن العاصي، وقرأ الحسن أيضا «صللنا» بالصاد غير منقوطة وكسر اللام، وقرأ علي بن أبي طالب وأبو حيوة «ضلّلنا» بضم الضاد وكسر اللام وشدها، وقولهم إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي إنا لفي هذه الحالة نعاد ويجدد خلقنا. وقوله تعالى: بَلْ إضراب عن معنى استفهامهم كأنه قال ليسوا مستفهمين «بل هم كافرون» جاحدون بلقاء الله تعالى، ثم أمر تعالى نبيه أن يخبرهم بجملة الحال غير مفصلة، فبدأ بالإخبار من وقت يفقد روح الإنسان إلى الوقت الذي يعود فيه إلى ربه فجمع الغايتين الأولى والآخرة، ويَتَوَفَّاكُمْ معناه يستوفيكم.
ومنه قول الشاعر: [الرجز]
أزيني الأردم ليسوا من أحد ولا توفيهم قريش في العدد
ومَلَكُ الْمَوْتِ اسمه عزرائيل وتصرفه كله بأمر الله وبخلقه واختراعه وروي في الحديث أن البهائم كلها يتوفى الله روحها دون ملك.
قال الفقيه الإمام القاضي: كأنه يعدم حياتها، وكذلك الأمر في بني آدم إلا أنه نوع شرف بتصرف ملك وملائكة معه في قبض أرواحهم، وكذلك أيضا غلظ العذاب على الكافرين بذلك، وروي عن مجاهد: أن الدنيا بين يدي ملك الموت كالطست بين يدي الإنسان يأخذ من حيث أمر.
قوله عز وجل:
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ١٢ الى ١٥]
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥)
قوله تعالى: لَوْ تَرى تعجيب لمحمد وأمته من حال الكفرة وما حل بهم، وجواب لَوْ محذوف لأن حذفه أهول إذ يترك الإنسان فيه مع أقصى تخيله، والْمُجْرِمُونَ هم الكافرون بدليل التوعد بالنار وبدليل قولهم إِنَّا مُوقِنُونَ أي أنهم كانوا في الدنيا غير موقنين، وتنكيس الرؤوس هو من الذل واليأس والهم بحلول العذاب وتعلق نفوسهم بالرجعة إلى الدنيا، وفي القول محذوف تقديره يقولون رَبَّنا وقولهم أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا أي ما كنا نخبر به في الدنيا فكنا مكذبين به، ثم طلبوا الرجعة حين لا ينفع ذلك، ثم أخبر تعالى عن نفسه أنه لو شاء لهدى الناس أجمعين بأن يلطف بهم لطفا يؤمنون به ويخترع الإيمان في نفوسهم، هذا مذهب أهل السنة، وقال بعض المفسرين تعرض عليهم آية يضطرهم بها إلى الإيمان.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا قول بعض المعتزلة، إلا أن من أشرنا إليه من المفسرين لم يقدر قدر القول ولا مغزاه ولذلك حكاه، والذي يقود المعتزلة إلى هذه المقالة أنهم يرون أن من يقدر على اللطف بإنسان حتى يؤمن ولا يفعل فإن ذلك ليس من الحكمة ولا من الأمر المستقيم، والكلام على هذه المسألة يطول وله تواليفه، والْجِنَّةِ الشياطين، وقوله فَذُوقُوا بمعنى يقال لهم ذوقوا، ونَسِيتُمْ معناه تركتم، قاله ابن عباس وغيره، وفي الكلام حذف مضاف تقديره عمل أو عدة ونحوه، وقوله إِنَّا نَسِيناكُمْ سمى العقوبة باسم الذنب، وقوله بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي بتكسبكم الآثام، ثم أثنى عز وجل على القوم الذين يؤمنون بآياته ووصفهم بالصفة الحسنى بسجودهم عند التذكير وتسبيحهم وعدم استكبارهم بخلاف ما يصنع الكفر من الإعراض عند التذكير وقول الهجر وإظهار التكبر. وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن، وقال ابن عباس: السجود هنا بمعنى الركوع، وقد روي عن ابن جريج ومجاهد أن هذه الآية نزلت بسبب قوم من المنافقين كانوا إذا أقيمت الصلاة خرجوا من المسجد فكان الركوع يقصد من هذا، ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية، وأيضا فمن مذهب ابن عباس أن القارئ للسجدة يركع واستدل بقوله وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ [ص: ٢٤].
قوله عز وجل:
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ١٦ الى ٢٠]
تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠)
361
جفا الرجل الموضع إذا تركه، و «تجافى الجنب» عن مضجعه إذا تركه وجافى الرجل جنبه عن مضجعه، ومنه في الحديث «ويجافي بضبعيه» أي يبعدهما عن الأرض وعن يديه، فقوله تَتَجافى جُنُوبُهُمْ أي تبعد وتزول، ومنه قول عبد الله بن رواحة: [الطويل]
نبيّ تجافى جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
ويروى يبيت يجافي، قال الزجاج والرماني: التجافي التنحي إلى جهة فوق.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا قول حسن، وكذلك في الصفح عن المخطي في سب ونحوه، و «الجنوب» جمع جنب، و «المضجع» موضع الاضطجاع للنوم، وقال أنس بن مالك: أراد بهذه الآية الصلاة بين المغرب والعشاء، وقال عطاء وأبو سلمة أراد صلاة العشاء الآخرة، وقال أبو محمد: وكانت الجاهلية ينامون من أول المغرب ومن أي وقت شاء الإنسان فجاء انتظار وقت العشاء الآخرة غريبا شاقا، وقال أنس بن مالك أيضا: أراد انتظار العشاء الآخرة لأن رسول الله ﷺ كان يؤخرها إلى نحو ثلث الليل وفي ذلك أحاديث كثيرة، وقال الضحاك: «تجافي الجنب» هو أن يصلي الرجل العشاء والصبح في جماعة وهذا قول حسن يساعده لفظ الآية، وقال الجمهور من المفسرين: أراد بهذا التجافي صلاة النوافل بالليل.
قال الفقيه الإمام القاضي: وعلى هذا التأويل أكثر الناس، وهو الذي فيه المدح، وفيه أحاديث عن النبي ﷺ يذكر قيام الليل ثم يستشهد بالآية، ذكره الطبري عن معاذ بن جبل، ورجح الزجاج هذا القول بأنهم جزوا بإخفاء فدل ذلك على أن العمل إخفاء أيضا وهو قيام الليل، وقوله يَدْعُونَ يحتمل أن يكون في موضع الحال من الموصوفين، أي في وقت التجافي، ويحتمل أن يكون صفة مستأنفة، أي تَتَجافى جُنُوبُهُمْ وهم أيضا في كل أحوالهم يَدْعُونَ ليلهم ونهارهم. و «الخوف» من عذاب الله، و «الطمع» في ثواب الله. ويُنْفِقُونَ قيل معناه الزكاة المفروضة وقيل النوافل والصدقات غير المفروضة وهذا القول أمدح، ثم ذكر تعالى وعدهم من النعيم بما لم تعلمه نفس ولا بشر ولا ملك، وقرأ حمزة وحده «أخفي» بسكون الياء كأنه قال أخفي أنا وهي قراءة الأعمش، وروي عنه «ما أخفيت لهم من قرة أعين»، وقرأ عبد الله «ما نخفي لهم» بالنون مضمومة، وروى المفضل عن الأعمش «ما يخفى لهم» بالياء المضمومة وفتح الفاء، وقرأ محمد بن كعب «ما أخفى» بفتح الهمزة، أي ما أخفى الله، وقرأ جمهور الناس «أخفي» بفتح الياء على بناء الفعل للمفعول، وما يحتمل أن تكون بمعنى الذي، فعلى القراءة الأولى فثم ضمير محذوف تقديره أخفيه، وعلى قراءة الجمهور فالضمير الذي لم يسم فاعله يجري في العودة على الذي، ويحتمل أن تكون استفهاما، فعلى القراءة الأولى فهي في موضع نصب ب «أخفي» وعلى القراءة الثانية هي في موضع رفع بالابتداء، وقُرَّةِ أَعْيُنٍ ما تلذه وتشتهيه وهي مأخوذة من القر كما
362
أن سخنة العين مأخوذة من السخانة، وأصل هذا فيما يزعمون أن دمع الفرح بارد ودمع الحزن سخن، وفي معنى هذه الآية قال رسول الله ﷺ قال الله عز وجل: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. واقرؤوا إن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ.
وقال ابن مسعود: «في التوراة مكتوب على الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»
. وقرأ ابن مسعود وأبو هريرة وأبو الدرداء، «قرات» على الجمع، وقوله جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بتكسبهم، وقوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً الآية، روي عن عطاء بن يسار أنها نزلت في علي بن أبي طالب: والوليد بن عقبة بن أبي معيط وذلك أنهما تلاحيا فقال له الوليد: أنا أبسط منك لسانا وأحد سنانا وأرد للكتيبة، فقال له علي بن أبي طالب: اسكت فإنك فاسق، فنزلت الآية.
وذكر الزجاج والنحاس وغيرهما أنها نزلت في علي وعقبة بن أبي معيط، وعلى هذا يلزم أن تكون الآية مكية، لأن عقبة لم يكن بالمدينة وإنما قتل في طريق مكة منصرف رسول الله ﷺ من بدر، ويعترض القول الآخر بإطلاق اسم الفسق على الوليد وذلك يحتمل أن يكون في صدر إسلام الوليد لشيء كان فيه أو لما روي من نقله عن بني المصطلق ما لم يكن حتى نزلت فيه إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ [الحجرات: ٦] ويحتمل أيضا أن تطلق الشريعة ذلك عليه لأنه كان على طرف مما يبغي وهو الذي شرب الخمر في خلافة عثمان وصلى الصبح بالناس أربعا ثم التفت وقال: أتريدون أن أزيدكم ونحو هذا مما يطول ذكره. ثم قسم الله تعالى المؤمنين والفاسقين الذين فسقهم بالكفر لأن التكذيب الذي في آخر الآية يقتضي ذلك، وقرأ طلحة «جنة» بالإفراد، وقرأ أبو حيوة «نزلا» بإسكان الزاي، والجمهور على ضمها وسائر باقي الآية بين.
قوله عز وجل:
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢)
الضمير في قوله لَنُذِيقَنَّهُمْ لكفار قريش، أعلم الله تعالى أنه يصيبهم بعذاب دون عذاب الآخرة، واختلف المتأولون في تعيين الْعَذابِ الْأَدْنى، فقال إبراهيم النخعي ومقاتل: هم السنون التي أجاعهم الله تعالى فيها، وقال ابن عباس وأبي بن كعب: هو مصائب الدنيا من الأمراض ونحوها وقاله ابن زيد، وقال ابن مسعود والحسن بن علي هو القتل بالسيف كبدر وغيرها.
قال الفقيه الإمام القاضي: فيكون على هذا التأويل الراجع غير الذي يذوق بل الذي يبقى بعده وتختلف رتبتا ضمير الذوق مع ضمير «لعل»، وقال أبيّ بن كعب أيضا هي البطشة، واللزام، والدخان.
وقال ابن عباس أيضا عنى بذلك الحدود.
قال الفقيه الإمام القاضي: ويتجه على هذا التأويل أن تكون في فسقة المؤمنين، وقال مجاهد: عنى
بذلك عذاب القبر، ثم قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ على جهة التعجب، والتقدير أي لا أحد أظلم ممن هذه صفته، وهي بخلاف ما تقدم في صفة المؤمنين من أنهم إذا ذكروا بآيات الله خروا سجدا، ثم توعد تعالى الْمُجْرِمِينَ وهم المتجاسرون على ركوب الكفر والمعاصي بالنقمة، وظاهر الإجرام هنا أنه الكفر، وحكى الطبري عن يزيد بن رفيع أنه قال: إن قول الله تعالى في القرآن إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ إنما هو في أهل القدر.
قال الفقيه الإمام القاضي: يريد القائلين بأن الأمر أنف، وأن أفعال العبد من قبله، قال ثم قرأ يزيد بن رفيع إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ. [القمر ٤٧- ٤٩].
قال الفقيه الإمام القاضي: في هذا المنزع من البعد ما لا خفاء به، وروى معاذ بن جبل عن النبي ﷺ أنه قال: «ثلاث من فعلهن فقد أجرم، من عقد لواء في غير حق، ومن عق والديه، ومن نصر ظالما».
قوله عز وجل:
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥)
قرأ الناس «في مرية» بكسر الميم، وقرأ الحسن بضمها، واختلف المتأولون في الضمير الذي في لِقائِهِ على من يعود فقال أبو العالية الرياحي وقتادة: يعود على موسى، والمعنى لا تكن في شك من أن تلقى موسى، أي في ليلة الإسراء، وهذا قول جماعة من السلف، وقاله المبرد حين امتحن أبا إسحاق الزجاج بهذه المسألة، وقالت فرقة الضمير عائد على الْكِتابَ أي أنه لقي موسى حين لقيه موسى، والمصدر في هذا التأويل يصح أن يكون مضافا للفاعل بمعنى لقي الكتاب موسى، ويصح أن يكون مضافا إلى المفعول بمعنى لقي الكتاب- بالنصب- موسى، وقال الحسن الضمير عائد على ما يتضمنه القول من الشدة والمحنة التي لقي موسى، وذلك أن إخباره بأنه آتى موسى الكتاب كأنه قال وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى هذا العبء الذي أنت بسبيله فلا تمتر أنك تلقى ما لقي هو من المحنة بالناس، وكأن الآية تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقالت فرقة معناه فلا تكن في شك من لقائه في الآخرة.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا قول ضعيف، وقالت فرقة الضمير عائد على مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة: ١١] الذي تقدم ذكره، وقوله فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ اعتراض بين الكلامين.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أيضا ضعيف، و «المرية» الشك، والضمير في جَعَلْناهُ يحتمل أن يعود على موسى، وهو قول قتادة، ويحتمل أن يعود على الْكِتابَ وأَئِمَّةً جمع إمام وهو الذي يقتدى
به وأصله خيط البناء وجمهور النحويين على «أئمة» بياء وتخفيف الهمزة، إلا ابن أبي إسحاق فإنه جوز اجتماع الهمزتين وقرأ «أئمة»، وقرأ جمهور القراء «لمّا صبروا» بفتح اللام وشد الميم، وقرأ حمزة والكسائي «لما» بكسر اللام وتخفيف الميم وهي قراءة ابن مسعود وطلحة والأعمش، فالأولى في معنى الظرف والثانية كأنه قال لأجل صبرهم، ف «ما» مصدرية، وفي القراءتين معنى المجازاة أي جعلهم أئمة جزاء على صبرهم عن الدنيا وكونهم موقنين بآيات الله وأوامره وجميع ما تورده الشريعة، وقرأ ابن مسعود «بما صبروا». وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ الآية، حكم يعم جميع الخلق، وذهب بعض المتأولين إلى تخصيص الضمير وذلك ضعيف.
قوله عز وجل:
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ٢٦ الى ٣٠]
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠)
يَهْدِ معناه يبين قاله ابن عباس، وقرأ جمهور الناس «يهد» بالياء فالفاعل الله تعالى في قول فرقة، والرسول في قول فرقة، كأنه قال «أو لم يبين لهم الهدى»، وجوز الكوفيون أن يكون الفاعل كَمْ، ولا يجوز ذلك عند البصريين لأنها في الخبر على حكمها في الاستفهام في أنها لا يعمل فيها ما قبلها، وقرأ أبو عبد الرحمن «نهد» بالنون وهي قراءة الحسن وقتادة، فالفاعل الله تعالى، وكَمْ في موضع نصب، فعند الكوفيين ب «نهد» وعند البصريين ب أَهْلَكْنا، على القراءتين جميعا، وقرأ جمهور الناس «يمشون» بفتح الياء وتخفيف الشين، وقرأ ابن السميفع اليماني «يمشّون» بضم الياء وفتح الميم وشد الشين، وقرأ عيسى بن عمر «يمشون» بضم الياء وسكون الميم وشين مضمومة مخففة، والضمير في يَمْشُونَ يحتمل أن يكون للمخاطبين بالتنبيه المحتج عليهم، ويحتمل أن يكون للمهلكين، ف يَمْشُونَ في موضع الحال، أي أهلكوا وهم ماشون في مساكنهم، والضمير في يَسْمَعُونَ للمنبهين، ومعنى هذه الآية إقامة الحجة على الكفرة بالأمم السالفة الذين كفروا فأهلكوا، ثم أقام عز وجل الحجة عليهم في معنى الإيمان بالقدرة وبالبعث بأن نبههم على إحياء الأرض الموات بالماء والنبات، و «السوق» هو بالسحاب، وإن كان سوق بنهر فأصله من السحاب والْجُرُزِ الأرض العاطشة التي قد أكلت نباتها من العطش والغيظ، ومنه قيل للأكول جروز. قالة الشاعر:
خب جروز وإذا جاع بكى ومن عبر عنها بأنها الأرض التي لا تنبت فإنها عبارة غير مخلصة، وعم تعالى كل أرض هي بهذه
365
الصفة لأن الآية فيها والعبرة بينة، وقال ابن عباس أيضا وغيره الْأَرْضِ الْجُرُزِ أرض أبين من اليمن، وهي أرض تشرب بسيول لا بمطر، وجمهور الناس على ضم الراء، وقال الزجاج وتقرأ «الجرز» بسكون الراء، ثم خص تعالى «الزرع» بالذكر تشريفا ولأنه عظم ما يقصد من النبات، وإلا فعرف أكل الأنعام إنما هو من غير الزرع، لكنه أوقع الزرع موقع النبات على العموم، ثم فصل ذلك بأكل الأنعام وبني آدم، وقرأ أبو بكر بن عياش وأبو حيوة «يأكل» بالياء من تحت، وقرأ ابن مسعود «يبصرون»، وقرأ جمهور الناس «تبصرون» بالتاء من فوق، ثم حكي عن الكفرة أنهم يستفتحون ويستعجلون فصل القضاء بينهم وبين الرسول على معنى الهزء والتكذيب، والْفَتْحُ الحكم هذا قول جماعة من المفسرين، وهذا أقوى الأقوال، وقالت فرقة الإشارة إلى فتح مكة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف يرده الإخبار بأن الكفرة لا ينفعهم الإيمان، فلم يبق إلا أن يكون الْفَتْحُ إلا إما حكم الآخرة، وهذا قول مجاهد، وإما فصل في الدنيا كبدر ونحوها. وقوله تعالى:
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ إشارة إلى الْفَتْحِ الأول حسب محتملاته، فالألف واللام في الْفَتْحِ الثاني للعهد، ويَوْمَ ظرف، والعامل فيه يَنْفَعُ، ويُنْظَرُونَ معناه يؤخرون، ثم أمره تعالى بالإعراض عن الكفار وانتظار الفرج، وهذا مما نسخته آية السيف. وقوله تعالى: إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ أي العذاب، بمعنى هذا حكمهم وإن كانوا لا يشعرون، وقرأ محمد بن السميفع «منتظرون» بفتح الظاء أي للعذاب النازل بهم.
366
Icon