تفسير سورة السجدة

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة السجدة من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة السجدة مكية وهي ثلاثون آية وقيل تسع وعشرون

﴿الم﴾ إمَّا اسمٌ للسورةِ فمحلُّه الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف أي هذا مسمى ب الم والإشارةُ إليها قبل جَرَيانِ ذكرِها قد عرفتَ سرَّها وإمَّا مسرودٌ على نمطِ التعديدِ فلا محلَّ له من الإعرابِ وقولُه تعالى
﴿تَنزِيلُ الكتاب﴾ على الأولِ خبرٌ بعدَ خبرٍ على أنَّه مصدرٌ أُطلق على المفعولِ مبالغة وعلى الثَّاني خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي المؤلَّفُ من جنسِ ما ذُكر تنزيلُ الكتابِ وقيلَ خبرا الم أي المُسمَّى به تنزيلُ الكتابِ وقد مرَّ مراراً أنَّ ما يُجعل عُنواناً للموضوعِ حقُه أنْ يكونَ قبلَ ذلكَ معلومَ الانتسابِ إليه وإذْ لا عهدَ بالتَّسميةِ قبلُ فحقُها الإخبارُ بها وقوله تعالَى ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ خبرٌ ثالثٌ على الوجهِ الأولِ وثانٍ على الأخيرينِ وقيل خبرٌ لتنزيلُ الكتابِ فقولُه تعالى ﴿من رب العالمين﴾ متعلقٌ بمضمرٍ هُو حالٌ من الضمير المجرور أي كائناً منه تعالى لا بتنزيلُ لأنَّ المصدرَ لا يعملُ فيما بعد الخبرِ والأوجهُ حينئذٍ أنَّه الخبرُ ولا ريبَ فيهِ حالٌ من الكتابِ أو اعتراضٌ والضَّميرُ في فيهِ راجعٌ إلى مضمونِ الجملةِ كأنَّه قيل لا ريبَ فِى ذَلِكَ أي في كونِه منزَّلاً من ربِّ العالمين ويُؤيده قولُه تعالى
﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه﴾ فإنَّ قولَهم هذا إنكارٌ منهم لكونه من ربَّ العالمين فلا بد أن يكون موردُه حكماً مقصودَ الإفادةِ لا قيداً للحكم بنفيِ الرَّيب عنه وقد رُدَّ عليهم ذلك وأُبطل حيث جِيء بأم المنقطعةِ إنكاراً له وتعجيباً منه لغاية ظهورٍ بُطلانِه واستحالةِ كونِه مفترى ثم أُضرب عنه إلي بيانِ حقِّيةِ ما أنكروه حيثُ قيل ﴿بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبّكَ﴾ بإضافة اسم الربِّ إلى ضميره ﷺ بعد إضافته فيما سبق إلى العالمين تشريفاً له ﷺ ثم أيَّد ذلك ببيان غايته حيثُ قيل ﴿لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ فإنَّ بيان غايةِ الشيءِ وحكمته لا سيَّما عند كونها غاية حميدةً مستتبعة لمنافعَ جليلةٍ في وقت شدَّةِ الحاجة إليها ممَّا يُقرر وجودَ الشيءِ ويؤكِّده لا محالة ولقد كانت قريشٌ أضلَّ النَّاسِ وأحوجَهم إلى الهدايةِ بإرسال الرَّسول وتنزيل الكتاب حيثُ لم يبعث اليهم
79
السجدة ٤ ٦ من رسول قبله ﷺ أيْ ما أتَاهُم مِن نذير من قبل إنذارِك أو من قبل زمانِك والتَّرجِّي معتبرٌ من جهته ﷺ أي لتنذرهم راجياً لاهتدائهم أو لرجاء اهتدائهم واعلم أنَّ ما ذُكر من التَّأييدِ إنَّما يتسنَّى على ما ذُكر من كون تنزيلُ الكتابِ مبتدأً وأما على سائرِ الوجوهِ فلا تأييدَ أصلاً لأنَّ قولَه تعالى مِن رَّبّ العالمين خبرٌ رابعٌ على الوجهِ الأولِ وخبرٌ ثالثٌ على الوجهين الأخيرينِ واياما كان فكونُه من ربِّ العالمين حكمٌ مقصودُ الإفادةِ لاقيد لحكمٍ آخرَ فتدبَّر
80
﴿الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش﴾ مرِّ بيانُه فيما سلفَ ﴿مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ﴾ أي ما لكُم إذا جاوزتُم رضاه تعالى أحدٌ ينصُركم ويشفعُ لكم ويجيركم من بأسهِ أي ما لكُم سواه وليٌّ ولا شفيعٌ بل هو الذي يتولَّى مصالحَكم وينصُركم في مواطنِ النَّصرِ على أنَّ الشَّفيعَ عبارةٌ عن النَّاصرِ مجازاً فإذا خذلكم لم يبقَ لكُم وليٌّ ولا نصير ﴿أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ﴾ أي ألا تسمعُون هذه المواعظَ فلا تتذكرون بها أو أتسمعونها فلا تتذكرون بها فالإنكارُ على الأول متوجه إلى عدمِ السَّماعِ وعدم التَّذكر معاً وعلى الثاني على عدمِ التذكر مع تحقُّق ما يُوجبه من السَّماعِ
﴿يدبِّرُ الأمرَ مِنَ السماء إِلَى الارض﴾ قيل يدبِّرُ أمر الدُّنيا بأسبابٍ سماويةٍ من الملائكةِ وغيرها نازلةٍ آثارُها وأحكامُها إلى الأرضِ ﴿ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ﴾ أي يثبت في علمِه موجوداً بالفعل ﴿فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ﴾ أي في بُرهةٍ من الزَّمان متطاولةٍ والمرادُ بيانُ طول امتدادِ ما بين تدبيرِ الحوادث وحدوثِها من الزَّمان وقيل يدبر أمرَ الحوادثِ اليوميَّةِ بإثباتها في اللَّوحِ المحفوظِ فينزِلَ بها الملائكةُ ثم تعرجُ إليه في زمانٍ هو كألف سنة مما تعدون فإنَّ ما بين السَّماء والأرض مسيرةُ خمسمائةِ عامٍ وقيل يقضي قضاءَ ألفِ سنةٍ فينزل به المَلَكُ ثم يعرج بعد الألفِ لألفٍ أُخرَ وقيل يدبر أمرَ الدُّنيا جميعاً إلى قيامِ السَّاعةِ ثم يعرج إليه الأمرُ كلُّه عند قيامها وقيل يدبِّرُ المأمور به من الطَّاعاتِ منزلاً من السماء إلى الارض بالوحي ثم لا يعرجُ إليه خالصاً إلا في مدة متطاولة المخلصين والأعمال الخلَّص وأنت خبيرٌ بأنَّ قلَّةَ الأعمال الخالصةِ لا تقتضي بطءَ عروجِها إلى السَّماءِ بل قِلَّتَه وقُرىء يعدُّون بالياء
﴿ذلك﴾ إشارةٌ إلى الله عزَّ وجلَّ باعتبارِ اتصافِه بما ذُكر من خلقِ السَّمواتِ والأرضِ والاستواءِ على العرشِ وانحصارِ الولايةِ والنُّصرةِ فيه وتدبيرِ أمرِ الكائناتِ على ما ذكر من الوجهِ البديعِ وهو مبتدأٌ خبرُه ما بعده أي ذلك العظيمُ الشَّأنِ ﴿عالم الغيب والشهادة﴾ فيدبِّر أمرَهما حسبما تقتضيه الحكمةُ ﴿العزيز﴾ الغالب على امره
80
السجدة ٧ ٩ ﴿الرحيم﴾ على عبادِه وهُما خبرانِ آخرانِ وفيه إيماءٌ إلى أنَّه تعالى متفضِّلٌ في جميعِ ما ذُكر فاعلٌ بالإحسانِ
81
﴿الذى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْء خَلَقَهُ﴾ خبرٌ آخرُ أو نُصب على المدحِ أي حسّن كلَّ مخلوقٍ خلقَه إذ ما من مخلوق خلقَه إلا وهو مرتبٌ على ما تقتضيه الحكمة واوجبته المصلحة فجميع المخلوقاتِ حسنةٌ وإن تفاوتت إلى حسنٍ وأحسنَ كما قال تعالَى لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وقيل علم كيفَ يخلقُه من قوله قيمةُ المرءِ ما يُحسِن أي يُحسن معرفَته أي يعرفِه معرفةً حسنةً بتحقيقٍ وإيقانٍ وقُرىء خلْقَه على أنَّهُ بدلُ اشتمالٍ من كلِّ شيءٍ والضَّميرُ للمبدَل منه أي حسّن خلقَ كلِّ شيءٍ وقيل بدلَ الكلِّ على أن الضَّميرَ للَّهِ تعالى والخلقُ بمعنى المخلوقِ أي حسّن كلَّ مخلوقاتِه وقيل هو مفعولٌ ثانٍ لأحسنَ على تضمينه معنى أعطَى أي أعطَى كلَّ شيءٍ خلقَه اللائقَ به بطريقِ الإحسانِ والتَّفضل وقيل هو مفعولُه الأولُ وكلّ شيءٍ مفعولُه الثاني والخلقُ بمعنى المخلوقِ وضميرُه لله سبحانَه على تضمينِ الإحسانِ معنى الإلهام والتَّعريفِ والمَعنى ألهم خلقَه كلَّ شيءٍ ممَّا يحتاجون إليهِ وقال أبو البقاءِ عرَّفَ مخلوقاتِه كلَّ شيءٍ يحتاجُون إليهِ فيؤول إلى مَعنى قوله تعالى ﴿الذى أعطى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هدى﴾ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان من بينِ جميعِ المخلوقاتِ ﴿مِن طِينٍ﴾ على وجهٍ بديعٍ تحارُ العقولُ في فهمِه حيثُ برَأ آدمَ عليه السَّلامُ على فطرةٍ عجيبة منطويةٍ على فطرةِ سائرِ أفراد الجنس انطواء إجماليا مستتبِعاً لخروج كلَّ فردٍ منها من القوةِ إلى الفعلِ بحسبِ استعداداتها المتفاوتةِ قُرباً وبُعداً كما ينبىء عنه قوله تعالى
﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ﴾ إلخ أي ذُريَّتَه سُميتْ بذلك لأنَّها تنسلُ وتنفصلُ منه ﴿مِن سُلاَلَةٍ مّن مَّاء مَّهِينٍ﴾ هو المنيُّ المُمتهنُ
﴿ثُمَّ سَوَّاهُ﴾ أي عدَّله بتكميلِ أعضائِه في الرَّحمِ وتصويرِها على ما ينبغِي ﴿وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ﴾ أضافَه إليه تعالى تَشريفاً له وإيذاناً بأنَّه خلقٌ عجيبٌ وصنعٌ بديعٌ وأنَّ له شأناً له مناسبةٌ إلى حضرةِ الرُّبوبيةِ وأنَّ أقصى ما تنتهي إليه العقولُ البشريةُ من معرفتِه هذا القدرُ الذي يُعبر عنه تارةً بالإضافةِ إليه تعالى وأُخرى بالنسبةِ إلى أمرهِ تعالى كما في قولِه تعالى قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والابصار والافئدة﴾ الجعلُ إبداعيٌّ واللامُ متعلقة به والتقديمُ على المفعولِ الصَّريحِ لما مرَّ مراتٍ من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طولٍ يُخِلُّ تقديمُه بجزاله النظمِ الكريمِ أي خلق لمنفعتِكم تلك المشاعرَ لتعرفُوا أنها مع كونِها في أنفسِها نعماً جليلةً لا يُقادر قدرُها وسائلُ إلى التَّمتعِ بسائرِ النِّعمِ الدِّينية والدُّنيويةِ الفائضةِ عليكم وتشكروها بأنْ تصرفُوا كلاًّ منها إلى ما خُلق هو له فتُدركوا بسمعِكم الآياتِ التنزيليةَ الناطقةَ بالتَّوحيدِ والبعثِ وبأبصارِكم الآياتِ التكوينيةَ الشاهدةَ بهما وتستدلوا بأفئدتكم على حقيقتهما وقولُه تعالى ﴿قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾ بيانٌ لكفرِهم بتلك النِّعمِ بطريقِ الاعتراضِ التَّذييليِّ على أنَّ القِلَّةَ بمَعْنَى
81
السجدة ١٠ ١٢ النَّفيِ كما يُنبىء عنه ما بعده أيُ شكراً قليلاً أو زمانا قليلا تشكرون وفي حكايةِ أحوالِ الإنسانِ من مبدأِ فطرتِه إلى نفخِ الرُّوح فيه بطريقِ الغَيبةِ وحكايةِ أحوالِه بعد ذلك بطريقِ الخطابِ المنبىءِ عن استعدادِه للفهمِ وصلاحيتِه له من الجَزَالةِ مالا غايةَ وراءَهُ
82
﴿وَقَالُواْ﴾ كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ أباطيلِهم بطريقِ الالتفاتِ إيذاناً بأنَّ مَا ذُكر من عدمِ شكرِهم بتلك النِّعمِ موجبٌ للإعراضِ عنهم وتعديدِ جناياتِهم لغيرهم بطريق المباثة ﴿أئذا ضَلَلْنَا فِى الارض﴾ أي صِرنا ترُاباً مخلوطاً بترابِها بحيثُ لا نتميَّز منه أو غبنا فيها بالدَّفنِ وقُرىء ضلِلنا بكسرِ اللامِ من بابِ عَلِمَ وصلِلنا بالصاد المهملة من صلَّ اللحمُ إذا أنتنَ وقيل من الصِّلةِ وهي الأرضُ أي صرنا من جنسِ الصِّلَّةِ قيل القائل ابي بن خَلَفٍ ولرضاهم بقولِه أُسند القولُ إلى الكلِّ والعاملُ فِي إذَا ما يدلُّ عليه قوله تعالى ﴿أئنا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ وهو نبعثُ أو يُجدد خلقَنا والهمزةُ لتذكيرِ الإنكارِ السَّابقِ وتأكيدِه وقُرىء إنَّا على الخبرِ وأيّاً ما كان فالمَعنى على تأكيدِ الإنكارِ لا إنكارٍ التَّأكيد كما هو المتبادَرُ من تقدمِ الهمزةِ على إنَّ فإنها مؤخَّرةٌ عنها في الاعتبارِ وإنَّما تقديمُها عليها لاقتضائِها الصَّدارةَ ﴿بَلْ هُم بِلَقَاء رَبّهِمْ كافرون﴾ إضرابٌ وانتقالٌ منِ بيانِ كفرِهم بالبعثِ إلى بيانِ ما هُو أبلغُ وأشنعُ منه وهو كفرُهم بالوصولِ إلى العاقبةِ وما يلقَونه فيها من الأحوالِ والأهوالِ جميعاً
﴿قُلْ﴾ بياناً للحقِّ وردَّا على زعمِهم الباطلِ ﴿يتوفاكم مَّلَكُ الموت﴾ لا كما تزعمون أنَّ الموتَ من الأحوالِ الطَّبيعيةِ العارضةِ للحيوانِ بموجبِ الجبلَّةِ أي يقبضُ أرواحكم بحيث لايدع فيكم شيئاً أو لا يتركُ منكم أحداً على أشد مايكون من الوجوهِ وأفظعِها من ضربِ وجوهِكم وأدبارِكم ﴿الذى وكل بكم﴾ أي بقبض أرواحِكم وإحصاءِ آجالِكم ﴿ثُمَّ إلى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ بالبعث للحسابِ والجزاءِ
﴿وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون﴾ وهم القائلون أئذا ضللنا في الارض الآيةِ أو جنس المجرمينَ وهم من جملتهم ﴿ناكسو رؤوسهم عِندَ رَبّهِمْ﴾ من الحياءِ والخزيِ عند ظهورِ قبائحهم التي اقترفُوها في الدُّنيا ﴿رَبَّنَا﴾ أي يقولون رَبَّنَا ﴿أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا﴾ أي صرنا ممَّن يُبصرُ ويسمعُ وحصل لنا الاستعدادُ لإدراك الآياتِ المُبصَرةِ والآياتِ المسمُوعةِ وكنَّا من قبلُ عُميا وصُمَّا لا ندركُ شيئاً ﴿فارجعنا﴾ إلى الدُّنيا ﴿نَعْمَلْ﴾ عملاً ﴿صالحا﴾ حسبما تقتضيهِ تلك الآياتُ وقولُه تعالى ﴿إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ إدِّعاءٌ منهم لصحَّةِ الأفئدةِ والاقتدارِ على فهم معانِي الآياتِ والعملِ بموجبِها كما أنَّ ما قبله ادِّعاءٌ لصحَّةِ مشعري البصرِ والسَّمعِ كأنَّهم قالُوا وأيقنا وكنَّا من قبل لا نعقل شيئا أصلاً وإنما عدلُوا إلى الجملة الإسميةِ المؤكدةِ إظهاراً لثباتِهم على الإيقانِ وكمالِ رغبتهم فيه وكلُّ ذلك للجدِّ في الاستدعاءِ طمعاً في الإجابةِ إلى ما سألوه
82
السجدة ١٣ من الرَّجعةِ وأنَّى لهم ذلك ويجوز أنْ يقدَّر لكلَ من الفعلينِ مفعولٌ مناسبٌ له مَّما يُبصرونه ويسمعونَه فإنَّهم حينئذٍ يشاهدون الكفرَ والمعاصيَ على صورٍ منكرةٍ هائلةٍ ويخبرهم الملائكةُ بأنَّ مصيرَهم إلى النَّار لا محالَة فالمعنى أبصرْنا قبحَ أعمالِنا وكنَّا نَراها في الدُّنيا حَسنةً وسمعنا أنَّ مردَّنا إلى النَّارِ وهو الأنسبُ لما بعدَهُ من الوعدِ بالعملِ الصَّالحِ هذا وقد قيل المعنى وسمعنَا منك تصديقَ رُسلِك وأنت خبيرٌ بأنَّ تصديقَه تعالى لهم حينئذٍ يكون بإظهارِ مدلولِ ما أُخبروا به من الوعد والوعيد لا بالإخبارِ بأنَّهم صادقون حتَّى يسمعوه وقيل وسمعنا قولَ الرُّسلِ أي سمعناه سمعَ طاعةٍ وإذعانٍ ولا يقدر لترى مفعولٌ إذ المعنى لو تكون منك رؤيةٌ في ذلك الوقتِ أو يقدر ما ينبىءُ عنه صلة إذ والمضيُّ فيها وفي لو باعتبارِ أنَّ الثَّابتَ في علمِ الله تعالى بمنزلةِ الواقعِ وجوابُ لو محذوفٌ أي لرأيتَ أمراً فظيعاً لا يُقادر قدرُه والخطابُ لكلِّ أحدٍ ممَّن يصلُح له كائناً من كانَ إذِ المرادُ بيانُ كمالِ سوءِ حالِهم وبلوغِها من الفظاعةِ إلى حيثُ لا يختصُّ استغرابُها واستفظاعُها براءٍ دونَ راءٍ ممَّن اعتادَ مشاهدةَ الأمورِ البديعةِ والدَّواهيِ الفظيعةِ بل كلُّ منْ يتأتى منْهُ الرؤيةُ يتعجبُ من هولِها وفظاعتِها هذا ومَنْ علّل عمومِ الخطابِ بالقصدِ إلى بيانِ أنَّ حالَهم قد بلغتْ من الظُّهورِ إلى حيث يمتنع خفاؤها البتةَ فلا تختصُّ رؤيةُ راءٍ دون راءٍ بل كلُّ منْ يتأتى منْهُ الرُّؤيةُ فله مدخلٌ في هذا الخطابِ فقد نأى عن تحقيقِ الحقِّ لأنَّ المقصودَ بيانُ كمالِ فظاعةِ حالِهم كما يفصحُ عنه الجوابُ المحذوفُ لا بيانُ كمالِ ظهورِها فإنَّه مسوقٌ مساقَ المسلَّمات فتدبَّر
83
﴿وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ مقدر بقولٍ معطوفٍ على ما قُدِّر قبل قولِه تعالى رَبَّنَا أَبْصَرْنَا الخ أي ونقولُ لو شئنا أي لو تعلقتْ مشيئتُنا تعلقاً فعلياً بأنْ نُعطي كُلُّ نَفْسٍ منَ النفوسِ البرة والفاجرة ما تهتدي به إلى الإيمانِ والعملِ الصالحِ لأعطيناها إيَّاه في الدُّنيا التي هي دارُ الكسبِ وما أخَّرناه إلى دارِ الجزاءِ ﴿ولكن حَقَّ القول مِنْى﴾ أي سبقت كلمتي حيثُ قلتُ لإبليسَ عند قوله لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين فالحق والحق أقول لاملان جهنم منك وممن اتبعك منهم أجمعين وهو المعنيُّ بقوله تعالى ﴿لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ﴾ كما يلوحُ به تقديمُ الجِنَّة على النَّاسِ فبموجبِ ذلكَ القولِ لم نشأْ إعطاءَ الهُدى على العمومِ بل منعناه من أتباعِ إبليسَ الذين أنتُم من جُملتِهم حيثُ صَرفتُم اختيارَكم إلى الغيِّ بإغوائِه ومشيئتُنا لأفعال العباد منوطةٌ باختيارِهم إيَّاها فلمَّا لم تختارُوا الهُدى واخترتُم الضَّلالةَ لم نشأْ إعطاءَه لكم وإنَّما أعطيناه الذين اختارُوه من النُّفوسِ البرَّةِ وهم المعنيّون بما سيأتي من قولِه تعالى إِنَّمَا يؤمن بآياتنا الآيةَ فيكونُ مناطُ عدمِ مشيئة إعطاءَ الهُدى في الحقيقةِ سوءَ اختيارِهم لا تحققَ القولِ وإنَّما قيدنا المشيئةَ بما مر من التعليق الفعليِّ بأفعالِ العبادِ عند حدوثِها لأنَّ المشيئةَ الأزليةَ من حيثُ تعلُّقها بما سيكونُ من أفعالِهم إجمالاً متقدِّمةٌ على تحققِ كلمةِ العذابِ فلا يكونُ عدمُها منوطاً بتحققِها وإنَّما مناطُه علمُه تعالى أزلاً بصرفِ
83
السجدة ١٤ ١٦ اختيارِهم فيما سيأتي إلى الغيِّ وإيثارِهم له على الهدى فلو أُريدت هي من تلك الحيثيةِ لاستدرك بعدمِها ونيطَ ذلك بما ذُكر من المناطِ على منهاجِ قولِه تعالى وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ فمن توهَّم أنَّ المَعنى ولو شئنا لأعطينا كلَّ نفسٍ ما عندنا من اللُّطفِ الذي لو كان منهم اختيارُه لاهتدَوا ولكن لم نُعطهم لمّا علمنا منهم اختيارَ الكفر وإيثارَه فقد اشتبه عليه الشئون والفاء في قوله تعالى
84
﴿فذوقوا﴾ لترتيب الأمر بالذوق على ما يُعرب عنهُ ما قبلَهُ من نفيِ الرَّجعِ إلى الدُّنيا أو على الوعيدِ المحكيِّ والباء في قوله تعالى ﴿بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا﴾ للإيذانِ بأنَّ تعذيبَهم ليس لمجردِ سبقِ الوعيدِ به فقط بل هو وسبقُ الوعيدِ أيضاً بسببٍ موجبٍ له من قِبَلهم كأنَّه قيل لا رجعَ لكم الى الدنيا أو حتى وعيدي فذوقُوا بسببِ نسيانِكم لقاءَ هذا اليومِ الهائلِ وتركِكم التفكُّرَ فيهِ والاستعدادَ له بالكُلِّيةِ ﴿إِنَّا نسيناكم﴾ أي تركناكُم في العذابِ تركَ المنسيِّ بالمرَّةِ وقولُه تعالى ﴿وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ تكريرٌ للتَّأكيدِ والتَّشديدِ وتعيينُ المفعولِ المطويِّ للذوقِ والإشعارِ بأنَّ سببَه ليس مجرَّد ما ذُكر من النِّسيانِ بل له أسبابٌ أخرُ من فنونِ الكفرِ والمَعاصي التي كانُوا مستمرِّين عليها في الدُّنيا وعدمُ نظمَ الكلِّ في سلكٍ واحدٍ للتنبيهِ على استقلالِ كلَ منها في استيجابِ العذابِ وفي إبهامِ المذوقِ أولاً وبيانِه ثانياً بتكريرِ الأمرِ وتوسيطِ الاستئناف المنبئ عن كمالِ السُّخطِ بينهما من الدلالة على غاية التَّشديدِ في الانتقامِ منهم ما لا يخفى وقوله تعالى
﴿إنما يؤمن بآياتنا﴾ استئنافٌ مسوقٌ لتقريرِ عدمِ استحقاقِهم لإيتاءِ الهُدى والإشعارِ بعدمِ إيمانِهم لو أُوتوه بتعيينِ مَن يستحقُّه بطريقِ القصرِ كأنَّه قيل إنَّكم لا تُؤمنون بآياتِنا ولا تعملون بموجبِها عملاً صالحاً ولو رَجَعناكم إلى الدُّنيا كما تدَّعون حسبما ينطِق به قولُه تعالى وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وإنَّما يُؤمن بها ﴿الذين إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا﴾ أي وُعِظوا ﴿خَرُّواْ سُجَّداً﴾ آثِرَ ذي أثيرٍ من غيرِ تردُّدٍ ولا تلعثمٍ فضلاً عن التَّسويفِ إلى معاينةِ ما نطقتْ به من الوعدِ والوعيدِ أي سقطُوا على وجوهِهم ﴿وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبّهِمْ﴾ أي ونزَّهُوه عند ذلك عن كلِّ ما لا يليقُ به من الأمور التي من جُملتها العجزُ عن البعثِ ملتبسين بحمدِه تعالى على نعمائِه التي أجلُّها الهدايةُ بإيتاءِ الآياتِ والتَّوفيقِ للاهتداءِ بها والتعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيةِ بطريقِ الالتفاتِ مع الإضافةِ إلى ضميرِهم للإشعارِ بعلَّةِ التَّسبيحِ والتَّحميدِ وبأنَّهم يفعلونهما بملاحظةِ ربوبيتِه تعالى لهم ﴿وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ أي والحالُ أنَّهم خاضعون له تعالى لا يستكبرون عمَّا فعلُوا من الخُرور والتَّسبيحِ والتَّحميدِ
﴿تتجافى جُنُوبُهُمْ﴾ أي تنبُو وتتنحى ﴿عَنِ المضاجع﴾ أي الفُرشِ ومواضعِ المنامِ والجملةُ مستأنفةٌ لبيانِ بقيةِ محاسنِهم وهم المُتهجِّدونَ بالليلِ قال أنسٌ رضي الله عنه نزلتْ فينا معاشرَ الأنصارِ كنَّا نصلِّي المغربَ فلا نرجعُ إلى رحالِنا حتى نصلي
84
السجدة ١٧ ١٩ العشاء مع النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وعن انس ايضا رضيَ الله عنه أنَّه قال نزلتْ في أناسٍ من اصحاب النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم كانوا يصلُّون من صلاةِ المغربِ إلى صلاةِ العشاءِ وهي صلاةُ الأوَّابينَ وهو قولُ أبي حازمٍ ومحمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ وهو مرويٌّ عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال عطاءهم الذين لا ينامُون حتَّى يصلو العشاءَ الآخرةَ والفجرَ في جماعةٍ والمشهورُ أنَّ المرادَ منه صلاةُ اللَّيلِ وهو قولُ الحسنِ ومجاهدٍ ومالكٍ والاوزاعي وجماعة لقوله ﷺ أفضلُ الصِّيامِ بعد شهرِ رمضانَ شهرُ الله المحرَّمُ وأفضلُ الصَّلاةِ بعد الفريضةِ صلاةُ اللَّيلِ وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم في تفسيرِها قيامُ العبدِ من الليل وعنه ﷺ إذا جمعَ الله الأوَّلينَ والآخرينَ جاء منادٍ ينادي بصوتٍ يُسمع الخلائقَ كلَّهم سيعلم أهلُ الجمعِ اليَّومَ من أولى بالكرمِ ثم يرجعُ فيُنادي ليقُم الذين كانتْ تتجَافى جنوبُهم عن المضاجعِ فيقومونَ وهُم قليلٌ ثم يرجعُ فيُنادي ليقُم الذين كانُوا يحمدون الله في السرَّاءِ والضَّراءِ فيقومون وهُم قليلٌ فيسرَّحُون جميعاً إلى الجنَّةِ ثم يُحاسَب سائرُ النَّاسِ وقولُه تعالى ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ حالٌ من ضميرِ جنوبُهم أي داعينَ له تعالى على الاستمرارِ ﴿خَوْفًا﴾ من سخطِه وعذابِه وعدمِ قبولِ عبادتِه ﴿وَطَمَعًا﴾ في رحمتِه ﴿وَمِمَّا رزقناهم﴾ من المالِ ﴿يُنفِقُونَ﴾ في وجوهِ البرِّ والحسناتِ
85
﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ﴾ من النفوس لاملك مقرَّبٌ ولا نبيٌّ مرسلٌ فضلاً عمَّن عداهم ﴿مَّا أُخْفِىَ لَهُم﴾ أي لأولئكَ الذين عُدِّدت نعوتُهم الجليلةُ ﴿مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ مما تقرُّ به أعينُهم وعنْهُ ﷺ يقولُ الله عزَّ وجلَّ أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطَر على قلبِ بشرٍ بَلْهَ ما أطلعتم عليه اقرءوا إنْ شئتُم فلا تعلم نفسٌ ما أُخفي لهم من قرة اعين وقرئ ما أُخفي لهم وما نُخفي لهم وما أَخفيتُ لَهُم على صيغةِ المتكلِّمِ وما أخفى لهم على البناءِ للفاعلِ وهو الله سبحانه وقرئ قُرَّاتِ أعينٍ لاختلافِ أنواعِها والعِلمُ بمعنى المعرفةِ وما موصولةٌ أو استفهاميةٌ عُلِّق عنها الفعلُ ﴿جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي جُزوا جزاء أو أُخفي لهم للجزاءِ بما كانُوا يعملونَه في الدُّنيا من الأعمالِ الصَّالحةِ قيل هؤلاءِ القومُ أخفَوا أعمالَهم فأخفَى الله تعالى ثوابَهم
﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً﴾ أي أبعدَ ظهورِ ما بينهُما من التَّباينِ البيِّنِ يُتوهَّمُ كونُ المؤمنِ الذي حُكيت أوصافُه الفاضلةُ كالفاسقِ الذي ذُكرت أحوالُه ﴿لاَّ يَسْتَوُونَ﴾ التَّصريح به مع إفادةِ الإنكارِ لنفيِ المشابهةِ بالمرَّة على أبلغِ وجهٍ وآكدِه لبناء التَّفصيل الآتِي عليه والجمعُ باعتبار معنى من كما أن الإفراد فيما سبق باعتبارِ لفظِها وقولُه تعالَى
﴿أما الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جنات المأوى﴾ تفصيلٌ لمراتبِ الفريقينِ في الآخرةِ بعد ذكرِ أحوالِهما في الدُّنيا وأضيفتْ الجنَّةُ إلى المَأْوى لأنَّها المأوى الحقيقيُّ وإنَّما الدُّنيا منزلٌ مرتحلٌ عنه لا محالةَ وقيل المَأْوى جنَّةٌ من الجنَّاتِ وأياً ما كانَ فلا يبعُد أنْ يكونَ فيه رمزٌ إلى ما ذُكر من تجافِيهم عن مضاجعِهم
85
السجدة ٢٠ ٢٣ التي هي مأواهم في الدُّنيا ﴿نُزُلاً﴾ أي ثواباً وهو في الأصلِ ما يعد النازل من الطَّعامِ والشَّرابِ وانتصابُه على الحاليَّةِ ﴿بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ في الدُّنيا من الأعمالِ الصالحةِ أو بأعمالِهم
86
﴿وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ﴾ أي خرجُوا عن الطَّاعةِ ﴿فَمَأْوَاهُمُ﴾ أي ملجؤهم ومنزلُهم ﴿النار﴾ مكانَ جنَّاتِ المأوى للمؤمنينَ ﴿كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فيها﴾ اسئناف لبيانِ كيفيةِ كونِ النَّارِ مأواهم يُروى أنَّه يضربُهم لهَبُ النَّارِ فيرتفعونَ إلى طبقاتِها حتَّى إذا قربُوا من بابِها وأرادُوا أنْ يخرجُوا منها يضربُهم اللَّهبُ فيهوون إلى قعرِها وهكذا يُفعل بهم أبداً وكلمةُ فِي للدِّلالةِ على أنَّهم مستقرُّون فيها وإنَّما الإعادةُ من بعضِ طبقاتِها إلى بعضٍ ﴿وَقِيلَ لَهُمْ﴾ تشديداً عليهم وزيادةً في غيظِهم ﴿ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ﴾ أي بعذابِ النَّارِ ﴿تُكَذّبُونَ﴾ على الاستمرارِ في الدُّنيا
﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ العذاب الادنى﴾ أي عذابِ الدُّنيا وهو ما مُحِنُوا به من السَّنةِ سبعَ سنينَ والقتلِ والأسرِ ﴿دُونَ العذاب الأكبر﴾ الذي هُو عذابُ الآخرةِ ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ لعلَّ الذين يُشاهدونه وهُم في الحياةِ ﴿يَرْجِعُونَ﴾ يتوبُون عن الكفرِ رُوي أن الوليدَ بنَ عُقبةَ فاخرَ عليًّا رضيَ الله عنه يومَ بدرٍ فنزلتْ هذه الآياتُ
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بآيات رَبّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا﴾ بيانٌ إجماليٌّ لحالِ مَنْ قابلَ آياتِ الله تعالى بالإعراضِ بعد بيانِ حالِ مَن قابلها بالسُّجودِ والتَّسبيحِ والتَّحميدِ وكلمةُ ثمَّ لاستبعادِ الإعراضِ عنها عقلاً مع غاية وضوحها وإرشادها إلى سعادةِ الدَّارينِ كما في بيتِ الحماسةِ وَلاَ يَكْشِفُ الغَمَّاءَ إِلاَّ ابْنُ حُرَّة يَرَى غَمَراتِ المَوْتِ ثُمَّ يزُورُها أيْ هُو أظلمَ منْ كل ظالم وإنْ كانَ سبكُ التركيبِ على نفيِ الأظلمِ من غيرِ تعرضٍ لنفْي المساوي وقد مرَّ مراراً ﴿إِنَّا مِنَ المجرمين﴾ أي من كلُّ منِ اتَّصف بالإجرامِ وإنْ هانتْ جريمتُه ﴿مُنتَقِمُونَ﴾ فكيفَ ممَّن هُو أظلمَ منْ كلِّ ظالم وأشر جُرماً من كلِّ مجرم
﴿ولقد آتينا موسى الكتاب﴾ أي التوراة عبَّر عنها باسمِ الجنسِ لتحقيقِ المجانسةِ بينها وبينَ الفرقان والتنبيه أنَّ إيتاءَه لرسولِ الله ﷺ كإبنائها لمُوسى عليهِ السَّلامُ ﴿فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَةٍ مّن لّقَائِهِ﴾ من لقاءِ الكتابِ الذي هو الفُرقان كقوله وإنك لتلقَّى القرآنَ والمعنى إنَّا آتينا مُوسى مثلَ ما آتيناك من الكتابِ ولقَّيناه من الوحيِ مثلَ ما لقَّيناك من الوحيِ فلا تكُن في شكَ من أنَّك لقيتَ مثلَه ونظيرَه وقيل من لقاءِ مُوسى الكتاب أو من لقائك موسى وعنه ﷺ رأيتُ ليلة أُسري بي مُوسى رجلاً آدَمَ طُوالاً وجعدا كأنه من رجال شنوأة ﴿وجعلناه﴾ أي
86
السجدة ٢٤ ٢٧ الكتابَ الذي آتيناهُ مُوسى ﴿هدى لبني إسرائيل﴾ قيل لم يُتعبدْ بما في التوراة ولد إسمعيل
87
﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ﴾ بقيتهم بما في تضاعيفِ الكتابِ من الحُكم والأحكامِ إلى طريقِ الحقِّ أو يهدونَهم إلى ما فيهِ من دينِ الله وشرائعِه ﴿بِأَمْرِنَا﴾ إيَّاهم بذلك أو بتوفيقِنا له ﴿لَمَّا صَبَرُواْ﴾ هي لما التي فيها مَعنى الجزاءِ نحو أحسنتُ إليك لمَّا جئتنِي والضَّميرُ للأئمةِ تقديرُه لمَّا صبرُوا جعلناهُم أئمةً أو هي ظرفٌ بمعنى الحينِ أي جعلناهُم أئمةً حين صبرُوا والمرادُ صبرُهم على مشاقِّ الطاعات ومقاسات الشَّدائدِ في نُصرةِ الدِّينِ أو صبرُهم عن الدُّنيا وقرئ لِمَا صبرُوا أي لصبرِهم ﴿وكانوا بآياتنا﴾ التي في تضاعيفِ الكتابِ ﴿يُوقِنُونَ﴾ لإمعانِهم فيها النَّظرَ والمعنى كذلك لنجعلنَّ الكتابَ الذي آتيناكَه هُدى لأمَّتِك ولنجعلنَّ منهم أئمَّةً يهدون مثلَ تلك الهدايةِ
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ﴾ أي يقضِي ﴿بَيْنَهُمْ﴾ قيل بينَ الأنبياءِ وأممِهم وقيل بين المؤمنينَ والمشركينَ ﴿يَوْمُ القيامة﴾ فيميِّزُ بين المُحقِّ والمباطل ﴿فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ من أمورِ الدِّينِ
﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾ الهمزةُ فلإنكار والواوُ للعطفِ على منويَ يقتضيه المقام وفعل الهداية إما من قبيل فلانٌ يعطي في أنَّ المرادَ إيقاعُ نفسِ الفعلِ بلا ملاحظةِ المفعولِ وإمَّا بمعنى التبيينِ والمفعولُ محذوفٌ والفاعلُ ما دلَّ عليهِ قوله تعالى ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا﴾ أي أغفلُوا ولم يفعلِ الهدايةَ لهم أو ولم يبيَّن لهم مآلُ أمرِهم كثرة إهلاكنا ﴿مَنْ قبلهم مّنَ القرون﴾ مثلُ عادٍ وثمود وقوم لوط وقرئ نهدِ لهم بنونِ العظمةِ وقد جوز أن يكون الفاعلُ على القراءةِ الأولى أيضاً ضميرُه تعالى فيكون قوله تعالى كَمْ أَهْلَكْنَا الخ استئنافاً مبيِّناً لكيفيَّةِ هدايتِه تعالى ﴿يَمْشُونَ فِى مساكنهم﴾ أي يمرُّون في متاجرِهم على ديارِهم وبلادِهم ويشاهدُون آثارَ هلاكِهم والجملةُ حالٌ من ضمير لهم وقرئ يمشُون للتَّكثيرِ ﴿إِنَّ فِى ذَلِكَ﴾ أي فيما ذكر من كثرةِ إهلاكِنا للأممِ الخاليةِ العاتيةِ أو في مساكنِهم ﴿لآيَاتٍ﴾ عظيمةً في أنفسِها كثيرةً في عددِها ﴿أَفَلاَ يَسْمَعُونَ﴾ هذه الآياتِ سماعَ تدبرٍ واتِّعاظٍ
﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الماء إِلَى الارض الجرز﴾ أي التي جَرزَ نباتُها أي قُطع وأُزيل بالمرَّةِ وقيل هو اسمُ موضعٍ باليمنِ ﴿فَنُخْرِجُ بِهِ﴾ من تلك الأرضِ ﴿زَرْعاً تَأْكُلُ﴾ أي من ذلك الزَّرعِ ﴿أنعامهم﴾ كالتِّبنِ والقصيلِ والورقِ وبعضِ الحبوبِ المخصوصةِ بها وقرئ يأكلُ بالياءِ ﴿وَأَنفُسِهِمْ﴾ كالحبوبِ التي يقتاتُها الإنسانُ والثمارِ ﴿أفلا يبصرون﴾
87
السجدة ٢٨ ٣٠ أي ألا ينظرون فلا يُبصرون ذلك ليستدلُّوا به عَلى كمالِ قدرتِه تعالى وفضله
88
﴿وَيَقُولُونَ﴾ كان المسلمونَ يقولون الله سيفتحُ لنا على المشركين أو يفصلُ بيننا وبينهم وكان أهلُ مكَّةَ إذا سمعُوه يقولون بطريقِ الاستعجالِ تكذيباً واستهزاءً ﴿متى هذا الفتح﴾ أي النَّصرُ أو الفصلُ بالحكومةِ ﴿إِن كُنتُمْ صادقين﴾ في أنَّ الله تعالى ينصرُكم أو يفصلُ بيننا وبينكم
﴿قُلْ﴾ تبكيتاً لهم وتحقيقاً للحقِّ ﴿يَوْمَ الفتح لاَ يَنفَعُ الذين كَفَرُواْ إيمانهم وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ﴾ يومُ الفتح يومُ القيامةِ وهو يومُ الفصلِ بين المؤمنين وأعدائِهم ويومُ نصرِهم عليهم وقيل هو يومُ بدرٍ وعن مجاهدٍ والحسنِ يومُ فتحِ مكَّةَ والعدولُ عن تطبيقِ الجوابِ على ظاهرِ سؤالِهم للتَّنبيهِ على أنَّه ليسَ ممَّا ينبغِي أنْ يُسألَ عنه لكونِه أمراً بيِّناً غنياً عن الإخبارِ به وكذا إيمانُهم واستنظارُهم يومئذٍ وإنَّما المحتاجُ إلى البيانِ عدمُ نفعِ ذلك الإيمانِ وعدمُ الإنظارِ كأنَّه قيل لا تستعجلُوا فكأنِّي بكم قد آمنتُم فلم ينفعْكم واستنظرتُم فلم تُنظروا وهذا على الوجهِ الأولِ ظاهرٌ وأمَّا على الأخيرينِ فالموصولُ عبارةٌ عن المقتولينَ يؤمئذ لا عن كافَّة الكَفَرةِ كما في الوجه الأول كيف لا وقد نفعَ الإيمانُ الطُّلقاءَ يومَ الفتحِ وناساً أمنُوا يومَ بدرٍ
﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ ولا تُبالِ بتكذيبِهم ﴿وانتظر﴾ النُّصرةَ عليهم وهلاكَهم ﴿إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ﴾ قيل أيِ الغلبةَ عليكم كقولِه تعالى فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ والأظهرُ أنْ يقالَ إنَّهم منتظرون هلاكَهم كما في قوله تعالى ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام﴾ الآيةَ ويقرُب منه ما قيلَ ﴿وانتظرْ﴾ عذابَنا ﴿إنهم منتظرون﴾ فإنَّ استعجالَهم المذكورَ وعكوفَهم على ما هم عليه منَ الكُفر والمَعاصي فِي حُكم انتظارِهم العذابَ المترتِّبَ عليه لا محالة وقرئ على صيغةِ المفعولِ على مَعْنى أنَّهم أحقَّاءُ بأنْ يُنتظرَ هلاكُهم أو فإنَّ الملائكةَ ينتظرونَهُ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَن قرأَ ألم تنزيلُ وتباركَ الذي بيدِه الملكُ أُعطيَ منَ الأجرِ كأنَّما أحيا ليلة القدر وعنه ﷺ مَن قرأَ ألم تنزيلُ في بيتِه لم يدخُلْه الشَّيطانُ ثلاثةَ أيَّامٍ
88
سورة الاحزاب ١ ٢
﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾
89
Icon