تفسير سورة الطلاق

تفسير آيات الأحكام
تفسير سورة سورة الطلاق من كتاب روائع البيان في تفسير آيات الأحكام المعروف بـتفسير آيات الأحكام .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

سورة الطلاق
[ ١ ] أحكام الطلاق
التحليل اللفظي
﴿ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ : أي لزمان عدتهن، أو لاستقبال عدتهن. قال الجرجاني : اللام بمعنى ( في ) أي في الزمان الذي يصلح لعدتهن، وعدَّةُ المرأة أيام قروئها، وأيام إحدادها على بعلها، وأصل ذلك كله من العد لأنها تعد أيام أقرائها، أو أيام حمل الجنين، أو أربعة أشهر وعشر ليال.
﴿ وَأَحْصُواْ ﴾ : أي اضبطوا، واحفظوا، وأكملوا العدَّة ثلاثة قروء كوامل. وأصل معنى الإحصاء : العدُّ بالحصى كما كان معتاداً قديماً، ثم صار حقيقة فيما ذكر.
﴿ اتقوا الله ﴾ : أي اجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية تحميكم وتصونكم، وذلك بالطاعة في الأوامر، واجتناب النواهي.
﴿ بفاحشة ﴾ : الفاحشة، والفُحْش، والفحشاء : القبيحُ من القول والفعل، وجمعها فواحش، وكلُّ ما اشتد قبحه من الذنوب والمعاصي يسمى ( فاحشة ) ولهذا يسمى الزنى فاحشة قال تعالى :﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٣٢ ].
﴿ حُدُودُ الله ﴾ : الحدود هي الموانع عن المجاوزة نحو النواهي، والحدُّ في الحقيقة هو النهاية التي ينتهي إليها الشيء، وحدودُ الله ضربان : ضرب حدَّها للناس في مطاعمهم ومشاربهم مما أحلَّ وحرم، والضرب الثاني عقوبات جعلت لمن ركب ما نُهِيَ عنه كحد السارق.
﴿ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ : الظلم : وضع الشيء في غير موضعه، قال تعالى :﴿ إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [ لقمان : ١٣ ].
﴿ أَجَلَهُنَّ ﴾ : الأجل غاية الوقت ومدَّتُه. والمراد في الآية أي قاربن انقضاء أجل العدّة.
﴿ بِمَعْرُوفٍ ﴾ : المعروف ما يستحسن من الأفعال، وأصل المعروف ضد المنكر. والمعروف اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله، والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع، ونهى عنه من المحسِّنات والمقبِّحات.
والمعروف في الإمساك النَّصَفة وحسن العشرة والصحبة فيما للزوجة على زوجها، وفي المفارقة أداء المهر والتمتيع، والحقوق الواجبة والوفاء بالشرط.
﴿ ذَوَىْ عَدْلٍ ﴾ : أي رجلين بيّنا العدالة، والعدل : المرضيُّ قوله وحكمه.
قال الحسن : ذوي عدلٍ من المسلمين.
﴿ يَتَوَكَّلْ ﴾ : يستسلم ويعتمد في أموره على الله، لعلمه أن الله كافل رزقه وأمره فيركن إليه وحده، ويصرف أمره إليه.
﴿ حَسْبُهُ ﴾ : أي كافيه. ومنه قول المؤمن ( حسبي الله ونعم الوكيل ).
﴿ بالغ ﴾ : أي نافذ أمره والمعنى سيبلغ الله أمره فيما يريد منكم.
﴿ قَدْراً ﴾ : أي تقديراً وتوقيتاً، وهو بيان لوجوب التوكل عليه تعالى وتفويض الأمر إليه، لأن العبد إذا علم أن كلَّ شيءٍ من الرزق وغيره لا يكون إلا بتقديره تعالى، لا يبقى له إلا التسليم للقدر، والتوكل على الله تعالى.
المعنى الإجمالي
يخاطب الله سبحانه نبيه المختار ﷺ قائد الأمة إلى الخير، وهاديها إلى الحق، تشريفاً له وتعظيماً، وتنبيهاً لأمته وتعلياً، بأن المسلم إذا أراد أن يطلِّق زوجه فله ذلك. ولكن عليه أن يراعي في ذلك الوقت الذي يطلَّقها فيه، فلايطلِّقْها إلا في طهر لم يجامعها فيه، فإن فعل ذلك فعليه أن يحصي الوقت، ويضبط أيام العدة ليعرف وتعرف انتهاء عدتها.
591
وانفصام عرى الزوجية بينهما، وعلى المؤمن أن يكون مصاحباً لتقوى الله وخشيته في كل عمل يؤديه، وأمرٍ يقوم به ليكون عمله صحيحاً سليماً.
المعتدة تقعد في منزل زوجها لا يجوز له أن يُخرجها، ولا يجوز لها أن تخرج، ولو أذن لها زوجها بذلك إلا إذا ارتكبت فاحشة محققة تعذّرَ معها البقاء في منزل زوجها فتخرج لذلك، هذا أمر الله وحكمه، وحدُّه الفاصل الذي أقامه لطاعته فمن تعدَّاه، فقد ارتكب ما نهاه الله عنه، وجلب الشر والندم لنفسه، فإنه لا يدري لعل الله يحدث في قلبه ما يغيّر حاله، ويجعله راغباً في زوجه، مريداً إبقاءها في بيته، فإذا تمهّل في أمر الطلاق، واتَّبع ما أرشده إليه الكتاب الكريم كان له سعة فيما يريد، وإلاَّ ندم، ولات ساعة مندم.
وإذا شارفت المعتدة على نهاية عدتها فالخيار للزوج، والأمر إليه، إذا أراد أن يعيدها إلى منزله فعليه أن يعاملها برفق ولين، وإن أراد أن يفارقها فله ذلك مع توفية جميع حقوقها، وسواء اختار المفارقة أو الإمساك فعليه أن يُشهد على ذلك رجلين عدلين في دينهما، وخلقهما، واستقامتهما.
وعلى الشهود أن يؤدوا الشهادة لوجه الله تعالى، ولا يكتموها، أمرٌ من عند الله يتبعه المؤمن ويُخْبتُ له، ويعلم أن أمامه يوماً يسأل فيه عما قدّم وأخر.
وتقوى الله - سبحانه - تجعل للعبد مخرجاً من المضايق مادية كانت أو معنوية، ويرزق الله - القدير - عبده التقي من حيث لا يؤمل، ولا يتوهم، ومن يرجع إلى الله في أموره، ويتوكل عليه حق التوكل، فالله كافيه همَّه، وميسّر عليه أمره، وأمرُ الله وحكمه في الخلائق نافذ لا محالة، يفعل ما يشاء ويختار، ولكن لكل أجل كتاب، ولكل أمر وقت محدد.
وجوه القراءات
مُبيِّنَة : قرأ الجمهور بالكسر، وقرأ ابن كثير وأبو بكر ﴿ مُبيَّنة ﴾ بالفتح.
قوله تعالى :﴿ أَجَلَهُنَّ ﴾ : قرأ الجمهور ﴿ أجلهن ﴾ على الإفراد.
وقرأ الضحاك وابن سيرين ﴿ آجالهن ﴾ على الجمع.
قوله تعالى : بالغٌ أمرَه : قرأ الجمهور بالتنوين ﴿ بالغٌ ﴾.
وروي عن حفص ﴿ بالغُ أمرِهِ ﴾ بالإضافة.
وروي ﴿ بالغٌ أمرُهُ ﴾.
وروي ﴿ بالغاً أمرُه ﴾.
وجوه الإعراب
١- قوله تعالى :﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ هو على حذف مضاف أي لاستقبال عدتهم.
واللام للتوقيت نحو كتبته لليلةٍ بقيت من شهر رجب.
٢- قوله تعالى :﴿ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ﴾.
نصب ( لا تدري ) على جملة الترجي، فلا تدري معلّقة عن العمل، والجملة المترجاة في موضع نصب بلا تدري.
٣- قوله تعالى :﴿ بَالِغُ أَمْرِهِ ﴾.
من قرأ بالتنوين فعلى الأصل، لأن اسم الفاعل هاهنا بمعنى الاستقبال و ( أمرَه ) منصوب باسم الفاعل ( بالغٌ ) لأن اسم الفاعل يعمل عمل الفعل.
592
ومن قرأ بغير تنوين، حذف التنوين للتخفيف، وجرّ ما بعده بالإضافة.
ومن قرأ ( أمرُه ) بالرفع على أنه فاعل ل ( بالغ ) التي هي خبر إنَّ.
أو مبتدأ وبالغ خبر مقدم له، والجملة خبر إنَّ.
ومن قرأ ( بالغاً ) على أنها حال من فاعل جعل لا من المبتدأ لأنهم لا يرتضون مجيء الحال منه ( وقد جعل... ) خبر ( إنَّ ).
سبب النزول
أولاً : رُوي في « سنن » ابن ماجه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ طلّق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها.
وروى قتادة : عن أنس قال : طلّق رسولُ الله ﷺ حفصة رضي الله عنها فأتت أهلها فأنزل الله تعالى عليه ﴿ ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ وقيل له راجعها فإنها قوَّامة صوَّامة، وهي من أزواجك في الجنة.
وقال الكلبي : سبب نزول هذه الآية غضب رسول الله ﷺ على حفصة لما أسرّ إليها حديثاً، فأظهرته لعائشة، فطلّقها تطليقة فنزلت الآية.
ثانياً : وقال السّدي : نزلت في عبد الله بن عمر طلّق امرأته حائضاً تطليقة واحدة، فأمره رسول الله ﷺ بأن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر، وتحيض، ثمّ تطهر، فإذا أراد أن يطلِّقَها، فليطلِّقْها حين تطهر من قبل أن يجامعها، فتلك العدَّةُ التي أمر الله تعالى أن يُطَلَّق لها النساء.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : قوله تعالى :﴿ ياأيها النبي ﴾ نداء للنبي ﷺ وخطاب له على سبيل التكريم والتنبيه.
ويحتمل تخصيص النبي بالخطاب وجوهاً :
أحدها : اكتفاء بعلم المخاطبين بأن ما خوطب به النبي ﷺ خطاب لهم إذ كانوا مأمورين بالاقتداء به، إلا ما خص به دونهم.
والثاني : أنّ تقديره : يا أيها النبي قل لأمتك ﴿ إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء... ﴾.
والثالث : خص النداء به ﷺ على العادة في خطاب الرئيس الذي يدخل فيه الأتباع، لأن النبي ﷺ إمام أمته، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت إظهاراً لتقدمه واعتباراً لترؤسه. وفيه إظهار لجلالة منصبه ﷺ ما فيه، ولذلك اختير لفظ ( النبي ) لما فيه من الدلالة على علو مرتبته.
والرابع : الخطاب كالنداء له ﷺ إلا انه اختير ضمير الجمع للتعظيم نظير ما في قوله :( ألا فارحموني يا إله محمد ).
والخامس : إنه بعد ما خاطبه ﷺ بالنداء صرف سبحانه الخطاب عنه لأمته تكريماً له ﷺ لا في الطلاق من الكراهة فلم يُخَاطبْ به تعظيماً.
والسادس : حذف نداء الأمة، والتقدير يا أيها النبي وأمة النبي إذا طلقتم.
قال القرطبي : إذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لاطفه بقوله :﴿ ياأيها النبي ﴾ فإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعاً له قال :( يا أيها الرسول ).
593
اللطيفة الثانية : فإن قيل : ما السرّ في تسمية الطلاق ب ( الطلاق البدعي )، أو ( الطلاق السني ) ؟
فالجواب كما قال الإمام الرازي : إنما سمي بدعة لأنها إذا كانت حائضاً لم تعتد بأيام حيضها من عدتها بل تزيد على ثلاثة أقراء، فتطول العدة عليها حتى تصير كأنها أربعة أقراء، وهي في الحيض الذي طلقت فيه في صورة المعلّقة التي لا هي معتدة، ولا ذات بعل، والعقولُ تستقبح الإضرار.
ففي طلاقة إيَّاها في الحيض سوء نظر للمرأة، وفي الطلاق في الطُّهر الذي جامعها فيه، وقد حملت فيه سوء نظر للزوج.
فإذا طلقت وهي طاهر غير مجامعة أُمنَ هذان الأمران، لأنها تعتدّ عقيب طلاقه إياها، على أمان من اشتمالها على ولد منه.
اللطيفة الثالثة : قال الربيع بن خيثم :« إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكَّلَ عليه كفاه، ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجّاه، ومن دعاه أجاب له ».
وتصديق ذلك في كتاب الله ﴿ وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ [ التغابن : ١١ ] ﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ ﴿ إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ ﴾ [ التغابن : ١٧ ] ﴿ وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ آل عمران : ١٠١ ] ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ ﴾ [ البقرة : ١٨٦ ].
اللطيفة الرابعة : قال الله تعالى :﴿ واتقوا الله رَبَّكُمْ ﴾ ولم يقل ( واتقوا الله ).
قال الفخر الرازي : فيه من المبالغة ما ليس في ذلك، فإن لفظ الرب ينبِّهُهم على التربية التي هي الإنعام والإكرام بوجوه متعددة غاية التعداد فيبالغون في التقوى حينئذٍ خوفاً من فوت تلك التربية.
اللطيفة الخامسة : قال الرازي : ثم في هذه الآية لطيفة، وهي أن التقوى في رعاية أحوال النساء مفتقرة إلى المال، فقال تعالى :﴿ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ﴾ وقريب من هذا قوله تعالى :﴿ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ ﴾ [ النور : ٣٢ ]
اللطيفة السادسة : قوله تعالى :﴿ وَأَحْصُواْ العدة ﴾ إحصاء العدة يكون لمعانٍ :
أحدها : لما يريد من رجعة وإمساك، أو تسريح وفراق.
والثاني : لكي يشهد على فراقها، ويتزوج من النساء غيرها ممن لم يكن يجوز له جمعها إليها كأختها، أو أربعٍ سواها.
والثالث : لتوزيع الطلاق على الأقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثاً.
اللطيفة السابعة : قوله تعالى :﴿ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ﴾، أي من الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها. والمقصود التحريض على طلاق الواحدة، والنهيُ عن طلاق الثلاث، فإنه إذا طلَّق ثلاثاً أضر بنفسه عند الندم على الفراق، والرغبةِ في الارتجاع، فلا يجد للرجعة سبيلاً.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل الطلاق مباح أو محظور؟
لقد أباح الله تعالى الطلاق بقوله :﴿ إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ وقد روي عن رسول الله ﷺ أنه قال :
594
« إنَّ من أبغض المباحات عند الله تعالى الطلاق ».
وفي لفظ « ابغضُ الحلال إلى الله الطلاق ».
قال الحنفية والحنابلة : الطلاق محظور لما فيه من كفران نعمة النكاح لقوله ﷺ :« لعن الله كلَّ مِذْواق مِطْلاق » وإنما أبيح للحاجة، ويحمل لفظ المباح على ما أبيح في بعض الأوقات التي تتحقق فيه الحاجة المبيحة.
وقد نقل عن ابن حجر أن الطلاق :
أ- إمّا واجب كطلاق المُوْلي بعد التربص مدة أربعة أشهر وطلاقِ الحكمين في الشقاق بين الزوجين إذا لم يمكن الإصلاح.
ب- أو مندوب كأن يعجز عن القيام بحقوقها ولو لعدم الميل إليها، أو تكون غير عفيفة.
ج - أو حرام وهو الطلاق البدعي.
د- أو مكروه بأن سَلِمَ الحالُ عن ذلك كله للحديث.
الحكم الثاني : ما هو الطلاق السّني وما هي شروطه؟
روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه طلَّق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبي ﷺ فتغيظ، فقال : ليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر، وإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسّها، فتلك العدة التي أمر الله تعالى.
ولهذا الحديث حصل الإجماع على أن الطلاق في الحيض ممنوع، وفي الطهر مأذون فيه إذا لم يجامعها فيه.
والجمهور : على أنه لو طلّق لغير العدة التي أمر الله وقع طلاقه وأثمَ، وذلك لقوله ﷺ :« ثلاثة جدهن جد وهزلهنّ جد : النكاح، والطلاق، والرجعة ».
واختلف الفقهاء فيما يدخل في طلاق السنة.
فقال الحنفية : إن طلاق السنة من وجهين :
أحدهما : في الوقت وهو أن يطلقها طاهراً من غير جماع، أو حاملاً قد استبان جملها.
والآخر : من جهة العدد وهو أن لا يزيد في الطهر الواحد على تطليقة واحدة.
وقال المالكية : طلاق السنة ما جمع شروطاً سبعة :
وهو أن يطلقها واحدة، وهي ممن تحيض، طاهراً، لم يمسها في ذلك الطهر، ولا تقدَّمه طلاق في حيض، ولا تبعه طلاق في طهر يتلوه، وخلا عن العوض.
وقال الشافعية : طلاق السنة أن يطلقها كل طهر خاصة، ولو طلقها ثلاثاً في طهر لم يكن بدعة.
وقال الحنابلة : طلاق السنة أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه.
فالاتفاق واقع على أن طلاق السنة في طهر لم يجامعها فيه، وأما من أضاف كونها حاملاً فلما ورد في حديث عبد الله بن عمر أن النبي ﷺ قال لعمر :« مُرْه فليراجعها ثم ليطلقها إذا طهرت، أو وهي حامل ».
وأما العدد والخلاف فيه فبحثه عند قوله تعالى :﴿ الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان ﴾
595
[ البقرة : ٢٢٩ ].
وأما قول المالكية :« وهي ممن تحيض » فهذا شرط متفق عليه.
قال الفخر الرازي : والطلاق في السنة إنما يتصور في البالغة المدخول بها، غير الآيسة، والحامل، إذ لا سنة في الصغيرة وغير المدخول بها، والآيسة، ولا بدعة أيضاً لعدم العدة بالأقراء.
وقال أبو بكر الجصاص : والوقتُ مشروط لمن يطلق في العدة لأنَّ من لا عدة عليها بأن كان طلقها قبل الدخول فطلاقها مباح في الحيض.
وأما بقية الشروط فمختلف فيها وتنظر في كتب الفروع.
الحكم الثالث : هل للمعتدة أن تخرج من بيتها؟
دلّ قوله تعالى :﴿ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بفاحشة مُّبَيِّنَةٍ ﴾ على أنّ المطلقة لا تخرج من مسكن النكاح ما دامت في العدة، فلا يجوز لزوجها أن يُخرجها، ولا يجوز لها الخروج أيضاً إلاّ لضرورة ظاهرة، فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدّة، والرجعيةُ والمبتوتةُ في هذا سواء.
واختلف الفقهاء في خروج المعتدة من بيتها لقضاء حوائجها على مذاهب :
أ- قال مالك وأحمد : المعتدة تخرج في النهار في حوائجها، وإنما تلزم منزلها بالليل.
ب- وقال الشافعي : لا تخرج الرجعيّة ليلاً ولا نهاراً وإنما تخرج المبتوتة في النهار.
ج - وقال أبو حنيفة : المطلّقة لا تخرج ليلاً ولا نهاراً، والمتوفّى عنها زوجها لها أن تخرج في النهار.
دليل المالكية والحنابلة :
استدل مالك وأحمد بحديث ( جابر من عبد الله ) قال :« طُلّقت خالتي فأرادت أن تَجُدَ نخلها، فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي ﷺ فقال :» بلى فجُدّي نخلك، فإنك عسى أن تصدّقي أو تفعلي معروفاً «.
دليل الشافعية :
واستدل الشافعي بالآية الكريمة :﴿ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ ﴾ بالنسبة للمطلقة رجعياً فلا تخرج ليلاً ولا نهاراً.
وامّا المبتوتة فاستدل بحديث ( فاطمة بنت قيس ) فقد ورد في صحيح مسلم أنَّ ( فاطمة بنت قيس ) قالت يا رسول الله : زوجي طلقني ثلاثاً وأخاف أن يُقْتحم عليّ قال : فأمرها فتحولت.
وفي البخاري : عن عائشة أنَّ ( فاطمة بنت قيس ) كانت في مكانٍ وحش فخيف على ناحيتها، فلذلك أرخص النبي ﷺ لها.
دليل الحنفية :
واستدل أبو حنيفة بعموم قوله تعالى :﴿ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بفاحشة مُّبَيِّنَةٍ ﴾ فقد حرمت على المطلّقة أن تخرج ليلاً أو نهاراً، سواءً كانت رجعية أم مبتوتة، وأما المتوفى عنها زوجها فتحتاج للخروج نهاراً لقضاء حوائجها ولا تخرج ليلاً لعدم الضرورة.
قال الحنفية : ليس لها أن تخرج لأن السكنى حق للشرع مؤكد لا يسقط بالإذن حتى لو اختلعت على أن لا سكنى لها تبطل مؤنة السكنى عن الزوج، ويلزمها أن تكتري بيته، وأما أن يحل لها الخروج فلا.
قال الشافعية : إنهما لو اتفقا على الانتقال جاز إذ الحق لا يعدوهما، فالمعنى لا تخرجوهن ولا يخرجن باستبدادهن.
596
وقد قال الفخر الرازي :« فلم يكن لها الخروج، وإن رضي الزوج، ولا إخراجها وإن رضيت إلا عن ضرورة ».
الحكم الرابع : ما هي الفاحشة التي تخرج بها المعتدة من المنزل؟
لقد اختلف السلف في المراد بالفاحشة في قوله تعالى :﴿ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بفاحشة مُّبَيِّنَةٍ ﴾ وتبعاً لذلك اختلف الفقهاء.
فقال أبو حنيفة : بقول ابن عمر : خُروجُها قبل انقضاء العدة فاحشةٌ. فيكون معنى الآية إلا أن يأتين بفاحشة مبينة بخروجهن من بيوتهن بغير حق.
والاستثناء عليه راجع إلى ﴿ لاَ يَخْرُجْنَ ﴾ والمعنى :« لا يُسمع لهن في الخروج إلا في الخروج الذي هو فاحشة، ومن المعلوم أنه لا يُسمع لهن فيه فيكون ذلك منعاً عن الخروج على أبلغ وجه.
قال ابن الهمام : كما يقال :»
لا تزن إلاَّ أن تكون فاسقاً، ولا تشتم أُمَّك إلا أن تكون قاطع رحم، ونحو ذلك وهو بديع وبليغ جداً «.
وقال أبو يوسف بقول الحسن وزيد بن أسلم : هو أن تزني فتخرج للحد ( أي لا تُخْرجوهنَّ إلا إن زنين ).
وعن ابن عباس قال : إلا أن تبذو على أهله، فإذا فعلت ذلك حلَّ لهم أن يُخْرجوها، كما ورد عن فاطمة بنت قيس أنها أخرجت لذلك.
وعنه أيضاً قال : جميع المعاصي من سرقة أو قذف أو زنا أو غير ذلك واختاره الطبري.
وقال الضحاك : الفاحشة المبينة : عصيانُ الزوج.
وقال قتادة : إلا أن تَنْشزَ فإذا فعلت حلَّ إخراجها.
قال أبو بكر الجصاص : هذه المعاني كلها يحتملها اللفظ، وجائز أن يكون جميعها مراداً، فيكون خروجها فاحشة، وإذا زنت أخرجت للحد، وإذا بذت على أهله أخرجت أيضاً.
فأما عصيان الزوج والنشوز، فإن كان في البذاءة وسوء الخلق اللذين يتعذر القيام معها فيه فجائز أن يكون مراداً، وإن كان إنما عصت زوجها في شيء غير ذلك فإن ذلك ليس بعذر في إخراجها »
.
وأما ابن العربي فقال : أما من قال إنه الخروج للزنى، فلا وجه له لأن ذلك الخروج هو خروج القتل والإعدام، وليس ذلك بمستثنى في حلال ولا حرام، وأما من قال إنه البذاء فهو مفسر في حديث فاطمة بنت عيس، وأما من قال إنه الخروج بغير حق فهو صحيح وتقدير الكلام :« لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن شرعاً إلى أن يخرجن تعدياً ».
الحكم الخامس : ما حكم الإشهاد في الفرقة والرجعة؟
قال أبو حنيفة : الإشهاد مندوب إليه في الفرقة والرجعة لقوله تعالى :﴿ وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ] فإنَّ الإشهاد في البيع مندوب لا واجب فكذا هنا وهو قول مالك والشافعي وأحمد في أحد قوليهما.
وقال الشافعي وأحمد : في القول الآخر : الإشهاد واجب في الرَّجعة، مندوب إليه في الفرقة.
597
أدلة الجمهور :
١- لما جعل الله تعالى للزوج الإمساك أو الفراق، ثم عقَّبه بذكر الإشهاد، كان معلوماً وقوع الرجعة إذا رجع، وجوازُ الإشهاد بعد ذلك؛ إذ لم يجعل الإشهاد شرطاً في الرجعة.
٢- لم يختلف الفقهاء في أن المراد بالفراق المذكور في الآية إنما هو تَرْكُها حتى تنقضي عدتها، وأن الفرقة تصح، وإن لم يقع الإشهاد عليها، وقد ذُكر الإشهاد عقيب الفرقة، ثمَّ لم يكن شرطاً في صحتها فكذلك الرجعة.
٣- وأيضاً لما كانت الفرقة حقاً للزوج، وجازت بغير الإشهاد، إذ لا يحتاج فيها إلى رضا غيره، وكانت الرجعة أيضاً حقاً له وجب أن تجوز بغير إشهاد.
٤- وأيضاً لما أمر الله بالإشهاد على الإمساك، أو الفرقة احتياطاً لهما، ونفياً للتهمة عنهما، إذا علم الطلاق ولم يعلم الرجعة، أو لم يعلم الطلاق والفراق، فلا يؤمن التجاحد بينهما، ولم يكن معنى الاحتياط مقصوراً على الإشهاد في حال الرجعة أو الفرقة، بل يكون الاحتياط باقياً وإن أشهد بعدهما وجب أن لا يختلف حكمهما إذا أشهد بعد الرجعة بساعة أو ساعتين.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : الطلاق السني هو الطلاق الذي يكون في طهر لم تجامع فيه المرأة.
ثانياً : الطلاق البدعي ما كان في الطهر الذي جومعت فيه المرأة، أو في وقت الحيض.
ثالثاً : السكنى واجبة للمطلَّقة على زوجها قبل انتهاء عدتها فقد عصت الله وأثمت.
رابعاً : إذا خرجت المرأة من بيت زوجها قبل انتهاء عدتها فقد عصت الله وأثمت.
خامساً : حدود الله تعالى يجب التزامها وعدم تعديلها لأنها شريعة الله.
سادساً : إقامة الشهادة حق لله تعالى على عباده لدفع الظلم عن الخلائق.
سابعاً : التوكل على الله والالتجاء إليه، ملاك الأمر كله، وراحة النفس.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
الأسرة لبنة من لبنات المجتمع الإسلامي، وبها قوامه، ففيها تلتقي النفوس على المودة والرحمة، والتعاطف والستر، وفي كنفه تنبت الطفولة، وتدرج الحداثة، ومنه تمتد وشائج الرحمة، وأواصر التكافل.
ولكنّ الحياة الواقعية والطبيعة البشرية تُثْبت بين الفينة والأخرى، أنَّ هناك حالاتٍ لا يمكن معها استمرار الحياة الزوجية، لذلك شرع الله الطلاق كآخر حل من حلول تتقدمه، إن لم تُجْدِ كل المحاولات، وأباح للرجل أن يركن إلى أبغض الحلال وهو الطلاق.
ولكن ليس من السُّنة أن يُطلِّق الرجل في كل وقت يريد، فليس له أن يطلقها وهو راغب عنها في الحيض، وفي ذلك دعوة له ليتمهل ولا يسرع ليفصل عرى الزوجية، ويتفكر في محاسن زوجه لعلَّها تغلب سيئاتها، فتتغير القلوب، وتعود إلى صفائها بعد موجة من الغضب اعترتها، وسحابة غشيتْ المودة التي يُكنُّها الزوج لزوجه.
والطلاق يقع حيثما طلق في الوقت الذي بيَّنه الشرع أو في غيره، لأن فكَّ الزوجية، وهدم اللبنة الأولى للمجتمع ليس لعباً تلوكه الألسنة في كل وقت، وعند أدنى بادرة، بل هو الجد كل الجد فمن نطق به لزمته نتائجه وعصى الله - جلَّت حكمته - لأنه لم يقف عند حدوده، ويتبع تعاليمه.
وأمر الله - العليم الخبير - بإحصاء العدة لضبط انتهائها، ومعرفة أمدها بدقة لعدم إطالة الأمد على المطلَّقة، والإضرار بها، ولكيلا تنقص من مدتها مما لا يؤدي إلى المراد منها وهو التأكد من براءة رحم المطلقة من الحمل.
598
[ ٢ ] أحكام العدة
التحليل اللفظي
﴿ يَئِسْنَ ﴾ : اليأس : القنوط، وقيل : اليأس نقيض الرجاء.
﴿ المحيض ﴾ : أي الحيض، يقال حاضت المرأة حيضاً ومحيضاً، والمحيض يكون اسماً ويكون مصدراً، والحيض والمحيض : اجتماع الدم في الرحم ومنه الحوض لاجتماع الماء فيه.
﴿ ارتبتم ﴾ : أي أشكل عليكم من الريبة أي الشك، وقيل تردَّدتم أو جهلتم، وقيل : تيقنتم فهو من الأضداد.
﴿ يُكَفِّرْ ﴾ : أي يستر ويمحو الخطيئة، وأصل الكَفْر : تغطية الشيء تغطيةً تستهلكه.
﴿ وُجْدِكُمْ ﴾ : الوُجُد : المقدرة والغنى واليسار والسعة والطاقة، والمقصود من سعتكم وما ملكتم، وعلى قدر طاقتكم، وقيل من مساكنكم. والوَجْد : يستعمل في الحزن والغضب والحب، يقال : وجدت في المال أي صرت ذا مال، ووجدت على الرجل وجداً وموجدة، ووجدت الضالة وُجْداناً، والوُجد بالضم الغنى والقدرة يقال افتقر الرجل بعد وُجدٍ.
﴿ وَأْتَمِرُواْ ﴾ : افْتعَلُوا - من الأمر - يقال ائتمر القوم وتأمَّروا إذا أمر بعضهم بعضاً.
وقال الكسائي : وائْتَمروا أي تشاوروا ومنه قوله تعالى :﴿ إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ﴾ [ القصص : ٢٠ ].
وقول أمرئ القيس :
أحارُ بنَ عمرو فؤادي خَمِرْ ويعدو علي المرء ما يأتمر
وحقيقته ليأمر بعضكم بعضاً بمعروف أي جميل في الأجرة والإرضاع ولا يكن معاكسة ولا معاسرة.
﴿ تَعَاسَرْتُمْ ﴾ : أي تضايقتم، وتشاكستم، ولم يتفق الرجل والمرأة بالمشاحة من الرجل، أو طلب الزيادة من المرأة.
﴿ ذُو سَعَةٍ ﴾ : السعة نقيض الضيق، والوُسع، والوَسع، والسعة : الجدة والطاقة، وأصل السعة وُسْعة فحذفت الواو ونقصت.
المعنى الإجمالي
بيّن الله سبحانه وتعالى عدة المرأة المطلّقة في سورة البقرة في قوله :﴿ والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء ﴾ [ البقرة : ٢٢٨ ] فربط العدة بالحيض، وأما المرأة التي لا تحيض لكبر سنها، أو لصغرها أو لحملها، فقد جاءت هذه الآيات لتقول للمؤمنين : إذا جهلتم عدة التي يئست من المحيض وأشكل عليكم أمرها فعدتها ثلاثة أشهر، وكذلك عدة التي طلقت ولم تر الحيض ثلاثة أشهر، وأما الحامل فتنتهي بولادتها عدتها.
ومن يخشى الله في ما يفعل، أو يذر، ييسر الله له أمره، ويوفقه إلى الخير، وتلك الأحكام التي مرت في الطلاق، والعدة فرض الله، وحكمه، فرضه على الناس، ومن يتق الله بالتزام ما شرعه، والبعد عما نهى عنه يمح الله سيئاته، ويعطه في الآخرة أجراً عظيماً، وثواباً كبيراً.
وعلى الرجل أن يسكن مطلقته في داره التي يسكنها على قدر طاقته، ووسعه، وليس له أن يضيق عليها، ويضارها في النفقة والسكنى ليلجئها إلى الخروج من داره.
وإذا كانت المرأة حاملاً فعليه أن ينفق عليها ولو طالت مدة الحمل بعد الطلاق حتى تضع حملها، فإذا ولدت، ورضيت أن ترضع ابنها، فعلى الرجل أن يدفع لها أجر الرضاعة، وليأمر كل منهما الآخر بالمعروف في أمر الرضاع، وأجره، والحضانة ووقتها، فإن عسر الاتفاق بين الأم والأب، ولم يتوصلا إلى أمر وسط يرضيهما، فللأب حينئذٍ أن يفتش لابنه عمن يرضعه غير أمه.
599
هذا، والإنفاق على المعتدة بحسب طاقة الرجل، فإن كان غنياً فليعطها ما يلائم غناه، وإن كان فقيراً، ضيِّقَ العيش، فليس عليه أن يدفع إلا بقدر ما يستطيع فإن الله - جلت حكمته - لم يكلف الإنسان إلا بقدر ما أعطاه من الرزق، وليعلم أن حال الدنيا لا يبقى على حال، فإن الله سيجعل بعد عسر يسراً.
سبب النزول
١- أخرج الحاكم وصححه وابن جرير الطبري والبيهقي في سننه وجماعة :
أنها لما نزلت عدة المطلَّقة، والمتوفَّى عنها زوجُها في البقرة قال أُبيُّ بن كعب : يا رسول الله إنَّّ نساءً من أهل المدينة يقلن : قد بقي من النساء ما لم يذكر فيه شيء قال : وما هو؟ قال : الصغار، والكبار، وذوات الحمل.
فنزلت هذه الآية ﴿ واللائي يَئِسْنَ... ﴾ الآيات.
٢- وروى الواحدي والبغوي والخازن :
أنه لما نزل قوله تعالى :﴿ والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ... ﴾ [ البقرة : ٢٢٨ ] الآية، قال خلاد بن النعمان الأنصاري : يا رسول الله، فما عدة التي لا تحيض، وعدة التي لم تحض، وعدة الحبلى؟ فنزلت هذه الآية :﴿ واللائي يَئِسْنَ... ﴾.
وجوه القراءات
١- قوله تعالى :﴿ يَئِسْنَ ﴾ : قرا الجمهور ﴿ يئسن ﴾ فعلاً ماضياً. وقرئ ﴿ ييئسن ﴾ بياءين مضارعاً.
٢- قوله تعالى :﴿ حَمْلَهُنَّ ﴾ : قرأ الجمهور ﴿ حملهن ﴾ مفرداً. وقرأ الضحاك ﴿ أحمالهن ﴾ جمعاً.
٣- قوله تعالى :﴿ وَيُعْظِمْ ﴾ : قرأ الجمهور ﴿ يُعْظم ﴾ بالياء مضارع أعظم. وقرأ الأعمش ﴿ نعظم ﴾ بالنون خروجاً من الغيبة للتكلم.
وقرأ ابن مقسم ﴿ يُعَظّم ﴾ بالياء والتشديد مضارع ﴿ عَظّم ﴾ مشدداً. ٤- قوله تعالى :﴿ مِّن وُجْدِكُمْ ﴾ : قرأ الجمهور ﴿ من وُجدكم ﴾ بضم الواو. وقرأ الحسن وغيره ﴿ من وَجدكم ﴾ بفتحها.
وقرأ يعقوب وغيره ﴿ من وِجدكم ﴾ بكسرها.
وهي لغات ثلاث بمعنى الوسع.
٥- قوله تعالى :﴿ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ ﴾ : قرأ الجمهور ﴿ لينفق ﴾ بلام الأمر.
وحكى أبو معاذ قراءة ﴿ لينفقَ ﴾ بلام كي ونصب القاف، ويتعلق بمحذوف تقديره « شرعنا ذلك لينفقَ ».
٦- قوله تعالى :﴿ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ﴾ : قرأ الجمهور ﴿ قُدِرَ ﴾ مخففاً.
وقرأ ابن أبي عبلة ﴿ قَدّر ﴾ مشدد الدال.
وقرأ أبي بن كعب ﴿ قُدّر ﴾ بضم القاف وتشديد الدال.
وجوه الإعراب
١- ﴿ واللائي يَئِسْنَ ﴾ مبتدأ، خبره جملة فعتدتهن.
٢- ﴿ إِنِ ارتبتم ﴾ شرط جوابه محذوف، تقديره فاعلموا أنها ثلاثة أشهر، والشرط وجوابه جملة معترضة.
وجوز كون ( فعدتهن ) إلخ جواب الشرط باعتبار الإعلام والإخبار كما قوله تعالى :﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله ﴾ [ النحل : ٥٣ ] والجملة الشرطية خبر من غير حذف وتقدير.
٣- قوله تعالى :﴿ واللائي لَمْ يَحِضْنَ ﴾ :
قال الأنباري : تقديره واللائي يئسن من المحيض من نسائكم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر، إلا أنه حذف خبر الثاني لدلالة خبر الأول عليه كقولك زيد أبوه منطلق وعمرو، أي وعمرو أبوه منطلق، وهذا كثير في كلامهم.
600
قال أبو حيان : والأولى أن يقدر « مثل أولئك » أو « كذلك » فيكون المقدر مفرداً.
وجوز عطف هذا الموصول على الموصول السابق، وجعل الخبر لهما من غير تقدير.
والجملة معطوفة على ما قبلها فإعرابه مبتدأ كإعراب ﴿ واللائي يَئِسْنَ ﴾.
٤- قوله تعالى :﴿ وأولات الأحمال ﴾ مبتدأ. وأجلهن : مبتدأ ثان.
وأن يضعن حملهن : خبر المبتدأ الثاني، والمبتدأ وخبره خبر عن المبتدأ الأول.
ويجوز أن يكون ( أجلهن ) بدلاً من ( أولات ) بدل الاشتمال وجملة ( أن يضعن ) الخبر والله أعلم.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : قال أبو حيان : لمَّا كان الكلام في أمر المطلقات، وأحكامهن، من العدة وغيرها، وكنَّ لا يطلقهن أزواجهن إلا عن بغض لهنَّ وكراهة، جاء عقيب بعض الجمل ( الأمرُ بالتقوى ) حيث المعنى مبرزاً في صورة شرط وجزاء في قوله ﴿ وَمَن يَتَّقِ الله... ﴾ إذ الزوج المطلق قد ينسب إلى مطلقته بعض ما يشينها، وينفِّر الخُطَّاب عنها، ويوهم أنه فارقها لأمر ظهر له منها، فلذلك تكرَّر قوله :﴿ وَمَن يَتَّقِ الله ﴾ في العمل بما أنزله من هذه الأحكام، وحافظ على الحقوق الواجبة عليه من ترك الضرار، والنفقة على المعتدات... وغير ذلك مما يلزمه يرتب له تكفير السيئات، وإعظام الأجر.
اللطيفة الثانية : قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ ﴾ إشارة إلى ما ذكر من الأحكام، وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد المشار إليه للإيذان ببعد منزلته في الفضل، وإفرادُ الكاف مع أن الخطاب للجمع كما يفصح عنه قوله تعالى :﴿ أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ ﴾ لما أنها لمجرد الفرق بين الحاضر والمنقضي لا لتعيين خصوصية المخاطبين.
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى :﴿ أَسْكِنُوهُنَّ ﴾ وما بعده استئناف، وقع جواباً عن سؤال نشأ مما قبله من الحث على التقوى في قوله :﴿ وَمَن يَتَّقِ الله ﴾.
كأنه قيل : كيف يعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟! فقيل : اسكنوهن مسكناً من حيث سكنتم.
اللطيف الرابعة : إذا كانت كل مطلقة يجب لها النفقة فما فائدة الشرط في قوله تعالى :﴿ وَإِن كُنَّ أولات حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ ﴾ ؟!
نقول : فائدته أن مدة الحمل ربما طال وقتها بعد الطلاق، فيظن أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار من مدة الحمل، فنقي ذلك الظن بإثبات النفقة للحامل حتى تلد.
اللطيفة الخامسة : في قوله تعالى :﴿ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى ﴾ يسير معاتبة للأم إذا تعاسرت كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى « سيقضيها غيرك وأنت ملوم ».
قال اين المنبر :« وخص الأم بالمعاتبة لأن المبذول من جهتها هو لبنها لولدها، وهو جهة الأب، فإنه المال المضنون به عادة، فالأم إذن أجدر باللوم، وأحق بالعتب، والمعنى ليطلب له الأب مرضعة أخرى فيظهر الارتباط بين الشرط والجزاء ».
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هي عدة المرأة التي لا تحيض؟
المرأة غير الحائض تشمل من بلغت سن اليأس، والصغيرة التي لم تر الحيض بعد، أما من يئست من الحيض فعدتها ثلاثة أشهر بلا خلاف، وكذا الصغيرة التي لم تحض.
601
واختلف في تقدير سن اليأس على أقوال عديدة :
فقدره بعض الفقهاء بستين سنة.
وقدَّره بعضهم بخمس وخمسين سنة.
وقيل : غالب سن يأس عشيرة المرأة.
وقيل : أقصى عادة امرأة في العالم.
وقيل : غالب سن يأس النساء في مكانها التي هي فيه، فإن المكان إذا كان طيَّب الهواء والماء، يبطئ فيه سن اليأس.
وأما المرأة إذا كانت تحيض ثم لم تر الحيض في عدتها ولم يُدْر سببه :
فقال الحنفية والشافعية : إن عدتها الحيض حتى تدخل في السن التي لا تحيض أهلها من النساء فتستأنف عدة الآيسة ثلاثة أشهر.
ونقل عن علي وعثمان، وزيد بن ثابت، وابن مسعود.
وقال مالك وأحمد : تنتظر تسعة أشهر لتعلم براءة رحمها لأن هذه المدة هي غالب مدة الحمل فإذا لم يبن الحمل فيها علم براءة الرحم، ثم تعتد بعد ذلك عدة الآيسات ثلاثة أشهر. ونقل عن عمر أنه قضى ذلك.
الحكم الثاني : ما المراد من قوله تعالى :﴿ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ ﴾ ؟
قال الجصاص : غير جائز أن يكون المراد به الارتياب في الإياس؛ لأنَّا إذا شككنا هل بلغت سن اليأس لم نقل عدَّتُها ثلاثة أشهر.
واختلف أهل العلم في ( الريبة ) المذكورة في الآية على أقوال :
اختار الطبري : أن يكون المعنى « إن شككتم فلم تدروا ما الحكم فيهن؟ فالحكم أن عدتهن ثلاثة أشهر » وهو قول الجصاص فقد قال :« وذكُر الارتياب في الآية إنما هو على وجه ذكر السبب الذي نُزل عليه الحكم فكان بمعنى واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر... » ونقل عن مجاهد.
وقال مجاهد : الآية واردة في المستحاضة أطبق بها الدم لا تدري أهو دم حيض أو دم علة.
وقال عكرمة وقتادة : من الريبة المرأة المستحاضة التي لم يستقيم لها الحيض، تحيض في أول الشهر مراراً وفي الأشهر مرة.
وقيل : إنه متصل بأول السورة والمعنى « لا تخرجوهن من بيوتهن إن ارتبتم في انقضاء العدة ».
قال القرطبي : وهو أصح ما قيل فيه.
وقال الزجاج : المعنى إن ارتبتم في حيضهن، وقد انقطع عنهن الدم وكن ممن يحيض مثلهن.
وقيل : إن ارتبتم أي تيقنتم وهو من الأضداد.
الحكم الثالث : ما هي عدة الحامل؟
نصت الآية على أن الحامل تنتهي عدتها بولادتها، ودل قوله تعالى في سورة البقرة :﴿ والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ﴾ [ البقرة : ٢٣٤ ] على أن عدةاملتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً، فإذا كانت المتوفى عنها زوجها حاملاً فبأي الأجليت تأخذ؟ ولم يختلف السلف والخلف أن عدة المطلقة الحامل أن تضع حملها، واختلفوا في المتوفى عنها زوجها.
602
قال الجمهور : عدة المتوفى عنها زوجها الحامل أن تضع حملها.
وقال علي وابن عباس :﴿ وأولات الأحمال ﴾ في المطَّلقات، وأما المتوفى عنها فعدتها أبعد الأجلين، فلو وضعت قبل أربعة أشهر وعشر صبرت إلى آخرها.
حجة الجمهور :
استدل الجمهور بحديث سبيعة الأسلمية أنها كانت تحت ( سعد بن خوله ) وهو ممن شهد بدراً فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تَعلَّت من نفاسها تجمَّلت للخُطَّاب، فدخل عليها رجل من بني عبد الدار فقال لها : مالي أراك متجملة، لعلك ترتجين النكاح؟ إنك والله ما أنت بناكح حتى تمرَّ عليك أربعة أشهر وعشراً.
قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله ﷺ : فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزوج إن بدا لي.
وعن ابن مسعود أنه بلغه أن علياً يقول : تعتد آخر الأجلين فقال : ما شاء لاعنته، ما نزلت :﴿ وأولات الأحمال ﴾ إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها.
قال أبو بكر الجصاص : أفاد قول ابن مسعود أن الآية مكتفية بنفسها في إفادة الحكم على عمومها، غير مضمنة بما قبلها من ذكر المطلّقة فوجب اعتبار الحمل في الجميع، من المطلقات، والمتوفَّى عنهن أزواجهن «.
الحكم الرابع : هل للمطلقة ثلاثاً سكنى ونفقة؟
لا خلاف بين العلماء في إسكان المطلقات الرجعيات، واختلفوا في المطلقة ثلاثاً على أقوال :
ذهب مالك والشافعي : ورواية عن أحمد إلى أن لها السكنى ولا نفقة لها.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه أن لها السكنى والنفقة ما دامت في العدة.
وذهب أحمد وغيره إلى أنها لا نفقة لها ولا سكنى.
دليل المذهب الأول :
قوله تعالى :﴿ وَإِن كُنَّ أولات حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾. وذلك أن الله سبحانه لما ذكر السكنى أطلقها لكن مطلَّقة، فلما ذكر النفقة قيَّدها بالحمل، فدل على أن المطلقة البائن لا نفقة لها.
دليل المذهب الثاني :
١- قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ ﴾ وترك النفقة من أكبر الإضرار وفي إنكار عمر على فاطمة قولها ما يبين هذا.
٢- ولأنها معتدة تستحق السكنى عن طلاق فكانت لها النفقة كالرجعية.
٣- ولأنها محبوسة عليه لحقِّه فاستحقَّ النفقة كالزوجة.
٤- أن السكنى لا كانت حقاً في مال، وقد أوجبها الله لها بنص الكتاب إذ كانت الآية قد تناولت المبتوتة والرجعية، فقد اقتضى ذلك وجوب النفقة إذا كانت السكنى حقاً في مال وهي بعض النفقة.
دليل المذهب الثالث :
١- حديث فاطمة بنت قيس : أنه طلَّقها زوجها في عهد النبي ﷺ وكان أنفق عليها نفقة دون، فلما رأت ذلك قالت : والله لأعلمنَّ رسول الله ﷺ فإن كان لي نفقة أُخذت الذي يصلحني، وإن لم تكن لي نفقة لم آخذ شيئاً.
603
قالت : فذكرتُ ذلك لرسول الله ﷺ فقال :« لا نفقة لك ولا سكنى ».
وفي رواية « إنما السكنى والنفقة على من له عليها رجعة ».
٢- إن النفقة إنما تجب لأجل التمكين من الاستمتاع بدليل أن الناشز لا نفقة لها.
وللعلماء في مناقشة الأدلة كلام طويل ينظر في كتب الفروع.
الحكم الخامس : على من يجب الرضاع؟
قال المالكية : رضاع الولد على الزوجة ما دامت الزوجية إلا لشرف الزوجة وموضعها فعلى الأب رضاعة يومئذٍ في ماله، فإن طلقها فلا يلزمها رضاعة إلا أن يكون غير قابل ثدي غيرها فيلزمها رضاعه.
وقال الحنفية : لا يجب الرضاع على الأم بحال.
وقيل : يجب الرضاع على الأم في كل حال.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : المرأة اليائسة من الحيض، والصغيرة التي لم تحض، إذا طلقتا فعدتهما ثلاثة أشهر.
ثانياً : المرأة الحامل تنقضي عدتها بوضع الحمل.
ثالثاً : تقوى الله تعالى تيسّر أمور المؤمن في الدنيا، وتكفّر السيئات، وتعظم الأجر في الآخرة.
رابعاً : المرأة المعتدة تسكن في منزل زوجها حتى تنقضي عدتها.
خامساً : على الرجل أن لا يضيّق على المعتدة في النفقة أو السكنى ليجبرها على الخروج من منزله.
سادساً : نفقة الحامل تستمر حتى تضع الحمل، وإن طالت المدة.
سابعاً : للمرأة الحق الكامل في أن تأخذ أجرة على إرضاع ولدها من الرجل.
ثامناً : الإنفاق يكون بحسب مال الرجل غنىً وفقراً.
تاسعاً : التكليف منوط بالقدرة التي مكّن الله بها عبده.
حكمة التشريع
الزواج هو الأساس في بناء المجتمع الإسلامي، والطلاق هو السبيل لقطع علاقات الزوجين بعضهما من بعض، ولكنَّ للزوجية آثاراً قد يتأخر ظهورها وقتاً، فجعل الله جلّ ثناؤه العدة تمكث المرأة فيها مدة من الزمن ينفق عليها مطلقها، ويسكنها في بيته، ليكون في أمان واطمئنان، وهي تحت نظره، إن ظهر حملها، فالولد ولده، وإن لم يظهر الحمل في مدة العدة، فلم يعد بين الرجل وزوجه أية علاقة تربطهما، هو بالنسبة إليها كسائر الرجال، وهي بالنسبة إليه كسائر النساء، لا تستطيع أن تطالبه بنسب، ولا نفقة، ولا غير ذلك.
وبهذا لم يظلم الإسلام المرأة حيث فرض لها النفقة، والسكنى ما دامت محبوسة لصالح الرجل، وأمن الرجل من جهة زوجه حيث كمثت مدة يتبين معها شغل رحمها أو فراغه.
وأما الحوامل فقد جعل الله تعالى عدتهن الوضع طال أمد الحمل بعد الطلاق أم قصر، وذلك لأن براءة الرحم بعد الوضع مؤكدة، فلا حاجة إلى الانتظار.
وأمر الله تعالى الرجال أن يسكنوا النساء مما يجدون هم من سكن، وما يستطيعونه حسب مقدرتهم وغناهم، لا أقل مما هم عليه في سكناهم، ونهاهم أن يعمدوا إلى الإضرار بهن بالتضييق عليهن في فسحة المسكن، أو في المعاملة أثناء إقامتهن.
604
وخصت ذوات الأحمال بذكر النفقة مع وجوب النفقة لكل معتدة، لتوهم أن طول مدة الحمل يحدد زمن الإنفاق ببعضه دون بقيته، أو بزيادة المدة إذا قصرت مدة الحمل، فأوجب النفقة حتى الوضع، وهو موعد انتهاء العدة لزيادة الإيضاح التشريعي.
وأما الرضاع، فلم يجعله الله سبحانه واجباً على الأم دون مقابل، وما دامت ترضع الطفل المشترك بينهما، فمن حقها أن تنال أجراً على رضاعة تستعين به على حياتها، وعلى إدرار اللبن للطفل، وهذا منتهى المراعاة للأم في هذه الشريعة.
وفي الوقت ذاته أمر الأب والأم أن يأتمرا بينهما بالمعروف في شأن هذا الوليد، ويتشاورا في أمره، ورائدهما مصلحته - وهو أمانة بينهما - فلا يكون فشلهما هما في حياتهما نكبة على الصغير البريء.
والأمر منوط بالله في الفرج بعد الضيق، واليسر بعد العسر، فأولى لهما أن يعقدا به الأمر كله، ويتجها إليه، ويراقباه في كل أمرهما، وهو المانح المانع، القابض الباسط.
والزوجان يتفارقان - في ظل هذه التوجيهات القرآنية - وفي قلب كل منهما بذور للود لم تمت، وربما جاءها ما ينعشها في يوم من الأيام، إلى أدب رفيع يريد الإسلام أن يصبغ به حياة الجماعة المسلمة ويشيع فيها أرجه وشذاه.
605
Icon