تفسير سورة الإخلاص

تفسير الماتريدي
تفسير سورة سورة الإخلاص من كتاب تأويلات أهل السنة المعروف بـتفسير الماتريدي .
لمؤلفه أبو منصور المَاتُرِيدي . المتوفي سنة 333 هـ
سورة الإخلاص ( وهي مكية )١
١ في الأصل: وهي، ساقطة من م.

سُورَةُ الْإِخْلَاصِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١) اللَّهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (٤).
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ):
ذكر أن أهل مكة سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن نسب اللَّه تعالى.
وقيل: عن صفته.
وقيل عن اللَّه تعالى: ما هو؟.
فنزلت هذه السورة معلمة بجميع من يُسأل عنه وجوابه؛ ولذلك أثبت (قُلْ)؛ ليكون مخاطبة كل مسئول عن ذلك أن قل، لا على تخصيص الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بهذا الأمر؛ إذ ليس في حق الائتمار بالأمر إعادة حرف الأمر في الائتمار؛ فتبين بذلك أنه ليس على تخصيص الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالتعليم، بل هو أحق من سبق له الغناء عن تعليم الإجابة لهذا عند حضرة هذا السؤال، كما سبقت منه الدعوة إلى اللَّه - تعالى - بحقيقة ما يقتضي ما جرى به السؤال، وكما أثبت كذلك؛ ليقرأه أبدا، وحق المخصوص بالأمر أن يأتمر، ولا يجعل ذلك متلوا كذلك في الوقت الذي يحتمل المأمور الأمر به، والوقت الذي لا يحتمل؛ فثبت أن ذلك على ما بينا، ودل قوله: (قُلْ): أنه على أمر سبق عنه السؤال؛ فيكون في ذلك إجابة لما سبق عنه السؤال، وكذلك جميع ما في القرآن (قُلْ) ففيه أحد أمرين:
إما إجابة عن أمر سبق عنه السؤال؛ فينزل بحق تعريف كل مسئول عن مثله.
أو يكون اللَّه - تعالى - إذ علم أنه - عليه السلام - أو من يتبعه يسأل عما يقتضي ذلك الجواب؛ فأنزل ما به يبقى في أهل التوحيد؛ منا منه وفضلا.
ثم لم يجب تحقيق الحرف الذي وقع عنه السؤال إلا لمن شهد وسمع، وقد يتوجه ذلك الحرف الذي وقع عنه إلى ما ذكروا من الأسباب وغيرها، وفيما نزل يصلح جواب ذلك كله ويليق به، وإن كنا لا نشهد على حقيقة ما كان أنه ذا، دون ذا ونجيب بذلك لو سئلنا عما ذكرنا، وعن كل حرف يصح في العقل والحكمة الجواب بمثل ما اقتضته هذه السورة.
643
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ):
اختلف في تأويله:
من الناس من قال: هو إضافة إلى الذي عنه كان -أو يكون- السؤال المقتضي ما جرى به البيان من الجواب، أي: الذي يسألون عنه: (اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ) إلى آخر السورة.
ومنهم من قال: هو اسم اللَّه الأكبر، يروى ذلك عن بعض أولاد علي بن أبي طالب - رضي اللَّه عنهم - أنه كان يقول في دعائه: " يا هو، يا من لا هو إلا هو، يا من به كانت هوية كل هو "، وذلك يخرج على وجهين:
أحدهما: أنه هو لذاته هوية كل من سواه؛ لما هو يكون محتملا للتلاشي والوجود، إلا هو سبحانه لم يزل ولا يزال هو (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) على ما اقتضى بيان وحدانيته في هذه السورة؛ وعلى ذلك قيل: هو الأحد بذاته، المنشيء أحدية كل الآحاد، المتعالى عن كل معاني أحدية من سواه.
والثاني: أن يكون إضافه إلى اسمه الذي لا يحتمله اللسان، وهو الذي لم يطلع عليه الخلائق، وهو الذي يراد في الدعاء: " باسمك الذي من سألك به أعطيته، ومن دعاك به أجبته " فيكون السؤال به بما يكنى عنه من الوجه الذي ذكرت، لا أن يسعه اللسان أو يحتمل الطوق التفوه به تعالى.
والتأويل الأول هو أقرب إلى الأفهام، وأحق أن يكون على ذكر من يقتضي عنه السؤال، ثم التفسير على ما جرى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللََّهُ):
اختلف في المعنى الذي جرى هذا في حق أهل هذا اللسان أنه مما اشتق من أمر عرفوه أو لا عن أمر عرفوه؟ إذ في كل لسان لما أريد به عند الذكر لسان العرب اسم يدعى به ويسمى، وإن اختلف وزن كل من ذلك على اختلاف الألسن؛ ليعلم أن الأحرف والتقطيع في التكلم إنما هو ليفهم المقصود، لا على توهم حقيقة الاسم بتلك الحروف والتقطيع، وذلك كما يعبر عن تكوينه الخلائق بـ " كن "، لا على تحقيق كاف أو نون في التكوين؛ فعلى ذلك جميع ما يسمى اللَّه - تعالى - لا على تحقيق الحروف التي تجري بها
644
التسمية ممن لا يحتمل طوقه إلا بها؛ لكن على ما يقرب إلى الأفهام المراد في التفوه به.
وقال قوم: (اللَّهُ) هو المعبود في لسان العرب لا على الاستحقاق، لكن على وضع ذلك كذلك؛ دليله تسميتهم كل من عبدوه وكل شيء عبدوه: إلها، وإن كان جميع ما سوى إله الحق ممن عبد لا يحتمل شيئا من تلك المعاني التي زعم من ادعى الاشتقاق عنها من الاحتجاب، أو الالتجاء إليه، ونحو ذلك؛ فثبت أنه اسم موضوع للمعبود.
وعلى ذلك قوله - تعالى -: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)، أي: معبوده ما يهواه، لا أن للهوى شيئا من ذلك؛ فيكون المعبود الحق هو اللَّه - تعالى - لما له في كل شيء أثر عبودة ذلك الشيء ودلالة الربوبية له عليه سبحانه فهو المعبود بذاته، بمعنى المستحق بذاته العبادة من جميع خلقه والاستسلام له والخضوع بما ذكرت من الموضوع في كل آية ذلك، ولا قوة إلا باللَّه، وهذا تحقيق ما ذهبنا إليه أنه خالق بذاته؛ رحمن رحيم بذاته، موصوف به في الأزل، وإن كان الذي وصل إليه أثر رحمته وفيه ظهور دلالة تدبيره حدث بعد أن لم يكن على ما كانت العبادة والاستحقاق كان ممن حدث وفيمن كان بعد أن لم يكن، وهو إله لِيم يزل ولا يزال.
وعلى ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، و (رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ)، وإن كان من الأشياء ما سيكون، لا أنها كانت كائنة، وكذلك يوم الدِّين؛ فعلى ذلك أمر " خالق "، ونحو ذلك؛ ومن هذا الوجه أنكر قوم أن يكون الإله اسم معبود في الحقيقة، أو اسما مشتقا عن لسان؛ إذ هو لم يزل إلها، ومن به العبادة أو عنه الاشتقاق حادث.
والأصل عندنا: ما ذكرنا: أنه بجميع ما وصف به وصف بذاته؛ إذ لا يحتمل التغير والاستحالة، ولا نيل مدح بغير ممدح، وإنما يمدح به لذاته: لأنه استحق من كلٍّ ذلك لوقت كون ذلك، وعلى ذلك القول بـ " العالم " و " القادر ": أنه كذلك، وإن كان الذي علمه ممن سواه وكل مقدور عليه حادث بعد أن لم يكن، ولا قوة إلا باللَّه.
وقال الضحاك: اللَّه اسمه الأكبر؛ لأنه يبتدأ به في كل موضع.
ثم اختلف في معنى الاشتقاق:
فمنهم من يقول: أصله: إله، من أَله الرجل إلى آخر، أي: التجأ إليه واستجاره؛ فآلهه، بمعنى: أجاره وآمنه؛ فسمي: إلها على وزن الفعال؛ كما يسمى: إماما؛ لما يؤتم
645
به، وفخم بإدخال الألف واللام، ثم لين وحذف الهمزة كما هو لغة قريش، ثم أدغم أحد اللامين في الآخر، فشدد؛ فصار اللَّه.
وعلى ذلك تأويل الصمد: أن يصمد إليه من الحوائج، ويستغاث به ويلتجأ إليه.
وقيل: إن اشتقاقه من وله يله ولها؛ إذا فزع إليه، فسمي به؛ لأن المفزع إليه، وهو قريب من الأول.
ولكن حق ذلك في الاسم أن يكون ولاه، فأبدل الواو ألفا، كما يقال في وكاف: إكاف، وكذلك أهل الحجاز يجعلون الواو ألفا، قال الشاعر:
فأقبلت ألهي ثكلى على عجل
وقيل: سمي به؛ لأنه أَله كل شيء، أي: ذلله وعبَّدَه؛ فتأله له، أي: عبده، قال قائلهم:
وأَله إلهك واحدا متفردا ساد الملوك بعزه وتمجدا
وقال آخرون: سمي به؛ لاستتاره، ومنه يقال: لهت؛ فلا ترى، وقال الشاعر:
لاه ربي عن الخلائق طرا خالق الخلق لا يرى ويرانا
وقيل: سمي به؛ لتحير القلوب عن التفكر في عظمته؛ كقوله: ألاهني الشيء حتى ألهت، ومنه مفازة ملهة، يعني: العقل يحار عند النظر إلى عظمته، ومنه أَله يأله؛ فهو إله.
وقال الشاعر:
وبهما تيه تأله العين وسطها مخففة الأعلام بيد ضر ما تتملق
قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: والأصل عندنا: الإغضاء عن هذا؛ لما أن الحاجة إلى تعَرُّف الاشتقاق والوضع؛ لتعرف محل الأمر، وموقع الحكم، ومن جميع ما اشتقوا به الاسم يحتمل تسمية الغير بكل ذلك، وتحقيق الإضافة إلى ذلك وتسميته: إلها، أو إضافة ما به عرف الحقيقة - لا يحتمل غيره سبحانه وتعالى، ولا يجوز التسمية به؛ فثبت الغَناء في معرفته عن جميع الوجوه التي أريد الاستخراج منها؛ إذ هي طرق توصلهم إلى العلم بالمقصود والوقوف على المراد، وقد عرف دون الذي ذكروا، واللَّه أعلم.
646
والأصل عندنا في ذلك: أن اللَّه - سبحانه وتعالى - بلطفه يمنع الخلق عن تسمية أحد: إلها، إلا من جهة أحوال تعترض؛ فسموا به على معنى جعل الاسم الذي جرت التسمية به حقيقة له؛ فسموا؛ ظنا منهم أن بذلك التوسل والتقرب، لا أن يروا لشيء من ذلك حقيقة ذلك، بل قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وقالوا: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، وقالوا: (وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا)؛ ليعلم أنهم عرفوا لله - تعالى - بما دعوا لأنفسهم في ذلك معاني تردهم إلى اللَّه سبحانه وتعالى، فذكروا مجازا من أحد لسانين، واللَّه أعلم.
أما لسان الرسل في ذكر اللَّه ففي أمور تقربهم إلى اللَّه تعالى، لقوله: (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، وقال: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)، وقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ)، وصف مبايعة العبد ونصره أو نصر دينه نصرًا لله ومبايعته، بما يقرب ذلك إليه؛ فعلى ذلك تسميتهم ما عبدوها، لا أنهم رأوها آلهة في الحقيقة.
أو عن ألسن الفلاسفة أن ليس لله اسم ذاتي؛ وإنما سمي هو بذكر كل ذي شرف ومنزلة عنده؛ فعلى ذلك إذ محل من يعبدون عندهم ما ذكرنا من القول عنهم؛ فسموا به، لا أن حققوا كما ذكروا حقيقة ذلك الاسم إلى من عرفوه أنه إله، ردوا أمرهم في ذلك، وذلك من لطف اللَّه - تعالى - فيما سخرهم عليه؛ كتسمية الخالق والرحمن: أنهم لا يسمون أحدا بهما، وإن كثرت أفعاله، وعظمت رحمته في الخلق؛ ليعلم أنها أسماء اللَّه - تعالى - منع الخلق عن التسمي بها باللطف من حيث لا يعرف سببه.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أي: الأمر هو اللَّه أحد؛ كما تقول: إنه زيد قائم، أي: الأمر زيد قائم، جواب من يسألك: ما الأمر والشأن في أن قمت هاهنا؟ فتقول: الأمر زيد قائم، أي: قمت لأجله، إلى هذا يذهب الزجاج؛ كأنه يذهب إلى أنه لما قال: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، فقيل له: ما الأمر والشأن؛ فقال: الأمر الله أحد؛ أي: ليعرفوا أنه كذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَحَدٌ) يتوجه إلى واحد، ثم " واحد " اسم ينفي المثل في الإضافة، كما يقال: هو واحد الزمان، وواحد الخلق؛ على نفي التشبيه له عما أضيف
647
إليه، ويكون واحدا من حيث العدد بما عن مثله يبتدأ الحساب، ولا يبتدأ من أحد؛ فيصير أحدا من ذا الوجه، وإن كان اللَّه - تعالى - بأي حرف ذكر، ففيه ذلك، وهو الواحد الذي يستحيل أن تكون وحدانيته من وجه يحتمل ثانيا، أو من وجه تعديل، هو الواحد الإله الحق المتعالي عن معنى الأعداد والأنداد، وهو على ما ذكر الحكيم في الآحاد أنها أربع:
واحد هو كلٌّ لا يحتمل التضعيف؛ لإحالة كون وراء الكل.
وواحد هو الأقل، وهو الذي لا يحتمل التضعيف والتجزؤ؛ لأنه أقل الأشياء، فإذا تنصف يكون ذلك النصف أقل منه.
وواحد هو وسط، وهو الذي يحتمل التنصيف والتضعيف جميعا.
والرابع: هو الذي قام به الآحاد هو، ولا هو أخفى من هو، هو الذي انخرس عنه اللسان، وانقطع دونه البيان، وانحسرت عنه الأوهام، وحارت فيه الأفهام، فذلك الله رب العالمين.
والأصل في ذلك: أنه لا سبيل إلى العبارة عنه بغير هذا اللسان، ولا وجه للتقريب إلى الأفهام بهذا اللسان إلا بما جرى به الاعتياد، وظهرت به المعارف؛ فلما ذكرنا من الضرورة جعل التوحيد في الحقيقة بالأدلة والبراهين في ضمن التسمية في عبارة اللسان، وحقه مما أخبرت من ضرورات الأحوال في إرادة التقريب إلى الأفهام إلى عبارات اللسان المؤسس على الاعتياد في إظهار المعارف؛ فعلى ذلك القول بـ " واحد "، وبـ " أحد "، لا على أحدية غيره من جهة التوسط، أو من جهة القلة، أو من جهة الكثرة، مع ما كل من هو في معنى واحد، فهو واحد الآحاد المجتمعة، إلا الواحد الذي يقال جزء لا يتجزأ، وهو من غير في الجملة متجزئ عن توهم ذلك الجزء غير متجزئ في الوهم، أو هو الأقل منه، وهو جزء في الحقيقة، واللَّه يتعالى عن الوصف بالكل والبعض، والقليل والكثير، والواحد مما له حق الأبعاض، أو الكل، أو رتبة القليل والكثير، جل ثناؤه؛ بل هو الذي خلق جميع ما وصفت، وجعل لكل من ذلك مقابلا بما ذكر؛ ليصير كل من
648
ذلك زوجا؛ فتكون الوحدانية الحق له، ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ الصَّمَدُ (٢).
فذكر أنه أحد، وذكر أنه الصمد في تحقيق ما وصف من الأحدية، وهو - واللَّه أعلم - أن أحوج جميع من سواه؛ حتى تحقق قصد جميع من سواه بالحاجات إليه بالكون في الخلقة وفي الصلاح بعد الكون، وفي الذي به الدوام بعد الوجود، والوجود بعد العدم ما احتمل الوجود دونه، ولا البقاء إلا به، أحاطت الحاجات بكلٍّ؛ ليكون له الغَناء عن الكل في الوجود والبقاء؛ ليتحقق أنه الموجود بذاته والباقي بذاته، والمتعالي عن معنى وجود غيره سبحانه، وهو على ما ذكرنا من عجز الألسن عن البيان عنه بالعبارة إلا على التقريب إلى الأفهام بالمجعول من آثار هويته في جميع الأنام.
ثم قيل في (الصَّمَدُ) بوجوه يرجع جميع ذلك إلى ما بينا.
أحدها: السيد الذي قد انتهى سؤدده، ومعنى ذلك في المفهوم من السؤدد في صرف الحوائج إليه، ورجاء كل المحاوج به.
والثاني: في أن لا جوف له، وذلك في وصف الوحدانية والتعالي عن معنى أحدية غيره من اجتماع أجزاء ممكن فيها الفرج والثقب التي هي كالأجواف.
أو على ما فسر قوم بالذي هو في ظاهر العبارة مخرج الكتاب، وهو الذي ذكر على أثره، وهو قوله - تعالى -: (لَمْ يَلِدْ)؛ لأن كل ذي الكون ذو جوف عنه يتولد الأولاد، ويكون في ذلك إحالة قول من نسب إليه الولد؛ فيقول: كيف يكون له ولد، وقد تعلمون أنه ليس بذي جوف؟ كما قال: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ)، في قوم نزهوه عن الصاحبة، وهم لم يشهدوا الولادة إلا بها، كما لم يشهدوا الولادة إلا عن ذي جوف؛ فيكون في هذا نقض قول هذا الفريق فيه بالولادة بما نزهوه عن الجوف، كما في الأول بما برءوه عن الصاحبة.
وقيل: بما لذي الأجواف من الحاجات؛ فيرجع إلى التأويل الأول: أنه المصمود إليه
بالحوائج.
وظن قوم: أنه إذا نفى عنه الجوف ثبت أنه مصمت، وذلك معنى اجتماع أجزاء تتداخل فتتكاثر كذي الجوف هو اجتماع أجزاء تتفق، فإذا تحقق التنزيه عن أحد الوجهين تحقق التنزيه عن الوجه الآخر؛ ففي الوجهين نفي الوحدانية، وتحقيق ازدواج الأجساد مع ما قد ينفى عن أشياء أمور لا تحقق لها المقابلة؛ كما ينفى عن الأعراض: السمع والبصر والعلم، لا على إثبات مقابلتها بما علموا أن الأعراض لا تحتمل الإعراضات؛ فعلى ذلك العلم بوحدانية اللَّه - تعالى - والتنزيه عن احتمال الأزواج يحقق القول الذي ذكرت.
وقد قيل في الصمد: إنه الدائم، وذلك - أيضا - يرجع إلى ما ذكرت: أنه لا يحتمل التغير والاستحالة وإصابة أثر الحاجة، وهو المصمود إليه بالحوائج.
وقد قال قائل في التأويل الأول:
لقد بكر الناعي بخيري بني أسد بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
ويقال: صمدت إلى فلان، أي: قصدت إليه، وهذا يوضح معنى الصمد: أنه يصمد إليه في الحوائج.
وقيل في ذلك: إن الصمد تأويله: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ).
قال الشيخ أبو منصور - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الأصل: أنه - تعالى - عظم القول بالولاد ما عظم بجعل الشركاء؛ وذلك أن معنى الولاد: أن يكون بجوهر من له ولد؛ فيكون بذلك شريكا، وذلك ينفي التوحيد؛ فعلى ذلك القول بالولاد؛ لذلك عظم القول به، وألزم على من عرفه بالأدلة القول ببراءته عن الولاد؛ كما ثبت الاشتراك من الوجه الذي بينا، وقد شهد العالم بكليته بحق الخلقة على أنه - تعالى - منشئه عن الشركاء والأشباه جميعا؛ فيبطل القول بالذي ذكرنا، مع ما كان جميع الخلائق على الإشارة إلى كل منه يحتمل الازدواج، ومنه يكون التوالد، واللَّه تعالى متعالٍ عن ذلك.
وبعد: فإن كلام العالم على الإشارة إلى آحاد متولد عن غير، أو يتولد منه غير، وهما أمران راجعان إلى ما عليه حق هذا العالم، وعليه موضوعهم؛ وقد ثبت تعاليه عن
650
جميع معاني غيره؛ إذ كل غير له بجميع معانيه حدث بعد أن لم يكن أتى عليه تدبير غيره، وجرى عليه تقدير سلطان غيره، واللَّه - تعالى - لو كان يتوهم شيء من ذلك فيه تسقط له الألوهية، وتحقق له الحاجة إلى غيره، ويوجب جري سلطان غيره عليه، وذلك يوجب غيرًا خارجا عن هذه المعاني؛ حتى تسلم الأدلة له على حد الموضوع، وتصفو له الشهادة على ما قامت وانقطعت بالخلقة، وبما فيه من الحكمة، ولا قوة إلا باللَّه.
وعلى ذلك ختم السورة: أن ليس له أحد كفُؤًا؛ لأنه من ذلك توجب المماثلة، وفي المماثلة اشتراك، وقد ثبت فساد العالم بتوهم الاشتراك في تدبيره، وقد لزم التعالي عن المعاني التي للأرواح بها يقوم التدبير، ويجري سلطان التقدير.
وجائز أن يكون مخرج السورة في تحقيق نعت من قد عرفوه بإحدى خصال ثلاث: إما بالتلقين لكل عن كل، إلى أن ينتهي ذلك إلى علام الغيوب، فسخرهم بذلك وأنشأهم على ذلك؛ حتى أيقن من جحد ذلك أنه بعد تلقين متوارث ظاهر لا يحتمل مثله الخطأ في حق توارث الأمور بما يبطل المعارف كلها بأسرها - أنشئوا وبها تعالموا، وذلك كأول علوم الخلق وكالشيء المطبوع الذي لا يستطاع جحده إلا بما لعل الطباع المخلوقة على جهة الرياضة وأنواع الحيل.
وإما بالتأمل فيها في كل جزء من أجزاء العالم من الأدلة عليه والشهادة له؛ فبين بالآية للذين عرفوه بأحد الوجوه التي ذكرنا أن نعته كذا؛ ليقطع به توهم المثل له، أو العدل في أمر؛ وليعرفوا أن القول بغير خارج عن الوجوه التي ذكرنا، وأنه يرجع إلى ضرب من التلقين، ليس له حق الطباع ولا حق التلقين الذي له صفة الكافية والكلية في التلقين، ولا في حق شهادة الكل بالخلقة يدرك بالتأمل والتفكر؛ فيمتنع عن ذلك، ويرجع إلى حقيقة ما جرى به النعت دون غيره مما ألفوا فيه يرجع إلى تلقين من ذكر، وتلبيس بلا حجة؛ لذلك لا يضاهي شيئا مما ذكرت، مع ما في كل ذلك جميع ما في غير ذلك من شهادة الخلقة، والحاجة فيها إلى غيره من الإيجاد والإبقاء، وهو الأحد بما لا دليل لغيره؛ بل في ذلك إحالة الألوهية من كل الوجوه الثلاثة، وهو الصمد بمعنى المصمود إليه في
651
الحوائج، المالك لقضائها، وهو الذي لم يلد ولم يولد، وهو المتعالي عن احتمال ولاد فيه ومنه؛ لما ذكرت من فساد الألوهية الثابتة له بما ذكر من الوجوه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (٤) لما في كل أحد سواه جميع الوجوه التي منها يعرف سلطان غيره عليه، وأنه ذليل لمن ذل له كل شيء على السواء، ولا قوة إلا باللَّه، ومنه الاستهداء، ولما ذكرت سميت هذه السورة: سورة الإخلاص؛ لأنها في إخلاص التوحيد لله، ونفي الأشباه والشركاء في الألوهية والربوبية، وأن كل شيء سواه مربوب ومملوك له، ولا قوة إلا باللَّه.
* * *
Icon