تفسير سورة الفلق

نظم الدرر
تفسير سورة سورة الفلق من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ

أمر بالتعوذ برب هذا الدين، موافقة لإياك نعبد وإياك نستعين، من
406
شر ما يقدح فيه بضرر في الظاهر أو في الباطن وهم الخلائق حتى على الفنا في الغنا، وبدأ بما يعم شياطين الإنس والجن في الظاهر والباطن، ثم اتبع بما يعم القبيلين ويخص الباطن الذي يستلزم صلاحه صلاح الظاهر، إعلاماً بشرف الباطن على وجه لا يخل بالظاهر، وفي ذلك إشارة إلى الحث على معاودة القراءة من أول القرآن كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿فإذا قرأت القرآن﴾ [النحل: ٩٨]- أي أردت قراءته - ﴿فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم﴾ [النحل: ٩٨] فقال تعالى: ﴿قل﴾ أي لكل من يبلغه القول من جميع الخلائق تعليماً لهم وأمراً، فإنهم كلهم مربوبون مقهورون لا نجاة لهم في شيء من الضرر إلا بعصمته سبحانه وتعالى، فعلى كل منهم أن يفزع أول ما تصيبه المصيبة إلى مولاه القادر على كشفها تصحيحاً لتوكله فإنه يرتقي بذلك إلى حال الرضا بمر القضاء، ولا يأخذ في الاعتماد على جلادته وتدبيره بحوله وقوته فإنه يشتد أسفه ولا يرد ذلك عنه شيئاً: ﴿أعوذ﴾ أي أستجير وألتجىء وأعتصم وأحترز.
ولما كان هذا المعنى أليق شيء بصفة الربوبية لأن الإعاذة من المضار أعظم تربية قال: ﴿برب الفلق *﴾ أي الذي يربيه وينشىء منه ما يريد، وهو الشيء المفلوق بإيجاده ظلمة العدم كالعيون التي فلقت بها ظلمة
407
الأرض والجبال، وكالأمطار التي فلقت بها ظلمة الجو والسحاب، وكالنبات الذي فلقت به ظلمة الصعيد، وكالأولاد التي فلقت بها ظلمة الأحشاء، وكالصبح الذي فلقت به ظلمة الليل، وما كان من الوحشة إلى ما حصل من ذلك من الطمأنينة والسكون والأنس والسرور إلى غير ذلك من سائر المخلوقات، قال الملوي: والفلق - بالسكون والحركة كل شيء انشق عنه ظلمة العدم وأوجد من الكائنات جميعها - انتهى. وخص في العرف بالصبح فقيل: فلق الصبح، ومنه قوله تعالى: ﴿فالق الإصباح﴾ [الأنعام: ٩٦] لأنه ظاهر في تغير الحال ومحاكاة يوم القيامة الذي هو أعظم فلق يشق ظلمة الفنا والهلاك بالبعث والإحياء، فإن القادر على ما قبله بما نشاهده قادر عليه، لأنه لا فرق، بل البعث أهون في عوائد الناس لأنه إعادة، كذا سائر الممكنات، ومن قدر على ذلك قدر على إعاذة المستعيذ من كل ما يخافه ويخشاه.
ولما كانت الأشياء قسمين: عالم الخلق، وعالم الأمر، وكان عالم الأمر خيراً كله، فكان الشر منحصراً في عالم الخلق خاصة بالاستعاذة فقال تعالى معمماً فيها: ﴿من شر ما خلق *﴾ أي من كل شيء سوى الله تعالى عز وجل وصفاته، والشر تارة يكون اختيارياً من العاقل الداخل تحت مدلول «لا» وغيره من سائر الحيوان كالكفر والظلم ونهش السباع
408
ولدغ ذوات السموم، وتارة طبيعياً كإحراق النار وإهلاك السموم.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: قد أشير، أي في الكلام على ارتباط الإخلاص - إلى وجه ارتباطها آنفاً، وذلك واضح إن شاء الله تعالى - انتهى.
ولما كان عطف الخاص على العام يعرف بأن ذلك الخاص أولى أفراد العام بما ذكر له من الحكم، وكان شر الأشياء الظلام، فإنه أصل كل فساد، وكانت شرارته مع ذلك وشرارة السحر والحسد خفية، خصها بالذكر من بين ما عمه الخلق لأن الخفي يأتي من حيث لا يحتسب الإنسان فيكون أضر. ولذا قيل: شر العداة المداجي، وكانت مادة «غسق» تدور على الظلام والانصباب، فالغسق - محركة: ظلمة أول الليل، وغسقت العين: أظلمت أو دمعت، واللبن: انصب من الضرع، والليل: اشتدت ظلمته، والغسقان - محركة: الانصباب، والغاسق: القمر، وكأنه سمي به لسرعة سيره وانصبابه في البروج ولأنه ليس له من نفسه إلا الإظلام، والثريا - إذا سقطت - والله أعلم، قال في القاموس: لكثرة الطواعين والأسقام عند سقوطها، والذكر - إذا قام، كما قاله جماعة وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما،
409
وهو سبب للجهل الذي هو ظلام كله، فقال تعالى: ﴿ومن شر غاسق﴾ أي مظلم بارد منصب ظلامه وبرده سواء كان أصلاً في الظلام حسياً أو معنوياً أو كان حاملاً عليه مثل الذكر إذا قام لما يجر إليه من الوساوس الرديئة لغلبة الشهوة واستحكام سلطان الهوى، ومثل القمر لما يحدث منه من الرطوبات المفسدة للأبدان وغير ذلك انصباباً له غاية القوة كانصباب ما يفيض عن امتلاء في انحدار، ونكّره إشارة إلى أنه ليس كل غاسق مذموماً - والله أعلم.
ولما كان الشيء الذي اتصف بالظلام يكثف فيشتد انصبابه وأخذه في السفول إلى أن يستقر ويستحكم فيما صوب إليه مجتمعاً جداً كاجتماع الشيء في الوقبة وهي النقرة في الصخرة، وكان الظلام لا يشتد أذاه إلا إذا استقر وثبت، قال معبراً بأداة التحقق: ﴿إذا وقب *﴾ أي اعتكر ظلامه ودخل في الأشياء بغاية القوة كمدخول الثقيل الكثيف المنصب في النقرة التي تكون كالبئر في الصخرة الصماء الملساء، وهذا إشارة إلى أنه يسهل علاجه وزواله قبل تمكنه، وفي الحديث «لما رأى الشمس قد وقبت قال: هذا حين حلها» يعني صلاة المغرب، وفيه
410
عند أبي يعلى أنه قال لعائشة رضي الله تعالى عنها عن القمر: «تعوذي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب» وأكثر الأقوال أنه الليل، خص بالاستعاذة لأن المضار فيه تكثر ويعسر دفعها، وأصل الغسق الظلام، ويلزم منه الامتلاء، وقيل: إن الامتلاء هو الأصل، وأصل الوقوب الدخول في وقبة أو ما هو كالوقبة وهي النقرة.
ولما كان السحر أعظم ما يكون من ظلام الشر المستحكم في العروق الداخل في وقوبها. لما فيه من تفريق المرء من زوجه وأبيه وابنه، ونحو ذلك، وما فيه من ضنى الأجسام وقتل النفوس، عقب ذلك بقوله تعالى: ﴿ومن شر﴾.
ولما كان كل ساحر شريراً بخلاف الغاسق والحاسد، وكان السحر أضر من الغسق والحسد من جهة أنه شر كله، ومن جهة أنه أخفى من غيره، وكان ما هو منه من النساء أعظم لأن مبنى صحته وقوة تأثيره قلة العقل والدين ورداءة الطبع وضعف اليقين وسرعة الاستحالة، وهن أعرق في كل من هذه الصفات وأرسخ، وكان ما وجد منه من جمع وعلى وجه المبالغة أعظم من غيره عرف وبالغ وجمع وأنث ليدخل فيه ما دونه من باب الأولى فقال تعالى: ﴿النفّاثات﴾ أي النفوس الساحرة سواء كانت نفوس الرجال أو نفوس النساء أي
411
التي تبالغ في النفث وهو التفل وهو النفخ مع بعض الريق - هكذا في الكشاف، وقال صاحب القاموس: وهو كانفخ وأقل من التفل، وقال: تفل: بزق، وفي التفسير عن الزجاج أنه التفل بلا ريق، ﴿في العقد *﴾ أي تعقدها للسحر في الخيوط وما أشبهها، وسبب نزول ذلك أن يهودياً سحر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمرض كما ياتي تخريجه، فإن السحر يؤثر بإذن الله تعالى المرض ويصل إلى أن يقتل، فإذا أقر الساحر أنه قتل بسحره وهو مما يقتل غالباً قتل بذلك عند الشافعي، ولا ينافي قوله تعالى: ﴿والله يعصمك من الناس﴾ [المائدة: ٦٧] كما مضى بيانه في المائدة، ولا يوجب ذلك صدق الكفرة في وصفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه مسحور، فإنهم ما أرادوا إلا الجنون أو ما يشبهه من فساد العقل واختلاله، والمبالغة في أن كل ما يقوله لا حقيقه له كما أن ما ينشأ عن المسحور يكون مختلطاً لا تعرف حقيقته.
ولما كان أعظم حامل على السحر وغيره من أذى الناس الحسد، وهو تمني زوال نعمة المحسود:
وداريت كل الناس إلا لحاسد مداراته عزت وشق نوالها
وكيف يداري المرء حاسد نعمة إذا كان لا يرضيه إلا زوالها
قال تعالى: ﴿ومن شر حاسد﴾ أي ثابت الاتصاف بالحسد معرق
412
فيه، ونكّره لأنه ليس كل حاسد مذموماً، وأعظم الحسدة الشيطان الذي ليس له دأب إلا السعي في إزالة نعم العبادات عن الإنسان بالغفلات.
ولما كان الضار من الحسد إنما هو ما أظهر وعمل بمقتضاه بالإصابة بالعين أو غيرها قال مقيداً له: ﴿إذا حسد *﴾ أي حسد بالفعل بعينه الحاسدة، وأما - إذا لم يظهر الحسد فإنه لا يتأذى به إلا الحاسد لاغتمامه بنعمة غيره، وفي إشعار الآية الدعاء بما يحسد عليه من نعم الدارين لأن خير الناس من عاش محسوداً ومات محسوداً، ولمن لم يلق بالاً للدعاء بذلك ويهتم بتحصيل ما يحسد عليه ضحك منه إبليس إذا تلا هذه الآية لكونه ليس له فضيلة يحسد عليها، ولعله عبر بأداة التحقيق إشعاراً بأن من كان ثابت الحسد متمكناً من الاتصاف به بما أشعر به التعبير بالوصف تحقق منه إظهاره، ولم يقدر على مدافعته في الأغلب إلا من عصم الله تعالى، وقد علم بكون الحسد علة السحر - الموقع في القتل الذي هو أعظم المعاصي بعد الشرك وفي الشرك، لأنه لا يصح غاية الصحة إلا مع الشرك - أن الحسد شر ما انفلق عنه ظلام العدم، والشاهد لذلك غلبته على الأمم السالفة وتحذير الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس
413
منه بشهادة هاديها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أخرج الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، ألا والبغضاء هي الحالقة، لا أقول: إنها تحلق الشعر ولكن تحلق الدين» وفي الباب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن مسعود رضي الله عنه، وأعظم أسباب الحالقة أو كلها الحسد، فعلم بهذا رجوع آخر السورة على أولها، وانعطاف مفصلها على موصلها، ومن أعيذ من هذه المذكورات انفلق سماء قلبه عن شمس المعرفة بعد ظلام ليل الجهل، فأشرقت أرجاؤه بأنوار الحكم، إلى أن يضيق الوصف له عن بدائع الكشف:
هناك ترى ما يملأ العين قرة ويسلي عن الأوطان كل غريب
فينقطع التعلق عما سوى الله بمحض الاتباع والبعد عن الابتداع بمقتضى ﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله﴾ [آل عمران: ٣١] وقد بطل بالأمر بالاستعاذة قول الجبرية: إنا كالآلة لا فعل لنا أصلاً، وإنما نحن كالحجر لا يتحرك إلا بمحرك، لأنه لو كان هو المحرك لنا بغير اختيار لم يكن للأمر فائدة، وقول القدرية: إنا نخلق أفعالنا، وقول الفلاسفة: إنه -
414
إذا وجد السبب والمسبب حصل التأثير من غير احتياج إلى ربط إلهي كالنار والحطب، لأنه لو كان ذلك لكانت هذه الأفعال المسببات إذا وجدت من فاعليها الذين هم الأسباب، أو الأفعال التي هي الأسباب، والمسببات التي هي الأبدان المراد تأثيرها أثرت ولم تنفع الاستعاذة، والشاهد خلافه، وثبت قول الأشاعرة أهل السنة والجماعة أنه إذا وجد السبب والمسبب توقف وجود الأثر على إيجاد الله تعالى، فإن أنفذ السبب وجد الأثر، وإن لم ينفذه لم يوجد، والسورتان معلمتان بأن البلايا كثيرة وهو قادر على دفعها، فهما حاملتان على الخوف والرجاء، وذلك هو لباب العبودية، وسبب نزول المعوذتين على ما نقل الواحدي عن المفسرين رحمة الله عليهم أجمعين والبغوي عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم «أن غلاماً من اليهود كان يخدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدبت إليه اليهود فلم يزالوا به حتى أخذه مشاطة رأس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعدة أسنان من مشطه فأعطاها اليهود فسحروه فيها، وتولى ذلك لبيد بن الأعصم اليهودي، فمرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانتشر شعر رأسه، ويرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، يذوب ولا يدري ما عراه، فبينا هو نائم ذات يوم أتاه ملكان فقعد أحدهما عند رأسه
415
والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: ما بال الرجل؟ قال: طب، قال: وما طب؟ قال: سحر، قال: ومن سحره؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي، قال: وبما طبه؟ قال: بمشط ومشاطة، قال: وأين هو؟ قال: في جف طلعة ذكر تحت راغوفة في بئر ذروان - بئر في بني زريق، والجف: قشر الطلع، والراغوفة: حجر في أسفل البئر يقوم عليه المائح، فانتبه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال لعائشة رضي الله عنها:» يا عائشة! أما شعرت أن الله أخبرني بدائي! ثم بعث علياً والزبير وعمار بن ياسر رضي الله عنهم فنزحوا البئر كأنه نقاعة الحناء، ثم نزعوا الصخرة وأخرجوا الجف فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان مشطه، وإذا وتر معقد فيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالإبر «فأنزل الله سبحانه وتعالى سورتي المعوذتين، وهما إحدى عشرة آية: الفلق خمس والناس ست، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خفة حتى انحلت العقدة الأخيرة فقام كأنما نشط من عقال، وجعل جبرائيل عليه الصلاة والسلام يقول:» بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن حاسد وعين والله يشفيك «فقالوا:
416
يا رسول الله! أفلا نأخذه فنقتله؟ فقال:» أما أنا فقد شفاني الله، وأكره أن أثير على الناس شراً «وفي رواية أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى البئر بنفسه ثم رجع إلى عائشة رضي الله عنها فقال:» والله لكأن ماءها نقاعة الحناء، لكأن نخلها رؤوس الشياطين، فقلت له: يا رسول الله! «أهلا أخرجته؟ فقال:» أما أنا فقد شفاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شراً «ويجمع بأنه أتاها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفسه الشريفة فلم يخرجه ثم إنه وجد بعض الألم فأرسل إليه، فأخرجه فزال الألم كله، وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سحر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي دعا الله ودعاه، ثم قال:» أشعرت يا عائشة أن الله تعالى قد أفتاني فيما استفتيته فيه «، قلت: وما ذاك يا رسول الله، قال:» أتاني ملكان «
فذكره، وروى النسائي في المحاربة من سننه وأبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن منيع وعبد بن حميد وأبو يعلى الموصلي في مسانيدهم والبغوي في تفسيره كلهم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كان رجل يدخل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
417
فأخذ له فسحر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل من اليهود فاشتكى لذلك أياماً فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فقال:
«إن رجلاً من اليهود سحرك، عقد لك عقداً في بئر كذا وكذا، أو قال: فطرحه في بئر رجل من الأنصار، فأرسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستخرجوها فجيء بها فحلها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة، فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأنما نشط من عقال» فما ذكر ذلك لذلك اليهودي ولا رآه في وجهه قط، وفي رواية: فأتاه ملكان يعوذانه فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجله فقال أحدهما: أتدري ما وجعه؟ قال: كأن الذي يدخل عليه عقد له وألقاه في بئر، فأرسل إليه رجلاً، وفي رواية: علياً رضي الله عنه، فأخذ العقد فوجد الماء قد اصفر، قال: فأخذ العقد فحلها فبرأ، فكان الرجل بعد ذلك يدخل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يذكر له شيئاً ولم يعاتبه فيه، وهذا الفضل لمنفعة المعوذتين كما منح الله به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكذا تفضل به على سائر أمته، وروى أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح - والنسائي مسنداً أو مرسلاً - قال النووي: بالأسانيد
418
الصحيحة - عن عبد الله بن خبيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثة مرات - يكفيك كل شيء» والأحاديث في فضل هذه السور الثلاث كثيرة جداً، وجعل التعويذ في سورتين إشارة إلى استحباب تكريره، وجعلتا إحدى عشرة آية ندباً إلى تكثيره في تكريره، وقدمت الفلق التي خمس آيات مع ما مضى المناسبات لأن اقترانها بسورة التوحيد أنسب، وشفعها بسورة الناس التي هي ست آيات أنسب، ليكون الشفع بالشفع، والابتداء بالوتر بعد سورة الوتر، وحاصل هذه السورة العظمى في معناها الأبدع الأسمى الاستعاذة بالله بذكر اسمه ﴿الرب﴾ المقتضي للإحسان والتربية بجلب النعم ودفع النقم من شر ما خلق ومن السحر والحسد، كما كان أكثر البقرة المناظرة لها في رد المقطع على المطلع لكونها ثانية من الأول كما أن هذه ثانية من الآخر في ذكر أعداء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحاسدين له على ما أوتي من النعم، وفي تذكيرهم بما منحهم من النعم التي كفروها، وأكثر ذلك في بني إسرائيل الذين كانوا أشد الناس حسداً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان من أعظم ما ضلوا به السحر المشار إليه بقوله تعالى:
419
﴿واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان﴾ [البقرة: ١٠٢] حتى قال: ﴿فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه﴾ إلى أن قال: ﴿ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم﴾ [البقرة: ١٠٩] وكان السحر من أعظم ما أثر في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كيدهم حتى أنزل فيه المعوذتان، وكان الساحر له منهم، وقد انقضى ما يسر الله من الكلام على انتظام معانيها بحسب تركيب كلماتها، وبقي الكلام على كلماتها من حيث العدد، فيما تشير إليه من البركات والمدد، هي ثلاث وعشرون كلمة إشارة إلى أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السنة الثالثة والعشرين من النبوة يأمن من أذى حاسديه، وذلك بالوفاة عند تمام الدين ويأس الحاسدين من كل شيء من الأذى في الدين والدنيا، وخلاص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كل كدر، فإذا ضممت إليها الضمائر وهي خمسة كانت ثماني وعشرين، وهي توازي سنة خمس عشرة من الهجرة، وذلك عند استحكام أمر عمر رضي الله عنه في السنة الثانية من خلافته ببث العساكر وإنفاذه إلى ملك الفرس والروم وتغلغل هيبته في قلوبهم وتضعضع الفرس بغلب العرب على رستم أكبر أمرائهم، والروم بغلبهم على ماهان أعظم رؤسائهم، فاضمحل أمر المنافقين والحاسدين، وأيسوا
420
من تأثير أدنى كيد من أحد من الكائدين، فإذا ضم إليها أربع كلمات البسملة كانت اثنتين وثلاثين، إذا حسبت من أول النبوة وازتها السنة التاسعة عشرة من الهجرة، وفيها كان فتح قيسارية الروم من بلاد الشام، وبفتحها كان فتح جميع بلاد الشام، لم يبق بها بلد إلا وهي في أيدي المسلمين، فزالت عنها دولة الروم، وفيها أيضاً كان فتح جلولاء من بلاد فارس وكان فتحاً عظيماً جداً هدّ أجنادهم وملوكهم، ولذلك سمي فتح الفتوح، وحصل حينئذ أعظم الخزي للفرس والروم الذين هم أحسد الحسدة، لما كان لهم من العزة والقوة بالأموال والرجال، وإن حسبت من الهجرة وازتها سنة انقراض ملك أعظم الحسدة الأكاسرة الذين شقق ملكهم كتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأرسل إلى عامله باذان - الذي كان استخلفه على بلاد اليمن - يأمره أن يغزو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبر الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه يقتله سبحانه في ليلة سماها، فلما أتت تلك الليلة أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسل باذان بذلك، فرجعوا إلى باذان فأخبروه فقال: إن كان صادقاً فسيأتي الخبر في يوم كذا، فأتى الخبر في ذلك اليوم بصدقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
421
فأسلم باذان ومن معه من الأبناء الذين كانوا في بلاد اليمن لم يتخلف منهم أحد، وأوفد منهم وفداً على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، وتولى الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رضي الله عنهم والله أعلم.
422
سورة الناس
مقصودها الاعتصام بالإله الحق من شر الخلق الباطن، واسمها دال على ذلك لأن الإنسان مطبوع على الشر، وأكثر شره بالمكر والخداع، وأحسن من هذا أنها للاستعاذة من الشر الباطن المأنوس به المستروح إليه، فإن الوسسة لا تكون إلا بما يشتهي، والناس مشتق من الأنس، فإن أصله أناس، وهو أيضا اضطراب الباطن المشير إليه الاشتقاق من النوس، فطابق حينئذ الاسم المسمى، ومقصود هذه السورة معلول لمقصود الفقاتحة الذي هو المراقبة، وهي شاملة لجميع علوم القرآن التي هي مصادقة الله ومعاداة الشيطان ببراعة الختام وفذلكة النظام، كما أن الفاتحة شاملة لذلك لأنها براعة الاستهلال، ورعاية الجلال والجمال، فقد اتصل الآخر بالأول اتصال العلة بالمعلول، والدليل بالمدلول، والمثل بالممثول، والله المسؤول في تيسير السؤل، ت وتحقيق المأمول، فإنه الجواد ذو الطول، وبه يستعان وعليه التكلان: (بسم الله (المحيط علما بكل
423
باطن كإحاطته بكل ظاهر) الرحمن (الذي عمت نعمته كل باد وحاضر) الرحيم (الذي خص أولياءه بإتمام النعمة عليهم في جميع أمورهم الأول منها والأثناء والآخر.
424
Icon