بسم الله الرحمن الرحيم
سورة السجدةآياتها تسع وعشرون آية وقيل ثلاثون آية
بناء على الاختلاف في أن آخر الآية :﴿ لفي خلق جديد ﴾ أو هو ( كافرون ) فعلى الأول : تكون ثلاثين. وعلى الثاني : تكون تسعا وعشرين. وهي مكية قاله : ابن عباس وابن الزبير.
وأخرج البخاري عنه : هي مكية سوى ثلاث آيات نزلت بالمدينة ﴿ أفمن كان مؤمنا ﴾ إلى تمام الآيات الثلاث. وكذا قال الكلبي ومقاتل. وقيل إلا خمس آيات من قوله :( تتجافى جنوبهم ) إلى قوله ( الذي كنتم به تكذبون ). وقد ثبت عند مسلم : وأهل السنن من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة بألم تنزيل السجدة. وهل أتى على الإنسان.
وأخرج أحمد والدارمي والترمذي والنسائي والحاكم وصححه وغيرهم : عن جابر قال ( كان النبي صلى الله عليه وسلم : لا ينام حتى يقرأ الم تنزيل السجدة، وتبارك الذي بيده الملك ). وقد وردت في فضائل هذه السورة أحاديث.
ﰡ
(افتراه) أي افتعله واختلقه من تلقاء نفسه ثم أضرب عن معتقدهم هذا إلى بيان ما هو الحق في شأن الكتاب فقال:
(بل) إضراب إبطال لنفس افتراه وحده، وعلى هذا كل ما في القرآن إضراب فهو انتقال إلا هذا، فإنه يجوز أن يكون إبطالاً لإنه إبطال لقولهم أي. ليس هو كما قالوا، بل (هو الحق من ربك) فكذبهم سبحانه في دعوى الافتراء، ثم بين العلة التي كان التنزيل لأجلها فقال:
(لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك) وهم العرب؛ وكانوا أمة
(ثم استوى على العرش) بل بمعنى الواو، والعرش في اللغة سرير الملك والمراد به هنا الجسم النوراني المحيط بالعالم كله، وهذا الاستواء في سبع مواضع من القرآن الكريم والأصل الراجح أن نعتقد ما ورد به القرآن ولا نؤوله ولا نصرفه عن وجهه وهو نص وظاهر في أن الله تعالى فوق العرش بائن من خلقه بالمعنى الذي يليق بجنابه الأقدس الأعلى وتأويله إخراج النص أو الظاهر عن معناه وهذا لا يجوز قطعاً إلا عند وجود ما يساويه أو يتقدم عليه ويعارضه ودونه خرط القتاد.
وقد اختلف الناس في هذا على أربعة عشر قولاً: أولاها بالصواب مذهب سلف الأمة وأئمتها، أنه استوى عليه بلا كيف، مع تنزيهه عما لا يجوز عليه، والآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة في هذا الباب كثيرة جداً، وهي تغني عن غيرها. وردَّت الجهمية هذه الصفة الثابتة له سبحانه، وتبعها المعتزلة، ورد عليهم الحافظ ابن القيم في إعلام الموقعين بثمانية عشر وجهاً،
فالسلامة والنجاة في إمرار ذلك على الظاهر والإذعان بأن الاستواء والاستقرار (١) والكون في الفوق ثابتة على ما نطق به الكتاب والسنة من دون
_________
(١) يذهب أنصار مذهب الخلف إلى التأويل واستهجان مذهب السلف مع التسليم بأنه أسلم فيقولون مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم وناهيك بهذا من شطط، ويقابلهم في الطرف الآخر بعض دعاة مذهب السلف؛ فتند بهم أحياناً قوة الاندفاع في الدفاع عن مذهب السلف فينحرفون إلى التفسير الذي يقابل التأويل عند خصومهم. ومن هذا تعبير المؤلف بكلمة الاستقرار كعطف تفسير لكلمة الاستواء وهي كلمة لعمر الحق ليس لها أصل في الروايات القرآنية أو الحديثية في الاستواء، ومذهب السلف أبلغ ما ورد فيه قول مالك بن أنس: الاستواء معلوم. والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة أهو الاستقرار في كلام المؤلف يوهم بالكيف والتجسيم حاشاه. المطيعي.
(ما لكم من دونه) أي ليس لكم من دون الله أو من دون عذابه (من ولي) يواليكم، ويرد عنكم عذابه (ولا شفيع) يشفع لكم عنده (أفلا تتذكرون) تذكر تدبر وتفكر، وتسمعون هذه المواعظ سماع من يفهم ويعقل، حتى تنتفعوا بها وتؤمنوا، ولما بين سبحانه خلق السموات والأرض وما بينهما؛ بين تدبيره لأمرها فقال:
وقيل: المراد بالأمر المأمور به من الأعمال، أي ينزله مدبراً من السماء إلى الأرض، وقيل: يدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية من الملائكة وغيرها نازلة أحكامها وآثارها إلى الأرض. وقيل: ينزل الوحي مع جبريل، وقيل العرش موضع التدبير، كما أن ما دون العرش موضع التفصيل كما في قوله: ثم استوى على العرش يدبر الأمر يفصل الآيات، وما دون السموات موضع التصرف قال تعالى: (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا). وقال ابن عباس: يدبر الأمر هذا في الدنيا أي شأنها وحالها، والأمور التي تقع فيها، والمراد بتدبير أمرها القضاء
(ثم يعرج) قرأ الجمهور على البناء للفاعل، وقرىء على البناء للمفعول والأصل يعرج به أي يرجع ذلك الأمر، ويعود ذلك التدبير والتصرف في المخلوقات بالحشر، والحساب، ووزن الأعمال، والتعذيب، والتنعيم، وغير ذلك مما يقع في ذلك اليوم (إليه) سبحانه (في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) قرأ الجمهور بالفوقية على الخطاب، وقرىء بالتحتية على الغيبة أي تعدونه من أيام الدنيا، وذلك باعتبار مسافة النزول من السماء، والطلوع من الأرض كما قدمنا. وقيل: إن المراد يعرج إليه في يوم القيامة الذي مقداره كذا من أيام الدنيا، وذلك حين ينقطع أمر الدنيا، ويموت من فيها وقيل هي أخبار أهل الأرض تصعد إليه مع من يرسله إليها من الملائكة، والمعنى: أنه يثبت ذلك عنده، ويكتب في صحف ملائكته ما عمله أهل الأرض في كل وقت من الأوقات إلى أن تبلغ مدة الدنيا آخرها. وقيل: المعنى يثبت في عمله موجوداً بالفعل في برهة من الزمان، هي مقدار ألف سنة والمراد طول امتداد ما بين تدبير الحوادث وحدوثها من الزمان.
وقيل: يدبر أمر الحوادث اليومية بإثباتها في اللوح المحفوظ فينزل بها الملائكة. ثم يعرج إليه في زمان هو كألف سنة من أيام الدنيا. وقيل يقضي قضاء ألف سنة فينزل به الملائكة، ثم يعرج بعد الألف لألف آخر. وقيل: المراد أن الأعمال التي هي طاعات يدبرها الله سبحانه، وينزل بها ملائكته، ثم لا يعرج منها إليه إلا الخالص بعد مدة متطاولة لقلة المخلصين من عباده.
وقيل الضمير في يعرج يعود إلى الملك، وإن لم يجر له ذكر لأنه مفهوم من السياق وقد جاء صريحاً في قوله: (تعرج الملائكة والروح إليه) والضمير في (إليه) راجع إلى السماء على لغة من يذكرها، أو إلى مكان الملك الذي يرجع
وقيل المعنى يدبر أمر الشمس في الطلوع والغروب، ورجوعها إلى موضعها من الطلوع في يوم كان مقداره في المسافة ألف سنة وقيل المعنى أن الملك يعرج إلى الله في يوم كان مقداره لو ساره غير الملك ألف سنة فإن ما بين السماء والأرض مسافة خمسمائة (١) عام، فمسافة النزول من السماء إلى الأرض والرجوع من الأرض إلى السماء ألف عام، وقد رجح هذا جماعة من المفسرين منهم ابن جرير.
وقيل: مسافة النزول ألف سنة، ومسافة الطلوع ألف سنة - روي ذلك عن الضحاك. وهذا اليوم هو عبارة عن زمان يتقدر بألف سنة، وليس المراد به مسمى اليوم الذي هو مدة النهار بين ليلتين والعرب قد تعبر عن المدة باليوم كما قال الشاعر:
يومان يوم مقامات وأندية | ويوم سير إلى الاعداء تأديب |
وقد استشكل جماعة الجمع بين هذه الآية، وبين قوله: (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) فقيل في الجواب: إن يوم
_________
(١) ورد في هذا حديث موضوع كتاب " الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة " صفحة ٤٥٠ برقم ٢٢ ونصه: " بين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة عام " فلا يعتد به.
وقيل: إن يوم القيامة فيه أيام؛ فمنها ما مقداره ألف سنة، ومنها ما مقداره خمسون ألف سنة. وقيل: هي أوقات مختلفة يعذب الكافر بنوع من أنواع العذاب ألف سنة، ثم ينقل إلى نوع آخر فيعذب خمسين ألف سنة.
وقيل مواقف القيامة خمسون موقفاً كل موقف ألف سنة، فيكون معنى يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة أنه يعرج إليه في وقت من تلك الأوقات أو موقف من تلك المواقف وعن مجاهد، وقتادة والضحاك أنه أراد سبحانه في قوله: (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى، التي هي مقام جبريل.
والمراد أنه يسير جبريل ومن معه من الملائكة في ذلك المقام إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة في مقدار يوم واحد من أيام الدنيا، وأراد بقوله في يوم كان مقداره ألف سنة المسافة التي بين الأرض وبين السماء الدنيا هبوطاً وصعوداً فإنها مقدار ألف سنة من أيام الدنيا.
وقيل: إن ذلك إشارة إلى امتداد نفاذ الأمر، وذلك لأن من نفذ أمره غاية النفاذ في يوم أو يومين وانقطع، لا يكون مثل من ينفذ أمره في سنين متطاولة، فقوله في يوم كان مقداره ألف سنة يعني: يدبر الأمر في زمان يوم منه ألف سنة، فكم يكون الشهر منه، وكم تكون السنة منه، وعلى هذا فلا فرق بين ألف سنة وبين خمسين ألف سنة.
وقيل: غير ذلك، وقد وقف حبر الامة ابن عباس لما سئل عن الآيتين، وقال هما يومان ذكرهما الله في كتابه الله أعلم بهما، وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم. وقال ابن المسيب للسائل هذا ابن عباس قد أبى أن يقول فيهما وهو أعلم مني، والإشارة بقوله:
الأول: أن يكون بدلاً من (كل شيء) بدل اشتمال، والضمير عائد إلى: كل شيء، وهذا هو الوجه المشهور عند النحاة.
الثاني: أنه بدل كل من كل، والضمير راجع إلى الله سبحانه، ومعنى (أحسن) حسن؛ لأنه ما من شيء إلا وهو مخلوق على ما تقتضيه الحكمة فكل المخلوقات حسنة.
الثالث: أن يكون (كل شيء) هو المفعول الأول، وخَلْقَهُ هو المفعول الثاني، على تضمين أحسن معنى أعطى، والمعنى: أعطى كل شيء خلقه الذي خصه به، وقيل: على تضمينه معنى ألهم. قال الفراء: ألهم خلقه كل شيء يحتاجون إليه.
والخامس: أنه منصوب بنزع الخافض، والمعنى: أحسن كل شيء في خلقه، ومعنى الآية أنه أتقن وأحكم خلق مخلوقاته، فبعض المخلوقات -وإن لم تكن حسنة في نفسها- فهي متقنة محكمة، فيكون هذه الآية معناها معنى أعطى كل شيء خلقه أي: لم يخلق الإنسان على خلق البهيمة ولا خلق البهيمة على خلق الإنسان. وقيل هو عموم في اللفظ خصوص في المعنى، أي أحسن خلق كل شيء حسن. وقال ابن عباس: أما رأيت القردة ليست بحسنة، ولكنه أحكم خلقها. وعنه في الآية قال: أما آنست القردة ليست بحسنة، ولكنه أحكم خلقها، وقال: خلقه: صورته. وقال أحسن كل شيء القبيح والحسن، والعقارب، والحيات، وكل شيء مما خلق، وغيره لا يحسن شيئاًً من ذلك.
وأخرج الطبراني عن أبي أمامة قال: بينما نحن مع رسول الله - ﷺ - إذ لقينا عمرو بن زرارة الأنصاري في حلة قد أسبل، فأخذ النبي - ﷺ - بناحية ثوبه، فقال يا رسول الله إني أحمش الساقين؛ فقال رسول الله - ﷺ - " يا عمرو ابن زرارة إن الله عز وجل قد أحسن كل شيء يا عمرو إن الله لا يحب المسبلين ". وأخرج أحمد والطبراني عن الشريد بن سويد قال: " أبصر النبي - ﷺ - رجلاً قد أسبل إزاره فقال ارفع إزارك، فقال: يا رسول الله إني أحنف تصطك ركبتاي، فقال: ارفع إزارك كل خلق الله حسن ".
(وبدأ خلق الإنسان) يعني آدم خلقه (من طين) فصار على صورة بديعة، وشكل بديع حسن
(ونفخ فيه من روحه) أي جعله حياً حساساً بعد أن كان جماداً، وبالإضافة للتشريف والتكريم، وهذه الإضافة تقوي أن الكلام في آدم لا في ذريته، وإن أمكن توجيهه بالنسبة إلى الجميع، وقيل للتخصيص، أي نفخ فيه من الشيء الذي اختص هو به وبعلمه، والأول أولى ثم خاطب جميع النوع فقال:
(وجعل لكم) وفيه التفات عن الغيبة إلا الخطاب، ولم يخاطبهم قبل ذلك لأن الخطاب إنما يكون مع الحي فلما قال ونفخ فيه من روحه خاطبه بعد ذلك وقال: وجعل لكم:
(السمع) أي الأسماع (والأبصار، والأفئدة) أي القلوب تكميلاً لنعمته عليكم، وتتميماً لتسويته لخلقكم، حتى تجتمع لكم هذه النعم، فتسمعون كل مسموع، وتبصرون كل مبصر، وتعقلون كل متعقل، وتفهمون كل ما يفهم، وأفرد السمع لكونه مصدراً يشمل القليل والكثير، وخص السمع بذكر المصدر دون البصر والفؤاد، فذكرهما بالاسم، ولهذا جمعا لأن السمع قوة واحدة. ولها محل واحد، وهو الأذن، ولا اختيار لها فيه، فإن الصوت يصل إليها ولا يقدر على رده، ولا على تخصيص السمع ببعض المسموعات دون بعض؛ بخلاف الأبصار فمحلها العين، وله فيه اختيار، فإنها تتحرك إلا جانب المرئي دون غيره، وتطبق أجفانها إذا لم ترد الرؤية لشيء، وكذلك الفؤاد له نوع اختيار في إدراكه فيتعقل هذا دون هذا، ويفهم هذا دون هذا.
(قليلاً ما) أي شكراً قليلاً، أو زماناً قليلاً (تشكرون) وفي هذا بيان لكفرهم لنعم الله، وتركهم لشكرها إلا فيما ندر من الأحوال.
وقرىء صللنا بصاد مهملة، ولام مفتوحة أي أنتنا، وبها قرأ عليّ، والحسن، والأعمش، وأبان بن سعيد. قال النحاس: ولا يعرف في اللغة صللنا، ولكن يقال: صل اللحم إذا أنتن. قال الجوهري: صل اللحم، يصل بالكسر صلولاً إذا أنتن، مطبوخاً، كان أو نيئاً، والعامل في إذا محذوف تقديره: نبعث، أو نخرج لدلالة قوله:
(أئنا لفي خلق جديد) عليه أي نبعث ونصير أحياء، والهمزة للاستنكار، وهذا قول منكري البعث من الكفار، فأضرب الله سبحانه من بيان كفرهم بإنكار البعث إلى بيان ما هو أبلغ منه، وهو كفرهم بلقاء الله فقال:
(بل هم بلقاء ربهم كافرون) أي: جاحدون له مكابرة وعناداً، فإن اعترافهم بأنه المبدىء للخلق، يستلزم اعترافهم بأنه قادر على الإعادة، ثم أمر
(الذي وكل بكم) أي: بقبض أرواحكم عند حضور آجالكم، قيل: إن ملك الموت يدعو الأرواح فتجيبه، ثم يأمر أعوانه بقبضها والله تعالى هو الآمر بذلك، وهذا وجه الجمع بين الآيات كما تقدم (ثم إلى ربكم ترجعون) أي: تصيرون إليه تعالى أحياء بالبعث والنشور، لا إلى غيره فيجازيكم بأعمالكم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
_________
(١) لم يثبت أن ملك الموت اسمه هكذا، وملك الموت اسم جنس للملائكة التي تتولى قبض الأرواح بدليل قوله تعالى " توفته رسلنا وهم لا يفرطون " وفي الحديث " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل وحملة العرش " ولم يقل وعزرائيل، ولم يرد اسم عزرائيل في خبر معتبر والله أعلم.
المطيعي.
(إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم) المراد بهم هم القائلون: أئذا ضللنا في الأرض، ويجوز أن يراد بالمجرمين كل مجرم، ويدخل فيه أولئك القائلون دخولاً أولياً، والمعنى: مطأطئوها وخافضوها حياء وندماً على ما فرط منهم في الدنيا من الشرك بالله، والعصيان له.
(عند ربهم) أي عند محاسبته لهم (ربنا) أي: يقولون ربنا (أبصرنا) الآن ما كنا نكذب به (وسمعنا) ما كنا ننكره، وقيل أبصرنا صدق وعيدك، وسمعنا تصديق رسلك؛ فهؤلاء أبصروا حين لم ينفعهم البصر، وسمعوا حين لم ينفعهم السمع.
(فارجعنا) إلى الدنيا (نعمل) عملاً (صالحاً) كما أمرتنا، وحسبما تقضيه تلك الآيات (إنا موقنون) أي مصدقون، وقيل مصدقون بالذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وصفوا أنفسهم بالإيقان الآن طمعاً فيما طلبوه من إرجاعهم إلى الدنيا وأنى لهم ذلك؟ فقد حقت عليهم كلمة الله فإنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون. وقيل: هذا ادعاء منهم لصحة الأفئدة، والاقتدار على فهم معاني الآيات، والعمل بموجبها، كما أن قبله ادعاء لصحة صفتي البصر والسمع، كأنهم قالوا أيقنا وكنا من قبل لا نعقل شيئاًً أصلاً، وإنما عدلوا إلى الجملة الاسمية المؤكدة إظهاراً لثباتهم على الإِيقان، وكمال رغبتهم فيه، وكل ذلك للجد في الاستدعاء طمعاً في الإجابة إلى ما سألوه من الرجعة، وقيل معنى إنا موقنون، أنها قد زالت عنهم الشكوك التي كانت تخالطهم في الدنيا، لما رأوا ما رأوا وسمعوا ما سمعوا. قيَل والمعنى صرنا نسمع ونبصر، فلا يحتاج إلى تقدير مفعول، ثم رد الله عليهم لما طلبوا الرجعة بقوله:
(ولكن حق القول مني) أي نفذ قضائي، ووجب قدري، وسبقت كلمتي، وثبت وعيدي.
(لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) هذا هو القول الذي وجب من الله، وحق على عباده، ونفذ فيه قضاؤه، فكان مقتضى هذا القول أنه لا يعطى كل نفس هداها، وإنما قضى عليهم بهذا لأنه سبحانه قد علم أنهم من أهل الشقاوة، وأنهم ممن يختار الضلالة على الهدى، وقدم الجن لأن المقام مقام تحقير، ولأن الجهنميين منهم أكثر فيما قيل، ولا يلزم من قوله: أجمعين دخول جميع الإنس والجن فيها، لأنها تفيد عموم الأنواع لا الأفراد، قاله بعض المحققين، ورد بأنه لو قصد ما ذكر كان المناسب التثنية دون الجمع بأن يقول: كليهما، فالظاهر أنها لعموم الأفراد، والتعريف فيهما للعهد، والمراد عصاتهما، ويؤيده قوله في آية أخرى خطاباً لإِبليس: (لأملأن جهنم منك، وممن تبعك منهم أجمعين)، قاله الشهاب.
(بما نسيتم لقاء يومكم) الباء للسببية، وفيه إشعار بأن تعذيبهم ليس لمجرد سبق القول المتقدم، بل بذاك واختلف في النسيان المذكور ههنا، فقيل: هو النسيان الحقيقي، وهو الذي يزول عنده الذكر.
وقيل هو الترك، قاله الضحاك، ويحيى بن سلام. والمعنى على الأول أنهم لم يعملوا لذلك اليوم فكانوا كالناسين له، وعلى الثاني لا بد من تقدير مضاف قبل اللقاء أي: فذوقوا بسبب ترككم لما أمرتكم به كذاب لقاء يومكم هذا، ورجح الثاني المبرد، قال الرازي في تفسيره: إن اسم الإشارة في قوله (هذا) يحتمل ثلاثة أوجه: أن يكون إشارة إلى اللقاء، وأن يكون إلى اليوم، وأن يكون إلى العذاب.
(إنا نسيناكم) أي تركناكم بالكلية غير ملتفت إليكم كما يفعل الناس قطعاً لرجائكم قال يحيى: المعنى نسيناكم بما تركتم الإيمان بالبعث في هذا اليوم، تركناكم من الخير، وكذا قال السدي، وقال مجاهد: تركناكم في العذاب.
(وذوقوا) تكرير هذا للتأكيد والتشديد، ولتبيين المفعول المطوي للذوق وللإِشعار بأن سببه ليس مجرد النسيان، بل له أسباب أخر من فنون الكفر والمعاصي، التي كانوا مستمرين عليها في الدنيا (عذاب الخلد) أي الدائم الذي لا انقطاع له (بما كنتم تعملون) في الدنيا من الكفر والمعاصي، والتكذيب.
(خروا سجداً) أي: سقطوا على وجوههم ساجدين تعظيماً لآيات الله، وخوفاً من سطوته وعذابه وتواضعاً، وخشوعاً، وشكراً على ما رزقهم من الإسلام.
(وسبحوا بحمد ربهم) أي نزَّهوه عن كل ما لا يليق به متلبسين بحمده على نعمه، التي أجلُّها وأكملها الهداية إلى الإيمان بالآيات، قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في شأن الصلوات الخمس، ومعنى الآية قالوا في سجودهم، سبحان الله وبحمده، أو سبحان ربي الأعلى وبحمده.
وقال سفيان: المعنى صلوا حمداً لربهم (وهم لا يستكبرون) عن الإيمان به، والسجود له كما استكبر أهل مكة عن السجود، أي حال كونهم خاضعين لله متذللين له، غير مستكبرين عليه.
وقال ابن عباس: لا يستكبرون عن إتيان الصلاة في الجماعات، قيل: هذه من عزائم سجود القرآن للقارىء والمستمع.
قال سليمان الجمل والمراد بالآيات في هذه الآية إن كان مطلق القرآن - وإن لم تكن فيه آية سجدة- أشكل قوله خروا سجداً فإن السجود لا يشرع لتلاوة القرآن إلا إذا كان فيه آية سجدة من آيات السجود المعروفة، وإن كان المراد بها خصوص آيات السجدات أشكل قوله إذا ذكروا بها، مع تفسير التذكير بالوعظ كما ذكروه ووجه الاشكال أن أكثر آيات السجدات بل كلها ليس فيها وعظ أي تخويف وتذكير بالعواقب، إذ هذا حقيقة الوعظ بل غالبها لمدح الساجدين تصريحاً وذم غيرهم تلويحاً كهذه الآية، وقد يكون بعكس ذلك أي ذم غير الساجدين تصريحاً، ومدح الساجدين تلويحاً، كآية الانشقاق، فليتأمل فلم نر من المفسرين من بيَّن هذا، ولا من تعرض له انتهى.
والمراد بالصلاة صلاة التنفل بالليل من غير تقييد، وقال قتادة، وعكرمة هو النفل ما بين المغرب والعشاء وبه قال أبو حازم، ومحمد بن المنكدر، وقيل هي صلاة الأوّابين، وقيل صلاة العشاء فقط وهو رواية عن الحسن وعطاء.
وقال الضحاك صلاة العشاء والصبح في جماعة، وقيل هم الذين يقومون لذكر الله، سواء كان في صلاة أو غيرها.
عن أنس بن مالك أن هذه الآية نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى: العتمة، وعنه قال: نزلت في صلاة العشاء، وعنة قال: كانوا لا ينامون حتى يصلوا العشاء، وعنه قال: كنا نجتنب الفراش قبل صلاة العشاء.
وعنه قال: ما رأيت رسول الله - ﷺ - راقداً قط قبل صلاة العشاء ولا متحدثاً بعدها: فإن هذه الآية نزلت في ذلك.
وعن ابن عباس في الآية أن النبي - ﷺ - قال: " هم الذين لا ينامون قبل صلاة العشاء "، فأثنى عليهم، فلما ذكر ذلك جعل الرجل يعتزل فراشه مخافة أن تغلبه عينه، فوقتها قبل أن ينام الصغير، ويكسل الكبير. أخرجه ابن مردويه.
وعن بلال قال: كنا نجلس في المسجد وناس من أصحاب رسول
وعن أنس نحوه وعنه قال: كانوا ينتظرون ما بين المغرب والعشاء يصلون.
وعن معاذ بن جبل قال: قيام العبد من الليل، وعنه عن النبي - ﷺ - وذكر حديثاً، وأرشد فيه إلى أنواع من الطاعات- وقال فيه: وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم قرأ هذه الآية أخرجه أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجة. والحاكم وصححه، والبيهقي. وغيرهم.
وعن أبي هريرة مرفوعاً في حديث قال فيه: وصلاة المرء في جوف الليل. ثم تلا هذه الآية أخرجه ابن مردويه.
عن أنس في الآية قال: كان لا تمر عليهم ليلة إلا أخذوا منها. وأشهر الأقاويل أن المراد منه صلاة الليل، وبه قال جماعة من أهل العلم -وقد ورد في فضل قيام الليل- والحث عليه من الأحاديث الصحيحة ما هو مذكور في كتب السنة.
وعن كعب قال: إذا حشر الناس نادى مناد هذا يوم الفصل. أين الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع؟ الحديث رواه أحمد. وعن ابن عباس يقول: كلما استيقظوا ذكروا الله، إما في الصلاة، وإما في القيام، أو قعوداً أو على جنوبهم لا يزالون يذكرون الله.
(يدعون) أي تتجافى جنوبهم حال كونهم داعين (ربهم خوفاً) من عذابه (وطمعاً) في رحمته، قال ابن عباس خوفاً من النار، وطمعاً في الجنة. وفيه دليل على صحة العبادة، والدعاء بالخوف والطمع، وقد حققنا ذلك في هداية السائل، فليرجع إليها.
(ومما رزقناهم) أي من الذي رزقناهم، أو من رزقهم (ينفقون) وذلك الصدقة الواجبة، وقيل صدقة النفل، والأولى الحمل على العموم.
(فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) النكرة في سياق النفي تفيد العموم، أي لا تعلم نفس من النفوس أي نفس كانت ما أخفاه الله
قال ابن عباس: كان عرش الله على الماء فاتخذ جنة لنفسه، ثم اتخذ دونها أخرى، ثم أطبقهما بلؤلؤة واحدة، ثم قال ومن دونهما جنتان، لم يعلم الخلق ما فيهما، وهي التي قال الله: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين تأتيهم منها كل يوم تحفة. وعنه قال: هذا مما لا تفسير له: وعن ابن مسعود قال: إنه لمكتوب في التوراة: لقد أعد الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، ولا يعلم ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وإنه لفي القرآن: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين. وأخرج البخاري، ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة، عن رسول الله - ﷺ -: قال الله: [أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر] (١) قال أبو هريرة: واقرأوا إن شئتم:
_________
(١) تقدم ذكره.
وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة، وهي معروفة فلا نطول بذكرها، وقيل أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم، وفيه دليل على أن المراد الصلاة في جوف الليل، ليكون الجزاء وفاقاً، ثم بين سبحانه أن ذلك بسبب أعمالهم الصالحة، فقال:
(جزاء بما كانوا يعملون) أي لأجل الجزاء بما كانوا يعملونه في الدنيا من الطاعات أو جوزوا جزاء بذلك.
وفي السمين أنه - ﷺ - كان يتعمد الوقف على فاسقاً، ويبتدي بقوله لا يستوون. أي في المآل، والمستقر، أو في الشرف والمثوبة، والضمير فيه لمن الواقعة على الفريقين، وفيه مراعاة معناها بعد مراعاة لفظها، والمراد بالفسق الكامل بقرينة المقابلة للمؤمنين، وإلا فالمؤمن قد يكون فاسقاً، ونظيره: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين)؟ وقوله: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات) الآية، إذ ليس كل مجرم ومسيء كافراً.
وعن ابن عباس قال: قال الوليد بن عتبة لعلي بن أبي طالب: أنا أحدُّ منك سناناً، وأشجع جناناً، وأبسط منك لساناً، وأملأ حشواً للكتيبة منك فقال له علي: اسكت فإنما أنت فاسق، فنزلت هذه الآية، يعني بالمؤمن علياً، وبالفاسق الوليد وروى نحو هذا عن عطاء بن يسار، والسدي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، ثم بين سبحانه عاقبة حال الطائفتين وبدأ بالمؤمنين
(نزلاً) أي: إنها معدة لهم عند نزولهم، وهو في الأصل ما يعد للنازل من الطعام والشراب، إكراماً له كما بيناه في آل عمران، وقرىء نزلاً بسكون الزاي (بما كانوا يعملون) أي بسبب ما كانوا يعملونه، وليس المراد السبب الحقيقي، حتى يخالف حديث (لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله). بل ما يفضي إلى الجنة بمقتضى وعد الله تعالى ثم ذكر الفريق الآخر فقال:
(كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها) أي إذا أرادوا الخروج منها أعيدوا إليها راغمين مكرهين، وقيل إذا دفعهم اللهب إلى أعلاها رُدّوا إلى مواضعهم، وكلمة (في) للدلالة على أنهم مستقرون فيها، وإنما الإِعادة من بعض طبقاتها إلى بعض.
(وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون) والقائل لهم هذه المقالة هم خزنة جهنم من الملائكة أو القائل لهم هو الله عز وجل وفي هذا القول لهم حال كونهم قد صاروا في النار من الإغاظة لهم ما لا يخفى وهذا دليل على أن المراد بالفاسق الكافر إذ التكذيب يقابل الإيمان.
الحدود، وقيل: القتل بالسيف يوم بدر، وقيل: سني الجوع بمكة سبع سنين، حتى أكلوا فيها الجيف والعظام، والكلاب. وقيل عذاب القبر. ولا مانع من الحمل على الجميع، والذوق حسي ومعنوي.
(دون العذاب الأكبر) وهو عذاب الآخرة (لعلهم يرجعون) مما هم فيه من الشرك والمعاصي بسبب ما ينزل بهم من العذاب، إلى الإيمان والطاعة ويتوبون عما كانوا فيه، وفي هذا التعليل دليل على ضعف قول من قال: إن العذاب الأدنى هو عذاب القبر، قال ابن مسعود: العذاب الأدنى يوم بدر، والعذاب الأكبر يوم القيامة، لعل من بقي منهم أن يتوب فيرجع، وعنه قال: العذاب الأدنى سنون أصابتهم لعلهم يتوبون، وقال أُبي بن كعب العذاب الأدنى مصائب الدنيا، والروم والبطشة والدخان، وعنه قال: يوم بدر، وقال ابن عباس: الحدود. قال الكرخي: وفي هذا الترجي وجهان: أحدهما معناه لنذيقنهم إذاقة الراجين، كقوله: إنا نسيناكم يعني تركناكم كما يترك الناسي، حيث لا يلتفت إليه أصلاً فكذلك ههنا. والثاني نذيقهم العذاب إذاقة -يقول القائل إذا رآهم- لعلهم يرجعون بسببه انتهى.
(إنا من المجرمين منتقمون) أي: من أهل الإجرام على العموم، فيدخل فيه من أعرض عن آيات الله دخولاً أولياً قال أبو السعود: أي كل من اتفق منه إجرام -وإن هانت جريمته- فكيف بمن هو أظلم من كل ظالم؟ وأشد جرماً من كل مجرم؟.
أخرج ابن منيع وابن جرير وابن أبي حاتم، والطبراني، وغيرهم -قال السيوطي بسند ضعيف- عن معاذ بن جبل: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: " ثلاث من فعلهن فقد أجرم: من عند لواء في غير حق، أو عق والديه، أو مشى مع ظالم لينصره فقد أجرم، يقول الله: إنا من المجرمين منتقمون ".
قال ابن كثير بعد إخراجه: هذا حديث غريب.
(فلا تكن) يا محمد (في مرية) أي شك، وريبة (من لقائه) قال الواحدي: قال المفسرون وعد رسول الله - ﷺ - أنه سيلقى موسى قبل أن يموت ثم لقيه في السماء أو في بيت المقدس حين أسري به، وهذا قول مجاهد والكلبي والسدي، وقيل: فلا تكن في شك من لقاء موسى في القيامة، وستلقاه فيها وقيل: فلا تكن في شك من لقاء موسى للكتاب، قاله الزجاج وقال الحسن: إن معناه ولقد آتينا موسى الكتاب فكذب وأوذي، فلا تكن في
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى قل: يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم، فلا تكن في مرية من لقائه، فجاء معترضاً بين ولقد آتينا موسى الكتاب، وبين قوله الآتي، وجعلناه هدى لبني إسرائيل.
وقيل الضمير راجع إلى الكتاب الذي هو الفرقان، كقوله: (وإنك لتلقى القرآن)، والمعنى إنا قد آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحي، فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله ونظيره، وما أبعد هذا؟ ولعل الحامل لقائله عليه قوله: (وجعلناه هدى لبني إسرائيل) فإن الضمير راجع إلى الكتاب، وقيل: إن الضمير في لقائه عائد إلى الرجوع المفهوم من قوله: (ثم إلى ربكم ترجعون)، أي لا تكن في مرية من لقاء الرجوع وهذا بعيد جداً، قال السمين: وهذه أقوال بعيدة ذكرت للتنبيه على ضعفها، وأظهرها أن الضمير إما لموسى، وإما للكتاب، أي لا تَرْتَبْ في أن موسى لقي الكتاب، وأنزل عليه.
وقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث ابن عباس قال قال النبي - ﷺ -: رأيت ليلة أسرى بي موسى بن عمران رجلاً طويلاً جعداً كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى بن مريم مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض، سبط الرأس، ورأيت مالكاً خازن جهنم، والدجال في آيات أراهن الله إياه، قال (فلا تكن في مرية من لقائه)، فكان قتادة يفسرها أن النبي - ﷺ - قد لقي موسى.
وأخرج الطبراني، وابن مردويه والضياء في المختارة بسند - قال السيوطي صحيح.
عن ابن عباس عن النبي - ﷺ -، فلا تكن في مرية من لقائه قال: من لقاء موسى، قيل أو لقي موسى؟ قال نعم ألا ترى إلى قوله واسأل من أرسلنا من
وروى البخاري عن أنس أن النبي - ﷺ - قال أتيت على موسى ليلة المعراج عند الكثيب الأحمر، وهو قائم يصلي في قبره.
وصح في حديث المعراج أيضاًً أنه رآه في السماء السادسة، فلعل رؤيته كانت في قبره قبل صعوده إلى السماء، ثم صعد إليها فوجده هناك قد سبقه لما يريده الله، وهذا وجه الجمع بين هذين الحديثين، على ما ذكره الخازن. واختلف في الضمير في قوله:
(وجعلناه) فقيل راجع إلى الكتاب أي جعلنا التوراة (هدى لبني إسرائيل) قاله الحسن وغيره، وقال قتادة إنه راجع إلى موسى، أي وجعلنا موسى هدى لبني إسرائيل.
قال النحاس: وهو لحن عند جميع النحويين، لأنه جمع بين همزتين في كلمة واحدة (يهدون) أي يدعونهم إلى الهداية بما يلقونه إليهم من أحكام التوراة ومواعظها (بأمرنا) لهم بذلك أو لأجل أمرنا.
(لما صبروا) أي حين صبروا والضمير للأئمة، وفي (لما) معنى الجزاء، والتقدير لما صبروا جعلناهم أئمة، أي لصبرهم، وهذا الصبر هو صبرهم على مشاق التكليف والهادية للناس، وقيل صبروا عن الدنيا، وفيه دليل على أن الصبر ثمرته إمامة الناس.
(وكانوا بآياتنا) التنزيلية التي تضاعيف الكتاب (يوقنون) أي يصدقون بها، ويعلمون أنها حق، وأنها من عند الله، لمزيد تفكرهم، وكثرة تدبرهم.
(يمشون في مساكنهم) أي والحال أنهم يمشون في مساكن المهلكين، ويشاهدونها، وينظرون ما فيها من العبر، وآثار العذاب، ولا يعتبرون بذلك.
وقيل الضمير يعود إلى المهلكين، والمعنى أهلكناهم حال كونهم ماشين في مساكنهم، والأول أولى، وقيل جملة مستأنفة بيان لوجه هدايتهم، والمعنى يمرون في أسفارهم إلى التجارة على ديارهم وبلادهم (إن في ذلك) المذكور
وقيل: أبين، قال القرطبي في تفسيره والإسناد عن ابن عباس صحيح لا مطعن فيه، وقيل أرض عدن. قال الضحاك هي الأرض العطشاء، وقال الفراء: هي الأرض التي لا نبات فيها، وقال الأصمعي هي الأرض التي لا تنبت شيئاًً. قال المبرد يبعد أن يكون لأرض بعينها لدخول الألف واللام. وقيل هي مشتقة من قولهم رجل جروز، إذا كان لا يبقى شيئاًً إلا أكله: وكذلك ناقة جروز، إذا كانت تأكل كل شيء تجده، وقال مجاهد إنها أرض النيل لأن الماء إنما يأتيها في كل عام.
(فنخرج به) أي: بالماء (زرعاً تأكل منه أنعامهم) أي من الزرع، كالتبن والقصل، والورق، وبعض الحبوب المخصوصة بها، ونحوها مما لا يأكله الناس (وأنفسهم) أي: يأكلون من الحبوب، والثمار، والأقوات الخارجة من الزرع مما يقتاتونه، وقدم الأنعام لأن انتفاعها مقصور على النبات، ولأن أكلها منه مقدم، لأنها تأكله قبل أن يثمر، ويخرج سنبله.
(أفلا يبصرون) هذه النعم ويشكرون النعم ويوحِّدونه، لكونه المتفرد بإيجاد ذلك، وجعلت الفاصلة: يبصرون لأن الزرع مرئي، وفيما قبله يسمعون لأن ما قبله مسموع، أو ترقياً إلى الأعلى في الاتعاظ مبالغة في التذكير، ودفع العذر.
قال قتادة: قال أصحاب النبي - ﷺ - للكفار. إن لنا يوماً نتنعم فيه ونستريح، ويحكم الله بيننا وبينكم، يعنون يوم القيامة، فقال الكفار: متى هذا الفتح؟ وقال السدي: هو يوم بدر، لأن أصحاب النبي - ﷺ - كانوا يقولون للكفار إن الله ناصرنا، ومظهرنا عليكم، وعن ابن عباس قال: يوم بدر فتح للنبي - ﷺ - فلم ينفع الذين كفروا إيمانهم بعد الموت (إن كنتم صادقين) فيما تدعونه من نصر المؤمنين، وإظهارهم على الكفار، ثم أمر الله سبحانه نبيه - ﷺ - أن يجيب عليهم فقال:
(ولا هم ينظرون) أي لا يمهلون ولا يؤخرون بتأخير العذاب عنهم ليتوبوا ويعتذروا، ولما فتحت مكة هرب قوم من بني كنانة فلحقهم خالد بن الوليد؛ فأظهروا الإسلام فلم يقبله منهم خالد وقتلهم.
والآية منسوخة بآية السيف، وذلك قوله لا ينفع.. الخ قاله ابن عباس، وقيل غير منسوخة إذ يقع الإعراض مع الأمر بالقتال، وقرىء منتظرون بفتح الظاء، مبنياً للمفعول. قال الفراء: لا يصح هذا إلا بإضمار أي إنهم منتظر بهم، قال أبو حاتم: الصحيح الكسر، أي انتظر عذابهم إنهم منتظرون هلاكك.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأحزاب(هي ثلاث وسبعون آية)
قال ابن عباس: نزلت بالمدينة وعن ابن الزبير مثله وعن زر قال: قال لي أبيّ بن كعب: كأين تقرأ سورة الأحزاب أو كأين تعدها؟ قلت: ثلاثاً وسبعين آية فقال: قط؟ لقد رأيتها وأنها لتعادل سورة البقرة: أو أكثر من سورة البقرة: ولقد قرأنا فيها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم. فرفع فيما رفع. قال ابن كثير: وإسناده حسن.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أما بعد يا أيها الناس: إن الله بعث محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ووعيناها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة. ورجم رسول الله - ﷺ -، فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل: لا نجد آية في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ". وقد روي عنه نحو هذا من طرق.
قال النسفي: وأما ما يحكى أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن فمن تأليفات الملاحدة والروافض.
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٣) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤)