تفسير سورة التغابن

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة التغابن من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة التغابن
مدنية في قول الأكثرين وعن ابن عباس وعطاء بن يسار أنها مكية إلا آيات من آخرها ( يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم ) الخ وعدد آيها تسع عشرة آية بلا خلاف ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه ذكر هناك حال المنافقين وخاطب بعد المؤمنين وذكر جل وعلا هنا تقسيم الناس إلى مؤمن وكافر وأيضا في آخر تلك ( لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم ) وفي هذه ( إنما أموالكم وأولادكم فتنة ) وهذه الجملة على ما قيل : كالتعليل لتلك وأيضا في ذكر التغابن نوع حث على الإنفاق قبل الموت المأمور به فيما قبل واستنبط بعضهم عمر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين من قوله تعالى في تلك السورة :( ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها ) فإنها رأس ثلاث وستين سورة وعقبها سبحانه بالتغابن ليظهر التغابن في فقده عليه الصلاة والسلام.

سورة التغابن
مدنية في قول الأكثرين، وعن ابن عباس وعطاء بن يسار أنها مكية إلا آيات من آخرها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ [التغابن: ١٤] إلخ، وعدد آيها تسع عشرة آية بلا خلاف، ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه ذكر هناك حال المنافقين وخاطب بعد المؤمنين، وذكر جل وعلا هنا تقسيم الناس إلى مؤمن وكافر، وأيضا في آخر تلك لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ [المنافقون: ٩] وفي هذه نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
[التغابن: ١٥] وهذه الجملة على ما قيل: كالتعليل لتلك، وأيضا في ذكر التغابن نوع حث على الإنفاق قبل الموت المأمور به فيما قبل، واستنبط بعضهم عمر النبي صلّى الله عليه وسلم ثلاثا وستين من قوله تعالى في تلك السورة: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها [المنافقون: ١٠] فإنها رأس ثلاث وستين سورة، وعقبها سبحانه بالتغابن ليظهر التغابن في فقده عليه الصلاة والسلام.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي ينزهه سبحانه وتعالى جميع
314
المخلوقات عما لا يليق بجناب كبريائه سبحانه تسبيحا مستمرا، وذلك بدلالتها على كماله عز وجل واستغنائه تعالى، والتجدد باعتبار تجدد النظر في وجوه الدلالة على ذلك لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ لا لغيره تعالى إذ هو جل شأنه المبدئ لكل شيء وهو القائم به والمهيمن عليه وهو عز وجل المولى لأصول النعم وفروعها وأما ملك غيره سبحانه فاسترعاء منه تعالى وتسليط، وأما حمد غيره تبارك وتعالى فلجريان إنعامه تعالى على يده فكلا الأمرين له تعالى في الحقيقة ولغيره بحسب الصورة، وتقديم لَهُ الْمُلْكُ لأنه كالدليل لما بعده وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لأن نسبة ذاته جل شأنه المقتضية للقدرة إلى الكل سواء فلا يتصور كون بعض مقدورا دون بعض، وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ إلخ بيان لبعض قدرته تعالى العامة، والمراد هو الذي أوجدكم كما شاء وقوله تعالى: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ أي فبعضكم كافر به تعالى وبعضكم مؤمن به عز وجل، أو فبعض منكم كافر به سبحانه وبعض منكم مؤمن به تعالى تفصيل لما في خَلَقَكُمْ من الإجمال لأن كون بعضهم أو بعض منهم كافرا، وكون بعضهم أو بعض منهم مؤمنا مراد منه فالفاء مثلها في قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ [النور: ٤٥] إلخ فيكون الكفر والإيمان في ضمن الخلق وهو الذي تؤيده الاخبار الصحيحة
كخبر البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق- «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح الحديث»
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا مكث المني في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس فعرج به إلى الرب فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله ما هو قاض فيقول: أشقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق».
وقرأ أبو ذر من فاتحة التغابن خمس آيات إلى قوله تعالى: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ والجمع بين الخبرين مما لا يخفى على من أوتي نصيبا من العلم، وتقديم الكفر لأنه الأغلب.
واختار بعضهم كون المعنى هو الذي خلقكم خلقا بديعا حاويا لجميع مبادئ الكمالات العلمية والعملية، ومع ذلك فمنكم مختار للكفر كاسب له على خلاف ما تستدعيه خلقته، ومنكم مختار للإيمان كاسب له حسبما تقتضيه خلقته، وكان الواجب عليكم جميعا أن تكونوا مختارين للإيمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتفرع عليهما من سائر النعم، فما فعلتم ذلك مع تمام تمكنكم منه بل تشعبتم شعبا وتفرقتم فرقا، وهو الذي ذهب إليه الزمخشري، بيد أنه فسر الكافر بالآتي بالكفر والفاعل له والمؤمن بالآتي بالإيمان والفاعل له لأنه الأوفق بمذهبه من أن العبد خالق لأفعاله، وأن الآية لبيان إخلالهم بما يقتضيه التفضل عليهم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد من النعم، وأن الآيات بعد في معنى الوعيد على الكفر وإنكار أن يعصى الخالق ولا تشكر نعمته. ثم قال: فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق ويجعله من جملته، والخلق أعظم نعمة من الله تعالى على عباده، والكفر أعظم كفران من العباد لربهم سبحانه، وجعل الطيبي الفاء على هذا للترتيب والفرض على سبيل الاستعارة كاللام في قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: ٨] وهي كالفاء في قوله تعالى: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الحديد: ٢٦] ولم يجعلها للتفصيل كما قيل.
واختار في الآية المعنى السابق مؤيدا له بالأحاديث الصحيحة، وبأن السياق عليه مدعيا أن الآيات كلها واردة لبيان عظمة الله تعالى في ملكه وملكوته واستبداده فيهما، وفي شمول علمه تعالى كلها وفي إنشائه تعالى المكونات
315
ذواتها وأعراضها، ووافقه في اختيار ذلك تلميذه المدقق صاحب الكشف، واعترض قول الزمخشري: فما أجهل إلخ بقوله فيه ما مر مرارا كأنه يعني مخالفة النصوص في عدم كون الكفر مخلوقا كغيره على أن خلق الكفر أيضا من النعم العظام فلولا خلقه وتبيين ما فيه من المضار ما ظهر مقدار الإنعام بالإيمان وما فيه من المنافع، ثم إن كونه كفرا باعتبار قيامه بالعبد ومنه جاء القبح لا باعتبار كونه خلقه تعالى على ما حقق في موضعه، ثم قال: ومنه يظهر أن كلفه في قوله تعالى: فَمِنْكُمْ إلخ ليخرجه عن تفصيل المجمل في خَلَقَكُمْ تحريف لكتاب الله تعالى انتهى.
ويرجح التفصيل عندي في الجملة قوله تعالى: كافِرٌ ومُؤْمِنٌ دون من يكفر ومن يؤمن، نعم عدم دخول الكفر والإيمان في الخلق أوفق بقوله تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الروم: ٣٠]
وقوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة»
والإنصاف أن الآية تحتمل كلّا من المعنيين: المعنى الذي ذكر أولا.
والمعنى الذي اختاره البعض، والسياق يحتمل أن يحمل على ما يناسب كلا وليس نصا في أحد الأمرين اللذين سمعتهما حتى قيل: إن الآيات واردة لبيان ما يتوقف عليه الوعد والوعيد بعد من القدرة التامة والعلم المحيط بالنشأتين، وقوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي فيجازيكم بما يناسب ذلك لا ينافي خلق الكفر والإيمان لأنهما مكسوبان للعبد، وخلق الله تعالى إياهما لا ينافي كونهما مكسوبين للعبد كما بين في الكلام على قوله تعالى:
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات: ٩٦] لكن أكثر الأحاديث تؤيد المعنى الأول، وكأني بل تختار الثاني لأن كون المقام للتوبيخ على الكفر أظهر وهو أوفق به، وعن عطاء بن أبي رباح فَمِنْكُمْ كافِرٌ أي بالله تعالى مؤمن بالكوكب وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ بالله تعالى كافر بالكوكب، وقيل: فَمِنْكُمْ كافِرٌ بالخلق وهم الدهرية وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ به، وعن الحسن أن في الكلام حذفا والتقدير ومنكم فاسق، ولا أراه يصح، وكأنه من كذب المعتزلة عليه، والجملة- على ما استظهر بعض الأفاضل- معطوفة على الصلة، ولا يضره عدم العائد لأن المعطوف بالفاء يكفيه (١) وجود العائد في إحدى الجملتين كما قرروه في نحو الذي يطير فيغضب زيد الذباب، أو يقال: فيها رابط بالتأويل أي منكم من قدر كفره ومنكم من قدر إيمانه، أو فَمِنْكُمْ كافِرٌ به وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ به، ويقدر الحذف تدريجا، وجوز أن يكون العطف على جملة هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ.
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ بالحكمة البالغة المتضمنة للمصالح الدينية والدنيوية، قيل: وأصل الحق مقابل الباطل فأريد به الغرض الصحيح الواقع على أتم الوجوه وهو الحكمة العظيمة.
وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ حيث برأكم سبحانه في أحسن تقويم وأودع فيكم من القوى والمشاعر الظاهرة والباطنة ما نيط بها جميع الكمالات البارزة والكامنة وزينكم بصفوة صفات مصنوعاته وخصكم بخلاصة خصائص مبدعاته وجعلكم أنموذج جميع مخلوقاته في هذه النشأة، وقد ذكر بعض المحققين أن الإنسان جامع بين العالم العلوي والسفلي، وذلك لروحه التي هي من عالم المجردات وبدنه الذي هو من عالم الماديات وأنشدوا:
وتزعم أنك جرم صغير... وفيك انطوى العالم الأكبر
ولعمري إن الإنسان أعجب نسخة في هذا العالم قد اشتملت على دقائق أسرار شهدت ببعضها الآثار وعلم ما علم منها ذوو الأبصار، وخص بعضهم الصورة بالشكل المدرك بالعين كما هو معروف، وكل ما يشاهد من الصور
(١) المصرح به أن ذلك فيما إذا كانت الفاء للسببية فلا تغفل اهـ منه.
316
الإنسانية حسن لكن الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب فلانحطاط بعضها عن مراتب ما فوقها انحطاطا بينا وإضافتها إلى الموفى عليها لا تستملح وإلا فهي داخلة في حيز الحسن غير خارجة من حده ألا ترى أنك قد تعجب بصورة وتستملحها ولا ترى الدنيا بها ثم ترى أملح وأعلى في مراتب الحسن فينبو عن الأولى طرفك وتستثقل النظر إليها بعد افتتانك بها وتهالكك عليها، وقالت الحكماء: شيئان لا غاية لهما: الجمال والبيان.
وقرأ زيد بن علي وأبو رزين «صوركم» بكسر الصاد والقياس الضم كما في قراءة الجمهور.
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ في النشأة الأخرى لا إلى غيره استقلالا أو اشتراكا فاصرفوا ما خلق لكم فيما خلقه لئلا يمسخ ما يشاهد من حسنكم بالعذاب يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الأمور الكلية والجزئية والأحوال الجلية والخفية وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ أي ما تسرونه فيما بينكم وما تظهرونه من الأمور والتصريح به مع اندراجه فيما قبله للاعتناء بشأنه لأنه الذي يدور عليه الجزاء، وقوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ اعتراض تذييلي مقرر لما قبله من شمول علمه تعالى لسرهم وعلنهم أي هو عز وجل محيط بجميع المضرات المستكنة في صدور الناس بحيث لا تفارقها أصلا فكيف يخفى عليه تعالى ما يسرونه وما يعلنونه، وإظهار الجلالة للإشعار بعلة الحكم وتأكيد استقلال الجملة، قيل: وتقديم تقرير القدرة على العلم لأن دلالة المخلوقات على قدرته تعالى بالذات وعلى علمه سبحانه لما فيها من الإتقان والاختصاص ببعض الأنحاء.
وقرأ عبيد عن أبي عمرو وأبان عن عاصم- ما يسرون وما يعلنون- بياء الغيبة أَلَمْ يَأْتِكُمْ أي أيها الكفرة لدلالة ما بعد على تخصيص الخطاب بهم، وظاهر كلام بعض الأجلة أن المراد بهم أهل مكة فكأنه قيل: ألم يأتكم يا أهل مكة نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ كقوم نوح وهود وصالح وغيرهم من الأمم المصرة على الكفر فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي ضرر كفرهم في الدنيا من غير مهلة، وأصل الوبال الثقل والشدة المترتبة على أمر من الأمور، ومنه الوبيل لطعام يثقل على المعدة، والوابل للمطر الثقيل القطار، واستعمل للضرر لأنه يثقل على الإنسان ثقلا معنويا، وعبر عن كفرهم بالأمر للإيذان بأنه أمر هائل وجناية عظيمة وَلَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ لا يقادر قدره ذلِكَ أي ما ذكر من العذاب الذي ذاقوه في الدنيا وما سيذوقونه في الآخرة بِأَنَّهُ أي بسبب أن الشأن.
كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الظاهرة فَقالُوا عطف على كانَتْ.
أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا أي قال كل قوم من أولئك الأقوام الذين كفروا في حق رسولهم الذي أتاهم بالمعجزات منكرين لكون الرسول من جنس البشر، أو متعجبين من ذلك أبشر يهدينا كما قالت ثمود: أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ [القمر: ٢٤]، وقد أجمل في الحكاية فأسند القول إلى جميع الأقوام، وأريد بالبشر الجنس، فوصف بالجمع كما أجمل الخطاب، والأمر في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً [المؤمنون: ٥١] وارتفاع بَشَرٌ على الابتداء، وجملة يَهْدُونَنا هو الخبر عند الحوفي وابن عطية، والأحسن أن يكون مرفوعا على الفاعلية بفعل محذوف يفسره المذكور لأن همزة الاستفهام أميل إلى الفعل والمادة من باب الاشتغال فَكَفَرُوا بالرسل عليهم السلام وَتَوَلَّوْا عن التأمل فيما أتوا به من البينات، وعن الإيمان بهم وَاسْتَغْنَى اللَّهُ أي أظهر سبحانه غناه عن إيمانهم وعن طاعتهم حيث أهلكهم وقطع دابرهم، ولولا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وقد استغنى الله تعالى عن كل شيء، والأول هو الوجه وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن العالمين فضلا عن إيمانهم وطاعتهم حَمِيدٌ يحمده كل مخلوق بلسان الحال الذي هو أفصح من لسان المقال، أو مستحق جل شأنه للحمد بذاته وإن لم يحمده سبحانه حامد زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا الزعم ادّعاء العلم، وأكثر ما يستعمل للادعاء الباطل.
317
وعن ابن عمر وابن شريح إنه كنية الكذب، واشتهر أنه مطية الكذب، ولما فيه من معنى العلم يتعدى إلى مفعولين، وقد قام مقامهما هنا أَنْ المخففة وما في حيزها، والمراد بالموصول على ما في الكشاف أهل مكة فهو على ما سمعت في الخطاب من إقامة الظاهر مقام المضمر، ويؤيده ظاهرا قوله تعالى: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ قال في الكشف: ويحتمل التعميم فيتناولهم وأضرابهم لتقدم كفار مكة في الذكر وغيرهم ممن حملوا على الاعتبار بحالهم، وهذا أبلغ أي زعموا أن الشأن لن يبعثوا بعد موتهم قُلْ ردا عليهم وإظهارا لبطلان زعمهم بإثبات ما نفوه بلى تبعثون، وأكد ذلك بالجملة القسمية فهي داخلة في حيز الأمر، وكذا قوله تعالى: ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ أي لتحاسبن وتجزون بأعمالكم، وزيد ذلك لبيان تحقق أمر آخر متفرع على البعث منوط به ففيه أيضا تأكيد له وَذلِكَ أي ما ذكر من البعث والجزاء عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لتحقق القدرة التامة وقبول المادة والفاء في قوله تعالى: فَآمِنُوا مفصحة بشرط قد حذف ثقة بغاية ظهوره أي إذا كان الأمر كذلك فَآمِنُوا بِاللَّهِ الذي سمعتم ما سمعتم من شؤونه عز وجل وَرَسُولِهِ محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وهو القرآن، فإنه بإعجازه بين بنفسه مبين لغيره كما أن النور كذلك، والالتفات إلى نون العظمة لإبراز العناية بأمر الإنزال، وفي ذلك من تعظيم شأن القرآن ما فيه وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الامتثال بالأمر وتركه خَبِيرٌ عالم بباطنه.
والمراد كمال علمه تعالى بذلك، وقيل: عالم بأخباره يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ ظرف لَتُنَبَّؤُنَّ وقوله تعالى:
وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وقوله سبحانه: فَآمِنُوا إلى خَبِيرٌ من الاعتراض، فالأول يحقق القدرة على البعث، والثاني يؤكد ما سيق له الكلام من الحث على الإيمان به وبما تضمنه من الكتاب وبمن جاء به، وبالحقيقة هو نتيجة قوله تعالى: لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ قدم على معموله للاهتمام فجرى مجرى الاعتراض، وقوله سبحانه: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ اعتراض في اعتراض لأنه من تتمة الحث على الإيمان كما تقول: اعمل إني غير غافر عنك، وقال الحوفي: ظرف- لخبير- وهو عند غير واحد من الأجلة بمعنى مجازيكم فيتضمن الوعد والوعيد.
وجعله الزمخشري بمعنى معاقبكم، ثم جوز هذا الوجه، وتعقب بأنه يرد عليه أنه ليس لمجرد الوعيد بل للحث كيف لا والوعيد قد تم بقوله تعالى: لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ فلم يحسن جعله بمعنى معاقبكم فتدبر، وجوز كونه منصوبا بإضمار اذكر مقدرا، وتعقب بأنه وإن كان حسنا إلا أنه حذف لا قرينة ظاهرة عليه، وجوز كونه ظرفا لمحذوف بقرينة السياق أي يكون من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به نطاق المقال يوم يجمعكم، وتعقب بأن فيه ارتكاب حذف لا يحتاج إليه، فالأرجح الوجه الأول، وقرىء «يجمعكم» بسكون العين، وقد يسكن الفعل المضارع المرفوع مع ضمير جمع المخاطبين المنصوب، وروى إشمامها الضم، وقرأ سلام ويعقوب وزيد بن علي والشعبي «نجمعكم» بالنون لِيَوْمِ الْجَمْعِ ليوم يجمع فيه الأولون والآخرون، وقيل: الملائكة عليهم السلام والثقلان، وقيل: غير ذلك، والأول أظهر، واللام قيل: للتعليل، وفي الكلام مضاف مقدر أي لأجل ما في يوم الجمع من الحساب، وقيل: بمعنى في فلا تقدير ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس ومجاهد وقتادة أنهم قالوا: يوم غبن فيه أهل الجنة وأهل النار فالتفاعل فيه ليس على ظاهره كما في التواضع والتحامل لوقوعه من جانب واحد، واختير للمبالغة، وإلى هذا ذهب الواحدي.
وقال غير واحد: أي يوم غبن فيه بعض الناس بعضا بنزول السعداء منازل الأشقياء لو كانوا سعداء وبالعكس،
ففي الصحيح «ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا، وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة»
وهو مستعار من تغابن القوم في التجارة، وفيه تهكم بالأشقياء لأنهم لا يغبنون
318
حقيقة السعداء بنزولهم في منازلهم من النار، أو جعل ذلك تغابنا مبالغة على طريق المشاكلة فالتفاعل على هذا القول على ظاهره وهو حسن إلا أن التغابن فيه تغابن السعداء والأشقياء على التقابل، والأحسن الإطلاق، وتغابن السعداء على الزيادة ثبت في الصحاح، واختار ذلك محيي السنة حيث قال: التغابن تفاعل من الغبن وهو فوت الحظ، والمراد بالمغبون من غبن في أهله ومنازله في الجنة فيظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان، قال الطيبي: وعلى هذا الراغب حيث قال: الغبن أن يبخس صاحبك في معاملة بينك وبينه بضرب من الإخفاء فإن كان ذلك في مال يقال: غبن فلان بضم الغين وكسر الباء، وإن كان في رأي يقال: غبن بفتح الغين وكسر الباء، ويَوْمُ التَّغابُنِ يوم القيامة لظهور الغبن في المبايعة المشار إليها بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [البقرة: ٢٠٧] وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ [التوبة: ١١١] وقوله عز وجل: الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا [آل عمران: ٧٧] فعلم أنهم قد غبنوا فيما تركوا من المبايعة وفيما تعاطوه من ذلك جميعا انتهى، والجملة مبتدأ وخبر، والتعريف للجنس، وفيها دلالة على استعظام ذلك اليوم وأن تغابنه هو التغابن في الحقيقة لا التغابن في أمور الدنيا وإن جلت وعظمت.
وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً أي عملا صالحا يُكَفِّرْ أي الله تعالى عَنْهُ سَيِّئاتِهِ في ذلك اليوم وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً أي مقدرين الخلود فيها، والجمع باعتبار معنى مَنْ كما أن الإفراد باعتبار لفظه، وقرأ الأعرج وشيبة وأبو جعفر وطلحة ونافع وابن عامر والمفضل عن عاصم وزيد ابن علي والحسن بخلاف عنه- نكفر. وندخله- بنون العظمة فيهما ذلِكَ أي ما ذكر من تكفير السيئات وإدخال الجنات الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا فوز وراءه لانطوائه على النجاة من أعظم الهلكات والظفر بأجلّ الطلبات.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي النار، وكأن هذه الآية- والتي قبلها لاحتوائهما على منازل السعداء والأشقياء- بيان للتغابن على تفسيره بتغابن الفريقين على التقابل ولما فيه من التفصيل نزل منزلة المغاير فعطف بالواو وكذا على الإطلاق لكنه عليه بيان في الجملة.
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ أي ما أصاب أحدا مصيبة على أن المفعول محذوف، ومِنْ زائدة، ومُصِيبَةٍ فاعل، وعدم إلحاق التاء في مثل ذلك فصيح لكن الإلحاق أكثر كقوله تعالى: ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها [الحجر:
٥، المؤمنون: ٤٣] وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ [الأنعام: ٤] والمراد- بالمصيبة- الرزية وما يسوء العبد في نفس أو مال
319
أو ولد أو قول أو فعل أي ما أصاب أحدا من رزايا الدنيا أي رزية كانت إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادته سبحانه وتمكينه عز وجل كأن الرزية بذاتها متوجهة إلى العبد متوقفة على إرادته تعالى وتمكينه جل وعلا، وجوز أن يراد- بالمصيبة- الحادثة من شر أو خير، وقد نصوا على أنها تستعمل فيما يصيب العبد من الخير وفيما يصيبه من الشر لكن قيل: إنها في الأول من الصوب أي المطر، وفي الثاني من إصابة السهم، والأول هو الظاهر، وإن كان الحكم بالتوقف على الإذن عاما.
وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ عند إصابتها للصبر والاسترجاع على ما قيل، وعن علقمة للعلم بأنها من عند الله تعالى فيسلم لأمر الله تعالى ويرضى بها، وعن ابن مسعود قريب منه، وقال ابن عباس: يَهْدِ قَلْبَهُ لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وقيل: يَهْدِ قَلْبَهُ أي يلطف به ويشرحه لازدياد الخير والطاعة، وقرأ ابن جبير وطلحة وابن هرمز والأزرق عن حمزة- نهد- بنون العظمة.
وقرأ السلمي والضحاك وأبو جعفر «يهد» بالياء مبنيا للمفعول «قلبه» بالرفع على النيابة عن الفاعل، وقرىء كذلك لكن بنصب «قلبه»، وخرج على أن نائب الفاعل ضمير مِنْ وقَلْبَهُ منصوب بنزع الخافض أي يهد في قلبه، أو يهد إلى قلبه على معنى أن الكافر ضال عن قلبه بعيد منه، والمؤمن واجد له مهتد إليه كقوله تعالى: لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق: ٣٧] فالكلام من الحذف والإيصال نحو اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: ٦]، وفيه جعل القلب بمنزلة المقصد فمن ضل فقد منع منه ومن وصل فقد هدي إليه، وجوز أن يكون نصبه على التمييز بناء على أنه يجوز تعريفه.
وقرأ عكرمة وعمرو بن دينار ومالك بن دينار «يهدأ» بهمزة ساكنة «قلبه» بالرفع أي يطمئن قلبه ويسكن بالإيمان ولا يكون فيه قلق واضطراب، وقرأ عمرو بن فايد- يهدا- بألف بدلا من الهمزة الساكنة، وعكرمة ومالك بن دينار أيضا «يهد» بحذف الألف بعد إبدالها من الهمزة، وإبدال الهمزة في مثل ذلك ليس بقياس على ما قال أبو حيان، وأجاز ذلك بعضهم قياسا، وبني عليه جواز حذف تلك الألف للجازم، وخرج عليه قول زهير بن أبي سلمى:
جريء متى يظلم يعاقب بظلمه سريعا وإن لا يبد بالظلم يظلم
أصله يبدأ فأبدلت الهمزة ألفا ثم حذفت للجازم تشبيها بألف- يخشى- إذا دخل عليه الجازم، وقوله تعالى:
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من الأشياء التي من جملتها القلوب وأحوالها عَلِيمٌ فيعلم إيمان المؤمن ويهدي قلبه عند إصابة المصيبة فالجملة متعلقة بقوله تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ إلخ، وجوز أن تكون متعلقة بقوله سبحانه: ما أَصابَ إلخ على أنها تذييل له للتقرير والتأكيد، وذكر الطيبي أن في الكلام الكشاف رمزا إلى أن في الآية حذفا أي فمن لم يؤمن لم يلطف به أو لم يهد قلبه، ومن يؤمن بالله يهد قلبه، وبني عليه أن المصيبة تشمل الكفر والمعاصي أيضا لورودها عقيب جزاء المؤمن والكافر وإردافها بالأمر الآتي وأي مصيبة أعظم منهما؟ وهو كما أشار إليه يدفع في نحر المعتزلة وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ كرر الأمر للتأكيد والإيذان بالفرق بين الاطاعتين في الكيفية، وتوضيح مورد الولي في قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي عن إطاعة الرسول، وقوله تعالى: فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ تعليل للجواب المحذوف أقيم مقامه أي فلا بأس عليه إذ ما عليه إلا التبليغ المبين وقد فعل ذلك بما لا مزيد عليه، وإظهار الرسول مضافا إلى نون العظمة في مقام إضماره لتشريفه عليه الصلاة والسلام، والإشعار بمدار الحكم الذي هو كون وظيفته صلّى الله تعالى عليه وسلم محض البلاغ ولزيادة تشنيع التولي عنه، والحصر في الكلام إضافي واللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الكلام فيها كالكلام في كلمة التوحيد، وقد مر وحلا وَعَلَى اللَّهِ أي عليه تعالى خاصة دون غيره لا
320
استقلالا ولا اشتراكا فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وإظهار الجلالة في موقع الإضمار للإشعار بعلة التوكل. أو الأمر به فإن الألوهية مقتضية للتبتل إليه تعالى بالكلية، وقطع التعلق بالمرة عما سواه من البرية، وذكر بعض الأجلة أن تخصيص المؤمن بالأمر بالتوكل لأن الإيمان بأن الكل منه تعالى يقتضي التوكل، ومن هنا قيل: ليس في الآيات لمن تأمل في الحث على التوكل أعظم من هذه الآية لإيمائها إلى أن من لا يتوكل على الله تعالى ليس بمؤمن، وهي على ما قال الطيبي: كالخاتمة والفذلكة لما تقدم، وكالمخلص إلى مشرع آخر.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ أي إن بعضهم كذلك فمن الأزواج أزواجا يعادين بعولتهم ويخاصمنهم ويجلبن عليهم، ومن الأولاد أولادا يعادون آباءهم ويعقونهم ويجرعونهم الغصص والأذى، وقد شاهدنا من الأزواج من قتلت زوجها، ومن أفسدت عقله بإطعام بعض المفسدات للعقل، ومن كسرت قارورة عرضه، ومن مزقت كيس ماله- ومن، ومن- وكذا من الأولاد من فعل نحو ذلك فَاحْذَرُوهُمْ أي كونوا منهم على حذر ولا تأمنوا غوائلهم وشرهم، والضمير للعدو فإنه يطلق على الجمع نحو قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي [الشعراء: ٧٧] فالمأمور به الحذر عن الكل، أو للأزواج، والأولاد جميعا، فالمأمور به إما الحذر عن البعض لأن منهم من ليس بعدو، وإما الحذر عن مجموع الفريقين لاشتمالهم على العدو وَإِنْ تَعْفُوا عن ذنوبهم القابلة للعفو بأن تكون متعلقة بأمور الدنيا، أو بأمور الدين لكن مقارنه للتوبة بأن لم تعاقبوهم عليها وَتَصْفَحُوا تعرضوا بترك التثريب والتعيير وَتَغْفِرُوا تستروها بإخفائها وتمهيد معذرتهم فيها فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قائم مقام الجواب، والمراد يعاملكم بمثل ما عملتم، ويتفضل عليكم فإنه عز وجل غَفُورٌ رَحِيمٌ ولما كان التكليف هاهنا شاقا لأن الأذى الصادر ممن أحسنت إليه أشد نكاية وأبعث على الانتقام ناسب التأكيد في قوله سبحانه: وَإِنْ تَعْفُوا إلخ، وقال غير واحد: إن عداوتهم من حيث إنهم يحولون بينهم وبين الطاعات والأمور النافعة لهم في آخرتهم، وقد يحملونهم على السعي في اكتساب الحرام وارتكاب الآثام لمنفعة أنفسهم كما
روي عنه صلّى الله تعالى عليه وسلم «يأتي زمان على أمتي يكون فيه هلاك الرجل على يد زوجه وولده يعيرانه بالفقر فيركب مراكب السوء فيهلك».
ومن الناس من يحمله حبهم والشفقة عليهم على أن يكونوا في عيش رغد في حياته وبعد مماته فيرتكب المحظورات لتحصيل ما يكون سببا لذلك وإن لم يطلبوه منه فيهلك، وسبب النزول أوفق بهذا القول.
أخرج الترمذي والحاكم وصححاه وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ إلخ في قوم من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم فلما أتوا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فرأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم فأنزل الله تعالى الآية ومن رواية أخرى عنه أنه قال: كان الرجل يريد الهجرة فيحبسه امرأته وولده فيقول: أما والله لئن جمع الله تعالى بيني وبينكم في دار الهجرة لأفعلنّ ولأفعلنّ فجمع الله عز وجل بينهم في دار الهجرة فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ الآية.
وقيل: إنهم قالوا لهم لئن جمعنا الله تعالى في دار الهجرة لم نصبكم بخير فلما هاجروا منعوهم الخير فنزلت، وعن عطاء بن أبي رباح أن عوف بن مالك الأشجعي أراد الغزو مع النبي صلّى الله عليه وسلم فاجتمع أهله وأولاده فثبطوه وشكوا إليه فراقه فرقّ ولم يغز، ثم إنه ندم فهم بمعاقبتهم فنزلت، واستدل بها على أنه لا ينبغي للرجل أن يحقد على زوجه وولده إذا جنوا معه جناية وأن لا يدعو عليهم نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
أي بلاء
321
ومحنة لأنهم يترتب عليهم الوقوع في الإثم والشدائد الدنيوية وغير ذلك،
وفي الحديث «يؤتى برجل يوم القيامة فيقال: أكل عياله حسناته»
، وعن بعض السلف العيال سوس الطاعات.
وأخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه عن بريدة قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يخطب فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله عليه الصلاة والسلام من المنبر فحملهما واحدا من ذا الشق وواحدا من ذا الشق، ثم صعد المنبر فقال: صدق الله نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
إني لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت إليهما»

وفي رواية ابن مردويه عن عبد الله بن عمر «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينما هو يخطب الناس على المنبر خرج حسين بن علي على رسول الله وعليهما الصلاة والسلام فوطئ في ثوب كان عليه فسقط فبكى فنزل رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عن المنبر فلما رآه الناس سعوا إلى حسين يتعاطونه يعطيه بعضهم بعضا حتى وقع في يد رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال: قاتل الله الشيطان إن الولد لفتنة، والذي نفسي بيده ما دريت (١) أني نزلت عن منبري».
وقيل: إذا أمكنكم الجهاد والهجرة فلا يفتنكم الميل إلى الأموال والأولاد عنهما قال في الكشف: الفتنة على هذا الميل إلى الأموال والأولاد دون العقوبة والإثم، وقدمت الأموال قيل: لأنها أعظم فتنة كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: ٦، ٧]،
وأخرج أحمد والطبراني والحاكم والترمذي وصححه عن كعب بن عياض سمعت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يقول: «إن لكل أمة فتنة وإن فتنة أمتي المال».
وأخرج نحوه ابن مردويه عن عبد الله بن أوفى مرفوعا
وكأنه لغلبة الفتنة في الأموال والأولاد لم يذكر من التبعيضية كما ذكرت فيما تقدم اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
لمن آثر محبة الله تعالى وطاعته على محبة الأموال والأولاد والسعي في مصالحهم على وجه يخل بذلك فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ أي ابذلوا في تقواه عز وجل جهدكم وطاقتكم كما أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر عن الربيع بن أنس، وحكي عن أبي العالية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: ١٠٢] اشتد على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم فأنزل الله تعالى تخفيفا على المسلمين فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فنسخت الآية الأولى. وجاء عن قتادة نحو منه، وعن مجاهد المراد أن يطاع سبحانه فلا يعصى، والكثير على أن هذا هو المراد في الآية التي ذكرناها وَاسْمَعُوا مواعظه تعالى وَأَطِيعُوا أوامره عز وجل ونواهيه سبحانه وَأَنْفِقُوا مما رزقكم في الوجوه التي أمركم بالإنفاق فيها خالصا لوجهه جل شأنه كما يؤذن به قوله تعالى: خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وذكر ذلك تخصيص بعد تعميم، ونصب خَيْراً عند سيبويه على أنه مفعول به لفعل محذوف أي وأتوا خيرا لأنفسكم أي افعلوا ما هو خير لها وأنفع، وهذا تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر وبيان لكون الأمور خيرا لأنفسهم من الأموال والأولاد، وفيه شمة من التجريد، وعند أبي عبيد على أنه خبر ليكن مقدرا جوابا للأمر أي يكن خيرا، وعند الفراء والكسائي على أنه نعت لمصدر محذوف أي إنفاقا خيرا، وقيل: هو نصب- بأنفقوا- والخير المال، وفيه بعد من حيث المعنى، وقال بعض الكوفيين: هو نصب على الحال وهو بعيد في المعنى والإعراب وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وهو البخل مع الحرص.
(١) ليت شعري لو رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حال الحسين على جده وعليه الصلاة والسلام في واقعة كربلاء ماذا كان يصنع فلعنة الله تعالى وملائكته ورسله والناس أجمعين على من أمر بما كان ومن ألجم وأسرج، أو رضي أو كثر سوادا اه منه.
322
فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بكل مرام إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ تصرفوا المال إلى المصارف التي عينها عز وجل، وفي الكلام استعارة تمثيلية قَرْضاً حَسَناً مقرونا بالإخلاص وطيب النفس يُضاعِفْهُ لَكُمْ يجعل لكم جل شأنه بالواحد عشرا إلى سبعمائة وأكثر، وقرىء- يضعفه- وَيَغْفِرْ لَكُمْ ببركة الانفاق ما فرط منكم من بعض الذنوب وَاللَّهُ شَكُورٌ يعطي الجزيل بمقابلة النزر القليل حَلِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة مع كثرة الذنوب عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ لا يخفى عليه سبحانه شيء الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ المبالغ في القدرة والحكمة، وفي الآية من الترغيب بالإنفاق ما فيها لكن اختلف في المراد به فقيل: الإنفاق المفروض يعني الزكاة المفروضة وقد صرح به، وقيل: الإنفاق المندوب، وقيل: ما يعم الكل، والله تعالى أعلم.
323
Icon