تفسير سورة الطلاق

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة الطلاق من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه الجصاص . المتوفي سنة 370 هـ

قوله تعالى :﴿ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ ﴾ فيه نهيٌ للزوج عن إخراجها ونهيٌ لها عن الخروج، وفيه دليل على وجوب السُّكْنَى لها ما دامت في العدة لأن بيوتهن التي نَهَى الله عن إخراجها منها هي البيوت التي كانت تسكنها قبل الطلاق، فأمر بتبقيتها في بيتها ونَسَبَها إليها بالسكنى كما قال :﴿ وَقَرْنَ في بيوتكن ﴾ [ الأحزاب : ٣٣ ]، وإنما البيوت كانت للنبي صلى الله عليه وسلم. ولهذه الآية قال أصحابنا :" لا يجوز له أن يسافر بها حتى يُشْهِدَ على رجعتها " ومنعوها من السفر في العدة. قال أبو بكر : ولا خلاف نعلمه بين أهل العلم في أن على الزوج إسكانها ونفقتها في الطلاق الرجعيّ وأنه غير جائز له إخراجها من بيتها.
وقوله تعالى :﴿ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ﴾ رُوي عن ابن عمر قال :" خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة "، وقال ابن عباس :" إلا أن تَبْذُوَ على أهله فإذا فعلت ذلك حَلَّ لهم أن يخرجوها ". وقال الضحاك :" الفاحشة المُبَيِّنَةُ عصيان الزوج ". وقال الحسن وزيد بن أسلم :" أن تزني فتُخرج للحدّ ".
وقال قتادة :" إلا أن تَنْشُزَ فإذا فعلت حلَّ إخراجها ". قال أبو بكر : هذه المعاني كلها يحتملها اللفظ، وجائز أن يكون جميعها مراداً فيكون خروجها فاحشة وإذا زنت أخرجت للحدّ وإذا بَذَتْ على أهله أُخرجت أيضاً ؛ وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس بالانتقال حين بذت على أحمائها، فأما عصيان الزوج والنشوز فإن كان في البَذَاءِ وسوء الخلق اللذين يتعذر المقام معها فيه فجائز أن يكون مراداً، وإن كانت إنما عصت زوجها في شيء غير ذلك فإن ذلك ليس بعذر في إخراجها. وما ذكرنا من التأويل المراد يدلّ على جواز انتقالها للعذر لأنه تعالى قد أباح لها الخروج للأعذار التي وصفنا.
قوله تعالى :﴿ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ يدل على أنه إذا طلّق لغير السنّة وقع طلاقه وكان ظالماً لنفسه بتعدية حدود الله ؛ لأنه ذكر ذلك عقيب طلاق العدة فأبان أن من طَلَّقَ لغير العدة فطلاقه واقع، لأنه لو لم يقع طلاقه لم يكن ظالماً لنفسه. ويدل على أنه أراد وقوع طلاقه مع ظلمه لنفسه قولُه تعالى عقيبه :﴿ لا تَدْرِي لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ﴾ يعني أن يحدث له نَدمٌ فلا ينفعه لأنه قد طلق ثلاثاً. وهو يدل أيضاً على بطلان قول الشافعي في أن إيقاع الثلاث في كلمة واحدة من السنَّة ؛ لأن الله جعله ظالماً لنفسه حين طلق ثلاثاً، وترك اعتبار ما عسى أن يلحقه من الندم بإبانتها ؛ وحكم النبي صلى الله عليه وسلم على ابن عمر بطلاقه إيّاها في الحيض وأمره بمراجعتها، لأن الطلاق الأوّل كان خطأً فأمره بالرجعة ليقطع أسباب الخطأ ويبتدئه على السنة.
وزعم قوم أن الطلاق في حال الحَيْضِ لا يقع، وقد بَيَّنّا بطلان هذا القول في سورة البقرة من جهة الكتاب والسنّة، وسؤال يونس بن جبير لابن عمر عن الطلاق في الحيض وذِكْره لأمر النبي صلى الله عليه وسلم إياه بالمراجعة قال : قلت : فيعتد بها ؟ قال :" فَمَهْ ؟ أَرَأَيْتَ إِنْ عَجِزَ واسْتَحْمَقَ ؟ ". فإن احتجَّ محتجٌّ بما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن صالح قال : حدثنا عبدالرزاق قال : أخبرنا ابن جريج قال : أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبدالرّحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن عمر وأبو الزبير يسمع فقال : كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضاً ؟ قال : طلق عبد الله بن عمر امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنَّ عَبْدَ الله بن عمر طلّق امرأته وهي حائض ؛ فقال عبدالله : فردَّها عليَّ ولم يَرَها شيئاً وقال :" إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَو لِيُمْسِكْ " قال ابن عمر : فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم :" يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قُبُلِ عدتهن ". فقال المحتجُّ : فأخبر أنه ردها عليه ولم يرها شيئاً، وذلك يدل على أن الطلاق لم يقع. فيقال له : ليس فيما ذكرت دليل على أنه لم يحكم بالطلاق، بل دلالته ظاهرة على وقوعه، لأنه قال :" وردَّها عليَّ " وهو يعني الرجعة، وقوله :" ولم يرها شيئاً " يعني أنه لم يُبِنْها منه. وقد رُوي حديث ابن عمر عنه عن أنس بن سيرين وابن جبير وزيد بن أسلم ومنصور عن أبي وائل عنه، كلهم يقول فيه إن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها حتى تطهر.
قال الله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾. قال أبو بكر : يحتمل تخصيص النبي بالخطاب وجوهاً، أحدها : اكتفاء بعلم المخاطبين بأن ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم خطاب لهم، إذ كانوا مأمورين بالاقتداء به إلا ما خُصَّ به دونهم، فخصّه بالذكر ثم عدل بالخطاب إلى الجماعة إذْ كان خطابه خطاباً للجماعة. والثاني : أن تقديره : يا أيها النبي قل لأمّتك إذا طلقتم النساء. والثالث : على العادة في خطاب الرئيس الذي يدخل فيه الأتباع، كقوله تعالى :﴿ إلى فرعون وملئه ﴾ [ الأعراف : ١٠٣ ].
وقوله تعالى :﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ ؛ قال أبو بكر : رُوي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه طلق امرأته في الحيض، فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال :" مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا وَلْيُمْسِكْها حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضَتِهَا ثُمَّ تَحِيضُ حَيْضَةً أُخْرَى فإِذا طَهُرَتْ فَلْيُفَارِقْها قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَها أَوْ يُمْسِكُها، فإنّها العِدَّةُ الّتي أَمَرَ الله أَنْ تُطَلَّقَ لها النِّسَاءُ "، رواه نافع عن ابن عمر. وروى ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع ابن عمر يقول : قرأ النبي صلى الله عليه وسلم :" فطلِّقُوهُنَّ في قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ " قال :" طَاهِراً مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ ". ورَوَى وكيع عن سفيان عن محمد بن عبدالرحمن مولى أبي طلحة عن سالم عن ابن عمر : أنه طلق امرأته في الحيض، فذكر ذلك عُمَرُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال :" مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثمَّ يُطَلِّقها وهي حَامِلٌ أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ " وفي لفظ آخر :" فَلْيُطَلِّقْها طَاهِراً مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ أَوْ حَامِلاً قَدِ اسْتَبَانَ حَمْلُها ". قال أبو بكر : بيّن النبي صلى الله عليه وسلم مراد الله في قوله تعالى :﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ وأن وقت الطلاق المأمور به أن يطلقها طاهراً من غير جماع أو حاملاً قد استبان حملها، وبيّن أيضاً أن السنّة في الإيقاع من وجه آخر وهو أن يفصل بين التطليقتين بحيضة بقوله :" يُراجِعُها ثم يَدَعُها حتى تَطْهُرَ ثم تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى ثم تَطْهُرَ ثم يُطَلِّقُها إِن شَاء " فدلّ ذلك على أن الجمع بين التطليقتين في طُهْرٍ واحد ليس من السنّة، وما نعلم أحداً أباح طلاقها في الطهر بعد الجماع إلا شيئاً رواه وكيع عن الحسن بن صالح عن بيان عن الشعبي قال :" إذا طلقها وهي طاهر فقد طلقها للسنة وإن كان قد جامعها "، وهذا القول خلاف السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلاف إجماع الأمّة ؛ إلا أنه قد رُوي عنه ما يدل على أنه أراد الحامل، وهو ما رواه يحيى بن آدم عن الحسن بن صالح عن بيان عن الشعبي قال :" إذا طلقها حاملاً فقد طلقها للسنة وإن كان قد جامعها "، فيشبه أن يكون هذا أصل الحديث وأغفل بعض الرواة ذكر الحامل.
وقوله تعالى :﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ منتظم للواحدة وللثلاث مفرقة في الأطهار ؛ لأن إدخال " اللام " يقتضي ذلك، كقوله تعالى :﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل ﴾ [ الإسراء : ٧٨ ] قد انتظم فعلها مكرراً عند الدلوك، فدلّ ذلك على معنيين، أحدهما : إباحة الثلاث مفرقة في الأطهار وإبطال قول من قال :" إيقاع الثلاث في الأطهار المتفرقة ليس من السنّة " وهو مذهب مالك والأوزاعي والحسن بن صالح والليث. والثاني : تفريقها في الأطهار وحَظْر جمعها في طهر واحد ؛ لأن قوله :﴿ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ يقتضي ذلك لا فعل الجميع في طهر واحد، كقوله تعالى :﴿ لدلوك الشمس ﴾ [ الإسراء : ٧٨ ] لم يَقْتَضِ فِعْلَ صلاتين في وقت واحد وإنما اقتضى فعل الصلاة مكررة في الأوقات. وقول أصحابنا : إن طلاق السنة من وجهين، أحدهما : في الوقت، وهو أن يطلقها طاهراً من غير جماع أو حاملاً قد استبان حملها ؛ والآخر : من جهة العدد، وهو أن لا يزيد في الطهر الواحد على تطليقة واحدة. والوقت مشروط لمن يطلق في العدة ؛ لأن من لا عدة عليها بأن كان طلقها قبل الدخول فطلاقها مباح في الحيض لقوله تعالى :﴿ لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ﴾ [ البقرة : ٢٣٦ ]، فأباح طلاقها في كل حال من طُهْرٍ أو حَيْضٍ، وقد بيّنا بطلان قول من قال إن جمع الثلاث في طهر واحد من السنة ومن منع إيقاع الثلاث في الأطهار المتفرقة في سورة البقرة.
فإن قيل : لما جاز طلاق الحامل بعد الجماع كذلك الحائل يجوز طلاقها في الطهر بعد الجماع. قيل له : لا حَظَّ للنظر مع الأثر واتفاق السلف، ومع ذلك فإن الفرق بينهما واضح وهو أنه إذا طهرت من حيضتها ثم جامعها لا ندري لعلها قد حملت من الوطء وعسى أن لا يريد طلاقها إن كانت حاملاً فيلحقه الندم، وإذا لم يجامعها بعد الطهر فإن وجود الحيض عَلَمٌ لبراءة الرحم فيطلقها وهو على بصيرة من طلاقها.
قوله تعالى :﴿ وَأَحْصُوا العِدَّةَ ﴾ يعني والله أعلم العدَّةَ التي أوجبها الله بقوله تعالى :﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ﴾ [ البقرة : ٢٢٨ ] وبقوله :﴿ واللائي يئسن من المحيض ﴾ [ الطلاق : ٤ ] إلى قوله :﴿ واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ﴾ [ الطلاق : ٤ ] لأن جميع ذلك عدد للمطلقات على حسب اختلاف الأحوال المذكورة لهنّ ؛ فيكون إحصاؤها لمعانٍ، أحدها : لما يريد من رجْعة وإمساك أو تسريح وفراق. والثاني : مراعاة حالها في بقائها على الحال التي طلقت عليها من غير حدوث حال يوجب انتقال عدتها إليها. والثالث : لكي إذا بانَتْ يُشْهِدَ على فراقها ويتزوج من النساء غيرها ممن لم يكن يجوز له جمعها إليه ولئلا يخرجها من بيتها قبل انقضائها. وذكر بعض من صنّف في أحكام القرآن أن أبا حنيفة وأصحابه يقولون :" إن طلاق السنة واحدة، وأن من طلاق السنة أيضاً إذا أراد أن يطلقها ثلاثاً طلّقها عند كل طهر تطليقة ؛ فذكروا أن الأوّل هو السنّة والثاني أيضاً سُنَّة ؛ فكيف يكون شيء وخلافه سنة ! ولو جاز ذلك لجاز أن يكون حراماً حلالاً، ولو قال : إن الثاني رخصة كان أشبه ". قال أبو بكر : وهذا كلام من لا تَعَلُّقَ له بمعرفة أصول العبادات وما يجوز وروده منها مما لا يجوز، ولا يمنع أحد من أهل العلم جواز ورود العبادة بمثله، إذ جائز أن يكون السنة في الطلاق أن يُخَيَّرَ بين إيقاع الواحدة في طهر والاقتصار عليها وبين أن يطلّق بعدها في الطهر الثاني والثالث، وجميع ذلك مندوب إليه، ويكون مع ذلك أحد الوجهين أحسن من الآخر كما قال تعالى :﴿ والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن ﴾ [ النور : ٦٠ ]، ثم قال :﴿ وأن يستعففن خير لهن ﴾ [ النور : ٦٠ ]

باب الإشهاد على الرجعة أو الفرقة


قال الله تعالى :﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾ فأمر بالإشهاد على الرجعة والفرقة أيتهما اختار الزوج ؛ وقد رُوي عن عمران بن حُصَيْنٍ وطاوس وإبراهيم وأبو قلابة أنه إذا رجع ولم يشهد فالرجعة صحيحة ويشهد بعد ذلك. قال أبو بكر : لما جعل له الإمساك أو الفراق ثم عقبه بذكر الإشهاد كان معلوماً وقوع الرجعة إذا رجع وجواز الإشهاد بعدها إذْ لم يجعل الإشهاد شرطاً في الرجعة. ولم يختلف الفقهاء في أن المراد بالفراق المذكور في الآية إنما هو تركها حتى تنقضي عدتها وأن الفرقة تصحّ وإن لم يقع الإشهاد عليها ويشهد بعد ذلك، وقد ذكر الإشهاد عقيب الفرقة ثم لم يكن شرطاً في صحتها، كذلك الرجعة. وأيضاً لما كانت الفرقة حقّاً له وجازت بغير إشهاد إذْ لا يحتاج فيها إلى رضا غيره وكانت الرجعة أيضاً حقّاً له، وجب أن تجوز بغير إشهاد. وأيضاً لما أمر الله بالإشهاد على الإمساك أو الفرقة احتياطاً لهما ونفياً للتهمة عنهما إذا علم الطلاق ولم يعلم الرجعة أو لم يعلم الطلاق والفراق، فلا يؤمن التجاحد بينهما، ولم يكن معنى الاحتياط فيهما مقصوراً على الإشهاد في حال الرجعة أو الفرقة بل يكون الاحتياط باقياً، وإن أشهد بعدهما وجب أن لا يختلف حكمهما إذا أشهد بعد الرجعة بساعة أو ساعتين ؛ ولا نعلم بين أهل العلم خلافاً في صحة وقوع الرجعة بغير شهود إلا شيئاً يروى عن عطاء، فإن سفيان رَوَى عن ابن جريج عن عطاء قال :" الطلاق والنكاح والرجعة بالبيّنة "، وهذا محمول على أنه مأمور بالإشهاد على ذلك احتياطاً من التجاحد لا على أن الرجعة لا تصح بغير شهود، ألا ترى أنه ذكر الطلاق معها ولا يشكّ أحدٌ في وقوع الطلاق بغير بينة ؟ وقد رَوَى شعبة عن مطر الورّاق عن عطاء والحكم قالا :" إذا غَشِيَها في العدة فغشيانه رجعة ".
وقوله تعالى :﴿ وَأَقِيمُوا الشهادة لله ﴾ فيه أمرٌ بإقامة الشهادات عند الحكام على الحقوق كلها ؛ لأن الشهادة هنا اسم للحبس وإن كان مذكوراً بعد الأمر بإشهاد ذَوَيْ عدل على الرجعة، لأن ذكرها بعده لا يمنع استعمال اللفظ على عمومه، فانتظم ذلك معنيين : أحدهما الأمر بإقامة الشهادة، والآخر أن إقامة الشهادة حقٌّ لله تعالى، وأفاد بذلك تأكيده والقيام به.

باب عدّة الآيسة والصغيرة


قال الله تعالى :﴿ وَاللاّئي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فِعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لم يَحِضْنَ ﴾. قال أبو بكر : قد اقتضت الآية إثبات الإياس لمن ذكرت في الآية من النساء بلا ارتياب، وقوله تعالى :﴿ إِنِ ارْتَبْتُمْ ﴾ غير جائز أن يكون المراد به الارتياب في الإياس ؛ لأنه قد أثبت حكم من ثَبُتَ إياسُها في أول الآية، فرَوَى مطرّف عن عمرو بن سالم قال :" قال أبيّ بن كعب : يا رسول الله إن عدداً من عدد النساء لم تذكر في الكتاب الصغار والكبار وأولات الأحمال ! فأنزل الله تعالى :﴿ وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لم يَحِضْنَ وأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ "، فأخبر في هذا الحديث أن سبب نزول الآية كان ارتيابهم في عدد من ذكر من الصغار والكبار وأولات الأحمال، وأن ذِكْرَ الارتياب في الآية إنما هو على وجه ذكر السبب الذي نزل عليه الحكم، فكان بمعنى : واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدّتهن ثلاثة أشهر.
واختلف السلف ومَنْ بعدهم من فقهاء الامصار في التي يرتفع حَيْضُها، فروى ابن المسيب عن عمر رضي الله عنه قال :" أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم رفعت حيضتها فإنه ينتظر بها تسعة أشهر، فإن استبان بها حمل فذاك وإلا اعتدَّت بعد التسعة الأشهر بثلاثة أشهر ثم حلّت ". وعن ابن عباس في التي ارتفع حيضها سنة قال :" تلك الريبة ". وروى معمر عن قتادة عن عكرمة في التي تحيض في كل سنة مرة قال :" هذه ريبة عدّتها ثلاثة أشهر ".
وروى سفيان عن عمرو عن طاوس مثله. ورُوي عن عليّ وعثمان وزيد بن ثابت :" أن عدتها ثلاث حِيَضٍ ". ورَوَى مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان أنه قال، وكان عند جده حِبّانُ امرأتان هاشمية وأنصارية فطلّق الأنصارية وهي ترضع فمرت به سنة ثم هلك ولم تَحِضْ فقالت : أنا أرثه ولم أَحِضْ، فاختصما إلى عثمان فقضى لها بالميراث فلامت الهاشميّةُ عثمان، فقال : هذا عمل ابن عمك وهو أشار علينا بذلك ؛ يعني عليّ بن أبي طالب.
ورَوَى ابن وهب قال : أخبرني يونس عن ابن شهاب بهذه القصة قال : وبقيت تسعة أشهر لا تحيض ؛ وذكر القصة، فشاور عثمان عليّاً وزيداً فقالا : ترثه، لأنها ليست من القواعد اللائي قد يئسن من المحيض ولا من الأبكار اللائي لم يَحِضْنَ، وهي عنده على حيضتها ما كان من قليل أو كثير. وهذا يدل من قولهما أن قوله تعالى :﴿ إِنِ ارْتَبْتُمْ ﴾ ليس على ارتياب المرأة ولكنه على ارتياب الشّاكّين في حكم عددهن، وأنها لا تكون آيسة حتى تكون من القواعد اللاتي لا يُرْجَى حيضهن. ورُوي عن ابن مسعود مثل ذلك.
واختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضاً، فقال أصحابنا في التي يرتفع حَيْضُها لا لإياس منه في المستأنف :" إن عدتها الحيض حتى تدخل في السنّ التي لا تحيض أهلها من النساء فتستأنف عدة الآيسة ثلاثة أشهر ". وهو قول الثوري والليث والشافعي. وقال مالك :" تنتظر تسعة أشهر فإن لم تَحِضْ فيهنّ اعتدَّتْ ثلاثة أشهر، فإن حاضت قبل أن تستكمل الثلاثة أشهر استقبلت الحيض، فإن مضت بها تسعة أشهر قبل أن تحيض اعتدّت ثلاثة أشهر ". وقال ابن القاسم عن مالك :" إذا حاضت المطلّقة ثم ارتابت فإنما تعتدّ بالتسعة الأشهر من يوم رُفِعَتْ حَيْضَتُهَا لا من يوم طلقت "، وقال مالك في قوله تعالى :﴿ إِنِ ارْتَبْتُمْ ﴾ " معناه إن لم تَدْرُوا ما تصنعون في أمرها ".
وقال الأوزاعي في رجل طلق امرأته وهي شابة فارتفعت حيضتها فلم تر شيئاً ثلاثة أشهر :" فإنها تعتدّ سنة ".
قال أبو بكر : أوجب الله بهذه الآية عدة الآيسة ثلاثة أشهر، واقتضى ظاهر اللفظ أن تكون هذه العدة لمن قد ثبت إياسها من الحيض من غير ارتياب، كما كان قوله :﴿ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ ﴾ لمن ثبت أنها لم تحض، وكقوله :﴿ وأولات الأحمال أجلهن ﴾ [ الطلاق : ٤ ] لمن قد ثبت حملها، فكذلك قوله :﴿ وَاللاّئي يَئِسْنَ ﴾ لمن قد ثبت إياسها وتيقّن ذلك منها دون من يشك في إياسها. ثم لا يخلو قوله :﴿ إِنِ ارْتَبْتُمْ ﴾ من أحد وجوه ثلاثة : إما أن يكون المراد الارتياب في أنها آيسة أو ليست بآيسة، أو الارتياب في أنها حامل أو غير حامل، أو ارتياب المخاطبين في عدة الآيسة والصغيرة ؛ وغير جائز أن يكون المراد الارتياب في أنها آيسة أو غير آيسة لأنه تعالى قد أثبت من جعل الشهور عدتها أنها آيسة، والمشكوك فيها لا تكون آيسة لاستحالة مجامعة اليأس للرجاء إذْ هما ضدّان لا يجوز اجتماعهما حتى تكون آيسة من المحيض مرجوّاً ذلك منها، فبطل أن يكون المعنى الارتياب في اليأس. ومن جهة أخرى اتفاق الجميع على أن المسنّة التي قد تيقن إياسها من الحيض مرادة بالآية، والارتياب المذكور راجع إلى جميع المخاطبين وهو في التي قد تيقن إياسها ارتياب المخاطبين في العدة، فوجب أن يكون في المشكوك في إياسها مثله لعموم اللفظ في الجميع. وأيضاً فإذا كانت عادتها وهي شابّة أنها تحيض في كل سنة مرة، فهذه غير مرتاب في إياسها بل قد تيقن أنها من ذوات الحيض، فكيف يجوز أن تكون عدتها سنة مع العلم بأنها غير آيسة وأنها من ذوات الحيض ! وتراخي ما بين الحيضتين من المدة لا يخرجها من أن تكون من ذوات الحيض، فالموجب عليها عدة الشهور مُخَالِفٌ للكتاب ؛ لأن الله تعالى جعل عدة ذوات الأقراء الحيض بقوله تعالى :﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ﴾ [ البقرة : ٢٢٨ ] ولم يفرق بين من طالت مدة حيضتها أو قصرت. ولا يجوز أيضاً أن يكون المراد الارتياب في الإياس من الحمل ؛ لأن اليأس من الحَيْضِ هو الإياس من الحبل، وقد دللنا على بطلان قول من رد الارتياب إلى الحيض ؛ فلم يَبْقَ إلا الوجه الثالث، وهو ارتياب المخاطبين، على ما رُوي عن أبيّ بن كعب حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم حين شك في عدة الآيسة والصغيرة. وأيضاً لو كان المراد الارتياب في الإياس لكان توجيه الخطاب إليهن أوْلَى من توجهيه إلى الرجال ؛ لأن الحيض إنما يتوصل إلى معرفته من جهتها، ولذلك كانت مصدقة فيه، فكان يقول : إن ارتبتن أو ارتبن ؛ فلما خاطب الرجال بذلك دونهن عُلم أنه أراد ارتياب المخاطبين في العدة.
وقوله تعالى :﴿ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ ﴾ يعني : واللائي لم يحضن عدتهن ثلاثة أشهر ؛ لأنه كلام لا يستقلّ بنفسه فلا بدّ له من ضمير، وضميره ما تقدم ذكره مظهراً وهو العدة بالشهور.
قال الله تعالى :﴿ وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾. قال أبو بكر : لم يختلف السلف والخلف بعدهم أن عدة المطلقة الحامل أن تضع حملها ؛ واختلف السلف في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، فقال علي وابن عباس :" تعتدُّ الحامل المتوفى عنها زوجها آخر الأجلين ".
وقال عمر وابن مسعود وابن عمر وأبو مسعود البدري وأبو هريرة :" عدتها الحمل فإذا وضعت حلت للأزواج "، وهو قول فقهاء الأمصار. قال أبو بكر : رَوَى إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود قال :" من شاء لاعَنْتُهُ ما نزلت :﴿ وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ ﴾ إلا بعد آية المتوفَّى عنها زوجها ". قال أبو بكر : قد تضمن قول ابن مسعود هذا معنيين، أحدهما : إثبات تاريخ نزول الآية وأنها نزلت بعد ذكر الشهور للمتوفى عنها زوجها، والثاني : أن الآية مكتفية بنفسها في إفادة الحكم على عمومها غير مضمنة بما قبلها من ذكر المطلقة، فوجب اعتبار الحمل في الجميع من المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن وأن لا يجعل الحكم مقصوراً على المطلقات لأنه تخصيص عموم بلا دلالة.
ويدل على أن المتوفَّى عنها زوجها داخلةٌ في الآية مرادةٌ بها اتفاقُ الجميع على أن مُضِيَّ شهور المتوفى عنها زوجها لا يوجب انقضاء عدتها دون وضع الحمل، فدل على أنها مرادة بها، فوجب اعتبار الحمل فيها دون غيره، ولو جاز اعتبار الشهور لأنها مذكورة في آية أخرى لجاز اعتبار الحيض مع الحمل في المطلقة لأنها مذكورة في قوله تعالى :﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ﴾ [ البقرة : ٢٢٨ ]، وفي سقوط اعتبار الحَيْضِ مع الحمل دليل على سقوط اعتبار الشهور مع الحمل. وقد روى منصور عن إبراهيم عن الأسود عن أبي السنابل بن بعكك : أن سبيعة بنت الحارث وضعت بعد وفاة زوجها بثلاثة وعشرين، فتشوَّفت للنكاح، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال :" إِنْ تَفْعَلْ فَقَدْ خَلا أَجَلُها ". وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبدالرّحمن قال : اختلف ابن عباس وأبو هريرة في ذلك، فأرسل ابن عباس كُرَيْباً إلى أم سلمة فقالت :" إن سبيعة وضعت بعد وفاة زوجها بأيام، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تتزوج ". وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة عن سبيعة أنها وضعت بعد موت زوجها بشهرين، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تَزَوَّجِي ! ". وجعل أصحابنا عدة امرأة الصغير من الوفاة الحمل إذا مات عنها زوجها وهي حامل، لقوله تعالى :﴿ وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾، ولم يفرق بين امرأة الصغير والكبير ولا بين من يلحقه بالنسب أو لا يلحقه.

باب السّكْنَى للمطلقة


قال الله تعالى :﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ﴾ الآية. قال أبو بكر : اتفق الجميع من فقهاء الأمصار وأهل العراق ومالك والشافعي على وجوب السكنى للمبتوتة، وقال ابن أبي ليلى :" لا سكنى للمبتوتة إنما هي للرجعية ".
قال أبو بكر : قوله تعالى :﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ قد انتظم الرجعية والمبتوتة، والدليل على ذلك أن من بقي من طلاقها واحدة فعليه أن يطلقها للعدة إذا أراد طلاقها بالآية، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :" يُطَلِّقُها طَاهِراً مِنْ غَيْرِ جِماعٍ أو حَامِلاً قَدِ اسْتَبَانَ حَمْلُها "، ولم يفرق بين التطليقة الأولى وبين الثالثة. فإذا كان قوله :﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ قد تضمن البائن، ثم قال :﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ﴾ وجب ذلك للجميع من البائن والرجعيّ.
فإن قيل : لما قال تعالى :﴿ لا تَدْري لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ﴾ وقال :﴿ فإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بمَعْرُوفٍ ﴾ دل ذلك على أنه أراد الرجعيّ. قيل له : هذا أحد ما انتظمته الآية، ولا دلالة فيه على أن أول الخطاب في الرجعى دون البائن، وهو مثل قوله :﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ﴾ [ البقرة : ٢٢٨ ]، وهو عموم في البائن والرجعي. ثم قوله :﴿ وبعولتهن أحق بردهن ﴾ [ البقرة : ٢٢٨ ] إنما هو حكم خاصٌّ في الرجعيّ، ولم يمنع أن يكون قوله تعالى :﴿ وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ [ البقرة : ٢٢٨ ] عامّاً في الجميع. واحتج ابن أبي ليلى بحديث فاطمة بنت قيس، وسنتكلم فيه عند ذكر نفقة المبتوتة إن شاء الله تعالى.
واختلف فقهاء الأمصار في نفقة المبتوتة، فقال أصحابنا والثوري والحسن بن صالح :" لكل مطلة السكنى والنفقة ما دامت في العدة حاملاً كانت أو غير حامل ". ورُوي مثله عن عمر وابن مسعود. وقال ابن أبي ليلى :" لا سكنى للمبتوتة ولا نفقة "، ورُوي عنه أن لها السكنى ولا نفقة لها. وقال عثمان البتّي :" لكل مطلقة السكنى والنفقة وإن كانت غير حامل " وكان يرى أنها تنتقل إن شاءت. وقال مالك :" للمبتوتة السكنى ولا نفقة لها إلا أن تكون حاملاً "، ورُوي عنه أن عليه نفقة الحامل المبتوتة إن كان موسراً وإن كان معسراً فلا نفقة لها عليه. وقال الأوزاعي والليث والشافعي :" للمبتوتة السكنى ولا نفقة لها إن أن تكون حاملاً ". قال الله تعالى :﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ولا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ﴾ ؛ وقد تضمنت هذه الآية الدلالة على وجوب نفقة المبتوتة من ثلاثة أوجه، أحدها : أن السكنى لما كانت حقّاً في مال وقد أوجبها الله لها بنصّ الكتاب إذ كانت الآية قد تناولت المبتوتة والرجعية، فقد اقتضى ذلك وجوب النفقة إذ كانت السكنى حقّاً في مال وهي بعض النفقة. والثاني : قوله :﴿ وَلا تُضَارُّوهُنَّ ﴾ والمضارةُ تقع في النفقة كهي في السكنى. والثالث : قوله :﴿ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ﴾ والتضييق قد يكون في النفقة أيضاً، فعليه أن ينفق عليها ولا يضيق عليها فيها.
وقوله تعالى :﴿ وَإِنْ كُنَّ أُولاتُ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ ﴾ قد انتظم المبتوتة والرجعية ؛ ثم لا تخلو هذه النفقة من أن يكون وجوبها لأجل الحمل أو لأنها محبوسة عليه في بيته، فلما اتفق الجميع على أن النفقة واجبة للرجعية بالآية لا للحمل بل لأنها محبوسة عليه في بيته وجب أن تستحق المبتوتة النفقة لهذه العلة، إذْ قد علم ضمير الآية في عِلّية استحقاق النفقة للرجعية، فصار كقوله : فأنفقوا عليهن لعلّة أنها محبوسة عليه في بيته ؛ لأن الضمير الذي تقوم الدلالة عليه بمنزلة المنطوق به. ومن جهة أخرى وهي أن نفقة الحامل لا تخلو من أن تكون مستحَقَّةً للحمل أو لأنها محبوسة عليه في بيته، فلو كانت مستحقة للحمل لوجب أن الحمل لو كان له مال أن ينفق عليها من ماله كما أن نفقة الصغير في مال نفسه، فلما اتفق الجميع على أن الحمل إذا كان له مال كانت نفقة أمه على الزوج لا في مال الحمل دل على أن وجوب النفقة متعلق بكونها محبوسة في بيته. وأيضاً كان يجب أن تكون في الطلاق الرجعيّ نفقة الحامل في مال الحمل إذا كان له مال، كما أن نفقته بعد الولادة من ماله، فلما اتفق الجميع على أن نفقتها في الطلاق الرجعيّ لم تجب في مال الحمل وجب مثله في البائن وكان يجب أن تكون نفقة الحامل المتوفَّى عنها زوجها في نصيب الحمل من الميراث.
فإن قيل : فما فائدة تخصيص الحامل بالذكر في إيجاب النفقة ؟ قيل له : قد دخلت فيه المطلقة الرجعية ولم يمنع نفي النفقة لغير الحامل، فكذلك في المبتوتة ؛ وإنما ذكر الحمل لأن مدته قد تطول وتقصر، فأراد إعلامنا وجوب النفقة مع طول مدة الحمل التي هي في العدة أطْوَلُ من مدة الحيض. ومن وجهة النظر أن الناشزة إذا خرجت من بيت زوجها لا تستحقّ النفقة مع بقاء الزوجية، لعدم تسليم نفسها في بيت الزوج، ومتى عادت إلى بيته استحقت النفقة، فثبت أن المعنى الذي تستحق به النفقة هو تسليم نفسها في بيت الزوج، فلما اتفقنا ومن أوجب السكْنَى على وجوب السكنى وصارت بها مسلمة لنفسها في بيت زوجها وجب أن تستحق النفقة.
وأيضاً لما اتفق الجميع على أن المطلقة الرجعية تستحق النفقة في العدة وجب أن تستحقها المبتوتة، والمعنى فيها أنها معتدة من طلاق، وإن شئت قلت إنها محبوسة عليه بحكم عقد صحيح، وإن شئت قلت إنها مستحقة للسكنى، فأيّ هذه المعاني اعتللتَ به صح القياس عليها. ومن جهة السنة ما روى حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن الشعبي : أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها طلاقاً بائناً، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال :" لا نَفَقَةَ لَكِ ولا سُكْنَى "، قال : فأخبرت بذلك النخعيَّ فقال : قال عمر بن الخطاب، وأخبر بذلك فقال : لسنا بتاركي آية في كتاب الله وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لعلها أوهِمَتْ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها السكنى والنفقة.
وروى سفيان عن سلمة عن الشعبي عن فاطمة عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أنه لم يجعل لها حين طلقها زوجها ثلاثاً سكنى ولا نفقة "، فذكرت ذلك لإبراهيم فقال : قد رفع ذلك إلى عمر فقال : لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا لقول امرأة لها السكنى والنفقة. فقد نصَّ هذان الخبران على إيجاب النفقة والسكنى، وفي الأول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" لها السُّكْنَى والنَّفَقَة " ولو لم يقل ذلك كان قوله :" لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا " يقتضي أن يكون ذلك نصّاً من النبي صلى الله عليه وسلم في إيجابهما.
واحتج المبطلون للسكنى والنفقة ومن نَفَى النفقة دون السكنى بحديث فاطمة بنت قيس هذا، وهذا حديثٌ قد ظهر من السلف النكير على رَاوِيهِ، ومن شَرْطِ قبول أخبار الآحاد تعرِّيها من نكير السلف ؛ أنكره عمر بن الخطاب على فاطمة بنت قيس في الحديث الأول الذي قدمناه، وروى القاسم بن محمد أن مروان ذكر لعائشة حديث فاطمة بنت قيس فقالت : لا يضرك أن لا تذكر حديث فاطمة بنت قيس ! وقالت في بعضه : ما لفاطمة خير في أن تذكر هذا الحديث ! يعني قولها :" لا سُكْنَى لَكِ وَلا نَفَقَة ".
وقال ابن المسيب : تلك امرأة فتنت الناس، استطالت على أحمائها بلسانها، فأُمرت بالانتقال. وقال أبو سلمة : أنكر الناس عليها ما كانت تحدّث به. وروى الأعرج عن أبي سلمة أن فاطمة كانت تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لها :" اعْتَدِّي في بيت ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ " ؛ قال : وكان محمد بن أسامة يقول : كان أسامة إذا ذكرت فاطمة من ذلك شيئاً رماها بما كان في يده ؛ فلم يكن ينكر عليها هذا النكير إلا وقد علم بطلان ما رَوَتْه. وروى عمار بن رزيق عن أبي إسحاق قال : كنت عند الأسود بن يزيد في المسجد فقال الشعبي : حدثتني فاطمة بنت قيس أن النبي قال لها :" لا سُكْنَى لَكِ ولا نَفَقَةَ " قال : فرماه الأسود بحصا ثم قال : ويلك ! أتحدث بمثل هذا ؟ قد رُفع ذلك إلى عمر فقال : لسنا بتاركي كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها كذبت ؛ قال الله تعالى :﴿ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ﴾. وروى الزهري قال : أخبرني عبيدالله بن عبدالله بن عتبة :" أن فاطمة بنت قيس أَفْتَتْ بنت أخيها وقد طلقها زوجها بالانتقال من بيت زوجها، فأنكر ذلك مروان، فأرسل إلى فاطمة يسألها عن ذلك، فذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتاها بذلك، فأنكر ذلك مروان وقال : قال الله تعالى :﴿ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ ﴾، قالت فاطمة : إنما هذا في الرجعيّ لقوله تعالى :﴿ لا تَدْرِي لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾، فقال مروان : لم أسمع بهذا الحديث من أحد قبلك وسآخذ بالعصمة التي وجدت الناس عليها ".
فقد ظهر من هؤلاء السلف النكير على فاطمة في روايتها لهذا الحديث، ومعلوم أنهم كانوا لا ينكرون روايات الأفراد بالنظر والمقايسة، فلولا أنهم قد علموا خِلاَفَهُ من السنة ومن ظاهر الكتاب لما أنكروه عليها.
وقد استفاض خبر فاطمة في الصحابة فلم يعمل به منهم أحد إلاّ شيئاً رُوي عن ابن عباس، رواه الحجاج بن أرطاة عن عطاء عن ابن عباس أنه كان يقول في المطلقة ثلاثاً والمتوفَّى عنها زوجها :" لا نفقة لهما وتعتدّان حيث شاءتا "، فهذا الذي ذكرنا في رد خبر فاطمة بنت قيس من جهة ظهور النكير من السلف عليها وفي روايتها ومعارضة حديث عمر إياه يُلزم الفريقين من نفاة السكنى والنفقة وممن نفى النفقة وأثبت السكنى، وهو لمن نَفَى النفقة دون السكنى أَلْزَمُ لأنهم قد تركوا حديثها في نفي السكنى لعلّة أوجبت ذلك، فتلك العلة بعينها هي الموجبة لترك حديثها في نفي النفقة.
فإن قيل : إنما لم يُقبل حديثها في نفي السكنى لمخالفته لظاهر الكتاب. وهو قوله تعالى :﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ ﴾. قيل له : قد احتجَّت هي في أن ذلك في المطلقة الرجعية، ومع ذلك فإن جاز عليها الوهم والغلط في روايتها حديثاً مخالفاً للكتاب فكذلك سبيلها في النفقة.
وللحديث عندنا وجه صحيح يستقيم على مذهبنا فيما روته من نفي السكنى والنفقة ؛ وذلك لأنه قد رُوي أنها استطالت بلسانها على أحمائها فأمروها بالانتقال وكانت سبب النقلة، وقال الله تعالى :﴿ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيَّنَةٍ ﴾، وقد رُوي عن ابن عباس في تأويله :" أن تستطيل على أهله فيخرجوها " فلما كان سبب النقلة من جهتها كانت بمنزلة النّاشزة، فسقطت نفقتها وسكناها جميعاً، فكانت العلّة الموجبة لإسقاط النفقة هي الموجبة لإسقاط السكنى ؛ وهذا يدل على صحة أصلنا الذي قدمنا في أن استحقاق النفقة متعلق باستحقاق السكنى.
فإن قيل : ليست النفقة كالسكنى، لأن السكنى حقٌّ لله تعالى لا يجوز تراضيهما على إسقاطها، والنفقة ح
قوله تعالى :﴿ لِينْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ﴾ يدل على أن النفقة تُفرض عليه على قدر إمكانه وسَعَتِهِ، وأن نفقة المعسر أقلّ من نفقة الموسر.
وقوله تعالى :﴿ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ الله ﴾، قيل معناه : من ضُيِّق عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، يعني والله أعلم أنه لا يكلف نفقة الموسر في هذه الحال بل على قدر إمكانه ينفق.
وقوله تعالى :﴿ لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاّ ما آتَاهَا ﴾، فيه بيان أن الله لا يكلف أحداً ما لا يطيق ؛ وهذا وإن كان قد علم بالعقل إذ كان تكليف ما لا يطاق قبيحاً وسفهاً، فإن الله ذكره في الكتاب تأكيداً لحكمه في العقل، وقد تضمن معنى آخر من جهة الحكم وهو الإخبار بأنه إذا لم يقدر على النفقة لم يكلفه الله الإنفاق في هذه الحال، وإذا لم يكلف الإنفاق في هذه الحال لم يجز التفريق بينه وبين امرأته لعجزه عن نفقتها ؛ وفي ذلك دليل على بطلان قول من فرّق بين العاجر عن نفقة امرأته وبينها. فإن قيل : فقد آتاه الطلاق فعليه أن يطلق. قيل له : قد بيّن به أنه لم يكلفه النفقة في هذه الحال فلا يجوز إجباره على الطلاق من أجلها ؛ لأن فيه إيجاب التفريق بشيء لم يجب. وأيضاً فإنه أخبر أنه لم يكلفه من الإنفاق إلا ما آتاه، والطلاق ليس من الإنفاق، فلم يدخل في اللفظ. وأيضاً إنما أراد أنه لا يكلفه ما لا يطيق ولم يُرِدْ أنه يكلفه كل ما يطبق ؛ لأن ذلك مفهوم من خطاب الآية.
وقوله تعالى :﴿ سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ﴾ يدل على أنه لا يفرق بينهما من أجل عجزه عن النفقة، لأن العسر يُرْجَى له اليسر.
Icon