تفسير سورة الطلاق

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة الطلاق من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ الطَّلَاقِ
أكثر ما وقع في القرآن أن مخاطبته صلى الله عليه وعلى آله وسلم بصفاته، فقال (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ)، وكذلك (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ)، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ)، وغير ذلك من الآيات، وما وقع التعبير عنه باسم العلَم، إلا في نحو خمس آيات، وهي قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ)، وقوله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ)، وقوله تعالى: (وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ)، وقوله تعالى: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)، وسبب ذلك أن هذه الصفات ذكرت على سبيل المدح والتشريف، فلذلك كرر هنا ذكرها، والتصريح باسمه العلم إنما هو لتميزه عن غيره فقط، وعبر هنا بالنبي الذي هو أعم من الرسول ليعم الخطاب بحكم الطلاق له ولأمته، وعبر بـ إذا دون إن مع أن الطلاق مبغوض شرعا، لكن روعي فيه كثرة وقوعه في الوجود الخارجي، والمراد أردتم الطلاق، وليس في الآية ما يدل على إباحة الطلاق ولا عدم إباحيته.
قوله تعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ... (١)﴾
أي لاستقبال عدتهن، والمطلقة في الحيض لَا تستقبل العدة؛ لأنها تمكث حتى تطهر، فحينئذ تبدأ بحسب العدة؛ بخلاف المطلقة في الطهر، فإنها تحسب بذلك الطهر فهي مطلقة في الزمن التي تستقبل فيه عدتها إثر الطلاق، وفيه دليل على منع الطلاق في الحيض، وهو مذهب مالك في جميع مسائل الفقه إلا في مسألة واحدة، وهي طلاق المولي إذا انقضى أمد الإيلاء وهي حائض، فاختلف قوله، فقال مرة: يطلق عليه الحاكم حينئذ، وقال مرة: يتربص حتى تطهر، فحينئذ يطلقها عليه، وهو مذهب ابن القاسم، وأما طلاق الحامل فعلى الاختلاف في دمها هل دم حيض أم لَا، قال مكي: ومعنى قوله تعالى: (لِعِدَّتِهِنَّ)، واعتيادهن، أي للأقراء التي اعتدتها ويرد باختلاف المادة، وإنما المعنى العدة أي للأقراء التي [يعدونها*] ويحسبونها، فإن قلت: يلزمك أن يكون عطف (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ)، تكرار؟ قلت: المراد بالأول: العدة، وبالثاني: إحصاؤها، ويكون تأكيدا، أو أسند الطلاق إلى الرجال، والعدة إلى النساء؛ لأن طلاق العبد طلقتان، ولو كانت زوجته حرة، وعدة الأمة حيضتان ولو كان زوجها حرا.
قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ).
اختلفوا هل الحد جزء من المحدود أو غيره؟ ذكر ابن سهل في أحكامه: أن ابن عتاب أفتى فيمن اشترى [أرضا*] موقعها حده القبلي أو الشرقي الشجرة الفلانية، بأن الشجرة داخلة في المبيع انتهى، وهذه الآية معضدة لقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَعَدَّ)، فلو كان الحد غير المحدود؛ لكان الذي يصل إلى حدود الله ولا يتجاوزها إلى غيرها متعديا؛ لأنه تعد الشيء الذي هي حد له، فلما قال (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ)، دل على أنها جزء من المحدود.
قوله تعالى: (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ).
لحديث: " [مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا، طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ*] "، وهو صحيح، إلى غير ذلك من الأحاديث.
قوله تعالى: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا).
فسره بالمراجعة أو الندم وانقلاب البغض محبة، والآية خرجت على سبب، وهو إرادة الرجعة، وهي قضية [في معين*]، والصحيح أن العام الخارج لَا يقصر على سبب بل يعم.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ... (٢)﴾
أي قاربن انقضاء عدتهن، فراجعوهن إن شئتم، أو دوموا على فرقتكم لهن، وجعله هنا فراقا مع أن الفراق واقع فيما سبق، إشارة إلى أنه الزمن الذي ينتهي إليه [ما بيد الأزواج*] من الرجعة الجبرية، فإذا مر ذلك الزمن فلم يرتجعوهن فقد خرجن من عصمتهم.
قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ).
فيها دليل على منع أخذ الأجرة على الشهادة، إلا أن يقال: معنى إقامة الشهادة لله، أي في الإتيان بها على وجهها من غير اتباع هؤلاء [عَرضا دنيويا*]، [فذكرها*] لَا ينافى أخذ الأجرة عليها.
قوله تعالى: (ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).
إن قلنا: إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، فيكون المراد: يوعظون الوعظ النافع، فإِن قلنا: إنهم ليسوا مخاطبين بالفروع، فيكون المراد مطلق الوعظ. في المدونة مسائل تدل على أنهم مخاطبون، منها قوله في كتاب السلم الثالث: وإذا ابتاع ذمي
طعاما من ذمي، فأراد بيعه قبل قبضه، لم أحب لمسلم أن يبتاعه، وفي التجارة بأن من الحرب، إذا فرق أهل الكتاب بين الأم وولدها وباعوا لنا الأم، قال: يكره لنا شراؤها، والكراهة للتحريم بخلاف التي في المسلم، وفي كتاب القيام منها ما يدل على أنهم غير مخاطبين بالفروع، وتكلم الباجي على ذلك في الصيام في المسافر: يقدم في رمضان فيريد أن يطأ زوجته الكافرة في النهار.
قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا).
في صدق بعض ما يلزم هذه الشرطية من المنفصلتين المانعتين الجمع والخلو نظر.
قوله تعالى: ﴿مِنْ نِسَائِكُمْ... (٤)﴾
إن قلت: ما أفاد مع أنه معلوم، لأنه لَا حيض إلا لهن؟ فالجواب: أنه يتضمن كون الخطاب للموجودين؛ لأن الإضافة في (مِن نِسَائِكُم)، للمخاطب والمخاطب لا يكون إلا موجود فقائدته إخراج المتوفى عنها؛ لأن عدتها أربعة أشهر وعشرا، إذ هي زوجة الميت والميت غير موجود.
قوله تعالى: (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ).
وفي سورة البقرة (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ)، والجواب: أنه لو [قال*] هناك يتربصن ثلاثة أشهر [أوهَم*] أنها تجلس ثلاثة أشهر فقط، مع أنها إذا ارتابت تجلس سنة، لكن الثلاثة أشهر هنا عدة، ولذلك قال مالك: العدة في الطلاق قبل الريبة، وفي الوفاة بعد الريبة.
قوله تعالى: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ).
ابن عطية: المتوفى عنها إذا كانت حاملا فالمذهب أن عدتها [بوضعها*]، وقال علي وابن عباس: عدتها أقصى الأجلين، وحكاه بعضهم عن سحنون، قال: وسبب الخلاف تعارض الآيتين (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ)، مع هذه الآية عموم وخصوص من وجه دون وجه، واختلف الأصوليون في النصين إذا كان كل واحد أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه، [قيل*]: بالوقف، وقيل: [الآخر*] ينسخ الأول: فآية البقرة أعم في الزمان حاملا كانت أو غير حامل، وآية الطلاق أعم في الحوامل مطلقات أو متوفى عنهن، وأخص في الزمان فمن يجمع بينهما ولا ينسخ أحدهما بالأخرى فظاهر، ومن ينسخ أحدهما بالآخر يجعل هذه ناسخة لتلك، ومن لَا يقول بالنسخ يجعلها مخصصة لتلك، فيتعارض النسخ
والتخصيص، فالتخصيص أولى، والمشهور أنها إذا وضعت ولدا وبقي في بطنها آخر أن عدتها لَا تنقضي إلا [بوضع*] الولد الثاني انتهى، وعبر في الحوامل بالأجل دون العدة، فلم يقل: وأولات الأحمال عدتهن أن يضعن حملهن، وعبر في غير الحوامل بالعدة مع أن الجميع عدة.
قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا).
التقوى الأولى: في الأمر الدنيوي، والثانية: في الأخروي، أو هو إشارة إلى حالتي [المعتدة*] من الحوامل، فمنهن من اتقت الله تعالى فليس عليها مشقة في الولادة فلها الأجر العظيم، أي يتق الله فجزاؤه أحد أمرين: إما دنيوي بتسهيل الولادة وتيسيرها، وإما أخروي بتكفير السيئات وكثرة الأجر إذا عسرت عليها الولادة.
قوله تعالى: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ... (٦)﴾
إن قلت: ما أفاد هذا مع قوله تعالى: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ)، قلت: فائدته إدخال صورة، وهي من يسكن بزوجته في دار بالكراء، ثم يطلقها في آخر مدة الكراء، فهذه الصورة غير داخلة في الآية الأولى، لأن ذلك المسكن ليس من بيوتهن، وهذه الآية تتناول الصورة المذكورة.
قوله تعالى: (مِنْ وُجْدِكُمْ).
أعربه الزمخشري: عطف بيان، واعترضه أبو حيان بتكرار العامل، ونص عليه ابن السيد في إصلاح الخلل، ويعترض أيضا بأنه يجب في عطف البيان عطف توافقهما في المعرفة والتنكير، فعلى هذا جرى قوله (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ)، عطف بيان، ورده ابن مالك بأنه خلاف إجماع الفريقين، وهنا الجملة التي أضيفت إليها حيث نكرة بدليل وصف النكرة بها، تقول: جاء رجل يضحك انتهى، ولا يحتاج إلى هذا بل يتعلق ب (سَكَنْتُمْ)، فيكون إشارة إلى أنه لَا يجب استواء المعتدة والزوج في السكنى في كل حالة من حالات السكنى، بل في حال الوجد، فإن كان مثلا يسكن في بيت بالكراء بدينار، فانقضت المدة قبل تمام العدة، ولم يجد إلا بأقل من دينار، فإِنه لَا يكلف أزيد منه.
قوله (تُضَارُّوهُنَّ)، هذا [مفاعلة ينهي فيها عن مضارة من ضره*]، فأحرى [عدم*] مضارة من لم يضره، وهل المضارة سبب في التضييق في المضارة، فيه نظر.
قوله تعالى: (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى).
إن قلت: لم أفرد الضمير، وقد وقع الخطاب أولا بالجمع في قوله تعالى: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ)؟ فالجواب: أنه لما كانت حالة العسر أقل من حالة اليسر، أفرد الضمير إشعارا بالوحدة الدالة على القلة.
قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ... (٨)﴾
كان بعضهم يقول: الظاهر أن الجواب: (أعد الله لهم) وقرره بأن الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والمناسب في التسلية تكرير الأشياء والمتسلي بها وإعداد العقاب أخص من العتو عن أمر الله، فتعليق التسلية على الأخص أبلغ، لأن كل ما لزم الأخص لزم الأعم، دون رده عليه بأن التسلية إنما تكون بأمر نزل جنسه لغير المخاطب، وإما ذكر ما يحل من العذاب بقومه في [الدنيا*] فيزيده غما وتأسفا وحزنا عليهم، وإنما يتسلى بعتو [أمثالهم*] على كثير من الأنبياء، فإن قلت: لم قرن الشدة [بالحساب*]، [والنكر*] بالعذاب، فهلا قال: [(فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا نُكْرًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا شَدِيدًا) *]، قلت: الحساب ليس فيه ما ينكر، والعذاب غير المعهود منكر.
قوله تعالى: ﴿وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (٩)﴾
لأن الإنسان قد يذوق العذاب ثم يعقبه الخير والسلامة.
قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ... (١٢)﴾
ابن عطية: لَا خلاف بين العلماء أن السماوات سبع، لقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا)، فسر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أمرهن في حديث الإسراء حتى قال: "ثم صعدنا إلى السماء السابعة"، وقال لسعد: "حَكَمْتَ بِحُكْمِ الْمَلِكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقُعَةٍ" انتهى، هذا ما يتم إلا على أصول الحكماء الفاسدة التي [نخالف*] نحن فيها، لأن كونها كذلك [حجة*]، إما للعقل أو للسمع، فالعقل لَا مدخل له في عددها، وإن ادعوا إسناد ذلك إلى العادة، فهي دعوى باطلة إذ لَا يعلم ذلك بالعادة بوجه فلم يبق إلا السمع، وهو مخالف لهم ومبني على أنها لَا تقبل الخرق، وأما عندنا فيصح قبولها للخرق، كما نشاهده في جرم السمع وجرم الميناء [تخرقه*] السفينة، ويرجع كما كان ففي الممكن أن تلك الكواكب والشمس والقمر [تخرقها*] كلها، وتنتقل من سماء إلى سماء، وإذا كان كذلك فيبطل استدلالهم على الطول، وغير ذلك بالرصد، ومذهب الحكماء أن السماوات كربطة البصلة، واحدة فوق أخرى متلاصقة، ومذهب أهل السنة أن بينها فضاء حاجزا، [وَرَدَ*] أن غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماءين خمسمائة عام، لكنه لم يصح، وأشار له الزمخشري في سورة النازعات، وذكر الحكماء: أن الأفلاك تسعة منها
248
السبعة المشهورة، [والفلك الأطلس، وفلك البروج [وذلك المسمى*] بفلك البروج هو الثامن، والأطلس فوقه ليس فيه كواكب بوجه، [**وفلك الوهم] محيط بالجميع حركته أسرع من طرفة العين، فإن قلت: هلا كانت الملائكة مخلوقين قبل السماوات [أو لا*]؟ فالجواب إن قلنا: بإثبات الجوهر الفارق، وهو موجود لَا يتحيز ولا قائم بالمتحيز، وهو مذهب الحكماء، فنقول: يصح أن يكونوا مخلوقين قبل ذلك، وإن منعنا ذلك فيمنع صحة خلقهم، قيل: لأن الموجود إما متحيز أو قائم بالمتحيز، فهو إما في مكان أو في حيز أو نقول: كانوا في الفضاء وهو حيزهم كما هي السماوات الآن في الحيز لا في المكان.
قوله تعالى: (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)،
ابن عطية: روي عن قوم من العلماء أنهم قالوا: الأرض واحدة، وهي مماثلة لكل سماء بانفرادها في ارتفاع جرمها، وفي أن فيها عالما يعبد، كما أن في الأرض عالما يعبد، انتهى، لَا يصح أن تكون المماثلة في الذات والصفات، لأنهم قرروا في علم الهيئة، أن الشمس أكبر من الأرض، وهي أصغر من السماء، فكيف يكون جرم الأرض قدر جرم [السماء*]؟ المماثلة ليست من جميع الوجود، وهذا كقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إذا سمعتم النداء، فقولوا مثل ما يقول المؤذن، مع أنه لا يحاكيه في الحيعلة والحوقلة، وذكر ذلك ابن رشد في البيان والتحصيل في كتاب الصرف في مسألة سعيد بن المسيب، وحكى ابن سينا الخلاف في الأرضين أنها سبع أو لَا؟ واختار أنها سبع، وقال المازري في المعلم: سألني عن ذلك شيخنا عبد الحميد الصائغ، وكتب لي بعد فراقي له، هل وقع في الشرع ما يدل على أن الأرضين سبع؟ فأجبته بقول الله تعالى (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)، وبحديث " [مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا، طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ*] " خرجه مسلم، قال [فأتم*] كتابه إلي، وقال: إن الآية محتملة هل مثلهن في الشكل والهيئة [أو*] في العدد، والحديث أخبار [آحاد، والقرآن*] إذا احتمل، والحديث إذا لم يتواتر، لم يصح القطع بذلك، والمسألة علمية ليست من العمليات، فلا يتمسك فيها بالظواهر، وبأخبار الآحاد، قال: فأعدت إليه المجاوبة [فاحتج*] ببعد الاحتمال من القرآن، وبسط القول في ذلك، وترددت له في آخر كتابي في احتمال ما قال: فقطع المجاوبة، قال في شرح الجوزقي: لأنه كان انقطع في آخر عمره للعبادة، ذكره لما تكلم في الأذان، انتهى، [إلا أن*] ظاهر كلامهما أن المسائل العلمية لَا تثبت إلا بالدلائل القطعية [مطلقا*]، ولذلك منعت فرقة التفضيل بين الصحابة، لأن ذلك أمر علمي عندهم [صرف*]، ودلائل التفضيل لَا تنهض للقطع، وإلا ظهر أن المسائل العلمية على قسمين فما يرجع منهما لأحكام العقائد، كالأحكام المتعلقة بالذات [العَليَّة*]، كالحكم بجواز [رؤيته*] عز وجل مع تنزيهه وتقديسه عن الجهة والمكان، والحكم بكونه سميعا بصيرا مع تنزيهه عن الجارحة وأعضاء السمع
249
(يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)
والبصر [وأحكام النبوة وختمها*]، وانقطاعها؛ [وهذا*] لَا يصح إلا بما يفيد القطع اتفاقا، وأما ما يرجع إلى ما ليس من أحكام العقائد [كـ كون*] الأرضين سبعا، وكأفضلية بعض الصحابة على بعض، والحكم بأن الكفار مخاطبون بالفروع [أم لا؟ *] على رأي القاضي أبي بكر الباقلاني، وأكثر الأصوليين من أن ثمرة ذلك إنما هي حاصلة في الدار الآخرة، وكالحكم بجواز كرامات الأولياء، وهو مذهب جمهور أهل السنة، وكون الذبيح إسماعيل أو إسحاق فهذا يصح إثباته بالدلائل الظنية [ولَا يلزم*] من تحصيله بها إخلال بواجب، ومعنى كونها علمية أنها اعتقادية فقط لَا عمل فيها بوجه.
(الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ)
قرره الغزالي في [**المضنون به] بكلام جار على قواعد الحكماء.
قوله تعالى: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
ابن عطية: عام مخصوص بالواجب والمستحيل، ابن التلمساني في شرح المعالم الفقهية: أجمعوا على أن المعدوم المستحيل في نفيه كقلب الأجناس واللون في محلين في زمن واحد، لَا يتعلق به قدرة لَا قديمة ولا حادثة، وقال السراج في الموجز: قولك: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، دال بالمطابقة على عموم العلم [لا [حادثه*]، [فقولك*] الله قادر عَلى كل شيء، دال بالتضمن، لأنه إنما يدل على بعض مسماه، لأن القدرة لَا تتعلق بالواجب ولا بالمستحيل، وقال القرافي: دلالة العالم على بعض أفراده، لَا يصح أن [تكون*] مطابقة ولا التزاما، لأنه داخل في المسمى، ولا تضمنا، لأنه كلية لَا كل. انتهى، ويرد بأنه إن أريد دلالته عليه من حيث كونه جزءا من كل فهي تضمن، وإن أريد دلالته عليه من حيث كونه [... ] فهي مطابقة فهل هو من قسم الجزئي والكلي، أو من قسم الجزء أو الكل، ابن التلمساني في فروع المسألة الرابعة من الباب الثالث: المخاطب يندرج في العموم على الأصح، قال تعالى (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، وهو عليم بذاته وصفاته، واحتج المانع بقوله تعالى: (خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ)، ويقول القائل: من دخل داري فأعطه درهما، فإنه يتناوله واجب بأن الأول: مخصوص بدليل العقل، والثاني: العرف، والحكم في ذلك كله للقرائن، انتهى، والقدرة مختصة بالله عز وجل، والعلم يشاركه فيه الغير، فكذلك عبر فيه بالإحاطة الخاصة بالله، والصفات على ثلاثة أقسام: صفة قاصرة على ذات الله تعالى، كالحياة والبقاء، وصفة متعلقة مؤثرة، كالقدرة، وصفة متعلقة غير مؤثرة، كالعلم، وأما الإرادة فاختلفوا هل هي من الصفات المؤثرة أو لَا؟ وسبب الخلاف النظر في [التأثير*] أعم من ذلك، ومن التخصيص فالإرادة مؤثرة.
* * *
250
Icon