ﰡ
(مكية وحروفها تسع وتسعون كلمها عشر آياتها خمس)
[سورة الفلق (١١٣) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤)وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (٥)
الوقوف:
الْفَلَقِ هـ لا خَلَقَ هـ لا وَقَبَ هـ لا الْعُقَدِ هـ لا حاسِدٍ إِذا حَسَدَ هـ.
التفسير:
لما أمره بقراءة سورة الإخلاص تنزيها له عما لا يليق به في ذاته وصفاته وكان ذلك من أشرف الطاعات، أمره أن يستعيذ به من شر من يصده عن ذلك كالمشركين وكسائر شياطين الإنس والجن.
يروى أن جبرائيل أتاه وقال: إن عفريتا من الجن يكيدك فقل إذا أتيت على فراشك: أعوذ برب الفلق أعوذ برب الناس.
وعن سعيد بن المسيب أن قريشا قالوا نتجوع فنعين محمدا ففعلوا ثم أتوه وقالوا: ما أشدّ عضدك وأقوى ظهرك وأنضر وجهك! فأنزل الله المعوّذتين.
وقال جمهور المفسرين: إن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي ﷺ في إحدى عشرة عقدة في وتر ودسه في بئر ذي أروان، فمرض النبي ﷺ واشتدّ ذلك عليه ثلاث ليال فنزلت المعوّذتان، وأخبره جبرائيل بموضع السحر فأرسل عليا بطلبه وجاء به وقال جبرائيل: اقرأ السورتين. فكان كلما يقرأ آية تنحل عقدة فيجد بعض الراحة والخفة، حتى إذا أتمهما فكأنما أنشط من عقال.
طعنت المعتزلة في هذه الرواية بأنها توجب تسلط الكفار والأشرار على الأنبياء. وأيضا لو صحت لصح قولهم إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الإسراء: ٤٧] والجواب أن التسليط الكلي بحيث يمنعه عن تبليغ الرسالة لا يجوز، ولكن لا نسلم أن بعض الأضرار في بدنه لا يجوز لا سيما وقد تداركه الله تعالى بفضله وخصوصا إذا كان فيه لطف لغيره من أمته حتى يفعلوا في مثل تلك الواقعة كما فعل، ولهذا استدل أكثر العلماء على أنه يجوز الاستعانة بالرقى والعوذ ويؤيده ما
روي أن رسول
وعن ابن عباس كان رسول الله ﷺ يعوّذ الحسن والحسين رضي الله عنهما بقوله «أعيذكما بكلمات الله التامّة من كل شيطان وهامّه ومن كل عين لامّه» «٢»
ويقول هكذا كان أبي إبراهيم يقول لابنيه إسماعيل وإسحق.
وعنه كان رسول الله ﷺ يعلمنا من الحمى والأوجاع كلعا «بسم الله الكريم أعوذ بالله العظيم من شر كل عرق نعار ومن شر حرّ النار» «٣»
وعن علي رضي الله عنه كان النبي ﷺ إذا دخل على مريض قال «أذهب البأس رب الناس اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت» «٤»
وروي أنه ﷺ كان إذا سافر فنزل منزلا يقول «يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرّك ومن شرّ ما فيك وشرّ ما يخرج منك ومن شرّ ما يدب عليك، وأعوذ بالله من شرّ أسد وأسود وحية وعقرب، ومن شرّ ساكن البلد ووالد ما ولد» «٥»
وعن عائشة كان النبي ﷺ إذا اشتكى شيئا من جسده قرأ قل هو الله أحد والمعوّذتين في كفه اليمنى ومسح بها المكان الذي يشتكي.
وروي أنه ﷺ دخل على عثمان بن مظعون فعوّذه ب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وبهاتين السورتين. ثم قال: تعوّذ بهن فما تعوّذت بخير منها.
وأما قول الكفار إنه مسحور فإنما أرادوا به الجنون والسحر الذي أثر في عقله ودام معه فلذلك وقع الإنكار عليهم. ومن الناس من لم يرحض في الرقى
لرواية جابر نهى النبي ﷺ عن الرقى وقال «إن لله عبادا لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون» «٦»
وأجيب بأن النهي وارد على الرقى المجهولة التي يفهم معناها. واختلف في التعليق
فروى أنه ﷺ قال «من علق شيئا وكل إليه» «٧»
(٢) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ١٠. أبو داود في كتاب السنّة باب ٢٠. ابن ماجه في كتاب الطب باب ٣٦. أحمد في مسنده (١/ ٢٣٦، ٢٧٠).
(٣) رواه الترمذي في كتاب الطب باب ٢٦. ابن ماجه في كتاب الطب باب ٣٧. أحمد في مسنده (١/ ٣٠٠).
(٤) رواه البخاري في كتاب الطب باب ٣٨، ٤٠. مسلم في كتاب السلام حديث ٤٦، ٤٨. أبو داود في كتاب الطب باب ١٧، ١٩. الترمذي في كتاب الجنائز باب ٤. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب ٦٤.
أحمد في مسنده (١/ ٧٦، ٣٨١) (٣/ ١٥١).
(٥) رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب ٧٥. أحمد في مسنده (٢/ ١٣٢)، (٣/ ١٢٤).
(٦) رواه البخاري في الطب باب ١٧. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٣٧١- ٣٧٢. الترمذي في كتاب القيامة ٣ ب ١٦. أحمد في مسنده (١/ ٢٧١، ٤٠١).
(٧) رواه الترمذي في كتاب الطب باب ٢٤. النسائي في كتاب التحريم باب ١٩. أحمد في مسنده (٤/ ٣١٠، ٣١١) بلفظ «تعلق» بدل «علق».
.
ومنهم من جوزه
سئل الباقر رضي الله عنه عن التعويذ يعلق على الصبيان فرخص فيه.
واختلفوا في النفث أيضا
فروي عن عائشة أنها قالت: كان النبي ﷺ ينفث على نفسه إذا اشتكى بالمعوذات ويمسح بيده، فلما اشتكى رسول الله ﷺ وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث عليه ﷺ بالمعوّذات التي كان ينفث بها على نفسه.
وعنه ﷺ أنه كان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه وقرأ فيهما بالمعوّذات ثم مسح جسده.
ومنهم من أنكر النفث عن عكرمة:
لا ينبغي للراقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد. وعن إبراهيم: كانوا يكرهون النفث في الرقى. وقال بعضهم: دخلت على الضحاك وهو وجع فقلت: ألا أعوّذك يا أبا محمد؟ قال:
بلى ولكن لا تنفث فعوّذته بالمعوّذتين. قال بعض العلماء: لعلهم كرهوا النفث لأن الله تعالى جعل النفث مما يستعاذ منه فوجب أن يكون منهيا عنه. وقال بعضهم: النفث في العقد المنهي عنه هو الذي يكون سحرا مضرا بالأرواح والأبدان، وأما الذي يكون لإصلاح الأرواح والأبدان فيجب أن لا يكون حراما.
سؤال: كيف قال في افتتاح القراءة فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف: ٢٠٠] وقال هاهنا أَعُوذُ بِرَبِّ دون أن يقول «بالله» ؟ وأجيب بأن المهم الأوّل أعظم من حفظ النفس والبدن عن السحر والوسوسة فلا جرم ذكر هناك الاسم الأعظم. وأيضا الشيطان يبالغ في منع الطاعة أكثر مما يبالغ في إيصال الضرر إلى النفس وأيضا كأن العبد يجعل تربيته السابقة وسيلة في التربية اللاحقة. وفي الفلق وجوه فالأكثرون على أنه الصبح من قوله فالِقُ الْإِصْباحِ [الأنعام: ٩٦] وخص هاهنا بالذكر لأنه أنموذج من صبح يوم القيامة ولأنه وقت الصلاة والجماعة والاستغفار إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً وفيه إشارة إلى أن القادر على إزالة الظلمة عن وجه الأرض قادر على دفع ظلمة الشرور والآفات عن العبد بصلاح النجاح.
روي أن يوسف عليه السلام حين ألقي في الجبّ وجعت ركبته وجعا شديدا فبات ليلته ساهرا، فلما قرب طلوع الصبح نزل جبرائيل عليه السلام يسليه ويأمره بأن يدعو ربه فقال: يا جبرائيل ادع أنت وأؤمن أنا. فدعا جبرائيل فأمن يوسف فكشف الله ما كان به من الضرّ، فلما حصل له الراحة قال: يا جبرائيل أنا أدعو وتؤمن أنت فسأل يوسف ربه أن يكشف الضرّ عن جميع أهل البلاء في ذلك الوقت، فلا جرم ما من مريض إلا ويجد نوع خفة في آخر الليل.
وروي أن دعاءه في الجبّ: يا عدّتي عند شدتي، ويا مؤنسي في وحشتي، ويا راحم غربتي، ويا كاشف كربتي، ويا مجيب دعوتي، ويا إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب، ارحم صغر سني، وضعف ركني، وقلة حيلتي، يا حي
وقيل: هو كل ما يفلقه الله كالأرض عن النبات إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى [الأنعام: ٩٥] والجبال عن العيون وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ [البقرة: ٧٤] والسحاب عن المطر، والأرحام عن الأولاد، والقبض عن البسط، والشدّة عن الفرج، والقلوب عن المعارف. وقيل: هو واد في جهنم إذا فتح صاح جميع من في جهنم من شدّة حره كأن العبد قال: يا صاحب العذاب الشديد أعوذ برحمتك التي هي أعظم وأكمل وأسبق وأقدم من عذابك. وصاحب هذا القول زعم أن المراد من شر ما خلق أي من شدائد ما خلق فيها. وعن ابن عباس: يريد إبليس خاصة لأن الله تعالى لم يخلق خلقا هو شرّ منه. ويدخل فيه الاستعاذة من السحرة لأنهم أعوانه وجنوده. وقيل: أراد أصناف الحيوانات المؤذية من الهوام والسباع. وقيل: الأسقام والآفات والمحن فإنها شرور إضافية وإن جاز أن تكون خيرات باعتبارات أخر والكل بقدر كما مر في مقدمة الكتاب في تفسير الاستعاذة. وذكر في الغاسق وجوه فعن الفراء وأبي عبيدة: هو الليل إذا جنّ ظلامه ومنه غسقت العين أو الجراحة إذا امتلأت دمعا أو دما. وقال الزجاج: هو البارد وسمي الليل غاسقا لأنه أبرد من النهار، فعلى هذا لعله أريد به الزمهرير. وقال قوم: هو السائل من قولهم غسقت العين تغسق غسقا إذا سالت بالماء، وسمي الليل غاسقا لانصباب ظلامه على الأرض. قلت: ولعل الاستعاذة على هذا التفسير إنما تكون من الغساق في قوله تعالى إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً [النبأ: ٢٥] والوقوب الدخول في الشيء بحيث يغيب عن العين. هذا من حيث اللغة. ثم أن الغاسق إذا فسر بالليل فوقوبه دخوله وهو ظاهر. ووجه التعوذ من شره أن السباع فيه تخرج من آجامها والهوام من مكامنها، وأهل الشر والفتنة من أماكنها، ويقل فيه الغوث ولهذا قالت الفقهاء: لو شهر أحد سلاحا على إنسان ليلا فقتله المشهور عليه لم يلزمه قصاص ولو كان نهارا لزمه لوجود الغوث. وقد يقال: إنه تنشر في الليل الأرواح المؤذية المسماة بالجن والشياطين، وذلك لأن قوة الشمس وشعاعها كأنها تقهرهم، أما في الليل فيحصل لهم نوع استيلاء. وعن ابن عباس: هو ظلمة الشهوة البهيمية إذا غلبت داعية العقل. قال ابن قتيبة: الغاسق القمر لأنه يذهب ضوءه عند الخسوف، ووقوبه دخوله في ذلك الاسوداد.
وعن عائشة أن رسول الله ﷺ أخذ بيدها وقال لها: استعيذي بالله من شر هذا فإنه الغاسق إذا وقب.
وعلى هذا التفسير يمكن تصحيح قول الحكيم إن القمر جرم كثيف مظلم في ذاته لكنه يقبل الضوء عن الشمس ويختلف حاله في ذلك بحسب قربه منها وبعده عنها. ووقوبه إما دخوله في دائرة الظلام في الخسوفات، وإما دخوله تحت شعاع الشمس في آخر كل شهر، وحينئذ يكون منحوسا قليل القوة ولذلك تختار السحرة ذلك
قال ابن زيد: وكانت الأسقام تكثر حينئذ. وقال في الكشاف: يجوز أن يراد به الأسود من الحيات ووقبه خربه ونقبه. وقيل: هو الشمس إذا غابت وسميت غاسقا لسيلانها ودوام حركتها. وأما النفث فهو النفخ بريق. وقيل: النفخ فقط. والعقد جمع عقدة. والسبب فيه أن الساحر إذا أخذ في قراءة الرقية أخذ خيطا ولا يزال يعقد عليه عقدا بعد عقد وينفث في تلك العقد. ووجه التأنيث إما الجماعة لأن اجتماع السحرة على عمل واحد أبلغ تأثيرا، وإما لأن هذه الصناعة إنما تعرف بالنساء لأنهن يعقدن وينفثن وذلك أن الأصل الكلي في ذلك الفن هو ربط القلب وتعليق الوهم بذلك الأمر وأنه في النساء أوفر لقلة علمهن وشدّة شهوتهن. وقال أبو عبيدة: إنهن بنات لبيد بن الأعصم اليهودي اللاتي سحرن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو مسلم: العقد عزائم الرجال والنفث حلها لأن من يريد حل عقدة الحبل ينفث عليه بريق يقذفه عليه ليصير حله سهلا. والمعنى: إن النساء لكثرة حيلهن يتصرفن في عزائم الرجال يحوّلنهم من رأي إلى رأي ومن عزيمة إلى عزيمة، فأمر الله رسوله بالتعوّذ من شرهن، وهذا القول مناسب لما جاء في مواضع أخر من القرآن إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ
[التغابن: ١٤] إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف: ٢٨] والاستعاذة منهن الاستعاذة من إثم عملهن، أو من فتنتهن الناس بسحرهن، أو من إطعامهن الأطعمة الردية المورثة للجنون، أو الموت. والحاسد هو الذي تشتد محبته لإزالة نعمة الغير إليه حتى لو تمكن من ذلك بالحيل لفعل فلذلك أمر الله رسوله ﷺ بالتعوذ منه. وقد دخل في هذه السورة كل شر يتوفى ويتحرّز منه دينا ودنيا فلذلك لما نزلت فرح رسول الله ﷺ بها لكونها مع أختها جامعة في التعوذ من كل شيء بل قوله مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ عام والبواقي تخصيص بعد تعميم تنبيها على أنها أعظم الشرور، وأهم شيء يستعاذ منه. وعرفت النفاثات لأن كل نفاثة شريرة. ونكر غاسِقٍ وحاسِدٍ لأنه ليس كل غاسق بشر بل الليل للغاسقين شر وليس كل حسد مذموما بل منه ما هو خير كما
قال ﷺ «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فقام به آناء الليل وآناء النهار ورجل أعطاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» «١»
وفائدة الظرف هو قوله إِذا حَسَدَ أنه لا يستعاذ من الحاسد من جهات أخرى ولكن من هذه الجهة، ولو جعل الحاسد بمعنى الغابط أو بمعنى أعم وقوله حَسَدَ بالمعنى المذموم كان له وجه.