تفسير سورة السجدة

الدر المصون
تفسير سورة سورة السجدة من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

بسم الله الرحمن
قوله: ﴿تَنزِيلُ﴾ : فيه أوجهٌ، أحدها: أنه خبرُ «ألم» لأنَّ «ألم» يُرادُ به السورةُ وبعضُ القرآنِ. وتنزيلُ بمعنى مُنزِّل. والجملةُ مِنْ قوله: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ حالٌ من «الكتاب». والعاملُ فيها «تنزيلُ» لأنه مصدرٌ. و «مِنْ رَبِّ» متعلِّقٌ به أيضاً. ويجوزُ أن يكون حالاً من الضمير في «فيه» لوقوعِه خبراً. والعاملُ فيه الظرفُ أو الاستقرارُ.
الثاني: أَنْ يكونَ «تَنْزِل» مبتدأً، ولا «ريبَ فيه» خبرُه. و ﴿مِن رَّبِّ العالمين﴾ حالٌ من الضمير في «فيه». ولا يجوزُ حينئذٍ أَنْ يتعلَّقَ ب تنزيل؛ لأنَّ المصدرَ قد أُخْبِر عنه فلا يَعْمَلُ. ومَنْ يَتَّسِعُ في الجارِّ لا يبالي بذلك.
الثالث: أَنْ يكونَ «تنزيلُ» مبتدأ أيضاً. و «مِنْ رَبِّ» خبرُه و «لا/ ريبَ» حالٌ أو معترضٌ. الرابع: أن يكون «لا ريب» و ﴿مِن رَّبِّ العالمين﴾ خبرين ل «تنزيلُ». الخامس: أن يكون خبرَ مبتدأ مضمرٍ، وكذلك «لا ريبَ»، وكذلك «مِنْ ربّ»، فتكونُ كلّ جملةٍ مستقلةً برأسِها. ويجوزُ أَنْ يكونا حالَيْن من «
77
تنزيلُ»، وأن يكونَ «مِنْ رب» هو الحالَ، و «لا ريبَ» معترضٌ. وأولُ البقرةِ مُرْشِدٌ لهذا، وإنما أَعَدْتُه تَطْرِيَةً.
وجَوَّز ابنُ عطية أَنْ يكونَ ﴿مِن رَّبِّ العالمين﴾ متعلِّقاً ب «تنزيل» قال: «على التقديم والتأخير». ورَدَّه الشيخ: بأنَّا إذا قُلنا: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ اعتراضٌ لم يكنْ تقديماً وتأخيراً، بل لو تأخَّر لم يكنْ اعتراضاً. وجَوَّز أيضاً أَنْ يكونَ متعلِّقاً ب «لا ريبَ» أي: لا ريبَ فيه مِنْ جِهةِ ربِّ العالمين، وإنْ وَقَعَ شَكٌّ للكفرةِ فذلك لا يُراعَى.
78
قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ﴾ : هي المنقطعةُ، والإِضرابُ انتقالٌ لا إبطالٌ.
قوله: ﴿بَلْ هُوَ الحق﴾ إضرابٌ ثانٍ. ولو قيل بأنَّه إضرابُ إبطالٍ لنفسِ «افتراه» وحدَه لكان صواباً، وعلى هذا يُقال: كلُّ ما في القرآنِ إضرابٌ فهو انتقالٌ إلاَّ هذا، فإنه يجوزُ أَنْ يكونَ إبطالاً؛ لأنه إبطالٌ لقولِهم أي: ليس هو كما قالوا مفترى بل هو الحقُّ. وفي كلامِ الزمخشريِّ ما يُرْشِدُ إلى هذا فإنه قال: «والضميرُ في» فيه «راجعٌ إلى مضمونِ الجملة. كأنه قيل: لا ريبَ في ذلك، أي: في كونِه مِنْ رب العالمين. ويَشْهَدُ لِوجاهَتِه قولُه: ﴿أَمْ يَقُولُونَ: افتراه﴾ ؛ لأنَّ قولهم» هذا مفترى «إنكارٌ لأَنْ يكونَ مِنْ ربِّ العالمين، وكذلك قوله: {بَلْ
78
هُوَ الحق مِن رَّبِّكَ} وما فيه تقريرٌ أنه من عندِ الله. وهذا أسلوبٌ صحيحٌ مُحْكَمٌ».
قوله: «مِنْ ربِّك» حالٌ من «الحقّ» والعاملُ فيه محذوفٌ على القاعدة، وهو العاملُ في «لِتُنْذِرَ» أيضاً، ويجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ في «لتنذر» غيرَه أي: أنزله لِتنذِرَ.
قوله: ﴿قَوْماً مَّآ أَتَاهُم﴾ الظاهرُ أنَّ المفعولَ الثاني للإِنذار محذوفٌ. و «قوماً» هو الأولُ؛ إذ التقديرُ: لتنذِرَ قوماً العقابَ، و «ما أتاهم» جملةٌ منفيَّةٌ في محلِّ نصبٍ صفةً ل «قوماً» يريد: الذين في الفترةِ بين عيسى ومحمدٍ عليهما السلام. وجعله الزمخشري كقوله: ﴿لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ﴾ [يس: ٦] فعلى هذا يكونُ «مِنْ نذير» هو فاعلَ «أتاهم» و «مِنْ» مزيدةٌ فيه. و «مِنْ قبلِك» صفةٌ لنذير. ويجوزُ أَنْ تتعلَّقَ «مِنْ قبلك» ب «أَتاهم».
وجَوَّزَ الشيخُ أَنْ تكونَ «ما» موصولةً في الموضعين، والتقدير: لتنذِرَ قوماً العقابَ الذي أتاهم مِنْ نذيرٍ مِنْ قبلك. و «مِنْ نذير» متعلقٌ ب «أَتاهم» أي: أتاهم على لسانِ نذيرٍ مِنْ قبلِك، وكذلك ﴿لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ﴾ [يس: ٦] أي: العقابَ الذي أُنْذِرَه آباؤهم. ف «ما» مفعولةٌ في الموضعين، و «لِتُنْذرَ» يتعدَّى إلى اثنين. قال تعالى: ﴿فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً﴾ [فصلت: ١٣]. وهذا القولُ جارٍ على ظواهر القرآن. قال تعالى: ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: ٢٤] {أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن
79
بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة: ١٩]. قلت: وهذا الذي قاله ظاهرٌ.
ويظهر أنَّ في الآية الأخرى وجهاً آخرَ: وهو أَنْ تكونَ «ما» مصدريةً تقديرُه: لتنذِرَ قوماً إنذاراً مثلَ إنذارِ آبائِهم؛ لأنَّ الرسلَ كلَّهم متفقون على كلمة الحق.
80
قوله: ﴿ثُمَّ يَعْرُجُ﴾ : العامَّةُ على بنائِه للفاعل. وابنُ أبي عبلة على بنائِه للمفعول. والأصلُ: يُعْرَجُ به، ثم حُذِفَ الجارُّ فارتفع الضميرُ واستتر. وهو شاذٌّ يَصْلُحُ لتوجيهِ مثلِها.
قوله: «مِمَّا تَعُدُّون» العامَّةُ على الخطاب. والحسن والسلميُّ وابنُ وثَّاب والأعمش بالغَيْبة. وهذا الجارُّ صفةٌ ل «أَلْف» أو ل «سَنة».
قوله: ﴿ذلك عَالِمُ﴾ : العامَّةُ على رفع «عالمُ» و «العزيز» و «الرحيم» على أَنْ يكونَ «ذلك» مبتدأً، و «عالمُ» خبرَه. و «العزيز الرحيم» خبران أو نعتان، أو العزيز الرحيم مبتدأٌ وصفتُه، و «الذي أَحْسَنَ» خبرُه، أو «العزيزُ الرحيم» خبرُ مبتدأ مضمرٍ. وقرأ زيد بن علي بجرِّ الثلاثة. وتخريجُها على إشكالها: أن يكونَ «ذلك» إشارةً إلى الأمر المدبَّر، ويكونَ فاعلاً ل «يَعْرُجُ»، والأوصافُ الثلاثة بدلٌ من الضمير في «إليه». كأنه قيل: ثم يعرُج الأمرُ المدبَّرُ إليه عالمِ الغيب أي: إلى عالم الغيب.
وأبو زيد برفع «عالمُ» وخفض «العزيزِ الرحيمِ» على أن يكونَ «ذلك
80
عالمُ» مبتدأً وخبراً، والعزيزِ الرحيمِ بدلان من الهاء في «إليه» أيضاً. وتكون الجملةُ بينهما اعتراضاً.
81
قوله: ﴿الذي أَحْسَنَ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ تابعاً لِما قبله في قراءتَيْ الرفع والخفض، وأن يكونَ خبراً آخرَ، وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، وأن يكونَ منصوباً على المدح.
قوله: «خَلَقَه» قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بسكونِ اللام. والباقون بفتحها. فأمَّا الأُولى ففيها أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ «خَلْقَه» بدلاً مِنْ «كلَّ شيء» بدلَ اشتمالٍ مِنْ «كلَّ شيءٍ»، والضميرُ عائدٌ على كل شيء. وهذا هو المشهورُ المتداوَلُ. الثاني: أنه بدلُ كلٍ مِنْ كل، والضميرُ على هذا عائدٌ على الباري تعالى. ومعنى «أحسن» :/حَسَّن؛ لأنه ما مِنْ شيءٍ خَلَقَه إلاَّ وهو مُرَتَّبٌ على ما تَقْتَضيه الحكمةُ، فالمخلوقاتُ كلُّها حسنةٌ. الثالث: أن يكونَ «كلَّ شيءٍ» مفعولاً أول، و «خَلْقَه» مفعولاً ثانياً على أَنْ يُضَمَّن «أحسَنَ» معنى أَعْطى وأَلْهَمَ. قال مجاهد: «أعطى كلَّ جنسٍ شكله». والمعنى: خَلَقَ كلَّ شيءٍ على شكلِه الذي خصَّه به. الرابع: أن يكون «كلَّ شيء» مفعولاً ثانياً قُدِّم، و «خَلْقَه» مفعولاً أول أُخِّر، على أَنْ يُضَمَّنَ «أَحْسَنَ» معنى أَلْهَمَ وعَرَّف. قال الفراء: «ألهم كلَّ شيءٍ خَلْقَه فيما يحتاجون إليه فيكونُ أَعْلَمهم ذلك». قلت: وأبو البقاء ضَمَّن أحسنَ معنى عَرَّف. وأَعْرَبَ على نحوِ ما تقدَّم، إلاَّ أنه لا بُدَّ أن يُجْعَلَ الضميرُ لله تعالى، ويُجعلَ الخَلْقُ بمعنى المَخْلوق أي:
81
عَرَّف مخلوقاتِه كلَّ شيءٍ يحتاجون إليه، فيَؤول المعنى إلى معنى قولِه: ﴿أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى﴾ [طه: ٥٠].
الخامس: أن تعودَ الهاء [على الله تعالى] وأَنْ يكون «خَلْقَه» منصوباً على المصدرِ المؤكِّدِ لمضمون الجملةِ كقولِه: ﴿صُنْعَ الله﴾ [النمل: ٨٨]، وهو مذهبُ سيبويه أي: خَلَقَه خَلْقاً. ورُجِّحَ على بدلِ الاشتمال: بأنَّ فيه إضافةَ المصدرِ إلى فاعِله، وهو أكثرُ مِنْ إضافتِه إلى المفعول، وبأنه أبلغُ في الامتنانِ لأنه إذا قال: ﴿أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ كان أبلغَ مِنْ «أَحْسَنَ خَلْقَ كلِّ شيء» ؛ لأنه قد يَحْسُنُ الخلقُ - وهو المحاولةُ - ولا يكون الشيء في نفسِه حَسَناً. وإذا قال: أحسنَ كلَّ شيْءٍ اقتضى أنَّ كلَّ شيءٍ خَلَقَه حَسَنٌ، بمعنى أنه وَضَعَ كلَّ شيءٍ في موضعِه.
وأمَّا القراءةُ الثانية ف «خَلَقَ» فيها فعلٌ ماضٍ، والجملةُ صفةٌ للمضافِ أو المضافِ إليه، فتكونُ منصوبةَ المحلِّ أو مجرورتَه.
قوله: «وَبَدَأ» العامَّةُ على الهمزِ. وقرأ الزهريُّ «بدا» بألفٍ خالصةٍ، وهو خارجٌ عن قياسِ تخفيفِها، إذ قياسُه بينَ بينَ. على أن الأخفش حكى «
82
قَرَيْتُ» وجوَّز الشيخ أن يكونَ مِنْ لغةِ الأنصار. يقولون في بدأ: «بَدِي» يكسِرون الدالَ وبعدها ياءٌ، كقولِ عبدِ الله بن رواحة الأنصاري:
٣٦٦٩ - بسمِ الإِلهِ وبه بَدِيْنا ولو عَبَدْنا غيرَه شَقِيْنا
قال: «وطيِّئٌ تقول في بَقِي: بَقَا». قال: «فاحتمل أَنْ تكونَ قراءةُ الزهري من هذه اللغةِ، أصلُه بَدِي، ثم صار بدا». قلت: فتكون القراءةُ مركبةً مِنْ لغتَيْن.
83
قوله: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ﴾ : هذا التفاتٌ مِنْ ضميرِ غائبٍ مفردٍ في قوله: «نَسْلَه» إلى آخره، إلى خطاب جماعة.
قوله: ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا﴾ : تقدَّم اختلافُ القراء في الاستفهامين في سورة الرعد. والعاملُ في «إذا» محذوفٌ تقديرُه: نُبْعَثُ أو نُخْرَجُ، لدلالةِ «خَلْقٍ جديد» عليه. ولا يَعْمَلُ فيه «خَلْق جديد» لأنَّ ما بعد «إنَّ» والاستفهامَ لا يعملُ فيما قبلهما. وجوابُ «إذا» محذوفٌ إذا جعلتَها شرطيةً.
وقرأ العامَّةُ «ضَلَلْنا» بضادٍ معجمةٍ ولامٍ مفتوحةٍ بمعنى: ذَهَبْنا وضِعْنا، مِنْ قولِهم: ضَلَّ اللبنُ في الماء. وقيل: غُيِّبْنا. قال النابغة:
83
والمضارعُ مِنْ هذا: يَضِلُّ بكسر العين وهو كثيرٌ. وقرأ يحيى ابن يعمر وابن محيصن وأبو رجاء بكسرِ اللامِ، وهي لغةُ العالية. والمضارعُ من هذا يَضَلُّ بالفتح. وقرأ عليٌّ وأبو حيوة «ضُلِّلْنا» بضم الضاد وكسر اللام المشددة مِنْ ضَلَّلَه بالتشديد.
وقرأ عليٌّ أيضاً وابن عباس والحسن والأعمش وأبان بن سعيد «صَلَلْنا» بصادٍ مهملةٍ ولامٍ مفتوحة. وعن الحسن أيضاً «صَلِلْنا» بكسرِ الصادِ. وهما لغتان. يقال: صَلَّ اللحمُ يَصِلُّ، ويَصَلُّ بفتح الصادِ وكَسرِها لمجيءِ الماضي مفتوحَ العين ومكسورَها. ومعنى صَلَّ اللحمُ: أنتنَ وتَغيَّرتْ رائحتُه. ويُقال أيضاً: أَصَلَّ بالألف قال:
٣٦٧٠ - فآبَ مُضِلُّوه بعينٍ جَلِيَّة وغُوْدِر بالجَوْلانِ حَزْمٌ ونائِلُ
٣٦٧١ - تُلَجْلِجُ مُضْغَةً فيها أَنِيْضٌ أَصَلَّتْ، فَهْيَ تحت الكَشْحِ داءُ
وقال النحاس: «لا نعرفُ في اللغة» صَلِلْنا «ولكن يُقال: صَلَّ اللحمُ، وأصلَّ، وخَمَّ وأَخَمَّ» وقد عَرَفها غيرُ أبي جعفر.
84
قوله: ﴿تُرْجَعُونَ﴾ : العامَّةُ على بنائِه للمفعول. وزيد بن علي على بنائِه للفاعل.
قوله: ﴿وَلَوْ ترى﴾ : في «لو» هذه وجهان، أحدهما: أنها لِما كان سيقع لوقوع غيره. وعَبَّر عنها الزمخشريُّ بامتناعٍ لامتناعٍ. وناقشه الشيخ في ذلك. وقد تقدَّم في أول البقرة تحقيقُه. وعلى هذا جوابُها محذوفٌ أي: لَرَأَيْتَ أمراً فظيعاً. الثاني: أنَّها للتمني. قال الزمخشري: كأنه قيل: وَلَيْتَكَ ترى. وفيها إذا كانت للتمني خلافٌ: هل تقتضي جواباً أم لا؟ وظاهرُ تقديرِ الزمخشري هنا أنه لا جوابَ لها. قال الشيخ: «والصحيحُ/ أنَّ لها جواباً». وأنشدَ قولَ الشاعر:
٣٦٧٢ - فلو نُبِشَ المقابرُ عن كُلَيْبٍ فَيُخبِرَ بالذَّنائبِ أيُّ زِيْرِ
بيومِ الشَّعْثَمَيْنِ لَقَرَّ عيناً وكيف لِقاءُ مَنْ تحتَ القُبورِ
قال الزمخشري: «و» لو «تجيءُ في معنى التمني كقولك: لو تأتيني فتحدثَني كما تقول: ليتك تأتيني فتحدثني». قال ابن مالك: «إن أراد به الحذفَ أي: وَدِدْتُ لو تأتيني فتحدثَني فصحيحٌ، وإن أراد أنها موضوعةٌ له فليس بصحيح؛ إذ لو كانت موضوعةً له لم يُجْمَعْ بينها وبينه كما لم يُجْمَعْ بين»
85
ليت «وأتمنى، ولا» لعلَّ «وأترجَّى، ولا» إلاَّ «وأَسْتَثْني. ويجوز أن يُجْمَعَ بين لو وأتمنى تقول: تمنَّيْتُ لو فعلتُ كذا». وهل المخاطبُ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أو غيرُه؟ خلاف. و «إذ» على بابها من المضيِّ لأنَّ «لو» تَصْرِفُ المضارِعَ للمضيِّ. وإنما جيءَ هنا ماضياً لتحقُّقِ وقوعِه نحو: ﴿أتى أَمْرُ الله﴾ [النحل: ١] وجعله أبو البقاء ممَّا وَقَع فيه «إذ» موقعَ «إذا» ولا حاجةَ إليه.
قوله: «ناكِسُو» العامَّةُ على أنه اسمُ فاعلٍ مضافٌ لمفعوله تخفيفاً. وزيدُ بن علي «نَكَسُوا» فعلاً ماضياً، «رؤوسَهم»، مفعولٌ به.
قوله: «ربَّنا» على إضمارِ القول وهو حالٌ. أي قائلين ذلك. وقدَّره الزمخشريُّ «يَسْتغيثون بقولهم» وإضمارُ القول أكثرُ.
قوله: «أَبْصَرْنا وسَمِعْنا» يجوزُ أَنْ يكونَ المفعولُ مقدراً أي: أَبْصَرْنا ما كُنَّا نُكَذِّبُ، وسَمِعْنا ما كنا نُنْكِرُ. ويجوزُ أَنْ لا يُقَدَّرَ أي: صِرْنا بُصَراءَ سميعين.
قوله: «صالحاً» يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً به، وأَنْ يكونَ نعتَ مصدرٍ.
86
قوله: ﴿لِقَآءَ يَوْمِكُمْ﴾ : يجوزُ في هذه الآيةِ أوجهٌ، أحدها: أنها مِن التنازعِ؛ لأنَّ «ذُوقوا» يطلبُ «لقاءَ يومِكم» و «نَسِيْتُمْ» يطلبه أيضاً. أي: ذوقوا عذابَ لقاءِ يومِكم هذا بما نَسِيْتُمْ عذابَ لقاءِ يَوْمِكم هذا، ويكونُ من إعمالِ الثاني عند البصريين، ومن إعمالِ الأول عند الكوفيين، والأولُ أصَحُّ للحَذْفِ من الأول؛ إذ لو أعمل الأولَ لأَضْمَرَ في الثاني. الثاني: أن مفعولَ «ذُوْقوا» محذوفٌ أي: ذُوْقوا العذابَ بسببِ نسيانِكم لقاءَ يومكم
86
و «هذا» على هذين الإِعرابين صفةٌ ل «يومِكم». الثالث: أن يكونَ مفعولُ «ذوقوا» «هذا» والإِشارةُ به إلى العذاب، والباءُ سببيةٌ أيضاً أي: فذوقوا هذا العذابَ بسببِ نِسيانِكم لقاءَ يومكم. وهذا يَنْبُو عنه الظاهرُ.
87
قوله: ﴿تتجافى﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأن يكونَ حالاً، وكذلك «يَدْعُون» وإذا جَعَلَ «يَدْعُون» حالاً احْتَمَل أن يكون حَالاً ثانياً، وأن يكونَ حالاً مِن الضمير في «جُنوبُهم» لأنَّ المضافَ جزءٌ. والتجافي: الارتفاعُ، وعَبَّر به عن تَرْكِ النومِ قال ابنُ رَواحة:
٣٦٧٣ - نبيٌّ يُجافي جَنْبُه عن فراشِه إذا اسْتَثْقَلَتْ بالمشركين المضاجعُ
و «خَوْفاً وطَمَعاً» : إمَّا مفعولٌ مِنْ أجلِه، وإمَّا حالان، وإمَّا مصدران لعاملٍ مقدر.
قوله: «أُخْفِيَ» قرأه حمزةُ «أُخْفِيْ» فعلاً مضارعاً مُسْنداً لضمير المتكلم، فلذلك سَكَنَتْ ياؤُه لأنه مرفوعٌ. وتؤيدها قراءةُ ابنِ مسعود «ما نُخْفي» بنون العظمة. والباقون «أُخْفِيَ» ماضياً مبنياً للمفعول، فمِنْ ثَمَّ فُتحت ياؤُه. وقرأ محمد بن كعب «أَخْفى» ماضياً مبنياً للفاعل وهو اللَّهُ تعالى، ويؤيِّده قراءةُ الأعمش «ما أَخْفَيْتُ» مسنداً للمتكلم. وقرأ عبد الله وأبو الدرداء وأبو هريرةَ «مِّن قُرَّاتِ أَعْيُنٍ» جمعاً بالألف والتاء. و «ما» يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً أي: لا نَعْلَمُ الذي أخفاه اللَّهُ. وفي الحديث: «ما لا عينٌ رَأَتْ، ولا أُذُن سَمِعَت،
87
ولا خَطَر على قَلْب بشر» وأَنْ تكونَ استفهاميةً معلِّقَةً ل «تَعْلَمُ». فإن كانَتْ متعديةً لاثنين سَدَّت مَسَدَّهما، أو لواحدٍ سَدَّتْ مَسَدَّه. و «جزاءً» مفعول له، أو مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى الجملةِ قبلَه. وإذا كانَتْ استفهاميةً فعلى قراءةِ مَنْ قرأ ما بعدها فعلاً ماضياً تكون في محلِّ رفعٍ بالابتداء، والفعلُ بعدها الخبرُ. وعلى قراءةِ مَنْ قرأه مضارعاً تكونُ مفعولاً مقدَّماً، و «مِنْ قُرَّة» حالٌ مِنْ «ما».
88
قوله: ﴿لاَّ يَسْتَوُونَ﴾ : مستأنفٌ ورُوِي عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه كان يعتمد الوقفَ على قوله: «فاسقاً» ثم يَبْتَدئ «لا يَسْتوون».
وقرأ طلحة «جَنَّةُ المَأْوى» بالإِفراد. والعامَّةُ بالجمع. وأبو حيوة «نُزْلاً» بضمٍ وسكون، وتقدَّم تحقيقُه في آخر آل عمران.
قوله: ﴿الذي كُنتُمْ بِهِ﴾ : صفةٌ ل «عذابَ». وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ صفةً للنار قال: وذُكِّرَ على معنى الجحيم والحريق.
قوله: ﴿ثُمَّ أَعْرَضَ﴾ : هذه لبُعْدِ ما بين الرتبتَيْن معنىً. وشبَّهها الزمخشريُّ بقوله:
٣٦٧ - ٤-
88
وما يَكْشِفُ الغَمَّاءَ إلاَّ ابنُ حُرَّةٍ يَرَى غَمَراتِ الموتِ ثم يَزورُها
قال: «استبعدَ أن يزورَ غَمَراتِ الموتِ بعد أَنْ رآها وعَرفها واطَّلع على شدَّتِها».
89
قوله: ﴿فِي مِرْيَةٍ﴾ : قرأ الحسنُ بالضمِّ وهي لغةٌ.
قوله: «مِنْ لقائِه» في الهاءِ أقوالٌ، أحدُها: أنها عائدةٌ على موسى. والمصدرُ مضافٌ لمفعولِه أي: مِنْ لقائِك موسى ليلةَ الإِسراء. وامتحن المبردُ الزجَّاج في هذه المسألةِ فأجابه بما ذُكر. الثاني: أنَّ الضميرَ يعودُ على الكتاب. وحينئذٍ يجوزُ أن تكونَ الإِضافةُ للفاعلِ أي: من لقاءِ الكتاب لموسى، أو المفعولِ أي: مِنْ لقاءِ موسى الكتاب؛ لأنَّ اللقاءَ تَصِحُّ نسبتُه إلى كلٍ منهما. الثالث: أنه يعودُ على الكتاب، على حَذْفِ مضاف أي: من لقاءِ مثل كتابِ موسى. الرابع: أنه عائدٌ على مَلَكَ الموتِ لتقدُّم ذِكْره. الخامس: عَوْدُه على الرجوعِ المفهومِ مِن الرجوع في قوله: ﴿إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ أي: لا تَكُ في مِرْيةٍ مِنْ لقاء الرجوع. السادس: أنه يعودُ على ما يُفهَمُ مِنْ سياقِ الكلام ممَّا ابْتُلِي به موسى مِن البلاء والامتحان. قاله الحسن أي: لا بُدَّ أنَ تَلْقَى ما لَقِيَ موسى من قومه. وهذه أقوالٌ بعيدة ذكرْتُها للتنبيه على ضَعْفها. وأظهرُها: أنَّ الضميرَ: إمَّا لموسى، وإما للكتاب. أي: لا تَرْتَبْ في أنَّ موسى لقي الكتابَ وأُنْزِلَ عليه.
قوله: ﴿لَمَّا [صَبَرُواْ] ﴾ : قرأ الأخوان بكسر اللام وتخفيفِ الميم على أنها لامُ الجرِّ، و «ما» مصدريةٌ. والجارُّ متعلِّقٌ بالجَعْلِ أي: جَعَلْناهم كذلك لصَبْرهم ولإِيقانِهِم. والباقون بفتحِها وتشديدِ الميم. وهي «لمَّا» التي تَقْتضي جواباً. وتقدم فيها قولا سيبويه والفارسيِّ.
قوله: ﴿يُبْصِرُونَ﴾ : العامَّةُ على الغَيْبة، وابن مسعود على الخطاب التفاتاً.
وقرئ «الجُرْز» بسكون الراء. وقد تقدَّم أولُ الكهف.
قوله: ﴿يَوْمَ الفتح﴾ : منصوبٌ ب «لا يَنْفَعُ» و «لا» غيرُ مانعةٍ من ذلك. وقد تقدَّم فيها مذاهبُ.
قوله: ﴿مُّنتَظِرُونَ﴾ : العامَّة على كسرِ الظاءِ اسمَ فاعل. والمفعولُ من انتظِرْ، ومِنْ منتظرون، محذوفٌ أي: انتظرْ ما يَحُلُّ بهم، إنهم منتظرون على زَعْمِهم ما يَحُلُّ بك. وقرأ اليمانيُّ «مُنْتَظَرُون» اسمَ مفعول.
Icon