ﰡ
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣)الإعراب:
تَنْزِيلُ الْكِتابِ، لا رَيْبَ فِيهِ تَنْزِيلُ: مبتدأ، ولا رَيْبَ فِيهِ: خبره.
ويجوز جعل تَنْزِيلُ خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا تنزيل الكتاب، ويجوز أن يكون لا رَيْبَ فِيهِ في موضع نصب على الحال من الْكِتابِ ومِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ خبر المبتدأ، ومِنْ: متعلقة بالخبر المحذوف. وإذا جعلت لا رَيْبَ فِيهِ خبر المبتدأ كانت مِنْ متعلقة ب تَنْزِيلُ ومِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ خبر ثان.
المفردات اللغوية:
الم هذه الحروف الهجائية المقطعة سيقت كما بان سابقا للتحدي والتنبيه على إعجاز القرآن. تَنْزِيلُ الْكِتابِ أي إنزال القرآن، أو المنزّل. لا رَيْبَ فِيهِ لا شك فيه. أَمْ بل. يَقُولُونَ: افْتَراهُ أي يقول المشركون: اختلقه محمد صلّى الله عليه وسلّم من عند نفسه، منكرين كونه من رب العالمين. بَلْ هُوَ الْحَقُّ أي إن القرآن هو الحق الثابت المنزل من الله. ما أَتاهُمْ قَوْماً نافية. نَذِيرٍ منذر. لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بإنذارك.
قال في الكشاف وأوجز البيضاوي كلامه: إنه تعالى أشار أولا إلى إعجاز القرآن، ثم رتب عليه أن تنزيله من رب العالمين، وقرر ذلك بنفي الريب عنه، ثم أضرب عن ذلك إلى ما يقولون فيه على خلاف ذلك إنكارا له وتعجبا منه، فإن أَمْ منقطعة «١»، ثم أضرب عنه إلى إثبات أنه
التفسير والبيان:
الم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ، لا رَيْبَ فِيهِ، مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ افتتحت هذه السورة بهذه الأحرف كغالب السور المكية لبيان إعجاز القرآن وعظمته، والرد على المشركين المنكرين نزوله من عند الله، والمكذبين برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم. هذا القرآن العظيم لا شك في أنه منزل من عند الله على قلب محمد صلّى الله عليه وسلّم، فليس بسحر ولا شعر ولا سجع كاهن، وإنما هو كلام رب العوالم جميعهم من إنس وجنّ، وذلك رد على قولهم: وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان ٢٥/ ٥].
أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ، بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ، لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي بل إنهم يقولون زورا وبهتانا: اختلقه وافتعله محمد من عنده، فرد الله عليهم: بل هو الحق الثابت أي هو حق من الله ربه، أنزله إليك لتخوف وتنذر به قوما- أي قريشا ونحوهم- بأس الله وعذابه إن كفروا وعصوا، علما بأنه لم يأتهم نذير قبلك، فتبين لهم طريق الرشاد، ولعلهم يهتدون بإنذارك إياهم.
وهذا إثبات لرسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم وبرهان واضح على صدقه، وردّ لقول المشركين: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ، وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الفرقان ٢٥/ ٤].
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات أن القرآن الكريم كلام الله الذي لا شك فيه أنه من عند
وبعد أن أثبت الله تعالى أنه تنزيل من رب العالمين، وأن ذلك مما لا ريب فيه، أضرب عن ذلك (أي انتقل) إلى قوله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ثم كذبهم في دعوى الافتراء.
ثم بيّن الله تعالى مهمة القرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم وهي إنذار الكافرين عذاب الله، ومنهم قريش، قال قتادة في تفسير قوله تعالى: قَوْماً يعني قريشا، كانوا أمّة أمّية لم يأتهم ندير من قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم.
دلائل التوحيد والقدرة الإلهية
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ٤ الى ٩]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨)
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩)
الإعراب:
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ خلق: فعل ماض، وموضع الجملة إما النصف صفة لكل، وإما الجر
مِنْ وَلِيٍّ من زائدة لتأكيد النفي، أي ليس لكم ناصر مطلقا.
البلاغة:
الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بينهما طباق.
وَجَعَلَ لَكُمُ فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وكان الأصل أن يقال: وجعل له فعدل إلى ضمير الجماعة، مراعاة لخطاب الإنسان الذي صار حيّا بنفخ الروح فيه مع ذريته.
المفردات اللغوية:
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ من الأحد إلى الجمعة، والأيام: جمع يوم، وهو عند العرب جزء من اليوم، ويراد به لغة: الوقت. اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ العرش: أعظم المخلوقات، وهو لغة:
سرير الملك، والاستواء عليه: هو شيء يليق بالله عز وجل دون حصر ولا كيف ولا تحديد بجهة معينة. ما لَكُمْ أيها الكفار وغيركم. مِنْ دُونِهِ من غيره. مِنْ وَلِيٍّ أي ناصر. وَلا شَفِيعٍ يشفع بكم ليدفع العذاب عنكم. والمعنى: ليس لكم غير الله ناصر ولا شفيع، بل هو الذي يتولى مصالحكم، وينصركم في مواطن النصر. أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ بمواعظ الله فتؤمنوا؟! يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ أي يدبر أمر الدنيا مدة بقائها، وينظم شؤونها وأحوالها الواقعة فيها تدبيرا وتنظيما شاملا مبتدئا من السماء ومنتهيا إلى الأرض. ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ثم يصعد إليه ويرجع الأمر والتدبير ويثبت في علمه. فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ في الدنيا، أي يصعد إليه في برهة من الزمان متطاولة وهو يوم القيامة، وتقديره بألف سنة لشدة أهواله بالنسبة إلى الكافر، وأما المؤمن فيكون أخف عليه من صلاة مكتوبة، يصليها في الدنيا، كما جاء في الحديث الثابت. ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي ذلك الخالق المدبر يدبر الكون على وفق الحكمة، وعلى وفق علمه الشامل الذي يعلم ما غاب عن الخلق وما حضر، المنيع في ملكه، الغالب على أمره، الرحيم بأهل طاعته وتدبيره أمر العباد. قال البيضاوي: وفيه إيماء إلى أنه تعالى يراعي مصالح الناس تفضلا وإحسانا.
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ أي أتقن ما خلقه، موفرا له كل ما يحتاجه على وفق الحكمة والمصلحة. وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ يعني آدم نَسْلَهُ ذريته، سميت به لأنها تنسل منه أي تنفصل. مِنْ سُلالَةٍ نطفة. مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ممتهن ضعيف، وهو النطفة. ثُمَّ سَوَّاهُ قوّمه بتصوير أعضائه على ما ينبغي وأتّمه. وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ أضافه إلى نفسه تشريفا،
المناسبة:
بعد ما أثبت الله تعالى صحة الرسالة، ذكر ما يجب على الرسول من الدعوة إلى توحيد الله، وزوده بما يحتاجه من إقامة الأدلة والبراهين على ذلك، لإنجاح مهمته.
التفسير والبيان:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي إن الله تعالى هو خالق الأشياء، فخلق السموات والأرض وأبدعهما وفطرهما وما بينهما لا على مثال سابق، في مدة ستة أيام، أي في أجزاء ستة من الوقت، ليست هي الأيام المعروفة لأنه قبل خلقها لم يكن ليل ولا نهار. وقال الحسن البصري:
«من أيام الدنيا» ولو شاء لخلقها بلمح البصر، ولكن أراد أن يعلّم عباده التأني في الأمور.
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي استولى على ملكه يدبر أمره ويحكم شأنه، أو استوى استواء يليق بجلاله وعظمته على العرش الذي هو أعظم المخلوقات، من غير تشبيه ولا تمثيل، ولا يحده زمان ومكان، ولا تدركه الأبصار إدراك إحاطة وشمول، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير.
ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أي ليس لكم أيها الناس، ولا سيما الكفار من غير الله ناصر يدفع عنكم عذابه ويلي أموركم، ولا شافع يشفع لكم عنده إلا بإذنه، بل هو المالك المطلق لكل شيء، فيتولى ما فيه المصلحة، ويدبر الأمور، دون تدخل من أحد، ولا حاجة لأحد لأنه وحده القادر على كل شيء، والمهيمن على جميع الأشياء.
والمراد: حمل الناس على الإيمان بالله إلها وربا، يعبد وحده، ويطاع لذاته، فهو المستعان على كل أمر، وهو المانع من السوء، والجالب للخير والنفع، والمحقق للمصلحة، دون حاجة لأحد ولا لشيء، لذا قال مبينا الأمر بعد بيان الخلق: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف ٧/ ٥٤].
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ أي يدبر أمر الكون كله في العالم العلوي والسفلي، ثم يصعد إليه أثر الأمر وتنفيذه بواسطة الملائكة، وهذا تمثيل لعظمة الله وامتثال المخلوقات جميعا لمراده وتدبيره، كالحاكم المطلق الذي يصدر أوامره، ثم يتلقى من أعوانه ما يدل على تنفيذها.
فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ أي ترفع الأمور الحاصلة في الدنيا صغيرها وكبيرها إلى الله تعالى يوم القيامة ليفصل فيها ويحكم في شأنها، ويوم القيامة مقداره ألف سنة من أيام الدنيا التي نعدّها في هذه الحياة.
والمراد بالألف: الزمن المتطاول الذي هو في لغة العرب أقصى نهاية العدد.
وفي موضع آخر وصف الله تعالى مقدار هذا اليوم بخمسين ألف سنة: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج ٧٠/ ٤] قال القرطبي: المعنى أن الله تعالى جعله في صعوبته على الكفار كخمسين ألف سنة، قاله ابن عباس، والعرب تصف أيام المكروه بالطول وأيام السرور بالقصر.
وقيل: إن يوم القيامة فيه أيام فمنه ما مقداره ألف سنة، ومنه ما مقداره خمسون ألف سنة «١».
وبعد إثبات الوحدانية بالآفاق من خلق السموات والأرض، ذكر تعالى الدليل الدال عليها من الأنفس، فقال:
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ أي إن ذلك المدبر للأمور العليم الخبير القوي الرحيم هو الذي أحسن خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها، وبدأ خلق أبي البشر آدم من طين، والطين مكوّن من ماء وتراب.
وكذلك يعتمد الإنسان في تكوينه وبقاء حياته على الطين لأن المني ناشئ من الغذاء، والغذاء إما من الحيوان وإما من النبات، وكلاهما يعتمد على ما تخرجه الأرض الترابية.
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أي ثم جعل ذرية الإنسان يتناسلون من امتزاج نطفة الرجل بماء المرأة الذي فيه البويضة التي تتلقح بنطفة الرجل، فيتم التوالد والتناسل وبقاء النوع الإنساني من خلاصة من ماء ضعيف ممتهن عادة وهو المني.
ثُمَّ سَوَّاهُ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي ثم بعد خلقه من تراب جعله سويا مستقيما، فقوّم أعضاءه، وعدّلها، وأتمها، ونفخ فيه الروح التي هي من أمر الله والتي لا يعرف حقيقتها إنسان، فبدأ
وهكذا يلاحظ التدرج في الخلقة وأطوار الإنسان، فهو ينشأ أولا من مادة هي الطين اللازب، ثم تصبح هذه المادة ذات إفرازات حية، يتم بها تكوين الجنين، ثم تتحرك المادة بالروح التي هي من الحق تعالى، فيصبح خلقا جديدا سويا في أحسن تقويم، فتبارك الله أحسن الخالقين.
قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي أنكم أيها الناس لا تقابلون هذه النعم بالعرفان والوفاء، والشكر والامتنان، وإنما تشكرون ربكم قليلا على هذه النعم التي رزقكم الله تعالى، باستعمال تلك الحواس في طاعة الله واتباع مرضاته.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- هناك دلائل كثيرة على توحيد الله وكمال قدرته ليسمعوا القرآن ويتأملوه، منها إبداع السموات والأرض وإيجادها بعد العدم، وبعد أن لم تكن شيئا، في أجزاء من الزمن الله أعلم بمقدارها، وقد قرّبها لعقولنا وعبر عن طولها بقوله فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.
وقد اختلف المفسرون في تفسير هذه الأيام الستة، فقال ابن عباس: إن اليوم من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض مقداره ألف سنة من سنيّ الدنيا.
وقال الضحاك: في ستة آلاف سنة أي في مدة ستة أيام من أيام الآخرة.
٢- والاستواء على العرش استواء يليق بجلال الله وكماله دون تحديد ولا
٣- إن الله عز وجل ولي المؤمنين الذي يتولى مصالحهم وناصرهم وشفيعهم، فإذا تجاوز الناس رضاه لم يجدوا لأنفسهم وليا، أي ناصرا ينصرهم ولا شفيعا يشفع لهم، وعليه، ليس للكافرين من ولي يمنع عنهم العذاب، ولا شفيع يتوسط لهم فيرفع عنهم العقاب.
فهل من متذكر معتبر في قدرة الله ومخلوقاته؟! ٤- ويأتي الأمر بعد الخلق، للدلالة على عظمة الله، فإن نفاذ أمر الله في الكون دليل على عظمته، لذا كان الأمر والتدبير في الكون وإنزال القضاء والقدر، ونفاذ هذا التدبير من مظاهر عظمة الله تعالى، ومجموع هذه الأوامر النافذة كلها عائد إلى الله يوم القيامة، فقوله: ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ معناه يرجع ذلك الأمر والتدبير إليه بعد انقضاء الدنيا، فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ هو يوم القيامة، وقد يكون لشدة أهواله وبحسب أحوال بعض الناس في مدة مقدارها خمسون ألف سنة، كما قال تعالى: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج ٧٠/ ٤].
ورأى الزمخشري في الكشاف أن المراد من الأمر: المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ينزله مدبرا من السماء إلى الأرض، ثم يصعد إليه المأمور خالصا في مدة متطاولة لقلة عمال الله والخلّص من عباده وقلة الأعمال الصاعدة لأنه لا يوصف بالصعود إلا الخالص، ثم يثبت ذلك الأمر الصاعد ويصير إلى الله في كل وقت إلى أن تبلغ المدة آخرها في يوم القيامة الذي هو من أيام الله، ويوم الله كألف سنة، ثم يدبر الله أيضا الأمر ليوم آخر، وهلم جرا إلى أن تقوم الساعة «١»
٦- لله القدرة البالغة التي لا توصف عظمتها وحدودها، فقد خلق أصل الإنسان من طين، ثم جعل ذريته يتناسلون كذلك من ماء ممتهن ضعيف، ثم أكمله وأتمه وعدّله ونفخ فيه الروح، وخلق فيه حواس السمع والبصر والعقل أدوات المعرفة ووسائل إدراك الحق والهدى، وتلك نعم عظمي تستحق الشكر والوفاء بالمعروف، لكن أكثر الناس كافرون لا يشكرون، وقليل من عباده الشكور.
ويلاحظ أن الترتيب في السمع والأبصار والأفئدة على مقتضى الحكمة لأن الإنسان يسمع أولا الأمور فيفهمها، ثم يبصر الأمور، ثم يحصل له بعد السمع والبصر الإدراك التام والذهن الكامل، فيستخرج الأشياء مما سمع ورأى.
وسبب ذكر السمع مصدرا، والأبصار والأفئده اسما، فجمع الأبصار والأفئدة ولم يجمع السمع: هو لحكمة هي أن الإنسان لا يسمع في زمان واحد كلامين على وجه يضبطهما، ولا اختيار لمحل السمع وهو الاذن، ويدرك في زمان واحد صورتين فأكثر بالعين ويعيهما ويستبينهما في القلب، ولمحل البصر وهو العين شبه اختيار، فإنها تتحرك إلى جانب مرئي دون غيره، وكذلك الفؤاد محل الإدراك له نوع اختيار، فذكر في السمع المصدر الذي هو القوة، وفي الأبصار والأفئدة الاسم الذي هو محل القوة.
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ١٠ الى ١٤]
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤)
الإعراب:
أَإِذا ضَلَلْنا إِذا: ظرف متعلق بفعل مقدر، تقديره: أنبعث إذا ضللنا في الأرض، أي غبنا وبلينا.
إِذِ الْمُجْرِمُونَ إِذِ تتعلق ب تَرى والْمُجْرِمُونَ مبتدأ، وناكسو رؤوسهم:
خبره، ورَبَّنا أَبْصَرْنا تقديره: يقولون: ربنا أبصرنا، فحذف القول، كما هو المعتاد الكثير في كلام العرب.
البلاغة:
أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ، أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ استفهام إنكاري بقصد الاستهزاء.
رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فيه إضمار تقديره: يقولون: ربنا أبصرنا وسمعنا.
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ.. حذف جواب «لو» للتهويل. أي لرأيت أمرا مهولا.
نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ بينهما مشاكلة: وهي الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى، فإن الله تعالى لا ينسى، وإنما المراد نترككم في العذاب ترك الشيء المنسي.
المفردات اللغوية:
وَقالُوا أي منكرو البعث. ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ غبنا فيها وبلينا وهلكنا، بأن صرنا ترابا مختلطا بتراب الأرض لا نتميز منه. أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي أنبعث أو يجدد خلقنا، والقائل أبي بن خلف، وإسناده إلى جميعهم لرضاهم به. وهو استفهام إنكار غرضه الاستهزاء. بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ أي بل هم بالبعث جاحدون.
قُلْ لهم. يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ أي يقبض أرواحكم ملك الموت، حتى لا يبقى أحد منكم. ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ أي تعودون أحياء للحساب والجزاء، فيجازيكم ربكم بأعمالكم. الْمُجْرِمُونَ الكافرون. ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ خافضوها ومطأطئوها حياء وخزيا.
رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا أي يقولون: يا ربنا أبصرنا ما وعدتنا من البعث وسمعنا منك تصديق الرسل فيما كذبناهم فيه. فَارْجِعْنا إلى الدنيا لنعمل صالحا فيها. إِنَّا مُوقِنُونَ الآن، ولم يبق لنا شك بما شاهدنا، ولكن لا ينفعهم ذلك، ولا يرجعون. وجواب وَلَوْ تَرى.. محذوف تقديره: لرأيت أمرا فظيعا مهولا.
وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها أي ما تهتدي به إلى الإيمان والعمل الصالح بالتوفيق له والاختيار من النفس. وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي أي ثبت قضائي وسبق الْجِنَّةِ الجن.
فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي تقول لهم خزنة النار إذا دخلوها: ذوقوا العذاب بترككم الإيمان باليوم الآخر، فهذا سبب العذاب. إِنَّا نَسِيناكُمْ تركناكم في العذاب ترك المنسي.
وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ أي عذاب جهنم الدائم. بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الكفر وتكذيب الرسل. وقد كرر الأمر للتأكيد. وفي التعليل بأمرين: وهما الأفعال السيئة من التكذيب والمعاصي، وترك التفكر في أمر الآخرة دلالة على أن كلا منهما يقتضي ذلك.
المناسبة:
بعد بيان الوحدانية ودليلها في قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وبيان الرسالة وبرهانها في قوله سبحانه: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ أخبر الله تعالى عن البعث وطريق إثباته للرد على المشركين المنكرين له، وهذا على عادة القرآن كلما ذكر أصلين من أصول الاعتقاد الثلاثة ذكر الأصل الثالث، وهو هنا الحشر في قوله تعالى: وَقالُوا: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ.
التفسير والبيان:
وَقالُوا: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ: أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ أي يخبر الله تعالى عن المشركين الذين استبعدوا المعاد حيث قالوا: أءذا صارت أجسامنا ترابا في الأرض، أيمكن أن نعود خلقا جديدا بعد تلك الحال؟! وهذا الاستبعاد إنما هو بتقديرهم وقياسهم حيث قاسوا قدرة الله على قدراتهم، فهم يرون أن البعث بعيد بالنسبة إلى قدراتهم العاجزة، لا بالنسبة إلى قدرة الإله الخالق الذي بدأهم وخلقهم من العدم، والذي أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: كُنْ فَيَكُونُ ولهذا قال تعالى منكرا قياسهم وآراءهم:
بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ أي إن هؤلاء المشركين لم ينكروا قدرة الله على ما يشاء فحسب، بل تجاوزوا ذلك إلى إنكار البعث، فهم جاحدون لقاء ربهم يوم القيامة للحساب والجزاء.
فرد الله عليهم بقوله:
قُلْ: يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ أي قل للمشركين يا محمد: إن ملك الموت الموكّل بقبض الأرواح يقبض أرواحكم في الوقت المحدد لانتهاء الأجل، ثم في نهاية الدنيا بعد الموت ستعودون أحياء كما كنتم قبل الوفاة، وذلك يوم المعاد وبعد القيام من القبور، للحساب والجزاء، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
ثم أخبر الله تعالى عن حال المشركين حين معاينة البعث والحساب يوم القيامة فقال:
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً، إِنَّا مُوقِنُونَ أي ولو تشاهد أيها الرسول حين يقوم هؤلاء المشركون بين يدي ربهم خافضي رؤوسهم من الحياء منه والخزي والعار لرأيت عجبا وأمرا فظيعا، فتراهم يقولون: ربّنا نحن الآن نسمع قولك ونطيع أمرك، لقد أبصرنا الحشر وسمعنا تصديقك للرسل فيما كذبناهم فيه، فارجعنا إلى دار الدنيا نعمل ما يرضيك من صالح الاعتقاد والقول والعمل، فهم يلومون أنفسهم حين دخول النار، كما أخبر تعالى عنهم: وَقالُوا: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ [الملك ٦٧/ ١٠]. قال الزجاج في قوله تعالى: وَلَوْ تَرى: المخاطبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم مخاطبة لأمته.
وإنا الآن قد أيقنا بوحدانيتك، واستحقاقك العبادة دون غيرك، وتحققنا أن وعدك بالبعث حق ولقاءك حق، وأنك القادر على الإحياء والإماتة.
ولكن الله يعلم أنه لو أعادهم إلى الدنيا، لكانوا فيها كفارا كما كانوا، يكذبون بآيات الله، ويخالفون رسله، كما قال تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام ٦/ ٢٧- ٢٨].
وقال تعالى هنا:
وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها أي ولو أردنا أن نوفق كل نفس
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يونس ١٠/ ٩٩].
ولكن حكمتنا قضت ترك أمر الإيمان والعمل الصالح للاستعدادات والخيار، دون الإكراه والاضطرار، كما قال سبحانه:
وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أي ولكن ثبت قضائي، وسبق أنه لا بد من ملء جهنم من صنفي الجن والإنس الذين هم أهل لها بحسب استعدادهم وسوء اختيارهم، وفحش اعتقادهم وعملهم، فهم الظالمون أنفسهم، وقد علم الله مسبقا قبل خلقهم أن مآلهم إلى النار، فحقّ الوعيد، وحق الجزاء.
لذا استحقوا أيضا التوبيخ، فقال تعالى:
فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، إِنَّا نَسِيناكُمْ، وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي يقال لأهل النار على سبيل التقريع والتوبيخ: ذوقوا هذا العذاب بسبب تكذيبكم بيوم القيامة، واستبعادكم وقوعه، وتناسيكم له، وعملكم عمل الناسي له، لذا فإنا سنعاملكم معاملة الناسي لأنه تعالى لا ينسى شيئا، ولا يضل عنه شيء، وهذا ما يسمى بأسلوب المقابلة أو المشاكلة، مثل قوله:
وَقِيلَ: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا [الجاثية ٤٥/ ٣٤] وقوله:
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى ٤٢/ ٤٠].
ويقال لهم أيضا على سبيل التأكيد: وذوقوا عذاب النار الدائم الذي تخلدون فيه بسبب كفركم وتكذيبكم وسوء أعمالكم، كما قال تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً، جَزاءً وِفاقاً، إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً، وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً، فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً [النبأ ٧٨/ ٢٤- ٣٠].
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- أنكر المشركون البعث لأنهم قاسوا قدرة الله الخالق على قدرة العبد المخلوق العاجز، فقالوا: أءذا هلكنا وصرنا ترابا نخلق بعد ذلك خلقا جديدا؟
٢- الحقيقة أن المشركين لا يجحدون قدرة الله تعالى بالإعادة لأنهم يعترفون بقدرته، ولكنهم اعتقدوا ألا حساب عليهم، وأنهم لا يلقون الله تعالى.
٣- من مظاهر قدرة الله سبحانه أنه المميت الذي يتوفى الأنفس ويقبض الأرواح عند انتهاء آجالها، وأن ملك الموت واسمه عزرائيل ومعناه عبد الله يتصرف كل تصرفه بأمر الله تعالى وبخلقه واختراعه، فيخلق الله على يديه قبض الأرواح،
ذكر ابن عطية حديثا أن «البهائم كلها يتوفى الله أرواحها دون ملك الموت»
كأنه يعدم حياتها، وكذلك الأمر في بني آدم، فالله هو الفاعل حقيقة، والملك واسطة ووكيل، قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر ٣٩/ ٢٤] وقال سبحانه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ
[الملك ٦٧/ ٢] وقال عز وجل: يُحْيِي وَيُمِيتُ [آل عمران ٣/ ١٥٦] فملك الموت يقبض، والأعوان يعالجون، والله تعالى يزهق الروح، لكنه لما كان ملك الموت متولّي ذلك بالوساطة والمباشرة، أضيف التوفّي إليه، كما أضيف الخلق للملك.
روي أن ملك الموت لما وكله الله تعالى بقبض الأرواح قال: «ربّ جعلتني أذكر بسوء، ويشتمني بنو آدم، فقال الله تعالى له: إني أجعل للموت عللا وأسبابا من الأمراض والأسقام ينسبون الموت إليها، فلا يذكرك أحد إلا بخير».
٤- استدل بعض العلماء بقوله تعالى: وُكِّلَ بِكُمْ أي بقبض الأرواح على جواز الوكالة.
قال سفيان الثوري: فأكذبهم الله تعالى، فقال: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام ٦/ ٢٨].
وقال محمد بن كعب القرظيّ: لما قالوا: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا، فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً، إِنَّا مُوقِنُونَ ردّ عليهم بقوله: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها يقول: لو شئت لهديت الناس جميعا، فلم يختلف منهم أحد وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أي حق القول مني لأعذبنّ من عصاني بنار جهنم، وعلم الله تعالى أنه لو ردّهم لعادوا.
وهذه الهداية: معناها خلق المعرفة في القلب. وتأويل المعتزلة: ولو شئنا لأكرهناهم على الهداية بإظهار الآيات الهائلة، لكن لا يحسن منه فعله لأنه ينقض الغرض المجرى بالتكليف إليه، وهو الثواب الذي لا يستحق إلا بما يفعله المكلف باختياره.
وقالت الإمامية في تأويلها: إنه يجوز أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة ولم يعاقب أحدا، لكن حق القول منه أنه يملأ جهنم، فلا يجب على الله تعالى عندنا هداية الكل إليها قالوا: بل الواجب هداية المعصومين، فأما من له ذنب فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله. وفي جواز ذلك منع لقطعهم بأن المراد: هداها إلى الإيمان.
وللإمامية جواب آخر: هو أن هداية الله سبحانه بالإلجاء والإجبار
وتوسط أهل السنة فلم يقولوا بالإجبار كالمجبرة، ولا بالاختيار المطلق كالقدرية، وخير الأمور أوساطها، وقالوا: نحن نفرق بين ما اضطررنا إليه وبين ما اخترناه، كالتفرقة بين حركة الارتعاش غير الإرادية وحركة الاختيار، وسموا هذه المنزلة الوسطى كسبا، وأخذوا هذه التسمية من كتاب الله العزيز، وهو قوله سبحانه: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة ٢/ ٢٨٦].
٦- يقال للمجرمين يوم القيامة على سبيل التقريع والتوبيخ: ذوقوا العذاب بسبب تكذيبكم رسل الله، وإنكاركم البعث، وترككم العمل له كالناسين، والله يعاملكم معاملة الناسي والمنسيين لأن الجزاء من جنس العمل، وذوقوا العذاب المخلّد، وهو الدائم الذي لا انقطاع له في جهنم بسبب أعمالكم في الدنيا من المعاصي.
صفة المؤمنين في الدنيا وجزاؤهم عند ربهم في الآخرة
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ١٥ الى ١٧]
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧)
تَتَجافى جُنُوبُهُمْ.. جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير خَرُّوا. وكذلك جملة يَدْعُونَ رَبَّهُمْ منصوبة على الحال، وكذلك سُجَّداً حال، وكذلك موضع وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وكذلك موضع مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ كلها منصوبات على الحال من ضمير خَرُّوا وسَبَّحُوا.
خَوْفاً وَطَمَعاً إما منصوبان على المفعول لأجله أو منصوبان على المصدر.
ما أُخْفِيَ لَهُمْ ما: إما اسم موصول بمعنى الذي، وصلته أُخْفِيَ والعائد مقدر، أي لهم، وهو منصوب ب تَعْلَمُ. وإما استفهامية في موضع رفع مبتدأ، وأُخْفِيَ خبره. هذا على قراءة أُخْفِيَ فعل مضارع. وأما على قراءة أُخْفِيَ المبني للمجهول، يكون ما منصوبا ب أُخْفِيَ أي فلا تعلم نفس أي شيء أخفي لهم، ولا يجوز أن يعمل فيه تَعْلَمُ لأن الاستفهام له صدر الكلام، فلا ينصب بما قبله وإنما ينصب بما بعده.
البلاغة:
خَوْفاً وَطَمَعاً بينهما طباق.
تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ كناية عن كثرة العبادة ليلا.
المفردات اللغوية:
بِآياتِنَا القرآن ذُكِّرُوا وعظوا خَرُّوا سُجَّداً سقطوا ساجدين، خوفا من عذاب الله وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ نزّهوه عما لا يليق به، كالعجز عن البعث، حامدين له، خوفا من عذاب الله، وشكرا على ما وفقهم للإسلام وآتاهم الهدى، فقالوا: سبحان الله وبحمده وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن الإيمان والطاعة، كما يفعل من يصرّ مستكبرا.
تَتَجافى ترتفع وتتنحى جُنُوبُهُمْ جمع جنب، وهو شق الإنسان عَنِ الْمَضاجِعِ الفرش ومواضع النوم، جمع مضجع، وهو مكان النوم أو الاضطجاع يَدْعُونَ رَبَّهُمْ داعين إياه خَوْفاً من سخطه وعقابه وَطَمَعاً في رحمته، فسرها النبي صلّى الله عليه وسلّم بقيام العبد من الليل يُنْفِقُونَ يتصدقون، أو ينفقون في وجوه الخير.
يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة: «يقول الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ذخرا، بله «١» ما أطلعكم عليه، اقرؤوا إن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ».
سبب النزول: نزول الآية (١٦) :
تَتَجافى جُنُوبُهُمْ: أخرج البزار عن بلال قال: كنا نجلس في المسجد، وناس من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلون بعد المغرب إلى العشاء، فنزلت هذه الآية:
تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ لكن في إسناده ضعيف. وذكره الواحدي النيسابوري عن مالك بن دينار قال: سألت أنس بن مالك عن هذه الآية فيمن نزلت، فقال: كان أناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلون من المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وهذا مروي عن قتادة وعكرمة.
وأخرج الترمذي وصححه عن أنس: أن هذه الآية نزلت في انتظاره الصلاة التي تدعى «العتمة» أي العشاء.
وعن معاذ بن جبل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ قال: هي قيام العبد أول الليل.
وقال الحسن البصري ومجاهد ومالك والأوزاعي: نزلت في المتهجدين الذين يقومون الليل إلى الصلاة.
ويدل على صحة هذا السبب
ما أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم، وابن جرير والحاكم وابن مردويه عن معاذ بن جبل قال: «كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في سفر «٢»، فأصبحت يوما قريبا منه، ونحن نسير، فقلت: يا نبي
(٢) في غزوة تبوك.
ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنّة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم قرأ: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ- حتى بلغ- جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.
ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ فقلت: بلى، يا رسول الله، فقال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ فقلت: بلى، يا نبي الله، فأخذ بلسانه، ثم قال: كفّ عليك هذا، فقلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمّك يا معاذ، وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم- أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم».
المناسبة:
بعد بيان حال الكافرين في موقف الحساب يوم القيامة من ذلة وخزي وخجل، وما يتعرضون له من عذاب شديد مخلّد، أبان الله تعالى حال أهل الإيمان في الدنيا من طاعة ربهم وتعظيمه وحمده والتقرب إليه بالنوافل، وما أعد لهم من نعيم وسرور، جزاء على أعمالهم.
التفسير والبيان:
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً، وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ أي إنما يصدّق بآيات القرآن والآيات الكونية وبالرسل المرسلين
هذه أوصاف المؤمنين: العبادة، والتقديس مع الحمد، والطاعة والانقياد، ثم ذكر الله تعالى لهم أوصافا أخرى: هي التهجد أو قيام الليل، والدعاء الخالص لله، والإنفاق في وجوه الخير: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي تترفع جوانبهم عن أماكن النوم والراحة، يبادرون إلى قيام الليل تهنأ نفوسهم بمناجاة ربهم، وتقرأ عينهم وترتاح ضمائرهم بالعبادة، ويدعون ربهم دعاء خالصا موقنين بالإجابة، خوفا من العقاب، وطمعا بالرحمة وجزيل الثواب، وينفقون بعض أموالهم في سبل الخير والبر ومرضاة الله، فيجمعون بين فعل القربات الشخصية والقربات الاجتماعية.
روى الإمام أحمد وأبو داود عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «عجب ربنا من رجلين: رجل ثار من وطائه ولحافه من بين حبّه وأهله إلى صلاته، رغبة فيما عندي، وشفقة مما عندي ورجل غزا في سبيل الله تعالى، فانهزموا، فعلم ما عليه من الفرار، وما له في الرجوع، فرجع حتى أهريق دمه، رغبة فيما عندي، وشفقة مما عندي، فيقول الله عز وجل للملائكة: انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي، ورهبة مما عندي حتى أهريق دمه».
ثم ذكر الله تعالى جزاء أولئك المؤمنين الموصوفين بما تقدم فقال:
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي فلا يعلم أحد على الإطلاق من الملائكة والرسل عظمة ما أخفى الله لهم في الجنات من النعيم المقيم واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد، جزاء عدلا مقابلا لصالح أعمالهم التي أخفوها فلم يراءوا بها الناس، فأخفى الله ثوابهم.
روى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»
قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ.
وروى الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: «إنه لمكتوب في التوراة: لقد أعدّ الله تعالى للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، ولا يعلم ملك مقرّب، ولا نبي مرسل، وإنه في القرآن:
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- من صفات المؤمنين أنهم يخرون سجدا لله تعالى على وجوههم، تعظيما
وهم أيضا ينقادون لأمر ربهم، فلا يستكبرون عن عبادته، كما استكبر أهل مكة وأمثالهم بعدهم عن السجود لله تعالى.
٢- ومن صفات المؤمنين أيضا: ملازمة قيام الليل، أي صلاة التهجد في الثلث الأخير من الليل، وقيل عن قتادة وعكرمة: التنفل ما بين المغرب والعشاء. ومع تجافي جنوبهم عن المضاجع هم أيضا في كل حال يدعون ربهم ليلهم ونهارهم، خوفا من العذاب، وطمعا في الثواب، ويتصدقون بفضول أموالهم وتلك هي النوافل بعد أداء الزكاة المفروضة.
وقد وردت أحاديث كثيرة ذكرت بعضها في فضل قيام الليل.
٣- إن جزاء أولئك المؤمنين مفتوح وعظيم جدا، لا يعلم حقيقته غير الله عز وجل، فلا يدري أحد ما لهم من النعيم الذي لم تعلمه نفس ولا بشر ولا ملك.
وهذه الكرامة إنما هي لأعلى أهل الجنة منزلا، كما
جاء مبيّنا في صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة يرفعه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: «سأل موسى عليه السلام ربّه فقال: يا ربّ، ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يأتي بعد ما يدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي ربّ، كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت ربّ، فيقول: لك ذلك، ومثله، ومثله معه، ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت ربّ، فيقال: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذّت عينك، فيقول: رضيت ربّ.
ومصداقه من كتاب الله قوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.
جزاء المؤمنين وجزاء الفاسقين
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ١٨ الى ٢٢]
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢)
البلاغة:
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى.. وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ بينهما ما يسمى بالمقابلة، وذلك بين الوصفين والجزاءين.
الْأَدْنى الْأَكْبَرِ بينهما طباق لأن الأكبر هو الأقصى.
المفردات اللغوية:
مُؤْمِناً مصدقا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره فاسِقاً كافرا خارجا من الإيمان والطاعة وأحكام الشرع، فهو أعم من الكفر، وقد يرادفه كما في آية: وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [النور ٢٤/ ٥٥] وأصل الفسق: الخروج،
جَنَّاتُ الْمَأْوى جنات المسكن الحقيقي، أما مساكن الدنيا فمرتحل عنها نُزُلًا المراد هنا: ثوابا وجزاء، وأصل النزل: ما يعد للضيف من الطعام والشراب والمبيت، ثم أطلق على كل عطاء بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بسبب أعمالهم أو على أعمالهم.
فَسَقُوا بالكفر وتكذيب الرسل أُعِيدُوا فِيها يراد به خلودهم فيها ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ.. إهانة لهم وزيادة في غيظهم الْعَذابِ الْأَدْنى أي الأقرب والأقل، وهو عذاب الدنيا الذي تعرضوا له بالجدب سبع سنين والقتل والأسر والأمراض دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ أي قبل عذاب الآخرة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لعل من بقي منهم يتوبون عن الكفر، روي أن الوليد بن عقبة فاخر عليا يوم بدر، فنزلت هذه الآيات.
بِآياتِ رَبِّهِ الآيات القرآنية والكونية ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها فلم يتفكر فيها. وثُمَّ لاستبعاد الإعراض عنها، مع فرط وضوحها وإرشادها إلى أسباب السعادة، بعد التذكير بها عقلا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ أي من المشركين منتقمون.
سبب النزول: نزول الآية (١٨) :
أخرج الواحدي وابن عساكر عن ابن عباس قال: قال الوليد بن عقبة بن أبي معيط لعلي بن أبي طالب: أنا أحدّ منك سنانا، وأبسط منك لسانا، وأملأ للكتيبة منك، فقال له علي: اسكت، فإنما أنت فاسق، فنزلت أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ
قال: يعني بالمؤمن عليا، وبالفاسق الوليد بن عقبة.
المناسبة:
بعد بيان حال المجرم والمؤمن، سأل العقلاء: هل يستويان؟ وبعد الجواب
التفسير والبيان:
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً؟ لا يَسْتَوُونَ أي هل يستوي المؤمن بالله ورسوله، المطيع لأمر ونهيه، والكافر الخارج عن طاعة ربه، المكذب رسل الله إليه؟ والجواب: لا يستوي المؤمنون والفاسقون عند الله يوم القيامة.
ونظير الآية قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ
[الجاثية ٤٥/ ٢١] وقوله سبحانه: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص ٣٨/ ٢٨] وقوله عز وجل: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الحشر ٥٩/ ٢٠].
ثم ذكر الله تعالى جزاء الفريقين في الآخرة فقال:
١- أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى، نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي إن الذين صدقت قلوبهم بآيات الله ورسله، وعملوا صالح الأعمال، فلهم جنات المأوى التي فيها المساكن والدور والغرف العالية، ثوابا وجزاء وتكريما لهم على أعمالهم الحسنة وأفعالهم الطيبة التي فعلوها في الدنيا.
وقوله في حق المؤمنين فَلَهُمْ بلام التمليك زيادة إكرام.
٢- وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ أي وأما الذين فسقوا أي كفروا بالله، وخرجوا عن الطاعة، وعملوا السيئات، فمأواهم النار التي يأوون إليها ويستقرون فيها، ثم ذكر تعالى سوء حالهم فيها، فقال:
قال الفضيل بن عياض: والله إن الأيدي لموثقة، وإن الأرجل لمقيدة، وإن اللهب ليرفعهم، والملائكة تقمعهم.
ويقال لهم تقريعا وتوبيخا وتهديدا:
وَقِيلَ لَهُمْ: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي تذوقوا وتحملوا عذاب النار الذي كذبتم به في الدنيا فإن الله أعدّه للمشركين به.
وهناك عذاب آخر سابق له:
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي ولنذيقن الكفار والعصاة شيئا من العذاب الأقرب والأقل وهو عذاب الدنيا من المصائب والآفات كالجوع والقتل والسبي، قبل مجيء وحدوث العذاب الأشد الأعظم وهو عذاب القيامة، ليرجعوا عن ضلالهم إلى الهدى والرشد، ويثوبوا عن الكفر، ويؤمنوا بربهم، ويصدقوا برسولهم.
والترجي في قوله لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ محال على الله تعالى، فيراد به تعليل ذلك الفعل بأمر الرجوع، كما يقال: فلان اتجر ليربح، أو يكون معناه:
لنذيقنهم إذاقة الراجين، أو إذاقة يقول القائل: لعلهم يرجعون بسببه.
ثم ذكر الله تعالى سببا عاما للعقاب وهو ظلم الناس، فقال:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها، إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ أي لا أحد أظلم ممن ذكّره الله بآياته القرآنية ومعجزات رسله، وبيّنها
روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ثلاث من فعلهن فقد أجرم: من عقد لواء في غير حق، أو عقّ والديه، أو مشى مع ظالم ينصره، فقد أجرم، يقول الله تعالى: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ» «١».
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- ليس في حكم الله وعدله ولا في ميزان العقل السليم أن يسوّى بين المؤمن والفاسق في الثواب والجزاء في يوم القيامة.
٢- يترتب على نفي المساواة بين المؤمن والكافر منع القصاص- في رأي الجمهور غير الحنفية- بينهما إذ من شرط وجوب القصاص المساواة بين القاتل والمقتول. ورأى أبو حنيفة قتل المسلم بالذمي، وقال: أراد نفي المساواة هاهنا في الآخرة في الثواب، وفي الدنيا في العدالة.
وحمله الجمهور على عمومه، إذ لا دليل يخصه.
٣- مقر المؤمنين في الآخرة ثوابا وجزاء: جنات المأوى، أي يأوون إلى الجنات فأضاف الجنات إلى المأوى لأن ذلك الموضع يتضمن جنات.
ومقام الفاسقين الخارجين عن الإيمان إلى الكفر النار، وهم فيها خالدون،
وتقول خزنة جهنم لهم، أو يقول الله لهم: ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون، ذوقا حسيا ومعنويا.
ويلاحظ من قوله تعالى: آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أن العمل الصالح له مع الإيمان أثر، أما الكفر إذا جاء فلا التفات بعده إلى الأعمال، لذا قال تعالى:
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا ولم يقل: وعملوا السيئات لأن المراد من فَسَقُوا كفروا.
٤- للكافرين أيضا عذاب آخر في الدنيا وهو مصائب الدنيا وأسقامها، مما يبتلى به العبيد حتى يتوبوا. وينتظرهم العذاب الأكبر وهو عذاب يوم القيامة.
وذلك العذاب إنذار، لعله يرجع من بقي منهم إلى الرشاد والهداية فإن عذاب الدنيا لا يقارن بعذاب الآخرة لأن عذاب الدنيا لا يكون شديدا ولا مديدا لأنه يعقبه الموت، أما عذاب الآخرة فهو شديد ومديد.
٥- لا أحد أظلم لنفسه ممن ذكرت له آيات ربه أي حججه وعلاماته، ثم أعرض عنها، وترك قبولها، فإن الله منتقم أشد الانتقام من المشركين لتكذيبهم وإعراضهم.
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥)
الإعراب:
مِنْ لِقائِهِ الهاء عائدة إلى الكتاب، فيكون المصدر مضافا إلى المفعول، والفاعل مقدر، وتقديره: من لقاء موسى الكتاب، ويصح أن تكون عائدة إلى موسى، فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل، والمفعول به محذوف وهو الْكِتابَ وتقديره: فلا تكن في مرية من لقاء موسى الكتاب، وهو التوراة، ويصح أن تكون عائدة إلى «ما لاقى موسى» وتقديره: فلا تكن في مرية من لقاء ما لاقى موسى من التكذيب والإنكار من قومه.
لَمَّا صَبَرُوا لَمَّا ظرف زمان بمعنى «حين» في موضع نصب، والعامل فيه يَهْدُونَ ومن قرأ بالتخفيف وكسر اللام، كانت لَمَّا مصدرية، وتقديره: لصبرهم.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ هو هنا: ضمير فصل لأن يَفْصِلُ فعل مضارع، ولو كان فعلا ماضيا لم يجز، فإنهم يجيزون: زيد هو يقوم، قال تعالى: وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ [فاطر ٣٥/ ١٠] وقال سبحانه: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التوبة ٩/ ١٠٤] ولا يجيزون: زيد هو قام. وإنما جاز لأن الفعل المضارع أشبه الأسماء شبها أوجب له الإعراب، بخلاف الفعل الماضي.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة، كما آتيناك. فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ لا تكن يا محمد في شك من لقائك الكتاب، كما قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ [النمل ٢٧/ ٦]
ويحتمل: من لقاء موسى الكتاب أو من لقائك موسى، وقد التقيا ليلة الإسراء،
قال صلّى الله عليه وسلّم: «رأيت ليلة أسري بي موسى عليه السلام رجلا آدم طوالا جعدا، كأنه من رجال شنوءة».
وَجَعَلْناهُ أي الكتاب المنزل على موسى. هُدىً هاديا. يَهْدُونَ الناس إلى ما فيه من الحكم والأحكام. بِأَمْرِنا إياهم، أو بتوفيقنا لهم. لَمَّا صَبَرُوا أي لصبرهم على طاعة دينهم وعلى البلاء في الدنيا. وَكانُوا بِآياتِنا الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا.
يُوقِنُونَ يصدقون، لإمعانهم النظر فيها. يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يقضي، فيميز الحق من الباطل والمحق من المبطل. يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين.
المناسبة:
بعد تقرير الأصول الثلاثة في أول السورة وهي التوحيد والبعث والرسالة، عاد في آخرها إلى الأصل الثالث مرة أخرى وهو الرسالة المذكورة أولا في قوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ.
واختار موسى لقربه من محمد صلّى الله عليه وسلّم ووجود من كان على دينه، إلزاما لهم، وإنما لم يختر ذكر عيسى عليه السلام لأن اليهود ما كانوا يوافقون على نبوته.
وأما النصارى، فكانوا يعترفون بنبوة موسى عليه السلام، فذكر المجمع عليه.
التفسير والبيان:
لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ، وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ يخبر الله تعالى عبده ورسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بأنه آتى موسى عليه السلام التوراة، فلا تكن يا محمد في شك من لقائك الكتاب، فإنا آتيناك القرآن كما آتينا موسى التوراة، فأنت لست ببدع من الرسل قط، كما قال تعالى: قُلْ: ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف ٤٦/ ٩] والصلة قائمة بين الرسالتين والمهمة واحدة، فإن التوراة جعل أيضا هاديا ومرشدا لبني إسرائيل، كما أنك مرشد لأمتك، كما قال تعالى: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا [الإسراء ١٧/ ٢].
وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا، وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ أي وجعلنا من بني إسرائيل قادة يدعون الناس إلى الخير والإيمان، بإذننا وتوفيقنا وإعانتنا لهم لأنهم صبروا على طاعة دينهم وتصديق رسلهم واتباعهم، وعلى البلاء الذي تعرضوا له في الدنيا، كإيذاء فرعون لهم واستعباده إياهم، وكانوا بآياتنا الدالة على الوحدانية والقدرة مصدقين على وجه اليقين.
وهذا إيماء آخر إلى أن القرآن هاد للناس كالتوراة، وأن أتباعه هداة مخلصون، وهو أمر بالصبر والإيمان بأن وعد الله حق.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي إن ربك يقضي يوم القيامة بين عباده فيما اختلفوا فيه من أمور الاعتقاد والدين والحساب والثواب والعقاب، والأعمال، فيثيب المطيع بالجنة، ويعاقب العاصي بالنار.
وهذا باعث آخر على الإيمان الصحيح والعمل الصالح، وتهديد ضمني لمن يعرض عن هداية الله التي صارت متمثلة بالقرآن بعد فقد التوراة وافتقاد الأصل الصحيح للإنجيل.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
٢- إن أتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم هم الدعاة إلى دين الله وشرعه، كما أن أتباع موسى عليه السلام كانوا قادة يقتدى بهم في الدين، ويدعون الناس إلى الإيمان بالأصل الصحيح للتوراة والإنجيل، وإطاعة الله فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر، وذلك كله بإذن الله وتوفيقه. فحيث جعل الله كتاب موسى هدى، وجعل منهم أئمة يهدون، كذلك يجعل القرآن المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم كتاب هدى، ويجعل من أمته صحابة يهدون.
٣- إن اتخاذ بعض الناس أئمة سببه الصبر على الطاعة للدين، والرضا بأمر الله، والعمل على إعلاء كلمة الله، والصبر على البلاء والمحن في سبيل الله تعالى، فإن جعل الأئمة هادين يحصل بالصبر، وهذا أمر بالصبر والإيمان بأن وعد الله حق.
٤- إن الله سبحانه هو القاضي العدل والحاكم المطلق بحق بين المؤمنين والكفار، فيجازي كلا بما يستحق، ويفصل بين المختلفين من أمة واحدة، كما يفصل بين المختلفين من الأمم.
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ٢٦ الى ٣٠]
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠)
الإعراب:
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ فاعل يَهْدِ مقدر وهو المصدر، أي أولم يهد الهدى لهم. وقيل: إن الفاعل هو الله تعالى، أي أولم يهد الله لهم. وقرى «نهد» وتقدير الفاعل: نهد نحن لهم. و «كم» في موضع نصب ب أَهْلَكْنا.
مَتى هذَا الْفَتْحُ هذَا مبتدأ، والْفَتْحُ صفته، ومَتى خبره لأن الفتح مصدر وهو حدث، ومَتى ظرف زمان، وظروف الزمان يجوز أن تكون أخبارا عن الأحداث، لوجود الفائدة في الإخبار بها عنها.
البلاغة:
إِنَّا مُوقِنُونَ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أَفَلا يَسْمَعُونَ سجع لمراعاة الفواصل ورؤوس الآيات.
المفردات اللغوية:
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ أي أولم يتبين لكفار مكة كثرة من أهلكناهم من القرون أي الأمم الماضية بكفرهم يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ أي يمرّ أهل مكة في أسفارهم ومتاجرهم إلى الشام وغيرها على ديارهم، فيعتبروا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ دلالات على قدرتنا أَفَلا يَسْمَعُونَ سماع تدبر واتعاظ.
وَيَقُولُونَ للمؤمنين الْفَتْحِ النصر أو الفصل بالحكم، أي متى هذا الحكم الحاسم بيننا وبينكم؟ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في الوعد به قُلْ: يَوْمَ الْفَتْحِ بإنزال العذاب بهم يوم القيامة، فإنه يوم نصر المؤمنين على الكفرة والفصل بينهم. وقيل: يوم بدر، أو يوم فتح مكة وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يمهلون لتوبة أو معذرة. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي لا تبال بتكذيبهم وَانْتَظِرْ النصرة عليهم أو إنزال العذاب بهم إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ الغلبة عليك، أو الموت أو القتل.
سبب النزول: نزول الآية (٢٩) :
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ: أخرج ابن جرير عن قتادة: قال الصحابة: إن لنا يوما يوشك أن نستريح فيه وننعم، فقال المشركون: متى هذا الفتح إن كنتم صادقين؟ فنزلت.
المناسبة:
في القسم الأخير من السورة عود على بدء في تقرير الأصول الثلاثة وهي الرسالة والتوحيد والبعث، فبعد أن ذكر تعالى بقوله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تقرير رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم وإعادة بيان ما سبق في قوله: لِتُنْذِرَ قَوْماً.. أعاد هنا ذكر التوحيد وبرهانه وإثبات القدرة الإلهية بالمشاهدات المحسوسة بقوله: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ وقوله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ.. ثم أعاد ذكر الحشر وإثباته بقوله: وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْفَتْحُ؟
التفسير والبيان:
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ، إِنَّ فِي
أي أولم يتبين لهؤلاء المكذبين بالرسل كثرة من أهلكنا من الأمم الماضية بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم إياهم، وهؤلاء المكذبون يمرون أثناء أسفارهم في مساكن وديار أولئك المكذبين، ويشاهدون آثار تدميرهم كعاد وثمود وقوم لوط، لم تبق منهم باقية ولا أثر، كقوله تعالى: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً [مريم ١٩/ ٩٨] وقوله: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها [هود ١١/ ٦٨] وقوله: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النمل ٢٧/ ٥٢] وقوله: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ، فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها، وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج ٢٢/ ٤٥].
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ؟ أي إن في تدمير أولئك القوم بسبب تكذيبهم الرسل، ونجاة من آمن بهم لدلائل على قدرتنا، وعبرا وعظات يعتبرون ويتعظون بها، فهلا يسمعون عظاتنا، ويتذكرون تذكيرنا لهم، سماع تدبر واتعاظ وتفكر؟ والخلاصة: أن مساكن المهلكين دالة على حالهم.
وبعد بيان القدرة على الإهلاك، بيّن الله تعالى القدرة على الإحياء، فقال:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ، فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ، أَفَلا يُبْصِرُونَ أي أولم يشاهد هؤلاء المكذبون بالبعث أننا قادرون على الإحياء، فنسوق الماء من السماء أو السيول إلى الأرض اليابسة التي لا نبات فيها، فنخرج به زرعا أخضر تأكل منه أنعامهم من التبن والشعير والحشيش، وتتغذى منه أجسامهم، وتتقوى به أبدانهم، أفلا يبصرون هذا بأعينهم، فيعلموا أننا قادرون على الإعادة بعد الموت، كإحياء الأرض بعد موتها؟
ثم ذكر تعالى تساؤل المشركين عن يوم البعث والحشر، فقال:
وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي ويتساءل هؤلاء
متى تنتصر علينا يا محمد، ومتى ينتقم الله لك منا، وأنت وصحبك ما نراكم إلا مختفين خائفين ذليلين؟ إن كنتم صادقين في تهديدكم ووعيدكم على الكفر وعبادة الأوثان.
فأجابهم الله تعالى موبخا لهم:
قُلْ: يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ، وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي قل أيها الرسول لهؤلاء المكذبين برسالتك: إن يوم الحكم الفاصل والقضاء والفصل النافذ هو يوم القيامة الذي لا ينفع فيه إيمان الكافر ولا توبته، ولا هم يؤخرون فيه بالإعادة إلى الدنيا للتوبة والإيمان وإصلاح العمل لأن الإيمان المقبول هو الذي يكون في دار الدنيا، فلا تستعجلوه، فهو كائن حتما.
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ أي أعرض أيها الرسول عن هؤلاء المشركين، ولا تبال بتكذيبهم، وتابع تبليغ ما أنزل إليك من ربك، وانتظر النصر من الله الذي وعدك به، فإن الله سينجز لك ما وعدك، وسينصرك على من خالفك، إنه لا يخلف الميعاد.
إنك أنت منتظر نصر الله، وهم منتظرون الغلبة عليك والموت أو القتل، كما قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ: شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور ٥٢/ ٣٠] وسترى أنت عاقبة صبرك عليهم وعلى أداء رسالة ربك، وسيجدون سوء ما ينتظرونه فيك من عقاب الله بهم وتعذيبه إياهم في الدنيا والآخرة، وما علموا أن الله عاصمك منهم ومؤيدك بنصره.
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- إن إهلاك الأمم الظالمة العاتية دليل على قدرة الله ووحدانيته، وفي ذلك عبرة للمعتبر، والمشركون الذين يشاهدون آثار الدمار والهلاك، لا يسمعون آيات الله وعظاته فيتعظون، إذ ليس لهم درجة المتعلم الذي يسمع الشيء ويفهمه، ولا قوة الإدراك بأنفسهم والاستنباط بعقولهم.
٢- إن سوق الماء بقدرة الله إلى الأرض اليابسة التي لا نبات فيها لإحيائها بالنبات الأخضر والزرع النضر دليل آخر على قدرة الله على الإحياء وإعادة البشر لحياة البعث والنشور، ولكن الكفار لا يتأملون هذا بعين البصيرة ولا يبصرون هذا بحق، فيعلمون أن الله قادر على الحشر وعلى إعادتهم إلى الحياة يوم القيامة.
وفي هذين الدليلين من الإهلاك والإماتة، والأحياء والاعادة إشارة إلى أن الضر والنفع بيد الله تعالى.
٣- إن حماقة المشركين دفعتهم إلى استعجال العذاب والعقاب يوم القيامة.
ويروى أن المؤمنين قالوا: سيحكم الله عز وجل بيننا يوم القيامة، فيثيب المحسن ويعاقب المسيء، فقال الكفار على سبيل الاستهزاء والسخرية: متى يوم الفتح، أي هذا الحكم؟
٤- كان الرد الحاسم على هؤلاء الحمقى أن يوم الفتح والحكم والفصل بين المؤمنين والكفار كائن حتما لا شك فيه ولا بد منه، ولكن لا ينفع فيه الإيمان حينئذ لأن الإيمان المقبول هو الذي يكون في دار الدنيا، وكذلك لا يؤخرون بالإعادة للدنيا، ولا يمهلون للتوبة.
٥- النتيجة المطلوبة أن الإعراض عن المكذبين بالقرآن والرسول بعد
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الأحزابمدنية، وهي ثلاث وسبعون آية.
تسميتها:
سميت سورة الأحزاب لاشتمال الكلام فيها على وقعة الخندق أو الأحزاب الذين تجمعوا حول المدينة، من مشركي قريش وغطفان، بالتواطؤ مع المنافقين ويهود بني قريظة، لحرب المسلمين ومحاولة استئصالهم، كما سميت (الفاضحة) لأنها افتضحت المنافقين، وأبانت شدة إيذائهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أزواجه وتألبهم عليه في تلك الموقعة.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر صلة هذه السورة بسورة السجدة التي قبلها في وجوه التشابه بين مطلع هذه وخاتمة تلك، فإن السورة السابقة ختمت بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالإعراض عن الكافرين، وانتظار عذابهم، وهذه بدئت بأمره صلّى الله عليه وسلّم بالتقوى، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، واتباع ما أوحي إليه من ربه، والتوكل عليه.
موضوعها:
موضوع هذه السورة كسائر موضوعات السور المدنية، التي تهتم بالجانب التشريعي للأمة، ولا سيما تنظيم الأسرة النبوية، وإبطال بعض عادات الجاهلية كالتبني والظهار واعتقاد وجود قلبين للإنسان، وعدم إيجاب العدّة على المطلقة
مشتملاتها:
اشتملت هذه السورة على بعض الآداب الاجتماعية، والأحكام التشريعية وأخبار في السيرة عن غزوتي الأحزاب وبني قريظة وعن المنافقين.
أما الآداب الاجتماعية: فأهمها آداب الدعوة إلى الولائم، والحجاب وعدم التبرج، وتعظيم النبي صلّى الله عليه وسلّم في بيته ومع الناس، والقول السديد.
وأما الأحكام الشرعية فكثيرة: منها الأمر بتقوى الله وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، ووجوب اتباع الوحي، وحكم الظهار، وإبطال عادة التبني وعادة التوريث بالحلف أو الهجرة، وجعل الرحم والقرابة أساس الميراث، وتعداد المحارم وعدد زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفرض الحجاب الشرعي وتطهير المجتمع من مظاهر التبرج الجاهلية، وعدم إلزام المطلقة قبل الدخول بالعدة، وتخيير نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم بين الفراق والبقاء معه، وتخصيص زوجاته بمضاعفة الأجر والثواب عند الطاعة، ومضاعفة العذاب عند المعصية، وتحريم إيذاء الله والرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، وخطورة أمانة التكليف، وعقاب المسيء وإثابة المحسن.
وأما أخبار السيرة: ففي السورة بيان توضيحي عن (غزوة الأحزاب) أو (غزوة الخندق) وغزوة بني قريظة، ونقضهم العهد مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكشف فضائح المنافقين والتحذير من مكائدهم، وتهديدهم مع المرجفين في المدينة على جرائمهم بالطرد والتعذيب، وتذكير المؤمنين بنعم الله العظمى التي أنعم بها عليهم في وقعة الخندق بعد اشتداد الخطب عليهم، ورد كيد أعدائهم بالملائكة والريح، حتى صار ذلك معجزة خارقة للعادة، وبيان قصة زيد بن حارثة مولى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وزينب بنت جحش زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم.