تفسير سورة السجدة

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة السجدة من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

٣٢ – سورة السجدة
سميت بها، لأن آية السجدة منها، تدل على أن آيات القرآن من العظمة بحيث تخر وجوه الكل، لسماع مواعظها، وتنزه منزلها عن أن يعارض في كلامه. وبشكره على كمال هدايته. وهذا أعظم مقاصد القرآن، أفاده المهايمي. وهي مكية، وآيها ثلاثون.
روى البخاري ١ في ( كتاب الجمعة ) عن أبي هريرة قال :( كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر، يوم الجمعة، آلم تنزيل السجدة، و ﴿ هل أتى على الإنسان ﴾ ).
ورواه مسلم ٢ أيضا.
وروى الإمام أحمد عن جابر قال :( كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ آلم. تنزيل السجدة و ﴿ تبارك الذي بيده الملك ﴾ ) قال ابن كثير : تفرد به أحمد رحمه الله تعالى.
١ أخرجه البخاري في: ١١ – كتاب الجمعة، ١٠ – باب ما يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة، حديث ٥٢٢..
٢ أخرجه في: ٧ – كتاب الجمعة، حديث رقم ٦٥ و٦٦ (طبعتنا)..

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة السجده (٣٢) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣)
الم تقدم أن هذه الفواتح أسماء للسور تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ أي في كونه منزلا مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي اختلقه من تلقاء نفسه بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي يتبعون الحق.
وذلك أن قريشا لم يبعث إليهم رسول، قبله صلّى الله عليه وسلّم. فلطف تعالى بهم وبعث فيهم رسولا منهم صلّى الله عليه وسلّم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة السجده (٣٢) : الآيات ٤ الى ٥]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ تقدم الكلام في ذلك ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أي ما لكم عنده ناصر ولا شفيع من الخلق أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ أي تتعظون بالقرآن فتؤمنوا يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ أي يدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية، من الملائكة وغيرها، نازلة آثارها وأحكامها إلى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ أي يصعد إليه، أي مع الملك للعرض عليه فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ أي مقدار صعوده على غير الملك، ألف سنة من سني الدنيا.
قال ابن كثير: أي يتنزل أمره من أعلى السموات إلى أقصى تخوم الأرضين. كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ
[الطلاق: ١٢] الآية. وترفع الأعمال إلى ديوانها فوق السماء. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة السجده (٣٢) : الآيات ٦ الى ٩]
ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩)
ذلِكَ أي المدبر عالِمُ الْغَيْبِ أي ما غاب عن العباد وما يكون وَالشَّهادَةِ أي ما علمه العباد وما كان الْعَزِيزُ أي الغالب على أمره الرَّحِيمُ أي بالعباد في تدبره الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ أي أحكم خلق كل شيء. لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ يعني آدم مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ أي ذريته مِنْ سُلالَةٍ أي من نطفة مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أي ضعيف ممتهن. والسلالة الخلاصة. وأصلها ما يسلّ ويخلص بالتصفية ثُمَّ سَوَّاهُ أي قوّمه في بطن أمه وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ أي جعل الروح فيه، وأضافه إلى نفسه تشريفا له وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي خلق لكم هذه المشاعر، لتدركوا بها الحق والهدى قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي بأن تصرفوها إلى ما خلقت له.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة السجده (٣٢) : الآيات ١٠ الى ١٢]
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢)
وَقالُوا أي كفار مكة أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أي صرنا ترابا مخلوطا بتراب الأرض لا نتميز منه، أو غبنا فيها أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي نجدد بعد الموت بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ أي بالبعث بعد الموت للجزاء والحساب كافِرُونَ أي جاحدون.
قال أبو السعود: إضراب وانتقال من بيان كفرهم بالبعث، إلى بيان ما هو أبلغ وأشنع منه، وهو كفرهم بالوصول إلى العاقبة، وما يلقونه فيها من الأحوال والأهوال جميعا قُلْ أي بيانا للحق وردّا على زعمهم الباطل يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ أي يقبض أرواحكم ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ أي بالبعث للحساب والجزاء.
39
فائدة:
قال ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) في هذه الآية: مذهب جمهور أصحابنا أن الروح جسم لطيف بخاريّ يتكوّن من ألطف أجزاء الأغذية، ينفذ في العروق، حالّة فيها. وكذلك للقلب، وكذلك للكبد.
وعندهم أن لملك الموت أعوانا تقبض الأرواح بحكم النيابة عنه. لولا ذلك لتعذر عليه وهو جسم أن يقبض روحين في وقت واحد في المشرق والمغرب، لأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين. في وقت واحد.
قال أصحابنا: ولا يبعد أن يكون الحفظة الكاتبون هم القابضون للأرواح عند انقضاء الأجل.
قالوا: وكيفية القبض، ولوج الملك من الفم إلى القلب، لأنه جسم لطيف هوائي، لا يتعذر عليه النفوذ في المخارق الضيقة، فيخالط الروح، التي هي كالشبيهة بها، لأنها بخاريّ. ثم يخرج من حيث دخل، وهي معه.
وإنما يكون ذلك في الوقت الذي يأذن الله تعالى له فيه وهو حضور الأجل.
فألزموا على ذلك أن يغوص الملك في الماء مع الغريق ليقبض روحه تحت الماء. فالتزموا ذلك، وقالوا: ليس بمستحيل أن يتخلل الملك الماء في مسامّ الماء، فإن فيه مسامّ ومنافذ وفي كل جسم. على قاعدتهم في إثبات المسامّ في الأجسام.
قالوا: ولو فرضنا أنه لا مسامّ فيه، لم يبعد أن يلجه الملك فيوسع لنفسه مكانا، كما يلجه الحجر والسمك، وغيرهما. وكالريح الشديدة التي تقرع ظاهر البحر فتقعره وتحفره. وقوة الملك أشدّ من قوة الريح. انتهى.
والأولى الوقوف، فيما لم تعلم كيفيته، عند متلوّه وعدم مجاوزته، أدبا عن التهجم على الغيب وتورعا عن محاولة مالا يبلغ كنهه، وأسوة بما مضى عليه من لم يخض فيه، وهم الخيرة والأسوة، والله أعلم.
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ وهم القائلون تلك المقالة الشنعاء ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي مطأطئوها من الحياء والخزي، لما قدمت أيديهم رَبَّنا أي يقولون ربنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا أي علمنا ما لم نعلم، وأيقنا بما لم نكن به موقنين فَارْجِعْنا أي إلى الدنيا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ أي مقرّون بك وبكتابك ورسولك والجزاء.
40
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة السجده (٣٢) : الآيات ١٣ الى ١٤]
وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤)
وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها أي تقواها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي أي في القضاء السابق لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أي سبق القول حيث قلت لإبليس، عند قوله لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:
٣٩- ٤٠]، فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: ٨٤- ٨٥]، أي فبموجب ذلك القول لم نشأ إعطاء الهدى على العموم. بل منعناه من أتباع إبليس الذين هؤلاء من جملتهم حيث صرفوا اختيارهم إلى الغيّ والفساد. ومشيئته تعالى لأفعال العباد منوطة باختيارهم إياها. فلما لم يختاروا الهدى، واختاروا الضلالة، لم يشأ إعطاءه لهم. وإنما آتاه الذين اختاروه من النفوس البرّة، وهم المعنيّون بما سيأتي من قوله تعالى: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا [السجدة:
١٥] الآية. فيكون مناط عدم مشيئة إعطاء الهدى، في الحقيقة، سوء اختيارهم، لا تحقق القول. أفاده أبو السعود. فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي تركتم الإقرار به، والإيمان بصدق موعوده، وعاملتموه معاملة المنسيّ المهجور إِنَّا نَسِيناكُمْ أي جازيناكم جزاء نسيانكم. أو تركناكم في العذاب ترك المنسيّ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي من الموبقات. والتكرير للتأكيد والتشديد. وتعيين الفعل المطويّ، للذوق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة السجده (٣٢) : الآيات ١٥ الى ١٦]
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦)
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها أي وعظوا خَرُّوا سُجَّداً لسرعة قبولهم لها بصفاء فطرتهم، وذلك تواضعا لله وخشوعا وشكرا على ما رزقهم من الإسلام وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ أي عن الانقياد لها، كما يفعله
الجهلة من الكفرة الفجرة. قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر: ٦٠]، تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ أي ترتفع وتتنحى عن الفرش ومواضع النوم. والجملة مستأنفة لبيان بقية محاسنهم، وهم المتهجدون بالليل يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أي داعين له خَوْفاً من عذابه وَطَمَعاً في رحمته وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ أي من المال يُنْفِقُونَ أي في وجوه البرّ والحسنات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة السجده (٣٢) : الآيات ١٧ الى ٢٠]
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠)
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ أي ما ذخر وأعدّ أي لهؤلاء الذين عددت مناقبهم مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ أي مما تقرّ به عينهم من طيبة النفس والثواب والكرامة في الجنة جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي في الدنيا من الأعمال الصالحة أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً أي كافرا جاحدا لا يَسْتَوُونَ أي في الآخرة بالثواب والكرامة. كما لم يستووا في الدنيا بالطاعة والعبادة. ثم فصّل مراتب الفريقين بقوله أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا أي ثوابا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وكقوله تعالى كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها [الحج: ٢٢]، كناية عن دوام عذابهم واستمراره وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي يقال لهم ذلك، تشديدا عليهم وزيادة في غيظهم، وتقريعا وتوبيخا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة السجده (٣٢) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢)
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ أي أهل مكة مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى أي عذاب الدنيا والجدب والقتل والأسر دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ يعني عذاب الآخرة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي
يتوبون عن الكفر أي يرجعون إلى الله عند تصفية فطرتهم بشدة العذاب الأدنى، قبل الرين بكثافة الحجاب وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها أي جحدها وكفر بها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ أي بالعذاب، وإظهار المتقين عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة السجده (٣٢) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ أي لقاء الكتاب الذي هو القرآن. وعود الضمير إلى الكتاب المتقدم، والمراد غيره على طريق الاستخدام، أو إرادة العهد، أو تقدير مضاف، أي تلقي مثله، أي فلا تكن في مرية من كونه وحيا متلقى من لدنه تعالى. والمعنى: إنا آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب. ولقّيناه من الوحي مثل ما لقيناك. فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله.
ونهيه صلّى الله عليه وسلّم عن الشك، المقصود به نهي أمته. والتعريض بمن صدر منه مثله وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أي من الضلالة وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا أي قادة بالخير يدعون الخلق إلى أمرنا وشرعنا لَمَّا صَبَرُوا أي على العمل به والاعتصام بأوامره وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ أي يصدقون أشد التصديق وأبلغه.
والمعنى كذلك لنجعلن الكتاب الذي آتيناكه، هدى لأمتك، ولنجعلن منهم أئمة يهدون مثل تلك الهداية. ويؤخذ من فحوى الآية، أن بني إسرائيل لما نبذوا الاعتصام بالكتاب، ونبذوا الصبر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفقدوا الاستيقان بحقيّة الإيمان، فغيروا وبدلوا، سلبوا ذلك المقام، وأديل عليهم انتقاما منهم. وتلك سنته تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:
١١]، ففي طي هذا الترغيب، ترهيب وأي ترهيب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة السجده (٣٢) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ أي يقضي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي فيميز الحق من الباطل، بتمييز المحق من المبطل أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ أي يتبين لكفار مكة كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ أي الماضية بعذاب الاستئصال يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ أي منازلهم. كمنازل قوم شعيب وهود وصالح ولوط عليهم السلام. فلا يرون فيها أحدا ممن كان يعمرها ويسكنها. ذهبوا كأن لم يغنوا فيها. كما قال فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النمل: ٥٢]، إِنَّ فِي ذلِكَ أي فبما فعلنا بهم لَآياتٍ أي عبرا ومواعظ ودلائل متناظرة أَفَلا يَسْمَعُونَ أي أخبار من تقدم، كيف صار أمرهم بسبب تكذيبهم الرسل، وبغيهم الفساد في الأرض، فيحملهم ذلك على الإيمان أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ وهي التي جزر نباتها، أي قطع فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ يعني العشب والثمار والبقول أَفَلا يُبْصِرُونَ أي فيستدلون به على كمال قدرته ووجوب انفراده بالإلهية. وهذا كآية فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا [عبس: ٢٤- ٢٥] الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة السجده (٣٢) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩)
وَيَقُولُونَ أي كفار مكة مَتى هذَا الْفَتْحُ أي الانتصار علينا. استعجال لوقوع البأس الربانيّ عليهم، الذي وعدوا به، واستبعاد له إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ لحلول ما يغشي الأبصار ويعمي البصائر. وظهور منار الإيمان وزهوق الفريق الكافر.
قال ابن كثير: أي إذا حل بكم بأس الله وسخطه وغضبه في الدنيا والأخرى، لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون، كما قال تعالى فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر: ٨٣] الآيتين. ومن زعم أن المراد من هذا الفتح فتح مكة، فقد أبعد النجعة، وأخطأ فأفحش، فإن يوم الفتح، قد قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إسلام الطلقاء وقد كانوا قريبا من ألفين. ولو كان المراد فتح مكة، لما قبل إسلامهم لقوله تعالى قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وإنما المراد الفتح الذي هو القضاء والفصل كقوله: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً [الشعراء: ١١٨]، وكقوله: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ
[سبأ: ٢٦] الآية، وقال تعالى: وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [إبراهيم:
١٥]، وقال تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [الأنفال: ١٩].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة السجده (٣٢) : آية ٣٠]
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠)
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي عن المشركين، ولا تبال بهم، وبلغ ما أنزل إليك من ربك وَانْتَظِرْ أي النصرة عليهم. فإن الله سينجز لك ما وعدك، إنه لا يخلف الميعاد إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ أي ما في نفوسهم. كقوله تعالى أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: ٣٠]، وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ [التوبة: ٩٨]، أي وسيجدون مغبة انتظارهم من وبيل عقابه تعالى وأليم عذابه بهم.
45

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الأحزاب
سميت بها، لأن قصتها معجزة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. متضمنة لنصره بالريح والملائكة. بحيث كفى الله المؤمنين القتال. وقد ميز بهم بين المؤمنين والمنافقين. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. أفاده المهايميّ.
وهي مدنية. وآياتها ثلاث وسبعون آية. وروى الإمام أحمد عن أبيّ بن كعب قال: لقد رأيتها وإنها تعادل سورة البقرة. ولقد قرأنا فيها (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم).
وقال ابن كثير: وهو يقتضي أنه قد كان فيها قرآن ثم نسخ لفظه وحكمه أيضا.
والله أعلم. انتهى.
قلت: كان يصح هذا الاقتضاء، لو كان هذا الأثر صحيحا. أما ولم يخرجه أرباب الصحاح، فهو من الضعف بمكان.
46
Icon