تفسير سورة السجدة

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة السجدة من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

البزار عن بلال قال: كنا نجلس في المسجد، وناس من أصحاب رسول الله - ﷺ - يصلون بعد المغرب إلى العشاء، فنزلت هذه الآية: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ وفي إسناده عبد الله بن شبيب ضعيف. وأخرج الترمذي وصححه عن أنس، إن هذه الآية: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾. نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة.
وأخرج (١) البخاري في "تاريخه" وابن مردويه عنه: نزلت في صلاة العشاء. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضًا في الآية: كانوا لا ينامون حتى يصلوا العشاء. وأخرج ابن أبي شيبة عنه قال: كنا نجتنب الفرش قبل صلاة العشاء. وأخرج عبد الرزاق وابن مردويه عنه أيضًا قال: ما رأيت رسول الله - ﷺ - راقدًا قط قبل العشاء ولا متحدثًا بعدها، فإن هذه الآية: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ نزلت في ذلك.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿الم (١)﴾. قال البقلي - رحمه الله -: الألف إشارة إلى الإعلام، واللام إلى اللزوم، والميم إلى الملك، أعلم من نفسه أهل الكون لزوم العبودية عليهم، وملكهم قهرًا وجبرًا، حتى عبدوه طوعًا وكرهًا. اهـ.
وفي "التأويلات النجمية": يشير (٢) بالألف: إلى أنه ألف المحبون بقربتي فلا يصبرون عني، وألف العارفون بتمجيدي فلا يستأنسون بغيري، والإشارة في اللام، لأني لأحبائي مدخر لقائي، فلا أبالي أقاموا على صفائي، أم قصروا في وفائي، والإشارة في الميم: ترك أوليائي مرادهم لمرادي، فلذلك آثرتهم على جميع عبادي. اهـ. وهذا كله مما لا نقل ولا أصل له.
وقال أهل التفسير: ﴿الم (١)﴾: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هذه السورة مسماة بـ ﴿الم (١)﴾.
٢ - ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ﴾ المتلو عليك يا محمد، وهو القرآن، في
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
هذا المقام وجوه من الإعراب، الأوجه الأنسب بما بعده، أنه مبتدأ، وجملة قوله ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ ولا شك حال، من ﴿الْكِتَابِ﴾؛ أي: حال كونه لا شك فيه عند أهل الاعتبار ﴿مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ خبر المبتدأ، فان كونه من رب العالمين، حكم مقصود الإفادة، وإنما كان منه لكونه معجزًا، والضمير (١) في ﴿فِيهِ﴾: عائد إلى مضمون الجملة.
والمعنى: تنزيل الكتاب، كائن من رب العالمين، حال كونه لا ريب فيه؛ أي: في كونه منزلًا من رب العالمين، لأنه معجز للبشر؛ أي: إن الكتاب المتلو عليك يا محمد، لا ريب ولا شك في أنه منزل من رب العالمين، وأنه ليس بكذب، ولا سحر ولا كهانةٍ ولا أساطير الأولين.
٣ - فلما أنكرت قريش كونه منزلًا من رب العالمين.. قال: ﴿أَمْ﴾ منقطعة تقدر ببل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري؛ أي: بل أ ﴿يَقُولُونَ﴾؛ أي: أيقول أهل مكة ﴿افْتَرَاهُ﴾؛ أي: افترى محمد هذا القرآن واختلفه من عند نفسه، لا ينبغي ولا يليق منهم هذا القول، فهذا القول منهم منكر متعجب منه، لغاية ظهور بطلانه.
فأضرب عن الكلام الأول إلى ما هو معتقد الكفار، مع الاستفهام المتضمن للتقريع والتوبيخ، حيث قال: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ ثم أضرب عن معتقدهم إلى بيان ما هو الحق في شأن الكتاب، فقال: ﴿بَلْ هُوَ﴾؛ أي: هذا القرآن ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾؛ أي: ليس هو كما قالوا مفترًى، بل هو الحق من ربك.
ونظم الكلام (٢): أنه أشار أولًا إلى إعجازه، ثم رتب عليه أن تنزيله من رب العالمين، وقرر ذلك بنفي الريب عنه، ثم أضرب عن ذلك إلى ما يقولون فيه على خلاف ذلك، إنكارًا له، وتعجيبًا منه، ثم أضرب عنه إلى إثبات أنه الحق المنزل من الله، وبين المقصود من تنزيله والعلة فيه فقال: ﴿لِتُنْذِرَ﴾ وتخوف يا محمد ﴿قَوْمًا﴾ هم العرب، والظاهر أن المفعول الثاني للإنذار: محذوف،
(١) النسفي.
(٢) البيضاوي.
331
و ﴿قَوْمًا﴾ هو الأول؛ أي: لتنذر قومًا العقاب.
وجملة قوله: ﴿مَا﴾: نافية ﴿أَتَاهُمْ﴾ وجاءهم ﴿مِنْ﴾: زائدة ﴿نَذِيرٍ﴾ مخوف ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾؛ أي: من قبل إنذارك، أو من قبل زمانك، جملة منفية في محل نصب صفة لـ ﴿قَوْمًا﴾؛ أي: أنزله إليك لتنذر عذاب الله قومًا ما جاءهم منذر من قبلك ﴿لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ بإنذارك إياهم؛ أي: رجاء أن يهتدوا أو كي يهتدوا، والترجي معتبر من جهته - ﷺ -؛ أي: لتنذرهم (١) راجيًا لاهتدائهم إلى التوحيد والإخلاص.
وفي "الخازن": المراد بالقوم العرب؛ لأنهم كانوا أمةً لم يأتهم نذير قبل محمد - ﷺ -، إذ كانت قريش أهل الفطرة، وأضل الناس وأحوجهم إلى الهداية، لكونهم أمةً أمية، وقال ابن عباس: يعني أهل الفترة، الذين كانوا بين عيسى ومحمد - ﷺ -. اهـ.
وفي الحديث: "ليس بيني وبينه نبي"؛ أي: ليس بيني وبين عيسى نبي من العرب، أما إسماعيل عليه السلام، فكان نبيًا قبل عيسى، مبعوثًا إلى قومه خاصةً، وانقطعت نبوته بموته، وأما خالد بن سنان، فكان نبيًا بعد عيسى، ولكنه أضاعه قومه، فلم يعش إلى أن يبلغ دعوته، فعلم من هذا أن أهل الفطرة ألزمتهم الحجة العقلية، لأنهم كانوا عقلاء قادرين على الاستدلال، لكنهم لم تلزمم الحجة الرسالية.
وعلم من قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ أن المقصود من البعثة تعريف طريق الحق، وكل يهتدي بقدر استعداده، إلا أن لا يكون له استعداد أصلًا، كالمصرين، فإنهم لن يقبلوا التربية والتعريف، وكذا من كان على جبلتهم إلى يوم القيامة.
ألا ترى أن أبا جهل رأى النبي - ﷺ -، ووصل إليه، لكن لما رآه بعين الاحتقار، وأنه يتيم أبي طالب، لا بعين التعظيم، وأنه رسول الله، ووصل إليه
(١) روح البيان.
332
وصول عناد وإنكار، لا وصول قبول وإقرار.. لم يصر جوهرًا للهداية، وهكذا حال ورثته من المصرين والمنكرين.
ومعنى الآيتين: أن (١) هذا القرآن الذي أنزل على محمد، لا شك أنه من عند الله، وليس بشعر ولا كهانة، ولا مما تخرصه محمد - ﷺ - بل هو الحق والصدق من عند ربك، أنزله إليك لتنذر قومك بأس الله وسطوته، أن تحل بهم على كفرهم به، وأنه لم يأتهم نذير من قبلك، ليبين لهم سبيل الرشاد، وأن محمدًا لم يختلقه كما يزعمون، وفي هذا رد لقولهم: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾.
٤ - ﴿اللَّهُ﴾؛ أي: المعبود الذي يستحق منكم العبادة أيها الناس، هو الإله ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ وأوجد ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ السبع ﴿وَالْأَرْضَ﴾ على غير مثال سبق؛ أي: أبدع الأجرام العلوية والسفلية ﴿وَمَا بَيْنَهُمَا﴾؛ أي: ما بين السماوات والأرض من السحاب والرياح وغيرهما؛ أي: خلقهما وما فيهما وما بينهما ﴿فِي﴾ مقدار ﴿سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ من أيام الدنيا، التي أولها الأحد وآخرها الجمعة، قاله (٢) الحسن، وقيل: مقدار اليوم منها ألف سنة من سنين الدنيا، قاله الضحاك، فعلى هذا: المراد بالأيام هنا: هي من أيام الآخرة، لا من أيام الدنيا، أو المعنى: خلقهما (٣) وما فيهما وما بينهما في ستة أطوارٍ في نظر الناظرين إليها، وليس المراد اليوم المعروف؛ لأنه قبل خلق السماوات لم يكن ليل ولا نهار، وإنما خلقها في ستة أيام مع أنه قادر على خلقها في لحظة واحدة، بأن يقول لها: كوني فتكون، ليعلم عباده الرفق والتأني، والتثبت في الأمور وعدم العجلة، وفي آية أخرى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨)﴾.
﴿ثُمَّ﴾ بعد خلق السماوات والأرض وما بينهما ﴿اسْتَوَى﴾؛ أي: علا وارتفع سبحانه ﴿عَلَى الْعَرْشِ﴾ استواءٍ يليق بجلاله، لا يكيف ولا يمثل ولا يشبه؛
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
333
أي: نُثبِتُه من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل، ونؤمن به ونعتقده على الوجه الذي يليق بجنابه، مع تنزيهه عما لا يجوز عليه من صفات النقص والحدوث ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.
والإيمان بذلك غير موقوف على معرفة حقيقته، وكيفيته؛ لأنه لا يعرف الله إلا الله عز وجل، فالصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - ومن بعدهم من الأئمة، لم يشتبه أحد منهم فيه، وقال القرطبي: ليس ﴿ثُمَّ﴾ للترتيب في قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ بل هي بمعنى الواو. اهـ.
وقال الإِمام مالك - رحمه الله -: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وقال الإِمام أحمد - رحمه الله -: أخبار الصفات وأحاديثها وآياتها تمر كما جاءت، بلا تشبيه ولا تعطيل، فلا يقال: كيف ولم؟ نؤمن بأن الله سبحانه على العرش كيف شاء هو، وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف، أو يحدها حاد، نقرأ الآية والخبر، ونؤمن بما فيهما، ونكل الكيفية في الصفات إلى علم الله عز وجل. وقال القرطبي: لم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقةً، وإنما جهلوا كيفية الاستواء، فإنه لا تعلم حقيقته. اهـ.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة صفة عرش الرحمن، وإحاطته بالسماوات والأرض وما بينهما وما عليهما، وهو المراد هنا، وقد قدمنا البحث عن هذا المقام بأبسط مما هنا في سورة الأعراف وطه الفرقان.
﴿مَا لَكُمْ﴾ يا أهل مكة ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ تعالى ﴿مِنْ وَلِيٍّ﴾ يلي أموركم وناصر ينصركم بدفع عذابه عنكم ﴿وَلَا﴾ من ﴿شَفِيعٍ﴾ يشفعكم عنده تعالى، فينقذكم من عذابه، إن هو عاقبكم على معصيتكم إياه؛ أي: ليس (١) لكم أيها الناس من يلي أموركم، وينصركم منه إن أراد بكم ضرًا، ولا يشفع لكم عنده إذ هو عاقبكم.
والخلاصة: فإياه فاتخذوه وليًا، وبه وبطاعته فاستعينوا على أموركم، فإنه
(١) المراغي.
334
يَمنعكم ممن أراد بكم سوءًا، ولا يقدر أحد على دفع السوء عنكم إذا هو أراد وقوعه بكم؛ لأنه لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب.
ثم أمرهم بالتذكر والتدبر في الأدلة فقال: ﴿أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ و (الهمزة) فيه للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير (١): ألا تسمعون هذه المواعظ فلا تتذكرون بها، فالإنكار متوجه إلى عدم الاستماع وعدم التذكر، أو تسمعونها فلا تتذكرون بها، فالإنكار متوجه إلى عدم التذكر مع تحقق ما يوجبه من السماع.
والفرق بين التذكر والتفكر (٢): أن التفكر عند فقدان المطلوب لاحتجاب القلب بالصفات النفسانية، وأما التذكر: فهو عند رفع الحجاب والرجوع إلى الفطرة الأولى، فيتذكر ما انطبع في الأزل من التوحيد والمعارف.
والمعنى (٣): أي أفلا تعتبرون وتتفكرون أيها العابدون غيره تعالى، المتوكلون على من عداه، تعالى وتقدس عن أن يكون له نظير أو شريك، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.
٥ - ولما بين سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض، وما بينهما.. بين تدبيره لأمرها فقال: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾؛ أي: أمر الدنيا وشأنها وحالا، والأمور التي تقع فيها؛ أي: ينزّل قضاءه وقدره ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ مدبرًا بوساطة الملائكة الموكلين بأمر الدنيا ﴿إِلَى الْأَرْضِ﴾ مدة دوام الدنيا.
وروى (٤) عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن سابط، يدبر أمر الدنيا أربعة: جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل صلوات الله عليهم وسلامه، فأما: جبريل، فموكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل فموكل بالقطر والماء، وأما ملك الموت فموكل بقبض الأرواح، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم.
(١) روح البيان.
(٢) الإرشاد.
(٣) المراغي.
(٤) الفتوحات.
335
﴿ثُمَّ يَعْرُجُ﴾ ويصعد الأمر المدبر من السماء، المفعول لأهل الأرض، ويرجع ﴿إِلَيْهِ﴾ تعالى التصرف في المخلوقات بالحشر والحساب ووزن الأعمال والتعذيب والتنعيم وغير ذلك، مما يقع في ذلك اليوم ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ﴾؛ أي: قدره وطوله ﴿أَلْفَ سَنَةٍ﴾؛ أي: قدر ألف سنة ﴿مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ في الدنيا من أيامها، وهو يوم القيامة.
والمعنى: أي (١) ينتقل التصريف الظاهري من أيدي العبيد يوم القيامة، ويكون لله وحده ظاهرًا وباطنًا، قال تعالى: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾؛ أي: يدبر أمر الدنيا إلى أن تقوم الساعة ثم يصير الأمر كله إليه، ليحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة مما كنا نعده في هذه الحياة. اهـ. "مراغي".
فإن قلت: قال هنا: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ وفي سورة المعارج: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ فبين الآيتين معارضة من حيث العدد، فما وجه الجمع بينهما؟
قلت: يجمع بينما بأن المراد من ذكر الألف، وذكر الخمسين: التنبيه على طوله، والتخويف منه، لا العدد المذكور بخصوصه.
وقيل: يجمع بينهما: بأن موقف القيامة خمسون موقفًا، كل موقف ألف سنة، فهذه الآية بينت أحد المواقف، وآية ﴿سأل﴾ بينت المواقف كلها، وهذا القول هو الأقرب في الجمع، وقيل: يجمع بيهما: بأن العذاب مختلف، فيعذب الكافر بجنس من العذاب ألف سنة، ثم ينتقل إلى جنس آخر مدته خمسون ألف سنة.
وقيل معنى الآية (٢): أي يدبر أمر الدنيا من السماء على عباده، ويصعد إليه آثار الأمر، وهي أعمالهم الصالحة، الصادرة على موافقة ذلك الأمر، فإن نزول الأمر وعروج العمل في مسافة ألف سنة مما تعدون عليهم؛ أي: على غير الملائكة، فإن بين السماء والأرض مسيرة خمس مئة سنة، فينزل في مسيرة خمس
(١) الصاوي.
(٢) المراح.
336
مئة سنة، ويعرج في مسيرة خمس مئة سنة، فهو مقدار ألف سنة.
والمراد (١) بالألف على القول الأول الأرجح: الزمن المتطاول، وليس المقصود منه حقيقة العدد، إذ هو عند العرب منتهى المراتب العددية، وأقصى غاياتها، وليس هناك مرتبة فوقه، إلا ما يتفرع منه من أعداد مراتبها. قال القرطبي: المعنى: إن الله تعالى جعله في صعوبته على الكفار كخمسين ألف سنة، قاله ابن عباس، والعرب تصف أيام المكروه بالطول، وأيام السرور بالقصر.
وخلاصة معنى الآية على ما اختاره بعضهم - وهو الظاهر - أي (٢): يدبر الله سبحانه وتعالى أمر الدنيا مدة أيام الدنيا، فينزل القضاء والقدر من السماء إلى الأرض، ثم يعود الأمر والتدبير إليه تعالى حين ينقطع أمر الأمراء، وحكم الحكام، وينفرد الله بالأمر في يوم؛ أي: يوم القيامة، كان مقداره ألف سنة؛ لأن يومًا من أيام الآخرة مثل ألف سنة من أيام الدنيا، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ﴾ فمعنى خمسين ألف سنة على هذا: أنه يشتد على الكافرين، حتى يكون كخمسين ألف سنة في الطول، ويسهل على المؤمنين، حتى يكون كقدر صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا، فقيامة كل واحد على حسب ما يليق بمعاملته، ففي الحشر مواقف ومواطن بحسب الأشخاص من جهة الأعمال والأحوال والمقامات.
وقد اختلف العلماء في تفسسير الآية على وجوه شتى، ضربنا عن ذكرها صفحًا؛ لأنه لا طائل تحتها، هذا ما سنح لي والعلم عند الله العلي.
وقرأ ابن أبي عبلة: ﴿يَعْرُجُ﴾ بالبناء للمفعول، والجمهور: مبنيًا للفاعل، وقرأ الجمهور (٣): ﴿مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ بتاء الخطاب، وقرأ السلمي وابن وثاب والأعمش والحسن: بياء الغيبة بخلاف عن الحسن، وقرأ جناح بن حبيش: {ثُمَّ
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
337
تعرج الملائكة} بزيادة الملائكة، ولعله تفسير منه، لسقوطه في سواد المصحف.
٦ - ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: ذلك الموصوف بالخلق والاستواء والتدبير ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾؛ أي: عالم ما غاب عن المخلوقات، وعالم ما شوهد لهم، أو عالم الغيب؛ أي: الآخرة، والشهادة؛ أي: الدنيا، والإشارة بقوله: ﴿ذَلِكَ﴾ إلى لله سبحانه، باعتبار اتصافه بتلك الأوصاف، وهو مبتدأ خبره ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ﴾، وفي هذا معنى التهديد؛ لأنه تعالى إذا علم بما يغيب ويحضر.. فهو مجاز لكل عامل بعمله، أو فهو يدبر الأمر بما تقتضيه حكمته.
﴿الْعَزِيزُ﴾؛ أي: الغالب القاهر، الذي لا يغالب على ما أراده، ﴿الرَّحِيمُ﴾ بعباده؛ أي: ذلك (١) الله العظيم الشأن، المتصف بالخلق والاستواء وانحصار الولاية والنصرة فيه، وتدبير أمر الكائنات، هو عالم ما غاب عن الخلق وما حضر لهم، ويدبر أمرهما حسبما يقتضيه الغالب على أمره، الرحيم بعباده في تدبيره، وفيه إيماء إلى أنه تعالى يراعي المصالح، تفضلًا وإحسانًا، لا إيجابًا، وهذه أخبار لذلك المبتدأ.
٧ - وقوله: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾: خبر آخر لذلك المبتدأ؛ أي: الذي جعل كل خلقه على وجه حسن في الصورة والمعنى، على ما يقتضيه استعداده، وتوجبه الحكمة والمصلحة، فالقبيح كالقردة والخنازير حسن في ذاته، وقبحه بالنظر إلى ما هو أحسن منه، لا في ذاته، طول رجل البهيمة والطائر وطول عنقهما، لئلا يتعذر عليهما ما لا بد لهما منه من قوتهما، ولو تفاوت ذلك لما يكن لهما معاش، وكذلك كل شيء من أعضاء الإنسان، مقدر لما يصلح به معاشه، فجميع المخلوقات حسنة، وإن اختلفت أشكالها وافترقت إلى حسن وأحسن، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤)﴾ وحسنها من جهة المقصد الذي أريد بها، ولذلك قال ابن عباس: ليست القردة بحسنة، ولكنها متقنة محكمة. اهـ.
(١) روح البيان.
338
أيضًا (١): ذلك المدبر لهذه الأمور، هو العالم بما يغيب عن أبصاركم، مما تكنه الصدور وتخفيه النفوس، وما لم يكن بعد مما هو كائن، وبما شاهدته الأبصار وعاينته، وهو الشديد في انتقامه ممن كفر به وأشرك معه غيره وكذب رسله، وهو الرحيم بمن تاب من ضلالته، ورجع إلى الإيمان به وبرسوله، وعمل صالحًا، وهو الذي أحسن خلق الأشياء وأحكمها.
وقرأ زيد بن علي (٢): ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ بخفض الأوصاف الثلاثة، وأبو زيد النحوي: بخفض ﴿الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾، وقرأ الجمهور: برفع الثلاثة على أنها أخبار لذلك، أو الأول خبر والتاليان وصفان له، ووجه الخفض: أن يكون ذلك إشارة إلى الأمر، وهو فاعل بـ ﴿يَعْرُجُ﴾؛ أي: ثم يعرج إليه ذلك؛ أي: الأمر المدبر، ويكون ﴿عَالِمُ﴾ وما بعده: بدلًا من الضمير في ﴿إِلَيْهِ﴾، وفي قراءة أبي زيد النحوي: يكون ﴿ذَلِكَ عَالِمُ﴾: مبتدأ وخبرًا، و ﴿الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ بالخفض بدلًا من الضمير في ﴿إِلَيْهِ﴾.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿خَلَقَهُ﴾ بفتح اللام، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: بإسكانها، فعلى القراءة الأولى، هو فعل ماض نعتًا لـ ﴿شَيْءٍ﴾، فهو في محل جر، وأما على القراءة الثانية ففي نصبه أوجه:
الأول: أن يكون بدلًا من ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾ بدل اشتمال، والضمير عائد إلى ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾، وهذا هو الوجه المشهور عند النحاة.
الثاني: أنه بدل كل من كل، والضمير: راجع إلى الله سبحانه، ومعنى ﴿أَحْسَنَ﴾: حسن؛ لأنه ما من شيء إلا وهو مخلوق على ما تقتضيه الحكمة، فكل المخلوقات حسنة.
الثالث: أن يكون ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾: هو المفعول الأول، و ﴿خَلَقَهُ﴾: هو المفعول الثاني على تضمين ﴿أَحْسَنَ﴾ معنى أعطى، والمعنى: أعطى كل شيء
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
339
خلقه الذي خصه به، وقيل على تضمينه معنى ألهم، قال الفراء: ألهم خلقه كل شيء مما يحتاجون إليه.
الرابع: أنه منصوب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة؛ أي: خلقه خلقًا، كقوله: صنع الله، وهذا قول سيبويه، والضمير يعود إلى الله سبحانه.
والخامس: أنه منصوب بنزع الخافض، والمعنى: أحسن كل شيء في خلقه.
ومعنى الآية: أنه أتقن وأحكم خلق مخلوقاته، فبعض المخلوقات وإن لم تكن حسنة في نفسها، فهي متقنة محكمة، فتكون هذه الآية معناها: معنى أعطى كل شيء خلقه؛ أي: لم يخلق الإنسان على خلق البهيمة، ولم يخلق البهيمة على خلق الإنسان، وقيل: هو عام في اللفظ خاص في المعنى؛ أي: أحسن خلق كل شيء حسن، ذكره الشوكاني.
قال بعضهم (١): لو تصورت مثلًا أن للفيل مثل رأس الجمل، وأن للأرنب مثل رأس الأسد، وأن للإنسان مثل رأس الحمار.. لو جدت في ذلك نقصًا كبيرًا، وعلمت عدم تناسب وانسجام، ولكنك إذا علمت أن طول عنق الجمل، وشق شفته ليسهل تناوله الكلأ عليه أثناء السير، وأن الفيل لولا خرطومه الطويل.. لما استطاع أن يبرك بجمسه الكبير لتناول طعامه وشرابه، لو علمت كل هذا لتيقنت أنه صنع الله الذي أتقن كل شيء، ولقلت: تبارك الله أحسن الخالقين.
ولما ذكر خلق السماوات والأرض.. شرع يذكر خلق الإنسان، فقال: ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ﴾؛ أي: بدأ خلق آدم أبي البشر عليه السلام من بين جميع المخلوقات ﴿مِنْ طِينٍ﴾؛ أي: من تراب، فصار على صورة بديعة وشكل حسن، والطين: التراب والماء المختلط، وقد يسمى بذلك وإن زال عنه قوة الماء، وقد يكون المعنى: إن الطين ماء وتراب مجتمعان، والآدمي أصله: منى، والمني من
(١) أوضح التفاسير.
340
الغذاء، والأغذية إما: حيوانية، وإما نباتية، والحيوانية ترجع إلى النباتية، والنبات وجوده بالماء والتراب، وهو الطين.
وقرأ الجمهور (١): ﴿بدأ﴾ بالهمز، والزهري: بالألف بدلًا من الهمزة، وليس بقياس أن تقول في هذا: هذا، بإبدال الهمزة ألفًا، بل قياس هذه الهمزة التسهيل بين بين، على أن الأخفش حكى في قرأت، قريت ونظائره، وقيل هي لغة الأنصار، تقول في بدأ: بدي، بكسر عين الكلمة وياء بعدها، وهي لغة لطي، فيحتمل أن تكون قراءة الزهري على هذه اللغة، أصله بدا ثم صار بدأ، أو على لغة الأنصار، وقال ابن رواحة:
بِاسْمِ الإِلهِ وَبِهِ بَدَيْنَا وَلَوْ عَبَدْنَا غَيْرَهُ شَقِيْنَا
٨ - ﴿ثُمَّ جَعَلَ﴾ وخلق ﴿نَسْلَهُ﴾؛ أي: نسل الإنسان الذي هو آدم وذريته، ﴿مِنْ سُلَالَةٍ﴾؛ أي: من نطفة مسلولة؛ أي: منزوعة من صلب الإنسان، ثم أبدل منها قوله: ﴿مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾؛ أي: ثم خلق نسل آدم وذريته من ماء ضعيف حقير، أو من ماء ممتهن لا خطر له عند الناس، يخرج من بين الصلب والترائب، وهو المني؛ أي: ثم جعل ذريته يتناسلون كذلك، من نطفة تخرج من بين الصلب والترائب، في كل من الرجل والمرأة، كما دل على ذلك علم الأجنة، وسيأتي إيضاح هذا عند تفسير قوله تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (٧)﴾.
٩ - ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ﴾؛ أي: سوى ذلك النسل وقومه وعدله، بتكميل أعضائه في الرحم، وتصويره على أحسن صورة، وقيل: المعنى: ثم سوى ذلك الإنسان الذي بدأ خلقه من طين، وهو آدم أبو البشر، وعدل خلقه وسوى شكله، وناسب بين أعضائه، ﴿وَنَفَخَ فِيهِ﴾؛ أي: في النسل الذي سواه في الرحم، أو في الإنسان الذي بدأ خلقه من طين، وهو آدم، ﴿مِنْ رُوحِهِ﴾؛ أي: من روح الله سبحانه وتعالى، والإضافة للتشريف والتكريم، وهذه (٢) الإضافة تقوي: أن الكلام في آدم، لا في ذريته، وإن أمكن توجيهه بالنسبة إلى الجميع؛ أي: ونفخ فيه
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
341
روحه، وجعلها تتعلق ببدنه، فيبدأ يتحرك وتظهر فيه آثار الحياة، ثم ينطق ويتكلم، وأضاف الروح إلى نفسه تشريفًا وإظهارًا بأنه خلق عجيب، ومخلوق شريف، وأن له شأنًا له مناسبة إلى حضرة الربوبية، ولأجله قيل: من عرف نفسه فقد عرف ربه.
وفي "الكواشي" جعل فيه الشيء الذي اختص به تعالى، ولذلك أضاف إليه، فصار بذلك حيًا حساسًا، بعد أن ان جمادًا، لا أن ثمة حقيقة نفخٍ. اهـ.
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام (١): الروح: ليس بجسم يحل في البدن حلول الماء في الإناء، ولا هو عرض يحل في القلب أو الدماغ حلول السواد في الأسود، والعلم في العالم، بل هو جوهر لا يتجزأ باتفاق أهل البصائر، فالتسوية عبارة عن فعل في المحل القابل، وهو الطين في حق آدم عليه السلام، والنطفة في حق أولاده، بالتصفية وتعديل المزاج، حتى ينتهي في الصفاء ومناسبة الأجزاء إلى الغاية، فيستعدّ لقبول الروح وإمساكها، والنفخ: عبارة عما اشتعل به نور الروح في المحلل القابل، فالنفخ سبب الاشتعال، وصورة النفخ في حق الله تعالى والمسبب غير محال، فعبر عن نتيجة النفخ وهو الاشتعال بالنفخ.. إلى آخر ما ذكره الشيخ.
فإن قلت (٢): قال هنا بلفظ: ﴿مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ وفي المؤمنين بلفظ ﴿مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ فلم غاير بين الأسلوبين؟
قلت: لأن المذكور هنا صفة ذرية آدم، والمذكور هناك صفة آدم عليه السلام.
ثم خاطب جميع النوع فقال: ﴿وَجَعَلَ﴾؛ أي: خلق ﴿لَكُمُ﴾؛ أي: لمنافعكم يا بني آدم ﴿السَّمْعَ﴾ لتسمعوا الآيات التنزيلية الناطقة بالبعث وبالتوحيد، وإفراد ﴿السَّمْعَ﴾ لكونه مصدرًا يشمل القليل والكثير. ﴿وَالْأَبْصَارَ﴾ لتبصروا الآيات التكوينية المشاهدة فيهما ﴿وَالْأَفْئِدَةَ﴾ لتعقلوا وتستدلوا بها على حقيقة
(١) روح البيان.
(٢) فتح الرحمن.
342
الآيتين، جمع فؤاد بمعنى القلب، لكن إنما يقال: فؤاد: إذا اعتبر في القلب معنى التفؤد؛ أي: التوقد.
﴿قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾؛ أي: تشكرون رب هذه النعم شكرًا قليلًا، على أن القلة بمعنى النفي والعدم، فهو بيان لكفرهم بتلك النعم وربها، وفي قوله: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ﴾ التفات من الغيبة في قوله: ﴿وَنَفَخَ فِيهِ﴾ إلى الخطاب، والنكتة: أن الخطاب إنما يكون مع الحي، فلما نفخ فيه الروح.. حسن خطابه. اهـ. "صاوي".
وخص (١) ﴿السَّمْعَ﴾ بذكر المصدر دون البصر والفؤاد فذكرهما بالاسم، ولهذا جمعا، لأن السمع قوة واحدة، ولها محل واحد، وهو الأذن، ولا اختيار لها فيه، فإن الصوت يصل إليها ولا تقدر على رده، ولا على تخصيص السمع ببعض المسموعات دون بعض، بخلاف الأبصار، فمحلها العين، وله فيه اختيار، فإنها تتحرك إلى جانب المرئي دون غيره، وتطبق أجفانها إذا لم ترد الرؤية لشيء، وكذلك الفؤاد، له نوع اختيار في إدراكه، فيتعقل هذا دون هذا، ويفهم هذا دون هذا.
والمعنى: أي وأنعم عليكم فأعطاكم السمع تسمعون به الأصوات، والأبصار تبصرون بها المرئيات، والأفئدة تميزون بها بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وجاء الترتيب (٢) هكذا بتقديم السمع ثم البصر ثم الفؤاد، لما ثبت من أن الطفل بعد الولادة يسمع ولا يبصر مدى ثلاثة أيام، ثم يبتدىء يبصر، ثم يبتدىء يدرك ويميز، كما هو مشاهد، ثم إن الإنسان قابل هذه النعم بالكفران، إلا من رحم الله تعالى، فقال: ﴿قَلِيلًا﴾؛ أي: شكرًا قليلًا، أو زمانًا قليلًا تشكرون ربكم على هذه النعم، التي أنعم بها عليكم باستعمالها في طاعته، وعمل ما يرضيه، وفي هذا بيان لكفرهم لنعم الله، وتركهم لشكرها، إلا فيما ندر من الأحوال.
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
343
١٠ - ﴿وَقَالُوا﴾؛ أي: وقال (١) كفار مكة، كأبي بن خلف وأضرابه من المنكرين للبعث بعد الموت: ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: أنبعث ويجدد خلقنا إذا متنا وغبنا في الأرض بالدفن فيها، وذهبنا عن أعين الناس، وصرنا ترابًا مخلوطًا بتراب الأرض، بحيث لا نتميز منه؟! و ﴿الهمزة﴾ فيه: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، وذلك المحذوف هو العامل في ﴿إذا﴾، و ﴿الهمزة﴾ في قوله: ﴿أَإِنَّا﴾ لتأكيد الإنكار السابق وتذكيره؛ أي: ﴿أَإِنَّا﴾ ﴿لـ﴾ نبعث ونكون ﴿فِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ بعد موتنا وانعدامنا، ونصير أحياء كما كنا قبل موتنا، يعني هذا منكر عجيب، فإنهم كانوا يقرون بالموت ويشاهدونه، وإنما ينكرون البعث، فالاستفهام الإنكاري متوجه إلى البعث دون الموت، وقد تقدم اختلاف القراء في همزة ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا﴾ والتي بعدها.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿ضللنا﴾ بفتح اللام، والمضارع يضل بكسر عين الكلمة، وهي اللغة الشهيرة الفصيحة، وهي لغة نجد، وقرأ يحيي بن يعمر وابن محيصن وأبو رجاء وطلحة وابن وثاب، بكسر اللام، والمضارع بفتحها، وهي لغة أهل العالية، وقرأ أبو حيوة ﴿ضللنا﴾ بالضاد المنقوطة، وضمها وكسر اللام مشددة، ورويت عن علي، وقرأ علي وابن عباس والحسن والأعمش وأبان بن سعيد بن العاص صللنا بالصاد المهملة وفتح اللام، ومعناه: أنتنّا، وعن الحسن: ﴿صللنا﴾ بكسر اللام، يقال: صل يصل بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع، وصل يصل بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع، وأصل يصل بالهمزة على وزن أفعل، وقال الفراء: معناه صرنا بين الصلة، وهي الأرض اليابسة الصلبة، وقال النحاس: لا نعرف في اللغة: صللنا، ولكن يقال أصل اللحم وصل، وأخم وخم: إذا أنتن، وحكاه غيره.
والمعنى (٣): أي وقال المشركون بالله، المكذبون بالبعث: أئذا صارت
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
لحومنا وعظامنا ترابًا في الأرض، أنبعث خلقًا جديدًا.
وخلاصة مقالهم: استبعاد الإعادة، بأنها كيف تعقل، وقد تمزقت الجسوم، وتفرقت في أجزاء الأرض وهم قد قاسوا قدرة الخالق، الذي بدأهم أول مرة، وأنشأهم من العدم، بقدرة المخلوق العاجز، شتان ما بينهما ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢)﴾.
ثم أضرب (١) وانتقل من بيان كفرهم بالبعث، إلى بيان ما هو أبلغ وأشنع منه، وهو كفرهم بالوصول إلى العاقبة، وما يلقونه فيها من الأهوال، فقال: ﴿بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ﴾؛ أي: ما بهؤلاء المشركين جحود قدرة الله تعالى على ما يشاء فحسب، بل هم تعدوا ذلك إلى الجحود بلقاء ربهم، حذر عقابه، وخوف مجازاته إياهم على معاصيهم، ولقاء الله: عبارة عن القيامة وعن المصير إليه؛ أي: بل هم جاحدون بلقاء ربهم مكابرةً وعنادًا، فإن اعترافهم بأنه المبتدىء للخلق، يستلزم اعترافهم بأنه قادر على الإعادة، فمن أنكر لقاء الله.. لقيه وهو عليه غضبان، ومن أقره.. لقي الله وهو عليه رحمن.
١١ - ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد، بيانًا للحق، وردًا على زعمهم الباطل ﴿يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ﴾؛ أي: يقبض أرواحكم ملك الموت عزرائيل، بحيث لا يترك منها شيئًا، بل يستوفيها، ويأخذها تمامًا على أشد ما يكون من الوجوه وأفظعها، من ضرب وجوهكم وأدباركم، أو يقبض أرواحكم بحيث لا يترك منكم أحدًا، ولا يبقي شخصًا من العدد الذي كتب عليهم الموت، وأما ملك الموت، فيتوفاه الله تعالى، كما روي: "أنه إذا أمات الله الخلائق، ولم يبق شيء له روح.. يقول الله لملك الموت: من بقي من خلقي وهو أعلم فيقول: يا رب أنت أعلم بمن بقي، لم يبق إلا عبدك الضعيف ملك الموت، فيقول الله: يا ملك الموت قد أذقت أنبيائي ورسلي وأوليائي وعبادي الموت، وقد سبق في علمي القديم، وأنا علام الغيوب، أن كل شيء هالك إلا وجهي، وهذه نوبتك، فيقول: إلهي: ارحم
(١) روح البيان.
345
عبدك ملك الموت، والطف به، فإنه ضعيف، فيقول سبحانه وتعالى: ضع يمينك تحت خدك الأيمن، واضطجع بين الجنة والنار ومت فيموت بأمر الله تعالى".
وفي الآية (١): رد على الكافرين، حيث زعموا أن الموت من الأحوال الطبيعية، العارضة للحيوان بموجب الجبلة.
﴿الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾؛ أي: جعل موكلًا بقبض أرواحكم عند حضور آجالكم ﴿ثُمَّ﴾ بعد موتكم ﴿إِلَى رَبِّكُمْ﴾ لا إلى غيره، ﴿تُرْجَعُونَ﴾؛ أي: تبعثون وتردون إلى لقاء ربكم للحساب والمجازاة فيجازيكم بأعمالكم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشرّ.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿ترجعون﴾ مبنيًا للمفعول، وزيد بن علي: مبنيًا للفاعل.
ومعنى الآية: أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: إن ملك الموت الذي وكل بقبض أرواحكم، يستوفي العدد الذي كتب عليه الموت منكم حين انتهاء أجله، ثم تردون إلى ربكم يوم القيامة أحياء كهيئتكم قبل وفاتكم، فيجازي المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته. وفي هذا إثبات للبعث مع تهديدهم وتخويفهم، وإشارة إلى أن القادر على الإماتة، قادر على الإحياء.
فإن قلت (٣): إن الله تعالى أخبر هنا أن ملك الموت هو المتوفي والقابض، وفي آيةٍ أخرى: أن القابض هو الرسل؛ أي: الملائكة، وفي أخرى أنه هو تعالى، فما وجه الجمع بين هذه الآي؟
قلت: يجمع بينها: بأن ملك الموت يقبض الأرواح، والملائكة أعوان له يعالجون ويعملون بأمره، والله تعالى يزهق الروح، فالفاعل لكل فعل حقيقة، والقابض لأرواح جميع الخلائق هو الله تعالى، وأن ملك الموت وأعوانه وسائط.
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
346
قال ابن عطية: إن البهائم كلها يتوفى الله تعالى أرواحها دون ملك الموت، كأنه يعدم حياتها، وكذلك الأمر في بني آدم، إلا أن لهم نوع شرف بتصرف ملك الموت والملائكة معه في قبض أرواحهم. انتهى.
١٢ - والخطاب في قوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ﴾ للرسول - ﷺ -، أو لكل من يصلح له، وقال في "الكواشي": ﴿لو﴾ و ﴿إذ﴾ للماضي ودخلتا على المستقبل هنا؛ لأن المستقبل من فعله تعالى كالماضي، لتحقق وقوعه، و ﴿لو﴾ امتناعية، جوابها: محذوف، والمراد بالمجرمين: هم القائلون: ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا﴾ إلخ، أو عام لكل مجرم، والرؤية بصرية.
والمعئى: ولو ترى يا محمد إذ المجرمون القائلون: ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ...﴾ إلخ.
﴿نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾؛ أي: مطرقوا رؤوسهم ومطأطئوها في موقف العرض على الله من الحياء والحزن والغم.
وقرأ زيد بن علي: ﴿نكسوا رؤوسهم﴾ فعلًا ماضيًا ومفعولًا، وقرأ الجمهور: باسم فاعل مضافًا، حالة كونهم يقولون: ﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا﴾؛ أي: صرنا ممن يبصر ويسمع، وحصل لنا الاستعداد لإدراك الآيات المبصرة والمسموعة، وكنا من قبل عميًّا لا ندرك شيئًا ﴿فَارْجِعْنَا﴾؛ أي: فارددنا إلى الدنيا ﴿نَعْمَلْ﴾ عملًا ﴿صَالِحًا﴾ حسبما تقتضيه تلك الآيات ﴿إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ الآن صدق الرسول، ومؤمنون بك وبكتابك، وجواب ﴿لو﴾: محذوف كما مر، تقديره: لرأيت أمرًا عجيبًا، وشأنًا فظيعًا، فهذا (١) الأمر مستقبل في التحقيق، ماض بحسب التأويل، كأنه قيل: قد انقضى الأمر ومضى، لكنك ما رأيته، ولو رأيته لرأيت أمرًا فظيعًا.
١٣ - قوله: ﴿وَلَوْ شِئْنَا﴾ مقول لقول محذوف، معطوف على قول مقدر قبل قوله: ﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا﴾ تقديره: ونقول ردًا لقولهم ذلك: ولو شئنا؛ أي: ولو تعلقت
(١) روح البيان.
347
مشيئتنا وإرادتنا تعلقًا فعليًا، بأن نعطي كل نفس من النفوس البرة والفاجرة ما تهتدي به إلى الإيمان، والعمل الصالح بالتوفيق لها، ﴿لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾؛ أي: لأعطيناها إياه في الدنيا، التي هي دار الكسب، فلم يكفر منهم أحد، وما أخرنا ذلك الإعطاء إلى دار الجزاء.
قال النحاس في معنى هذا قولان: أحدهما أنه في الدنيا، والآخر أنه في الآخرة؛ أي: ولو شئنا لرددناهم إلى الدنيا. اهـ.
﴿وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي﴾؛ أي: ثبت قضائي، وسبق وعيدي، وهو ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي، لأجعلن نار جهنم ملأى ﴿مِنَ الْجِنَّةِ﴾ بالكسر، جماعة الجن، والمراد: الشياطين وكفار الجن ﴿و﴾ من ﴿النَّاسِ﴾ الذين اتبعوا إبليس في الكفر والمعاصي ﴿أَجْمَعِينَ﴾ يستعمل لتأكيد الاجتماع على الأمر، هذا (١) هو القول الذي وجب من الله، وحق على عباده، ونفذ فيه قضاؤه، فكان مقتضى هذا القول: أنه لا يعطي كل نفس هداها، وإنما قضى عليهم بهذا؛ لأنه سبحانه قد علم أنهم من أهل الشقاوة، وأنهم مما يختار الضلالة على الهدى؛ أي: ولولا ذلك.. لأكرمت كل نفس بالمعرفة والتوحيد.
وقال بعضهم (٢): ﴿وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي﴾؛ أي: سبقت كلمتي حيث قلت لإبليس عند قوله: ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ...﴾ الآية. ﴿لَأَمْلَأَنَّ...﴾ إلخ. وفي "التأويلات النجمية": ﴿وَلَوْ شِئْنَا﴾ في الأزل هدايتكم وهداية أهل الضلالة ﴿لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ بإصابة رشاش النور على الأرواح ﴿وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي﴾ قبل وجود آدم وإبليس ﴿لَأَمْلَأَنَّ﴾ إلخ؛ أي: ولكن تعلقت المشيئة بإغواء قوم، كما تعلقت بإهداء قوم، وأردنا أن يكون للنار قطان، كما أردنا أن يكون للجنة سكان، إظهارًا لصفات لطفنا، وصفات قهرنا؛ لأن الجنة وأهلها مظهر لصفات لطفى، والنار وأهلها مظهر لصفات قهري، وإني فعال لما أريد. انتهى.
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
348
فإن قلت (١): لم قدم الجن على الإنس في قوله: ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾؟
قلت: قدمها لأن المقام مقام تحقير، ولأن الجهنميين منهم أكثر فيما قيل، ولا يلزم من قوله: ﴿أَجْمَعِينَ﴾ دخول جميع الإنس والجن فيها، لأنها تفيد عموم الأنواع لا الأفراد، فالمعنى: لأملأنها من ذينك النوعين جميعًا، كما ذكره بعض المحققين، ورد: بأنه لو قصد ما ذكر.. كان المناسب التثنية دون الجمع، بأن يقول: كليهما، فالظاهر أنها لعموم الأفراد، والتعريف فيهما للعهد، والمراد عصاتهما، ويؤيده قوله في آية أخرى خطابًا لإبليس: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥)﴾، فتأمل.
ومعنى الآيتين: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ...﴾ إلخ؛ أي (٢): ولو ترى أيها الرسول هؤلاء القائلين: أئذا ضللنا في الأرض أننا لفي خلق جديد، ناكسي رؤوسهم عند ربهم، حياءً وخجلًا منه لما سلف منهم، من معاصيهم له في الدنيا، قائلين: ربنا أبصرنا الحشر، وسمعنا قول الرسول، وصدقنا به، فارجعنا إلى الدنيا نعمل صالح الأعمال.. لرأيت أمرًا فظيعًا، وهذا منهم عود على أنفسهم بالملامة إذا دخلوا النار، كما حكى عنهم سبحانه قولهم: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾.
ثم ادعوا اطمئنان قلوبهم حينئذٍ، وقدرتهم على فهم معاني الآيات، والعمل بموجبها، كما حكى الله عنهم بقوله: ﴿إِنَّا مُوقِنُونَ﴾؛ أي: إنا قد أيقنا الآن ما كنا به في الدنيا جهالًا من وحدانيتك، وأنه لا يصلح للعبادة سواك، وأنك تحيي وتميت، وتبعث من في القبور بعد الممات والفناء، وتفعل ما تشاء، ونحو الآية قوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا...﴾ الآية.
﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾؛ أي: ولو أردنا أن نلهم كل نفس ما
(١) الفتوحات.
(٢) المراغي.
349
تهتدي به إلى الإيمان، والعمل الصالح.. لفعلنا، ولكن تدبيرنا للخلق على نظمٍ كاملةٍ كفيلة بمصالحه، قضى أن نضع كل نفس في المرتبة التي هي أهل لها، بحسب استعدادها، كما توضع في الإنسان العين في موضع لا يصلح له الظفر، والإصبع والمعدة في موضع لا يصلح له القلب، وهذا هو المراد من قوله: ﴿وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي﴾ إلخ؛ أي: ولكن سبق وعيدي بملء جهنم من الجنة والناس، الذين هم أهل لها بحسب استعدادهم، ولا يصلحون لدخول الجنة، كما لا يعيش البعوض والذباب إلا في الأماكن القذرة، ليخلص الجو من العفونات، ولو جعلا في القصور النظيفة النقية.. ما عاشا فيها، إذ لا يجدن فيها غذاءً ولا منفعةً لهما.
وهكذا هؤلاء، إذا رأوا العالم المضيء المشرق، والأنوار المتلألئة، والحياة الطيبة في الجنة.. لم يستطيعوا دخولها، وعجزوا عن ذلك، فما مثلهم إلا كمثل السمك، الذي لا يعيش في البر، ومثل ذوات الأربع التي لا تعيش في البحر.
١٤ - فلما بين لهم أنه لا رجوع لهم إلى الدنيا.. أنبهم على ما عملوا من تدسية نفوسهم بفعل المعاصي وترك الطاعة له، فقال: ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾، و ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنه لا رجوع لكم إلى الدنيا، وأردتم بيان مآلكم.. فأقول لكم، ذوقوا. و ﴿الباء﴾: في قوله: ﴿بِمَا نَسِيتُمْ﴾: للسببية، أتى بها (١) إشارةً إلى أنه وإن سبق القول في حق التعذيب، لكنه كان بسبب موجبٍ من جانبهم أيضًا، فإن الله قد علم منهم سوء الاختيار، وذلك السبب هو نسيانهم لقاء هذا اليوم الهائل، وتركهم التفكر فيه، والاستعداد له بالكلية، بالاشتغال باللذات الدنيوية وشهواتها، فإن التوغل فيها يذهل الجن والإنس عن تذكر الآخرة وما فيها، من لقاء الله تعالى، ولقاء جزائه ويسلط عليهم نسيانها، وإضافة اللقاء إلى اليوم، كإضافة
(١) روح البيان.
350
المكر في قوله: ﴿بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ﴾؛ أي: لقاء الله في يومكم هذا.
وقد يعبر بالذوق عما يطرأ على النفس، وإن لم يكن مطعومًا، لإحساسها به كإحساسها بذوق المطعوم؛ أي: فإذا دخلوا النار.. قالت لهم الخزنة: ذوقوها وجربوها بسبب نسيانكم وترككم الاستعداد للقاء ربكم في يومكم هذا، بترك الإيمان والطاعات.
وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى أنكم كنتم في الغفلة، والنائم لا يذوق ألم ما عليه من العذاب ما دام نائمًا، ولكنه إذا انتبه من نومه.. يذوق ألم ما به من العذاب، فالناس نيام، ليس لهم ذوق ما عليهم من العذاب، فإذا ماتوا انتبهوا، فقيل لهم: ذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا.
﴿إِنَّا نَسِينَاكُمْ﴾؛ أي: تركناكم في العذاب ترك المنسي بالكلية، استهانةً بكم، ومجازاةً لما تركتم، وفي "التأويلات النجمية": ﴿إِنَّا نَسِينَاكُمْ﴾ من الرحمة، كما نسيتمونا من الخدمة.
أي (١): فذوقوا العذاب بسبب تكذيبكم بهذا اليوم، واستبعادكم وقوعه، وعملكم عمل من لا يظن أنه راجع إلى ربه فملاقيه، ثم ذكر لهم جزاءهم على فعل المعاصي، فقال: ﴿إِنَّا نَسِينَاكُمْ﴾؛ أي: إنا سنعاملكم معاملة الناسي؛ لأنه تعالى لا ينسى شيئًا، ولا يضل عنه شيء، وهذا أسلوب في الكلام، يسمى أسلوب المشاكلة، ونحوه قوله: ﴿الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ وقوله: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ وقوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾.
﴿وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ﴾؛ أي: ذوقوا وباشروا العذاب المخلد في جهنم، الدائم الذي لا ينقطع أبدًا، فهو من إضافة الموصوف إلى صفته، مثل عذاب الحريق، ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: بسبب الذي كنتم تعملونه في الدنيا من الكفر والمعاصي، وهو تكرير (٢) للأمر للتأكيد وإظهار الغضب عليهم، وتعيين المفعول المطوي للذوق، والإشعار بأن سببه ليس مجرد ما ذكر من النسيان، بل له أسباب
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
351
أخر، من فنون الكفر والمعاصي، التي كانوا مستمرين عليها في الدنيا.
أي: وذوقوا عذابًا تخلدون فيه إلى غير نهاية، بسبب كفركم وتكذيبكم بآيات ربكم، واجتراحكم للشرور والآثام، قال الشوكاني: واختلف (١) في النسيان المذكور، فقيل: هو النسيان الحقيقي، وهو الذي يزول عنده الذكر، وقيل: هو الترك، والمعنى على الأول: أنهم لم يعملوا لذلك اليوم، فكانوا كالناسين له، الذين لا يذكرونه، وعلى الثاني: لا بد من تقدير مضاف قبل لقاء؛ أي: ذوقوا بسبب ترككم لما أمرتكم به عذاب لقاء يومكم هذا، ورجح الثاني المبرد، وكذا قال الضحاك ويحيى بن سلام: إن النسيان هنا بمعنى الترك، قال يحيى بن سلام: والمعنى: بما تركتم الإيمان بالبعث في هذا اليوم، تركناكم من الخير، وقال مجاهد: تركناكم في العذاب. انتهى.
وقال الرازي في "تفسيره": إن (٢) اسم الإشارة في قوله: ﴿بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ يحتمل ثلاثة أوجه: أن يكون إشارة إلى اللقاء، وأن يكون إشارة إلى اليوم، وأن يكون إشارة إلى العذاب. انتهى.
١٥ - وجملة قوله: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا﴾ (٣): مستأنفة لبيان من يستحق الهداية إلى الإيمان، ومن لا يستحقها، تسلية للنبي - ﷺ -؛ أي: إنكم أيها المجرمون لا تؤمنون بآياتنا، ولا تعملون بموجبها عملًا صالحًا، ولو رجعناكم إلى الدنيا كما تدعون حسبما ينطق به قوله تعالى: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾، و ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا﴾ ووعظوا ﴿بِهَا﴾؛ أي: بآياتنا ﴿خَرُّوا﴾ وسقطوا على وجوههم حال كونهم ﴿سُجَّدًا﴾ لله سبحانه وتعالى؛ أي: ساجدين خوفًا من عذاب الله ﴿وَسَبَّحُوا﴾؛ أي: نزهوه تعالى عن كل ما لا يليق به من الشرك والشبه والعجز عن البعث وغير ذلك، حال كونهم ملتبسين ﴿بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ على نعمائه، كتوفيق الإيمان والعمل الصالح وغيرهما.
(١) الشوكاني.
(٢) الرازي.
(٣) الشوكاني.
352
والمعنى: قالوا في سجودهم: سبحان الله وبحمده، أو: سبحان ربي الأعلى وبحمده، وقال سفيان: صلوا حمدًا لربهم، وجملة قوله: ﴿وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾: إما حال من فاعل: ﴿خَرُّوا﴾؛ أي: خروا حال كونهم غير متكبرين عن السجود لله تعالى، كما استكبر أهل مكة، أو عطف (١) على صلة ﴿الَّذِينَ﴾؛ أي: لا يتعظمون عن الإيمان والطاعة، كما يفعل من يصر مستكبرًا كأن لم يسمعها.
وفي "التأويلات النجمية": ﴿وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ عن سجودك، كما استكبر إبليس أن يسجد لك إلى قبلة آدم، ولو سجد لآدم بأمرك.. لكان سجوده في الحقيقة لك، وكان آدم قبلة للسجود، كما أن الكعبة قبلة لنا في سجودنا لك. انتهى.
قال بعضهم: وليس الإنسان بمعصوم عن إبليس في صلاته، إلا في سجوده، لأنه حينئذٍ يتذكر الشيطان معصيته فيحزن، ويشتغل بنفسه، ويعتزل عن المصلي، فالعبد في سجوده معصوم من الشيطان، غير معصوم من النفس، فخواطر السجود، إما ربانية، أو ملكية، أو نفسية، وليس للشيطان عليه من سبيل، فإذا قام من سجوده.. غابت تلك الصفة عن إبليس، فزال حزنه واشتغل بك.

فصل: هذا محل سجود بالاتفاق


وهذه الآية من عزائم سجود القرآن، فيسن السجود عند تلاوتها للقارىء والمستمع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - ﷺ - يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد، ويسجدون حتى ما يجد أحدنا مكانًا لوضع جبهته في غير وقت الصلاة. متفق عليه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إذا قرأ ابن آدم
(١) روح البيان.
353
السجدة فسجد.. اعتزل الشيطان يبكي ويقول: يا ويلتا، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار" أخرجه مسلم.
وينبغي (١) أن يدعو الساجد في سجدته بما يليق بآيتها، ففي هذه الآية يقول: اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك، المسبحين بحمدك، وأعوذ بك من أن أكون من المستكبرين عن أمرك. وكره مالك رحمه الله تعالى قراءة السجدة في قراءة صلاة الفجر جهرًا وسرًا، فإن قرأ هل يسجد؟ فيه قولان، كذا في "فتح الرحمن".
قال في "خلاصة الفتاوى": رجل قرأ آية السجدة في الصلاة، إن كانت السجدة في آخر السورة، أو قريبًا من آخرها، بعدها آية أو آيتان إلى آخر السورة، فهو بالخيار، إن شاء ركع بها ينوي التلاوة، وإن شاء سجد ثم يعود إلى القيام فيختم السورة، وإن وصل بها سورة أخرى كان أفضل، وإن لم يسجد للتلاوة على الفور حتى ختم السورة، ثم ركع سجد لصلاته. سقط عنه سجدة التلاوة. انتهى.
١٦ - وجملة قوله: ﴿تَتَجَافَى﴾؛ أي: ترتفع وتتنحى ﴿جُنُوبُهُمْ﴾؛ أي: أضلاعهم ﴿عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾؛ أي: عن الفرش ومواضع النوم، إما مستأنفة مسوقة لبيان بقية محاسن المؤمنين، أو حال من فاعل ﴿لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾؛ أي: وهم لا يستكبرون عن السجود حالة كون جنوبهم متجافية مبتاعدة عن مضاجعهم للصلاة، وهم (٢) المتهجدون في الليل، الذين يقومون للصلاة عن الفراش، وبه قال الحسن ومجاهد وعطاء والجمهور، والمراد بالصلاة: صلاة التنفل بالليل من غير تقييد، وقال قتادة وعكرمة: هو التنفل ما بين المغرب والعشاء، وقيل: صلاة العشاء فقط، وهو رواية عن الحسن وعطاء، وقال الضحاك: صلاة العشاء والصبح جماعةً، وقيل: هم الذين يقومون لذكر الله، سواء كان في صلاة أو غيرها.
وفي إسناد التجافي إلى الجنوب دون أن يقال: يجافون جنوبهم إشارة إلى
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
354
أن حال أهل اليقظة والكشف، ليس كحال أهل الغفلة والحجاب، فإنهم لكمال حرصهم على المناجاة، ترتفع جنوبهم عن المضاجع حين ناموا بغير اختيارهم، كأن الأرض ألقتهم من نفسها، وأما أهل الغفلة فيتلاصقون بالأرض لا يحركهم محرك.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (١): أنه قال في الآية: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ﴾: كلما استيقظوا.. ذكروا الله عز وجل، إما في الصلاة، وإما في قيام أو قعود أو على جنوبهم، لا يزالون يذكرون الله تعالى.
وجملة قوله: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ حال من ضمير ﴿جُنُوبُهُمْ﴾؛ أي: تتجافى جنوبهم عن المضاجع، حال كونهم يدعون ربهم على الاستمرار ﴿خَوْفًا﴾ من سخطه وعذابه وعدم قبول عبادته منهم ﴿وَطَمَعًا﴾ في رحمته وثوابه، وانتصاب ﴿خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ على العلة، أو على المصدرية بعامل محذوف.
وقوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾؛ أي: ومما أعطيناهم من المال ﴿يُنْفِقُونَ﴾؛ أي: يصرفون في وجوه الخير والحسنات، معطوف على ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ﴾. قال بعضهم (٢): وهذا الإنفاق عام في الواجب والتطوع، وذلك على ثلاثة أضرب: زكاة من نصاب، ومواساة من فضل، وإيثار من قوت.
ومعنى الآيتين (٣): أي ما يصدق بحججنا وآيات كتابنا، إلا الذين إذا وعظوا بها.. خروا لله سجدًا تذللًا واستكانة لعظمته، وإقرارًا بعبوديته، ونزهوه في سجودهم عما لا يليق به، مما يصفه به أهل الكفر، من الصاحبة والولد والشريك، يفعلون ذلك وهم لا يستكبرون عن طاعته، كما يفعل أهل الفسق والفجور حين يسمعونها، فإنهم يولون مستكبرين، كأن لم يسمعونها.
ثم ذكر بقية محاسنهم بقوله: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ﴾ إلخ؛ أي: يتنحون عن
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
355
مضاجعهم التي يضطجعون فيها لمنامهم، فلا ينامون، داعين ربهم خوفًا من سخطه وعذابه، وطمعًا في عفوه عنهم وتفضله عليهم برحمته ومغفرته، ومما رزقناهم من المال، ينفقون في وجوه البر، ويؤدون حقوقه التي أوجبها عليهم فيه.
١٧ - ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ﴾ من النفوس، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلًا عمن عداهم، لأن النكرة في سياق النفي تفيد العموم؛ أي: لا تعلم نفس من النفوس؛ أي: نفس كانت ﴿مَا أُخْفِيَ لَهُمْ﴾؛ أي: ما أخفاه الله سبحانه لأولئك الذين عددت نعوتهم الجليلة من التجافي والدعاء والإنفاق.
والمراد: لا تعلم نفس ما أخفي لهم علمًا تفصيليًا، وإلا فنحن نعلم ما أعد للمؤمنين من النعيم إجمالًا، من حيث إنه غرفٌ في الجنة وقصور وأشجار وأنهار وملابس ومآكل وغير ذلك، ذكره أبو السعود.
ومحل الجملة: نصب بـ ﴿لَا تَعْلَمُ﴾ سدت مسد المفعولين ﴿مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾؛ أي: مما تقر به أعينهم، إذا رأوه، وتسكن به أنفسهم، وتطمئن إليه قلوبهم من النعيم واللذات، التي لم يطلع على مثلها أحد مما يحصل به الفرح.
جوزوا ذلك ﴿جَزَاءً﴾ وفاقًا ﴿بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: بسبب ما كانوا يعملون في الدنيا، من إخلاص النية وصدق الطوية في الأعمال الصالحة، أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم.
روى الشيخان وغيرهما، عن أبي هريرة عن النبي - ﷺ -: "يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" قال أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير والطبراني والحاكم وصححه، عن ابن مسعود قال: إنه لمكتوب في التوراة: لقد أعد الله تعالى للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر،
356
ولا يعلم ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وانه لفي القرآن: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ وهذه عدة عظيمة، لا تبلغ الأفهام كنهها، بل ولا تفاصيلها، وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة، وهي معروفة، فلا نطيل الكلام بذكرها.
وقرأ الجمهور (١): ﴿مَا أُخْفِيَ لَهُمْ﴾، فعلًا ماضيًا مبنيًا للمفعول، وحمزة والأعمش ويعقوب: بسكون الياء، فعلًا مضارعًا للمتكلم، وابن مسعود: ﴿ما نخفى﴾ بنون العظمة، والأعمش أيضًا: ﴿أخفيت﴾ وقرأ محمد بن كعب: ﴿ما أخفي﴾، فعلًا ماضيًا مبنيًا للفاعل، وقرأ الجمهور: ﴿من قرة﴾ على الإفراد، وقرأ عبد الله وأبو الدرداء وأبو هريرة وعوف العقيلي: ﴿من قرات﴾ على الجمع بالألف والتاء، وهي رواية عن أبي جعفر والأعمش.
الإعراب
﴿الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣)﴾.
﴿الم (١)﴾: خبر لمبتدأ محذوف، إن قلنا إنه علم على السورة، تقديره: هذه السورة: ﴿الم (١)﴾؛ أي: مسماة به، والجملة مستأنفة، ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ﴾: مبتدأ، ﴿لَا﴾: نافية للجنس، ﴿رَيْبَ﴾: في محل النصب اسمها، ﴿فِيهِ﴾: خبرها، وجملة ﴿لَا﴾: في محل النصب حال من ﴿الْكِتَابِ﴾، ﴿مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، خبر ﴿تَنْزِيلُ﴾، والجملة: مستأنفة، وهاهنا أعاريب آخر، ضربنا عنها صفحًا، لئلا يطول الكلام، وقد تقدم في أول البقرة ما يشبه هذا. ﴿أَمْ﴾: منقطعة بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري، ﴿يَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة، ﴿افْتَرَاهُ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على محمد ومفعول به، والجملة: في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُونَ﴾. ﴿بَلْ﴾: حرف إضراب إبطال لإبطال قولهم، ﴿هُوَ الْحَقُّ﴾: مبتدأ
(١) البحر المحيط.
357
وخبر، والجملة: مستأنفة استئنافًا بيانيًا، ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾: جار ومجرور حال من ﴿الْحَقُّ﴾، ﴿لِتُنْذِرَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿تنذر﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، ﴿قَوْمًا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية، مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿اللام﴾، تقديره: لإنذارك قومًا، والمفعول الثاني: للإنذار، محذوف، والجار والمجرور: متعلق بمحذوف، تقديره: أنزلناه إليك لتنذر قومًا العقاب، والجملة المحذوفة: مستأنفة. ﴿مَا أَتَاهُمْ﴾: ﴿مَا﴾: نافية. ﴿أَتَاهُمْ﴾: فعل ومفعول به، ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿نَذِيرٍ﴾: فاعل، والجملة: صفة ﴿قَوْمًا﴾، ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾: صفة لـ ﴿نَذِيرٍ﴾، ويجوز أن يتعلق بـ ﴿أَتَاهُمْ﴾، ﴿لَعَلَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يَهْتَدُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿لعل﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾.
﴿اللَّهُ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة، ﴿خَلَقَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الموصول، والجملة: صلة الموصول، ﴿السَّمَاوَاتِ﴾: مفعول به، ﴿وَالْأَرْضَ﴾: معطوف عليه، ﴿وَمَا﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، ﴿بَيْنَهُمَا﴾: ظرف ومضاف إليه، صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، ﴿فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾: متعلق بـ ﴿خَلَقَ﴾. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ، ولكنها هنا بمعنى الواو، ﴿اسْتَوَى﴾: فعل ماض وفاعل مستتر معطوف على ﴿خَلَقَ﴾، ﴿عَلَى الْعَرْشِ﴾: متعلق بـ ﴿اسْتَوَى﴾، ﴿مَا﴾: نافية، ﴿لَكُمْ﴾: خبر مقدم، ﴿مِنْ دُونِهِ﴾: حال من ﴿وَلِيٍّ﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿وَلِيٍّ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿وَلَا شَفِيعٍ﴾: معطوف على ﴿وَلِيٍّ﴾، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من فاعل ﴿خَلَقَ﴾ أو ﴿اسْتَوَى﴾، ﴿أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أفلا تسمعون هذه المواعظ فلا تتذكرون، والجملة المحذوفة: مستأنفة، ﴿لا﴾: نافية، ﴿تتذكرون﴾: فعل وفاعل معطوف على ذلك المحذوف.
358
﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥)﴾.
﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل النصب حال من فاعل ﴿اسْتَوَى﴾، ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُدَبِّرُ﴾، و ﴿مِنَ﴾ للابتداء، ﴿إِلَى الْأَرْضِ﴾: متعلق به أيضًا.. و ﴿إِلَى﴾ للانتهاء، ﴿ثُمَّ يَعْرُجُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿الْأَمْرَ﴾، ﴿إِلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَعْرُجُ﴾، والجملة الفعلية: حال من الأمر، أي: حال كون ذلك الأمر المدبر يرجع إليه، ﴿فِي يَوْمٍ﴾: متعلق بـ ﴿يَعْرُجُ﴾ أيضًا، ﴿كَانَ مِقْدَارُهُ﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿أَلْفَ سَنَةٍ﴾: خبره، وجملة ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿سَنَةٍ﴾، وجملة ﴿تَعُدُّونَ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: مما تعدونه.
﴿ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (٧)﴾.
﴿ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة، ﴿وَالشَّهَادَةِ﴾: معطوف على ﴿الْغَيْبِ﴾. ﴿الْعَزِيزُ﴾: خبر ثان لاسم الإشارة، ﴿الرَّحِيمُ﴾: خبر ثالث له، ﴿الَّذِي﴾: خبر رابع له، ويجوز أن يكون نعتًا لـ ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ﴾، أو رفعه أو نصبه على القطع، ﴿أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الموصول، ومفعول به، والجملة: صلة الموصول، ﴿خَلَقَهُ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل الجر صفة لـ ﴿شَيْءٍ﴾ أو في محل النصب صفة لـ ﴿كُلَّ﴾، وقرىء: خلقه بسكون اللام، فيكون بدل اشتمال من ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾، والضمير عائد على ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾ ﴿وَبَدَأَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، معطوف على ﴿أَحْسَنَ﴾. ﴿خَلْقَ الْإِنْسَانِ﴾: مفعول به، ﴿مِنْ طِينٍ﴾: متعلق بـ ﴿خَلْقَ﴾.
﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (٨)﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ، ﴿جَعَلَ نَسْلَهُ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على
359
الله، ومفعول به معطوف على ﴿بَدَأَ﴾، ﴿مِنْ سُلَالَةٍ﴾: متعلق بـ ﴿جَعَلَ﴾ إن كان بمعنى الخلق، أو في محل نصب على أنه مفعول ثان له، ﴿مِنْ مَاءٍ﴾: صفة لـ ﴿سُلَالَةٍ﴾، ﴿مَهِينٍ﴾ صفة لـ ﴿مَاءٍ﴾.
﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (٩)﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ، ﴿سَوَّاهُ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به معطوف على ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ﴾ إن كان الضمير لـ ﴿الْإِنْسَانِ﴾، أو معطوف على ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ﴾ إن كان الضمير للنسل، ﴿وَنَفَخَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله معطوف على ﴿سَوَّاهُ﴾، ﴿فِيهِ﴾: متعلق بـ ﴿نفخ﴾، ﴿مِنْ رُوحِهِ﴾: متعلق بـ ﴿نفخ﴾ أيضًا، أو مفعوله إن قلنا ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿وَجَعَلَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله معطوف على ﴿نفخ﴾، ﴿لَكُمُ﴾: متعلق بـ ﴿جعل﴾. ﴿السَّمْعَ﴾: مفعول به لـ ﴿جعل﴾، ﴿وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾: معطوفان على ﴿السَّمْعَ﴾، ﴿قَلِيلًا﴾: صفة لمصدر محذوف، أو لظرف محذوف منصوب على المفعولية المطلقة، أو على الظرفية، والعامل فيه: ﴿تَشْكُرُونَ﴾، ﴿مَا﴾: زائدة، زيدت لتأكيد القلة، ﴿تَشْكُرُونَ﴾: فعل وفاعل؛ أي: تشكرون شكرًا قليلًا، أو زمانًا قليلًا، والجملة الفعلية: مستأنفة.
﴿وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١)﴾.
﴿وَقَالُوا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿قالوا﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة، مسوقة لبيان ضروب من أباطيلهم، ﴿أَإِذَا﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، مقدمة على محلها، لأنها داخلة على جواب، ﴿إذا﴾ المقدر، تقديره: إذا ضللنا في الأرض أنبعث، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، مضمن معنى الشرط، ﴿ضَلَلْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه، على كونها فعل شرط لها، والظرف: متعلق بالجواب
360
المحذوف، وجملة ﴿إذا﴾: في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾، ﴿أَإِنَّا﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري أيضًا، ﴿إنا﴾: ناصب واسمه، ﴿لَفِي﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿في خلق﴾: خبر ﴿إن﴾، ﴿جَدِيدٍ﴾: صفة ﴿خَلْقٍ﴾، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾ أيضًا. ﴿بَلْ﴾: حرف إضراب للإضراب الانتقالي من بيان كفرهم بالبعث، إلى ما هو أدل على قبح صنيعهم، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، ﴿بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿كَافِرُونَ﴾. و ﴿كَافِرُونَ﴾: خبرهم، والجملة: مستأنفة، ﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة، ﴿يَتَوَفَّاكُمْ﴾: فعل مضارع ومفعول به، ﴿مَلَكُ الْمَوْتِ﴾: فاعل، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، ﴿الَّذِي﴾: في محل الرفع صفة لـ ﴿مَلَكُ الْمَوْتِ﴾، ﴿وُكِّلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعله: ضمير يعود على الموصول، ﴿بِكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿وُكِّلَ﴾، والجملة: صلة الموصول، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ، ﴿إِلَى رَبِّكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿تُرْجَعُونَ﴾، و ﴿تُرْجَعُونَ﴾: فعل مغير ونائب فاعل معطوف على ﴿يَتَوَفَّاكُمْ﴾ على كونه مقولًا لـ ﴿قُلْ﴾.
﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢)﴾.
﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لو﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿تَرَى﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد، أو على أي مخاطب، ﴿إِذِ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، ﴿الْمُجْرِمُونَ﴾: مبتدأ، ﴿نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ﴾: خبر ومضاف إليه، ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾: حال من الضمير المستكن في ﴿نَاكِسُو﴾، والجملة الاسمية في محل الجر مضاف إليه، والظرف: متعلق بـ ﴿تَرَى﴾ لتحقق وقوعه، ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾، وجعله أبو البقاء مما وقعت فيه، ﴿إِذِ﴾: موقع إذا، و ﴿تَرَى﴾ بصرية، مفعولها محذوف، أغنى عنه المبتدأ، وجواب ﴿لو﴾: محذوف، والتقدير: ولو ترى المجرمين وقت نكوسهم رؤوسهم عند ربهم.. لرأيت أمرًا فظيعًا، وجملة ﴿لو﴾ الشرطية: مستأنفة. ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف، ﴿أَبْصَرْنَا﴾: فعل وفاعل والمفعول محذوف؛ أي: صدق وعدك
361
ووعيدك، ﴿وَسَمِعْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿أَبْصَرْنَا﴾، ومفعوله محذوف؛ أي: تصديق رسلك، وجملة ﴿أَبْصَرْنَا﴾: جواب النداء، وجملة النداء مع جوابه: مقول لقول محذوف، منصوب على الحال من الضمير المستكن في ﴿نَاكِسُو﴾، تقديره: ناكسوا رؤوسهم، حالة كونهم قائلين: ربنا أبصرنا وسمعنا، فارجعنا نعمل صالحًا، ﴿فَارْجِعْنَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة تفريعية، ﴿ارجعنا﴾: فعل دعاء سلوكًا مسلك الأدب مع الباري، مبني على السكون، وفاعله: ضمير يعود على الله، و ﴿نا﴾: ضمير المتكلمين في محل النصب مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة ﴿أَبْصَرْنَا﴾ وإن كانت إنشائية لجوازه، ﴿نَعْمَلْ﴾: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله: ضمير يعود على المتكلمين، ﴿صَالِحًا﴾: مفعول به، ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿مُوقِنُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣)﴾.
﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة لقول محذوف على قول محذوف عند قوله: ﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا﴾؛ أي: يقولون ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا، ونقول لهم: لو شئنا لآتينا كل نفس هداها في الدنيا إلخ، أو استئنافية، ﴿لو﴾: حرف شرط، ﴿شِئْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة؛ فعل شرط ﴿لو﴾، ﴿لَآتَيْنَا﴾: ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لو﴾، ﴿آتينا﴾: بمعنى أعطينا، فعل وفاعل، والجملة: جواب ﴿لو﴾ الشرطية، وجملة ﴿لو﴾ الشرطية: في محل النصب مقول للقول المحذوف، أو مستأنفة، ﴿كُلَّ نَفْسٍ﴾: مفعول أول لـ ﴿أتينا﴾، ﴿هُدَاهَا﴾: مفعول ثانٍ له. ﴿وَلَكِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لكن﴾: حرف استدراك، ﴿حَقَّ الْقَوْلُ﴾: فعل وفاعل، ﴿مِنِّي﴾: متعلق بـ ﴿حَقَّ﴾، أو حال من ﴿الْقَوْلُ﴾: وجملة الاستدراك: معطوفة على جملة ﴿وَلَوْ شِئْنَا﴾، ﴿لَأَمْلَأَنَّ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿أملأن﴾: فعل مضارع في محل الرفع، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد الثقيلة: حرف لا محل لها من الإعراب، وفاعله: ضمير يعود على الله، ﴿جَهَنَّمَ﴾: مفعول به، ﴿مِنَ الْجِنَّةِ﴾: متعلق بـ ﴿أملأن﴾،
362
﴿وَالنَّاسِ﴾: معطوف على ﴿الْجِنَّةِ﴾، ﴿أَجْمَعِينَ﴾: توكيد لـ ﴿الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾، والجملة الفعلية: جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه: في محل الرفع بدل من القول، على كونه فاعلًا محكيًا، لـ ﴿حَقَّ﴾ بدل كل من كل.
﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤)﴾.
﴿فَذُوقُوا﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع، ﴿ذوقوا﴾: فعل أمر وفاعل، والمفعول: محذوف لدلالة ما بعده عليه؛ أي: فذوقوا العذاب، والجملة الفعلية: معطوفة مفرعة على جملة ﴿حَقَّ الْقَوْلُ﴾، ﴿بِمَا﴾: ﴿الباء﴾: حرف جر وسبب، ﴿ما﴾: مصدرية، ﴿نَسِيتُمْ﴾: فعل وفاعل، ﴿لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية: في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿الباء﴾ تقديره: فذوقوا العذاب بسبب نسيانكم لقاء يومكم هذا، الجار والمجرور: متعلق بـ ﴿ذوقوا﴾. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿نَسِينَاكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، ﴿وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَذُوقُوا﴾: مؤكدة لها، ﴿بِمَا﴾: ﴿الباء﴾: حرف جر وسبب، ﴿ما﴾: اسم موصول في محل الجربـ ﴿الباء﴾، ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: بما كنتم تعملونه، والجار والمجرور: متعلق بـ ﴿ذوقوا﴾.
﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥)﴾.
﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر، ﴿يُؤْمِنُ﴾: فعل مضارع، ﴿بِآيَاتِنَا﴾: متعلق به، ﴿الَّذِينَ﴾: فاعل، والجملة: مستأنفة، ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿ذُكِّرُوا﴾: فعل ونائب فاعل، ﴿بِهَا﴾: متعلق بـ ﴿ذُكِّرُوا﴾، والجملة: في محل الخفض بضافة ﴿إِذَا﴾ إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف: متعلق
363
بالجواب، ﴿بِهَا﴾ جار ومجرور متعلقان بـ ﴿ذُكِّرُوا﴾. ﴿خَرُّوا﴾: فعل وفاعل ﴿سُجَّدًا﴾: حال من واو ﴿خَرُّوا﴾، وجملة ﴿خَرُّوا﴾ جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾: صلة الموصول، لا محل لها من الإعراب أيضًا، ﴿وَسَبَّحُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿خَرُّوا﴾، ﴿بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من فاعل ﴿سبحوا﴾؛ أي: يسبحوا حالة كونهم ملتبسين بحمد ربهم، ﴿وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾: ﴿الواو﴾: حالية، ﴿هم﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من فاعل ﴿خَرُّوا﴾ أو معطوفة على صلة ﴿الَّذِينَ﴾.
﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٧)﴾.
﴿تَتَجَافَى﴾: فعل مضارع، ﴿جُنُوبُهُمْ﴾: فاعل، والجملة: مستأنفة مسوقة لبيان بقية خصالهم الحميدة، أو حال من فاعل ﴿سبحوا﴾، ﴿عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾: متعلق بـ ﴿تَتَجَافَى﴾، ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل النصب حال من ضمير ﴿جُنُوبُهُمْ﴾؛ لأن المضاف جزء من المضاف إليه ﴿خَوْفًا وَطَمَعًا﴾: منصوبان، إما: على التعليل، أو على الحال، أو على المصدرية لفعل محذوف؛ أي: يخافون خوفًا، ويطمعون طمعًا، ﴿وَمِمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُنْفِقُونَ﴾، ﴿رَزَقْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد: محذوف؛ أي: ومما رزقناهموه ﴿يُنْفِقُونَ﴾، فعل وفاعل، والجملة: معطوفة على جملة ﴿تَتَجَافَى﴾ على كونها مستأنفة. ﴿فَلَا تَعْلَمُ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية أو فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت الخصال الحميدة المذكورة لهؤلاء، وأردت معرفة جزائهم عند الله تعالى.. فأقول لك: لا تعلم نفس، ﴿لا﴾: نافية، ﴿تَعْلَمُ نَفْسٌ﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، أو مستأنفة؛ ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، لـ ﴿تَعْلَمُ﴾؛ لأن علم هنا بمعنى عرف، ﴿أُخْفِيَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير يعود على ﴿ما﴾، والجملة: صلة الموصول، ﴿لَهُمْ﴾؛ متعلق بـ ﴿أُخْفِيَ﴾، ﴿مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾: جار ومجرور حال من
364
نائب فاعل ﴿أُخْفِيَ﴾. ﴿جَزَاءً﴾: مفعول مطلق لفعل محذوف، تقديره: جوزوا ذلك جزاءً، والجملة المحذوفة: مستأنفة على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة، ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿جَزَاءً﴾، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿كان﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: يعملونه.
التصريف ومفردات اللغة
﴿افْتَرَاهُ﴾؛ أي: افتعله واختلقه من عند نفسه.
﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾: التدبير: التفكر في دبر الأمور، والنظر في عاقبتها، وهو بالنسبة إليه تعالى التقدير: وتهيئة الأسباب، وله تعالى مدبرات سماوية كما قال: ﴿فالمدبرات أمرًا﴾.
والمعنى: يدبر الله تعالى أمر الدنيا بأسباب سماوية من الملائكة وغيرها. وأضاف التدبير إلى ذاته، إشارة إلى أن تدبير العباد عند تدبيره لا أثر له.
﴿ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ﴾ العروج: ذهاب في صعود، من عرج بفتح الراء، يعرج بضمها، من باب نصر، إذا صعد؛ أي: يصعد ذلك الأمر إليه تعالى، ويثبت في علمه موجودًا بالفعل.
﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ وهذا اليوم هو عبارة عن زمان يتقدر بألف سنة، وليس المراد به مسمى اليوم الذي هو مدة النهار بين ليلتين، والعرب قد تعبر عن المدة باليوم، كما قال الشاعر:
يَوْمَانِ يَوْمُ مَقَامَاتٍ وَأَنْدِيَةٍ وَيوْمُ سَيْرٍ إِلَى الأَعْدَاءِ تَأْوِيْبُ
فإن الشاعر لم يرد يومين مخصوصين، وإنما أراد أن زمانهم شطرين، فعبر عن كل واحد من الشطرين بيوم.
﴿الْغَيْبِ﴾: ما غاب عن الخلق.
365
﴿وَالشَّهَادَةِ﴾: ما شوهد لهم.
﴿الْعَزِيزُ﴾: الغالب على أمره، الذي لا يغالب على ما أراده.
﴿الرَّحِيمُ﴾: المنعم على عباده.
﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾: قال الراغب: الإحسان: يقال على وجهين:
أحدهما: الإنعام على الغير، يقال: أحسن إلى فلان.
والثاني: إحسان من فعله، وذلك إذا علم علمًا حسنًا، أو عمل عملًا حسنًا، وعلى هذا قول أمير المؤمنين - رضي الله عنه -: الناس على ما يحسنون؛ أي: منسوبون إلى ما يعلمون من الأفعال الحسنة. انتهى.
﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ﴾؛ أي: خلق آدم أبي البشر عليه السلام.
﴿مِنْ طِينٍ﴾: الطين: التراب والماء المختلط.
﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ﴾؛ أي: ذريته، سميت به لأنها تنسل من الإنسان؛ أي: تنفصل، كما قال في "المفردات": النسل الانفصال من الشيء، والنسل: الولد، لكونه ناسلًا عن أبيه. انتهى.
﴿مِنْ سُلَالَةٍ﴾؛ أي: من نطفة مسلولة؛ أي: منزوعة من صلب الإنسان.
﴿مَهِينٍ﴾؛ أي: ضعيف حقير، كما في "القاموس".
﴿ثُمَّ سَوَّاهُ﴾؛ أي: قوم النسل بتكميل أعضائه في الرحم وتصويرها على ما ينبغي.
﴿وَالْأَفْئِدَةَ﴾: جمع فؤاد، بمعنى: القلب، لكن إنما يقال: فؤاد، إذا اعتبر في القلب معنى التفؤد؛ أي: التوقد، كما مرّ.
﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ﴾: قال في "القاموس": ضل صار ترابًا وعظامًا وخفي وغاب. انتهى. وأصله: ضل الماء في اللبن: إذا غاب وهلك.
والمعنى: هلكنا وصرنا ترابًا مخلوطًا بتراب الأرض، بحيث لا يتميز منه،
366
أو غبنا فيه بالدفن، وذهبنا عن أعين الناس.
﴿يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ﴾: التوفي: أخذ الشيء تامًا وافيًا، واستيفاء العدد، قال في "الصحاح": توفاه الله: قبض روحه، والوفاة: الموت، والملك: جسم لطيف نوراني، يتشكل بأشكال مختلفة، قال بعض المحققين: المتولي من الملائكة شيئًا من السياسة، يقال له: ملك بالفتح، ومن البشر يقال له: ملك بكسر اللام، فكل ملك ملائكة، وليس كل ملائكة ملكًا، بل الملك هم المشار إليهم بقوله: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ﴾، ﴿فَالْمُقَسِّمَاتِ﴾، ﴿وَالنَّازِعَاتِ﴾: ونحو ذلك، ومنه ملك الموت. انتهى. والموت: صفة وجودية، خلقت ضدًا للحياة.
﴿الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ التوكيل: أن تعتمد على غيرك، وتجعله نائبًا عنك، والتوكل: أن تكون نائبًا عن غيرك.
فائدة في التفعل والاستفعال: قال الزمخشري: والتوفي: استيفاء النفس، وهي الروح، قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ﴾.
وإن قلت: كيف نفسر التوفي بالاستيفاء؟
قلت: إنه معلوم أن التفعل فيما يلي:
١ - مطاوعة الرباعي المضعف، نحو نبهته فتنبه، وجمعته فتجمع، وكسرته فتكسر، وقطعته فتقطع.
٢ - التكلف: نحو تصبر وتكرم وتشجع؛ أي: تكلف الصبر والكرم والشجاعة.
٣ - الاتخاذ: نحو توسد ذراعه؛ أي: اتخذه وسادةً، وتورك البعير؛ أي: اتخذ وركه مطية، وتبنيت يوسف؛ أي: اتخذته ابنًا.
٤ - التجنب: نحو تأثم؛ أي: تجنب الإثم، وتهجد؛ أي: تجنب الهجود وهو النوم، وتذمم؛ أي: تجنب الذم.
٥ - التدريج: نحو تحفظت الدرس؛ أي: حفظته قسمًا بعد قسم، وتجرعت
367
الدواء؛ أي: أخذته جرعةً.
٦ - الصيرورة: نحو تأيمت المرأة؛ أي: صارت أيمًا؛ أي: لا زوج لها.
٧ - الطلب نحو تعجل الشيء؛ أي: طلب عجلته، وتبينه؛ أي: طلب بيانه.
٨ - الانتساب نحو تبدى؛ أي: انتسب إلى البادية.
وأشهر معاني الاستفعال ما يأتي:
١ - الطلب: نحو استقدمت فلانًا؛ أي: طلبت قدومه، واستخرجت حل المسألة؛ أي: حصلت عليه بعد طلبٍ.
٢ - الصيرورة: نحو استحجر الطين؛ أي: صار حجرًا، واستنوَق الجمل؛ أي: صار كالناقة، واسترجلت المرأة؛ أي: صارت كالرجل.
٣ - النسبة: نحو استوصبت رأيه؛ أي: أي نسبت إليه الصواب، واستقبحت فعله؛ أي: نسبت إليه القبح.
٤ - اختصار اللفظ: نحو استرجع القوم؛ أي: قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون.
٥ - القوة: نحو استهتر؛ أي: اشتد هتاره، واستكبر؛ أي: قوي كبره، وقد تأتي هذه الصيغة بمعنى أفعل، نحو استجاب بمعنى أجاب، وقد تكون مطاوعًا له، نحو أحكمت البناء، فاستحكم، وأقمت اعوجاجه فاستقام.
﴿نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ﴾ النكس: قلب الشيء على رأسه؛ أي: مطرقوا رؤوسهم.
﴿خَرُّوا سُجَّدًا﴾ قال في المفردات: خر الشيء إذا سقط سقوطًا، وسمع منه خرير، والخرير: يقال لصوت الماء والريح وغير ذلك مما يسقط من العلو، فاستعمال الخرور في الآية تنبيه على اجتماع أمرين: السقوط، وحصول الصوت منهم بالتسبيح، وقوله: بعد ﴿وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ تنبيه على أن ذلك الخرير كان تسبيحًا بحمد الله، لا شيئًا آخر. انتهى.
368
﴿تَتَجَافَى﴾ التجافي:
النبوّ والبعد. أخذ من الجفاء، فإن من لم يوافقك فقد جافاك، وتجنب وتنحى عنك.
﴿جُنُوبُهُمْ﴾: جمع جنب، وهو شق الإنسان وغيره.
﴿عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾: جمع مضجع، كمقعدٍ، بمعنى: موضع الضجوع؛ أي: وضع الجنب على الأرض، قال عبد الله بن رواحة:
وَفِيْنَا رَسوْلُ اللهِ يَتْلُوْ كِتَابَهُ إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوْفٌ مِنْ الصُّبْحِ سَاطِعُ
أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوْبُنَا بِهِ مُوْقِنَاتٌ مَا إِذَا قَالَ وَاقِعُ
يَبِيْتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ إِذَا اسْتَثْقَلَتَ بِالْمُشْرِكِيْنَ الْمَضَاجِعُ
﴿مَا أُخْفِيَ لَهُمْ﴾؛ أي: خبىء لهم.
﴿مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾: القرة: بمعنى اسم الفاعل؛ أي: ما يحصل به القرير؛ أي: الفرح والسرور؛ أي: من شيء نفيس تقربه أعينهم وتسر.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿تنذر﴾ - و ﴿نَّذِيرٍ﴾.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾. وفي قوله: ﴿أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾.
ومنها: إطلاق المعين، وإرادة المطلق، في قوله: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ﴾ لأن المراد هنا: مطلق المدة، لا اليوم الذي هو بين ليلتين.
ومنها: الطباق بين ﴿الْغَيْبِ﴾ ﴿وَالشَّهَادَةِ﴾، وبين ﴿خَوْفًا﴾ ﴿وَطَمَعًا﴾.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ﴾: مثل ناقة الله، وبيت الله، إظهارًا بأنه خلق عجيب ومخلوق شريف.
ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ﴾ والأصل وجعل له السمع، والنكتة: أن الخطاب إنما يكون مع الحي، فلما نفخ
369
تعالى الروح فيه.. حسن خطابه مع ذريته.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ وغرضهم: الاستهزاء والاستبعاد.
ومنها: الإضمار في قوله: ﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا﴾؛ أي: يقولون: ربنا أبصرنا وسمعنا.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ﴾ لأن المتوفي حقيقة: هو الله سبحانه وتعالى.
ومنها: الاختصاص في قوله: ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾؛ أي: إليه لا إلى غيره مرجعكم يوم القيامة.
ومنها: حذف جواب ﴿لو﴾ للتهويل، في قوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ﴾؛ أي: لرأيت أمرًا مهولًا.
ومنها: العدول عن الجملة الفعلية إلى الاسمية، في قوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ﴾ حيث لم يقل ولو ترى إذ ينكس المجرمون رؤوسهم، عدل عن الفعلية إلى الاسمية، لتقرير ثباتهم على نكس رؤوسهم، خجلًا وحياءً وخزيًا عندما تبدو مثالبهم، وهناتهم بصورة دميمة شوهاء، تبعث على الهزء بهم، والسخرية منهم، كأنما استمر ذلك منهم لا يرتفع لهم رأس، ولا يمتد منهم طرف.
وكذلك عدل عن الفعلية إلى الاسمية المؤكدة في قوله: ﴿إِنَّا مُوقِنُونَ﴾؛ أي: إنهم ثابتون على الإيقان، راغبون فيه، بعد أن ظهرت لهم المغاب، مناديةً عليهم بالويل والثبور.
ومنها: المشاكلة في قوله: ﴿بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ﴾ وهي الاتفاق في اللفظ، مع الاختلاف في المعنى؛ لأن الله سبحانه لا ينسى ولا يذهل، وإنما المعنى: نترككم في العذاب ترك الشيء المنسي المرمي ظهريًا.
ومنها: التهكم في قوله: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ لأن الذوق حقيقة في الشيء اللذيد.
370
ومنها: التكرار في قوله: ﴿وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ﴾ للتأكيد والتشديد، ولتبيين المفعول المطوي للذوق الأول، وللإشعار بأن سببه ليس مجرد النسيان، بل له أسباب أخر من فنون الكفر والمعاصي التي كانوا مستمرين عليها في الدنيا.. اهـ. "أبو السعود".
ومنها: الكناية عن كثرة العبادة والتبتل ليلًا في قوله: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ﴾ حيث أسند التجافي إلى الجنوب، ولم يقل يجافون جنوبهم، إشارةً إلى أن حال أهل اليقظة ليس كحال أهل الغفلة، فإنهم لكمال حرصهم على المناجاة، ترتفع جنوبهم عن المضاجع حين ناموا بغير اختيارهم كأن الأرض ألقتهم من نفسها، وأما أهل الغفلة فيتلاصقون بالأرض لا يحركهم محرك، كما سبق.
ومنها: إضافة الموصوف إلى صفته للتأكيد، في قوله: ﴿عَذَابَ الْخُلْدِ﴾ مثل عذاب الحريق؛ لأن المعنى العذاب المخلد.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ﴾ لقصد العموم؛ أي: أي نفس كانت من ملك مقرب، ونبي مرسل.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا﴾؛ أي: ما يؤمن بآياتنا إلا الذين إذا ذكروا بآيات ربهم إلخ.
ومنها: حذف العامل في قوله: ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ لقصد الإيجاز؛ أي: جوزوا جزاءً بما كانوا إلخ.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
371
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين (١) حال المجرمين والمؤمنين.. عطف على ذلك سؤال العقلاء: هل يستوي الفريقان؛ وبين أنهما لا يستويان، ثم فصل ذلك ببيان مآل كل منهما يوم القيامة.
قوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر في أول السورة الرسالة والتوحيد والبعث.. عاد في آخرها إلى ذكرها مرةً أخرى.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أن
(١) المراغي.
372
الله سبحانه لما ذكر الرسالة في قوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ...﴾ أعاد هنا ذكر التوحيد، مع ذكر البرهان عليه بما يرونه من المشاهدات التي يبصرونها.
قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما أثبت الرسالة والتوحيد فيما سبق.. عطف على ذلك ذكر الحشر، وبذلك صار ترتيب آخر السورة متناسقًا مع ترتيب أولها، فقد ذكر الرسالة في أولها بقوله: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا﴾ وفي آخرها بقوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ وذكر التوحيد في أولها بقوله: ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ وفي آخرها بقوله: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾ وقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ﴾ وذكر الحشر في أولها بقوله: ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ﴾ وفي آخرها بقوله: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ﴾.
أسباب النزول
﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه الواحدي، وابن عساكر، عن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال: الوليد بن عقبة بن أبي معيط لعلي بن أبي طالب: أنا أحد منك سنانًا، وأنشط منك لسانًا، وأملأ للكتيبة منك، فقال له علي: اسكت، فإنما أنت فاسق فنزلت: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (١٨)﴾.
وأخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار مثله.
وأخرج ابن عدي، والخطيب في "تاريخه" من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس مثله.
وأخرج الخطيب وابن عساكر، من طريق ابن لهيعة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس: أنها نزلت في علي بن أبي طالب وعقبة بن أبي معيط، وذلك في سباب كان بينهما، كذا في هذه الرواية: أنها نزلت في عقبة بن الوليد لا الوليد.
قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما
(١) لباب النقول.
373
أخرجه ابن جرير عن قتادة، قال الصحابة: إن لنا يومًا يوشك أن نستريح فيه وننعم، فقال المشركون: ﴿مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، فنزلت هذه الآية.
التفسير وأوجه القراءة
١٨ - ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا﴾؛ أي: مصدقًا في إيمانه، كعلي بن أبي طالب وأضرابه ﴿كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا﴾ أي: كافرًا منافقًا في إيمانه كالوليد بن عقبة بن أبي معيط وأضرابه. وفي "السمين" أنه - ﷺ - كان يتعمد الوقف على قوله: ﴿فَاسِقًا﴾ ويبتدىء بقوله: ﴿لَا يَسْتَوُونَ﴾؛ أي: الفريقان: المؤمنون والفاسقون في الدنيا بالطاعة، وفي الآخرة بالثواب والكرامة عند الله تعالى، وكان بينهما كلام وتنازع، حتى قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: يا فاسق، وفي "الكرخي": ﴿لَا يَسْتَوُونَ﴾؛ أي: شرفًا ومثوبةً، والضمير في ﴿يَسْتَوُونَ﴾ لمن الواقعة على الفريقين، وفيه مراعاة لمعنى ﴿من﴾ بعد مراعاة لفظها.
وعبارة "أبي السعود": قوله: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا﴾... إلخ. الهمزة فيه: للإنكار، داخلة على مقدر؛ أي: أفبعدما بينهما من التفاوت والتباين، يتوهم كون المؤمن من الذي حكيت أوصافه، كالفاسق الذي ذكرت أحواله، لا، والتصريح بقوله: ﴿لَا يَسْتَوُونَ﴾ مع إفادة الإنكار، لنفي المساواة على أبلغ وجه وآكده للتأكيد، وليبني عليه التفصيل الآتي. انتهت.
فالاستفهام للإنكار؛ أي: ليس المؤمن كالفاسق، فقد ظهر ما بينهما من التفاوت، ولهذا قال: ﴿لَا يَسْتَوُونَ﴾، ففيه زيادة تصريح لما أفاده الإنكار الذي أفاده الاستفهام، قال الزجاج: جعل الاثنين جماعة حيث قال: ﴿لَا يَسْتَوُونَ﴾ لأجل معنى ﴿من﴾، وقيل: لكون الاثنين أقل الجمع.
والمعنى: أي فهذا الكافر المكذب وعد الله ووعيده، المخالف أمره ونهيه، كهذا المؤمن بالله، المصدق ووعده ووعيده، المطيع لأمره ونهيه، كلا، لا يستوون عند الله، ولا يتعادل الكفار به والمؤمنون.
وخلاصة ذلك: أبعد ظهور ما بينهما من تفاوت بين، يظن أن المؤمن الذي حكيت أوصافه، كالكافر الذي ذكرت قبائح أعماله؟ كلا، إن الفصل بينهما لا يخفى على ذي عينين.
ونحو الآية قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٢١)﴾ وقوله: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨)﴾. وقوله:
١٩ - ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ الآية.
وبعد أن نفى استواءهما، أتبعه بذكر حال كل منهما على سبيل التفصيل، فقال: ﴿أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله وصدقوهما ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾؛ أي: عملوا الأعمال الصالحة، بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، ﴿فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى﴾؛ أي: مساكن فيها البساتين والدور والغرف العالية.
وفي "الإرشاد" (١) أضيفت الجنة إلى المأوى؛ لأنها الفتاوى الحقيقي، وإنما الدنيا منزل مرتحل عنه لا محالة، ولذلك سميت قنطرةً؛ لأنها معبر للآخرة لا مقر، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: جنة المآوى كلها من الذهب، وهي إحدى الجنان الثمان، التي هي دار الجلال، ودار القرار، ودار السلام، وجنة عدن، وجنة المأوى، وجنة الخلد، وجنة الفردوس، وجنة النعيم.
وقرأ الجمهور: ﴿جَنَّاتُ﴾ بالجمع.
حالة كون تلك الجنات ﴿نُزُلًا﴾، لهم؛ أي: ثوابًا وأجرًا يكرمون به، كما يكرم الضيف بما يعد له من الطعام النفيس، والنزل، بضمتين في الأصل: ما يعد للنازل والضيف من طعام وشراب، كما سيأتي، ثم صار عامًا في كل عطاء؛ أي: فلهم جنات المأوى ﴿بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: بسبب أعمالهم الحسنة، التي عملوها في الدنيا نزلًا وجزاءً لهم عليها.
(١) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿نزلا﴾ بضم الزاي، وأبو حيوة: بإسكانها، والنزل: عطاء النازل، ثم صار عامًا فيما يعد للضيف
٢٠ - ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا﴾؛ أي: خرجوا عن دائرة الإيمان والطاعة، بإيثار الكفر والمعصية عليهما، ﴿فَمَأْوَاهُمُ﴾؛ أي: منزلهم ومقرهم ومرجعهم، الذين يصيرون إليه، ويستقرون فيه هو ﴿النَّارُ﴾ بدل جنات المأوى للمؤمنين ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا﴾؛ أي: من النار. ﴿أُعِيدُوا فِيهَا﴾؛ أي: في النار بمقامع الحديد؛ أي: إذا أرادوا الخروج منها.. ردوا إليها راغمين مكرهين، وهذا عبارة عن الخلود فيها، فإنه لا خروج ولا إعادة في الحقيقة، وقيل: إذا دفعهم اللهب إلى أعلاها.. ردوا إلى مواضعهم، ويروى: أنه يضربهم لهيب النار، فيرتفعون إلى طبقاتها، حتى إذا قربوا من بابها، وأرادوا أن يخرجوا منها.. يضربهم لهيب النار، أو تتلقاهم الملائكة بمقامع، فتضربهم فيهوون إلى قعرها سبعين خريفًا، وهكذا يفعل بهم أبدًا، وكلمة ﴿في﴾ للدلالة على أنهم مستقرون فيها، وإنما الإعادة من بعض طبقاتها إلى بعض.
﴿وَقِيلَ لَهُمْ﴾ والقائل (٢) لهم هذه المقالة، هم خزنة جهنم من الملائكة، أو القائل لهم هو الله سبحانه جلّ وعلا، وفي هذا القول لهم، حال كونهم قد صاروا في النار من الإغاظة ما لا يخفى؛ أي: وقيل لهم إهانةً وتشديدًا عليهم، وزيادة في غيظهم: ﴿ذُوقُوا﴾ وباشروا ﴿عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ﴾؛ أي: بعذاب النار ﴿تُكَذِّبُونَ﴾ على الاستمرار في الدنيا، وتقولون: لا جنة ولا نار.
قال في "برهان القرآن": قال هنا (٣): ﴿عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ﴾. وقال في سبأ: ﴿عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا﴾ لأن النار في هذه السورة، وقعت موقع الكناية، لتقدم ذكرها، والكنايات لا توصف بوصف العذاب، وفي سبأ لم يتقدم ذكر النار، فحسن وصف النار، وهذه لطيفة فاحفظها. انتهى.
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
(٣) برهان القرآن.
وقال في "فتح الرحمن" (١) ذكر الوصف والضمير هنا، نظرًا للمضاف، وهو، العذاب، وأنثهما ثم نظرًا للمضاف إليه، وهو: النار، وخص ما هنا بالتذكير؛ لأن النار وقعت موقع ضميرها لتقدم ذكره، والضمير لا يوصف، فناسب التذكير، وفي سبأ لم يتقدم ذكر النار، ولا ضميرها فناسب التأنيث. انتهى.
٢١ - ثم بين أن عذاب الآخرة له مقدمات في الدنيا؛ لأن الذنب مستوجب لنتائجه عاجلًا أو آجلًا، فقال: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ﴾؛ أي: أهل مكة ﴿مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى﴾؛ أي (٢): الأقرب، وهو عذاب الدنيا، وهو ما محنوا به من القحط سبع سنين، بدعاء النبي - ﷺ -، حين بالغوا في الأذية، حتى أكلوا الجيف والجلود والعظام المحترقة والعلهز، وهو الوبر والدم، بأن يخلط الدم بأوبار الإبل ويشوى على النار، وصار الواحد منهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان، وكذا ابتلوا بمصائب الدنيا وبلاياها، مما فيه تعذيبهم، حتى آل أمرهم إلى القتل والأسر يوم بدر، ﴿دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ﴾؛ أي: قبل العذاب الأكبر، الذي هو عذاب الآخرة، فـ ﴿دُونَ﴾ بمعنى قبل. ﴿لَعَلَّهُمْ﴾؛ أي: لعل من بقي منهم وشاهده، ولعل في مثل هذا بمعنى كي ﴿يَرْجِعُونَ﴾ ويتوبون عما هم فيه من الكفر والمعاصي، بسبب ما ينزل بهم من العذاب إلى الإيمان والطاعة، ويتوبون عما كانوا فيه.
والمعنى: أي وعزتي وجلالي (٣)، لنبتلينهم بمصائب الدنيا وأسقامها وآفاتها، من المجاعات والقتل، ونحو ذلك، عظةً لهم، ليقلعوا عن ذنوبهم قبل العذاب الأكبر، وهو عذاب يوم القيامة.
٢٢ - ثم ذكر حال من قابل آيات الله بالإعراض، بعد بيان حال من قابلها بالسجود والتسبيح والتحميد فقال: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ الاستفهام: إنكاري، بمعنى
(١) فتح الرحمن.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
النفي؛ أي: لا أحد أشد ظلمًا ﴿مِمَّنْ ذُكِّرَ﴾ ووعظ ﴿بِآيَاتِ رَبِّهِ﴾؛ أي: بالقرآن، ﴿ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا﴾؛ أي: عن تلك الآيات، فلم يتفكر فيها، ولم يقبلها، ولم يعمل بموجبها، بل تناساها كأنه لا يعرفها، لكونه سمع من آيات الله ما يوجب الإقبال على الإيمان والطاعة، فجعل الإعراض مكان ذلك.
والإتيان (١) بـ ﴿ثُمَّ﴾ لاستبعاد الإعراض عنها، مع غاية وضوحها، وإرشادها إلى سعادة الدارين، كقولك لصاحبك: دخلت المسجد، ثم لم تصل فيه، استبعادًا لتركه الصلاة فيه.
والمعنى: هو أظلم من كل ظالم، وإن كان سبك التركيب على نفي الأعظم من غير تعرض لنفي المساوي.
ثم بين جزاءه على ذلك فقال: ﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾؛ أي: من كل من اتصف بإجرام، وإن هانت جريمته ﴿مُنْتَقِمُونَ﴾ بالعذاب، فكيف من كان أظلم من كل ظالم، وأشد جرمًا من كل مجرم، يقال: انتقمه: إذا عاقبه على جريمته؛ أي: إنا سننتقم أشد الانتقام من الذين اجترحوا السيئات، واكتسبوا الآثام والمعاصي، روى ابن جرير بسنده عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "ثلاث من فعلهن.. فقد أجرم، من عقد لواءً في غير حق، أو عقّ والديه، أو مشى مع ظالم لينصره، يقول الله: ﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾ ".
واعلم: أن الظلم أقبح الأمور، ولذلك حرمه الله على نفسه، فينبغي للعاقل أن يتعظ بمواعظ الله، ويتخلق باخلاقه، ويجتنب عن أذية الروح - بموافقة النفس والطبيعة - وأذية عباد الله تعالى.
٢٣ - ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾؛ أي: التوراة؛ أي: وعزتي وجلالي لقد آتينا وأعطينا موسى بن عمران التوراة، كما آتيناك القرآن ﴿فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ﴾؛ أي: في شك ﴿مِنْ لِقَائِهِ﴾؛ أي (٢): من لقائك موسى عليه السلام ليلة المعراج، قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
(١) روح البيان.
(٢) الخازن.
378
وقرأ الحسن: ﴿فِي مِرْيَةٍ﴾ بضم الميم، ذكره أبو حيان.
عن ابن عباس عن النبي - ﷺ - قال: "رأيت ليلة أسري بي موسى رجلًا آدم طوالًا جعدًا، كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى رجلًا مربوعًا، مربوع الخلق، إلى الحمرة وإلى البياض، سبط الشعر، ورأيت مالكًا خازن النار، والدجال في آيات أراهن الله إياه، فلا تكن في مرية من لقائه". متفق عليه.
وعن أنس أن رسول الله - ﷺ - قال: "أتيت على موسى ليلة أسري بي، عند الكثيب الأحمر، وهو قائم يصلي في قبره". أخرجه مسلم.
فإن قلت: قد صحّ في حديث المعراج: أنه رآه في السماء السادسة عند مراجعته في الصلوات، فكيف الجمع بين هذين الحديثين؟
قلت: يحتمل أن تكون رؤيته في قبره عند الكثيب الأحمر كان قبل صعوده إلى السماء، وذلك في طريقه إلى بيت المقدس، ثم لما صعد إلى السماء السادسة.. وجده هناك قد سبقه لما يريد الله عزّ وجل، وهو على كل شيء قدير.
فإن قلت: كيف تصح منه الصلاة في قبره وهو ميت، وقد سقط عنه التكليف وهو في دار الآخرة، وليست دار عمل؟ وكذلك رأى النبي - ﷺ - جماعة من الأنبياء وهم يحجون، فما الجواب عن هذا؟
قلت: يجاب عنه بأجوبة:
منها: أن الأنبياء كالشهداء، بل هم أفضل منهم، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، فلا يبعد أن يحجوا أو يصلوا كما صح في الحديث، وأن يتقربوا إلى الله بما استطاعوا، وإن كانوا قد ماتوا، لأنهم بمنزلة الأحياء في هذه الدار، التي هي دار العمل، إلى أن تفنى، ثم يرحلون إلى دار الجزاء، التي هي الجنة.
ومنها: أنه - ﷺ - رأى حالهم الذي كانوا عليه في حياتهم، ومثلوا له كيف كانوا، وكيف كان حجهم وصلاتهم.
ومنها: أن التكليف وإن ارتفع عنهم في الآخرة، لكن الذكر والشكر
379
والدعاء لا يرتفع، قال الله تعالى: ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ﴾ إلى غير ذلك.
وقيل: معنى ﴿فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ﴾؛ أي (١): من تلقي موسى كتاب الله بالرضا والقبول، وعبارة النسفي هنا: ﴿فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ﴾؛ أي (٢): من لقاء موسى الكتاب، أو من لقائك موسى ليلة المعراج، أو يوم القيامة، أو من لقاء موسى ربه في الآخرة، كذا عن النبي - ﷺ - انتهى. وعبارة، "المراح": ﴿فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ﴾؛ أي: فلا تكن يا أشرف الخلق في شك من لقاء الكتاب الذي هو القرآن؛ أي: إنا آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب، فلا تكن في شك من أنك لقيت نظيره. اهـ. كذا في "البيضاوي".
وقيل المعنى (٣): فلا تكن في شك من لقاء موسى الكتاب، فإنا ألقينا عليه التوراة، وهذا المعنى هو الذي يستدعيه ترتيب الفاء على ما قبلها.
فإن قلت (٤): ما معنى النهي وليس له - ﷺ - في ذلك شك أصلًا؟
قلت: فيه تعريض للكفار بأنهم في شك من لقائه، إذ لو لم يكن لهم فيه شك.. لآمنوا بالقرآن، إذ في التوراة وسائر الكتب الإلهية ما يصدق القرآن من الشواهد والآيات، فإيتاء الكتاب ليس ببدع حتى يرتابوا فيه، ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾.
وعبارة "المراغي" هنا: أي (٥) ولقد آتينا موسى التوراة، مثل ما آتيناك القرآن، وأنزلنا عليك الوحي، مثل ما أنزلناه عليه، فلا تكن في شك من لقائك الكتاب، فأنت لست ببدع من الرسل، كما قال تعالى: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾.
وذكر موسى من بين سائر الرسل، لقرب عهده عن النبي - ﷺ -، ووجود من كان على دينه بينهم، إلزامًا لهم، ولم يذكر عيسى؛ لأن اليهود ما كانوا
(١) الخازن.
(٢) النسفي.
(٣) روح البيان.
(٤) روح البيان.
(٥) المراغي.
380
يعترفون بنبوته، والنصارى كانوا يقرون بنبوة موسى، فذكر المجمع عليه.
وقد يكون ذكره لأن الآية جاءت تسلية لرسوله - ﷺ -، فإنه لما أتى بكل آية، وذكرهم، وأعرض قومه عنها.. حزن حزنًا شديدًا، فقيل له: تذكر حال موسى ولا تحزن، فإنه قد لقي مثل ما لقيت، وأوذي كما أوذيت، فإن من لم يؤمن به.. آذاه، كفرعون وقومه، ومن آمنوا به من بني إسرائيل آذوه أيضًا بالمخالفة له، كقولهم: ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ وقولهم: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا﴾ وغيره من الأنبياء لم يؤذه إلا من لم يؤمن به.
﴿وَجَعَلْنَاهُ﴾؛ أي: وجعلنا الكتاب الذي آتيناه موسى، أو جعلنا موسى، فالضمير إما للكتاب أو لموسى ﴿هُدًى﴾ مرشدًا ﴿لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ من الضلالة إلى طريق الهدى، كما جعلناك مرشدًا لأمتك؛ لأنه أنزل إليهم وهم متعبدون به دون بني إسماعيل، وعليهم يحمل الناس في قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ﴾. ونحو الآية قوله: ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (٢)﴾.
٢٤ - ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ﴾؛ أي: من بني إسرائيل ﴿أَئِمَّةً﴾؛ أي: رؤساء وعلماء، وقيل: أنبياء، قاله قتادة. ﴿يَهْدُونَ﴾ يرشدون الخلق إلى الحق بما في التوراة من الشرائع والأحكام، والحكم ﴿بِأَمْرِنَا﴾ إياهم بذلك، أو بتوفيقنا لهم ﴿لَمَّا صَبَرُوا﴾ على الحق في جميع الأمور والأحوال، و ﴿لَمَّا﴾ (١) إما شرطية لما فيها من معنى الجزاء، نحو: أحسنت إليك لما جئتني، وجوابها معلوم مما قبلها، والتقدير: لما صبر الأئمة والعلماء من بني إسرائيل على المشاق وطريق الحق.. جعلناهم أئمة، أو ظرفية بمعنى: حين، فلا جواب لها؛ أي: جعلناهم أئمة حين صبروا على المشاق.
وقوله: ﴿وَكَانُوا﴾؛ أي: أئمة بني إسرائيل ﴿بِآيَاتِنَا﴾ التنزيلية التي في تضاعيف الكتاب ﴿يُوقِنُونَ﴾؛ أي: يصدقون أنها من عند الله تعالى، لإمعانهم فيها
(١) روح البيان.
النظر، ولا يشكون فيها كما يشك الكفار من قومك في حق القرآن، ويحتمل (١) كونه معطوفًا على ﴿صَبَرُوا﴾ فيكون داخلًا في التعليق، ويحتمل أن يكون معطوفًا على ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ﴾.
والمعنى (٢): أي وجعلنا من بني إسرائيل رؤساء في الخير، يهدون أتباعهم وأهل القبول منهم بإذننا لهم، وتقويتنا إياهم؛ لأنهم صبروا على طاعتنا، وعزفت أنفسهم عن لذات الدنيا وشهواتها، وكانوا من أهل اليقين بحججنا، وبما تبين لهم من الحق.
وفي ذلك إيماء إلى أن الكتاب الذي آتيناكه سيكون هداية للناس، وسيكون من أتباعه أئمة يهدون مثل تلك الهداية، بل رجحهم على الكل بكل كمال، فإن الأفضل أولى بإحراز الفضائل كلها.
وقرأ الكوفيون (٣): ﴿أَئِمَّةً﴾. قال النحاس: وهو لحن عند جميع النحويين، لأنه جمع بين همزتين في كلمة واحدة، وقرأ الجمهور (٤): ﴿لَمَّا صَبَرُوا﴾ بفتح اللام وتشديد الميم، على أنها شرطية أو ظرفية، كما مر، وقرأ حمزة والكسائي وخلف وورش عن يعقوب ويحيى بن وثاب وطلحة والأعمش: بكسر اللام وتخفيف الميم؛ أي: جعلناهم أئمة لصبرهم، واختار هذه القراءة أبو عبيد، مستدلًا بقراءة ابن مسعود: ﴿بما صبروا﴾ بالباء.
٢٥ - ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمد ﴿هُوَ﴾ لا غيره ﴿يَفْصِلُ﴾ ويقضي ﴿بَيْنَهُمْ﴾ ويحكم؛ أي: بين المؤمنين والكفار، أو بين بني إسرائيل، أو بين الأنبياء وأممهم المكذبين ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ فيميز بين المحق والمبطل، وكلمة ﴿هُوَ﴾ للتخصيم والتأكيد، وإن ذلك الفصل يوم القيامة، ليس إلا إليه وحده، لا يقدر عليه أحد سواه، ولا يفوض إلى من عداه ﴿فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ من أمور الدين في الدنيا.
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
(٤) البحر المحيط.
أي: إن ربك يقضي بين خلقه يوم القيامة فيما كانوا فيه في الدنيا يختلفون، من أمور الدين والثواب والعقاب، فيدخل الجنة أهل الحق، ويدخل النار أهل الباطل.
٢٦ - وقوله: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾ تخويف لكفار مكة، و (الهمزة) فيه: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و (الواو): عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير؛ أي: أغفلوا ولم يبين مآل أمرهم، والفاعل: ما دل عليه قوله: ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا﴾؛ أي: كثرة إهلاكنا؛ لأن كم لا يقع فاعلًا، فلا يقال: جاءني كم رجل، ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾؛ أي: من قبل أهل مكة ﴿مِنَ الْقُرُونِ﴾؛ أي: من الأمم الماضية، كعاد وثمود حالة كون أهل مكة ﴿يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾؛ أي: في مساكن أولئك القرون، والجملة: حال من ضمير ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: أغفلوا من حالهم ومآلهم، ولم يبين لهم مآلهم، وهو الإهلاك إن استمروا على التكذيب كثرة إهلاكنا من قبلهم من القرون، مثل عاد وثمود وقوم لوط، حالة كون أهل مكة يمرون في متاجرهم إلى الشام على ديار الهالكين وبلادهم، ويشاهدون آثار هلاكهم وخراب منازلهم.
والخلاصة: أولم يرشد هؤلاء المكذبين بالرسول ما أهلك الله قبلهم من الأمم الماضية بتكذيبهم لرسلهم، ومخالفتهم إياهم فيما جاؤوهم به من سبل الحق، فلم يبق منهم باقية، والحال أنهم يمشون في مساكنهم في متاجرهم إلى الشام، ونحو الآية قوله: ﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا﴾. وقوله: ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا﴾ وقوله: ﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥)﴾.
وقرأ الجمهور: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ﴾ بالياء التحتية، وقرأ السلمي وقتادة وأبو زيد عن يعقوب: بالنون، وهذه القراءة واضحة، قال النحاس: والقراءة بالياء فيه إشكال؛ لأنه يقال: الفعل لا يخلو من فاعل، فأين الفاعل ليهدوا؟ ويجاب عنه بأن الفاعل هو ما قدمنا ذكره. اهـ.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الإهلاك وما يتعلق به من الآثار ﴿لَآيَاتٍ﴾ عظيمة ومواعظ بليغة، وحججًا قاطعةً لكل مستبصر ومعتبر بها؛ أي: إن في خلاء مساكن القرون
الذين أهلكناهم من أهلها لما كذبوا برسلنا، وجحدوا بآياتنا، وعبدوا غيرنا، لآيات لهم وعظات يتعظون بها، لو كانوا من أولي الحجا.
و (الهمزة): في قوله: ﴿أَفَلَا يَسْمَعُونَ﴾: للتوبيخ المضمن للإنكار، داخلة على محذوف، و (الفاء): عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيعرضون عن آياتنا وعظاتنا وتذكيرنا إياهم، وصموا عنها فلا يسمعونها سماع تدبر وتفكر، ليعتبروا بها، وينتهوا عما هم عليه من الكفر والتكذيب.
٢٧ - و (الهمزة): في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾: للاستفهام التوبيخي، المضمن للتقرير، داخلة على محذوف، و (الواو): عاطفة على ذاك المحذوف، ﴿أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ﴾ والمراد: سوق السحاب الحامل للماء، لأنه هو الذي ينسب إلى الله تعالى، وأما السقي بالأنهار فمنسوب إلى العبد، وإن كان الإنبات من الله تعالى، ولما كان هذا السوق وما بعده من الإخراج محسوسًا.. حمل بعضهم الرؤية على البصرية، ويدل عليه أيضًا آخر الآية، وهو ﴿أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾.
وقال في "بحر العلوم": حملًا على المقصود من النظر؛ أي: قد علموا أنا نسوق الماء ﴿إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ﴾؛ أي: التي جرز وقطع نباتها وأزيل بالكلية، لعدم المطر أو لغيره كالرعي، لا التي لا تنبت، لقوله: ﴿فَنُخْرِجُ﴾ من تلك الأرض ﴿بِهِ﴾؛ أي: بسبب ذلك الماء المسوق ﴿زَرْعًا﴾؛ أي: نباتًا ﴿تَأْكُلُ مِنْهُ﴾؛ أي: من ذلك الزرع؛ أي: من بعضه ﴿أَنْعَامُهُمْ﴾ ودوابهم ومواشيهم، كالتبن والقصيل والورق وبعض الحبوب المخصوصة بها ﴿و﴾ تأكل من بعضه ﴿وَأَنْفُسُهُمْ﴾ كالحبوب التي يقتاتا الإنسان والثمار.
والتقدير: أي ألم يشاهد هؤلاء المكذبون بالبعث بعد الموت والنشر بعد الفساد، ولم يروا أنا نسوق بقدرتنا السحاب الحامل للماء إلى الأرض اليابسة، التي لا نبات فيها، فننزل بها مطرًا، فنخرج به زرعًا أخضر، تأكل منه ماشيتهم، وتتغدى به أجسامهم، فيعيشون به؛ أي: قد علموا ذلك، وشاهدوه، فلا عذر لهم في تكذيبهم البعث بعد الموت.
و ﴿الهمزة﴾: في قوله: ﴿أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾ للتوبيخ داخلة على محذوف،
و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا ينظرون ذلك بأعينهم، وعموا عنه فلا يبصرون هذه النعم، ويشكرون المنعم، ويوحدونه، لكونه المنفرد بإيجاد ذلك، فيعلموا أن القدرة التي بها فعلنا ذلك لا يتعذر عليها أن تحيى الأموات وتنشرهم من قبورهم، وتعيدهم بهيئتهم التي كانوا عليها قبل موتهم.
والمعنى: ألا ينظرون (١) فلا يبصرون ذلك، فيستدلون به على وحدته وكمال قدرته وفضله تعالى، وأنه الحقيق بالعبادة، وأن لا يشرك به بعض خلقه، من ملك إنسان، فضلًا عن جماد لا يضر ولا ينفع، وأيضًا فيعلمون أنا نقدر على إعادتهم وإحيائهم.
وقرىء (٢): ﴿الجرز﴾ بسكون الراء، قوله: ﴿فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا﴾ وخص الزرع بالذكر، وإن كان يخرج الله به أنواعًا كثيرة من الفواكه والبقول والعشب المنتفع به في الطب وغيره تشريفًا للزرع، ولأنه أعظم ما يقصد من النبات، وأوقع الزرع موقع النبات.
قوله تعالى: ﴿أَنْعَامُهُمْ﴾ قدمت الأنعام في الذكر؛ لأن ما ينبت يأكله الأنعام أول فأول، من قبل أن يأكل بنو آدم الحب، ألا ترى أن القصيل، وهو شعير يزرع، تأكله الأنعام قبل أن يسبل، والبرسيم والفصفصة وأمثال ذلك تبادره الأنعام بالأكل منه قبل أن يأكل بنو آدم حب الزرع، أو لأنه غذاء الدواب، والإنسان قد يتغذى بغيره من حيوان وغيره، أو بدأ بالأدنى ثم ترقى إلى الأشرف وهم بنو آدم.
وقرأ أبو حيوة وأبو بكر في رواية: ﴿يأكل﴾ بالياء من أسفل، وقرأ الجمهور: ﴿يُبْصِرُونَ﴾ بياء الغيبة، وابن مسعود: بتاء الخطاب، وجاءت الفاصلة ﴿أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾ لأن ما سبق مرئي، وفي الآية قبله مسموع، فناسب ﴿أَفَلَا يَسْمَعُونَ﴾.
٢٨ - ثم أخبر الله سبحانه وتعالى عن سوء صنيع الكفرة، باستعجال فصل القضاء
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
بينهم وبين الرسول - ﷺ - على سبيل الاستهزاء والسخرية والتكذيب، فقال: ﴿وَيَقُولُونَ﴾؛ أي: ويقول المشركون عمومًا، أو مشركو مكة على طريق الاستهزاء والاستبعاد والتكذيب: ﴿مَتَى هَذَا الْفَتْحُ﴾ الذي تدعي يا محمد؛ أي: في أيّ وقت يكون لك الفتح والنصر علينا والظفر بنا، وكلمة ﴿مَتَى﴾ (١): في موضع رفع على الخبرية، أو في موضع نصب على الظرفية، والاستفهام فيها: استفهام استهزاء، لا استفهام سؤال، وذلك (٢) أن المؤمنين كانوا يقولون لكفار مكة: إن لنا يومًا يفتح الله فيه بيننا وبينكم؛ أي: يحكم ويقضي، يريدون يوم القيامة، أو إن الله سيفتح لنا على المشركين، ويفصل بيننا وبينهم، وكان أهل مكة إذا سمعوه.. يقولون بطريق الاستعجال تكذيبًا واستهزاء: ﴿مَتَى هَذَا الْفَتْحُ﴾؛ أي: في أي وقت يكون الحكم والفصل، أو النصر والظفر علينا ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في أنه كائن.
أي (٣): متى تنصر علينا أيها الرسول كما تزعم، ومتى ينتقم الله منا، وما نراك وأصحابك إلا مختفين خائفين، أذلة، إن كنتم صادقين في الذي تقولون، من أنا معاقبون على تكذيبنا الرسول، وعبارة الآلهة والأوثان، وهم ولا شك لا يستعجلونه، إلا لاستبعادهم حصوله، وإنكارهم إياه، وتكذيبهم له،
٢٩ - وقد أمر الله سبحانه نبيه - ﷺ - أن يجيبهم عن استبعادهم موبخًا لهم بقوله: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد تبكيتًا لهم، وتحقيقًا للحق: لا تستعجلوا ولا تستهزئوا فإن ﴿يَوْمَ الْفَتْحِ﴾ يوم إزالة الشبهة بإقامة القيامة، فإن أصله: إزالة الإغلاق والأشكال، أو يوم الغلبة على الأعداء ﴿لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ مفعول به ﴿إِيمَانُهُمْ﴾ فاعل، ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾؛ أي: يمهلون ويؤخرون.
أما (٤) إذا كان المراد به يوم القيامة، فإن الإيمان يومئذ لا ينفع الكافر لفوات الوقت، ولا يمهل أيضًا في إدراك العذاب، ولا في بيان العذر، فإنه لا
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
عذر له، وأما إذا كان المراد يوم النصرة كيوم بدر، فإنه لا ينفع إيمانه حال القتل، إذ هو إيمان يأس، كإيمان فرعون حين ألجمه الغرق، ولا يتوقف في قتله أصلًا.
والمعنى (١): أي قل لهم: إذا حل بكم بأس الله وسخطه في الدنيا وفي الآخرة.. لا ينفعكم إيمانكم الذي تحدثونه في هذا اليوم، ولا تؤخرون للتوبة والمراجعة.
والخلاصة: لا تستعجلوه ولا تستهزئوا، فكأني بكم، وقد حل ذلك اليوم، وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان، واستنظرتم حلول العذاب فلم تنظروا، والعدول عن تطبيق الجواب على ظاهر سؤالهم، للتنبيه على أنه ليس مما ينبغي أن يسأل عنه، لكونه أمرًا بينًا غنيًا عن الإخبار، وكذا إيمانهم واستنظارهم يومئذ، وإنما المحتاج إلى البيان، عدم نفع ذلك الإيمان، وعدم الإنظار.
٣٠ - ثم ختم السورة بأمر رسوله بالإعراض عنهم، وانتظار الفتح بينه وبينهم، فقال: ﴿فَأَعْرِضْ﴾ يا محمد ﴿عَنْهُمْ﴾؛ أي: عن هؤلاء المشركين، ولا تبال بهم، وبلغ ما أنزل إليك من ربك ﴿وَانْتَظِرْ﴾ ما الله صانع بهم، فإنه سينجزك ما وعدك، وسينصرك على من خالفك، إنه لا يخلف الميعاد، ﴿إِنَّهُمْ﴾؛ أي: إن هؤلاء المشركين ﴿مُنْتَظِرُونَ﴾؛ أي: متربصون بك الدوائر، كما قال تعالى: ﴿أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون﴾.
أي (٢): وانتظر النصرة عليهم وهلاكهم، لصدق وعدي، إنهم منتظرون الغلبة عليك، وحوادث الزمان بك، من موت أو قتل، فيستريحوا منك، أو إهلاكهم، كما في قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ الآية، ويقرب منه ما قيل: وانتظر عذابنا فإنهم منتظرون، فإن استعجالهم المذكور، وعكوفهم على ما هم عليه من الكفر والمعاصي، في حكم انتظارهم العذاب المترتب عليه لا محالة.
وسترى عاقبة صبرك عليهم، وعلى أداء رسالة ربك بنصرك وتأييدك،
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
387
وسيجدون نحب ما ينتظرون فيك وفي أصحابك، من وبيل عقاب الله لهم، وحلول عذابه بهم، وقد أنجز الله وعده، فنصر عبده، وفتح للمؤمنين، وحصل أمانيهم أجمعين، والآية منسوخة بآية السيف، وقيل: غير منسوخة، إذ قد يقع الإعراض مع الأمر بالقتال.
وقرأ الجمهور (١): ﴿مُنْتَظِرُونَ﴾ بكسر الظاء على صيغة اسم الفاعل؛ أي: انتظر عذابهم إنهم منتظرون هلاكك، قال أبو حاتم: والصحيح: الكسر، وقرأ ابن السميقع واليماني: ﴿منتظرون﴾ بفتح الظاء على صيغة اسم المفعول، ورويت هذه القراءة عن مجاهد وابن محيصن، قال الفراء: لا يصح إلا بإضمار؛ أي: إنهم منتظريهم.
وفي "فتح الرحمن" قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٨)﴾.
إن قلت (٢): هذا سؤال عن وقت الفتح، وهو يوم القيامة، فكيف طابقه الجواب بقوله: ﴿قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ﴾؟
قلت: لما كان سؤالهم سؤال تكذيب واستهزاء بيوم القيامة، لا سؤال استفهام.. أجيبوا بالتهديد المطابق للتكذيب والاستهزاء، لا ببيان حقيقة الموقت، وإن فسر الفتح بفتح مكة، أو بيوم بدر.. كان المراد أن المتولين لم ينفعهم إيمانهم حال القتل، كإيمان فرعون، بخلاف الطلقاء الذين آمنوا بعد الأمر، فالجواب بذلك مطابق للسؤال من غير تأويل. انتهى.
الإعراب
﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٩)﴾.
﴿أَفَمَنْ﴾ ﴿الهمزة﴾: فيه للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف،
(١) البحر المحيط.
(٢) فتح الرحمن.
388
و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيتوهم كون المؤمن كالفاسق بعدما ثبت ما بينهما من التفاوت، ﴿فمن كان﴾ ﴿من﴾: اسم موصول مبتدأ، ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على ﴿من﴾، ﴿مُؤْمِنًا﴾: خبرها، وجملة ﴿كان﴾: صلة لـ ﴿من﴾ الموصولة، ﴿كَمَنْ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ. والجملة الاسمية: معطوفة على الجله المحذوفة، ﴿كَانَ فَاسِقًا﴾: فعل ناقص واسمه المستتر وخبره صلة ﴿من﴾ الموصولة، ﴿لَا يَسْتَوُونَ﴾: فعل مضارع مرفوع بالنون وفاعل، والجملة: مستأنفة لا محل لها من الإعراب، ومتعلقه محذوف؛ أي: لا يستوون في المآل. ﴿أَمَّا﴾: حرف شرط وتفصيل، ﴿الَّذِينَ﴾؛ مبدأ، ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿آمَنُوا﴾، ﴿فَلَهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿أَمَّا﴾ ﴿لهم﴾؛ خبر مقدم ﴿جَنَّاتُ الْمَأْوَى﴾: مبتدأ مؤخر والجملهّ وخبره في محل الرفع خبر للأول وجملة الأول مع خبره جواب ﴿أما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿أَمَّا﴾ من فعل شرطها وجوابها: مستأنفة استئنافًا بيانيًا لا محل لها من الإعراب. ﴿نُزُلًا﴾: حال من ﴿جَنَّاتُ الْمَأْوَى﴾، ﴿بِمَا﴾: ﴿الباء﴾: حرف جر وسبب، ﴿ما﴾: مصدرية أو موصولة، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ المصدرية؛ أي: بسبب عملهم أو صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد: محذوف؛ أي: سبب الذي كانوا يعملونه، الجار والمجرور صفة لـ ﴿نُزُلًا﴾؛ أي: نزلًا كائنًا بسبب عملهم، أو بسبب العمل الذي يعملونه.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا﴾.
﴿وَأَمَّا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿أما﴾: حرف شرط ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ أول، ﴿فَسَقُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، ﴿فَمَأْوَاهُمُ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿أما﴾، ﴿مأواهم﴾: مبتدأ، ﴿النَّارُ﴾: خبره، والجملة: في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، وجملة الأول: جواب ﴿أما﴾، وجملة ﴿أما﴾: معطوفة على جملة ﴿أما﴾ الأولى، ﴿كُلَّمَا﴾: اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية متعلق بالجواب الآتي، ﴿أَرَادُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة: فعل شرط
389
لـ ﴿كُلَّمَا﴾: في محل جر بالإضافة. ﴿أَنْ يَخْرُجُوا﴾: ناصب وفاعل وفاعل في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿أَرَادُوا﴾، ﴿مِنْهَا﴾: متعلق بـ ﴿يَخْرُجُوا﴾؛ أي: كلما اْرادوا الخروج منها، ﴿أُعِيدُوا﴾: فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعل، ﴿فِيهَا﴾ متعلق به، والجملة الفعلية: جواب ﴿كُلَّمَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿كُلَّمَا﴾: مستأنفة مسوقة لبيان كيفية مأواهم فيها.
﴿وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾.
﴿وَقِيلَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، قيل: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿قيل﴾، ﴿ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾: نائب فاعل لـ ﴿قيل﴾ محكي، لأن مرادنا لفظه، لا معناه. وهو مقول له أيضًا. وجملة ﴿قيل﴾: معطوفة على جملة ﴿أُعِيدُوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿ذُوقُوا﴾: فعل أمر وفاعل مبنى على حذف النون، ﴿عَذَابَ النَّارِ﴾: مفعول به، وجملة ﴿ذُوقُوا﴾: في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قيل﴾، ﴿الَّذِي﴾ صفة لـ ﴿عَذَابَ﴾. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿تُكَذِّبُونَ﴾، وجملة ﴿تُكَذِّبُونَ﴾ خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة الموصول.
﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢)﴾.
﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿نذيقن﴾: فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبنى على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله: ضمير المتكلمين يعود على الله، تقديره: نحن، و ﴿الهاء﴾: مفعول به. ﴿مِنَ الْعَذَابِ﴾: متعلق به، ﴿الْأَدْنَى﴾ صفة لـ ﴿الْعَذَابِ﴾، والجملة الفعلية: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: مستأنفة، ﴿دُونَ﴾: ظرف زمان بمعنى قبل متعلق بمحذوف حال ﴿مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى﴾، ﴿الْعَذَابِ﴾ مضاف إليه، ﴿الْأَكْبَرِ﴾: صفة له، ﴿لَعَلَّهُمْ﴾: ناصب واسمه. وجملة ﴿يَرْجِعُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿لعل﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿من﴾: اسم استفهام للاستفهام
390
الإنكاري في محل الرفع مبتدأ، ﴿أَظْلَمُ﴾: خبره، والجملة: مستأنفة، ﴿مِمَّنْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَظْلَمُ﴾: ﴿ذُكِّرَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعل مستتر، ﴿بِآيَاتِ رَبِّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿ذُكِّرَ﴾، والجملة الفعلية: صلة الموصول، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ، ﴿أَعْرَضَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر معطوف على ﴿ذُكِّرَ﴾، ﴿عَنْهَا﴾ متعلق بـ ﴿أَعْرَضَ﴾، ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾ متعلق بـ ﴿مُنْتَقِمُونَ﴾، و ﴿مُنْتَقِمُونَ﴾ خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة.
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (٢٣)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة مسوقة لتسليته - ﷺ -، ﴿فَلَا تَكُنْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿لا﴾: ناهية جازمة، ﴿تَكُنْ﴾: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، واسمها: ضمير يعود على محمد، ﴿فِي مِرْيَةٍ﴾؛ جار ومجرور خبر ﴿تَكُنْ﴾، ﴿مِنْ لِقَائِهِ﴾: صفة لـ ﴿مِرْيَةٍ﴾، وجملة ﴿لا تكن﴾: معطوفة على جملة القسم، ﴿وَجَعَلْنَاهُ هُدًى﴾: فعل وفاعل ومفعولان معطوف على ﴿آتَيْنَا﴾، ﴿لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: متعلق بـ ﴿هُدًى﴾، أو صفة له.
﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾.
﴿وَجَعَلْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿جعلنا﴾ الأول. ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ ﴿جعلنا﴾، ﴿أَئِمَّةً﴾: مفعول أول لـ ﴿جعلنا﴾، وجملة ﴿يَهْدُونَ﴾ صفة لـ ﴿أَئِمَّةً﴾، ﴿بِأَمْرِنَا﴾: حال من فاعل ﴿يَهْدُونَ﴾. ﴿لَمَّا﴾: ظرف بمعنى حين، متعلق بـ ﴿جعلنا﴾؛ أي: جعلناهم أئمةً حين صبروا، ﴿صَبَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿لما﴾ أو فعل شرط لها، وجوابها: محذوف، تقديره: لما صبروا جعلنا منهم أئمة،
391
﴿وَكَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿بِآيَاتِنَا﴾: متعلقة بـ ﴿يُوقِنُونَ﴾، وجملة ﴿يُوقِنُونَ﴾ خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كانوا﴾: إما معطوفة على ﴿صَبَرُوا﴾ أو على ﴿جعلنا﴾ كما مر.
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥)﴾.
﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾: ناصب واسمه، ﴿هُوَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَفْصِلُ﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾: مستأنفة، ﴿بَيْنَهُمْ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿يَفْصِلُ﴾، ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ ظرف مضاف إليه متعلق بـ ﴿يَفْصِلُ﴾ ﴿فِيمَا﴾: متعلق به أيضًا، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿فِيهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَخْتَلِفُونَ﴾ وجملة ﴿يَخْتَلِفُونَ﴾ خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد ضمير ﴿فيه﴾.
﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (٢٦)﴾.
﴿أَوَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أغفلوا ولم يهد لهم، والجملة المحذوفة: مستأنفة، ﴿لم﴾: حرف جزم، ﴿يَهْدِ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾. وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهي الياء، وفاعله: محذوف دلت عليه ﴿كَمْ﴾ الخبرية، تقديره: ولم يهدِ لهم كثرة إهلاكنا القرون، والجملة الفعلية: معطوفة على تلك المحذوفة، ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يَهْدِ﴾، ﴿كَمْ﴾: خبرية بمعنى عدد كثير، في محل النصب مفعول به مقدم لـ ﴿أَهْلَكْنَا﴾، ﴿أَهْلَكْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ حال ﴿مِنَ الْقُرُونِ﴾ أو متعلق بـ ﴿أَهْلَكْنَا﴾، ﴿مِنَ الْقُرُونِ﴾: حال من ﴿كَمْ﴾ لأنه في الأصل تمييز ﴿لَكُم﴾ دخلت عليه ﴿من﴾ البيانية، وجملة ﴿أَهْلَكْنَا﴾: جملة ﴿أَهْلَكْنَا﴾: جملة مفسرة لفاعل ﴿يَهْدِ﴾ لا محل لها من الإعراب، ﴿يَمْشُونَ﴾: فعل وفاعل، ﴿فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾: متعلق به، والجملة: في محل النصب حال من ضمير ﴿لَهُمْ﴾، أو مستأنفة مسوقة لبيان وجه
392
هدايتهم. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب، ﴿في ذَلِكَ﴾: خبرها مقدم، ﴿لَآيَاتٍ﴾: اسمها مؤخر، و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، ﴿أَفَلَا﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أصموا فلا يسمعون، والجملة المحذوفة: مستأنفة، ﴿لا﴾: نافية، ﴿يَسْمَعُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ذلك المحذوف.
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (٢٧)﴾.
﴿أَوَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أغفلوا ولم يروا، أو التقدير ألم يشاهدوا ولم يروا إلخ، والجملة المحذوفة: مستأنفة، ﴿لم﴾: حرف جزم، ﴿يَرَوْا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لم﴾، والجملة: معطوفة على تلك المحذوفة، ﴿أَنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿نَسُوقُ الْمَاءَ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، ﴿إِلَى الْأَرْضِ﴾: متعلق به، ﴿الْجُرُزِ﴾: صفة لـ ﴿الْأَرْضِ﴾، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾: في تأويل مصدر ساد مسد مفعول ﴿رأى﴾؛ أي: سوقنا الماء إلى الأرض الجرز. ﴿فَنُخْرِجُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر معطوف على ﴿نَسُوقُ﴾. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿نخرج﴾، ﴿زَرْعًا﴾: مفعول به، ﴿تَأْكُلُ﴾: فعل مضارع، ﴿مِنْهُ﴾: متعلق به ﴿أَنْعَامُهُمْ﴾: فاعل، ﴿وَأَنْفُسُهُمْ﴾: معطوف عليه، وجملة ﴿تَأْكُلُ﴾: صفة لـ ﴿زَرْعًا﴾، ﴿أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أعموا فلا يبصرون، والجملة المحذوفة: مستأنفة، ﴿لا﴾: نافية، ﴿يُبْصِرُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على تلك المحذوفة.
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠)﴾.
﴿وَيَقُولُونَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿يَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة، ﴿مَتَى﴾: اسم استفام في محل النصب على الظرفية مبني على السكون
393
لشبهه بالحرف شبهًا معنويًا، ﴿هَذَا﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿الْفَتْحُ﴾: بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان له، والظرف: متعلق بواجب الحذف لوقوعه خبرًا مقدمًا، تقديره: هذا الفتح كائن متى؛ أي: في أيّ وقت يكون، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُونَ﴾، ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية معلوم مما قبلها؛ أي: إن كنتم صادقين فمتى هو، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية: في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُونَ﴾. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: مستأنفة، ﴿يَوْمَ الْفَتْحِ﴾: منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿لَا يَنْفَعُ﴾، ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَنْفَعُ﴾: فعل مضارع، ﴿الَّذِينَ﴾: مفعول به، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول، ﴿إِيمَانُهُمْ﴾: فاعل ﴿يَنْفَعُ﴾. والجملة الفعلية: في محل النصب مقول، لـ ﴿قُلْ﴾ ﴿وَلَا هُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾: نافية، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يُنْظَرُونَ﴾: من الفعل المغير ونائب فاعله خبره، والجملة الاسمية: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿لَا يَنْفَعُ﴾: على كونها مقولًا لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿فَأَعْرِضْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حالهم المذكور، وأردت بيان ما هو الأصلح لك.. فأقول لك: أعرض عنهم. ﴿أعرض﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة، ﴿وَانْتَظِرْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر معطوف على ﴿أعرض﴾، ومفعوله محذوف، تقديره: النصر عليهم، ﴿إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ﴾: ناصب واسمه وخبره، ومفعول: ﴿مُنْتَظِرُونَ﴾ محذوف، تقديره: النصر عليكم، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، على كونها مسوقة لتعليل الأمر بالانتظار.
التصريف ومفردات اللغة
﴿كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا﴾: أصل الفسق: الخروج، من فسقت التمرة: إذا خرجت من قشرها، ثم استعمل في الخروج من الطاعة وأحكام الشرع مطلقًا،
394
فهو أعم من الكفر، وقد يخص به كما في قوله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
﴿جَنَّاتُ الْمَأْوَى﴾: المأوى: المسكن، قال الراغب: المأوى: مصدر أوى إلى كذا: انضم إليه، وجنة المأوى: كقوله: دار الخلد في كون الدار مضافًا إلى المصدر، وفي "الإرشاد": أضيفت الجنة إلى المأوى؛ لأنها الفتاوى الحقيقي، وإنما الدنيا منزل مرتحل عنه لا محالة، كما مر.
﴿نُزُلًا﴾: وهو في الأصل ما يعد للنازل والضيف، من طعام وشراب وصلة، ثم أطلق على كل عطاء، والمراد به هنا: الثواب والجزاء.
﴿فَمَأْوَاهُمُ﴾: اسم مكان؛ أي: ملجَؤُهم ومنزلهم.
﴿الْأَدْنَى﴾؛ أي: الأقرب، والمراد به عذاب الدنيا، فإنه أقرب من عذاب الآخرة وأقل منه، وقد ابتلاهم الله بسني جدب وقحط، أهلكت الزرع والضرع، والعذاب الأكبر، هو عذاب يوم القيامة.
﴿دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ﴾؛ أي: قبل العذاب الأكبر، فدون هنا بمعنى قبل، كما مر، وذلك لأنه في الأصل أدنى مكان من الشيء، فيقال: هذا دون ذلك: إذا كان أحط منه قليلًا، ثم استعير منه للتفاوت في الأموال.
﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾ جمع مجرم، اسم فاعل من أجرم الرباعي، يقال: أجرم زيد: إذا فعل الجريمة؛ أي: السيئة، منتقمون: جمع منتقم، اسم فاعل من انتقم الخماسي، يقال: نقمت الشيء ونقمت منه: إذا أنكرته، إما باللسان، وإما بالعقوبة، والنقمة: العقوبة، والانتقام: العقوبة على الجريمة.
﴿فِي مِرْيَةٍ﴾ وفي "المفردات": المرية: التردد في الأمر، وهو أخص من الشك.
﴿مِنْ لِقَائِهِ﴾ يقال: لقيه كرضيه: إذا رآه، قال الراغب: يقال: ذلك في الإدراك بالحس بالبصر وبالبصيرة، وهو مصدر مضاف إلى مفعوله.
395
﴿أَئِمَّةً﴾: جمع إمام بمعنى المؤتم، والمقتدى به قولًا وفعلًا، وأصله أأممة بوزن أفعلة جمع إمام، كأسلحة وسلاح، ولكن لما اجتمع المثلان، وهما الميمان، أدغمت الأولى في الثانية، ونقلت حركتها إلى الهمزة فصار أئمة بهمزتين، فأبدل من الهمزة المكسور ياء، كراهة اجتماع الهمزتين. اهـ. "شرح العقائد".
﴿إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ﴾: الجرز: الأرض اليابسة الجرداء، التي لا نبات فيها، قال الزمخشري: الجرز: الأرض التي جرز؛ أي: أزيل نباتها، قيل: هي مشتقة من قولهم: رجل جروز: إذا كان لا يبقي شيئًا إلا أكله، ومنه قول الراجز:
خبٌّ جَرُوْزٌ إِذَا جَاعَ بَكَى وَيأكُلُ التَّمْرَ وَلاَ يُبْقِي النَّوَى
وكذلك ناقة جروز: إذا كانت تأكل كل شيء تجده، وفي "المختار": أرض جرز وجرز، كعسر وعسر: لا نبات بها؛ أي: قطع وأزيل بالمرة، وقيل: هو اسم موضع باليمن. وفي "المصباح": الجرزة: القبضة من القث ونحوه، أو الحزمة، والجمع: جرز كغرفةٍ وغرف، وأرض جرز بضمتين: قد انقطع الماء عنها فهي يابسة لا نبات فيها.
﴿الْفَتْحِ﴾: الحكيم، ويقال: للحاكم: الفاتح والفتاح؛ لأنه يفصل بين الناس بحكمه، ومعنى: ﴿مَتَى هَذَا الْفَتْحُ﴾؛ أي: الفصل بيننا وبينكم في الخصومة.
﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾؛ أي: يمهلون ويؤخرون.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المقابلة اللطيفة بين جزاء الأبرار، وجزاء الفجار في قوله: ﴿أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى﴾ وقوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾ وهي من المحسنات البديعية.
396
ومنها: الشماتة في قوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾ وهي فن من فنون البديع، لم يذكره أحد من الذين كتبوا في فنون البديع، ما عدا ابن أبي الإصبع، وهي: أعني: الشماتة. ذكر ما أصاب عدوك من آفات ومحن جزاء ما اقترفت يداه مع المبالغة في تصوير غمائه، وما يتخبط به من أهوال، وإظهار إغتباطك بما أصابه شماتةً به وتشفيًا منه، وفي هذه الآية من ضرورب التشفي والشماتة ما لا يخفى، وهو شائع في القرآن وفي الشعر، ومنه قصيدة فتح الفتوح لأبي تمام.
ومنها: الاستبعاد المستفاد بـ ﴿ثُمَّ﴾ في قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا﴾ لأن الإعراض عن الآيات مع غاية وضوحها وإشراقها، مستبعد في حكم العاقل الراجح.
ومنها: التعريض في قوله: ﴿فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ﴾ فإنه تعريض للكفار بأنهم في شك من لقائه، إذ لو لم يكن لهم فيه شك.. لآمنوا بالقرآن.
ومنها: التأكيد والتخصيص المستفاد من كلمة ﴿هُوَ﴾ في قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ﴾ لأن المعنى: إن ذلك الفصل يوم القيامة، ليس إلا إليه وحده، لا يقدر عليه أحد سواه، ولا يفوض إلى من عداه، كما سبق.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ﴾.
ومنها: الاستفهامات للتقريع والتوبيخ في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾ وفي قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ﴾ وقوله: ﴿أَفَلَا يَسْمَعُونَ﴾ وقوله: ﴿أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾ لأن المقصود في الكل الإنكار والتوبيخ.
ومنها: المناسبة المعنوية بين أول الآية وآخرها في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ وهي؛ أي: المناسبة المعنوية: أن يبتدىء المتكلم بمعنى، ثم يتمم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ، وهذه الآية قال في أولها: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾ وهي موعظة سمعية، لكونهم لم ينظروا إلى القرون الهالكة، وإنما سمعوا بها، فناسب أن يأتي بعدها بقوله: ﴿أَفَلَا يَسْمَعُونَ﴾. وفي قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ﴾ بدأ هذه الآية بهذه الكلمة، وهي موعظة مرئية، فناسب
397
أن يقول في آخرها: ﴿أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾ لأن الزرع مرئي، لا مسموع، ليناسب آخر كل كلام أوله.
ومنها: التعميم بعد التخصيص، أو الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ﴾ لأنه إن عم غير المستهزئين.. فهو تعميم بعد تخصيص، وإن خص بهم.. فهو إظهار في مقام الإضمار، تسجيلًا عليهم بالكفر، وبيانًا لعلة عدم النفع وعدم إمهالهم. اهـ. "شهاب".
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
398
مجمل ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة من الموضوعات
١ - إثبات رسالة النبي - ﷺ -، وبيان أن مشركي العرب لم يأتهم رسول من قبله.
٢ - إثبات وحدانية الله تعالى، وأنه المتصرف في الكون، المدبر له على أتم نظام وأحكم وجه.
٣ - إثبات البعث والنشور، وبيان أنه يكون في يوم كألف سنة مما تعدون.
٤ - تفصيل خلق الإنسان في النشأة الأولى، وبيان الأطوار التي مرت به، حتى صار بشرًا سويًا.
٥ - وصف الذلة التي يكون عليها المجرمون يوم القيامة، وطلبهم الرجوع إلى الدنيا لإصلاح أحوالهم، ورفض ما طلبوا لعدم استعدادهم للخير والفلاح.
٦ - تفصيل أحوال المؤمنين في الدنيا، وذكر ما أعده الله لهم من النعيم، والثواب العظيم في الآخرة.
٧ - استعجال الكفار لمجيء يوم القيامة، استبعادًا منهم لحصوله (١).
والله أعلم
* * *
(١) ختمت تسويد هذه السورة بعون الله تعالى، في عصر يوم الجمعة، بعد صلاتها، في تاريخ ١٠/ ١٠/ ١٤١٣من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.
399
سورة الأحزاب
صورة الأحزاب مدنية كلها بالاتفاق (١). وآياتها: ثلاث وسبعون آية. وكلماتها: ألف ومئتان وثمانون كلمة. وحروفها: خمسة آلاف وسبع مئة وتسعون حرفًا.
التسمية: سميت سورة الأحزاب، لأنه ذكر فيها قصة المشركين الذين تحزبوا على المسلمين، من كل جهة، فاجتمع كفار مكة مع غطفان وبنى قريظة وأوباش العرب على حرب المسلمين، ولكن الله ردهم مدحورين، وكفى المؤمنين القتال بتلك المعجزة الباهرة.
الناسخ والمنسوخ فيها: قال ابن حزم (٢): سورة الأحزاب فيها آيتان من المنسوخ:
أولاهما: قوله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ الآية (٤٨) نسخت بآية السيف.
والآية الثانية: قوله تعالى: ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ﴾ الآية (٥٢) نسخها الله تعالى بآية قبلها في النظم، وهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ﴾ الآية (٥٠).
المناسبة: مناسبتها لما قبلها: تشابه (٣) مطلع هذه السورة وخاتمة السالفة، فإن تلك ختمت بأمر النبي - ﷺ - بالإعراض عن الكافرين، وانتظار عذابهم، وهذه بدئت بأمره - ﷺ - بالتقوى، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، واتباع ما أوحي إليه من ربه، ومع التوكل عليه.
(١) الخازن.
(٢) الناسخ والمنسوخ.
(٣) المراغي.
400
فضلها: ومن فضائلها (١): ما روى عن النبي - ﷺ -: "من قرأ سورة الأحزاب، وعلّمها أهله، وما ملكت يمينه.. أعطي الأمان من عذاب القبر".
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما، عن ابن عباس: أن عمر بن الخطاب قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: أيها الناس إن الله بعث محمدًا بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها: ﴿الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة﴾ ورجم رسول الله - ﷺ - ورجمنا بعده، فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل: لا نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضةٍ أنزلها الله، وقد روي عنه نحو هذا من طرق.
وأخرج ابن مردويه عن حذيفة قال: قال لي عمر بن الخطاب: كم تعدون سورة الأحزاب، قلت: ثنتين أو ثلاثًا وسبعين، قال: إن كانت لتقارب سورة البقرة، وإن كان فيها لآية الرجم.
وأخرج البخاري في "تاريخه" عن حذيفة قال: قرأت سورة الأحزاب على رسول الله - ﷺ -، فنسيت منها سبعين آيةً ما وجدتها.
وأخرج أبو عبيد في "الفضائل" وابن الأنباري، وابن مردويه عن عائشة قالت: كانت سورة تقرأ في زمان رسول الله - ﷺ - مئتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف.. لم يقرر منها إلا على ما هو الآن.
وعن أبي بن كعب قال: كانت سورة الأحزاب تقارب سورة البقرة، أو أطول منها، وكان فيها آية الرجم، وهي: ﴿إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم﴾ ثم رفع أكثرها فيما رفع، قال ابن كثير: إسناده حسن.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) الخازن.
401

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (١) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (٣) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٥) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (٦) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (٧) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (٩) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (١٢) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (١٤) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (١٧)﴾.
402
المناسبة
قد تقدم لك بيان المناسبات بين بداية هذه السورة، ونهاية السورة السالفة، وأما قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ...﴾ الآيات، فمناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما أمر نبيه (١) بتقواه والخوف منه، وحذر من طاعة الكفار والمنافقين والخوف منهم.. ضرب لنا الأمثال، ليبين أنه لا يجتمع خوف من الله وخوف من سواه، فذكر أنه ليس للإنسان قلبان، حتى يطيع بأحدهما ويعصي بالآخر، وإذا لم يكن للمرء إلا قلب واحد، فمتى اتجه لأحد الشيئين صد عن الآخر، فطاعة الله تصد عن طاعة سواه، وأنه لا تجتمع الزوجية والأمومة في امرأة، والبنوة الحقيقية والتبني في إنسان.
قوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما أبان (٢) فيما سلف أن الدعي ليس ابنًا لمن تبناه، فمحمد - ﷺ - ليس أبًا لزيد من حارثة، ثم أعقب ذلك بالإرشاد إلى أن المؤمن أخو المؤمن في الدين، فلا مانع أن يقول إنسان لآخر أنت أخي في الدين.. أردف ذلك ببيان أن محمدًا - ﷺ - ليس أبًا لواحدٍ من أمته، بل أبوته عامة، وأزواجه أمهاتهم، وأبوته أشرف من أبوة النسب؛ لأن بها الحياة الحقيقية. وهذه بها الحياة الفانية، بل هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا حضهم على الجهاد ونحوه.. فذلك لارتقائهم الروحي، فإذًا كيف يستأذن الناس آباءهم وأمهاتهم حين أمرهم - ﷺ - بغزوة تبوك، وهو أشفق عليهم من الآباء، بل من أنفسهم.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية بما قبلها: أن الله سبحانه لما أبان فيما سلف أحكامًا شرعها لعباده، وكان فيها أشياء مما كان في الجاهلية، وأشياء مما كان في الإِسلام، ثم أبطلت ونسخت.. أتبع ذلك بذكر ما فيه حث على التبليغ، فذكر أخذ العهد على النبيين أن يبلغوا رسالات ربهم، ولا سيما أولو العزم منهم، وهم الخمسة
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
403
المذكورون في الآية، ما ذكر في آية أخرى سؤال الله أنبياءه عن تصديق أقوامهم له، ليكون في ذلك تبكيت للمكذبين من الكفار فقال: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ﴾.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما أمر عباده بتقواه وعدم الخوف من سواه.. ذكر هنا تحقيق ما سلف، فأبان أنه أنعم على عباده المؤمنين، إذ صرف عنهم أعداءَهم، وهزمهم حين تألبوا عليهم عام الخندق.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ...﴾ سبب نزول هذه الآية: ما (١) روى الضحاك عن ابن عباس، قال: إن أهل مكة منهم الوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة، دعوا النبي - ﷺ - أن يرجع عن قوله على أن يعطوه شطر أموالهم، وخوف المنافقون واليهود بالمدينة؛ إن لم يرجع قتلوه، فأنزل الله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ....﴾.
قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه الترمذي وحسنه عن ابن عباس، قال: قام النبي - ﷺ - يصلي، فخطر خطرةً، فقال المنافقون الذين يصلون معه: ألا ترى أن له قلبين، قلبًا معكم، وقلبًا معه، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ...﴾.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق خصيف عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة قالوا: كان رجل يدعى ذا القلبين، فنزلت هذه الآية.
وأخرج ابن جرير من طريق قتادة عن الحسن مثله، وزاد: وكان يقول: لي نفس تأمرني، ونفس تنهاني.
وأخرج من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: نزلت في رجل من بني
(١) لباب النقول.
404
فهم قال: إن في جوفي لقلبين، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي: أنها نزلت في رجل من قريش من بني جمع، يقال له: جميل بن يعمر.
قوله تعالى: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ...﴾ الآية (١)، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي، في جماعة آخرين عن ابن عمر: أن زيد بن حارثة مولى رسول الله - ﷺ -، ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ...﴾ الآية. فقال النبي - ﷺ -: أنت زيد بن حارثة بن شراحيل.
وكان من خبره أنه سبي من قبيلته "كلب"، وهو صغير، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فلما تزوجها رسول الله - ﷺ -.. وهبته له، ثم طلبه أبوه وعمه، فخير بين أن يبقى مع رسول الله - ﷺ - أو أن يذهب مع أبيه، فاختار البقاء مع رسول الله - ﷺ -، فأعتقه وتبناه، وكانوا يقولون: زيد بن محمد، فلما تزوج رسول الله - ﷺ - زينب، وكانت زوجًا لزيد، وطلقها.. قال المنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه، وهو ينهى عن ذلك، فنزلت الآية لنفي أن يكون للمتبنى حكم الابن حقيقةً في جميع الأحكام التي تعطى للابن.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه البيهقي في "الدلائل" عن حذيفة، قال: لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعودًا، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة أسفل منا، نخافهم على ذرارينا، وما أتت قط علينا ليلة أشد ظلمةً، ولا أشد ريحًا منها، فجعل المنافقون يستأذنون النبي - ﷺ -، يقولون: إن بيوتنا عورة، وما هي بعورة، فما يستأذن أحد منهم إلا أذن له، فيتسللون إذا استقبلنا النبي - ﷺ - رجلًا رجلًا، حتى علي فقال: ائتني بخبر القوم، فجئت فإذا الريح في عسكرهم، ما تجاوز عسكرهم شبرًا، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة
(١) لباب النقول.
405
Icon