ﰡ
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» اسم من لا سبيل إلى وصاله، ولا غنية- فى غيره- عن فعاله، اسم من علمه وقع في كل سكون وراحة، اسم من عرفه وقع في كل اضطراب وإطاحة «١»، العلماء بسراب علمهم استقلوا فاستراحوا، والعارفون بسلطان حكمه اصطلموا عن شواهدهم..
فبادوا وطاحوا.
قوله جل ذكره:
[سورة الطلاق (٦٥) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١)الطلاق- وإن كان فراقا- فلم يجعله الحقّ محظورا | وإن كان من وجه مكروها. |
فى طهر بعد حيض ثم يطلقها من قبل أن يجامعها «٣» - والطلاق أكثر من واحدة.
(٢) أي وجوه مرتبطة بأوقات خاصة. روى الدارقطني عن ابن عباس قال: الطلاق على أربعة وجوه:
وجهان حلالان ووجهان حرامان: فأما الحلال فأن يطلقها طاهرا من غير جماع، وأن يطلقها حاملا مستبينا حملها.
وأما الحرام فأن يطلقها وهي حائض، أو يطلقها حين يجامعها لا تدرى اشتمل الرّحم على ولد أم لا.
(٣) قال السّدىّ: نزلت في عبد الله بن عمر طلّق امرأته حائضا تطليقة واحدة، فأمره رسول الله (ص) بأن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر وتحيض ثم تطهر، فإذا أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر- من قبل أن يجامعها.
ويقال: إنها نزلت في أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية.. فلم يكن قبلها للمطلقة عدّة، وحين طلقت على عهد النبي (ص) طلقت بالعدة (هكذا في كتاب أبى داود).
والإشارة في الآيات التالية إلى أنه بعد أن انتهت الوصلة فلا أقلّ من الوفاء مدة لهذه الصغيرة التي لم تحض، وهذه الآيسة من الحيض، وتلك التي انقطع حيضها، والحبلى حتى تلد... كل ذلك مراعاة للحرمة: وعدّة الوفاة تشهد على هذه الجملة في كونها أطول لأن حرمة الميت أعظم «٣» وكذلك الإمداد في أيام العدّة... المعنى فيه ما ذكرنا من مراعاة الوفاء والحرمة.
قوله جل ذكره: «وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ».
العبودية: الوقوف عند الحدّ، لا بالنقصان عنه ولا بالزيادة عليه، ومن راعى مع الله حدّه أخلص الله له عهده...
«لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً».
قالوا: أراد ندما، وقيل: ولدا، وقيل: ميلا إليها، أولها إليه فإن القلوب تتقلب:
والإشارة في إباحة الطلاق إلى أنه إذا كان الصبر مع الأشكال حقّا للحرمة المتقدمة فالخلاص من مساكنة الأمثال، والتجرّد لعبادة الله تعالى أولى وأحقّ.
قوله جل ذكره:
[سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ٢ الى ٣]
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣)
(٢) القشيري يركز جهده في استخراج إشارات في الصحبة والصاحب وغير ذلك من المعاني من آيات الطلاق غير مهم بتفاصيل هذا الموضوع الواسع الذي تعنى به كتب الفقه المتخصصة.
(٣) يقول القشيري في الصفحة ١٨٨ من المجلد الأول من هذا الكتاب: كانت عدّة الوفاة في ابتداء الإسلام سنة مستديمة كقول العرب وفعلهم، ثم نسخ ذلك إلى أربعة أشهر وعشرة أيام إذ لا بدّ من انتهاء مدة الحداد.
«وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ» والإشارة فيه ألا تجمعوا عليهن الفراق والحرمان فيتضاعف عليهن البلاء. [.....]
قوله جل ذكره: «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ».
لم يقل: ومن يتوكل على الله فتوكّله حسبه، بل قال: فهو حسبه أي فالله حسبه أي كافيه.
«إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً».
إذا سبق له شىء من التقدير فلا محالة يكون، وبتوكّله لا يتغير المقدور ولا يستأخر، ولكنّ التوكّل بنيانه على أن يكون العبد مروّح القلب غير كاره.. وهذا من أجلّ النّعم.
قوله:
[سورة الطلاق (٦٥) : آية ٤]
وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤)
التوكل: شهود نفسك خارجا عن المنّة «١» تجرى عليك أحكام التقدير من غير تدبير منك ولا اطّلاع لك على حكمه، وسبيل العبد الخمود والرضا دون استعلام الأمر، وفي الخبر:
«أعوذ بك من علم لا ينفع» : ومن العلم الذي لا ينفع- ويجب أن تستعيذ منه- أن يكون لك شغل أو يستقبلك مهمّ من الأمر ويشتبه عليك وجه التدبير فيه، وتكون مطالبا بالتفويض- فطلبك العلم وتمنّيك أن تعرف متى يصلح هذا الأمر؟ ولأى سبب؟ ومن أيّ وجه؟ وعلى يد من؟... كل هذا تخليط، وغير مسلّم شىء منه للأكابر.
فيجب عليك السكون، وحسن الرضا. حتى إذا جاء وقت الكشف فسترى صورة الحال وتعرفه، وربما ينتظر العبد في هذه الحالة تعريفا في المنام أو ينظر فى (... ) «٢» من الجامع،
(٢) مشتبهة في النسختين.
قوله جل ذكره:
[سورة الطلاق (٦٥) : آية ٧]
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧)
إذا اتسع رزق العبد فعلى قدر المكنة يطالب بالإعطاء والنفقة فمن قدر عليه رزقه- أي ضيّق- فلينفق مما آتاه الله أي من متاع البيت، ومن رأس المال- إن لم يكن من الربح، ومن ثمن الضيعة- إن لم يكن من الغلّة.
ومن ملك ما يكفيه الوقت، ثم اهتمّ بالزيادة للغد فذلك اهتمام غير مرضيّ «١» عنه، وصاحبه غير معان. فأمّا إذا حصل العجز بكلّ وجه، فإن الله تعالى: لا يكلف نفسا إلّا ما آتاها، وسيجعل الله بعد عسر يسرا. هذا من أصحاب المواعيد- وتصديقه على حسب الإيمان، وذاك على قدر اليقين- ويقينه على حسب القسمة. وانتظار اليسر «٢» من الله صفة المتوسطين فى الأحوال، الذين انحطّوا عن حدّ «٣» الرضا واستواء وجود السبب وفقده، وارتقوا عن حدّ اليأس والقنوط، وعاشوا في أفياء «٤» الرجال يعلّلون «٥» بحسن المواعيد.. وأبدا هذه حالتهم وهي كما قلنا «٦» :
إن نابك الدهر بمكروهه... قعش بتهوين تصانيفه
فعن قريب ينجلى غيمه... وتنقضى كلّ تصاريفه
(٢) هكذا في م وهي في ص. (البرّ) وقد آثرنا الأولى نظرا لسياق الآية ذاتها.
(٣) هكذا في م وهي في ص (درجة) وقد آثرنا الأولى بدليل ورودها فيما بعد.
(٤) هكذا في ص ولكنها في م (إفناء) والصواب الأولى.
(٥) أي يملّلون النفس.
(٦) أي أن النص الشعرى القشيري نفسه. (انظر القشيري الشاعر في كتابنا: الإمام القشيري).
[سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ٨ الى ٩]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩)
من زرع الشوك لم يجن الورد، ومن أضاع حقّ الله لا يطاع في حظّ نفسه «١». ومن اجترأ «٢» بمخالفة أمر الله فليصبر على مقاساة عقوبة الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ١٠ الى ١١]
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (١١)
إنّ كتاب الله فيه تبيان لكلّ شىء.. فمن استضاء بنوره اهتدى، ومن لجأ إلى سعة فنائه وصل من داء الجهل إلى شفائه «٣».
ومن يؤمن بالله، ويعمل صالحا لله، وفي الله، فله دوام النّعمى من الله.. قال تعالى:
«قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً».
والرزق الحسن ما كان على حدّ الكفاية لا نقصان فيه تتعطّل الأمور بسببه، ولا زيادة فيه تشغله عن الاستمتاع بما رزق لحرصه.
كذلك أرزاق القلوب. أحسنها أن يكون له من الأحوال ما يشتغل به في الوقت من غير
(٢) هكذا في ص وهي أصوب مما في م (احترق) فسياق الآية يوحى بذلك.
(٣) أصل الجملة (وصل إلى شفائه من داء الجهل).. ولكن حرص القشيري على التركيب الموسيقى دفعه إلى هذه الصياغة.
قوله جل ذكره:
[سورة الطلاق (٦٥) : آية ١٢]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢)
خلق سبع سموات، وخلق ما خلق وهو محقّ فيما خلق وأمر، حتى نعلم استحقاق جلاله وكمال صفاته، وأنه أمضى فيما قضى حكما، وأنه أحاط بكل شىء علما.