ﰡ
وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ لِشَهِيدٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى الْإِنْسَانِ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ وَإِنَّ الْإِنْسَانَ عَلَى كَوْنِهِ كَنُودًا لَشَهِيدٌ أَيْ بِلِسَانِ حَالِهِ أَيْ ظَاهِرٌ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التوبة: ١٧].
قوله تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أَيْ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ وَهُوَ الْمَالُ لَشَدِيدٌ، وَفِيهِ مَذْهَبَانِ [أَحَدُهُمَا] أَنَّ الْمَعْنَى وَإِنَّهُ لَشَدِيدُ الْمَحَبَّةِ لِلْمَالِ [وَالثَّانِي] وَإِنَّهُ لَحَرِيصٌ بَخِيلٌ مِنْ مَحَبَّةِ الْمَالِ وَكِلَاهُمَا صحيح. ثم قال تبارك وتعالى مُزَهِّدًا فِي الدُّنْيَا وَمُرَغِّبًا فِي الْآخِرَةِ وَمُنَبِّهًا عَلَى مَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَ هَذِهِ الْحَالِ وَمَا يَسْتَقْبِلُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْأَهْوَالِ: أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ أَيْ أُخْرِجَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: يَعْنِي أَبْرَزَ وَأَظْهَرَ مَا كَانُوا يُسِرُّونَ فِي نُفُوسِهِمْ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ أَيْ لَعَالِمٌ بِجَمِيعِ ما كانوا يصنعون ويعملون ومجازيهم عَلَيْهِ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ وَلَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ.
آخر تفسير سورة العاديات، ولله الحمد والمنة.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ الْقَارِعَةِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القارعة (١٠١) : الآيات ١ الى ١١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤)وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩)
وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١)
الْقَارِعَةِ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَالْحَاقَّةِ وَالطَّامَّةِ وَالصَّاخَّةِ وَالْغَاشِيَةِ وغير ذلك. ثم قال تعالى مُعَظِّمًا أَمْرَهَا وَمُهَوِّلًا لِشَأْنِهَا: وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ أَيْ فِي انْتِشَارِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ وَذَهَابِهِمْ وَمَجِيئِهِمْ مِنْ حَيْرَتِهِمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ كأنهم فراش مبثوث كما قال تعالى في الآية الأخرى: كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ [القمر: ٧].
وقوله تعالى: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ قِيلَ مَعْنَاهُ فَهُوَ سَاقِطٌ هَاوٍ بِأُمِّ رَأْسِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِأُمِّهِ يَعْنِي دِمَاغَهُ، رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنِ ابن عباس وعكرمة وأبي صالح وقتادة، وقال قَتَادَةُ: يَهْوِي فِي النَّارِ عَلَى رَأْسِهِ وَكَذَا قَالَ أَبُو صَالِحٍ يَهْوُونَ فِي النَّارِ عَلَى رؤوسهم، وَقِيلَ مَعْنَاهُ فَأُمُّهُ الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا وَيَصِيرُ فِي الْمَعَادِ إِلَيْهَا هاوِيَةٌ وَهِيَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» : وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْهَاوِيَةِ أُمُّهُ لِأَنَّهُ لَا مَأْوَى لَهُ غَيْرَهَا، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْهَاوِيَةُ النَّارُ هِيَ أُمَّهُ وَمَأْوَاهُ الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا وَيَأْوِي إِلَيْهَا وَقَرَأَ وَمَأْواهُمُ النَّارُ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ النَّارُ وَهِيَ مَأْوَاهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُفَسِّرًا لِلْهَاوِيَةِ: وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٢» : حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَعْمَى قَالَ: إِذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ ذُهِبَ بِرُوحِهِ إِلَى أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ فَيَقُولُونَ رَوِّحُوا أَخَاكُمْ فَإِنَّهُ كَانَ في غم الدنيا، قال ويسألونه ما فعل فلان؟ فيقول: مات، أو ما جَاءَكُمْ فَيَقُولُونَ ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدُويَهْ مِنْ طَرِيقِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا بِأَبْسَطِ مِنْ هَذَا، وَقَدْ أَوْرَدْنَاهُ فِي كِتَابِ صِفَةِ النَّارِ- أَجَارَنَا اللَّهُ تعالى منها بمنه وكرمه- وقوله تعالى: نارٌ حامِيَةٌ أَيْ حَارَّةٌ شَدِيدَةُ الْحَرِّ قَوِيَّةُ اللهب وَالسَّعِيرِ.
قَالَ أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَارُ بَنِي آدَمَ الَّتِي تُوقِدُونَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً؟
فَقَالَ: «إِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وستين جزاء» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ مَالِكٍ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِهِ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ:
«أَنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا» «٣».
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٤» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ وَهُوَ ابْنُ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ
(٢) تفسير الطبري ١٢/ ٦٧٧.
(٣) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ١٠، ومسلم في الجنة حديث ٣٠.
(٤) المسند ٢/ ٤٦٧.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٣» : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ هُوَ ابْنُ محمد الدراوردي عن سهل عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هَذِهِ النَّارُ جُزْءٌ مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ مِنْ جَهَنَّمَ» تَفَرَّدَ بِهِ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ أَيْضًا.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو الخلال، حدثنا إبراهيم بن المنذر الخزامي حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى الْقَزَّازُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتُدْرُونَ مَا مَثَلُ نَارِكُمْ هَذِهِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ؟ لَهِيَ أَشَدُّ سَوَادًا مِنْ دُخَانِ نَارِكُمْ هَذِهِ بِسَبْعِينَ ضِعْفًا» وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ وَلَمْ يَرْفَعْهُ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبَّاسٍ الدُّورِيِّ عَنْ يحيى بن بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا شَرِيكٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «أو قد عَلَى النَّارِ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ» «٤» وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ «٥» مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ أَنَسٍ وَأَبِي نَضْرَةَ الْعَبْدَيِّ عَنْ ابن أَبِي سَعِيدٍ وَعَجْلَانَ مَوْلَى الْمُشْمَعِلِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ».
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٌ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٌ فِي الصيف، فأشد ما تجدون في الشتاء
(٢) بياض بالأصل.
(٣) المسند ٢/ ٣٧٩.
(٤) أخرجه الترمذي في جهنم باب ٨، وابن ماجة في الزهد باب ٣٨.
(٥) المسند ٢/ ٤٣٢، ٤٣٩، ٣/ ١٣، ٧٨.