تفسير سورة الإخلاص

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة الإخلاص من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ الْإِخْلَاصِ
قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١)﴾
ذكر ابن التلمساني في شرح المعالم الفقهية في أوائل الباب السابع: أن كل ما لا يتوقف ثبوته على المعجز يصح إثباته بالسمع، فيصح بخلاف وجود الإله بأنه لَا يثبت إلا بالعقل.
وقال في شرح المعالم اللدنية: إن ذلك مستفاد من [العقل والسمع*]، [وقال*] بعض [**شراحه] إنه لَا يصح إثبات الوحدانية بالسمع، وإنما تثبت بالعقل، وانظر ما تقدم في سورة الأنبياء.
قوله تعالى: (اللَّهُ الصَّمَدُ (٢).. ولم يقل: هو الصمد؛ لأن هويتهم [... ] منهم فيمن يعود عليه الجلالة صريحة في معناها، فإِن قلت: لم نكر (أَحَدٌ) وعرف الصمد؟ فالجواب: أن تنكير أحد جاء على الأصل في الأسماء التنكير، وإنما عرف الصمد لاختصاصه بالله تعالى، ولا يوصف به غيره بوجه بخلاف الأحد، واعلم أن الأحد يطلق على معنيين: فتارة يراد به المنفرد في ذاته، وهو بهذا المعنى مشترك بين القديم والحادث، وتارة يراد به المنفرد بذاته وصفاته، وهو بهذا المعنى يختص بالقديم، قلت: وأخبرنا سيدنا الشيخ الصالح أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن إدريس الحارس المالكي أن شيخه الشيخ الفقيه الخطيب أبا محمد عبد الله بن محمد القرشي الرحبي، كان يقول: ﴿قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) نفي للكثرة والتعدد، (اللَّهُ الصَّمَدُ) نفِي للنقص والتقلب، (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣).. نفي للعلة والمعلول، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (٤)﴾.. نفي [للأشباه*] والأضداد، قلت: وحكي أن الفقيه أبا القاسم [ابن البراء التنوخي*]، عن أبي العباس أحمد [**الغساني] أنه [كان*] يقرئ أصول الدين فأرسل وراءه ليختبره، فخاف منه، فدخل على سيدي الحسن الزبيدي، فقال له قبل أن يخبره بأمر: قل هو الله الصمد.. إلى آخر السورة، فلما اجتمع مع ابن البراء، فقال: ما خشية الله وما نسبته، فقال (قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فسكت عنه، وأنكر ابن عرفة هذه الحكاية، وقال: هذا لفظ موحش، وإنما سمعت أنا أنه سئل سيدي الشيخ أبا محمد عبد الله المرجاني عنده وألهم في التفسير [... ] في الحديث، والدولة الأولى في الفروع وما مثالهم في ذلك، فقال له: هيئ لنا
من المنقول في الكتب كذا وكذا [**ويظرفها] كذا وكذا فأعجبه كلامه، فأمر أن يعطى الثعالبي من مدرسة السماعين، قال ابن عرفة: ويدخل في قوله تعالى، صفات الغير وصفات الأفعال؛ لأن المتصف بصفات الكمال الذي لَا يفتقر إلى غيره، ويفتقر غيره إليه، ومن ذلك استقلاله بالخلق والقدرة، وغير ذلك.
وقوله تعالى: (لَمْ يَلِدْ) [صفة سلبية*]، وما قبلها ثبوت، وإما تنزيه بإثبات القدم فيدخل على [... ] وفي القدم خلاف، فقال أبو العالية: إنه ثبوتي، واختار المقترح أنه سلبي.
قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (٤)﴾
إن قلت (قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) يغني عنه، فإنه إذا ثبت أنه واحد في ذاته ثبت أنه [لا كفء له*]؟ فالجواب: أن المراد [بالكفاءة*] نفي المشابه، والمماثل المشابه للشيء لَا يكون [كفوا له*] فلا يلزم من إثبات الوحدانية نفي [الكفء*] المماثل، كما سبق تقديره في (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ولم يقل: ليس مثله شيء، إذا قلنا إن الكاف زائدة، ولذلك جعلوا افتتاح [الصلاة*] بـ الله أكبر ليعتقد المصلي أن جميع ما يخطر بباله فالله أكبر منه وأعلى، فيجمع جميع صفات التنزيه، قلت: تقدم فيها في الختمة الأولى قوله تعالى: [(أَحَدٌ)] هو ضمير الأمر والشأن، وقال أهل علم اللسان: إن ضمير الأمر والشأن يؤتى به مقدما للاهتمام والتعظيم.
قوله تعالى: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ).
(لَمْ) لنفي المنقطع، وهي هنا لنفي الماضي المنقطع، وهي هنا لنفي الماضي المتصل بالحال، قلت: ونقل عن القاضي أبي عبد الله محمد بن عبد السلام، أنه قيل له: ما السر في نفي الولادة والكفو بـ (لَمْ)، وهلا قيل: [لما يلد*] وهو أبلغ إذ هو نفي للماضي المتصل بزمن الحال؟، فأجاب بأن (لما) لنفي قد فعل، وقد فيها معنى التوقع، والبارئ جل وعلا لم يلد ولم يتوقع ذلك منه ألبتَّة، فحسن دخول (لَمْ)، قال الإمام فخر الدين ابن الخطيب في شرح الأسماء الحسنى (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فيها ثلاثة أسماء تنبيها على ثلاثة مقامات:
360
الأول: مقام السابقين المقربين الناظرين إلى حقائق الأمور، فما سوى الله معدوم وليس في الوجود إلا هو.
ثم [يليهم*] المقتصدون، وهم أصحاب اليمين، قالوا: الممكنات موجودة فتفتقر إلى [مميز*]، وهو الله ولم ينظروا للأشياء من حيث هي؛ بل ينظروا إلى ظواهرها، فلم تكن الإشارة كافية لهم، ولم يكن لفظه هو [تام*] الإفادة في حقهم، فافتقروا معها إلى مميز، فقيل: [... ] هو الله، إنه يفيد افتقار غيره إليه، واستغناؤه هو عن غيره.
ثم [يليهم*] أصحاب الشمال، يجوز تعدد الإله، فقال (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) لأجل هؤلاء، ولما كان الله أحد في ذاته؛ لزم أن لَا يكون [متحيزا*] ولا جوهرا ولا عرضا، ولا في مكان ولا جهة، ولا يشبه شبه أحد غني عن كل أحد، قال: وفيه سران معنوي، ولفظي، فلا [يخطر*] في عقولهم موجود لذاته سوى الأجل [الحق*]، فإن واجب الوجود لذاته واحد، وما عداه ممكن لذاته معدوم في نفسه؛ ولذلك قال (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) فكانت الإشارة بهذا كافية لهم في تفسير الشأن، وأما اللفظي عن وجوه:
أحدها: أن لفظ (هو) مركب في الواو والهاء أصل لوجهين:
أحدهما: أن الواو تسقط مع التثنية والجمع، تقول: هما وهم فإنها الأصل، [وهو*] حرف واحد، فدل على الواحد الشيء، وليس لشيء من الأسماء هذه الخاصية، ألا ترى أنه تعالى خلق جميع [الأعضاء*] كاليدين والرجلين ومدخل الغذاء والهواء ومخرجهما، ثم خلق القلب واحد؛ لأنه محل المعرفة، واللسان واحد؛ لأنه محل الذكر، والجبهة واحدة؛ لأنها محل السجود، فكانت [هذه*] الأعضاء أشرف من غيرها، وكذلك الهاء في قولنا: هو.
الثاني: أدخل حروف الحلق، والواو حرف يتولد من الشفتين.
والثالث: أن الهاء باطن، والواو ظاهر، هذان حرفان يتولدان من أول [المخرج*] وآخره، فيصدق عليهما كونهما أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، فكان الاسم الأعلى الحق الموصوف بذلك.
قال الزجاج: وأما الأحد أصله لغة الواحد، أن يقال: وحد موحد فهو وحد كحسن محسن فهو حسن، ثم انقلبت الواو همزة، ومنه امرأة [أناة ووناة*]، والفرق بينهما [من وجوه*]:
الأول: أن الواحد [مفتتح العدد*]، يقال: واحد اثنان، ولا يقال: أحد اثنان.
361
الثاني: أن أحدا في النفي أعم، يقال: ما في الدار أحد؛ بل فيها اثنان بخلاف ما فيها أحد، فإِنه يعم.
الثالث: أن الواحد يوصف به، يقال: رجل واحد، ولا يصح وصف شيء في جانب الإثبات بالأحد إلا الله، ولذلك لم يؤت به بلام التعريف لاختصاصه بالله فاستغنى عن التعريف، ويقال: كمال الوحدانية مثل (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) كاملة، قال ابن العربي في شرح الأسماء الحسنى: خص به البارئ من لفظ الواحد كما اختص.
* * *
انتهى ما وجد مكتوبا من هذا التفسير، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد النبي الأمي وعلى آله الطاهرين وصحابته المرضيين وعلى جميع إخوانه ساداتنا من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين وعلى آلهم وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا أبدا دائما إلى يوم الدين، آمين.
* * *
362
Icon