تفسير سورة الطلاق

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة الطلاق من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه إلكيا الهراسي . المتوفي سنة 504 هـ

قوله تعالى :﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدّتِهِنَّ ﴾، الآية :[ ١ ] : شرحنا معناه في سورة البقرة.
وزمان الطلاق المشروع المعلوم من هذه الآية زمان الطهر لا غير، لا جرم قال الشعبي : يجوز أن يطلقها في طهر مسها فيه.
وقوله تعالى :﴿ لِعِدّتِهِنَّ ﴾ : يدل على أن الطهر إن جعل وقت الطلاق، فالثاني والأول والثالث سواء، وأن اللفظ عموم فيه.
وقد ظن قوم أنه لما قال :﴿ لِعِدّتِهِنَّ ﴾، فينبغي أن ينتظم الكلام على العدة.
وهذا باطل، فإن فعل الطلاق من الزوج، إنما يتصور في سماعه، وإنما الشامل الحاوي وقت العدة والعدة وقت الطلاق.
قوله تعالى :﴿ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ ﴾، الآية :[ ١ ] : فيه دليل على وجوب السكنى لها ما دامت في العدة، فإن بيوتهن التي نهى الله تعالى عن إخراجهن منها، هي البيوت التي كانت تسكنها قبل الطلاق، فأمره بإقرارها في بيتها، ونسبه إليها بالسكنى، كما قال :﴿ وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ١.
قوله تعالى :﴿ إلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ﴾، الآية :[ ١ ] : فالفاحشة تحتمل البذاء، وتحتمل الزنا وتحتمل النشوز٢.
١ - سورة الأحزاب، آية ٣٣..
٢ - وقد استفاض صاحب محاسن التأويل في شرح هذه المسألة في ج ١٦، ص ٥٨٣٧ فارجع إليه..
قوله تعالى :﴿ وأَشْهِدُوا ذَويْ عَدْلٍ مِنْكُم ﴾، الآية :[ ٢ ] :
يدل على الإشهاد، إلا أن الإشهاد لا يظهر انصرافه إلى الطلاق الذي يستحق الزوج به أبداً من غير حاجة إلى فترة، والرجعة هي التي إذا تأخرت إلى انقضاء العدة امتنعت.
قوله تعالى :﴿ والّلائِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُم إنِ ارْتَبْتُم ﴾، الآية :[ ٤ ]
فدلت الآية على إثبات الإياس بعد ارتياب، فلا يجوز أن يكون قوله ﴿ إنِ ارْتَبْتُم ﴾ إثبات حكم الإياس في أول الآية، فلا جرم اختلف أهل العلم في الريبة المذكورة في الآية١، فروي أن أبي بن كعب قال : يا رسول الله، إن عدداً من عدد النساء لم يذكر في الكتاب الصغار والكبار وذوات الأحمال أجلهن، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وأبان أن سبب نزول هذه الآية كان ارتيابهن في عددهن، صغير أو كبير من الصغار٢ والكبار، فتقدير الكلام ؛ ﴿ والّلائي يَئِسْن مِنَ المَحيض من نِسائِكُم إن ارْتَبْتُم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ ﴾، الآية :[ ٤ ].
واختلف السلف في التي ترتفع حيضتها، فروي سعيد بن المسيب عن عمر أنه قال : أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم رفعتها حيضتها، فإنه ينتظر بها تسعة أشهر، فإن استبان بها حمل فذاك، وإلا اعتدت بعد ستة أشهر بثلاثة أشهر٣. وأمر ابن عباس بالتربص بستة أشهر وقال : تلك الريبة. وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه : التي ترتفع حيضتها تبقى إلى سن اليأس، ثم تعتد بثلاثة أشهر، وهو الحق، فإن الله تعالى جعل عدة الآيسة ثلاثة أشهر، والمرتابة ليست بآيسة.
قول تعالى :﴿ وأُولاَتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾، الآية :[ ٤ ] :
ولم يختلف السلف والخلف في أن عدة المطلقة الحامل في أن تضع حملها. . واختلف السلف في عدة المتوفى عنها زوجها، وأنها تعتد بأقصى الأجلين أو بوضع الحمل : فقال علي رضي الله عنه بأقصى الأجلين، وقال عمر رضي الله عنه في نفر من الصحابة : إنها تعتد بوضع الحمل.
ولا شك أن قوله تعالى :﴿ وأُولاَتُ الأَحْمَالِ ﴾، معطوف على ذكر المطلقات، غير أنه عموم، وقد نزل بعد قوله تعالى :﴿ والّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنْكُم ﴾٤ على ما قال ابن مسعود، وأنه قال : من شاء لاعنته، ما نزلت :﴿ وأُولاَتُ الأَحْمَال أَجَلُهُنَّ ﴾، إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها. . فكان قوله :﴿ والّذِينَ يُتَوَفّوْنَ ﴾ عام في كل من يتوفى عنها زوجها، وقوله :﴿ وأُولاَتُ الأَحْمَال ﴾، عموم ورد بعده. . ولا دليل من الأول على تخصيص الثاني، فوجب اعتبار المتأخر.
١ - انظر تفصيل القول في كتاب أحكام القرآن للجصاص وتفسير القرطبي..
٢ - انظر أسباب النزول للواحدي النيسابوري..
٣ - انظر تفسير الطبري والدر المنثور، وأسباب النزول للواحدي..
٤ - سورة البقرة، آية ٢٣٤. انظر تفسير سورة البقرة لابن جرير الطبري..
قوله تعالى :﴿ وإنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾، الآية :[ ٦ ] : يدل على أنه لا نفقة للحامل.
نعم قوله :﴿ وإنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ ﴾، وإن عم الرجعية والبائنة، وللرجعية النفقة في عموم الأحوال، فذلك خرج بدليل الإجماع، وبقي ما عداه على موجب المفهوم من الآية، ويزيده تأكيد أنه أطلق السكنى، وقيد النفقة، فلو كان الحكم فيها سواء لم يكن لذلك معنى قوله تعالى :﴿ فإنْ أَرْضَعْنَ لَكُم فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾، الآية :[ ٦ ].
دلت الآية على أحكام : منها إذا أرضعت بأن ترضعه بأجر مثلها، لم يكن للأب أن يسترضع غيرها بمثل ذلك الأجر. ويدل على أن الأم أحق بحضانة الولد. ويدل على أن الأجرة إنما تستحق بالفراغ من العمل، وإن احتمل أن يراد به غير ذلك١، قوله تعالى :﴿ وإن تَعَاسَرْتُم فَسترضعُ له أُخرى ﴾.
١ - راجع تفسير محاسن التأويل، ج ١٦، سورة الطلاق..
قوله :﴿ لينفقْ ذو سَعَةٍ من سَعَتهِ ﴾، الآية :[ ٧ ] :
يدل على أن النفقة تختلف باختلاف أحوال الزوج في يساره وإعساره، وأن نفقة المعسر أقل من نفقة الموسر خلافاً لأبي حنيفة، فإنه اعتبر كفايتها.
قوله تعالى :﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلاَّ مَا آتَاهَا ﴾، الآية :[ ٧ ] :
فيه دليل على أنه لا يجوز التفريق بين الزوج والمرأة، لعجزه عن نفقتها، لأن الله تعالى لم يوجب النفقة في هذه الحالة.
والذي يخالف هذا من أصحاب الشافعي يقول : إنما فرقنا بينهما لا لأنه ترك واجباً عليه في هذه الحالة من النفقة، ولكنه عجز عن الإمساك بالمعروف، فعليه التسريح بالإحسان، فإنه إذا صار لا بد من أحدهما فمتى فات أحدهما تعين الثاني، ولا شك أن العاجز عن نفقة عبده أو أمته أو بهيمته لا يجب عليه نفقتها، لكن يجبر على بيع المملوك، كذلك هاهنا. ولأجله ارتفع الحبس عنها في الدار، وإن لم تجب النفقة على ما ذكروه١.
١ - انظر أحكام القرآن للجصاص الجزء الخامس..
Icon